الرسول وتبليغه الكامل للدعوة .. سعيد حوي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٧:٣٥، ١٩ نوفمبر ٢٠١١ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الرسول وتبليغه الكامل للدعوة ..

بقلم:الشيخ سعيد حوى

مقدمة

الداعية سعيد حوى

تبليغه للدعوة علي أتم وجه من دلائل نبوته

إن لرسول الله - r - الحظ الأعلى من الصفة الثانية التي ينبغي أن يتصف بها كل من كان رسولاً لله حقاً ، فلننتقل إلى الصفة الأساسية الثالثة لكل رسول وهي تبليغ دعوة الله مهما كانت الظروف ، لنرى كذلك أن لرسول الله - r - الحظ الأعلى منها ، ونرى في كل موقف من مواقفه فيها ما يثبت أنه رسول الله حقاً .

3 – تبليغه - صلى الله عليه وسلم - دعوة الله وقيامه بذلك قياماً كاملاً

... لقد سل رسول الله - r- كل طريق سليم لتبليغ دعوة الله على الوجه الأكمل ، وسلك الناس في المقابل كل طريق يخطر بالبال ليثنوه عن القيام بأمر الله فلم يفعل :

... اتصل بالأفراد اتصالاً شخصياً ، وعرض نفسه على قبائل العرب ، ورحل من أجل تبليغ الدعوة ، وتتبع مواطن اجتماع الناس ليبلغهم ، وأرسل الرسل نيابة عنه لتبليغ الدعوة ، واستقدم الوفود ليأخذوا عنه ويرجعوا مبلغين ، وراسل الأمراء والملوك داعياً لهم إلى الله ولكف أصحابه أن يتعلَّموا ويعلِّموا ، وأمر جنده ألا يحاربوا قبل أن يدعوا إلى الإسلام ، ثمّ حمّل جميع المسلمين أمانة البلاغ ليبلغوا العالم دعوة الله ؛ حتى لا يبقى أحد من البشر إلا وقد بُلِّغَ ، وقامت عليه الحجة ، وفي المقابل ما ترك الآخرون طريقاً إلا سلكوه لإنهاء الدعوة والداعية .

... سلكوا طريق الإيذاء له ولأتباعه ليثنوه عن التبليغ فما فعل . وسلكوا طريق الإغراء ليثنوه عن التبليغ فما فعل . وسلكوا طريق الضغط العائلي ليثنوه عن التبليغ فما فعل . وسلكوا طريق الاستهزاء والإعراض والسخرية والاتهامات ليثنوه عن التبليغ فما فعل . وسلكوا معه طريق المقاطعة الشاملة له ولمن أزره ليثنوه عن التبليغ فما فعل . وقرروا قتله وملاحقته ليثنوه عن التبليغ فما فعل . وطال الزمن والمستجيبون قليلون ، والجميع يحاولون إيئاسه واستمر ، ثم حاربوه ليستأصلوا دعوته ويستأصلوه وصبر واستمر رغم هذا كله ، ثم انتصر وانتصر دينه ولا زال ينتصر ويتقدم رغم الأوضاع السياسية السيئة للمسلمين ، وكل ذلك ببركات الداعية المبلغ الأول .

وقبل أن نستعرض نماذج عن هذا كله . نحب أن نكرر التذكير بشيء حتى لا يلهينا العرض عن الغاية .

... هذا الشيء هو : أن إثباتنا هذه الصفات لرسول الله - r - وبرهاننا على ذلك ، إنما هو من أجل الوصول إلى برد اليقين بالإيمان به ، وابتاعه عن ثقة بأن ما أخبر به حق مطلق فمن عرفته بالصدق طوال حياته وتأكدت من تحريه له تطمئن إذا أخبرك عن شيء . والرسول كذلك ، وقيام الرسول بتكاليف دعوته على ما فيها من مخالفة لهوى النفس ومن جهد ونصب دون انتظار مكافأة دنيوية ، دليل آخر على رسالته إذ غير هذا الطريق لطالب غير الله أسهل.

... وأما عملية التبليغ فليست هي عند الرسل كبقية عمليات التبليغ الأخرى التي يقوم بها بقية البشر في الدعوة لفكرة ما ، ومن ثم كانت عملية التبليغ عند الرسل دليلاً على صدقهم في كونهم مرسلين من عند الله .

... إن غير الرسل يدعون الناس إلى شيء تألفه نفوسهم وتهواه ، أي إنهم يأتون الناس من قبل ما يشتهون فلا يعانون شيئاً ولا يحتاجون إلى تضحية ، وأحياناً يضحون ولكن لا ينتظرون كسباً مادياً أكثر من تضحيتهم ، وتراهم دائماً يلاحظون السلام إلا إذا أتاهم ما لم يكن بالحسبان ، وترى الحياة عزيزة جداً عليهم ، وما أسهل ما ينسون دعوتهم إذا يئسوا من الكسب أو النصر . ونحن لا نعني بالطبع هنا أتباع الرسل إذ هؤلاء يعملون بروح الاقتداء بالرسل فعندهم من حرارة إخلاصهم .

