الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية (شبهات وردود)
بقلم الداعية الشيخ/ توفيق الواعي
مقدمة
قد تفاجأ بإنسان لم يقرأ بابا واحدا من العلم ، ولا درس صفحة واحدة من مسائلة ، قد تعمم وتحذلق ، وأطال لحيته ، وقصر ثوبه ، وأبرز مسواكا في صدر جلبابه ، و أخر في فمه ، كأنه يريد أن يقول لك : انتبه ، فأنا حارس السنة وداعية الشريعة ، ومصدر العلم ، الإسلام كله في جيبي ، والتعاليم والفتاوى في رأسي ، وآراء السلف والخلف طوع أمري ، أنا صيدلية العلم ونطاسي الملة ، ومدينة الفقه ، ومجمع الفتيا ، وباب الحلال والحرام ، ومفتاح القبول ، وطريق الوصول .
كل أمر لا يصدر عني فهو رد، وكل حكم لا يخرج من مشكاتي فهو مدخول ، وكل عمل غير ممهور برضائي فهو باطل ، وكل فتوى لا تخرج من بين شفتي فهي مزورة ، الحلال ما أحللت والحرام ما حرمت ، الأدلة أنا الذي أصوبها أو أخطئها ، أقبلها أو أردها ، الاجتهاد من فني وعملي ، فلا أقلد أحدا ، فالتقليد ممنوع . وأهل النظر ، هم أهل الضلال والبدع ، وكل بدعة ضلالة ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، وأحمد رجال زمانهم ، ونحن رجال زماننا ، ولهذا ومن أجل ذاك ، تراه يمشي منتفخا كأنه الطاووس ، مزهوا مثل قيصر أو كسري ، يثرثر كأنه ببغاء ، ويهذي كأنه إذاعة ، ويرغي ويزبد كأنه ملتاث ليكون نشوزا في نغم الحياة الإسلامية ، ونفورا في نظام الدعوة إلي الله ، في أيام استيقظت فيها الأمة الإسلامية من رقاد طويل ، وأخذت تنضح جفنها الوسنان بأنداء الإسلام الشجية وتبحث عن حللها وحلاها ، وجمالها ، في خزائن الشريعة ، وتأهب كل مسلم ليحتفل بشباب الأمة العائد ، وجمالها المستيقظ وهو يستمع إلى دعاة صدق ، بعلم واسع وبديهة حاضرة ، وفكر نفاذ ، وبيان أخاذ واطلاع شامل ومنطق مستقيم ، وإيمان عميق ، قد أرقهم كثيرا ضعف المسلمين وضياعهم ، في أمم ضربت عليها العزلة ، وشعوب مؤمنة جاهلة مغلوبة علي أمرها ، ومستعمر داهية متمكن من الحكم سافرا أو مقنعا ، وسلطات غريبة عن شعوبها فكرا واعتقادا وعاطفة ، ونظام دستوري مستقي من الغرب ، بعيدا عن أعراف الناس وعقائدهم ، وإقصاء متعمد للدين الإسلامي عن واقع الحياة حتى لم يبق في مجتمعات المسلمين من الإسلام شيء من خلقه ، ولا في أيديهم شيء من تراثه ، وأصبح الدين رسما محيلا في نفوس الخاصة ، وأثرا مشوها ضئيلا في نفوس العامة ، لأن أخلاقهم فقدوها يوم فقدوا الحرية ، وأضاعوها يوم أضاعوا دولة الإسلام ، وأن تراثهم أصبح نهبا مقسما بين شذاذ الشعوب وذئبان الأمم ، فناداهم دعاة الصدق ، بصوت رحيم ولفظ ودود ، أفيقوا من النوم ، وخففوا عن القدر اللوم ، فإن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة، فمن عاند شريعة الله وناموسة قتل في نفسه الطموح ، وفي فكره التجدد ، وفي عمله الابتكار، ورضي أن يكون في الدنيا كسقط المتاع ، أو كالأثر في المتاحف يدل علي ملك باد ، وشعب انقرض ، وكان يسيرا عليه أن يدع دينه للمبشرين وتلامذتهم ، ووطنه للمستعمرين وأتباعهم ، ثم يقعد مقعد الخوالف يتحسر علي المجد المفقود ، ويتعلل بالأماني الكذاب .
ولقد عرف هؤلاء الدعاة طريقهم الذي لا طريق سواه ، ومنهجهم الذي لا منهج غيره في إيقاظ تلك الأمة الغافية ، وهو طريق محمد الذي كون الأمة المسلمة ، وخرج عمالقة الدنيا ، وقد رأوا أن تكوين الأهم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ يحتاج من الأم التي تحاول هذا ، أو من الفئة التي تدعو إليه علي الأقل إلي قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور :
إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل ، ومعرفة بالمبدأ ، وإيمان به وتقدير له ، يعصم من الخطأ فيه ، والانحراف عنه والمساومة عليه ، والخديعة بغيره ، فعلي هذه الأركان الأولي التي هي من خصوصية النفوس وحدها ، وعلي هذه القوة الروحية الهائلة تبنئ المبادئ ، وتترقي الأمم الناهضة ، وتتكون الشعوب الفتية ، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة الشريفة والعظيمة زمنا طويلا ، وكل شعب فقد هذه الصفات الأربع أو علي الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه ، فهو شعب عابث مسكين لا يصل إلي خير ، ولا يحقق أملا إلا الأوهام والأماني والظنون : "وإن الظن لا يغني من الحق شيئا " (النجم : 28).
هذا هو قانون الله تبارك وتعالي وسنته في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا :
" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (الرعد : 11 ) .
فكابد دعاة الصدق في الأمة جهلها بدينها وطغيان المادة والشهوات عليها ، وتسلط المستعمر الدخيل علي مقدراتها ، وردوا إلي الإسلام شموله ، وروعته ، وبلغوه ، عقيدة وعبادة ، وخلقا ومادة ، وثقافة وقانونا ، وسماحة وقوة ، ودعوا إليه نظاما كاملا يفرض نفسه علي كل مظاهر الحياة ، ويعظم أمر الدنيا والآخرة ، ونادوا إليه منهجا عمليا وروحيا معا .
ولكن هذا أفزع أعداء الإسلام وأقض مضاجعهم ، لأنهم رأوا تباشير الفجر الصادق، وأنوار الرسالة الغامرة ، تنادي الشتات الحائر ، وتبعث الفتات الخامل ، وتكون الأمة المرتقبة والقوة التي طال انتظارها ، وهذا أمر قد يكون مفهوما لسن الأعداء ، ومرتقبا من أهل الباطل ، ومن شايعهم وسار في طريقهم لعداوتهم للإسلام.
ولكن غير المفهوم ، وغير المصدق ، أن ينبري بعض المتعالمين والمتحذلقين ، إلي لمز وهمز دعاة الإسلام وأصحاب اليقظة ، الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله ، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، وكان الأولي لهؤلاء ، أن يزيلوا عن أنفسهم سحب الجهالة ، وكوابيس الخمول ، وأوهام الغرور ، ونزغات الشياطين ، وكم نصحوا فلم يسمعوا ، وعلموا فلم يعقلوا ، ووجهوا فلم ينصاعوا ، ويأبون إلا أن يلجوا في غرورهم ، ويسدروا في شكوكهم ، ويظلوا في أوهامهم ، ينظرون إلى مجاهدي الإسلام بمناظيرهم السوداء ، وقلوبهم العمياء ، وبصائرهم الملتاثة ، ويتحدثون عنهم بلسان المتحرج المتشكك ، بل المجرح المشهر ونحن نقول لهؤلاء : لا تكونوا مطايا للمستعمرين ، ولا أظافر للضالين ، ولا عبيدا للمنافقين ، ولا خدما لعلماء السوء : " الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا" (البقرة : 174 ) .
"ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله " (القصص: 50) .
واتركوا – هدانا الله وإياكم – تلك الغفلة السادرة ، والخطوات اللاهية ، والانصياع الأعمى إلي كل ناعق ، فما هو من سبيل المؤمنين ، ولا طريق الفالحين ، وأقبلوا علي الله وعلي دعوته بقلب سليم .
وإذا كان من غير المفهوم أن يخوض بعض المتعالمين في رجال الدعوة ، وفي أعلام الحركة الإسلامية سيرا وراء أكاذيب اختلقوها ، وأوهام صوروها ، أو انقيادا وراء متعالمي السوء ابتغاء أحقاد ورثوها ، وأضغان أخفوها .
فمن الكوارث والدواهي أن يكون هذا بإيعاز من بعض المنتسبين إلي العلم ، وأن تكون تلك أخلاقهم وبضاعتهم ، وأن يكون ذلك جل أعمالهم وأساس منهجهم وشغلهم الشاغل ، وهذا يعطينا في ميزان الشريعة مؤشرا صارخا علي شيئين اثنين : الأول: أن هؤلاء لم ينتفعوا بعلمهم ، لأن العلم المعتبر هو الملجئ إلي العمل الصالح ، لأن العالم لابد وأن يكون محفوظا بعلمه من الافتراء والسوء وعمل الآثام ، والعلم وحده بدون العمل غير كاف ، وقد استدل العلماء علي ذلك بقوله تعالي في علماء بني إسرائيل :
" وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " (النمل : 14 ) ، " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون " (البقرة : 146 )، فثبت أن هؤلاء لم ينتفعوا بعلمهم ، وقد ثبتت لهم المعاصي والمخالفات الكبيرة مع العلم . الثاني :ذم هؤلاء العلماء واعتبار فسادهم وإثمهم أفدح وأكبر من آثام غيرهم ، وقد سماهم الشرع علماء السوء : وما جاء في ذمهم من الآثار كثير ومستفيض ، فمن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ".
وفي القران الكريم : "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" (البقرة : 44 ) . وقوله تعالي : " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولائك ما يأكلون في بطونهم إلا النار "(البقرة : 174 ).
هذا وقد علل الإمام الشاطبي فساد العلماء بأمور عدد منها ما يلي :
أولا : مجرد العناد ، فقد يخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي ، وعلي هذا قوله تعالي : "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " (النمل : 14 ) .
وقوله تعالي "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق " (البقرة : 109) .
وأشباه ذلك ، والغالب علي هذا الوجه أن لا يقع إلا لغلبة هوي من حب دنيا أو جاه أو غير ذلك ، بحيث يكون وصف الهوي قد غمر القلب حتى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا
ثانيا : الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر؟ فقد يصير العالم بدخوله الغفلة غير عالم وعليه يدل –عند جماعة – قوله تعالي : "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " (النساء : 17) .
وقوله تعالي :" إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون "(الأعراف : 201) . ومثل هذا الوجه لا يعترض علي أصل المسألة ، كما لا يعترض نحوه علي سائر الأوصاف الجبلية ، فقد لا تبصر العين ، ولا تسمع الأذن ، لغلبة فكر أو غفلة أو غيرهما ؟ فترتفع في الحال منفعة العين والأذن حين تصاب ، ومع ذلك لا يقال إنه غير مجبول علي السمع والإبصار، فما نحن فيه كذلك .
ثالثا : كونه ليس من أهل هذه المرتبة ، فلم يصر العلم له وصفا ، أو كالوصف ، مع عده من أهلها . وهذا يرجع إلي غلط في اعتقاد العالم في نفسه ، أو اعتقاد غيره فيه ويدل عليه قوله تعالي : "ومن أظلم ممن اتبع هواه بغير هدى من الله "(القصص : 55) . وفي الحديث : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس . . . إلي أن قال : اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"، فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظن الجهل علما ، فليسوا من الراسخين في العلم ، ولا ممن صار لهم كالوصف ؟ وعند ذلك لا حظ لهم في العلم ، فلا اعتراض بهم .
فأما من خلا عن هذه الأوجه الثلاثة فهو الداخل تحت حفظ العلم –حسبما نصته الأدلة وفي هذا المعني من كلام السلف كثير . وقد روي عن صلى الله عليه وسلمأنه قال : "إن لكل شئ إقبالا وإدباراً ، و إن لهذا الدين إقبالا و ادبارا ؟ وإن من إقبال هذا الدين ما بعثني الله به ، حتى إن القبيلة لتتفقه كلها بأسرها ، أو قال آخرها ، حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان ، فهما مقموعان ذليلان إن تكلما أو نطقا قمعا وقهرا ، واضطهدا " . . الحديث
وفي الحديث : "سيأتي علي أمتي زمان يكثر القراء ، ويقل الفقهاء ، ويقبض العلم ، ويكثر الهرج إلي أن قال : "ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم ، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المنافق المشرك بمثل ما يقول ".
وعن علي : ( يا حملة العلم اعملوا به ، فإن العالم من علم ثم عمل ، ووافق عمله علمه ، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم ، تخالف سريرتهم علانيتهم ، ويخالف علمهم عملهم ، يقعدون حلقا يباهي بعضهم بعضا حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه .أولئك لا تصد أعمالهم تلك إلى الله عز وجل ) .
وعن ابن مسعود : ( كونوا للعلم رعاة ، ولا تكونوا له رواة ، فإنه قد يرعوي ولا يروي ، وقد يروي ولا يرعوي ) .
وعن أبي الدرداء : ( لا تكون تقيا حتى تكون عالما ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا) .
وعن الحسن : ( العالم الذي وافق علمه عمله ومن خالف علمه عمله فذلك راوية حديث ، سمع شيئا فقاله ) . وقال الثوري: ( العلماء إذا علموا عملوا فإذا عملوا شغلوا فإذا شغلوا فقدوا ، فإذا فقدوا طلبوا ، فإذا طلبوا هربوا ) .
وعن الحسن قال : ( الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل) . وعنه في قول الله تعالى:( وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ) قال : (علمتم فعلمتم ولم تعملوا، فوالله ما ذلكم بعلم ) .
وقال الثوري : (العلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه ، وإلا ارتحل ) . وهذا تفسير معنى كون العلم هو الذي يلجى إلى العمل .
وقال الشعبي : (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به) ومثله عن وكيع بن الجراح.
وعن ابن مسعود : ( ليس العلم عن كثرة الحديث ، إنما العلم خشية الله ) .
والآثار في هذا النحو كثيرة وأن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون ، وإذا لم يكونوا كذلك ، فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم ، وإنما هم رواة له ، ومن غلب عليهم هواهم غطى على قلوبهم والعياذ بالله الهوى .
وأظننا بعد الحديث الذي سمعناه عن الشاطبي - رضي الله عنه - والمؤيد بالآيات والأحاديث وأقوال العلماء ، لا يبقى لنا بيان في حال هؤلاء الذين ارتضوا هذا الطريق ، طريق غمط الحق ، وإشاعة قالة السوء والافتراء ، والتلصص العلمي والعقدي ، ودفع بعض الصغار من هواة الظهور ، واغبي الكسب الحرام ليكتبوا لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله بغير علم ، ويلوكوا في أعراض دعاة وعلماء وهبوا أنفسهم لدعوته ونصرة دينه ، وتحملوا محتسبين عند الله ما أصابهم في أنفسهم وأموالهم وأولادهم من ضر .
وقد عرف واستفيض عن إنشاء مجالس وزمر من هؤلاء الصغار للافتراء وإشاعة الإفك حول العاملين من الدعاة المخلصين الذين وثق الناس فيهم وشهدوا لهم ، وساروا معهم ليكونوا للإسلام جندا ، وللحق سندا ، وقد ساعد هؤلاء الصغار ثلة من علماء السلطة ، الذين ارتضوا أن يعيشوا عبدا للمال والمنصب ، وباعوا ضمائرهم وأنفسهم ودينهم ، بدنيا غيرهم ، واشتروا به ثمنا قليلا فلبئس ما يشترون : " وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم " (لقمان : 7) .
وقد أنفق وينفق على إخراج هذا الضلال كثيرا من الأموال ، وظهر هذا الكذب في كتب بل ومجلدات أنيقة الطباعة فاخرة الصفحات ، أنفق عليها ببذخ ، ودفع لها بسخاء ، ومن الملاحظ أن هذه الكتب والكتيبات لم تظهر إلا في السنوات العشر الأخيرة كما هو واضح من تاريخ طباعتها ، ومعلوم أن جماعة الإخوان المسلمين موجودة في الساحة منذ سبعين عاما فأين كان هؤلاء؟ ثم من الملاحظ أيضا أن أسماء مؤلفي هذه الكتيبات نكرات في ساحة العلم والعلماء دلالة على أنه ليس هناك عالم ثبت يستطيع أن يقف من الإخوان موقفا يثبت فيه حجة علمية ، وكنا نظن أن هذه لوثة ستمر ، أو نزوة ستنتهي ، أو نفثة حقد ستزول ، ولكنها استمرت وتتابعت وازداد سعارها ، مما دل على أنه مخطط مرسوم ، وهدف يراد الوصول إليه ، ونية مبيتة لإزاحة الحق ، أو إيذائه ورجاله ، وكنا نغض الطرف عن هذا كله لأنه متهافت رغم زخمه الذي يكذب بعضه بعضا، ولأنه قد ورد في كتاب ، ثم تتابع عليه جميع الكتب التي تحمل هذا الغثاء ، لأن أصحابها لا يجدون مزيدا من الإفك والكذب ، ولأجل هذا دعانا بعض الغيورين والمخلصين للرد على ذلك الهراء ، وقد قيل : إن كثرة الكذب تجلب التصديق ، وقد سار هؤلاء على المثل القائل : اكذب اكذب حتى يصدقك الناس ، واكذب اكذب حتى تصدق كذبك ، ونظنهم بلغوا تلك المرحلة الأخيرة ، ولكنهم لم يبلغوا الأولى .
ولقد كان من العجب العجاب ، ومن غرائب الأيام ، أن هؤلاء الذين يدعون الغيرة على الإسلام لم يفعلوا ذلك ضد أعداء الإسلام وهم كثير ولقد بلغت مؤلفات الأعداء ضد الإسلام أكثر من 36 ألف كتاب ، ولم يواجهوا يوما الزنادقة والفسقة وأصحاب المذاهب الهدامة داخل الأمة ، أو الجماعات المنحرفة عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم يصبون جام فريتهم وتهافتهم على جماعة الإخوان المسلمين وحدها ، ويجعلون انغلاقهم وضحالتهم العلمية هي الحكم على تلك الجماعة التي أيقظت المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، ووجهتهم إلى الإسلام من جديد ، حتى شعر العالم أجمع أن المسلمين قادمون ، وأن نور الله آت، ولا سبيل لإطفائه : " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولؤ كره الكافرون" (التوبة 32) .
واليوم وفي هذه الصفحات القلائل : سنتطرق بعض من هذه الافتراءات والأكاذيب ، ونسلط عليها أشعة الحق ، حتى يزداد الحق ضياء ، وينخسف الباطل ، ويندحر الضلال ، والله أسأل أن يهدي النفوس الشاردة، ويرد العقول الضالة ، ويرشد الناس إلى الصراط المستقيم . . آمين.
أسباب الهجوم على الإخوان المسلمين
موضوعنا الذي نحب أن نتطرق إليه في هذه الصحائف يظهر إشكالية طالما عانت منها الأمة الإسلامية في عصور ضعفها ، وانفصام شخصيتها وذاتيتها ، وهو ظهور طبقات من السطحيين في ميادينها المختلفة ، وبخاصة في الميدان الإسلامي الذي بدأ بجهود المخلصين من دعاته يأخذ طريقه المستقيم إلى نهضة الأمة ورفعتها ، وبالبحث وجد أن هذه الإشكالية تتمحور -كما أشرنا - في التشكيك في جهود المخلصين العاملين في الحقل الإسلامي واتهامهم بأقذع التهم التي لا يرضى مطلقوها بأقل من الكفر في كثير من الأحيان ، وبالتالي تحريض الناس عليهم ، وطلب نبذهم ومحاصرتهم من الناس ، ومن الحكومات ، بل ومحاكمتهم ومعاملتهم كالأعداء ، بل هم أشد ، ولقد نال جماعة الإخوان المسلمين من هذا الزيف الكثير ، وكال مروجوه لهذه الجماعة ولمرشدها الشهيد حسن البنا ، من هذا الهراء بالكيل الأوفي.
وفي رأينا أن هذه الحملة المشبوهة الظالمة قد هيأت لها ، وتسببت فيها أمور يجب أن نلقي الضوء عليها في عجالة منها:
1- السطحية العقلية والعلمية : فسلامة العقل تقدر المواقف وتزن الأعمال وتعرف المصلحة ، وتدرك الواقع ، وتعرف مرامي الأعداء، وتجعل الإنسان لأمته لا عليها ، والرسوخ العلمي يجعل الإنسان صائبا في حكمه على الأشياء ، موضحا لها،على دراية بالأدلة ومراميها، وبالأسانيد وصحتها، وبالشريعة وحكمتها ، وبالعلل والمناط والمصالح ، ولا يكون كحاطب ليل يهذي بما لا يدري ، ويهرف بما لا يعلم ، فيؤدي ذلك إلى أوخم العواقب ، وأكبر النكبات .
2- مرض التدين : فقد يصبح التدين مرضا ، وغذاء هذا المرض ما قدمنا ، سطحية عقلية وعلمية ، يزاد عليه غرور وخلل نفسي ، يتبعه تهور واندفاع أشبه باللوثات العقلية والفكرية ، واسهال في الألفاظ والأحكام ، واختلال في وظائف البصر والبصيرة والاتزان الحياتي ، كل ذلك يدفع صاحبه إلى محاولة إثبات الذات ، وتعويض النقص والتفلت من الإحباط باستعمال أساليب دينية مدخولة ، وأعمال شرعية مرفوضة ، فينتج عن ذلك خليط عجيب من المضحكات المبكيات ، أشبه بأصوات الأسطوانات المشروخة ، أو بما يتمثل به الناس : (سمك لبن تمر هندي ) .
3- الأيدي الخفية لأعداء الإسلام : التي تستغل هؤلاء الناس ، وتتخذ من عقولهم وخللهم النفسي مطايا لشق الصف ، وتفريق الكلمة ، وتلويث السمعة ، وصرف الناس عن الحق ، واتباع غير سبيل المؤمنين ، ثم تحاول أن تصنع منهم هالات لتضرب عدة عصافير بحجر واحد ، بحيث يؤدي ذلك في النهاية إلى تفتيت الجهود، واتباع إسلام غريب لا يعرفه الإسلام ولا ينتمي إليه ، ليسهل ضربه أو توجيهه إلى رغائبهم وتفريغه من قوته وفاعليته لتظل الأمة تدور في حلقة مفرغه ، تسلبها هويتها ، وتنسيها رسالتها وحضارتها وتراثها ونهضتها حتى تظل خانعة ضائعة مستذلة حتى لشذاذ الآفاق الذين يستولون على أرضها ومقدراتها .
