إخوان أون لاين يحاور عبد الله باها القيادي في حزب العدالة المغربي
07/07/2008
مقدمة
- فرق كبير بين عمل الحركة الإسلامية والأحزاب
- المشاركة السياسية هي الأصل والممانعة استثناء
- الاشتغال بالعمل السياسي من أبواب الخير في الدين
أيام قليلة تفصل "رفاق" سعد الدين العثماني الأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغربي ذوي المرجعية الإسلامية عن تنظيم مؤتمرهم السادس في تاريخه أيام 19- 21 يوليو الجاري.
المحطة السياسية الحالية فاصلةٌ في تاريخ الحزب الإسلامي، خاصةً أنها تأتي بعد أكثر من عقد لدخول جزء من الحركة الإسلامية بالمغرب ميدانَ التنافس السياسي، وأيضًا بعد إجراء انتخابات تشريعية رسَّخت الحزب الأول من حيث عدد الأصوات، والثاني من حيث المقاعد النيابية؛ وهو ما ساهم في تراكم تجربة المشاركة السياسية الإسلامية والتطبيع داخل المشهد السياسي.
وبهدف تقديم إضاءات حول التجربة السياسية لأحد مكونات التيار الإسلامي وأهم الملفات والقضايا المطروحة على طريقة اشتغاله، وسط انتقاداتٍ حول استعمال الهوية للتعبئة السياسية.. أجرى موقع (إخوان أون لاين) حوارًا مع السيد عبد الله باها رئيس المؤتمر المقبل، وأحد القياديين الرئيسيين للحزب، والمشارك في تدبير ملفاته الحساسة.
ولذا جاء الحوار مزاوجًا بين الاعتراف الصريح بالتقصير في جوانب وتقديم أفكار عميقة جديدة في مناقشة التجربة السياسية الإسلامية من أجل استشراف المستقبل.. لنتابع:
- بعد مرور أكثر من عقد من الزمن على تجربة مشاركة الإسلاميين بالمغرب في معترك السياسة؛ ما هي تجليات النجاح والإخفاق في التجربة؟
- بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن تبعه..
بطبيعة الحال بعد مرور مدة مقدَّرة على مشاركتنا السياسية في تدبير الشأن العام، فالنجاح والإخفاق يرتبط بالمعطيات السياسية والموضوعية التي تحققت أو التي صاحبت ترسيخ التجربة، وفيما يتعلق بالمعطيات السياسية، فلا شك أننا ولجنا التجربة بدون تراكم؛ إذ انتقلنا على المستوى الذاتي من حركة إسلامية دعوية وتربوية إلى عمل حزبي يرتبط بالواقع ومعطيات المجتمع وتدبير الشأن العام؛ ولذا كانت أهدافنا في الأول أهدافًا متواضعةً، وكان مقصودنا هو تعزيز المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع، وتطبيع وضع الحركة الإسلامية في المجتمع، واكتساب بعض التجارب فيما يتعلق بتدبير مجال الشأن العام الذي يتميز بالشمول والتعقد في الآن نفسه، والحمد لله؛ فهذه الأهداف تحققت ولو بنسب متفاوتة بطبيعة الحال.
أما على مستوى الإكراهات، فقد تأسس المؤتمر الاستثنائي لحزب العدالة والتنمية سنة 1996م (*)، ولم تمضِ غير سنة حتى خضنا الانتخابات التشريعية 1997م، وبسبب عدم مشاركتنا في الانتخابات المحلية حُرمنا من التمثيل في الغرفة الثانية من البرلمان المغربي (مجلس المستشارين).
وبعد ذلك جاءت أحداث سبتمبر 2001م، وتزامنت مع وصول إدارة بوش لرئاسة أمريكا، والتي هي فترة استثنائية؛ حيث أصبح المشروعان الأمريكي والصهيوني متطابقين، وهو ما ألقى بعبءٍ وثقلٍ على الحركات الإسلامية جميعًا، وما تلاه من طبع الوضع العام الدولي بنوعٍ من الضغط وتحجيم العمل الإسلامي بصفة عامة، سواءٌ في العالم الإسلامي أو في بلدان المهجر، فأصبح خيار التوجه الإسلامي هو خيار الصمود والمقاومة، وانصبَّت الجهود على الحد من الخسائر أكثر من تحقيق مكاسب جديدة.