... إن حماية النفس مقدمة عند أصحاب الدعوات الباطلة على التبليغ ولكن التبليغ عند الرسل لدعوة الحق مقدم على كل شيء .

... إن الرسل يبلغون الناس رسالة الله التي فيها ضبط نفوس البشر حتى تستقيم على السنن الصحيح للحياة ، وهم بهذا يدخلون في صراع مع أهواء البشر ، ولكل إنسان هوى ، فهم يدخلون في صراع مع الناس جميعاً .

والصعوبة التي يعانونها من أعدائهم يعانون قريباً منها في تربية أتباعهم والارتفاع بهم ، إذ البشر هم البشر على كل حال ، وتجاوز الرسول - r - لهذه العقبات كلها ، وثباته على دعوة الحق بلا مداراة ولا مواربة ، بل والمطالبة للنفس البشرية بواجباتها كاملة ، والصبر على ذلك ، وتحمل كل شيء في هذا السبيل مرضاة لله ، كل هذا دليل على حرارة الصدق والإخلاص للدعوة ولله المكلف بها .وسنرى في كل نموذج نقدمه عن عملية التبليغ عند رسول الله - r - وما رافقه شاهد صدق على هذا الذي قدمناه .

وسنقدم نوعين من النماذج :

نماذج عن مواقف الكافرين منه ليثنوه عن الاستمرار بالتبليغ .

نماذج عن الطرق التي سلكها للقيام بعملية التبليغ .

نماذج النوع الأول :

أ- إيذاؤه وصبره على ذلك :

... 1- أخرج الطبراني عن الحارث بن الحارث : " قال : قلت لأبي : ما هذه الجماعة ؟ قال : هؤلاء القوم الذين اجتمعوا على صابئ لهم . قال : فنزلنا فإذا رسول الله - r - يدعو إلى توحيد الله عز وجل والإيمان ، وهم يردون عليه ويؤذوه حتى انتصف النهار وانصدع الناس عنه ، أقبلت امرأة قد بدا نحرها ، تحمل قدحاً ومنديلاً فتناوله منها فشرب وتوضأ ثم رفع رأسه فقال : يا بنية خمري عليك نحرك ، ولا تخافي على أبيك . قلنا من هذه ؟ قالوا : هذه زينب بنته . رضي الله عنها " .

... وعنده أيضاً عن منبت الأزدي قال : " رأيت رسول الله - r- في الجاهلية وهو يقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا . فمنهم من تفل في وجهه ومنهم من حثا عليه التراب ومنهم من سبه حتى انتصف النهار . فأقبلت جارية بعس من ماء فغسل وجهه ويديه وقال : يا بنية لا تخشي على أبيك غيلة ولا ذلة . فقلت : من هذه ؟ قالوا : زينب بنت رسول الله - r- وهي جارية وضيئة " .

... 2- وأخرج البيهقي عن عبد الله بن جعفر – رضي الله عنهما - قال : " لما مات أبو طالب عرض لرسول الله - r - سفيهٌ من سفهاء قريش فألقى عليه تراباً فرجع إلى بيته ، فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي فجعل يقول : أي بنية ! لا تبكي فإن الله مانع أباك " .

... 3- وعن ابن أبي شيبة عن عمرو بن العاص – t– قال : " ما رأيت قريشاً أرادوا قتل النبي r إلا يوماً ائتمروا به وهم جلوس في ظل الكعبة ورسول الله - r - يصلي عند المقام . فقام إليه عقبة بن أبي معيط فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه ساقطاً ، وتصايح الناس فظنوا أنه مقتول ، فأقبل أبو بكر – t – يشتد حتى أخذ بضبعي رسول الله - r - من روائه ، ويقول : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} . ثم انصرفوا عن النبي - r- ، فقام رسول الله - r- فصلى . فلما قضى صلاته مر بهم – وهم جلوس في ظل الكعبة – فقال : يا معشر قريش ! أما والذي نفس محمد بيده ما أرسلت إليكم إلا بالذبح وأشار بيده إلى حلقه . فقال أبو جهل : ما كنت جهولاً . فقال له رسول الله - r - : أنت منهم " .

