وعاد العرب من أنابوليس
بقلم: د. عصام العريان
انعقد مؤتمر الخريف كما أرادته أمريكا ورتبت له وزيرة الخارجية رايس في موعده 27/11/2007م في مدينة أنابوليس، وحضرته الوفود العربية، لم يتخلَّف منها أحد، حتى هؤلاء الذين تردَّدوا في الحضور، بل الذين أعلنوا عدم الذهاب لحقوا بالمؤتمر في اللحظات الأخيرة.
وكان مجرد انعقاد المؤتمر كاشفًا مدى العجز العربي وحالة البؤس التي وصل إليها المشهد السياسي العربي، في أهم قضية تشغل العرب والمسلمين (فلسطين)، وفي أقدس مسألة شكَّلت الوجدان العربي والإسلامي (القدس)، وحول أكثر القضايا تشكيلاً لسياسة المنطقة منذ ستة عقود (الصراع العربي الصهيوني)؛ فانهارت بسببها ملكيات، وتهاوت جمهوريات ثورية.
لقد انعقد المؤتمر ومعه انخفاض سقف التوقعات من الأطراف الثلاثة الرئيسية: الراعي الأمريكي، والعدو الصهيوني، والسلطة الفلسطينية، فما الذي يتوقعه الجميع بعد أنابوليس؟!.
كان أول القرارات التنفيذية للسياسة الأمريكية التي تتبناها إدارة بوش هو إعلان وزيرة الخارجية عن تعيين الجنرال جونز منسقًا أمنيًّا أعلى بين الأطراف الثلاثة- أمريكا والعدو والسلطة- مع الإبقاء على الجنرال السابق دايتون، الذي أشرف على خطة الإطاحة بحركة حماس من المجلس التشريعي ومن الحكومة، وتشجيع الانقلابيين في غزة بقيادة دحلان على إثارة الفوضى وتشكيل فرق الموت، ورعى الانقلاب الأمني الذي أدى في النهاية إلى حسم حركة حماس في يونيو وسيطرتها الميدانية التامة على قطاع غزة.
الإبقاء على دايتون يعني استمرار خطته في العمل الميداني لمحاصرة حركة حماس؛ وذلك بهدف تحجيم نشاطها ووجودها في الضفة الغربية، والعمل على استعادة قطاع غزة منها بعد إحكام الحصار على غزة، وتجويع أهلها، وقتلهم قتلاً بطيئًا.
وتعيين جونز يعني رفع سقف التوقعات من هذه الخطة في المستقبل القريب، فقد تفشل كما فشلت في السابق خلال السنتين الأخيرتين منذ فوز حماس الكاسح في انتخابات 2005، وهنا يكون البديل هو تكرار ما حدث في غزة بنفس الطريقة في الضفة الغربية، وهو ما يتوقعه بعض المراقبين الصهاينة بأن تسيطر حماس على الضفة الغربية أيضًا؛ مما يعني وضع الفلسطينيين جميعًا تحت الحصار واعتبارهم كيانًا معاديًا برضا عربي وغطاء دولي وعجز فلسطيني، وبذلك تتوقَّف أي مفاوضات وتنتهي قصة منظمة التحرير الفلسطينية وتنهار السلطة الفلسطينية وتكون أمام مشهد جديد يحتاج إلى سيناريو جديد وإخراج جديد.
ذهاب العرب إلى أنابوليس يعني من جهة أخرى نهاية المبادرة العربية عمليًّا، فها هم قد بدأوا مسيرة التطبيع، دون سلام أو كلام كمرحلة أولى، ودون مقابل من العدو الصهيوني؛ حيث أعلن أولمرت أنه لن يقدم أيةَ تنازلات في المؤتمر، وهذا ما حدث بالفعل، بل إنه تحدث عن يهودية الدولة العبرية أمام الجميع، وأيَّده بوش في ذلك؛ مما يعني إصرارًا تامًّا على إسقاط حق العودة لـ5 ملايين فلسطيني، بل ما هو أكثر من ذلك؛ يعني تهجير حوالي 1.5 مليون عربي من الأراضي التي استولى عليها الصهاينة عام 1948م، وما زالوا يتمسكون بوطنهم، ويشكِّلون هاجسًا ديمغرافيًّا خطيرًا، تتنامى قوته مع الزمن، ويهدد الدولة الصهيونية التي بدأ معدل الهجرة العكسية يزداد فيها خروجًا منها بسبب المقاومة الفلسطينية الباسلة.