وأتمنى أن تمر تداعيات هذه المرحلة، وتستعيد الحركة الإسلامية حيويتها للقيام بالمجهودات الضرورية للتجديد والترشيد من أجل المستقبل.
- تحدثتم عن جوانب النجاح، لكن أين تتجلى مظاهر الإخفاق في التجربة؟
- إن مجرد الصمود والثبات والمقاومة في الظروف التي تحدثت عنها هو في حد ذاته يُعدُّ إنجازًا، أما تحقيق إنجازات أخرى للمجتمع فلا يمكن ذلك، والمثال الذي أحاول تقديمه لتوضيح الوضع أكثر هو ما وقع لحركة حماس بفلسطين، رغم أنها حققت إنجازًا ديمقراطيًّا كبيرًا، إلا أن العوامل الخارجية أدت إلى محاصرتها وتحجيم دورها وفعاليتها، ولكنها صمدت وقاومت ولا تزال.
- يصفكم خصومكم السياسيون ببعض المقولات المشكِّكة في عملكم السياسي؛ مثل استغلال الدين للتعبئة السياسية، أو ازدواجية الخطاب السياسي.
- أعتقد أن هذا السؤال في غير محله، وهو سؤال مغلوط؛ لأن المقصود منه هو الاتهام والتضييق والتشكيك، والأصل أنه لا يمكن فصل الدين عن السياسة بصفة نهائية في أي بلد وفي أي مجتمع؛ لأن المعتقدات جزءٌ من حياة الأفراد والمجتمعات، وفي العالم الإسلامي يكون الوضع أولى؛ لأن الإسلام قائم على نظام شامل؛ لا يميز جانبًا عن آخر.
وعليه، فالعلمنة الشاملة في المجتمعات الإسلامية غير ممكنة، كما أن الأسلمة الشاملة غير ممكنة أيضًا؛ فالعلمنة الشاملة ستؤدي في آخر المطاف إلى صراع قاتل بين إسلامية المجتمع وعلمانية الدولة، ومحاولة الأسلمة الشاملة ستؤدي أيضًا إلى تصادم السلطة مع المجتمع؛ لأن المجتمعات تبقى غير مستعدة لتحمل مستوى أعلى من الالتزام بالدين وأحكامه.
وهذا الوضع ليس جديدًا، بل هو قديم في تاريخ المسلمين، وأستحضر هنا ما أخبرنا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أن الخلافة الراشدة ستتحول إلى ملك عضوض بسبب التطور الذي يحدث في المجتمع الإسلامي؛ إذ لم يكن بالإمكان الاحتفاظ بالخلافة الراشدة كنظام للحكم من الناحية الثقافية والاجتماعية وداخل هذه المجتمعات ما تزال هناك تأثيرات التاريخ والموروث من عصور الانحطاط، وتأثيرات الحضارة الغربية مؤثرة في المجتمعات الإسلامية بشكل كبير بخصوص التمثل الرشيد لما جاء به الإسلام.
ولهذا فنحن لا نُلقي بالاً لاتهامات الخصوم السياسيين، وإنما نسعى إلى أن نكون شفَّافين في خطابنا وممارستنا ومواقفنا؛ حتى يكون ما نفعله وما نقوله واضحًا للعيان، فيحكم عليه من يشاء بما يريد، أما هذا التشكيك والاتهامات فأفضل وسيلة لمواجهتها هو مزيد من الوضوح والشفافية في الخطاب والممارسة.
- من وجهة نظركم.. ما هي طبيعة الخطاب الإسلامي السياسي؟ وكيف تطور؟
- بحكم أن الحزب جاء من رحم الحركة الإسلامية، وبالنظر إلى كون هذه الأخيرة تعتبر حركة تربية ودعوة وإرشاد، فهي تتحدث عما يجب أن يكون، وهذا هو دورها، مثل دور الخطيب في المسجد؛ فهو دائمًا يذكر مرتادي المسجد بالله تعالى ويدعوهم إلى الأصول والمبادئ السامية، ولكن بالنسبة للحزب السياسي فهو يهتم بالشأن العام؛ أي ما يمكن أن يكون، وليس كل ما ينبغي أن يكون هو ما يجب أن يكون.