4- الحسد البغيض : قد يدفع الحسد إلى قتل الإبداع في أية صورة من الصور، وقد رأينا ما فعل الحسد بيوسف وأخوته، والحسد في العلم باب قديم ، ومرض مزمن عند بعض المنتسبين للعلم ، وحسد هذه الأيام عند من يظنون أن هناك مغنما لا مغرما ، ونفعا لا ضرا، ويجهلون طريق الدعوات الشاق ، ودروبها الوعرة ، وجهادها المضني ، يزيد الكرب استعارا والعنت اشتعالا، والطين بلة، وتأتي افتراءاتهم لتعمق الجراح في قلب الداعية ، وتقرب القنوط ، وتدني اليأس من نفس المكافح والمجاهد ، وهذا في الواقع جريمة في حق الدعاة لا تغتفر .
5- إيحاءات بعض الأنظمة : التي تسللت إلى المناصب بغير جدارة وتوارت خلف حراب أنظمتها القمعية ، بمباركة قوى معينة لا تريد للإسلام و لا لرجاله سيادة أو ريادة أو تمكينا أو اتصالا بالجماهير المسلمة ، وقد وجدت نفسها في موقف صعب عالميا ومحليا ، فليس عندها قدرات أو برامج أو حتى استعدادات ، لرفع المعاناة عن الشعوب والتقدم بها علميا واقتصاديا واجتماعيا ، فقصدت إلى إلهاء الأمة ، وضرب بعضها ببعض ، والتفتت إلى دعاة الإصلاح خاصة من الإسلاميين الذين أثبتوا إبداعات كثيرة في مجالات مختلفة ، وقدموا إلى الشعوب المطحونة الأمل في النهوض والعزم في الكفاح والنهضة في العلم والاستقامة في الخلق ولقد كان من أسلحة تلك الأنظمة ثلتان :
الأولى: من العلمانيين الضالين المرتزقة الذين يتدافعون على أبوابهم وقد سخروهم صباح مساء للنيل من الإسلاميين والإسلام ذاته والتحريض عليهما .
الثانية : من بلهاء المتدينين المنغلقين فكريا وعقليا، يستشهدون بهم على الإسلام المراد اتباعه، والذي لا يأمر بمعروف ، ولا ينكر منكرا ، وليس له دخل بحياة ولا دنيا ، ويدع ما لقيصر وما لله لقيصر، ويوحون إليهم بين الحين والحين بمهاجمة دعاة الإسلام الذي يدعون إلى الكتاب والسنة وإلى الإسلام الذي بعثه الله رحمة للعالمين ، وهداية للضالين ، وحكما للمؤمنين ، وحياة وعزة للمتقين .
هذه بعض الأسباب في نظرنا ، هي الدافع لتلك الحملة التي بدأت في هذه الأيام تأخذ شكل السعار والهوس النفسي ، ولقد غرهم وشجعهم على استمراء هذا الافتراء الأرعن ، صبر العقلاء من الدعاة ، وحكمة المربين من الهداة آملين أن يفيء المخطئ أو يقلع المذنب ، أو يبصر الأعمى ويفهم الملتاث ، وطال الصبر ووجب البيان ، والرد على تلك الشبه ، وتلك الأكاذيب بالمنطق والحقائق الدامغة ، عسى الله أن يهدي الجميع ، وأن يرد الضال إلى صراطه المستقيم ، إنه نعم المولى ونعم النصير .
الشبهة الأولى: التصوف
وكانت أول المفتريات ، اتهام الشيخ البنا رضوان الله عليه بالصوفية ، كلمة سمعوها كالببغاوات فرددوها بغير معنى ولا معرفة ، ولا علم ولا فقه ، وإذا سألت أحدهم ما هو التصوف ، ومن هم المتصوفة ، أجابك بغير تردد فئة ضالة مضلة كافرة ، هكذا وفي جملة واحدة اختصر القضية ، وأتى بالحكم بدون حيثيات ولا بينات ولا شهود ، ثم انبرى ينسبها إلى كل من يريد ، بسبب وبدون سبب ، اعتمادا على ورود حتى اسمها مجردا على لسان من يتهمون .
قول الإمام الشاطبى في التصوف
ويحسن بنا ونحن نتناول هذه الفرية أن نلقي الضوء على هذا الاسم ، وعلى المنتسبين إليه من واقع أقوال العلماء الراسخين في العلم ، مثل الإمام ابن تيمية ، والإمام الشاطبي - رضي الله عنهما - صاحب كتاب ( الاعتصام ) ذلك الكتاب الذي يعتبر المرجع المبرز في بيان البدع والمبتدعة في الدين ، فقال - رضي الله عنه - في الاعتصام - الجزء الأول ، ص 89 : 91 طبعة المعرفة : ( " الوجه الرابع " من النقل ما جاء في ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس . وإنما خصصنا هذا الموضوع بالذكر، وإن كان فيما تقدم من النقل كفاية لأن كثيرا من الجهال يعتقدون فيهم أنهم متساهلون في الاتباع ، وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه ، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به ، فأول شئ بنوا عليه طريقتهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها حتى زعم مذكرهم ، وحافظ مأخذهم ، وعمود نحلتهم ، ( أبو القاسم القشيري ) أنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفرادا به عن أهل البدع ؟ فذكر أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم " لم يتسم أفاضلهم في عصرهم باسم علم سوى الصحبة ، إذ لا فضيلة فوقها ، ثم سمي من يليهم التابعين ، ورأوا هذا الاسم أشرف الأسماء ، ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين . ثم اختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص الناس ممن له شدة عناية في الدين : الزهاد العباد .
قال : ثم ظهرت البدع ، وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله ، الحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف ، هذا معنى كلامه ، فقد عد هذا اللقب مخصوصا باتباع السنة ومباينة البدعة ، وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبرة به من المدعين للعلم .
وفي غرضي - إن فسح الله في المدة وأعانني بفضله ويسر لي الأسباب -أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى ، وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح ، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ، ولا فهم لمقاصد أهلها ، وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به ؟ حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم.
وأعظم من ذلك يتساهلون في اتباع السنة ، ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا، وطريقة القوم بريئة من هذا الخباط – بحمد الله –
. فقد قال الفضيل بن عياض : من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة . وقيل لإبراهيم بن أدهم : إن الله يقول في كتابه في" ادعوني أستجب لكم " وتحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا فقال : (ماتت قلوبكم بخمسة أشياء :
أولها : عرفتم الله فلم تؤدوا حقه .
والثانى ، قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به .
والثالث : ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وسلموتركتم سنته .
والرابع : ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه .
والخامس : قلتم نحب الجنة ولم تعملوا لها .
وقال ذو النون المصري : (من علامة حب الله متابعة حبيب الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وأفعاله وأمره وسننه ) . وقال : (إنما دخل الفساد على الخلق في ستة أشياء : الأول ، ضعف النية بعمل الاخرة .
والثانى : صارت أبدانهم مهيئة لشهواتهم .
والثالث : دخل عليهم طول الأمل مع قصر الأجل .
والرابع : آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله .
والخامس : اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
والسادس : جعلوا زلات السلف حجة لأنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم ) .
وقال لرجل أوصاه : (ليكن اثر الأشياء عندك وأحبها إليك أحكام ما افترض الله عليك ، واتقاء ما نهاك عنه ، فإن ما تعبدك الله به خير لك مما تختاره لنفسك من أعمال البر التي تجب عليك ، وأنت ترى أنها أبلغ لك فيما تريد ، وكذلك يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما أشبه ذلك ، وإنما للعبد أن يراعي أبدا ما وجب عليه من فرض يحكمه على تمام حدوده ، وينظر إلى ما نهئ عنه فيتقيه على أحكام ما ينبغي ، فإن الذي قطع العباد عن ربهم ، وقطعهم عن أن يذوقوا حلاوة الإيمان وأن يبلغوا حقائق الصدق ، وحجب قلوبهم عن النظر إلى الآخرة ؟ تهاونهم بأحكام ما فرض عليهم في قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم وبطونهم وفروجهم ، ولو وقفوا على هذه الأشياء وأحكموها لأدخل عليهم البر إدخالا تعجز أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما رزقهم الله من حسن معونته ، وفوائد كرامته ، ولكن أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب ، وتهاونوا بالقليل مما هم فيه من العيوب ، فحرموا ثواب لذة الصادقين في العاجل ) .
وقال بشر الحافي : ( رأيت النبيصلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي : " يا بشر ! تدري لم رفعك الله بين أقرانك ؟ " قلت : لا يا رسول الله ، قال : " لاتباعك سنتي ، وحرمتك للصالحين ، ونصيحتك لإخوانك ، ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي هو الذي بلغك منازل الأبرار ").
وقال يحيى بن معاذ الرازي : (اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثه أصول ، فلكل واحد منها ضد، فمن سقط عنه وقع في ضده :
ا - التوحيد وضده الشرك .
2-والسنة وضدها البدعة .
3 - والطاعة وضدها المعصية) .
وقال إبراهيم القمار : (علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم) .
وقال سليمان الداراني : (ربما تقع في قلبي المسألة من مسائل القوم أياما ، فلا أقبل منها شيئا إلا بشاهدين عدلين : الكتاب والسنة . ) .
وقال أبو القاسم الجنيد : (مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة) .
وقال . (من لم يحفظ القرآن ، ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة)
وقال إبراهيم الخواص : (ليس العلم بكثرة الرواية ، وإنما العالم من اتبع الكتاب ، واقتدى بالسنة) . وسئل عن العافية ، فقال : (العافية في أربعة :
1- دين بلا بدعة .
2- عمل بلا آفة .
3- قلب بلا شغل .
4- نفس بلا شهوة .
وقال: (الصبر : الثبات على أحكام الكتاب والسنة) .
هذا قليل من كثير نقله الإمام أبو إسحاق الشاطبي في عشر صفحات من سفره العظيم ، وقال -رحمه الله -: وكلامهم في هذا الباب يطول ، وقد نقلنا منه جملة من أحاديث مشايخهم تربو على اثنين وأربعين شيخا، جميعهم يرون الابتداع ضلالا ، ويأمر بالاستمساك بالكتاب والسنة ، وانما الذي خرج عن هذا الأصل جماعة ضالة من المتأخرين انتسبوا إلى التصوف زورا وحالهم معروف لا يخفي على أحد ( انظر في ذلك "الاعتصام " للشاطبي ص 89 - 98 ) .
التصوف في رأي ابن تيمية
يتكلم الإمام ابن تيمية على التصوف كلام العلماء الأثبات الذين يضعون الأمور في نصابها ، ولا يزيفون التاريخ ، أو يقعون في أعراض الناس ويتهمونهم بغير حق دون خشية من الله ، ولا احترام للعلم ، أو مراعاة للتعاليم الإسلامية .
وأول ما يتكلم ابن تيمية -رحمه الله -تكلم عن اسم التصوف ، فيقول : عرف أن منشأ التصوف كان في البصرة ، وأنه كان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد مما له فيه اجتهاد ، كما كان في الكوفة من يسلك طريق الفقه والعلم وله فيه اجتهاد ، وهؤلاء الصوفية نسبوا إلى لبس الصوف ، فقيل في أحدهم : "صوفي " وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف ، ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به ، ولكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال.
ثم يقول رحمه الله : ( وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد - وعبد الواحد من أصحاب الحسن - وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ، ما لم يكن في سائر أهل الأمصار ، ولهذا كان يقال : فقه كوفي ، وعبادة بصرية).
عبادة الصوفية وما يتبعها من مواجد :
ثم يتطرق الإمام ابن تيمية إلى أصول هؤلاء في مواجدهم وكثرة خوفهم من الله ، ويجين رأيه ورأي العلماء في ذلك :
فأولا : يورد الأحوال التي كانت تقع منهم ، ثم يبين المنكرين لها وحججهم ، ثم يبين المجيزين لها وهم جمهور العلماء ، وهو موافق لهم ، ثم يبين أسباب ذلك وأدلته ويرد على المنكرين ، فيقول في بيان الأحوال : ويحكي عن عباد أهل البصرة ، مثل حكاية من مات أو غشي عليه في سماع القرآن ، ونحوه ، كقصة زرارة بن أوفي قاضي البصرة ، فإنه قرأ في صلاة الفجر : " فإذا نقر في الناقور" يخر ميتا ، وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المري فمات ، وكذلك غيره ممن روي أنهم ماتوا باستماع قراءته ، وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن ، ولم يكن في الصحابة من هذا حاله . من أنكر ذلك "
ثم يقول -رحمه الله -: وممن أنكر ذلك أسماء بنت أبي بكر، وعبد الله بن الزبير ، ومحمد بن سيرين ، وقالوا : إنه تكلف وتصنع ، ومنهم من قال : إن ذلك مخالف لما كان عليه الصحابة.
من أجاز ذلك :
ثم يقول ابن تيمية : ( والذي عليه جمهور العلماء ، أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه ، وان كان حال الثابت أكمل منه ، ولهذا لما سئل الإمام أحمد- رضوان الله عليه - عن هذا ، قال : قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ، ولو قدر أحد أن يدفع عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد، فما رأيت أعقل منه ، ونحو هذا ، وقد نقل عن الإمام الشافعي أنه أصابه ذلك ، وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة ، وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه . لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن ، وجل القلوب ، ودموع العين ، واقشعرار الجلود ، كما قال تعالى:"إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون"(الأنفال 20) .
وقال تعالى: "إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكياً " (مريم : 58) .
ثم يقول : وحال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه ، فهذا هو الذي يصعق صعق الموت ، أو صعق غشي ، فإن ذلك إنما يكون لقوة الورود ، وضعف القلب عن حمله ، وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن يرو يحب في أمور الدنيا بل قد يقتله ذلك أو يذهب بعقله .
فإذا كان ذلك منه بدون تفريط ، لم يكن فيه ذنب فيما أصابه ، ولا وجه للريبة. وكان صاحبها-إذا كان العمل مشروعا- محمودا على ما فعل من الخير ، وما ناله من الإيمان ، معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره ، وهو أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقصر إيمانه وقسوة قلبه ونحو ذلك . ثم يقول رحمه الله :
ولكن من لم يزل عقله مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه ، فهو أفضل منهم ، وهذا حال الصحابة رضي الله عنهم ، وحال نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه لما أسري به إلى السماء ، وأراه الله ما أراه ، وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله ، فحاله أفضل من حال موسى عليه السلام ، الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل ، وحال موسى حال جليلة علية فاضلة ، لكن حال محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلا وأفضل.
مرتبة هؤلاء المتصوفة، ثم يقول رحمه الله : التصوف عندهم له حقائق وأحوال معروفة ، قد تكلموا في حدوده وسيرته وأخلاقه كقول بعضهم : " الصوفي " من صفا من الكدر ، وامتلأ من الفكر ، واستوى عنده الذهب والحجر ، " التصوف " : كتمان المعاني ، وترك الدعاوى ، وأشباه ذلك ، وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصديق ، وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون ، كما قال الله تعالى : " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " (النساء : 69) .
لكنه في الحقيقة نوع من الصديقين ، فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه . . فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين : أنهم صديقون ، فهو كما يقال : عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة أنهم صديقون أيضا ، كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده ، وقد يكون من أجل الصديقين بحسب زمانهم ، فهو من أكمل صديقي زمانهم ، والصديق في العصر الأول أكمل منهم والصديقون درجات.
اختلاف الناس فيهم :
وبعد هذا تطرق الإمام ابن تيمية إلى طرق التصوف واختلاف الناس فيهم ، فأبان ذلك بمنطق العالم الباحث الذي يعطي كل شئ حقه . فقال رحمه الله : تنازع الناس في طريقهم : فطائفة ذمت " التصوف والصوفية " وقالوا : مبتدعون خارجون عن السنة ، وطائفة غلت فيهم ، وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء ، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم .
رأيه فيهم :
والصواب : أنهم مجتهدون في طاعة الله ، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ، فيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين ، وفي كل صنف من قد اجتهد فيخطىء، وفيهم من يذنب فيتوب ، أو لا يتوب ، ولكن هناك طائفة انتسبت إليهم من أهل البدع والزندقة ، وعند المحققين من أهل التصوف أنها ليست منهم مثل الحلاج ، فإن أكثر مشايخ الطرق أنكروه وأخرجوه من الطريق . ثم إن الصوفية بعد ذلك كانوا ثلاثة أصناف ، صوفية الحقائق ، وصوفية الأرزاق ، وصوفية الرسم .
فأما صوفية الحقائق : فهم الذين وصفناهم بالصديقين قبل ذلك .
وأما صوفية الأرزاق ، فهم الذين وقفت عليهم الوقوف ، ويشترط فيهم ثلاثة شروط : أحدها : العدالة الشرعية ، بحيث يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم .
الثاني : التأدب بآداب الطريق ، وهي الآداب الشرعية ولا يلتفتون إلى البدع .
الثالث : لا يتمسك أحدهم بفضول الدنيا، فمن تمسك بجمع المال ، أو تخلق بغير الأخلاق المحمودة ، ولم يتأدب بالآداب الشرعية فليس منهم .
وأما صوفية الرسم: فهم المقصورون على النسبة ، فمنهم اللباس والآداب الوضعية ونحو ذلك ، فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ، فيظن الجاهل من أقوالهم وأعمالهم أنهم من أهل التصوف ، وليسوا منهم.
هذه أقوال ابن تيمية - رحمه الله - في التصوف والصوفية ، وقد سبقه رأي الشاطبي في ذلك واراء أسماء ، وأما الجهال فلهم رأي آخر لا يلتفت إليه لأنه مبني على غير علم ، وعلى نظرات في أهل الزندقة والأدعياء وليسوا منهم .
التهمة الموجهة إلى الشيخ البنا من المتحاملين عليه
وقد اتهم المتحاملون على الشيخ البنا رضوان الله عليه ، بالتصوف ، وأخذوا هذا من كلامه وليس من أفعاله ، فقد كان الرجل بشهادة الجميع ناصع السيرة ، مجاهدا في سبيل الله ، لا يفتر في ليل ولا نهار، داعية لا يشق له غبار مجدد القرن بغير منازع .
ونحن بدورنا نستعرض ما قاله الإمام البنا مما تذرعوا به ، ونذكر من آرائه ما يرد هذا الاتهام ، ثم ندع للقارئ الحكم على هؤلاء بعد ذلك .
الآن تعالوا بنا نستعرض ما قاله الإمام البنا عن الطريقة الحصافية ، وعن مشاركته فيها وهو في الثانية عشرة من عمره ، وقد أعجب باستقامة جماعة الحصافية فيقول : (وأخذت أواظب على الوظيفة الرزوقية صباحا ومساء ، وزادني بها إعجابا أن الوالد قد وضع عليها تعليقا لطيفا جاء فيه بأدلة صيغها جميعا تقريبا من الأحاديث الصحيحة وسمى الرسالة " تنوير الأفئدة الزكية بأدلة أذكار الرزوقية" ، ولم تكن هذه الوظيفة أكثر من آيات من الكتاب الكريم ، وأحاديث من أدعية الصباح والمساء التي وردت في كتب السنة تقريبا ، ليس فيها من الألفاظ الأعجمية أو التراكيب الفلسفية أو العبارات التي هي إلى الشطحات أقرب منها إلى الدعوات.
ثم يتحدث عن مؤسس هذه الطريقة وعلمه ومنهجه فيقول : كان السيد حسنين - رحمه الله - عالما أزهريا تفقه على مذهب الإمام الشافعي ، ودرس علوم الدين دراسة واسعة ، وامتلأ منها ، وتضلع فيها ، ثم تلقى بعد ذلك الطريق على كثير من شيوخ عصره ، وجد واجتهد في العبادة والذكر والمداومة على الطاعات ، حتى أنه حج أكثر من مرة ، وكان يعتمر مع كل حجة أكثر من عمرة ، وكان رفقاؤه وأصحابه يقولون ما رأينا أقوى على طاعة الله وأداء الفرائض والمحافظة على السنن والنوافل منه –رحمه الله –حتى في آخر أيام حياته ، وقد كبرت سنه ونيف عن الستين ، ثم أخذ يدعو إلى الله بأسلوب أهل الطريق ، ولكن في استنارة وإشراق وعلى قواعد سليمة قويمة . ثم يصف دعوة مؤسسها بقوله : (فكانت دعوته مؤسسة على العلم والتعليم ، والفقه والعبادة والطاعة والذكر ، ومحاربة البدع والخرافات الفاشية بين أبناء هذه الطرق ، والانتصار للكتاب والسنة -على أية حال - والتحرز من التأويلات الفاسدة والشطحات الضارة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وبذل النصيحة -على كل حال -حتى إنه غير كثيرا من الأوضاع التي اعتقد أنها تخالف الكتاب والسنة ، مما كان عليه مشايخه أنفسهم ).
ثم يبين سبب إعجابه بمؤسس هذه الدعوة فيقول:
(وكان أعظم ما أخذ بمجامع قلبي ، وملك علي لبي ، من سيرته -رضي الله عنه - شدته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنه كان لا يخشى في ذلك لومة لائم ، ولا يدع الأمر والنهي مهما كان في حضرة كبير أو عظيم . ومن نماذج ذلك أنه زار رياض باشا حين كان رئيس الوزارة ، فدخل أحد العلماء وسلم على الباشا ، وانحنى حتى قارب الركوع ، فقام الشيخ مغضبا وضربه على خديه بمجمع يده ونهره قائلا: استقم يا رجل فإن الركوع لا يجوز إلا لله ، فلا تذلوا الدين والعلم فيذلكم الله .
ولم يستطع العالم ولا الباشا أن يؤاخذه بشى .