... 4- وأخرج أحمد عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن عمرو – t – قال : " قلت له : ما أكثر ما رأيت قريشاً من رسول الله - r - فيما كانت تظهر من عداوته . قال : حضرتهم – وقد اجتمع أشرافهم في الحج – فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط ، سفّه أحلامنا ، وشتم آباءنا وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا وسب آلهتنا . لقد صبرنا منه على أمر عظيم – أو كما قالوا – قال : فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله - r - فأقبل يمشي حتى استقبل الركن ثم مر بهم طائفاً بالبيت . فلما مر بهم غمزوه ببعض ما يقول . ( غمزوه : أي أشاروا مسيئين إليه ) قال : فعرت ذلك في وجهه ثم مضى .

فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى . فلما مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال : أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده ! لقد جئتكم بالذبح . فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا على رأسه طائر واقع ، حتى إن أشدهم فيه وقيعة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول : انصرف يا أبا القاسم ، انصرف راشداً ، فوالله ما كنت جهولاً .

فانصرف رسول الله - r - حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر – وأنا معهم – فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم منه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه . فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله - r - فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، فأطافوا به يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم ، قال فيقول رسول الله - r - : نعم ، أنا الذي أقول ذلك . قال : فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه وقام أبو بكر t دونه يقول وهو يبكي : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } ثم انصرفوا عنه فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغت منه قط " .

... 5- وأخرج البزار والطبراني عن عبد الله بن مسعود – t – قال : " بينا رسول الله - r - في المسجد وأبو جهل بن هشام وشيبة وعتبة ابنا ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف ورجلان آخران كانوا سبعة وهم في الحجر ورسول الله - r- يصلي فلما سجد أطال السجود . فقال أبو جهل : أيكم يأتي جزور بني فلان فيأتينا بفرثها فنكفئه على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فانطلق أشقاهم عقبة بن أبي معيط فأتى به فألقاه على كتفيه ورسول الله - r- ساجد . قال ابن مسعود : وأنا قائم لا أستطيع أن أتكلم ليس عندي منعة تمنعني فأنا أذهب ، إذ سمعت فاطمة بنت رسول الله - r- فأقبلت حتى ألقت عن عاتقه ثم استقبلت قريشاً تسبهم فلم يرجعوا إليها شيئاً ، ورفع رسول الله - r - رأسه كما كان يرفعه عند تمام السجود . فلما قضى - r- صلاته قال : اللهم عليك بقريش – ثلاثاً – عليك بعتبة وعقبة وأبي جهل وشيبة .

ثم خرج من المسجد فلقيه أبو البختري بسوط يتخصر به ، فلما رأى النبي - r - أنكر وجهه فقال : مالك ؟ فقال النبي - r- : خل عني . قال : علم الله لا أخلي عنك أو تخبرني ما شأنك ؟ فلقد أصابك شيء . فلما علم النبي - r - أنه غير مخل عنه أخبره فقال : إن أبا جهل أمر فطرح علي فرث فقال أبو البختري : هلم إلى المسجد فأتى النبي - r- وأبو البختري فدخلا المسجد ثم أقبل أبو البختري إلى أبي جهل فقال : يا أبا الحكم أنت الذي أمرت بمحمد فطرح عليه الفرث ؟ قال : نعم : قال : فرفع السوط فضرب به رأسه . قال : فثار الرجال بعضها على بعض . قال : وصاح أبو جهل ويحكم هي له ، إنما أراد محمد - r - أن يلقي العداوة بيننا وينجو هو وأصحابه " .

... 6- وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة ص 103 : عن عروة بن الزبير – رضي الله عنهما – قال : " ومات أبو طالب وازداد من البلاء على رسول الله - r- شدة ، فعمد إلى ثقيف يرجو أن يؤووه وينصروه ، فوجد ثلاثة نفر منهم سادة ثقيف وهم إخوة ؛ عبد ياليل بن عمرو ، وخبيب بن عمرو ، ومسعود بن عمرو ، فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء وما انتهك قومه منه فقال أحدهم : أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قط ؟ وقال آخر : والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا كلمة واحدة أبداً لئن كنت رسولاً لأنت أعظم شرفاً وحقاً من أن أكلمك . قال الآخر : أعجز الله أن يرسل غيرك ؟

... وأفضوا ذلك في ثقيف الذي قال لهم ، واجتمعوا يستهزؤون برسول الله - r - وقعدوا له صفين على طريقه ، فأخذوا بأيديهم الحجارة فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلا رضخوها بالحجارة وهم في ذلك يستهزؤون ويسخرون . فلما خلص من صفيهم وقدماه تسيلان الدماء عمد إلى حائط من كرومهم ، فأتى ظل حبلة من الكرم فجلس في أصلها مكروباً موجعاً تسيل قدماه الدماء ، فإذا في الكرم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، فلما أبصرها كره أن يأتيهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله وبه الذي به ، فأرسلا إليه غلامهما عداساً بعنب وهو نصراني من أهل نينوى .