وهذا هو الفرق بين الخطاب الدعوي الديني والخطاب السياسي التدبيري، وإن كان كلاهما يستقي من المرجعية نفسها، ولكن كل مقام يستدعي نوعًا من المقال والتعامل والتدبير بحكم الإمكانات.
- ألا يُتَخوَّف من هذا النوع من التفسير والتفريق أن نكون أمام "علمانية إسلامية" في الخطاب السياسي الإسلامي؟
- أعتقد أن طرح العلمانية بهذا المفهوم ليس صحيحًا؛ لأن العلمانية توجد أيضًا مع الإنسان ونفسه؛ فهو إذا سألته عن أحكام الدين وقواطعه فهو يقر بها، وتجده يدعو إليها ويقدِّرها، لكنه في سلوكه الشخصي اليومي والاجتماعي لا تجده يمتثل لهذه القواعد والأحكام بشكل كامل.
وهذا التفاوت موجود في جميع المستويات، ولا يفيد العلمانية، وإنما يفيد أن هناك تفاوتًا في الالتزام بالدين من حيث الممارسة والقول؛ لأن الوحي مقدس ومطلق، ولكن فهمنا للوحي يبقى نسبيًّا، وسلوكنا وممارستنا لمقتضيات الوحي هي أيضًا نسبية.
لكن الذي يقع مع الأسف في بعض الأحيان أن هذا الإطلاق والتقديس الملازم للوحي نسقطه على أفهامنا وفهومنا، وعلى أشخاصنا، وفي بعض الأحيان على سلوكنا، وهذا ما يعقِّد الأمور ويُنتج نوعًا من الاضطراب والارتباك في التفسير، أما إذا سلمنا بأن تديننا وأشكاله وأنماطه نسبية، فلا شك أن هذا الفهم سيجعلنا في سعة من أمرنا، والواقع كذلك، ولنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة بتفاوت المسلمين في درجة التدين.
مقاصد المشاركة السياسية
- دشَّنت حركة التوحيد والإصلاح باعتبارها إحدى مكونات الحركة الإسلامية بالمغرب تجربة المشاركة السياسية في المؤسسات القائمة.. بعد هذه الفترة من المشاركة هل تم تحقيق المقاصد المرجوَّة منها؟
- أهداف الحركة الدعوية غالبًا لا تتحقق؛ فهي تستمر ما دامت السماوات والأرض، والله سبحانه وتعالى خاطب رسوله الكريم: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر: 99)، وهو ما يدل على أن مهمة الإصلاح والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تتوقف، وإنما الذي يقاس هنا حجم التقدم والتنافس في هذا الاتجاه.
والسؤال ليس هل النقص ما زال موجودًا على المستوى الشخصي والمجتمع؟ ولكن السؤال: هل يتحسَّن تدينُنا والتزامنا بالدين؟ وهل يومُنا أحسن من أمسنا، وغدنا أفضل من يومنا؟ أما النقص فسيبقى مستمرًّا؛ فهذا هو المعيار الحقيقي لقياس التقدم والنجاح وتحسين الأداء، أما الوظيفة الدعوية فهي مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وفي رأيي.. المشاركة هي الأصل، والممانعة هي الاستثناء؛ لأن قولنا إن الإسلام دين شامل يعني أن الله تعالى يجب أن يُعبَد في كل المجالات، ومنها المجال السياسي وتدبير الشأن العام، وليس من باب القواعد العامة؛ مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، وإنما أذكر ها هنا حديثًا دأبنا على الاستدلال به في مجالات خاصة ولا نستشهد به في المجال السياسي، وهو حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر الصنف الأول من السبعة: "إمام عادل"، ولكن هذا الصنف في أدبياتنا التربوية وممارستنا نمر عليه مرور الكرام ولا نقف عنده.