ودخل أحد الباشوات من أصدقاء رياض باشا ، وفي إصبعه خاتم من الذهب ، وفي يده عصا مقبضها من الذهب كذلك ، فالتفت إليه الشيخ وقال : يا هذا إن استعمال الذهب في الحلية حرام على الرجال ، حل للنساء ، فأعط هذين لبعض نسائك ، ولا تخالف عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأراد الرجل أن يعترض ، فدخل رياض باشا وعرف بعضهما ببعض والشيخ مصر على أنه لابد من خلع المقبض والخاتم معا حتى يزول المنكر . ودخل مرة على الخديوي توفيق باشا مع العلماء في بعض المقابلات ، فسلم على الخديوي بصوت مسموع فرد الخديوي بالإشارة بيده ، فقال له في عزم وتصميم : "رد السلام يكون بمثله أو بأحسن منه ، فقل وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، والرد بالإشارة وحدها لا يجوز " . فلم يسع الخديوي إلا أن يرد عليه باللفظ ويثني على موقفه وتمسكه بدينه . وزار- مرة - بعض مريديه من الموظفين في بعض دوائر المساحة فرأى على مكتبه بعض تماثيل من الجبس فسأله : ما هذا يا فلان ؟ فقال : هذه تماثيل نحتاج إليها في عملنا ، فقال : إن ذلك حرام ، وأمسك بالتمثال وكسر عنقه ، ودخل المفتش الإنجليزي في هذه اللحظة ورأى هذا المنظر فناقش الشيخ فيما صنع ، فرد عليه ردا جميلا ، وأفهمه أن الإسلام إنما جاء ليقيم التوحيد الخالص ، وليقضي على كل مظهر من مظاهر الوثنية في أية صورة من صورها ، ولهذا حرم التماثيل حتى لا يكون بقاؤها ذريعة لعبادتها ، وأفاض في هذا المعنى بما طرب له المفتش الذي كان يظن أن في الإسلام لوثة من الوثنية ، وسلم للشيخ وأثنى عليه . وزار مسجد السيد الحسين – رضي الله عنه – مع بعض مريديه ، ووقف على القبر يدعو الدعاء المأثور : "السلام على أهل الديار المؤمنين " ، فقال له بعض المريدين : (يا سيدنا الشيخ سل سجدنا الحسين يرضى عني ) فالتفت إليه مغضبا ، وقال : (يرضى عنا وعنك وعنه : الله ) ، وبعد أن أتم زيارته شرح لإخوانه أحكام الزيارة ، وأوضح لهم الفرق بين البدعية والشرعية منها . وحدثني الوالد أنه اجتمع بالشيخ –رحمه الله – في منزل وجيه من وجهاء المحمودية هو حسن بك أبو سجد حسن –رحمه الله – مع بعض الإخوان ، فدخلت الخادمة ، وهي فتاة كبيرة ، تقدم له القهوة وهي مكشوفة الذراعين والرأس ، فنظر الشيخ مغضبا وأمرها أن تذهب فتستتر ، وأفي أن يشرب القهوة ، وألقى على صاحب المنزل درسا مؤثرا في وجوب احتشام الفتيات ، وإن كن خدما ، وعدم إظهار الرجال ا لأجانب عليهن ، وله -رحمه الله - في ذلك أمور في غاية الكثرة والدقة معا وكذلك شأنه دائما . هذه الناحية هي التي أثم ارت في نفسي أعظم معاني الإعجاب والتقدير ، وكان الإخوان يكثرون من الحديث عن كرامات الشيخ الحسية ، فلم أكن أجد لها من الوقع في نفسي بعض ما أجده لهذه الناحية العملية ، وكنت أعسقد أن أعظم كرامة أكرمه الله بها هي هذا التوفيق لنشر دعوة الإسلام على هذه القواعد السليمة ، وهذه الغيرة العظيمة على محارم الله - تبارك وتعالى - والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وكل ذلك ولم يتجاوز سني الثانية عشرة. ونحن بدورنا نتساءل : أولا: هل في هذا الكلام ما يعيب الشيخ كما يدعي هؤلاء ؟ وأما الحكم فمتروك لك أيها القارئ الكريم لترى حجم الجهل الذي اتصف به هؤلاء ، وسوء طويتهم وجرأتهم على الله ثم على الحقائق ، وكم في دنيا الكذب من أعاجيب
ثانيا: ما قاله في وصف شمولية دعوة الإخوان المسلمين في رسالة المؤتمر الخامس : حيث يقول : وتستطيع أن تقول - و لا حرج عليك - : إن دعوة الإخوان المسلمين :
1 - دعوة سلفية: لأنهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله .
2 -وطريقة سنية : لأنهم يحملون أنفسهم على العمل بالسنة المطهرة في كل شئ ، وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلن ذلك سبيلا .
3- وحقيقة صوفية: لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس ، ونقاء القلب ، والمواظبة على العمل ، والإعراض عن الخلق ، والحب في الله ، والارتباط على الخير.
4 - وهيئة سياسية: لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل ، وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأهم في الخارج ، وتربية الشعب على العزة والكرامة والحرص على قوميته إلى أبعد حد .
ه - وجماعة رياضية : لأنهم يعنون بحبسومهم ، ويعلمون أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لبدنك عليك حقا" وإن تكاليف الإسلام كلها لا يمكن أن تؤدى كاملة صحيحة إلا بالجسم القوي ، فالصلاة والصوم والحج والزكاة لابد لها من جسم يحتمل أعباء الكسب والعمل والكفاح في طلب الرزقا ، ولأنهم تبعا لذلك يعنون بتشكيلاتهم وفرقهم الرياضية عناية تضارع وربما فاقت كثيرا من الأندية المتخصصة بالرياضة البدنية وحدها .
6- ورابطة علميه ثقافية : لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، ولأن أندية الإخوان هي في الواقع مدارس للتعليم والتثقيف ومعاهد لتربية الجسم والعقل والروح .
7. وشركة اقتصادية : لأن الإسلام يعني بتدبير المال وكسبه من وجهه ، وهو الذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح " ، ويقول صلى الله عليه وسلم : "من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له " ، " إن الله يحب المؤمن المحترف ".
8 - وفكرة اجتماعية: لأنهم يعنون بأدواء المجتمع الإسلامي ، ويحاولون الوصول إلى طرق علاجها وشفاء الأمة منها .
وهكذا نرى أن شمول معنى الإسلام قد أكسب فكرتنا شمولا لكل مناحي الصلاح ، ووجه نشاط الإخوان إلى كل هذه النواحي ، وهم في الوقت الذي يتجه فيه غيرهم إلى ناحية واحدة دون غيرها يتجهون إليها جميعا ، ويعلمون أن الإسلام يطالبهم بها جميعا.
وقد تعامى الشانئون وأصحاب الدخن النفسي عن كل شئ قاله الإمام البنا في وصف شمولية دعوة الإخوان المسلمين السالف الذكر ، مما يتنافي كلية مع أعمال الصوفية الذين يقصدون - والحق يقال -إن هؤلاء المفترين الذين يعيبون الشيخ البنا هم الأقرب إلى الصوفية الفاسدة ، حيث يقصرون الإسلام على بعض الشعائر الدينية ويؤمنون ببعض الكتاب ويتعامون عن بعض ثم بعد ذلك يقولون : لقد قال في دعوته أنها حقيقة صوفية . ونحن بدورنا نسأل هؤلاء :
1- لماذا تجاهلتم أنه ذكر أولا : أنها دعوة سلفية ، ثم طريقة سنية ثانيا ، ثم لقد قال حقيقة صوفية ثالثا ؟
2 – لماذا قال نحن حقيقة صوفية ولم يقل طريقة صوفية ، والفرق كبير كما نعلم بين الحقيقة والطريقة ؟
3- هذا وقد فسر الإمام البنا ماذا يقصد بكل من قوله دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية ، وهو بهذا البيان يكون أبعد كل شبهة عن دعوته ، وعن أنها تجنح إلى ما في مخيلات المتلصصين ، فيوضح ذلك في رسائله ، حيث يقول في (رسالة إلى الشباب ص 87 ، 88) :
أيها الشباب : يخطئ من يظن أن جماعة الإخوان المسلمين " جماعة دراويش " قد حصروا أنفسهم في دائرة ضيقة من العبادات الإسلامية ، كل همهم صلاة وصوم ، وذكر وتسبيح ، فالمسلمون الأولون لم يعرفوا الإسلام بهذه الصورة ، ولم يؤمنوا به على هذا النحو ؟ ولكنهم آمنوا به عقيدة وعبادة ، ووطنا وجنسية ، وخلقا ومادة ، وثقافة وقانونا ،
وسماحة وقوة ، واعتقدوه نظاما كاملا يفرض نفسه على كل مظاهر الحياة ، وينظم أمر الدنيا كما ينظم الآخرة ، اعتقدوه نظاما عمليا وروحيا معا فهو عندهم دين ودولة ، ومصحف وسيف .
وهم مع هذا لا يهملون أمر عبادتهم ، ولا يقصرون في أداء فرائضهم لربهم ، يحاولون إحسان الصلاة ، ويتلون كتاب الله ، ويذكرون الله تبارك وتعالى على النحو الذي أمر به ، وفي الحدود التي وضعها لهم ، في غير غلو ولا صرف ، فلا تنطع ولا تعمق ، وهم أعرف بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، إن المنبت لا أرضا قطع ، ولا ظهرا ابقى " ، وهم مع هذا يأخذون من دنياهم النصيب الذي لا يضر باخرتهم ، ويعلمون قول الله تبارك وتعالى: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " (الأعراف : 32) .
وأن الإخوان ليعلمون أن خير وصف لخير جماعة هو وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رهبان بالليل فرسان في النهار " ، وكذلك يحاولون أن يكونوا والله المستعان ).
5 – هل قرأ هؤلاء ما كتبه الإمام البنا عن تصحيح أخطاء المتصوفة في رسالة التعاليم ( الأصول : الثالث ، والرابع ، والثالث عشر ، والرابع عشر) .
رأي الإمام البنا في نشأة التصوف وما طرأ عليه
والآن أخي الكريم ، وبعد أن نقلنا لك رأي شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم ، ورأي الإمام الشاطبي ، وأقوال علماء التصوف . فهيا نتعرف على رأي الإمام البنا في التصوف من خلال ما سجله في مذكرات الدعوة والداعية حيث يقول :
ولعل من المفيد أن أسجل في هذه المذكرات بعض خواطر (حول التصوف والطرق في تاريخ الدعوة ا لإسلامية ) تتناول نشأة التصوف وأثره ، وما صار إليه ، وكيف تكون هذه الطرق نافعة للمجتمع الإسلامي ، ولن أحاول الاستقصاء العلمي أو التعمق في المعاني الاصطلاحية ؟ فإنما هي مذكرات تكتب عفو الخاطر فتسجل ما يتردد في الذهن وما تتحرك به المشاعر، فإن تكن صوابا فمن الله ولله الحمد، وإن تكن غير ذلك فالخير آردت ولله الأمر من قبل ومن بعد :
حين اتسع عمران الدولة الإسلامية صدر القرن الأول ، وكثرت فتوحها ، وأقبلت الدنيا على المسلمين من كل مكان ، وجبيت إليهم ثمرات كل شئ ، وكان خليفتهم بعد ذلك يقول للسحابة في كبد السماء : شرقي أو غربي فحيثما وقطع قطرك جاءني خراجه . وكان طبيعيا أن يقبلوا على هذه الدنيا يتمتعون بنعيمهما ويتذوقون حلاوتها وخبراتها في اقتصاد أحيانا ، وفي إسراف أحيانا أخرى ، وكان طبيعيا أمام هذا التحول الاجتماعي ، من تقشف عصر النبوة الزاهر إلى لين الحياة ونضارتها فيما بعد ذلك ، أن يقوم من الصالحين الأتقياء العلماء الفضلاء دعاة مؤثرون يزهدون الناس في متاع هذه الحياة الزائل ، ويذكرونهم بما قد ينسونه من متاع الآخرة الباقي " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " (العنكبوت : 64)، ومن أول هؤلاء الذين عرفت عنهم هذه الدعوة الإمام الواعظ الجليل الحسن البصري ، وتبعه على ذلك كثير من أضرابه الدعاة الصالحين ، فكانت طائفة في الناس معروفة بهذه الدعوة إك ذى ر ألله واليوم الآخر ، والزهادة في الدنيا ، وتربية النفوس على طاعة الله وتقواه.
وطرأ على هذه الحقائق ما طرأ على غيرها من حقائق المعارف الإسلامية ، فأخذت صورة العلم الذي ينظم سلوك الإنسان ، ويرسم له طريقا مرت الحياة خاصا ، مراحله : الذكر والعبادة ومعرفة الله ، ونهايته الوصول إلى الجنة ومرضاة الله .
وهذا القسم من علوم التصوف ، وأسميه ( علوم التربية والسلوك ) لا شك أنه من لب الإسلام وصميمه ، ولا شك أن الصوفية قد بلغوا به مرتبة من علاج النفوس ودوائها ، والطب لها والرقي بها ، لم يبلغ إليها غيرهم من المربين ، ولا شك أنهم حملوا الناس بهذا الأسلوب على خطة عملية من حيث أداء فرائض الله ؟اجتناب نواهيه ، وصدق التوجه إليه ، وإن كان ذلك لم يخل من المبالغة في كثير من الأحيان تأثرا بروح العصور التي عاشت فيها هذه الدعوات : كالمبالغة في الصمت والجوخ السهر والعزلة . .
ولذلك كله أصل في الدين يرد إليه فالصمت أصله الإعراض عن أللغو، والجوع أصله التطوع بالصوم ، والسهر أصله قيام الليل ، والعزلة أصلها كف الأذى عن النفس ووجوب العناية بها . . ولو وقف التطبيق العملي عند هذه الحدود التي سمها الشارع لكان في ذلك كل الخير .
ولكن فكرة الدعوة الصوفية لم تقف عند حد علم السلوك والتربية، ولو وقفف عند هذا الحد لكان خيرا لها وللناس ، ولكنها جاوزت ذلك بعد العصور الأولى إلى لخليل الأذواق والمواجد ، ومزج ذلك بعلوم الفلسفة والمنطق ومواريث الأمم الماضية وأفكارها ، فخلطت بذلك الدين بما ليس منه ، وفتحت الثغرات الواسعة لكل زنديق أوملحد أو فاسد الرأي والعقيدة ليدخل من هذا الباب باسم الصوف والدعوة إلى الزهد والتقشف ، والرغبة في الحصول على هذه النتائج الروحية الباهرة . واصبح كل ما يكتب أو يقال في هذه الناحية يجب أن يكون محل نظر دقيق من الناظرين في دين الله والحريصين على صفائه ونقائه.
وجاء بعد ذلك دور التشكل العملي للفكرة فنشأت فرق الصوفية وطوائفهم ، كل على حسب أسلوبه في التربية . وتدخلت السياسة بعد ذلك لتتخذ من هذه التشكيلات تكأة عند اللزوم ، ونظمت الطوائف أحيانا على هيئة النظم العسكرية ، وأخرى على هيئة الجمعيات الخاصة . . . حتى انتهت إلى ما انتهت إليه اليوم من هذه الصورة الأثرية التي جمعت بقية ألوان هذا التاريخ الطويل ، والتي يمثلها الآن في مصر مشيخة الطرق الصوفية ورجالها وأتباعها . ولا شك في أن التصوف والطرق كانا من أكبر العوامل في نشر الإسلام في كثير من البلدان وإيصاله إلى جهات نائية ما كان ليصل إليها إلا على يد هؤلاء الدعاة ، كما حدث ويحدث في بلدان إفريقية وصحاريها ووسطها ، وفي كثير من جهات آسيا كذلك . ولا شك أن الأخذ بقواعد التصوف في ناحية التربية والسلوك له الأثر القوي في النفوس والقلوب ، ولكلام الصوفية في هذا الباب صولة ليست لكلام غيرهم من الناس . . ولكن هذا الخلط أفسد كثيرا من هذه الفوائد وقضى عليها.
ثم يوضح الإمام البنا واجب المصلحين نحوهم فيقول : ( ومن واجب المصلحين أن يطيلوا التفكير في إصلاح هذه الطوائف من الناس ، وإصلاحهم سهل ميسور ، وعندهم الاستعداد الكامل له ، ولعلهم أقرب الناس إليه لو وجهوا نحوه توجيها صحيحا ، وذلك لا يستلزم أكثر من أن يتفرغ نفر من العلماء الصالحين العاملين ، والوعاظ الصادقين المخلصين لدراسة هذه المجتمعات ، والإفادة من هذه الثروة العلمية ، وتخليصها مما علق بها ، وقيادة هذه الجماهير بعد ذلك قيادة صالحة). ثم يقول الشيخ البنا -رحمه الله -: وأتذكر أن السيد توفيق البكري -رحمه الله - فكر في ذلك ، وقد عمل دراسات علمية وعملية لشيوخ الطرق ، وألف لهم فعلا كتابا في هذا الباب ، ولكن المشروع لم يتم ولم يهتم به من بعده الشيوخ ، وأذكر من ذلك أن الشيخ عبد الله عفيفي رحمه الله كان معنيا بهذه الناحية ، وكان يطيل الحديث فيها مع شجوخ الأزهر وعلماء الدين ، ولكنه كان مجرد تفكير نظري لا أثر للتوجه إلى العمل فيه . ولو أراد الله والتصت قوة الأزهر العلمية بقوة الطرق الروحية ، وقوة الجماعات الإسلامية العملية ، لكانت أمة لا نظير لها : توجه ولا تتوجه ، وتقود ولا تنقاد ، وتؤثر في غيرها ولا يؤثر شئ فيها ، وترشد هذا المجتمع الضال إلى سواء السبيل.
هذا. . ويواصل الشيخ البنا تعريفه بالتصوف ومعناه عند أصحابه فيقول:
يراد بالتصوف : الزهد في الدنيا والالتفات إلى الآخرة ، والاجتهاد في طاعة الله تعالى. أو يراد به تطهير النفس من أدران البشرية حتى تصفو وتشرق وتكون مرآة للحقائق الربانية ، والأسرار الإلهية . أو يراد فناء العارف عما سوئ الله تعالى فلا يرى موجودا بذاته غيره أو يراد به اتباع الرسول !ؤ في أقواله وأفعاله وأحواله .
أو يراد به هذه المعاني كلها لتلازمها واتصالها وترتب بعضها على البعض الآخر . وهذا المعنى هو الذي يقصده شيوخ الصوفية المحققون رضوان الله عليهم لا يعدلون به إلى غير ذلك ، وأقوالهم في تعريف التصوف وحده تؤيد هذا القصد . قال الإمام الجنيد بن محمد : التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به . ولأن : هو أن تكون مع الله بلا علاقة . وقال أبو بكر الشبلي -رضي الله عنه - : الصوفي منقطع عن الخلق متصل بالحق . وقال بعض الشيوخ : وهو الدخول في كل خلق سني والخروج من كل خلق دني . أو هو أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم مع قوم كرام . وقال سهل بن عبدالله -رضي الله عنه -: الصوفي من صفا من الكدر ، وامتلأ من الفكر ، وانقطع إلى الله دون البسر، واستوى عنده المال والمدر .
وقال الشيخ أحمد بن عجيبة-رضي الله عنه -في شرحه لمنظومة المباحث في تعريف الصوفي وذكر خصائصه : الناس ثلاثة : عالم وعابد وعارف ، وكلهم قد أخذ حظا من الوراثة النبوية ، فالعالم ورث أقوال النبي صلى الله عليه وسلم علما وتعليما بشرط إخلاصه وإلا خرج من الوراثة بالكلية ، والعابد ورث أفعاله صلى الله عليه وسلم من صيام وقيام ومجاهدة ، والصوفي ورث العلم والعمل وزاد عليهما بوراثة الأخلاق التي كان عليها باطنه صلى الله عليه وسلم من زهد وورع وخوف ورجاء وصبر وحلم ومحبة ومعرفة . . إلخ .
وقد يطلق التصوف ويراد به الأذواق ما والمواجد ونتائج الكشف التي تعرض للسالكين وتلح للسائرين ، وهذا المعنى خاص بصاحبه لا يصح أن يظهره أو يكتبه أو يشير إليه ولا يصح أن يتخذ حكما شرعيا ولا حجة لحكم ولا يمكن أن تصوره العبارة أو تحده اللغة لأنه من الأذواق التي لا تتناولها مدلولات الألفاظ .
وإلى هذا الإشارة بقول بعض الشيوخ : "علمنا هذا إشارة فإذا صار عبارة فني " .
ويقول صاحب منظومة المباحث الأصلية : ووضعه في الكتب لا يجوز بل هو كنزفي النهى مكنوز إياك أن تطمع أن تحوزه من دفتر أو شعر أو أرجوزة وهذا هو المسمى بعلم المكاشفة ، وهو أمر شخصي يتعلق بصاحبه فقط ، ولا تتناوله الأحكام العامة ، فإن أظهر منه شيئا وافق الأحكام الظاهرة العامة سلم له ، وإن كان مخالفا لها أقيمت عليه حدودها .
وقد يقصد بعض الناس من لفظ التصوف معنى ثالثا عماده المذاهب الفلسفية والآراء النظرية وهو نتيجة ربط الأذواق والمواجد بهذه العلوم وخلطها بأحكامها وقواعدها ويتأدى الباحثون في التصوف بهذا المعنى إلى الوحدة والحلول وغيرهما من الآراء الفلسفية الصرفة ، والتصوف ، بهذا المعنى أمر فلسفي عقلي لا صلة له بالإسلام البتة ولم يكن على عهد السلف الصالح ولم يتكلم فيه كبار الصوفية ، وإنما هو علم أوجده اتساع العلوم واستبحار العمران ، وترجمة كتب الأهم الأخرى ، واختلاط قواعد علومها بعلوم الإسلام كما وقع في علم الكلام ، وقد يؤدي بصاحبه إلى الخروج عن عقيدة آهل الإسلام وهو يظن أنه من خاصتهم .
وقد كان النظر في التصوف بهذا المعنى سببا لبلاء كبير في المسلمين وتكأة لكل إباحي يلتمس السبيل إلى نيل شهواته تحت ستار من العقائد ، أو ملحد يريد أن يهدم الإسلام بتصيد الشبهات ، أو معطل يحاول التخلص من تكاليف الكتاب والسنة .
فعليك أن تتمسك بمدلول المعنى الأول وتعمل به فينكشف لك سر المعنى الثاني ، و أحذر أن يلتبس عليك الطريق فتكون ممن يفهمون التصوف بالمعنى الثالث ، ولممل الله دائما أن يلهمك رشدك ، فإن مزالق الطريق كثيرة ، والله حسبنا ونعم الوكيل.
التصوف والكتاب والسنة
التصوف الإسلامي بمعناه الصحيح يستمد أصوله وقواعده من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كأي علم إسلامي ، وذلك هو الذي تظاهرت عليه أقوال شيوخه وأثمته . قال الجنيد- قدس الله سره ": "علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ، فمن لم يسمع الحديث ويجالس الفقهاء ، ويأخذ أدبه عن المتأدبين أفسد من اتبعه " .
وقال سهل بن عبدالله : "بنيت أصولنا علي ستة أشياء : كغاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكف الأذى ، وأبر الحلال ، واجتناب الآثام ، والتوبة ، وأداء الحقوق " .
وقال أبو عثمان الحيري -رضي الله عنه - : "من أمر السنة على نفسه نطق بالحكمة ، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة" . وقال أبو القاسم النصر أباذي -رضي الله عنه - : "أصل الغصوف ملازمة الكتاب والسنة ، وترك الأهواء والبدع " .
والأقوال في ذلك كثيرة حتى قال أبو الحسن الشاذلي - رضي الله عنه - : "إذا استند كشف الولي إلى غير الكتاب والسنة فهو كسف شيطاني لا يؤخذ عنه ولا يسلم له " . والقاعدة عندهم أن السنة هي الأصل لأن صاحبها صلوات الله وسلامه عليه
معصوم من الخطأ، وما عداها تابع لأن قائليه غير معصومين فكل كلام غيرها يعرض عليها فإن وافقها قبل وإلا رفض .
مفاهيم خاطئة عن التصوف
وقد صار الناس يطلقون كلمة صوفي ، وابن طريقة ، وولي ، ودرويش (وهي كلمة،فارسية معناها مريد أو ما يقرب من ذلك ) ، على كل من ظهرت عليه علامات التقشف ورثاثة الثياب ، وعدم العناية بنظافة الجسم ، أوكل من ظهرت عليه دلائل البله بشؤون الحياة ، أو كل من تكاسل عن أداء الفرائض الدينية وارتكب المخالفات وادعى لذلك أعذارا مجهولة كأنه يصلي في الكعبة أو أنه ينظر في اللوح المحفوظ فيرى أن المعصية مقدرة عليه فهو ينفذها لذلك ، أو أنه وصل إلى درجة رفع عنه فيها التكليف ، أو أن حقائق الأشياء تنقلب له فيصير الخمر ماء ، إلى غير ذلك من المزاعم ، وقد يستدل بعضهم بما يغب لجعل الشيوخ من قوله : فلا تلم السكران في حال سكره فقد رفع التكليف في سكرنا عنا.