في المقابل لم يحصل عباس ولا العرب على أي شيء سوى وعد بإطلاق المفاوضات بعد توقفها ست سنوات؛ بسبب إصرار الشهيد ياسر عرفات- الذي قتلوه بالسم- على عدم التنازل عن الحقوق الفلسطينية الثابتة، وتحديه لرئيس أكبر دولة في العالم في عقر داره، فأصبح رأس الذئب الطائر الذي تُخَوِّف به أمريكا كل الزعماء العرب، وأن مصيرهم سيكون كمصير عرفات إذا تحدَّوا السيد الأمريكي.
هل تستطيع المفاوضات أن تنجز شيئًا للفلسطينيين؟!.. الإجابة معروفة؛ فهي لم تنجز شيئًا في الماضي، ولن تحقق أملاً في المستقبل؛ لأن أوراق القوة التي يملكها الفلسطينيون تبخَّرت مع الوقت، خاصةً بعد أن أعلن عباس أنه لا مجال للمقاومة المسلَّحة ضد الاحتلال، وأن قوات السلطة تطارد المقاومين الآن في الضفة الغربية، بما فيهم كتائب شهداء الأقصى التي شكَّلها عرفات.
أمريكا أرادت من المؤتمر أن تحشد ما تسميه بالمعتدلين العرب ضد أعدائها في المنطقة ممن تسميهم المتطرفين، فكانت النتيجة أن كلَّ الحكومات العربية- بما فيها سوريا التي ما زالت أراضيها محتلة ولم تحصل على أية وعود- كانت في حلف المعتدلين.
وبالطبع كانت الشعوب العربية التي غاب صوتها عن المؤتمرَيْن هي في صف المتطرفين، والقرينة هو تصاعد العداء الشعبي والغضب العربي والإسلامي ضد السياسة الأمريكية بصورة لم يسبق لها مثيل، حتى إن كارين هيوز- المسئولة السابقة في إدارة بوش عن تحسين صورة أمريكا في العالمين العربي والإسلامي- استقالت عجزًا واحتجاجًا على السياسات الأمريكية، وانضمَّت إلى قائمة الهاربين من سفينة بوش في أواخر أيامه في رئاسة أمريكا، ولم يتبقَّ معه إلا نائبه تشيني مهندس كوارث الحروب.
لم تتعلم الإدارة الأمريكية شيئًا من نتائج الانتخابات الحرة في البلاد الغربية التي أطاحت شعوبها بكل حلفاء بوش خلال السنوات السابقة، بدءًا برئيس وزراء إيطاليا بيرلسكوني، ثم إسبانيا أزنار، ثم بريطانيا بخروج بلير، مرورًا بآخرين، وانتهاءً بأستراليا بسقوط هيوارد والقوميين.
ويُتوقَّع خلال السنة القادمة على الأقل قبل خروج بوش من البيت الأبيض تنامي حلف الديكتاتوريين السلطويين المستبدِّين، الذي ترعاه أمريكا، وأطلقت يده ضد الشعوب العربية، فنشهد تزويرًا فاضحًا لأي انتخابات بدأت بوادره في الأردن في الانتخابات المحلية والبرلمانية، وقهرًا شديدًا لكل الحركات الشعبية التي تعارض السياسة الأمريكية والصهيونية خاصةً الإسلاميين، واعتقالات متكررة ومحاكمات ظالمة.. إلخ.
عاد العرب من أنابوليس ليقهروا شعوبهم، وليمارسوا هواياتهم في الديكتاتورية الاستبدادية ونهب الثروات وإفقار الشعوب العربية.
عاد العرب من أنابوليس ليتمتَّعوا بكراسي الحكم في ظل الرعاية الأمريكية والرضا الصهيوني، بعد أن تخلَّوا عن دعم الشعب الفلسطيني، ولم يرفعوا صوتًا واحدًا يطالب برفع الحصار الظالم عن غزة.
كل ذلك سينتهي كما انتهى ما سبقه من عهود إلى فشل ذريع؛ لأن إرادة الشعوب الحرة من إرادة الله القوي الجبار، وتضحيات السابقين هي دليل عمل لكل المجاهدين في فلسطين والوطن العربي والإسلامي، ووفاء الثابتين على العهد مع الله لن يقلَّ، بل يزداد في ظل الظروف الاستثنائية، ومعرفتنا بمبدئنا وعدم انحرافنا عنه أو المساومة عليه أو الخديعة بغيره، تعصمنا من الانزلاق إلى الحظيرة الديكتاتورية أو الحظيرة الصهيونية أو المظلة الأمريكية، فنحن مع الله وبالله، ولن نكون لأحد سواه.
المصدر
- مقال:وعاد العرب من أنابوليسإخوان أون لاين