وأتساءل: ماذا يفعل الإمام العادل الذي يظله الله يوم لا ظل إلا ظله؟!.. وأجيب بأنه يشتغل بالسياسة، ولكنها السياسة العادلة والراشدة والنافعة والصالحة؛ فالعمل السياسي باب كبير من أبواب الخير في الدين، ويحتاج إلى مجهود كبير يناسبه، سواءٌ على مستوى تجديد القصد والنية أو على صعيد صلاح الأعمال؛ لأنه عمل ملتبس بالوجاهة والاستفادة المادية، وميدانٌ للتنازع والتسابق، ولا بد للإنسان فيه من جهد كبير للتصحيح والتعهد، وهو ما يستثقله بعض الناس، وما درجنا عليه في الثقافة الدينية التقليدية هو النظر إليه بسلبية والقول إنه باب صعب ووسخ، لكن المشكل أننا لا نكون في مستوى العمل في هذا الميدان.
كما أن تفضيل خيار المشاركة يتحكم فيه طبيعة الدولة؛ ففي السابق لم تكن الدولة مهيمنة بالمنظور الغربي؛ إذ كان الناس يعيشون دينهم دون الحاجة إلى الدولة وآليات اشتغالها، وكان بإمكان الفرد في الدولة التقليدية أن يزداد ويكبر ويتزوَّج ويلد ويموت ولا يحتاج إليها؛ لأن حياته كلها لم تكن مرتبطة بها، أما الدولة الحديثة فهي دولة مهيمنة تتدخل في حياة الفرد والجماعة من الولادة إلى الوفاة؛ فإذا وُلد المولود لا يُعتَرف بحقه في الحياة حتى يُسجَّل إداريًّا، وإذا مات لا يُدفَن حتى يُرخَّص له، وبينهما كل شيء يخضع للسياسة؛ من خطبة الجمعة، إلى الإعلام والتعليم، والسلع المستهلكة، والأزبال التي تُجمع في الشوارع، وعلاقة الإنسان بأولاده وزوجته.. ينظمها القانون، وهو من السياسة، ولا يمكن أن يقول المرء اليوم إنه لا علاقة له بالسياسة؛ لأن جميع أمور حياته مرتبطة بقرار سياسي محلي أو وطني أو دولي.
وإذا أضفنا إلى هذا أن الدولة الحديثة ليست مهيمنة فقط، وإنما هي دولة مؤسسات، فلا شك أن الإنسان لا يستطيع التأثير في القرار السياسي إلا من خلال المشاركة داخل هذه المؤسسات، وهذا هو الذي فطن إليه خصوم الحركة الإسلامية وحاولوا إبعادها عن هذا المجال وإقصاءها خارج مؤسسات تدبير الشأن العام والسياسة، وخارج المؤسسات القائمة يمكن أن تكون لك أعداد كبيرة ولكنهم لا يؤثرون في صيرورة القرار السياسي.
- تداول بعض قياديي الحزب في الآونة الأخيرة ضرورةَ تجاوز خطاب الهوية إلى خطاب التدبير.. هل هذا التحول رغبة ذاتية؟ أم أنه جاء استجابةً لتحدٍّ موضوعي خارجي؟
- الاجتماع على أساس الهوية لا يحتاج إلى برنامج؛ فبمجرد أن نكون نحن نحن فهذا هو البرنامج، وهذا هو أساس التجمع، سواءٌ أكانت هذه الهوية دينية أم عرقية أم لغوية أم غيرها؛ ولهذا تجد الأحزاب ذات الطابع الهوياتي لا تحتاج إلى برامج لتجتمع؛ لأن اجتماعاتها نابعة من هويتها.
وعليه فالأحزاب الطائفية مثلاً لا تحتاج إلى برنامج، وكذلك الأحزاب العرقية واللغوية والجهوية، وحتى الأحزاب الدينية لا تحتاج إلى برنامج؛ لأن هؤلاء يقدمون أنفسهم على أنهم مسلمون متدينون وكفى، فكون الفرد متدينًا فهذا هو محدد الانتماء والعمل.
كما أذكر في هذا السياق الأحزاب التي تعتمد أساسًا على "القيادة الجامعة"، التي تجمع مكونات الحزب وتكون هي كل شيء، تجد أنها هي القيادة والبرنامج والمنهج وكل شيء.