... فلما أتاه وضع العنب بين يديه فقال رسول الله - r - : " بسم الله " فعجب عداس ، فقال له رسول الله - r - : من أي أرض أنت يا عداس ؟ قال أنا من أهل نينوى . فقال النبي - r - : من أهل مدينة الرجل الصالح يونس بن متى ؟ فقال عداس : وما يدريك من يونس بن متى ؟

... فأخبره رسول الله - r - من شأن يونس ما عرف ، وكان رسول الله - r- لا يحقر أحداً يبلغه رسالات الله تعالى .

... قال : يا رسول الله أخبرني خبر يونس بن متى ، فلما أخبره رسول الله - r- من شأن يونس بن متى ما أوحي إليه من شأنه ، خر ساجداً لرسول الله - r - ثم جعل يقبل قدميه وهما تسيلان الدماء .

... فلما أبصر عتبة وأخوه شيبة ما فعل غلامهما سكتا . فلما أتاهما قالا له : ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلت هذا بأحد منا .

... قال : هذا رجل صالح حدثني عن أشياء عرفتها من شأن رسول بعثه الله تعالى إلينا يدعى يونس بن متى ، فأخبرني أنه رسول الله ، فضحكا وقالا : لا يفتنك عن نصرانيتك ، إنه رجل يخدع ، ثم رجع رسول الله - r - إلى مكة " . ... وذكر في البداية ( ج3 ص 136 ) عن موسى بن عقبة : " وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه ، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه فخلص منهم وهما يسيلان الدماء . وفيما ذكر ابن إسحاق : فقام رسول الله - r- من عندهم وقد يئس من خير ثقيف وقد قال لهم – فيما ذكر لي -: إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي ، وكره رسول الله - r - أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه . فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه . ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف " .

... من هذه القصص قصص الإيذاء الرهيب نعرف ما لاقى وهو الشريف الهاشمي ذو النفس الحساسة ، ابن الأشراف ومع ذلك تحمّل واستمرّ وليس بيده ألا يستمر ، وكما أوذي هو أوذي أتباعه كذلك وقتل بعضهم ... ومع ذلك صبروا وثبّتهم على الصبر ، وهذا شيء يجرح الضمير أن يرى الإنسان الناس يعذّبون بسبب دعوته ، لولا أن ذلك هو الحق الذي لا ريب فيه ، وأن الإنسان ليس مخيراً في سلوكه بل هو الذي لا بد منه للقيام بحق الله وإنها لرسالة الله .

ب – محاولة إغرائه ورفضه - r- لذلك :

... قال ابن إسحاق ؛ وحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي ، قال " حدِّثت أن عتبة بن ربيعة ، وكان سيداً ، قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله - r- جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ، ويكف عنا ؟ وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله - r- يزيدون ويكثرون ، فقالوا : بلى يا أبا الوليد . قم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله - r - فقال : يا ابن أخي : إنك منا حيث قد علمت ، من السطة في العشيرة ( السطة : الشرف ) والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها ، قال : فقال له رسول الله - r - قل يا أبا الوليد ، أسمع ، قال : يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا ، حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به ملكاً ، ملكناك علينا ، وإن كان الذي يأتيك رئياً تراه ، لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه . أو كما قال له : حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله - r - يستمع منه ، قال :

أقد فرغت يا أبا الوليد ؟

قال : نعم ،

قال : فاسمع مني .

قال : أفعل ..

... فقال : بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} .

... ثم مضى رسول الله - r - فيها يقرؤها عليه ، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره ، معتمداً عليها ، يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله - r- إلى السجدة منها ، فسجد ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك .

... فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟

... قال : ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم وكنت أسعد الناس به ، قالوا : سَحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم " .

... وقال ابن إسحاق : " اجتمع عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث ( بن كلدة ) أخو بني عبد الدار ، وأبو البختري بن هشام ، والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية ، والعاص بن وائل ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان ، وأمية بن خلف ، أو من اجتمع منهم ، قال : اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه ، حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه :

... عن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فأتهم .

... فجاءهم رسول الله - r - سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء ، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ، ويعز عليه عنتهم ، حتى جلس إليهم ، فقالوا له : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك . وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين , وشتمت الآلهة ، وسفهت الأحلام ، وفرقت الجماعة ، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك – أو كما قالوا له – فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا ، فنحن نسودك علينا ، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك ، وكانوا يسمون التابع من الجن رئياً – فربما كان ذلك ، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه ، أو نعذر فيه .