وقد علمت مما سبق أن التصوف بريء من هذه المزاعم مشيد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن الصوفي لا يكون صوفيا إلا بالتمسك بهما ، والولي لا يكون وليا إلا إذا اهتدى بهديهما ، فهما عماد الوصول ومنار طريق السلوك ، ولن يصل السالك إلى شيء من نور الهداية والمعرفة إلا بصدق التوجه والعمل بهما .
وقد نقل محمد بن عجيبة المزيدي في شرحه على المباحث الأصلية عن أبي طالب المكي في لوت القلوب ما يأتي : "وأعرف في زماننا هذا علوما كثيرة من الأباطيل والغرور والدعاوى قد ظهرت وسميت علوما" .
وقال في موضع آخر نقلا عن محيي الدين بن عربي الحاتمي : "حصلت الفترة في الطريقة ، لا بل قد اندرست في الحقيقة ، مضت الشيوخ الذين كان لهم اهتداء ، وبقي الشباب الذين ليس لهم بسيرتهم اقتداء ، زال الورع ، وطوي بساطه ، وقوي الطمع ، واشتد رباطه ، وارتحلت عن القلوب حرمة الشريعة ، فعدوا قلة المبالاة أوثق ذريعة رفضوا التمييز بين الحلال والحرام ، ودانوا بترك الاحترام ، وطرح الاحتشام ، واستخفوا بأداء العبادات ، واستهانوا بالصوم والصلاة ، وركضوا في ميادين الغفلات ، وركضوا إلى اتباع الشهوات وقلة المبالاة".
وهذا معنى قول أبي مدين : واعلم بأن طريق القوم دراسة وحال من يدعيها اليوم كيف ترى هذه أقوال المحققين من الصوفية أنقلها إليك وهي قليل من كثير لتعلم كيف تعلق الناس بالأسماء وتركوا الحقائق ، وأخذوا القشور ورموا اللباب .
وما أظرف قول القائل :
ليس التصوف لبس الصوف
- ترقعه ولا بكاؤك إن غنى المغنونا
ولا صياح ولا رقص ولا طرب
- ولا اضطراب كأن قد صرت مجنونا
بل التصوف أن تصفو بلا كدر
- وتتبع الحق والقرآن والدينا
وأن ترى خاشعا لله مكتئبا
- على ذنوبك طول الدهر محزونا
وقول الآخر :
ألم يعلموا أن الطريق كناية
- عن العمل الجاري على وفق شرعنا
وذبح النفوس الضاريات بمدية
- من الخلف حتى لا تميل إلى الحنا
فما أشد الغفلة ، وما أعظم سلطان الألفاظ ، وما أبعد العرف عن الحقيقة ، فاعرف ذلك جيدا ، واطلب لباب الأمور لتكون من الصادقين في الطلب ، الواصلين إلى درجات القرب ، إن شاء الله.
(الشريعة، والطريقة، والحقيقة) أو علم الظاهر، وعلم الباطن
يكثر إطلاق هذه الألفاظ في علم القوم وحديثهم ، وإذا درست أقوالهم علمت أنهم يريدون المعاني آلاتية :
1 - الشريعة : هي أحكام الدين المأخوذة من الكتاب والسنة سواء تعلقت بالعقائد أو العبادة أو غيرهما .
2 - والطريقة : هي العمل بهذه الأحكام مع إدراك مراميها والأخذ بعزائهما وعدم التواني والكسل في ذلك .
3- والحقيقة : هي الأثر الذي يتركه دوام الطاعات في القلب مع صفاء الروح ، ورقة القلب ، وسرعة الفهم ، وازدياد العمل ، والمعرفة بالله تبارك وتعالى، وانكشاف حقائق بعض الأمور للعلم بالشريعة العامل بالطريقة إلى غير ذلك من الفيوضات الإلهية التي لا تنقطع في المقامات التي لا تحد بوصف كلامي . والثلاثة بهذا المعنى أمور متلازمة لا ينفصل أحدهما عن الآخر . فمن علم بالسريعة وعمل بالطريقة وصل إلى الحقيقة ، ولا وصول إلى الحقيقة إلا بالعلم والعمل ، ومن وقف مع العلم فقط فقد حرم الفهم ، وكان علمه حجة عليه . وهذه المعاني هي المقصودة عند الشيوخ بهذه الألفاظ ، وكل ما زاد عليها أو خالفها فوهم باطل ، وإليك أقوالهم في ذلك : قال صاحب شرح تائية السلوك : "الشريعة أمر العبد بالتزام العبودية ، والحقيقة مشاهدة الربوبية عند التحقق بمقام الإحسان المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه ".
والطريقة : هي سلوك طريق الشريعة مع العمل بالأحوط ، وعدم تتبع الرخص والمراد من الثلاثة إقامة العبودية على الوجه المراد من العبد" . ومن آراء الصوفية في ذلك رأي الشيخ محيي الدين بن عربي الحاتمي ، وكان من قوله فيه بعد أن ذكر خطأ الذين يعترضون على الصوفية وعلماء الظاهر : كثيرا ما يقولون : من أين أتى هؤلاء العلم لاعتقادهم أن أحدا لا ينال علما إلا على يد معلم ، وصدقوا في ذلك ، فإن القوم لما عملوا بما علموا أعطاهم الله تعالى علما من لدنه بإعلام رباني أنزله في قلوبهم مطابقا لما جاءت به الشريعة لا يخرج عنها ذرة، قال تعالى : خلق الإنسان علمه البيان " (الرحمن : 3، 4) "علم الإنسان ما لم يعلم " (العلق : ه ) . وقال في عبده الخضر : " وعلماه من لدنا علما " (الكهف : 65)، فصدق المنكرون فيما قالوا : إن العلم لا يكون إلا بمعلم ، وأخطأوا في اعتقادهم أن الله تعالى لا يعلم من ليس بنبي ولا رسول قال تعالى: " يؤتي الحكمة من يشاء "، والحكمة هي العلم ، وجاء بمن وير نكرة، ولكن هؤلاء المنكرين لما تركوا الزهد في الدنيا وأثروها على الآخرة وعلى ما يقرب إلى الله تعالى وتعودوا أخذ العلم من الكتب ومن أفواه الرجال حجبهم ذلك عن أن يعلموا أن لله تعالى عبادا تولى تعليمهم في سرائرهم إذ هو المعلم الحقيقي للوجود كله ، ثم ختم كلامه بقوله : وأين تكذيب هؤلاء المنكرين لأهل الله تعالى في دعواهم العلم من قول علي بن أبي طالب "كرم الله وجهه-:
"لو تكلمت لكم في تفسير الفاتحة لحملت لكم منها سبعين وقرأ" فهل كان إلا من العلم اللدني الذي أتاه الله تعالى له من طريق الإلهام ، إذ الفكر لا يصل إلى ذلك ؟" انتهى كلامه في الفتوحات وقد أكد المعنى في رسالته إلى الشيخ فخر الدين الرازي .
رأي الشيخ الشعرانى في حقيقة العلم الباطن وانكاره إطلاق هذا الاسم عليه :
قال الشيخ الشعراني في كتابه "الدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة" وكرر هذا المعنى مرارا في كتابه "اليواقيت والجواهر" وأما زبده علم التصوف النقي وضع القوم فجه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة ، فمن عمل بما علم تكلم بما تكلموا به وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقن العبد في باب الأدب مع الله تعالى ومعه كلامه على الإفهام حتى قال بعضهم لشيخه : إن كلام أخي فلان يدق علي فهمه ، فقال : لأن لك قمصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك ، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بالعلم الباطن ولير ذلك بباطن ، إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى، وأما جميع ما علمه الخلو على اختلاف طبقاتهم فهو من العلم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك " .
وقال في اليواقيت والجواهر، ونقله عن الشيخ حيي الدين : قال قالت فإن سلمنا للأولياء ما جاءوا به فما حكمه إذا خالف ما جاءت به الرسل ؟ ، فالجواب : حكمه الرد، فإن الولي إذا أتى في كشفه بما يخالف ما كتشف للرسل وجب عه لينا الرجوع إلى كشف الرسل وعلمنا أن ذلك الولي قد طرز عليه في كثسفه خلل إلى آخر ما قال " ، وله في ذلك مؤلف سماه "حد الحسام في عنق من أطلق إيجاب العلم بالإلهام " .
وقد نقل في كتابه المسمى ب "الجواهر والدرر" عن الشيخ محيي الدين ما نصه : "اعلم أنا لا نعني بمدلك الإلهام حيث أطلقناه إلا الدقائق الممتدة من الأرواح المالكية لا نفس الملائكة ، فإن الملك لا ينزل بوحي على غير قلب نبي أصيلا ، ولا يأمر بأمر إلهي جملة واحدة ، فإن الشريعة قد استقرت ، وتعين الفرض والواجب وغيرهما ، فانقطع الأمر الإلهي بانقطاع النبوة والرسالة ، ليس هناك من تقي يأمره الله تعالى بأمر يكون شرعا سحستقلا يتعبد به أبدا" ، وقد أفاض في هذا المعنى كثيرا .
4 قال الشيخ زروق - رضي الله عنه - في كتابه "قواعد التصوف " في القاعدة الخامسة والعشرين : (لا علم إلا بالتعلم عن الشارع أو من ناب مغابه فيما أتى به ، إذ قال عليه السلام : "إن العلم بالتعلم ، وإنما الحلم بالتحلم ، ومن طلب الخير يؤته ومن يتق الشر يوقه " ، وما تفيده التقوى إنما هو فهم يوافق الأصل ويشرح الصدور ، ويوسع العقول ثم هو تقسم لما يدخل تحت دائرة العبارة ، وإن كان مما تتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر ، وإن أشارت إليه الحقائق مع وضوحه عند مشاهده وتحقيقه عند متلقية وبالله التوفيق ) .
وقال في القاعدة السادسة والعشرين : (حكم الفقه عام في العموم ، لأن مقصده إقامة رسم الدين ورفع منارة ، وإظهار كلما ، وحكم التصوف خاص في الخصوم لأنه معاملة بين العبد وربه من غير زائد على ذلك ت فمن ثم صح إنكار الفقهية على الصوفي ولا يصح إنكار الصوفي على الفقيه ولزم الرجوع من التصوف إلف ألفقه والاكتفاء به دونه ولم يكف التصوف عن الفف بل لا يصح دونه ولا يجوز الرجوع منه إليه إلا به ، وإن كان أعلى منه مرتبة فهو أسلم وأعم منه مصلحه ، ولذلك قيل كن فقيها صوفيا ولا تكون صوفيا فقيها ، وصوفي الفقهاء أكمل من فقيه الصوفية وأسلم ، لأن صوفي الفقهاء قد تحقق بالتصوف حالا وعلما وذوقا بخلاف فقيه الصوفية فإنه المتمكن من عمله وحاله ولا يعم له ذلك إلا بفقه صحيح ، وذوق صريح ، ولا يصح أحدهما دون الآخر، كالطب الذي لا يكفي علمه عن التجربة ولا العكس فافهم ) .
وقال في القاعدة الحادية والستين : (إنما يؤخذ علم كل شيء من أربابه فلا يعتمد صوفي في الفقه ، إلا أن يعرف قيامه عليه ، ولا فقيه في التصوف إلا أن يعرف تحقيقه له ولا محدث فيهما ، إلا أن يعلم قيامه بهما، فلزم طلب الفقه من قبل الفقهاء لمريد التصوف وإنما يرجع لأهل الطريقة فيما يخض بصلاح باطنه من ذلك ومن غيره ، ولذلك كان الشيخ آبو محمد المرجاني - رضي الله عنه - يأمر أصحابه بالرجوع إلى الفقهاء في مسائل الفقه وإن كان عارفا به فافهم ) .
وقال في القاعدة السابعة والسبعين : ( أصل كل أصل من علوم الدنيا والآخرة مأخوذ من الكتاب والسنة ومدحا للممدوح ، وذما للمذموم ، ووصفا للمأمور به ، ثم للناس في أخذها ثلاثة مسالك : أولها قوم تعلقوا بالظاهر مع قطع النظر عن المعنى جملة وهؤلاء أهل الجحود من الظاهرية لا عبرة بهم ، والثاني : قوم نظروا لنفس المعنى جمعا بين الحقائق فتأولوا ما يؤول وعدلوا ما يعدل وهؤلاء أهل التحقيق من أصحاب المعاني والفقهاء ، والثالث : قوم أثبتوا المعاني وحققوا المباني ، وأخذوا الإشارة من ظاهر اللفظ وباطن المعنى ، وهم الصوفية المحققون ، والأئمة المدققون ، لا الباطنية الذين حملوا الكل على الإشارة فهم لم يتبنوا لمعنى ولا عبارة فخرجوا عن الملة ، ورفضوا الدين كله ، نسأل الله العافية بمنه ) .
وقال في القاعدة الرابعة والتسعين : (تحديد ما لم يرد في الشرع تحديده ابتداع في الدين لاسيما إن عارض أصلا شرعيا كصيام يومه لفوات إرد ليلته الذي لم يجعل له الشارع كفارة إللا الإتيان به قبل صلاة الصبح أو زوال اليوم وكذا قراءة الفاتحة قبل الصلاة وتوفيه ورد الصلاة ونحوه ما لم يرد من الشارع نص فيه لا ما ورد فيه نص أو إشارة كصلاة الرواتب وأذكار مما بعد الصلاة وقراءة القرآن ، وصيام النفل ، ونحوه ، فافهم ).
نماذج من أقوال الشيوخ .. رضوان الله عليهم:
أ-قال الشيخ عبد القادر الجيلاني - قدس الله سره : " جميع الأولياء لا يستمدون إلا من كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا يعملون إلا بأظهرها" .
ب -وقال الجنيد بن محمد-قدس الله سره - : الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفئ أثر الرسول موسى صلى الله عليه وسلم"
ج- وقال السري السقطي -رضي الله عنه - : "من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط .
د- وقال أبو الحسن النوري : "من رأيته يدعي مع الله تعالى حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقر به ومن رأيته يدعي مع الله حالة لا يشهد لها حفظ ظاهر فاتهمه على دينه " .
هـ –وقال أبو سعيد الخراز : "كل فيض باطن يخالفه ظاهر فهو باطن ".
و – وفي التحفة لابن حجر : قال الغزالي : "من زعم أن له مع الله تعالى حالا أسقط عنه نحو الصلاة أو تحريم شرب الخمر وجب قتله " .
قصة الخضر وموسى عليهما السلام . . ورأي الألوسى فيها :
قصة الخضر وموسى عليهما السلام لا يؤخذ منهما الخلاف بين العلمين لأنه يقال : إن ما فعله الخضر شريعة خاصة ، وإلى هذا أشار العلامة السبكي في بعض أقواله ، ولعل هذا هو المقصود بقول الله تعالى حكاية عن الخضر : وما فعلته عن أمري " (الكهف : 82) .
وعلى ذلك فليس ثم خلاف بينه وبين موسى عليه السلام ، لأن موسى يعمل بشريعته ، والخضر يعمل بشريعته التي أوحيت إليه ، وذلك أوضح على القول بنبوة الخضر ، وهو الراجح ، وعلى القول بولايته فلا دليل فيها على المخالفة أيضا ، لأن الخضر عليه السلام عمل عملا يوافق شريعة موسى بحيث لو كان موسى علم الحكمة كما علمها الخضر لعمل ما عمله الخضر، فكأن الفرق بينهما في العلم بالحكمة فقط ، وقد يقال : إن ذلك يدل على أن الخضر وهو ولي علم ما لم يعلمه موسى وهو نبي ، ونقول على فرض صحة ذلك فإنه لا يقدح في منزلة موسى عليه السلام ، لأن الله أراد أن يريه بذلك أن العلم لا يقف عند حد، فكان الأولى أن يجيب السائل جوابا غير الذي أجابه به حين سأله : هل تعلم أحدا أعلم منك الحديث ؟ ونقول أيضا : ليس معنى أن الخضر يعلم هذه المسائل أنه أعلم من موسى، بل لو قارنا بين علم موسى في جملته وعلم الخضر في جملته لكان علم موسى أوسع ، وفوق كل ذي علما عليم.
وعلى كل حال فالدليل متى تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ، وفيما ذكرناه في القصة الكفاية ، وهو الذي يفهم من تقرير العلامة الألوسي على القصة في نهاية تفسيرها .
تلخيص أقوال الشيوخ . رضوان الله عليهم . في ذلك وبيان ما تطمئن إليه النفس فيه :
قد رأيت أقوال أئمة التصوف - رضوان الله عليهم - في هذا البحث والذي تطمئن إليه النفس ويهدي إليه الدليل مع تظاهر أقوال المنصفين عليه ما يأتي :
أولا: أن علم الباطن ومعناه نور وقوة وإدراك وفهم يغدقها الله تبارك وتعالى في نفوس المتقين من عباده جزاء عملهم بما علموه من أحكام دينه ، وامتثالهم أمره ونهيه ، وأن ثمرته انكشاف حقائق السريعة لهم .
ثانيا: أن هذا العلم بهذا المعنى ثابت والدليل عليه ما ذكروه من الآيات والأحاديث ، وقد يقال . إن بعضها ضعيف أو في ثبوته شك ، وما ثبت صحته يحتمل التأويل وذلك صحيح ، ولكن كثرتها وتتابعها يجعلها يقوي بعضها بعضا على أن الأمر أيسر من أن يحتاج الإنسان إلى الاستدلال عليه ، فيها نحن نرى لفاوت الناس في الفهم والذكاء ، ونرئ تدرجهم في استكشاف أسرار الكون وتعرف كنه الوجود ، بل يشعر أحدنا من نفسه في بعض الأحوال بصفاء الذهن ، وقوة الخاطر ، فيجيد القول ويجيد الكتابة وهكذا ، ولاسيما في الأوقات التي يكثر فيها من طاعة الله وذكره ، وفي بعض الأوقات يرئ عكس ذلك تماما فليس في الأمر إشكال أبدا .
ثالثا: أن هذا العلم وما ينكشف به من الحقائق لا ينافي حقائق الشريعة ولا الظاهر منها أبدا ، بل يكون مؤكدا لها ومبينا لأسرارها ، وقد رأيت تظاهر أقوال الشيوخ على ذلك ، وهذا هو أهم س ا في الباب ، ومن ذلك تعلم اتفاق كلمة الفقهاء والصوفية على أن أساس الدين وأصله واحد هو الكتاب والسنة ، وأن الخلاف في الفروع يجب أن يسلم كل إنسان فيه للآخر برأيه مادام له دليل وما دام هذا الرأي لا يناقض المعلوم من كغاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم .
رابعها : أن هذا العلم وما ينك!ف به من الحقائق لا يؤخذ به كدليل في التشريع بل إن وافق الشرع ، فالدليل هو دليل الشرع وإن خالفه رد على صاحبه وكان خاصا به ، وقد رأيت اتفاق الشيوخ على ذلك .
خامسا: بعد هذا البيان يظهر لك مغالطة الباطنية في استغلالهم كلمة علم الباطن في قلب حقائقها فلا تنخدع بأقوالهم بعدما علمت أنه لجس ثم إلا الكتاب والسنة . سادسا 4 وإذا عرفت يا أخي أن لله مواهب وأسرارا يفيضها على قلب المتقين من عباده فعليك بمجاهدة نفسك وطاعة ربك ، والإقبال على ذكره والعمل بما علمت من شريعته حتى تتفجر ينابيع الحكمة من قلبك ، ويرزقك الله علم ما لم تكن تعلم ، والله ولي توفيقنا وتوفيقك إلى ما يحبه ويرضاه .
أرأيت بعد هذا يا أخي لتجلية حقيقة التصوف ، لقد تكلم الإمام البنا في التصوف كلام العلماء الباحثين ، وأبان اسق في المسألة من الباطل ، ووضح الطريق للمسلمين في قضية عجز بعضهم عن فهمها وبيان الحق فيها.
تحرير تاريخ هذا الخلاف . . وييان آثاره :
هذا وقد تحدث الإمام البنا "رحمه الله - حول منشأ هذا الخلاف ، وما صار إليه ، وما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المسلم فقال . لقد أتى على المسلمين حين من الدهر في عصر الانتقال الأول حين نقلتهم حوادث السياسة والاجتماع من دور الجهاد العملي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدين المهديين من بعده ، حيث كان هم المسلم إذ ذاك أن يؤدي فريضة ربه ، ويراقب دخيلة نفسه ، ويقيم من نفسه حارسا يحاسبه على كل عمله ، ثم يمضي في البلاد مجاهدا في سجل الله يعرض روحه على الموت في اليوم ألف مرة فلا يظفر إلا بم الحياة العزيزة ، وينشر لواء الله في العالمين حتى يدركه الأجل فيودع الدنيا شهيدا سعيدا ، حين انتقل المسلمون من هذا الدور إلى دور الاستمتاع بمظاهر دنياهم الجديدة والإقبال على تنظيم ملكهم الواسع ، والاستفادة من ثمار هذه الحضارات والمدنيات التي اتصلوا بها ، ودخلت عليهم آثارها من كل مكان : عمرانية ، واجتماعية ، وثقافية ، وعلمية ، فترجموا العلوم الأجنبية ، وتوسعوا في البحث فيها ، ومزجوا كثيرا منها بتعاليم الدين السمحة السهلة ، فسلكوا بدينهم مسلكا فلسفيا قياسيا ، وقد جاءهم فطريا ربانيا نبويا فوق العلوم والفلسفات يخاطب الفطرة من غير وساطة ، ويجذب القلوب بما فيه من جمال وروحانية وصدق توجيه في هذا الدور ، وفي وسط هذه المعمعة انقسم علماء الإسلام إلى معسكرين : معسكر يدعو إلى تطبيق نظريات الدين على نظريات الفلسفة والمزج بينهما ، وبذلك يصطبغ الدين بآراء الفلاسفة فيذهب عنه جلال النبوة وروعة الوحي ، وسماحة الفطرة . وتتقيد الفلسفة بقداسة الدين وجلال العقيدة ، فتنزل بذلك عن أخص خصائصها ، وانما الفلسفة تفكير دائم متواصل ، فيه الخطأ وفيه الصواب ، وفيه الشك وفيه اليقين ، والخطأ فيها سلم للإصابة والشك عندها باعث من بواعث . الإيمان ، وهذا المعسكر أطلق على نفسه أو أطلق الناس عليه ألقابا كثيرة ، فهم أهل الرأي وهم أهل القياس ، وهم النظار ، وهم المتكلمون على تفاوت بينهم في هذه الألقاب وفي مدى تطبيق هذه الآراء ، ومعسكر يدعو إلى أن يظل الدين بعيدا عن كل هذا ، ويؤخذ من منابعه الأولى كتاب الله وسنة رسوله ، ويرجع في بيانه وتفصيله إلى الطريقة التي فهمه عليها السلف الصالح - رضوان الله عليهم - وليتناول العقل بعد ذلك ما شاء من البحوث ، ولتجر الفلسفة على أي غرار شاءت ، و ليخطى العلماء الكونيون أو يصيبوا ولكن في ثوب نظري بحت ، قياسي بحت لا يتناول عقائد الناس ولا يمس عبادتهم ، ولا يقرب الحقائق الدينية المقررة المكفولة بتسليم العقل بأحقيتها وصدقها ؟ وقد أطلق هذا المعسكر على نفسه أو أطلق الناس عليه أهل الحديث أو السلفيون أو أهل السنة ، أو أهل الأثر على تفاوت كذلك في هذه الألقاب وفي مدى الأخذ بهذه الفكرة ، ولاشك أن الحق مع هؤلاء ، ولاشك أن المسلمين لو سلكوا هذا السبيل ولم يشتغلوا بهذا الجدل ، ولم يصبغوا فطرة دينهم بهذه الصبغة ودرجوا على ما كان عليه النبي وأصحابه لكان أمم في ذلك الخير كل الخير ، ولنجوا من انقسامات وفتن كانت من أهم الأسباب لزوال عظمتهم وتوزيع ملكهم ومجدهم ، ولاشك أن كل عاقل يهمه أن يعود للإسلام مجده وعظمته الآن يدعو المصلين إلى الأخذ بهذا الرأي وهو ما نعمل عليه وندعو إليه ونسأل الله المعونة فيه وفتح مغاليق القلوب لفهمه وفقهه .