وفي مقابل ما سبق هناك أحزاب تستجيب لمعايير العصر والتجديد، وهي التي تقوم على أساس وجود مشروع سياسي، أي أحزاب تفكر في ماذا ستقدم للجماعة السياسية التي تشتغل فيها، وهذا هو المهم في العمل السياسي، وهو حسن تدبير الشأن العام.
وما ذُكر يلخص التحول الجاري في حزب العدالة والتنمية الخاص بالانتقال من حزب هوياتي إلى حزبٍ لتدبير الشأن العام؛ فقد دخلنا العمل السياسي باعتبارنا حركة إسلامية، واليوم المجتمع يسائلنا ماذا نقترح لمعالجة إشكالات المجتمع وندبرها، وليس فقط بتقديم أشخاص نزهاء، يتوفرون على حدٍّ أدنى من الكفاءة، ولكن ماذا سيفعلون، وهذا لا يعني تنكرًا لكوننا متدينين، ولكنه ماذا ستقدم في معالجة قضايا المجتمع، والتحول مطلب عادي من حركة تربوية دعوية إلى حزب سياسي.
الشباب والشيوخ
- في التجمعات الاجتماعية والسياسية تطرح مشكلة القيادات والقيادات البديلة بين شباب متحمس وشيوخ متريثين.. هل لدى حزب العدالة والتنمية برنامج لاستيعاب هذا التحدي؟
- هذا مشكل حقيقي لدى الحركة الإسلامية خاصة والأحزاب السياسية عامة؛ فهناك تعويل على الانبثاق الطبيعي للقيادات، غير أن الأوضاع الموجودة حاليًّا ودرجة تعقُّد أمور الحياة والتنظيم المجتمعي يؤكد أن التعويل على هذا الخيار لم يعد ممكنًا؛ فلا بد أن تكون هناك آليات منهجية تؤدي إلى إفراز وإبراز هذه القيادات، وهنا يدخل الإجراء التنظيمي، وقد حاولنا في حزبنا تفعيل هذا الإجراء من خلال حصر ولاية المسئول القيادي في ولايتين متتابعتين؛ فيلتزم المسئول القيادي على المستوى المحلي والجهوي والمركزي بالتغيير بعد مرور ولايتين ليُختار غيره.
كما وضعنا حالة التنافي بين المسئوليات داخل الحزب، ولكن تبين لنا بعد كل هذه الإجراءات أنها لا تكفي؛ ولذلك لا بد أن يكون هناك منهج لتخريج وتكوين وإبراز القيادات، ونحن بصدد بلورة ورقة تنظيمية خاصة به؛ تنطلق من رصد الأعضاء المؤهلين للمسئولية القيادية وتكوينهم من أجل تحصيل رصيد من القيادات التي يمكن أن تتحمل المسئولية الحزبية في المستقبل، والأمر يحتاج إلى وقتٍ كافٍ ليتبلور؛ لأن الخصاص في هذا الجانب أدى إلى تراكم المسئوليات على بعض الإخوان، وليس تحملهم للمسئولية سعي إلى احتكارها، وإنما هو تعبير عن الواقع الموجود، ونرجو من الله تعالى أن ييسر سبل تجاوز هذا الوضع في السنوات المقبلة.. هذا في ما يخص المسئولية الداخلية.
أما على مستوى المسئوليات التي نقترحها للمجتمع، مثل الترشيح للبرلمان وغيرها، فهي لا تتعلق بالحزب، وإنما هي حق المجتمع، وإذا أردنا تعويض شخص من الحزب بآخر فيجب أن يكون العوض مكافئًا للمستبدَل، وإلا سنكون قد رشحنا للمجتمع المفضول عن الأفضل.
وإذا كانت إمامة المفضول فيما بيننا مقبولة، فهي بالنسبة للمجتمع ليست كذلك، والمجتمع لا يعذرنا إذا لم نقدم له الأفضل، وهنا أدعو الشباب إلى بذل جهد في التكوين وجودة الأداء ليكونوا أهلاً للترشح للمسئوليات داخل المجتمع.