... فقال لهم رسول الله - r - ما بي ما تقولون ، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً . فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم ، أو كما قال - r- . قالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل من شيئاً مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً ، ولا أقل ماءً ، ولا أشيد عيشاً منا ، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا ، وليفجر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فإنه كان شيخ صدق ، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك ، وعرفنا به منزلتك عند الله ، وأنه بعثك رسولاً كما تقول .

... فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه : ما بهذا بعثت إليكم ، إنما جئتكم من الله بما بعثني به ، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى ، حتى يحكم الله بيني وبينكم .

... قالوا : فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك ، سل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول ، ويراجعنا عنك ، وسله فليجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك بهذا عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم . فقال لهم رسول الله - r - : ما أنا بفاعل ، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً – أو كما قال – فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم .

... قالوا : فأسقط السماء علينا كسفاً ، كما زعمت إن شاء ربك فعل ، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل .

... قال : فقال رسول الله - r - : ذلك إلى الله ، إن شاء أن يفعله بكم فعل ، قالوا : يا محمد ، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ، ونطلب منك ما نطلب ، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا ، إذا لم نقبل منك ما جئتنا به ! إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة ، يقال له : الرحمن ، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً ، فقد أعذرنا إليك يا محمد ، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا ، وقال قائلهم : نحن نعبد الملائكة ، وهي بنات الله , وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً .

... فلما قالوا ذلك لرسول الله - r - قام عنهم ، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم – وهو ابن عمته ، فهو لعاتكة بنت عبد المطلب فقال له : يا محمد ، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك ، فلم تفعل ، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ، ثم سألوك أن تجعل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل – أو كما قال له – فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول . وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك ، ثم انصرف عن رسول الله - r- وانصرف رسول الله - r- إلى أهله حزيناً آسفاً لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه " .

... قارن بين الصورتين : اضطهاد بدون حدود ، وإغراء إلى هذا المستوى ، ولا خيار . خذ ما تريد واترك ما أنت عليه أو تضطهد هذا الاضطهاد المر . ومحمد - r - في الحالتين هو هو لا الاضطهاد يؤثر في صده عن عملية التبليغ ولا الإغراء يثنيه . وفي موقفه في كلا الحالتين شهادة على أنه رسول الله حقاً وأنه صاحب دعوة هداية أولاً وآخراً .

ج – محاولتهم أن يضغطوا عليه r عائلياً :

... أخرج الطبراني في الأوسط والكبير عن عقيل بن أبي طالب – t – قال : " جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب ! إن ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا وفي نادينا فيسمعنا ما يؤذينا به ، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل ، فقال لي : يا عقيل ! التمس لي ابن عمك ، فأخرجته من كبس ( أي بيت صغير ) من أكباس أبي طالب . فأقبل يمشي معي يطلب الفيء يمشي فيه فلا يقدر عليه حتى انتهى إلى أبي طالب . فقال له أبو طالب ، يا ابن أخي ! والله ما علمت إن كنت لي لمطاعاً ، وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم تسمعهم ما يؤذيهم ، فإن رأيت أن تكف عنهم . فحلق ببصره إلى السماء فقال : والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار . فقال أبو طالب : والله ما كذب ابن أخي قط ، ارجعوا راشدين " .

... قال الهيثمي ( ج6 ص14 ) : رواه الطبراني وأبو يعلى باختصار يسير من أوله ، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح ، انتهى . وأخرجه البخاري في التاريخ بنحوه كما في البداية (ج3 ص42 ) .

... وعند البيهقي : " أن أبا طالب قال له - r - : يا ابن أخي ! إن قومك قد جاءوني وقالوا كذا وكذا ، فأبقِ عليَّ وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أ"يق أنا ولا أنت ، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك .

... فظن رسول الله - r - أن قد بدا لعمله فيه ، وأنه خاذله ومسلمه ، وضعف عن القيام معه . فقال رسول الله - r - : يا عم ! لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ، ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه ، ثم استعبر رسول الله - r - فبكى . فلما ولى قال له حين رأى ما بلغ برسول الله - r - : يا ابن أخي ، فأقبل عليه فقال : امض على أمرك وافعل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً " . كذا في البداية ( ج3 ص42 ) .

... والذي يعرف عادة العرب في احترام الأكابر منهم وطاعتهم لأمرائهم ومشايخ بيوتهم يدرك مدى الأثر النفسي الكبير الذي يحدثه تدخل أبي طالب شيخ بني هاشم نتيجة ضغط قومه عليه . ومحمد - r- الحيي الخجول المهذب ما كان ليخالف أمر عمه ورغبته لو كانت المسألة مسألة شخصية ولكن الأمر أكبر من ذلك . إنه أمر الله الذي هو أكبر من كل عرف ومن كل اعتبار ومن كل ضغط . وفي ذلك شهادة كاملة لمن عرف عادات القبائل العربية على أن محمداً رسول الله - r- .