كان الأخذ والرد والجذب والشد قويا عنيفا بين الفريقين منذ نجم قرن هذا الخلاف:
وأنت خبير بأن خلافا كهذا في صدر الإسلام أو قريبا منه ، ولما يمض على المسلمين بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم أكثر من قرن من الزمان وهو يتصل بالعقيدة وهي أغلى ما يدافع عنه الإنسان لابد أن يصحبه من مظاهر العنف الشيء الكثير وذلك ما كان ، فقد تنابز الفريقان بالألقاب واشتد بينهما التخاصم حتى وصل إلى التكفير والزندقة ، ورمى بعضهم بعضا بأعظم ما يتصور من التهم ، واستخدمت في ذلك الألفاظ المثيرة .
فأهل الرأي والنظر- جهمية معطلة مؤولون حشوية زنادقة - لا يعرفون لهم ربا ، ولا يثبتون له صفة ، وأهل الحديث والأثر مشبهون مجسمون جامدون متعصبون لا ينزهون الله ولا يقدرون عظمته قدرها ويضعونه في صف خلقه ، وألقيت إلى جانب ذلك عبارات شديدة ، وألفت كتب ، وانتصر كل فريق لرأيه ، وبدت الحدة في كل ما قيل وما ألف ، لأن تلك طبيعة الموقف ومقتضيات الخلاف . كان ذلك في هذا الدور الذي ذكرت لك ثم نقلت إلينا نحن ألان بعض هذه الآثار والحال غير الحال ، والموقف غير الموقف ، والفرق غير الفرق .
ليس فينا أهل رأي وأهل حديث - وأنا أعلم أن هذا الحكم قد يكون محل خلاف بيني وبين بعض القارئين -فها هم يرون فريقين ينتصر كل منهما لفريق فما معنى هذا النفي ؟
ولكني أؤكد لحضرات القراء أن طبيعة هذا العصر غير طبيعة العصر الذي شجر فيه الخلاف بين المسلمين ، وأن المشاكل والأفكار التي تشغلنا الان غير تلك المشاكل والأفكار ، وأن الخلاف في هذه المسائل محصور في نطاق لا يكاد يذكر في بعض المجالس وفي جدران بعض الهيئات ، حتى الأزهر نفسه وتلك مهمته مشغول عن هذا الخلاف . الأمة الآن معسكرات مختلفة لكل معسكر فكرته التي يدعو إليها وينادي بها فهناك المعسكر الذي يدعو إلى الاندفاع وراء تلك الأفكار والمظاهر الغربية في كل شيء ، وهناك المعسكر الذي يثير المعنى القومي وحده في النفوس ويريد أن يجعله أساسا للنهوض ، وهناك المعسكر الذي يأخذ بأعناق الناس وجهودهم إلى المسائل السياسية البحتة التي يراد بها استقرار الحكم في الداخل ، وحفظ الكرامة في الخارج ولا يعنيه إلا هذا ، وهناك معسكرات غير هذه ، ومن وراء ذلك كله معسكر محمدي قرآني يهيب بكل هؤلاء أن الإسلام يكفل لكم السعادة والقوة كل ما تريدون فهلموا إليه .
أريد أن أصل من هذا الاستطراد إلى نتيجتين : الأولى ، أننا ليس بيننا في حقيقة الأمر خلاف كالذي كان بين الفلاسفة والسلفيين في القديم ، فلا معنى لإحياء هذا الخلاف من جديد، ولا معنى للاحتجاج كذلك بما قال هؤلاء وأولئك وأولى لنا جميعا أن نترك ذلك الدور بما كتب فيه ، وما كان من أهله في ذمة التاريخ ، ونرجع جميعا في ديننا إلى المعين الأصلي الذي مازال وسيظل صافيا نقيا لا تكدره الحوادث ، ولا ينال منه الزمن ولا يزعزعه الخلاف ، ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة صلى الله عليه وسلم .
والثانية : أن ننصرف في صف مؤمن قوي موحد إلى معالجة مشاكل عصرنا ودعوة الناس إلى محاسن هذا الدين وجلاله وتقوية معسكرنا معشر المنادين بالإسلام فوق كل المعسكرات حتى يكون له النفوذ الفكري والعملي ، فيعود للإسلام ما كان له من هيمنة على الأرواح والأعمال . وبعد . . فذلك رأي أيها السائل في موضع الخلاف .
2 - أما هل يجوز للفريقين أن يتقاذفا بهذه التهم على صفحات الجرائد السيارة ، وأن تذاع هذه البحوث على العامة؟ فذلك ما لا أقرهما عليه ولا أوافقهما فيه ، وفي لين القول وحسن الخطاب مندوحة ، وهذه بحوث دقيقة أولى بها أن تكون بين أهل العلم في حلقهم الخاصة ومجالسهم المحصورة ، وأذكر الفريقين بما رواه البخاري في صحيحه عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه -: "حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ " .
وما رواه مسلم عن ابن مسعود-رضي الله عنه – قال : "ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" ، فإن كان ولابد من الكلام في هذه المباحث فليكن ذلك في قول لين ، وفي بحث هادئ ، حتى لا تسري عدوى الخلاف والتهاتر من الخاصة إلى العوام ، وفي ذلك فساد كبير كما هو مشاهد في البلاد التي تشتد فيها العصبية لبعض الآراء ، أقول هذا وأنا أعلم ما سيقال حول هذا الكلام من أن العقيدة أساس كل إصلاح ، وأن دين الله تبارك وتعالى جلي واضح لا خفاء فيه ، ولا يليق أن يكتم فيه شيء عن جميع الناس ، وبأن هذه خصومة في الحق وهي جائزة، وهذا هو الغضب لله وهو فضيلة ، وهذا هو الدفاع عن دينه وهو واجب ، وهذا هو الجهاد بالقول والقلم والقعود عنه إثم ، فكيف يراد منا بعد ذلك أن نصرف إلى إصلاح جزئي والعقيدة فاسدة ، وكيف يراد منا أن نجعل هذا الكلام خاصا ودين الله عام للناس جميعا؟ وأحب أن أقول لمن يدور بفكره أو على لسانه وقلبه مثل هذا القول : احترس أيها الأخ من خداع الألفاظ ومزالق الأسماء ، فالعقيدة شيء والخلاف في بعض المسائل التي لا يمكن لإنسان أن يعرف حقيقتها شيء آخر، وأحكام الدين التي هي عامة للناس جميعا شيء ، والأسلوب الذي تؤدي به وتقدم للناس شيء غيرها ، والخصومة والغضب للدين شيء ، وخلق هذه الخصومة وإثارة الفتنة بها شيء آخر، أفلا يكون هذا من الجدل المنهي عنه ، ومن المراء الذي أغضب رسول الله أشد الغضب على المتمارين حتى جعله يقول :
أ - "ما ضل قوم بعد هدئ كانوا عليه إلا أوتوا الجدل " ، ثم قرأ : " ما ضربوه لك إلا جدلا " (الزخرف : 58).
ب -ويقول صلى الله عليه وسلم : "من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن تركه وهو محق بني له في وسطها ، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها".
ج—وروي الطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه - قال : كنا جلوسا عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر ينزع هذا بآية وينزع هذا بآية ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان ، فقال : "ما هؤلاء ، بهذا بعثتم أم بهذا أمرتم ، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ".
د - وعن أبي الدرداء ، وواثلة بن الأسقع ، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - قالوا : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين ، فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله ثم انتهرنا ، فقال : "مهلا يا أمة محمد إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ذروا المراء لقلة خيره ، ذروا المراء فإن المؤمن لا يماري ، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته ، ذروا المراء فكفئ إثما ألا تزال مماريا ، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة ، ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رياضها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق ، ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان المراء ".
وقد يقال : إن المراء شيء وما نحن فيه شيء اخر، فأقول : إن لم يكنه فهو نوع منه ، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه ، واتقاء الشبهات استبراء للدين والورع أن تدع ما لا بأس به مخافة الوقوع فيما فيه بأس ، فهل بعد ذلك مذهب لذاهب أيها الإخوان ؟
3 –وأما العمل على التوفيق بين الفريقين فنعما هو ، وما أحبه إلى النفس ، وما أعظم فائدته ، وإنا لمحاولون ذلك إن شاء الله ، وأعتقد أن كثيرا من المختلفين لو التقى بعضهم ببعض وتركوا طريقة التحاور الكتابي إلى طريقة التفاهم الشفهي لأنتج هذا التعارف خيرا كثيرا ، ولأدى إلى حل كثير من الخلافات في هدوء ، وفي توفير الوقت والمجهود ، وحينئذ يستطيع كل رئيس جماعة أن يتقدم إلى جماعته برأي موحد أو بفكرة عامة ، فيؤدي ذلك إلى الوحدة المنشودة إن شاء الله ، وسنترقب الفرصة المناسبة لمثل هذا الإجماع فنعمل على تحقيقه إن شاء الله والله حسبنا ونعم الوكيل .
هل اختلف رأي الإمام البنا عن رأي الإمام ابن تيمية في التصوف ؟
وبعد .. هل اختلف رأي الإمام البنا عن رأي الإمام ابن تيمية في التصوف ؟ وهل هم محقون في وصفهم للإمام البنا بالمتصوف المنحرف ؟
وبعد . . فلعلنا بعد هذه السياحة في أقوال الأئمة الأعلام عن التصوف ، وفي أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية ، والإمام الشاطبي ، والشيخ البنا – رضوان الله عليهم – يتضح لنا بالأدلة الجلية سفه وجهل الخائضين في الأمور بغير علم والذين يخبطون خبط عشواء فيما لا يدركون أو يفهمون أو يعقلون ، ولعل المطلع على قول الإمام ابن تيمية في حديثه عن الصوفية ، والتصوف حيث يقول : إنهم مجتهدون في طاعة الله ، كما اجهد غيرهم من أهل الطاعات ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ؟ وفيهم المجتهد الذي هو من أهل اليمين ، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطىء، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب ، ومنهم المنتسب إليهم وهو ظالم لنفسه عاص لربه. وهذا شأن الناس والبشر "وكل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون " ، والأعمال هي المقياس ، والكتاب والسنة هما الحكم على تلك الأعمال ، ولا شك في أن من التزم بالكتاب والسنة ، وراقب الله ، والتزم بالأحكام الإسلامية ، وحقائق الدين فهذا شئ لا غبار عليه ، بل مأمور به وممدوح .
وقد بين الإمام ابن تيمية : أن أصل التصوف وحقيقته لا غبار عليه ، فإن أصله الزهد والعبادة ، وتزكية النفس والصدق والإخلاص ، فقال - رحمه الله - :
" التصوف عندهم له حقائق وأحوال ، وقد تكلموا في حدوده وسيرته وأخلاقه ، كقول بعضهم : الصوفي من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر واستوى عنده الذهب والحجر " . . التصوف : كتمان المعاني ، وترك الدعاوى ، وأشباه ذلك ، وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصديق. . . ثم يقول الإمام ابن تيمية رضي الله عنه : ( قد انتسب إلى الصوفية طائفة من أهل البدع والزندقة ، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم ، كالحلاج مثلا : فإن أكبر مشايخ الطريق أنكروه ، وأخرجوه عن الطريق مثل الجنيد . . الخ ) .
هذا هو رأي ابن تيمية ، ورأى الشاطبي الذي قدمناه ، ورأي العلماء الإثبات ، ولكن بعض الذين يحبون إطلاق كلمة الشرك والبدع ، لا يقولون بما قال به العلماء ، ولا يرتضونه ، ولمجحبون كلمة الشرك على كل المتصوفة علمائهم وفقهائهم وعبادهم ، وأهل الخير منهم ، وهذا من الجهل واتباع الهوى ، ويريدون بهذا أن يلوثوا سمعة كل رجل عابد أو متبتل قوام صوام ، ما دام لا يتبع ما هم عليه من جهالة وخلط ، ولقد عددت ما تفوه به أحدهم في كتابه من ألفاظ الشرك ، والابتداع التي صار يطلقها على المسلمين فوجدتها تربو على الخمسمائة في صفحات قليلة ، فقلت سبحان الله ، من يرد هؤلاء إلى عقولهم ودينهم ، قبل أن يتسع الخرق على الواقع وتنحرف الزاوية ، ويزداد المسلمون فرقة وقطيعة بسبب هؤلاء الهواة الجدد، ومن أجل هذا جاء الوعيد الشديد على هؤلاء ، والتكبير الكبير على هذا التصرف .
روى البخاري عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يرمي رجل رجلا بالفسق أو الكفر إلا ارتد عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ". وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قال لأخيه : يا كافر، فقد باءيها أحدهما". وفي رواية : "إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما" . وفي أخرى : " أيما أمرى ، قال لأخيه : يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه ".
وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " .
وفي رواية أبي داود ، قال : " إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه ".
فهؤلاء الذين لا يتورعون عن سب الإمام البنا رغم استشهاده في سبيل الإسلام ورفعة رايته ، ويتذرعون بالافتراءات ؟ وبنسبته إلى التصوف والبدع ، مع أن الرجل كان عالما عاملا يعرف ما يفعل وما يقول . . ألا يتقون الله ؟ وقد بينا قوله وفعله في الصوفية والتصوف ، وكان لا يخرج عن أقوال العلماء الإثبات وأفعالهم ، بل كان الرجل من أشد المحاربين للبدع والخرافات ، وكان جهاده ودأبه في إيقاظ الأمة لحمل رسالتها ، ولفتها إلى الإسلام الكامل التام المحيط ، نظاما راسخا شاملا ، يتناول مظاهر الحياة جميعها ، باعتباره دولة ووطن ، أو حكومة وأمة ، وخلق وقوة ، أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون ، أو علم وقضاء ، وهو مادة وثروة ، أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة، وعبادة صحيحة سواء بسواء. كل ذلك شاهد صدق وعدل على أن الرجل - رضوان الله عليه -كان علما من أعلام الإسلام ، ومجاهدا فذا في سبيل دعوة ربه ، وقد فعل في العصر الحديث فعل السحر في الأمة ، واستيقظ على ندائه وتتلمذت على هديه وعلمه جموع المسلمين ، وهذا ما ألب عليه أعداء الإسلام والمسلمين ، من مستعمرين ومارقين وزنادقة ، وهذا ما أقام الدنيا ولم يقعدها على حركات التحرر الإسلامية التي انتفضت هنا وهناك تنادي بالإسلام وتطارد المحتلين والغاصبين وأذنابهم ، وتصرع المستعبدين والمستبدين وأشياعهم ، الذين انطلقوا يلوثون دعوة الإخوان المسلمين ، ويعتبرونها الخطر الأول عليهم ، وأنها هي التي قرعت طبول الجهاد العلمي والنفسي والحربي ضد الطغاة ، واستماتوا في حرب الدعوة الطاهرة ، وأنفقوا الأموال وكل مرتخص وغال في سبيل وقف مدها ، وإطفاء ضوئها ، ولكن هيهات هيهات ، لأن هذا ليس جهد الإخوان أو عمل البشر فقط ، وإنما هو نور الإسلام ، وعناية الله ، وصدق الله : " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (الصف : 8) .
ومن عجيب أن نرى من قومنا ومن الذين يدعون أنهم يعملون في الحقل الإسلامي عونا لهؤلاء على الإثم والعدوان ، بجرأة غريبة ، واندفاع أعمى ، وتلصص مذهل ، وكم عجبت من تسولهم العجيب ، وإصرارهم المقيت ، على تلويث سمعة الأستاذ الشهيد بإذن الله حسن البنا - رضي الله عنه وأرضاه - ، حتى أنهم يعمدون إلى تلويث سمعة رواد الإصلاح في العصر الحديث ليتوصلوا إلى ذم الشيخ البنا ، فمثلا يعمدون إلى ما قاله أعداء جمال الدين الأفغاني فيذيعوه ليهدموه ، ثم إلى الإمام محمد عبده - رضي الله عنه - فيتهموه ، ثم إلى الأستاذ رشيد رضا لينتقصوه ، ثم إلى كل من دعا بدعوة إصلاح أو وطنية أو ثار على حاكم ظالم أو فاسد ، ليشككوا فيهم ، وينسبون إليهم العمالة والماسونية ، ويتهمونهم بأنهم رافضة ، وزنادقة ، ويهود ، ومخربين ، وعلمانيين ، و . . و . . و . . . إلخ ، كل ذلك ليتوصلوا إلى هدم الشيخ البنا ، لأنه دعا بالإسلام الشامل الكامل الذي يجمع بين خيري الدنيا والآخرة ، وهم في جهلهم وعملياتهم يتخبطون .
فقلت : سبحان الله ، من بقى من قادة الإصلاح بدون هدم أو تلويث أو تهمة أو فرية ؟ أظن أنه لم يبق إلا هؤلاء النكرات الذين يقبعون وراء أحقادهم وأضغانهم بجهل فاضح ، وعزم كليل ، ليخدموا جهات مشبوهة ، وأنظمة متخلفة ظالمة ، تنتظر مصيرها المحتوم وجزاءها العادل على ما قدمت من سوء ، واقترفت من آثام في حق دينها وأمتها ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
الإمام البنا يكشف أوهام أدعياء التصوف
رأي الإمام البنا فيما يحدث من أخطاء المتصوفة " يقول الإمام البنا في رسالة التعاليم ( الأصل الثالث ) : ( وللإيمان الصادق ، والعبادة الصحيحة ، والمجاهدة : نور وحلاوة ، يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده ، ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية ، ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه ) .
ومعلوم أن للإيمان والاستقامة حلاوة ، يجدها المؤمن كثمرة للطاعة ، وهذا هو نفس ما قاله الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد الباب الثلاثين تعليقا على الحديث " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان . . . " المسألة الخامسة ( أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها ) ، وفي الباب التاسع والخمسين (ما جاء في منكري القدر ، المسألة الرابعة ) الإخبار بأن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به ( يقصد القدر ) .
ومعلوم أنه رد ورفض الإلهام والخواطر والكشف والرؤى كأدلة للأحكام ، ومعلوم أنها من أدلة الأحكام عند المتصوفة المنحرفين ، وهذا ما قرره أيضا صاحب كتاب التصوف بين الحق والخلق ( نشر دار السلفية - الكويت - الطبعة الناتجة ، في ص 9 ) ، فيقول : (واستعمل المتصوفة المنحرفة طريقة الكشف والأحلام والخواطر لإثبات صحة كثير من الأحاديث الضعيفة ، وتضعيف كثير من الأحاديث الصحيحة ) . قال الشيخ محيي الدين بن عربي : ( ورب حديث يكون صحيحا من طريق رواته حصل لهذا المكاشف الذي عاين هذا المظهر ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الحديث الصحيح فأنكره - وقال له لم أقله ، ولا حكمت به فيعلم ضعفه ، فيترك العمل به على بينة من ربه ، وإن كان قد عمل به أهل النقل لصحة طريقه ، وهو في نفس الأمر ليس كذلك ) ، وهذا أيضا من عمل دعاة المتصوفة المنحرفين . وفي ص ( 50 ) يقول : (وقد اعتمد ضلال المتصوفة طريقة الكشف والخواطر في تفسير القران الكريم محتجين بحديث يسندونه إلى رسول الله !ؤ جاء فيه : "ما من آية إلا ولها ظاهر وباطن وحد ومطلع ، ولكل مرتبة من هذه المراتب رجال ، ولكل طائفة من هؤلاء الطوائف قطب ، وعلى ذلك القطب يدور فلك ذلك الكشف ") . وبعد : فهل عرف هؤلاء أن الشيخ البنا -رحمه الله - قد قطع على هؤلاء المتجاوزين هذا الطريق بحديثه سالف الذكر الذي حدد فيه مرجع المسلم في تعرف أحكام الإسلام بقوله : (والقرآن الكريم و السنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام ، ويفهم القران طبقا لقواعد اللغة بغير تكلف ولا تعسف ، ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات ).
وبذلك يتضح لنا :
أولا: رد الأستاذ البنا على هذه الأوهام لدعاة التصوف ، شأن العلماء الإثبات الذين يكشفون الزيغ أينما كان ، وحيثما كان ، وكان سابقا في الرد على هؤلاء في رسالة التعاليم الأصل الثالث السابق ، والأصل الثاني قبله كذلك .
ثانيا : هل قرأ هؤلاء الأصليين (الثالث عشر والرابع عشر) اللذين يقرر فيهما الشيخ البنا –رحمه الله " محبة الصالحين بدون مخالفة الشريعة شأنه في ذلك شأن إخوانه العلماء ، أمثال ابن تيمية ، ومحمد بن عبد الوهاب والطحاوي وغيرهم ، وهانحن نذكر ما قاله هؤلاء العلماء ، حتى تستبين سبيل الصالحين من غيرهم ، يقول الشيخ البنا في (الأصل الثالث عشر) :
( ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلى الله تبارك وتعالى، والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى: الذين آمنوا وكانوا يتقون(يونس : 63)، والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية مع اعتقاد أنهم رضوان الله عليهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا في حياتهم أو بعد مماتهم فضلا عن أن يهبوا شيئا من ذلك لغيرهم ) .
ونلاحظ هنا في قول الإمام البنا :
1 - أنه حدد من هو الولي بقوله : (والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى:الذين آمنوا وتهانوا يتقون) (يونس : 63) .
2 - أنه أثبت لهم الكرامة بشرائطها الشرعية .
3- أنه نفى عنهم الضر والنفع في حياتهم أو بعد مماتهم لأنفسهم أو لغيرهم . وهذا هو نفس ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في تحديد من هو الولي بقوله : (وأولياء الله هم المؤمنون المتقون -سواء سمى أحدهم فقيرا أو صوفيا أو فقيها أو عالما أو تاجرا أو جنديا أو صانعا أو أميرا أو حاكما أو غير ذلك - قال الله تعالى: " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (يونس : 62).