- في هذا السياق نريد من خلال تجربتكم في العمل السياسي توضيح مواصفات لهذه القيادات البديلة.
- القيادة ليس لها مواصفات محددة؛ لأنها مرتبطة بمعطيات الواقع، فمن يكون ملائمًا لمرحلةٍ قد لا يكون ملائمًا لمرحلة مقبلة، والمحدد في هذا الشأن هو أن يخضع الأمر للآليات الديمقراطية التي تحدد من يصلح ومن لا يصلح بحسب تقدير المرحلة وظروفها ومعطياتها السياسية.
وأوضح مثال هو ما يحصل بالولايات المتحدة الأمريكية؛ فتجد رئيسًا قضى ولاية رئاسية كاملة ولا يعاد انتخابه، فهل هذا التغيير يفيد أنه لا يصلح للقيادة؟!.. إن العكس هو الصحيح؛ لأنه ما انتخب أول الأمر إلا لكونه صالحًا، لكن الظروف والمعطيات والتحديات هي التي تتغير، وتفرض اختيار القيادات الملائمة للمرحلة.
- يُعتبر مبدأ الشفافية وتقديم الذمة المالية آليةً من آليات محاربة الفساد والمفسدين في المال العام.. إلى أين وصل نضال الحزب في هذا المسار؟
- نحن طالبنا وما زلنا نطالب بمكافحة الفساد في تدبير الشأن العام، ونعتبر المطالبة بذلك عملاً أساسيًّا في عملنا؛ ولذا طالبنا نواب العدالة والتنمية بتقديم تصريح بممتلكاتهم وفق القانون، ونحن ننتظر تفعيل القوانين الجديدة في هذا المجال.
ولإتمام هذه الإجراءات أيضًا طالبنا بالمصادقة على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، وتمت المصادقة عليه في الولاية التشريعية السابقة، وسنعمل على تفعيل مقتضياتها، ولكن في الحقيقة نحن نحتاج إلى وضع إستراتيجية متكاملة وشاملة في هذا المسار، سواءٌ في المحيط الداخلي أو من أجل حماية الحزب وتحصينه ضد أن يستوعبه الفساد كما استوعب الذين من قبلنا.
ويأتي حرصنا لكون الفساد بالمغرب مستفحلاً بدرجة كبيرة، ودائمًا أقول إن الفساد في تدبير الشأن العام له أربع دعائم: الرشوة، والمحسوبية والزبونية، واختلاس المال العام، واستغلال النفوذ، وحضور واحد من هذه الأركان ينتج كارثة، فكيف الحال وهي موجودة جميعها؟!؛ ولذا فبدون جهد معتبر في مكافحة الفساد لا يمكن تحقيق شيء ذي بال في التنمية.
الدعوي والسياسي
- في السابق كانت جدلية المثقف والسياسي، واليوم مع دخول التيار الإسلامي للعمل السياسي تطرح إشكالية الدعوي والسياسي.. كيف تعامل الحزب مع هذه الثنائية خطابًا وممارسةً؟
- الواجب على الحزب أن يمارس تدبير الشأن العام؛ لأن هدفه هو خدمة المجتمع وإصلاح أحواله، وما دام المجتمع تعدديًّا فالحزب السياسي مطالب بالسعي إلى تدبير المشترك، بينما الدعوة تتجه إلى التعريف بالدين ودعوة الناس إليه.
ويبقى أن الحزب الإسلامي يتعامل مع قضايا المرجعية كقضايا تدخل في تدبير الشأن العام، وليس باعتبارها قضايا مبادئ، ولنأخذ مثلاً توفير المساجد؛ فالحزب السياسي يجب ألا يتعامل مع بنائها وتوفيرها على أساس تبشيري، وإنما يتعامل مع الأمر على أساس الاستجابة لحاجة المواطنين إليها؛ لأنها تلبي حاجاتهم الروحية والدينية، وهو مطالب بها؛ سواءٌ كانت الحكومة من المتدينين أو من غيرهم؛ لوجود تعبير مجتمعي يطالب بتوفيرها، وهذا ما يميز عمل الحزب وعمل الحركة.