د- سلوكهم طريق الاستهزاء والسخرية والإعراض والاتهامات :

... من سيرة ابن هشام ننقل هذه المقاطع :

... " ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش ! إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا ، فيكذب بعضكم بعضاً ، ويرد قولكم بعضه بعضاً ، قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فل وأقم لنا رأياً نقول به ، قال : بل أنتم فقولوا أسمع ، قالوا : نقول كاهن ، قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه ، قالوا : فنقول : مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ولا وسوسته ، قالوا : فنقول شاعر ، قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله ؛ رجزه ، وهزجه ، وقريضه ، ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر ، قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم ، قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ( النخلة ) وإن فرعاه لجناة – قال ابن هشام ، ويقال لغدق ( الغدق : الماء الكثير ) وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وأن أقرب القول فيه لأن تقولوا : ساحر جاء بقول هو سحر ، يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته ، فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره .

... - وقال ابن إسحاق :

... ثم إن قريشاً اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله - r - ومن أسلم معه منهم ، فأغروا برسول الله - r - سفهاءهم ، فكذبوه وآذوه ، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون ، ورسول الله - r - مظهر لأمر الله لا يستخفي به ، مبادلهم بما يكرهون من عيب دينهم ، واعتزال أوثانهم ، وفراقه إياهم على كفرهم .

... - وقال ابن إسحاق :

... وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممن كان يؤذي رسول الله - r - وينصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة ، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسبنديار ، فكان إذا جلس رسول الله - r - مجلساً فذكر فيه بالله ، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله ، خلفه في مجلسه إذا قام ، ثم قال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه ، فهلم إلي ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار ، ثم يقول : بماذا محمد أحسن حديثاً مني .

... وقال :

... فلما جاءهم رسول الله - r - بما عرفوا من الحق ، وعرفوا صدقه فيما حدث ، وموقع نبوته فيما جاءهم من علم الغيوب ، حين سألوه عما سألوا عنه ، حال الحسد منهم له بينهم وبين اتّباعه وتصديقه ، فعتوا على الله وتركوا أمره عياناً ، ولجوا فيما هم عليه من الكفر ، فقال قائلهم : {لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}(1) أي اجعلوه لغواً باطلاً واتخذوه هزواً ، لعلكم تغلبونه بذلك ، فإنكم إن ناظرتموه أو خاصتموه يوماً غلبكم .

... - وقال : فقال أبو جهل يوماً وهو يهزأ برسول الله - r - وما جاء به من الحق : يا معشر قريش ! يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشرة ، وأنتم أكثر الناس أعداداً ، وكثرة ، أفيعجز كل مئة رجل منكم عن رجل منهم ، فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قوله : {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ}(2) ... إلى آخر القصة .

... فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، جعلوا إذا جهر رسول الله - r - بالقرآن وهو يصلي فيتفرقون عنه ، ويأبون أن يستمعوا له ، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله - r - بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي ، استرق السمع دونهم ، فَرَقاً منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ، ذهب خشية أذاهم ، فلم يستمع ، وإن خفض رسول الله - r - صوته ، فظن الذي يستمع أنهم يستمعون شيئاً من قراءته وسمع هو شيئاً دونهم ، أصاخ له ليستمع منه " .

... تصور حرب الدعاية الفظيعة التي لجأوا إليها ، وهم قريش موطن ثقة العرب ، والذين تأتيهم العرب سنوياً للحج ، فهم يشوهون اسمه عاماً بعد عام ، ويحاولون أن يحاربوه بكل سلاح من أسلحة القول ، والعربي لا تسمح نفسه أبداً أن يقف موقف المتهم ، ومع ذلك بقي رسول الله - r- صابراً على هذه الحرب الدعائية الفظيعة ، هذه المدة الطويلة ، ثلاثة عشر عاماً ، وما وَنَى وما كَلَّ ، وهو يقوم بعملية التبليغ المستقيمة النظيفة .

... إن استمرار الداعية في مثل هذا الجو المحموم ، دليل على صدقه فيما يدعو إليه ، وإلا فكيف نعلل استمرار رجل في دعوة يلاقي ما لاقى ، مع العرض عليه كل متاع الدنيا ، ثم لا يرضى إلا بحمل الناس على دعوته . إن هذا لا يُعلّل إلا بصدقه في دعوته ، وأنه يبلغها مأموراً من الله عز وجل ، وقد وضح له أن النكوص عن طريقه وراءه ما وراء الذي يَعصِي أمر الله من عقاب الله .