وفي إثبات الكرامة لهم يقول الإمام ابن تيمية : ( فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم فيفعلون ما أمر به فيؤيدهم بملائكته ، وروح منه ، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره ، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين ).
ثم ذكر طرفا منها في ص 276 ، 277 ، 278 ، 279 ، 280 ، 281 ، 282، فقال : (الكرامات ثابتة بشرائطها الشرعية ، وهذه جملة من كرامتهم ، وبعض أحوالهم "فسعد بن أبي وقاص " كان مستجاب الدعوة ما دعى قط إلا استجيب له وهو الذي هزم جنود كسري وفتح العراق . و "عمر بن الخطاب " لما أرسل جيشا أمر عليهم رجلا يسمى "سارية " فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر : يا سارية الجبل ، يا سارية الجبل ، فقدم رسول الجيش فسئل فقال : يا أمير المؤمنين لقينا عدوا فهزمونا ، فإذا بصائح : يا سارية الجبل ، يا سارلة الجبل ، فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله .
ولما عذبت " زنيرة " على الإسلام في الله ، فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها ،قال : المشركون أصاب بصرها اللات والعزى ، قالت : كلا والله ، فرد الله عليها بصرها.
ودعا "سعيد بن زيد " على أروى بنت الحكم فأعم بصرها لما كذبت عليه ، فقال : اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها ، واقتلها في أرضها ، فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت .
و" العلاء بن الحضرمي " كان عامل رسول الله في صلى الله عليه وسلم على البحرين ، وكان يقول في دعائه : يا عليم ! يا حليم ! يا علي ! يا عظيم ! ، فيستجاب له ، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عدموا الماء والإسقاء فدعا لهم فأجيب ، ودعا الله لما اعترضهم البحر، ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم ، ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات ، فلم يجدوه في اللحد .
وجرى مثل ذلك " لأبي مسلم الخولاني " الذي ألقى في النار فما أصابه شئ ، ومشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها ثم التفت إلى أصحابه فقال : أتفقدون من متاعكم شيئا حتى أدعو الله عز وجل فيه ؟ ، فقال بعضهم : فشدت مخلاة، فقال : اتبعني فوجدها قد تعلقت بشئ فأخذها ، وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة، فقال له : أتشهد أني رسول الله ، قال : ما أسمع ، قال : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال نعم ، فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلي فيها وقد صارت عليه بردا وسلاما ج وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق –رضي الله عنهما-وقال : الحمد الله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله . ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره . وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت ، وجاءت وتابت ، فدعا لها فرد الله عليها بصرها. وكان " عامر بن عبد قيس " يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه ، وما يلقاه سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد، ثم يجيئ إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها . ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بغيابه الأسد، ثم وضع رجله على عنقه ، وقال ة إنما أنت كلب من كلاب الرحمن ، وأني استحي أن أخاف شيئا غيره ، ومرت القافلة ، ودعا الله تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء ، فكان يؤتي بالماء له بخار، ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه .
وتغيب " الحسن البصري " عن الحجاج فدخلوا عليه رجاله ست مرات ، فدعا الله عز وجل فلم يروه ، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتا .
و "صلة بن أشيم " مات فرسه وهو في الغزو، فقال : اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة ، ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه ، فلما وصل إلى بيته ، قال : يا بني خذ سرج الفرس فإنه عارية ، فأخذ سرجه فمات الفرس ، وجاع مرة بالأهواز ، فدعا الله عز وجل واستطعمه ، فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير ، فأكل التمر وبقى الثوب عند زوجته زمانا، وجاء الأسد وهو يصلي في غيضة بالليل ، فلما سلم قال له : اطلب الرزق من غير هذا الموضع ، فولى الأسد وله زئير .
وكان " سعيد بن المسيب " في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلاة ، وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره . ورجل من " النخع " كان له حمار، فمات في الطريق ، فقال له أصحابه : هلم نتوزع متاعك على رحالنا ، فقال لهم : أمهلوني هنيهة ، ثم توضأ فأحسن الوضوء ، وصلى ركعتين ، ودعا الله تعالى، فأحيا له حماره فحمل متاعه . ولما مات " أويس القرني " وجدوا في ثيابه أكفانا لم تكن معه من قبل ، ووجدوا له قبرا محفورا فيه لحد في صخرة فدفنوه فيه ، وكفنوه في تلك الأثواب . وكان " عمرو بن عقبة بن فرقد " يصلي يوما في شدة الحر ، فأظلته غمامة ، وكان السبع يحميه وهو يرعن ركاب أصحابه ، لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أنه يخدمهم .
وكان " مطرف بن عبد الله بن الشخير" إذا دخل بيته سبحت معه آنيته ، وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة فأضاء لهما طرف السوط . ولما مات "الأحنف بن قيس " وقعت قلنسوة رجل في قبره فأهوى ليأخذها، فوجد القبر قد فسح فجه مد البصر.
وكان " إبراهيم التيمي " يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئا ، وخرج يمتاز لأهله طعاما، فلم يقدر عليه ، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها، ثم رجع إلى أهله ففتحها ، فإذا هي حنطة حمراء ، فكان إذا زرع منها تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا .
وكان "عتبة الغلام " سأل ربه ثلاث خصال صوتا حسنا ، ودمعا غزيرا ، وطعاما من غير تكلف ، فكان إذا قرأ بكى وأبكى ، ودموعه جارية دهره ، وكان يأوي إلى مغزله فيصيب فيه قوته ولا يدري من أين يأتيه . وكان "عبد الواحد بن زيد " أصابه الفالج ، فسأل ربه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء ، فكان وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه ثم تعود بعده . وهذا باب واسع قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع .
وأما ما نعرفه عن أعيان ونعرفه في هذا الزمان فكثير.
ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل ، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان ، أو المحتاج أتاه منها ما يقوى إيمانه ، ويسد حاجته ، ويكون من هو أكمل ولاية لله معه مستغنيا عن ذلك فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته ، وغناه عنها ، لا لنقص ولايته ؟ ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة ؟ بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهداية الخلق ، ولحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة .
وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية مثل حال " عبد الله بن صياد " الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال ، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال ؟ لكنه كان من جخس الكهان ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم في : "قد خبأت لك خبأ، قال : الدخ الدخ " .
وقد كان خبأ له سورة الدخان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " اخسأ فلن تعدو قدرك " . يعني إنما أنت من إخوان الكهان ؟ والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع ، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب ، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب ، فتذكر الأمر قضي في السماء ، فتسترت الشياطين السمع فتوجيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم " .
هذا هو ما قاله الإمام ابن تيمية في كرامات الأولياء ، فهل خرج عن كلام الشيخ البنا؟ ، وأقول : لقد زاد عليه بذكر جم غفير من كراماتهم .
وأيضا وافقه فيها الإمام محمد بن عبد الوهاب ، وهو يبين عقيدته لمن سأله عن ذلك ، فيقول . "وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات ، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله ).
وهو نفس ما قرره ولده عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حيث يقول : (ولا ننكر كرامات الأولياء ، ونعترف لهم بالحق ، وأنهم على هدئ من ربهم إذا ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية إلا أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادات لا حال الحياة ، ولا بعد الممات ). وهو نفس ما قرره الإمام الطحاوي في العقيدة الطحاوية ( المسألة 98 ، 99 ) بقوله : (ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء-عليهم السلام -، ونقول نبي واحد أفضل من جميع الأولياء) ، ويقول : (ونؤمن بما جاء من كراماتهم ، وصح عن الثقات من رواياتهم ) .
الشبهة الثانية: القبورية وعدم هدم القبور
ولنا وقفة مع اتهام الجماعة بشبهة عدم تغيير منكر القبور أو المشاهد والقباب ، وذلك أن كثيرا منهم يقولون في بعض البلدان التي تكون الجماعة فيها ذات شان وذات دور بارز في حياة الناس ، تنتشر بعض الشركيات القبورية كالتمسح بها ودعوة أصحابها والنذر بها ، ونحو ذلك .
الجواب عن هذه الشبهة
أن تغيير هذا النوع من المناكر إنما يجب على من تولي السلطة الفعلية ومارسها ، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه كان في مكة ثلاثة عشرة سنة يصلي في المسجد الحرام وفيه ثلاثمائة وستون صنما ، وكان يسكن في دار الأرقم على الصفا ، وعلى الصفا صنم اسمه إساف ، وعلى المروة صنم اخر اسمه نائلة .
ولم يرو عنه صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة أنه كسر صنما واحدا من هذه الأصنام ، ولا غير شيئا من هذه الشركيات لأنه لم يكن يستطيع وإنما كان يدعو الناس لاجتناب الشرك ويحاول !صلاحهم ما استطاع ، وهذا هو الدور نفسه الذي تقوم به الجماعة ، فإنها تدعو الناس لترك الشرك ، ومن انضم إلى صفوفها والتحق بها أو استطاعت التأثير فيه بأي وجه من الوجوه فإنه سيترك هذه الأعمال ولن يقترب منها أبدا ، بعد أن يعلم بالتي هي أحسن وتقام عليه الحجة ، والواقع أن هذا الأمر أيضا قد لا يكون من المصلحة البدء به ، فالجماعة تريد الوصول إلى قلوب بعض الناس لتهدم الأصنام في قلوبهم أولا ، حتى يقوموا هم بهدمها ثانيا في أرضهم .
وقال الإمام البنا - رحمه الله - : " إن الناس يعيشون في أكواخ من عقائدهم فلا تهدموا عليهم أكواخهم ، ولكن ابنوا لهم قصرا من العقيدة السمحة ، عندئذ سيهدمون أكواخهم بأيديهم " .
ولم يرو أن رسول صلى الله عليه وسلم قام في بدء أيامه في مكة وحتى في بدء أيامه في المدينة الأولى - قبل التمكين -بإزالة الأصنام عن الكعبة ولا عن مكة كلها ، ولا عن المسجد الحرام بخصوصه ، بل ثبت أنه قال لعائشة بعد الفتح : "لولا حدثان عهد قومك بالكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم "، وهذا يدل على تقديره لهذه المصالح وعنايته بها .
أما قصة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وتهديمه للأصنام فإنه ترك أحد هذه الأصنام ليموه به على قومه ، وأيضا فإن تهديمه للأصنام كان بعد أن أقام الحجة على قومه زمنا طويلا ، و لم يستطع أن يغير عقليات كبارهم ، ولم يؤمن له إلا لوط ، كما قال تعالى : " فآمن له لوط وقال إني مهاجرا إلى ربي " (العنكبوت : 26)، فحين أقام الحجة على قومه وأراد هجرتهم ومعاداتهم كسر الأصنام إلا صنما واحدا .
والواقع أيضا أن الذين ينكرون هذا النوع من الشركيات قد يغالون فينكرون بعض الأمور التي ليست داخلة في الشرك ، أو يظنون بعض الأمور شركا وليست شركا، من ذلك أن كثيرا منهم يغلو في زيارة القبور مثلا ، ويظن أن الذي يتردد على القبور ويزورها فيه مسحة من شرك ، وهو غلو ومخالفة للشرع ، فإن زيارة القبور من السنن ، وهي تذكر الاخرة كما أخبر الرسول !ز بذلك ، وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله !ذ كان في بيتها في ليلتها ففقدته ، فخرج إلى المقبرة ، وخرجت تشتد في أثره ، فإذا هو واقف عند رؤوس الموتى مستقبلا القبلة في اخر الليل يدعو لهم ، فوقفت عند ظهره ودعت عائشة رضي الله عنها . وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما تكاثر الناس بعدد الموتى ، نهاهم عن زيارة القبور، وأنزل الله تعالى : " ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر " (التكاثر : ا - 2) ، ثم بعد ذلك أمرهم بها فقال : "كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا" ، وفي رواية : "فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ". كذلك من الأمور التي يقع فيها الخلط السفر لزيارة القبور ، والدليل على أنها قول الجمهور أن السفر لزيارة القبور مباح أو سنة ، على نفس حكم الزيارة وذلك أن السفر إنما هو وسيلة ، وبحسب ما قصد بالوسيلة.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى تحريم السفر بقصد زيارة القبور ، وهذا الشمول من أقواله لم يسبق إليها ، وقد خالفه جمهور العلماء فجها ، وقد استدل بحديث آبي هريرة في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا ت! د الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى "، والواقع آن هذا الحديث لجسيم فيه دليل على تحريم شد الرحال إلى زيارة القبور ، لأن الواضح من دلالة الحديث آن المقصود لا تسد الرحال إلى مسجد بقصد النسك وأداء العبادة فيه إلا هذه المساجد الثلاثة ، أما شد الرحال في غير ذلك فإنه لا يمكن أن ينفي ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشد الرحال للغزو والجهاد في سبيل الله ، وإن الأمة والخلفاء من بعده شدو الرحال إلى أمور أخرى .
عمر بن الخطاب سافر إلى الشام بقصد الهدنة مع أهل فلسطين ، وكذلك سافر بعض أصحاب رسول الله برت في طلب الحديث شهرا كاملا ، وكذلك الآثمة من بعدهم كانوا يسافرون لطلب الحديث ، ويسافرون للتجارة ، ويسافرون للعمل ، ويسافرون لزيارة ا لإخوان .
فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن "رجلا ممن قبلنا سافر إلى قرية وبعث الله إليه ملكا على مدرجته ، فاستقبله فقال : ما أتى بك يا عبدالله إلى هذه القرية؟ فقال : زيارة أخ لي في الله ، فقال : هل لك من يد تربها عليه ؟ فقال : لا غير أني أحبه في الله ، قال : ليس لك يد عليه غير هذه ؟ قال : نعم ، قال : فإنني رسول الله إليك ، إنه قد غفر لك بزيارتك لأخيك ". فهذا يدل على أهمية الأسفار لبعض العبادات ، وإن لم يرد بخصوصها أمر بعينها ، ولاشك أن المسألة مادامت محل خلاف بين العلماء ، والدليل فيها غير واضح ، فإنها ليست من المنكرات التي يجب تغييرها ولا إنكارها ، ومن اقتنع برأي من هذه الآراء بعد معرفة دليله فلا حرج عليه في الأخذ به ، وهذا ما لا تنكره الجماعة ولا ترف موقفا موحدا مفروضا على كل أفرادها في هذا المجال .
ومع هذا فإن الإخوان لا يرون شد الرحال إلى القبور خروجا من الخلاف ، ولكل رأيه ورأي الجمهور محترم .
الإمام البنا يكشف انحرافات القبوريين
ثم يتحدث الإمام البنا - رضي الله عنه - عن خرافات المنحرفين في زيارات القبور والتمسح بها فيقول في الأصل رقم ( 14 ) : ( وزيارة القبور أيا كانت سنة مشروعة بالكيفية المأثورة ، ولكن الاستعانة بالمقبورين أيا كانوا ونداءهم لدلك ،وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد، والنذر لهم ، وتشييد القبور وسترها ، وإضاءتها ، والتمسح بها ، والحلف بغير الله وما يلحق بلت لك من المبتدعات ، كبائر تجب محاربتها - ولا نتاول لهذه الأعمال سدا للذريعة)
ثم يقول :
(والتمائم والرقى والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب ، وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته ، إلا ما كان آية من قرآن أورقية مأثورة)
ونلاحظ هنا :
ا - أنه بين أن زيارة القبور سنة مشروعة بالكيفية المأثورة ، أي الواردة عن الرسول في قوله : "كنت نهيتكم عن زيارة القبور . . فزوروها".
2 - أنه أنكر على من طلب من المقبورين أو استعان بهم أو نذر لهم أو شيد لهم قبرا بما يعرف بالأضرحة أو سترها أو تمسح بها أو حلف بغير الله ، وكل ما يحدث عند القبور من مثل الطواف بها والتبرك بها والذبح لها وعندها .
3-أنه وصفها بالمبتدعات .
4 -وأنها كبائر تجب محاربتها أولم يهادن في ذلك .
5 - قوله : (ولا نتأول لهذه الأعمال سدا للذريعة) . ونود هنا أن نلقي الضوء على هذه الأمور، ونعرضها على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأقوال العلماء ، والسلف الصالح ، ونذكر آراء الإمام ابن تيمية وابن عبد الوهاب في ذلك :
زيارة القبو سنة مشروعية بكيفية معينة :
في هذا الأصل يقول الشيخ البنا -رحمه الله ورضي عنه -: ( زيارة القبور أيا كانت سنة مشروعة بالكيفية المأثورة) . وهذا ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح -رضوان الله عليهم - :
أ - روي مسلم عن بريدة -رضي الله عنه -عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنه قال : "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإنها تذكركم الآخرة غير أن لا تقولوا هجرا".
2 - وقد زار الرسول لمج!لم لبر أمه ، وقال : " استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي ، واستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي " ( رواه مسلم عن أبي هرير ة ).
3 - وقال أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " زر القبور تذكر بها الآخرة ، واغسل الموتى فإن معالجة جسد خاو موعظة بليغة ، وصل على الجنائز لعل ذلك أن يحزنك فإن الحزين ظل الله ".
4 - " وعن نافع أن ابن عمر كان لا يمر بقبر أحد إلا ولف وسلم عليه .
5 - وفي صحيح مسلم عن بريدة قال : كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم : "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العا فية ".
6 - وفي سنن ابن ماجه عن عائشة -رضي الله عنها -أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو بالبقيع فقال : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، أنتم لنا فرط ، وإنا بكم لاحقون ، اللهم لا محرمنا أجرهم ، ولا تفتنا بعدهم ".
7- وروي الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه ، فقال : " السلام عليكم أهل القبور ، يغفر الله لنا ولكم ، وأنتم سلفنا ، ونحن بالأثر ".
8 - قال نافع : كان ابن عمر وقد رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر، فيقول : السلام على النبي ، السلام على أبي بكر ، السلام على أبي ، وينصرف .
9 - وعن أبي أمامة قال : رأيت أنس بن مالك ، أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقف ، فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف .
ولا شك أن زيارة القبور بالطريقة المأثورة تذكر بالموت وانقطاع هذه الحياة ، وانقضاء إلف اللذات والشهوات ، وتفكر فيما يصير إليه من ضيق اللحود وصولة الدود ، وهو لا يدري ما يؤول إليه من شدة الحساب ، وصعوبة الجواب ، ولا شك أن في هذا إحسانا إلى الميت بالسلام عليه ، والدعاء له بالرحمة والمغفرة وسؤال العافية .
وبعد ، فهل ترى أن الشيخ البنا -رحمه الله -خرج في الأصل الذي قرره عن هذا ، أم أنه قرر سنة رسول الله جم!ته ، ونبه على الطريقة المشروعية التي وردت خوفا من الابتداع أو الغلو، أو اتباع طريق الجاهلين ؟ !
النهى عن الزيارات البدعية
نبه الشيخ البنا خطر الزيارات البدعية للقبور شأن علماء السلف ، وخوف التدرج إلى زيارات بدعية جاهلية لا يرضاها الله ورسوله ، وتؤدي إلى الزيغ في الاعتقاد والانحراف في الدين . فقال : (ولكن الاستعانه بالمقبورين أيا كانوا ، ونداءهم لذلك ، وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد ، والنذر لهم ، وتشييد القبور وسترها ، وإضاءتها ، والتمسح بها ، والحلف بغير الله وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها ،ولا نتاول لهذه الأعمال سدا للذريعة) .
وهذا كما ترى ، هو إجماع العلماء الذي عليه سنة رسول الله !ي!نر والسلف الصالح - رضوان الله عليهم - :
ا - في صحيح مسلم وغيره ، عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه -: ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلمألا تدع تمثالا إلا طمسته ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته ).
2 - وفي الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال وهو في سكرات الموت : " لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا ، وفي لفظ : "قاتل الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
3 - وأخرج أحمد في مسنده أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد " .
حرمة النذر لغير الله .. واتخاذ السرج على القبور
ا - في الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما -أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ".
وقد نهى رسول الله لمجبز أن يتبع الميت بنار، فكيف يفعل ذلك على قبره ، قال العلامة (البركوي ) : فكل ما لعن صلى الله عليه وسلم، فهو من الكبائر ، وقال الشيخ على محفوظ - صاحب كتاب (الإبداع في مضار الابتداع ) : ولهذا قال العلماء : لا يجوز النذر للقبور ولا يضاء عليها سرج ولا شمع ولا زيت ، ولا غير ذلك ، فإنه معصية لا يجوز الوفاء به بالاتفاق ، ولا أن يوقف عليه شئ لأجل ذلك ، فإن هذا الوقف لا يصح ولا يحل إثباته ولا تنفيذه .
ففي الدر المختار وحواشيه من كتب الحنفية وتابعه عليه الفقهاء : (اعلم أن النذر الذي يقع للأموات من أكثر العوام ، وما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها إلى ضرائح الأولياء تقربا إليهم ، كأن يقول : يا سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مرضي ، أو قضيت حاجتي ، فلك من النقد أو الطعام ، أو السمع ، أو الزيت كذا فهو باطل بالإجماع وحرام ، لوجوه : منها : أنه نذر لمخلوق ، والنذر للمخلوق لا يجوز، لأنه عبادة ، وهي لا تجوز إلا لله تعالى ، ومنها : أن المنذور له ميت ، والميت لا يملك ، ومنها : أنه إن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى فاعتقاده ذلك كفر والعياذ بالله ).
وقد نقل هذا عنه ابن نجيم في (البحر الرائق ) . ونقله المرشدي في تذكرته وغيرهما ، وقد قال بهذا الرأي الرافعي رأس الشافعية ، في شرح المنهاج . وعلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رضي الله عنه -حيث قال : (وأما ما نذر لغير الله ، كالنذر للأصنام والشمس والقمر ونحو ذلك ، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات ، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة ، وكذلك الناذر للمخلوقات . . . إلخ ) . وقال بهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي ، حيث قرر أن النذر المعصية لايجب الوفاء به ، وإذا ثبت كونه عباده فصرفه إلى غيره شرك .
وفي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها -: أن رسول الله قال : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه "، وقال تعالى:" وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (الأنعام : 136).
النهي عن التمسح بالقبور
كذلك نهى العلماء عن التمسح بالقبور والتجرد بها وبالأشجار.ونحوها ، حيث قرروا : أنه من البدع السيئة الطواف حول الأضرحة ، والتمسح بها ، فإنه لم يعهد طواف إلا بالبيت ، وكذلك لم يشرع تقبيل واستلام إلا للحجر الأسود ،
قال في المدخل :
(فترى من لا علم عنده يطوف بالقبر الشريف " قبر الرسول صلى الله عليه وسلم" كما يطوف بالكعبة الحرام ويتمسح به ، ويقبله ، ويلقون عليه مناديلهم وثيابهم يقصدون به التبرك ، وذلك كله من البدع ، لأن التبرك إنما هو بالاتباع له صلى الله عليه وسلم وما كان سبب عبادة الجاهلية للأصنام إلا من هذا الباب ، ولأجل ذلك كره علماؤنا -رحمة الله عليهم أجمعين - التمسح بجدار الكعبة أو بجدران المسجد أو بالمصحف . . إلى غير ذلك سدا لهذا الباب ، ولمخالفته السنة .