وفي هذا السياق أذكر المعاهدة المشهورة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فهي معاهدة لا نجد فيها بنودً دينية، بل فيها بنود تخص تنظيم المشترك داخل مجتمع المدينة، مثل الدفاع عنها، والتضامن، والمناصرة، وهي معاهدة شملت المسلمين واليهود والعرب المشركين.
- ولكن على ذكر المساجد.. هناك محاولات لتحييد دورها الحضاري؛ حيث كان مكانًا للمعاهدات والقضايا السياسية الكبرى التي تهم الحرب والسلم.
- هذا يرجع بنا إلى سابق حديثنا عن الدولة الحديثة المهيمنة التي تتدخل في تنظيم كل المجالات بما فيها مجال الدين؛ فالمسجد صورة لتداخل الأوضاع داخل المجتمع؛ إذ لم يعد المسجد مكانًا مخصَّصًا لأشياءٍ محددةٍ يلتزم بها الجميع، بل أصبح مؤسسة من مؤسسات المجتمع؛ تخترقه جميع التيارات والإشكالات المعتملة في المجتمع.
كما أن الاختلافات السياسية الموجودة خارج المسجد إذا دخلت إليه فستفسد على الناس عبادتهم، ونفترض وجود خطيب يدعو إلى حزب معين، ويوجد بالمسجد من يعارض هذا الحزب، فستحصل فتنة، أي هل سيسكتون؟! أم سيردون عليه؟!
والمسألة الثانية في حديثنا حول المسجد هو الجانب الأمني، فهل تقبل الدولة بوجود ناس داخل المسجد يناهضون سياسة الدولة ويدعون إلى الثورة عليها أو يدعون إلى العنف؟!
وهنا نستحضر البعد الأمني البسيط ونتساءل: هل من الممكن أن يبقى المسجد مفتوحًا طول الوقت ليتعرض المصلون إلى السرقة ويصبح مأوى للمتسكعين؟! أم نجعل عليه حراسة أمنية لتفادي ذلك؟!
وعليه، فهناك إشكالات حقيقية ترتبط بتدبير الدولة الحديثة والحضارة العصرية، وهو وضع يتعلق بمختلف المؤسسات، ومنها مؤسسة المسجد التي يُنظَر إليها في الوضع الحالي نظرةً متجددةً ليكون تدبيرها عملاً إيجابيَّا، أما أن يقع تعسف على الخطباء والأئمة بسبب انتماءاتهم، فهذا مرتبط بالديكتاتورية والظلم السياسي، وهذا لا يخص المسجد، بل يشمل الصحيفة والحزب والنقابة.
- من خلال تجربة المشاركة والمدافعة السياسية.. كيف وفَّقتم بين أسلوبي الضغط والإغراء؟
- يجب التفريق جوهريًّا بين عمل الحركة الإسلامية باعتبارها حركة تربوية دعوية تهتم بما يجب أن يكون، وبين الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية التي ينبغي أن تهتم بما يمكن أن يكون من منطلق المرجعية الإسلامية.
وهذا الاختيار يتراوح بين مدٍّ وجزر، وفيه الممكن وغير الممكن، وما هو ممكن اليوم وما لا تسمح به الظروف، وما يسمح به الوضع داخل الأحزاب وداخل المجتمع والوضع الدولي أيضًا؛ فالعامل الذاتي والمحلي والدولي هي عوامل تتفاعل باستمرار، ويجب على الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية أن تأخذ بعين الاعتبار تأثير هذه العوامل على الأوضاع السياسية، أما إسقاطها المقاربة الحركية على الحزب فهذا سيجعل الأمر صعبًا؛ لأن الحزب لن يستطيع القيام بدوره في تدبير الشأن العام، كما أن الحركة لن تستطيع التفرغ لمهمتها في المجتمع، وهي لا ترتبط بإكراهات ظرفية، وإنما هي وظيفة رسالية مستمرة.
(*) تأسس الحزب سنة 1962م، وكان يسمى "الحركة الشعبية الدستورية"، وفي سنة 1996م دخله جزء من الإسلاميين بعد رفض الدولة المغربية منح الترخيص لتكوين حزب إسلامي، ليسمى سنة 1998م حزب العدالة والتنمية.