هـ - استعمال سلاح المقاطعة :

... قال ابن إسحاق : " فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله - r - قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً ، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم ، وأن عمر قد أسلم ، فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله - r- وأصحابه وجعل الإسلام يفشو في القبائل ، اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب ، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً ، ولا يبتاعوا منهم ، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم ، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي – قال ابن هشام : ويقال النضر بن الحارث – فدعا عليه رسول الله - r- فشل بعض أصابعه " .

... وقال ابن إسحاق : " فلما فعلت قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب ، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزي بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم " .

... وقال ابن إسحاق : " وحدثني حسين بن عبد الله : أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه وظاهر عليهم قريشاً ، فقال : يا بنت عتبة هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما ؟ قالت : نعم فجزاك الله خيراً يا أبا عتبة " .

... - وأخرج أبو نعيم في الحلية ج1 ص93 عن سعد – t – قال : " كنا قوماً يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله - r- وشدته ، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذل ومَرَنَّا عليه وصبرنا له ، ولقد رأيتني مع رسول الله - r - بمكة خرجت من الليل أبول . وإذا أنا أسمع بقعقعة شيء تحت بولي فإذا قطعة جلد بعير ، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها فوضعتها بين حجرين ثم استففتها وشرب عليها الماء فقويت عليها ثلاثاً " .

... هذه المقاطعة التي كانت من آثارها ما رأيت استمرت ثلاث سنين متواليات . لا بيع ولا شراء ولا زواج ولا إزواج ولا طعام ولا شراب .

... يقول السهيلي : " كانت الصحابة إذا قدمت عير إلى مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئاً من الطعام قوتاً لعياله ، فيقول أبو لهب : فيقول : يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً وقد علمتم مالي ووفاء ذمتي فأنا ضامن أن لا خسار عليكم ، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً ، حتى يرجع أحدهم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع ، وليس في يده شيء يطعمهم به ، ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس " .

... ثلاث سنوات متواليات والمسلمون وأقارب رسول الله - r- من المشركين أنفسهم ممن يحمونه عصبية بني هاشم وبني المطلب على هذه الحال . ورسول الله - r - صابر وهو يرى هذه المناظر المؤلمة . زوجه خديجة الطاعنة في السن ، عمه أبو طالب الطاعن في السن ، أسرته أقاربه يعانون هذه الحياة المجهدة ، ومع ذلك ما فكر لحظة في إيقاف عملية التبليغ والجهر بالدعوة ، وليس هناك ظاهرياً بارقة أمل ، فالجزيرة العربية كلها مجمعة على الوقوف ضده مع قريش ، ومع ذل بقي مستمراً لا لقاء ولا مداهنة ولا تنازل ولا أي شيء آخر . فمن يستطيع أن يتحمل هذا لولا إيمان بالله وثقة به صدق بوعده ووعيده ، واتصال بالله كامل يستسلم صاحبه لأمر الله فيه . إنها صفات الأنبياء ولا يمكن أن تعلل إلا بأن صاحبها رسول الله حقاً ...

و – محاولتهم قتله r :

... - قال ابن إسحاق :

... " ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله - r- وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم ، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له : - فيما بلغني – يا أبا طالب : هذا عمارة بن الوليد ، أنهد فتى في قريش وأجمله ، فخذه فلك عقله ونصره ، واتخذه ولداً فهو لك ، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ويدن آبائك ، وفرَّق جماعة قومك ، وسفه أحلامهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل . فقال : والله لبئس ما تسومونني ، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم , وأعطيكم ابني تقتلونه ! هذا والله ما لا يكون أبداً . قال : فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً ، فقال أبو طالب للمطعم : والله ما أنصفوني ، ولكنك قد أجمعت خذلاني ، ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك – أو كما قال – فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادى بعضهم بعضاً " .

... وقال ابن إسحاق :

... " فلما قام عنهم رسول الله - r- قال أبو جهل : يا معشر قريش إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلس له غداً بحجر ما أطيق حمله – أو كما قال – فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بنو عبد مناف ما بدا لهم ، قالوا : والله لا نسلمك لشيء أبداً ، فامض لما تريد " .