وعلى هذا الرأي إجماع العلماء ، ومنهم الإمام ابن تيمية ، والإمام ابن عبدالوهاب - رحمهما الله تعالى- وكذلك قرر هذا كما سبق الإمام البنا في أرفع صورة وأوجزها . عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ، ونحن حدثا عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها ، وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها : "ذات أنواط " ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر ، إنها السنن ، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، قال إنكم قوم تجهلون " لتركبن سنن من كان قبلكم ".
ولقد استخرج الإمام ابن عبد الوهاب من هذا الحديث اثنتين وعشرين مسألة على بطلان أشجاء وتبديعها.
الحلف بغير الله . . ودعاء غير الله
أما الحلف بغير الله ، أو النهي عن الاستعانة بالمقبورين ، فقد أشار إليهما الشيخ البنا - رضوان الله عليه -، ووضح حرمتهما ، وحذر من ذلك أشد التحذير ، سواء كان الحلف بالأباء أو بالصالحين ونحوهم . وهذا ما قررته الشريعة ، وحثت عليه :
ا - عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-قال : عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ".
2 - وفي حديث آخر قال : إن النبي سمع عمر وهو يحلف بأبيه ، فقال : "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ".
3- وعن عبد الله بن سمرة-رضي الله عنه -قال : قال رسول الله في صلى الله عليه وسلم : "لا تحلفوا بالطواغي ولا بابائكم " (أخرجه مسلم ) ، وفي رواية النسائي : " لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت ".
4 - وقال تعالى: " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم غن دعائهم غافلون وإذا حشر الناش كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " (الأحقاف :5 -6) .
فدعاء غير الله تبارك وتعالى ، واعتقاد أنه ينفع أو يضر مناف للإيمان ، قال تعالى:" قل أتدعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران * (الأنعام : 71) . وقال تعالي : " ادعوا ربكم تفرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين * (الأعراف :55) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : كل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة ، . . و( دعاء المسألة أن تسأل الله حوائجك ، ودعاء العبادة أن تسأل الله وتتضرع إليه أن يغفر وأن يرحم . . إلخ ) .
فدعاء المسألة كقول زكريا -عليه السلام -: " قال رب إني وهن العظيم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * (مريم : 4 ) .
ثم طلب الولد ، ودعاء العبادة ، كالذاكر لله ، والتالي لكتابه ، فهو طالب من الله الثواب والمغفرة في المعنى ، فإذا قصد بهذا الدعاء غير الله ، كان ذلك مروقا من ا للإسلام .
ثم يقول ابن تيمية : فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق من الإسلام لأسباب ، منها : الغلو في بعض المشايخ . . . فكل من غالي في نبي أو صالح ، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني ، أو أعني ، أو ارزقني . . فكل ذلك شرك وضلال.
وعلى هذا فقهاء الأمة ، وابن القيم والشافعية والحنفية وغيرهم ، قرر ذلك الحنفية في الفتاوى البزازية ، وقال الشيخ صنع الله الحنفي -رحمه الله -: قد ظهر الآن بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم ومماتهم . . . وهذا كلام فيه تفريط وإفراط ، وفيه الهلاك الأبدي لما فيه من روائح الشرك ومصادمة الكتاب العزيز.
الشبهة الثالثة: التوسل
مما أثاره المفترون حول الشيخ البنا - رضي الله عنه - قولهم :
أ - إنه -رحمه الله -يقول : ( إن الدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء ، وليس من مسائل العقيدة ).
ب- الشيخ البنا-رحمه الله -يكون بذلك قد خالف علماء الأمة في أمرين :
أحدهما: أن العلماء لم يختلفوا حول التوسل إلن الله بأحد من الخلق وهو يقول بعكس ذلك .
الثاني: أن التوسل بأحد الخلق مخالفة عقائدية تؤدي إلى الكفر والشرك ، وهو يقول : إنها من مسائل الفقه التي تتعلق بالحلال والحرام ، وليس بالكفر والشرك . وعلى هذا فالمنكرون على الشيخ البنا-رحمه الله -ينكرون خلاف العلماء حول التوسل بأحد من خلقه ، ثم يقولون ، بعد ذلك أن هذا التوسل من أمور العقيدة التي تؤدي إلى الشرك ، ويكفر القائل بذلك .
ونحن بدورنا لابد لنا -كي يظهر الحق من الباطل ، ويستبين الهدى من الضلال ويتضح سبيل المؤمنين ت أن نحقق تلك المسائل بأقوال العلماء الأفاضل من سلف الأمة الصالح من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية ، والشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمهم الله تعالى- وغيرهما : فنبدأ أولاببيان ما اختلط على القوم من عدم تفريقهم بين الاستغاثة المحرمة ، والتي هي من أمور العقيدة وبين التوسل الذي هو من أمور الفقه ألذي اختلف حوله العلماء ، وهو يدخل في أبواب الحل والحرمة ، فنجد ببيان الفرق بين الاستغاثة و التوسل . الفرق بين الاستغاثة والتوسل .
الفرق بين الاستغاثة والتوسل
يحسن بنا أولا أن نعرف الاستغاثة ونذكر من صورها ما يوضح الجائز منها والممنوع :
1-تعريف العلماء للاستغاثة :
هي طلب العون وتفريج الكروب.
ما يعتريها من أحكام : يعتري هذه الاستغاثة أربعة أحكام :
أ - الإباحة : وذلك في طلب الحوائج من الأحياء فيما يقدرون عليه كقوله تعالى( فاستغاثة الذي من شيعته على الذي من عدوه ) (القصص :15 ).
ب - الاستغاثة المندوبة ( المطلوبة ) الاستغاثة بالله : قا ل تعالى:"إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (الأنفال : 9 ) .
( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ) (النمل : 62) .
ج . الاستغاثة الواجبة : وذلك إذا ترتب على ترك الاستغاثة هلاك الإنسان .
د . الاستغاثة الممنوعة، وذلك إذا استغاث الإنسان في الأمور المعنوية بمن لا يملك القوة أو التأثير سواء كان المستغاث به جنا أو إنسانا أو ملكا أو نبيا كأن يستغاث بهم ولا يستغاث بالله تعالى في تفريج الكروب عنهم أو طلب الرزق ، فهذا غير جائز بإجماع العلماء وهو من الشرك ،( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ) وهذا يخالف تماما التوسل ، وإليك بيان حقيقة التوسل .
2 - معنى التوسل :
يطلق التوسل على : ما يتقرب به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المنهيات ، وعليه حمل المفسرون قوله تعالى: ( وابتغوا إليه الوسيلة ) ، كما يطلق التوسل أيضا على التقرب إلى الله بطلب الدعاء من الغير، وعلى الدعاء المتقرب به إلى الله تعالى باسم من أسمائه أو صفة من صفاته ، أو بأحد من خلقه كنبي أو صالح.
الفرق بين الاستغاثة والتوسل:
هذا وخلط هؤلاء لعدم علمهم وعدم اطلاعهم على أقوال العلماء بين الاستغاثة والتوسل ( وبهذا قد خلطوا بين ما هو من العقيدة وما هو من الفقه ) وهذا أمر يدعو إلى الاستغراب والعجب ، وها نحن ندع لشيخ الإسلام ابن تيمية بيان الفرق بينهما بقوله- رحمه الله تعالى-: ( لم يقل أحد أن التوسل بنبي ، هو استغاثة به ، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور ، كقول أحدهم : أتوسل إليك بحق الشيخ فلان ، أو بحرمته ، أو أتوسل إليك باللوح والقلم ، أو بالكعبة ، أو غير ذلك ، مما يقولونه في أدعيتهم ، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور ؟ فإن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم طالبا منه وسائلا له ، والمتوسل به لا يدعي ولا يطلب منه ولا يسأل ، وإنما يطلب به ، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به.
و الاستغاثة : طلب الغوث ، وهو إزالة الشدة ، كالاستنصار طلب النصر ، والاستعانة طلب العون ، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها ، كما قال تعالى: ( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) ، وكما قال تعالى: ( فاستغاثة الذي من شيعته على الذي من عدوه ) (القصص : 15 )، وكما قال سبحانه : ( وتعاونوا على البر والتقوى) (المائدة : 2 ) .
وأما ما لا يقدر عليه إلا الله ، فلا يطلب إلا من الله ، ولهذا كان المسلمون لا يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم بل يستسقون به ، ويتوسلون به ، كما في صحيح البخاري : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استسقى بالعباس وقال : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. ثم يقول أيضا : (وقول القائل : أن من توسل إلى الله بنبي ، فقال : أتوسل إليك برسولك فقد استغاث برسوله حقيقة ، في لغة العرب وجميع الأمم قد كذب عليهم ، فما يعرف هذا في لغة أحد من بني آدم ، بل الجميع يعلمون أن المستغاث مسئول به مدعو ، ويفرقون بين المسئول والمسئول به ، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق ، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على النصر فيه ، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك.
ولو قال قائل لمن يستغيث به : أسألك بفلان ، أو بحق فلان ، لم يقل أحد أنه استغاث بما توسل به ، بل إنما استغاث بمن دعاه ، وسأله [وعلى هذا فالاستغاثة ، تخالف التوسل تماما ، وليس بينهما صلة في الحكم ] . هذا وينبغي لنا أن نعرف التوسل ، ونذكر ما ورد فيه من آراء واختلاف للفقهاء حوله .
وقد قال العلماء : التوسل من الوسيلة ، ومعنى الوسيلة : القربة والواسطة ، وهي ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به ، وكذلك التوصل إلى الشيء برغبة .
أنواع التوسل
أولاً : التوسل ( الذي لا خلاف عليه ) المتفق عليه
1- التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته : والدليل على مشروعيته قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها )(الأعراف : 180 ) .
2- التوسل إلى الله بدعاء الرسول حال حياته: وقد وردت أمثلة من هذا في السنة الشريفة ، فمن ذلك ما رواه أنس –رضي الله عنه - :( أن رجلا دخل يوم الجمعة على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قائم يخطب ، فقال يا رسول الله هلكت المواشي فادع الله يغيثنا ، قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال : "اسقنا اللهم اسقنا " .
قال أنس : والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا، وما بيننا وبين سلع –جبل يدعن سلع –من بيت ولا دار، فقال :( فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس ، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت ، قال والله ما رأينا الشمس سبتا . . الحديث ).
وقد كان الصحابة يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم ، كما في حديث : ( يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم لما أخبرهم بأنه يدخل الجنة سبعون ألفا).
وقول المرأة التي كانت تصرع : ( يا رسول الله أدع لي الله ). كما روي أن رجلا ضرير البصر أتى إلى النبي صلى الله علية وسلم فقال : (أدع الله أن يعافيني ).
3 - التوسل بالأعمال الصالحة : التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة التي قام بها الداعي كأن يقول اللهم بإيماني بك ، ومحبتي لك ، واتباعي لرسولك ، اغفر لي .
ومنه أن يذكر الداعي عملا صالحاً ذا بال كان يعمله طاعة لله وإخلاصا لوجهه الكريم ، فيتوسل به إلى الله في دعائه ، ليكون أحرى لقبوله وإجابته .
والدليل على مشروعيته قوله تعالى: ( الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ) (آل عمران : 16 ) .
وقوله عن الحواريين : (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) (آل عمران : 53) .
ويدل أيضا على هذا النوع من التوسل ما ورد بشأن الثلاثة أصحاب الغار الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار ولم ينجهم منها إلا دعاء كل واحد منهم إلى الله بأفضل ما قدمه من أعمال . . . القصة ) الحديث.
4 - التوسل إلى الله بدعاء من ترجى إجابته من أهل الصلاح والتقوى وأهل العلم بالكتاب والسنة:
وقد وردت أمثلة من هذا النوع في السنة الشريفة ، كما وقعت نماذج من فعل الصحابة - رضوان الله عليهم ..
ومنه ما رواه أنس - رضي الله عنه -أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب ، فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، قال : فيسقون .
ومثل ما فعله عمر فعل معاوية بن أبي سفيان بحضرة من معه من الصحابة والتابعين
ولما أجدب الناس بالشام حيث استسقوا بيزيد بن الأسود الجرشي وتوسلوا به كما توسل عمر بالعباس ، فقال : أى معاوية اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا ، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي ، يا يزيد ارفع يديك إلى الله . فرفع يديه ، ورفع الناس أيديهم ، فما كان إلا أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس ، وهبت لها ريح ، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم .
-5 التوسل بالنبي صلى الله علية وسلم بعد مماته :
كأن يقول القائل أسألك يارب بنبيك محمد ، ويريد : أني أسألك بإيماني به وبمحبته . وأتوسل إليك بإيماني به يا رب وبمحبته . ونحو ذلك .
قال ابن تيمية : من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع ، ويحمل على هذا المعنى كلام من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السلف ، كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين ، وعن الإمام أحمد وغيره ، وعلى هذا لا يكون في المسألة نزاع أو خلاف.
ثانيا: التوسل المختلف فيه بين الأئمة
1- التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته : ( الذي اختلف فيه العلماء ):
اختلف العلماء في مشروعية التوسل النبي صلى الله علية وسلم بعد وفاته كقوله القائل : اللهم إني أسألك بنبيك أو بجاه نبيك أو بحق نبيك ، على أقوال ثلاثة :
القول الأول: ذهب جمهور العلماء الفقهاء ( المالكية والشافعية ومتأخرو الحنفية وهو المذهب عند الحنابلة ) إلى جواز هذا النوع من التوسل سواء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته.
قال القسطلانى : وقد روي أن مالكا لما سأله أبو جعفر المنصور العباسي -ثاني خلفاء بني العباس -يا أبا عبد الله أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو أم أستقبل القبلة وأدعو ؟
فقال له مالك : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم –عليه السلام – إلى الله عز وجل يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله .
وقد روى هذه القصة أبو الحسن علي بن فهر في كتابه ( فضائل مالك ) بإسناد لا بأس به وأخرجها القاضي عياض في الشفاء من طريقه عن شيوخ عدة من ثقات مشايخه.
وقال النووي في بيان آداب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم : ثم يرجع الزائر إلى موقف قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتوسل به ويستشفع به إلى ربه ، ومن أحسن ما يقول الزائر، ما حكاه الماوردي والقاضي وأبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له قال : كنت جالسا عند قبر النبي فجاءه أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله . سمعت الله تعالى يقول : ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ) (النساء : 64) .
وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي . ثم أنشأ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
- وطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
- فيه العفاف وفيه الجود والكرم
وقال العز بن عبد السلام : ينبغي كون هذا مقصوراً على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم ، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته ، وأن يكون مما خص به تنبيها على علو رتبته .
وقال السبكي : ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي إلى ربه . وفي إعانة الطالبين : . . . وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي.
ما تقدم أقوال المالكية والشافعية .
وأما الحنابلة فقد قال ابن قدامه في المغني بعد أن نقل قصة العتبى مع الأعرابي : (ويستحب لمن دخل المسجد أن يقدم رجله اليمنى . . إلى أن قال : ثم تأتي القبر فتقول . . وقد أتيتك مستغفرا من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي . . ) ومثله في الشرح الكبير.
وأما الحنفية : فقد صرح متأخر وهم أيضا بجواز التوسل بالنبي صلى الله علية وسلم فقال الكمال بن الهمام في فتح القدير : ثم يقول في موقفه : السلام عليك يا رسول الله . . ويسأل الله تعالى حاجته متوسلا إلى الله بحضرة نبيه عليه الصلاة والسلام .
وقال صاحب الاختيار فيما يقال عند زيارة النبي صلى الله عليه وسلم (جئناك من بلاد شاسعة . . . والاستشفاع بك إلى ربنا) ثم يقول : مستشفعين بنبيك إليك .
ومثله في مراقي الفلاح والطحاوي على الدر المختار والفتاوى الهندية .
ونص هؤلاء : عند زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم :( اللهم . . . وقد جئناك سامعين قولك طائعين أمرك ، مستشفعين نبيك إليك ) .
وقال الشوكاني : ويتوسل إلى الله بأنبيائه والصالحين.
وقد استدلوا لما ذهبوا إليه بما يأتي:
أ - قوله تعالى: ( وابتغوا إليه الوسيلة) (الماثدة :35) .
ب - حديث الأعمى المتقدم وفيه : ( اللهم أني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة . . . فقد توجه الأعمى في دعائه بالنبي صلى الله عليه وسلم (أي بذاته ) .
جـ قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء لفاطمة بنت أسد : " اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين ".
د- حديث الرجل الذي كانت له حاجة عند عثمان بن عفان -رضي الله عنه - : روى الطبراني والبيهقى أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في زمن خلافته ، فكان لا يلتفت ولا ينظر إليه في حاجته ، فشكا ذلك لعثمان بن حنيف ، فقال له : ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ، ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة . يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك لتقضي حاجتي ، وتذكر حاجتك ، فانطلق الرجل فصنع ذلك ، ثم أتى باب عثمان بن عفان -رضي الله عنه -، فجاء البواب فأخذ بيده ، فأدخله على عثمان -رضي الله عنه - فأدخله معه وقال له : اذكر حاجتك ، فذكر حاجته فقضاها له ، ثم قال : مالك من حاجة فاذكرها .
ثم خرج من عنده فلقي ابن حنيف فقال له : جزاك الله خيرا ما كان ينظر لحاجتي حتى كلمته لي ، فقال ابن حنيف ، والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره. إلى آخر حديث الأعمى المتقدم .
قال المباركفوري : قال الشيخ عبد الغني في إنجاح الحاجة : ذكر شيخنا عابد السندي في رسالته والحديث - حديث الأعمى - يدل على جواز التوسل والاستشفاع بذاته المكرمة في حياته ، وأما بعد مماته فقد روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن
حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان . . إلى آخر الحديث .
وقال الشوكاني : دليل على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى ، وأنه المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
القول الثاني : في التوسل النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته :
جاء في التاتر خانية معزيا للمنتقى : روي أبو يوسف عن أبي حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به ( أي بأسمائه وصفاته ) والدعاء المأذون فجه المأمور به ما استفيد من قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) (الأعراف : 18 ) .
- وعن أبي يوسف أنه لا بأس به ، وبه أخذ أبو الليث للأثر .
- وفي الدر : والأحوط الامتناع لكونه خبر واحد فيما يخالف القطعي ، إذ المتشابه إنما يثبت بالقطعي.
-أما التوسل بمثل قول القائل : بحق رسلك وأنبيائك وأوليائك ، أو بحق البيت فقد ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى كراهيته ، قال الحصكفي : لأنه لا حق للخلق على الله تعالى وإنما يخص برحمته من يشاء من غير وجوب عليه .
قال ابن عابدين : قد يقال : إنه لا حق لهم وجوبا على الله تعالى لكن الله سبحانه وتعالى جعل لفم حقا من فضله ، أو يراد بالحق الحرمة والعظمة ، فيكون من باب الوسيلة ، وقد قال تعالى: ( وابتغوا إليه الوسيلة).
وقد عد من آداب الدعاء التوسل على ما في ( الحصن )، وجاء في رواية " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ، وبحق ممشاي إليك ، فإني لم أخرج أشرا و لا بطرا " الحديث .
ويحتمل أن يراد بحقهم علينا وجوب الإيمان بهم وتعظيمهم . وفي (اليعقوبية) : يحتمل أن يكون الحق مصدرا لا صفة مشبهة، فالمعنى بحقية رسلك ، فليتأمل ا . هـ . أي : المعنى بكونهم حقا لا بكونهم مستحقين . أقول –أي ابن عابدين - : لكن هذه كلها احتمالات مخالفة لظاهر المتبادر من هذا اللفظ ، ومجرد إيهام اللفظ ما لا يجوز كاف في المنع . . فلذا والله أعلم أطلق أئمتنا المنع ، على أن إرادة هذه المعاني مع هذا الإيهام فيها ا،الأقسام بغير الله تعالى وهو مانع اخر، تأمل.
هذا ولم نعثر في كتب الحنفية على رأي لأبي حنيفة وصاحبيه في التوسل إلى الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم في غير كلمة " بحق " وذلك كالتوسل بقوله : "بنبيك " ، أو "بجاه نبيك " ، أو غير ذلك إلا ما ورد عن أبي حنيفة - في رواية أبي يوسف - قوله : (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به ) .
القول الثالث : في التوسل النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته :
ذهب تقي الدين بن تيمية ، وبعض الحنابلة من المتأخرين إلى أن التوسل بذات إلى بي في لمجبته لا يجوز، وأما التوسل بغير الذات فقد قال ابن تيمية : ولفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور : يراد به أمران متفق عليهما بين المسلمين :
أحدهما : هو أصل الإيمان والإسلام ، وهو التوسل با لإيمان به صلى الله عليه ولم وبطاعته .
والثاني : دعاؤه وشفاعته صلى الله عليه وسلم ( أي في حال حياته ) وهذا أيضا نافع يتوسل من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين .
الثالث: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته صلى الله عليه وسلم ، والسؤال بذاته ، فهذا ص الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ، لا في حياته ولا بعد مماته ، لا عند قبره ولا غير قبره ، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم ، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة ، أو عمن ليس قوله حجة .
وذهب ابن تيميه إلى أن التوسل بلفظ ( أسألك بنبيك محمد ) يجوز إذا كان على تقدير مضاف ، فيقول في ذلك : ( فإن قيل : إذا كان التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته على وجهين : تارة بالتوسل بذلك إلى ثواب الله وجنته ( وهذا أعظم الوسائل ) تارة.
يتوسل بذلك في الدعاء -كما ذكرتم نظائره - فيحمل قول القائل : أسألك بنبيك محمد على أنه أراد : أني أسألك بإيماني به وبمحبف ، وأتوسل إليك بإيماني به ومحبف ونحو ذلك ، وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع . قيل : من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع ، وإذا حمل على هذا المعنى لكلام من توسل بإلى بي لمج!و بعد مماته من السلف ، كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين ، وعن الإمام أحمد وغيره ، كان هذا حسنا ، وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع ، ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ ، ولايريدون هذا المعنى ، فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر، وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل بدعائه وشفاعته وهذا جائز بلا نزاع .
وقد نقل عن ابن تيمية-رضي الله عنه -أنه قال بذلك ، فقد نقل عن المجموعة العلمية ص 65 ، وهي مخطوطة في مكتبة الظاهرية بدمشق بخط شرف الدين بن تيمية -أخو الحافظ ابن تيمية - قوله : (وأما حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي فتقديم محبته على النفس والأهل والمال وتعزيره وتوقيره ، وإجلاله وطاعته ، واتباع سنته ، وغير ذلك فعنن جدا ، وكذلك ما يشرع به في الدعاء كما في حديث رواه الترمذي وصحى "اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، يا محمد يا رسول الله ، إني أتوسل بك إلى ربي في حاجة لتقضيها اللهم فشفعه في ) . فهذا التوسل به حسن.