... وقال ابن إسحاق :

... " وكان إسلام عمر – فيما بلغني – أن أخته فاطمة بنت الخطاب ، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وكانت قد أسلمت وأسلم بعلها سعيد بن زيد وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر , وكان نعيم بن عبد الله النحام رجل من قومه ، من بني عدي بن كعب قد أسلم ، وكان أيضاً يستخفي بإسلامه فرقاً من قومه ، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن ، فخرج عمر يوماً متوشحاً سيفه يريد رسول الله - r - ورهطاً من أصحابه قد ذكروا أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ، ومع رسول الله - r- عمه حمزة بن عبد المطلب ، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق ، وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين – رضي الله عنهم – ممن كان أقام مع رسول الله - r - بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة ، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له : أين تريد يا عمر ؟ فقال : أريد محمداً هذا الصابئ ، الذي فرق أمر قريش وسفّه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها ، فأقتله . فقال له نعيم : والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً ! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟ فقال : وأي أهل بيتي ؟ قال : ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو ، وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمداً على دينه ، فعليك بهما . قال : فرجع عمر عامداً إلى أخته وختنه " .

... وقال ابن إسحاق : " من خبر اجتماع الملأ من قريش وتشاورهم في أمر رسول الله - r- فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم ، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا ، فأجمعوا فيه رأياً . قال فتشاوروا ثم قال قائل منهم : احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله ، زهيراً والنابغة ، ومن مضى منهم مع هذا الموت ، حتى يصيبه ما أصابهم ، فقال الشيخ النجدي : لا والله ، ما هذا لكم برأي ، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه ، فلأوشكوا أن يثبتوا عليكم فينزعوه من أيديكم ، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ، ما هذا لكم برأي ، فانظروا في غيره ، فتشاوروا ثم قال قائل منهم : نخرجه من بين أظهرنا ، فننفيه من بلادنا ، فإذا خرج عنا فوالله لا نبالي أين ذهب ولا حيث وقع ، وإذا غاب عنا وفرغنا منه ، أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت . فقال الشيخ النجدي : لا والله ، ما هذا برأي ، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ، والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه . ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم ، فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد . دبروا فيه رأياً غير هذا .

... قال : فقال أبو جهل بن هشام : والله إن لي فيه لرأياً ، ما أراكم وقعتم عليه بعد .

... قالوا : وما هو يا أبا الحكم ؟

... قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً ( الشريف في قومه ) فينا ، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد ، فيقتلوه فنستريح منه ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً ، فرضوا منا بالعقل ، فعقلناه لهم ( العقل : الدية ) قال : فقال الشيخ النجدي : القول ما قال الرجل ، هذا الرأي لا رأي غيره فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له " .

... هذه نماذج من قرارات القوم بشأن اغتيال الرسول - r - . وإذن فالفترة التي قضاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة لم تكن فترة أمن من كل الجوانب . ومع هذه التهديدات المتواصلة وهذا الجو الذي يحطم الأعصاب . نجد رسول الله - r- ما انقطع فترة عن القيام بعملية التبليغ والجهر بها ، ومجابهة الناس بما يدعو له ، إن هذا كله ليس عادياً في بيئة عربية وعلى النفسية العربية لولا أن المسألة مسألة وحي من الله وأمر .

ز- ملاحقة خطواته - r - ومحاولة إيئاسه منهم :

... أخرج ابن إسحاق عن ربيعة بن عباد – t– قال : " إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله - r - يقف على منازل القبائل من العرب فيقول : يا بني فلان ! إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به . قال : وخلفه رجل أحول وضيء غديرتان عليه حلة عدنية . فإذا فرغ رسول الله - r - من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل : يا بني فلان ! إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفائكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا عنه .

... قال : فقلت لأبي يا أبت .. من هذا الرجل الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول ؟ قال هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب " .

... وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن علي بن أبي طالب – t – قال : " لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج في المواسم فيدعو القبائل ، ما أحد من الناس يستجيب له ويقبل منه دعاءه ، فقد كان يأتي القبائل بمجنة وعكاظ وبمنى حتى يستقبل القبائل يعود إليهم سنة بعد سنة حتى إن القبائل منهم من قال : ما آن لك أن تيأس منا ؟ " .

... لقد بقي مستمراً في عملية التبليغ على وتيرة واحدة وبدأب متواصل ، رغم هذه الظروف غير المواتية ، والتي تجعل الإنسان العادي ييأس أو يفتر . ولكن شيئاً من هذا لم يحدث ، فلولا أنه رسول الله حقاً يقوم بهذا كله إيماناً بالله وتنفيذاً لأمره وتصديقاً بوعده وخوفاً من وعيده لما أمكنه الاستمرار وتجاوز شيء من هذا .

... ونكتفي بهذه الأمثلة على تخطيه العقبات أمام البلاغ ؛ لننتقل إلى عرض نماذج من عمله الدائب المستمر الشامل في تبليغ دعوة الله ، أي إلى :

سعيد حوا

المصدر