ثم يقول : والذي قاله أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك يتضمن شيئين كما تقدم :
أحدهما : الأقسام على الله سبحانه وتعالى به ، وهذا منهي عنه عند جماهير العلماء كما لقدم كما ينهي أن يقسم على الله بالكعبة والمشاعر باتفاق الفقهاء .
والثاني : السؤال به فهذا يجوزه طائفة من الناس ، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف ، وهو موجود في دعاء كثير من الناس ، لكن ما روي عن النبي !ذ في ذلك كله ضعيف بل موضوع ، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة إلا حديث الأعمى الذي علمه أن يقول : أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ).
وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه ، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته ، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء ، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : ( اللهم شفعه في ) . ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك يعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم. ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدع لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله.
وساغ النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الأقسام بهم ، لأن بين السؤال والأقسام فرقا ، فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة ، والمقسم أعلى من هذا ، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم ، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى أنه يبر قسمه ، فإبرار القسم خاص ببعض العباد ، وأما إجابة السائلين فعام ، فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم ، وإن كان كافرا ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن تعجل له دعوته في الدنيا ، واما أن يدخرها له في الآخرة مثلها ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها . قالوا إذا نكثر، قال : : الله أكثر".
وهذا التوسل بالأنبياء بمعنى السؤال بهم -وهو الذي قال عنه أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم : أنه لا يجوز - ليس في المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك ، فمن نقل عن مذهب مالك أنه جوز التوسل به بمعنى الإقسام أو السؤال به فليس معه في ذلك نقل عن مالك وأصحابه ، ثم يقول : ولم يقل أحد من أهل العلم : أنه يسأل الله تعالى في ذلك لا بنبي ولا بغير نبي .
وكذلك من نقل عن مالك أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين - غير ذلك -كالشافعي وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم، وليس مع ابن تيمية دليل على قوله هذا ، وإلا أتى به خاصة في موقف الخصومة ، ولكنه يقرر أن المسألة خلافية لكل فيها رأيه .
- ثم يقرر ابن تيمية في كتابه "قاعدة جليلة" أن هذه المسألة خلافية وأن التكفير بها حرام وإثم .
- ويقول بعد ذكر الخلاف في المسألة : ولم يقل أحد : إن من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره ، فإن هذه مسألة خفية ليست أدلتها جلية ظاهرة ، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين بالضرورة ، أو بإنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها ونحو ذلك . بل المكفر بمثل هذه الأمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله من المفترين على الدين ، لا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيما رجل قال لأخيه : يا كافر فقد باء به أحدهما ).
2 - التوسل بالصالحين من غير النبي :
لا يخرج حكم التوسل بالصالحين من غير النبي صلى الله عليه عما سبق من الخلاف في التوسل به صلى الله عليه وسلم.
لأن العلماء أثبتوا لهم جاها عند الله تعالى ومنزلة ، يتقرب بها إلى الله وقد استشهدوا على ذلك بأدلة نورد جزءا منها ونبين رأئ الإمام ابن تيميه في الأمور الآتية هل للصالحين جاه أم لا؟
- وهل هناك خلاف بالتوسل بهم أم لا؟
- هل يترتب عليها تكفير أو الحكم على الناس بالشرك أم لا؟
- وهل هو من مسائل الفقه أم من مسائل العقيدة؟
ولترك الإجابة الآن لشيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول :
إثبات الجاه للصالحين :
قد جاء في حديث رواه أحمد في مسنده وابن ماجة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه أنه علم الخارج إلى الصلاة أن يقول في دعائه : "أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ، ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك ".
فإن كان هذا صحيحا فحق السائلين عليه أن يجيبهم ، وحق العابدين له أن يغيبهم وهو حق أوجبه على نفسه لهم ، كما يسأل بالإيمان والعمل الصالح الذي جعله سببا لإجابة الدعاء كما في قوله تعالى :( ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ) (الشورى : 26) .
وكما يسأل بوعده لأن وعده يقتضي إنجاز ما وعده ، ومنه قول المؤمنين : (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار!(آل عمران : 193 ) .
وقوله ( إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا أنت خير الراحمين(109) فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكرى) (المؤمنون : 109 - 110 ) .
ويشبه هذا مناشدة النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حيث يقول : "اللهم أنجز لي ما وعدتني " وكذلك ما في التوراة أن الله تعالى غضب على بني إسرائيل ، فجعل موسى يسأل زبه ويذكر ما وعد به إبراهيم ، فإنه سأله بسابق وعده لإبراهيم.
ثم يقول ابن تيمية "رحمه الله -عن إثبات الجاه للصالحين :
(قد تبين أن قول القائل ( أسألك بكذا ) نوعان : فإن الباء قد تكون للقسم ، وقد تكون للسبب . فقد تكون قسما به على الله ، وقد تكون سؤالا بسببه.
فأما الأول : فالقسم بالمخلوقات لا يجوز على المخلوق فكيف على الخالق ؟
وأما الثاني : وهو السؤال بالمعظم كالسؤال بحق الأنبياء فهذا فيه نزاع ، وقد تقدم عن أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز ذلك ، ومن الناس من يجوز ذلك فنقول : قول السائل لله تعالى : ( أسألك بحق فلان وفلان من الملائكة والأنبياء والصالحين ؟غيرهم ، أو بجاه فلان أو بحرمة فلان ) يقتضي أن هؤلاء لهم عند الله جاه ، وهذا صحيح .
فإن هؤلاء لهم عند الله منزلة وجاه وحرمة يقتضي أن يرفع الله درجاتهم ويعظم أقدارهم ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا ، مع أنه سبحانه قال: ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ).
ويقتضي أيضا أن من اتبعهم واقتدى بهم فيما سن له الاقتداء بهم فيه كان سعيدا ، ومن أطاع أمرهم الذي بلغوه عن الله كان سعيدا ، ولكن ليس مجرد نفس قدرهم وجاههم مما يقتضي إجابة دعائه إذا سأل الله بهم حتى يسأل الله بذلك ، بل جاههم ينفعه أيضا إذا اتبعهم وأطاعهم فيما أمروا به عن الله ، أو تأسى بهم فيما سنوه للمؤمنين ، وينفعه أيضا إذا دعوا له وشفعوا فيه.
هذا هو رأي الإمام بن تيمية ، الذي أثبت للصالحين جاها بالأدلة ولكنه منع التوسل بجاههم ، ولم يمنعه إذا توسل بطاعتهم والاقتداء بهم ، ومحبتهم ، وغير الإمام ابن تيمية من جمهور العلماء لم يمنع كل ذلك ، هذا ولكل رأيه في المسألة ، وهذه من الأمور الخلافية ، والمسائل الخلافية ليس فيها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، لأن المسائل الخلافية ليمت من المنكرات فضلا عن أن تكون من المحرمات أو الشركيات ، ولكل أن يتبع إماما من الأئمة ، أما إذا كان من أهل إلى النظر، فإنه يأخذ بما يصح عنده من الأدلة .
التوسل مسألة فقهية وليست من أصول العقيدة
وأخيرا نسوق إليك رأي الإمام محمد بن عبد الوهاب في الموضوع : في المسألة العاشرة : ( قولهم في الاستسقاء لا بم أس بالتوسل بالصالحين وقول أحمد يتوسل النبي صلى الله عليه وسلم خاصة مع قولهم إنه لا يستغاث بمخلوق - فالفرق ظاهر جدا - وليس الكلام مما نحن فيه فكون البعض يرخص التوسل بالصالحين وبعضهم يخصه النبي صلى الله عليه .
وأكثر العلماء ينهي عنه ويكرهه . . فهذه المسألة من مسائل الفقه الصواب عندنا قول الجمهور أنه مكروه فلا ننكر على من فعله.
فها هو الإمام محمد بن عبد الوهاب يقرر أنه :
ا -من مسائل الفقه .
2 - أنه مكروه .
3- لا ينكر على من فعله .
هذا وقد سبق لنا أن قدمنا رأي الإمام ابن تيمية في ذلك حيث قرر أن هذه مسائل خلافية ، وهي من مسائل الفقه لا شرك فيها ، ومن قال غير ذلك يستحق من العقوبة ما يستحق أمثاله من المفترين على الدين لا سيما قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما".
والآن نعيد على هؤلاء ما قاله الإمام البنا في الأصل الخامس عشر-في رسالة التعاليم - عندما قال : ( والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة ) . فهل خالف قوله العلماء وبصفة خاصة الإمامين ابن تيمية وابن عبد الوهاب ؟ .
ثم هل يترتب على فعل المتوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين بعد وفاتهم عقوبة . و الآن وبعد أن تبين لنا أنها مسألة نزاع وخلاف بين العلماء ولا يترتب عليها تكفير فهل يترتب عليها عقوبة؟ ننظر إلف شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول : (وليس هذا من مسائل العقوبات بإجماع المسلمين بل المعاقب على ذلك معتد جاهل ظالم - فإن القائل بهذا قد قال ما قالت العلماء - والمنكر عليه ليس معه نقل يجب اتباعه لا عن النبي صلى الله عليه وسلم!ذ ولا عن الصحابة ).
ولقد نفى الشيخ صالح الفوزان عن الشيخ ابن تيمية ، أنه كفر أحدا يتوسل النبي صلى الله عليه وسلم البتة أو بأحد الصالحين بعد وفاتهم ، وبين أن هذا النوع ، من التوسل ، لا يجوز تكفير صاحبه ، كما لم يقل أحد من علماء الأمة بأنه كفر أو شرك.
جهالة في الاستشهاد والاستدلال :
هذا وقد استشهد بعض الذين لا علم لهم ولا دراية بالأحكام بآيات من القرآن الكريم نزلت في المشركين الذين يعبدون غير الله ، واستدلوا بها في غير موضوعها من مثل قوله تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) (يونس : 18 ) . وقوله تعالى :"والذين اتخذوا في دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى (الزمر : 3) .
وواضح من الآيتين أنهم كانوا يعبدونهم ويتوسلون بهم بدليل قوله تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) وهذا يخالف تماما حال المسلمين الذين يعبدون الله تعالى ويتوسلون إلى الله بمن لا يعبدونهم ، ولكن بالصالحين من خلق الله كالأنبياء ، وغيرهم ، وقد وردت في ذلك أدلة تجيز ذلك كما سبق .
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وكان المشركون الذين جعلوا معه آلهة أخرى مقرين بأن آلهتهم مخلوقة ولكنهم كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بعبادتهم إليه كما قال تعالى : ثم ذكر الآيتين السابقتين ).
وبعد كل ما تقدم : يظهر للقارئ جهل هؤلاء المفترين على الشيخ البنا -رضي الله عنه -، كما يظهر سعة اطلاع الشيخ البنا وحصافته وفقهه للأمور، ومع كل ما تقدم فيما قرره الإمام البنا من أن الدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة يوضح الشيخ البنا رأيه صراحة في الأصل الثالث عشر فيقول : ( ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلى الله تعالى والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى: الذين آمنوا وكانوا يتقون * والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية مع اعتقاد أنهم - رضي إن الله عليهم - لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا في حياتهم أو بعد مماتهم فضلا عن أن يهبوا شيئا من ذلك لغيرهم.
أن رأي الشيخ البنا - رضوان الله عليه - مع إجماع العلماء ، في التوسل المتفق عليه ، ومنهم الشيخ الإمام إبن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب ولكن -رضي الله عنه -أراد أن يبين الحكم في التوسل ، وأنه من مسائل الفقه وليس من مسائل العقجدة، كما بين ذلك غيره من العلماء مثل -ابن تيمية وابن عبد الوهاب -وقد قدمنا ذلك فيما سبق .
وقد أنكر البعض كذلك على الأستاذ عمر التلمساني قوله بجواز التوسل النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه (شهيد المحراب ) حيث قال : ( لا داعي للتشدد في النكير على من يعتقد في كرامة الأولياء واللجوء إليهم في قبورهم الطاهرة الدعاء فيها عند الشدائد ) :
ا - أما عن قوله : ( لا داعي للتشدد في النكير على من يعتقد في كرامة الأولياء) ، فكرامة الأولياء حق ، أثبتها إجماع العلماء ولم يشذ عنهم أحد، وقد قال الإمام ابن تيمية-رحمه الله -: إن الأولياء لهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين.
ثم ذكر رحمه الله طرفا كبيرا من هذه الكرامات من ص 276 إلى 82 2 من الجزء الحادي عشر ، ومما ذكر من الكرامات ، كرامة عمر بن الخطاب ، والزنيرة ، وسعيد بن زيد ، والعلاء بن الخضرمي ، وأبو مسلم الخولاني ، وعامر بن عبد قيس ، والحسن البصري وغيرهم من الأولياء .
وكذلك قرر كرامة الأولياء الإمام ابن عبد الوهاب : حيث يقول : وأقر بكرامات الأولياء ، ومالهم من المكاشفات ، ولكن لا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. ويقول الإمام الطحاوي صاحب العقيدة الطحاوية في المسألة 99 ، ونؤمن بما جاء من كرامتهم وصح عن الثقات من رواياتهم .
2 - وأما قول الأستاذ التلمساني : ( اللجوء إليهم في قبورهم الطاهرة والدعاء فيها عند الشدائد ، وكرا.مات الأولياء معروفة ) .
ونريد أن نلقي الضوء على من استشكل عليه كلام الأستاذ -رحمه الله :
1 - أما قوله لا نكير على من دعا فيها عند الشدائد، فنقول :
أ - أنه رحمه الله قال من دعا فيها ( أي عندها ) ولم يقل بها ولا منها ، ثم ألم يقرأ هؤلاء ما أورده الحافظ ابن كثير في تفسير قول الله تعالى:(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاوءك فاستنفروا الله واسثتغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) (النساء : 64) .
وقد ذكر جماعة منهم أبو منصور الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي ، قال : كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال السلام عليكم يا رسول الله سمعت الله يقول : " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما" (النساء : 64) .
وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستغفراً بك إلى ربي ، ثم أنشأ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
- وطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لخبر أنت ساكنه
- فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الأعرابي ، فغلبتني عيني ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال : (ياعتبي الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له )، وهذه الرواية تؤيد ما ذهب إليه الأستاذ عمر من أن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست قاصرة على حياته فقط .
وقد وضح - رضي الله عنه -كلامه هذا فيما أوردته مجلة المجتمع الكويتية عدد 76 4 في 5 1 : 4 : 0 98 1 م . حين سأله المحرر عن زيارة الأضرحة : فقال : -رحمه الله - موضحا رأيه في ذلك : ( نحن نعتقد أن عادة الأهالي هنا بزيارة القبور ليس فيها ما يخالف السنة فأنا إذا زرت قبرا . لا أفعل إلا السنة ، لكن إذا كنت مسلما وأرى أن الحسين أو غيره يستطيع أن يفعل لي شيئا أو يضر أو ينفع ، فلا شك أن هذا شرك لا، ونحن إذا دعينا لزيارة القبور ، فإننا نزورها ولكن لا نتأثم غير أنه إذا زار غيرنا ضريحا ليستشفى أو يستنزل رزقا فإن هذا وثنية ) .
وهذا في الحقيقة يعتبر إيضاحا لما ورد متقدما في كتاب ( شهيد المحراب ) للأستاذ عمر ، والمطبوع في سنة 1974 .
ب - حتى إذا فهم من كلام الأستاذ عمر التلمساني التوسل بالصالحين لقضاء
الحاجات ، فهذا أمر أقره جمهور الفقهاء كما سبق لنا أن أبنا ذلك ، وقد كرهه الإمام أبو حنيفة ولم يمنعه إلا شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبدالوهاب ولم يقولوا : إن هذا شرك لأنه من الأمور المختلف فيها عند العلماء .
وبعد فهل يعرف الفضل لأهل الفضل ؟
كم يسعد الإنسان أن يرى عالما يحترم أخاه ، ومجاهدا يقدر مكافحا في سبيل الحق ، وداعية يعضد مصلحا ويشد من أزره ، وكم يبتئس الإنسان ويأسى ويأسف لعالم يسب آخر أو يقع في عرضه أو يحاول تشويه سمعته ، أو غمزه ولمزه ، وكم يفجع الإنسان في دعاة يغمطون الحق ويتعامون عن الصواب ، ويحاولون هدم رجال ناصبوا الباطل العداء ، وكافحوه حتى هوى أو كاد ، وطاردوه حتى رحل أو باد ، وهذا الصنف المتدني البائس قد كثر في أيامنا هذه كثرة الذباب ، وانتشر في الأمة انتشار الوباء حتى كاد أن يلطخ في العصر الحديث كل نبتة خضراء وكل زهرة فيحاء ، ويحرق كل لبنة شماء وفكرة عصماء وصفحة بيضاء ، وهم في الحقيقة يلطخون وجوههم ، ويحرقون أنفسهم ، ويضلون أممهم ، ويلوثون تاريخهم وكفاح أمتهم ، صادفت يوما أحد هؤلاء ينتقص من قدر شيخ الإسلام ابن تيمية ، ويريد أن يقع في عرض الشيخ محمد بن عبدا لوهاب ، فأخذتني رعدة الحق ، ووخزتني صولة الإنصاف ، ورددته على عقبه ، وأدرت نصله في نحره ، أعطيته درسا بليغا في احترام العلماء ، وتقدير المكافحين وأهل الفضل .
وكم طربت كثيرا وانتشيت وسررت لرجال عرفوا فضل العلماء وقدروا جهودهم وتضحياتهم ، وما أروع قول الإمام أحمد بن حنبل - رضوان الله عليه - في ذلك ، حيث قال : ( الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى ويحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وما أقبح أثر الناس عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، و انتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب ، مجمعون على مفارقة الكتاب ، يقولون على كتاب الله ، وعلى الله ، وفي الله بغير علم ، ويتكلمون بالمتشابه من الكلام ، ويخضعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ، فنعوذ بالله من فتنة المضلين )
وكم سعدت كثيرا في العصر الحديث أن وجد بقية من هؤلاء الصالحين الذين يقدرون جهد الدعاة والعلماء والمفكرين من هؤلاء : الأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندوة ، إذ رأيت الرجل يشيد بجهود العلماء والدعاة ، ويعرف الفضل لأهله (وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذووه ) .
يقول الشيخ العلامة أبو الحسن الندوة عن الشيخ البنا في (مقدمة مذكرات الدعوة والداعية ):
( يتهيب رجل مثلى في قلة بضاعته في العلم والعمل ، وفي تخلفه في ميدان الإصلاح والكفاح ، وفي مجال التربية والإخراج ، وفي حلبة التضحية والمحنة، أن يتقدم للكتاب والتعليق على كتاب للشيخ البنا رحمه الله ).
ثم يقول :
( هذه الشخصية التي هيأتها القدرة الإلهية، وصنعتها التربية الربانية، وأبرزتها في أوانها ومكانها تدل على رجل موهوب مهيأ، وليس من سوانح الرجال ولا صنعته بيئة أو مدرسة، ولا صنيعة تاريخ أو تقليد ، ولا صنيعة اجتهاد ومحاولة وتكلف ، ولا صنيعه تجربة وممارسة، وأنما هو من صنائع التوفيق والحكمة الإلهية والعناية بهذا الدين ، وبهذه الأمة، والغرس الكريم الذي تهيأ لأمر عظيم ولعمل عظيم في زمن تشتد إليه حاجته ،وفي بيئة تعظم فيها قيمته . . إن كل من عرف الإمام البنا عن كثب لا عن كتب ، وعاش متصلا به ، عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود ، وفاجأت مصر ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوتها وتربيتها وجهادها، وقوتها الفذة التي جمع الله فيها مواهب وطاقات ، قد تبدوا مستحيلة في عين كثير من علماء النفس والأخلاق ، ومن المؤرخين والناقدين ، لأنها العقل الهائل النابه النير والفهم المشرق الواسع ، والعاطفة القوية الجياشة، والقلب المبارك الفياض ، والروح المشبوبة النضرة ، واللسان الذرب البليغ ، والزهد والقناعة دون عنت . في الحياة الفردية، والحرص وبعد الهمة دونما ككل في سبيل نشر الدعوة والمبدأ ، والنفس الولوعة الطموحة، والهمة السامقة الوثابة، والنظر النافذ البعيد ، والإباء والغيرة على الدعوة، والتواضع في كل ما يخص النفس . . تواضعا يكاد يجمع على الشهادة عارفوه حتى لكأنه - كما حدثنا كثير منهم - مثل رفيف الضياء، ولا ثقل ولا ظل ولا غشاوة .
وقد تعاونت هذه الصفات والمواهب في تكوين قيادة دينية اجتماعية، لم يعرف العالم العربي وما وراءه قيادة دينية وسياسية أقوى وأعنف تأثيرا ، أو أكثر إنتاجا فيها مند قرون ، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن نجد . في دنيا العرب خاصة . حركة أوسع نطاقا ، وأعظم نشاطا ، وأكبر نفوذ ، وأعظم تغلغلا في أحشاء اجتمع ، واكثر استحواذا على إلى النفوذ منها.
هذا وقد تجلت عبقرية الإمام البنا كداعي مع كثرة جوانب هذه العبقرية ومجالاتها في ناحيتين خاصتين ، لا يشاركه فيهما إلا القليل النادر من الدعاة والمربين والزعماء والمصلحين :
أولاهما : شغفه بدعوته ، وأيمانه واقتناعه بها، وتفانيه فيها، وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله ، وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسية للدعاة والقادة الذين يجرى الله على يديهم الخير الكثير
وثانيهما ، تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه ، ونجاحه المدهش في التربية والإنتاج ، فقد كان رحمه الله منشئ جيل ، ومربى شعب ، وصاحب مدرسة علمية فكرية خلقية، وقد أثر في ميول من اتصل به من المتعلمين والعاملين ، في أذواقهم ، وفي مناهج تفكيرهم ، وأساليب بيانهم ولغتهم وخطاباتهم تأثيرا بقى على مر السنين والأحداث ، ولا يزال شعارا وسمة يعرفون بها على اختلاف المكان والزمان .
ولقد فاتني أن اسعد بلقائه في مصر وفي غير مصر حتى كان حادث استشهاده الذي أدمى نفوس ملايين المسلمين وحرم العالم الإسلامي هذه الشخصية التاريخية الفذة الفريدة، ولا أزال أتحسر على هذه الخسارة التي كتبت لى ).
هذا حديث أبو الحسن الندوي الإمام الصادق - رحمه الله ورضي عنه - عن الشيخ البنا قد اجتزأت منه ما ذكرت ، فقلت بعد قراءته ، وكم في الشرق من عباقرة وأفذاذ وقمم أكلتهم جدران السجون ، أو قضت عليهم المحن ، أو استأصلتهم أعواد المشانق ، أو اغتالتهم في قارعة الطريق قوى الظلام والبغي ، وأنكرتهم ألسنة الزور والبهتان ، ولمزتهم أقلام العمالة والارتزاق والإفك ، ونحن نقول لحساب من ولمصلحة من ؟ وهل هذا يرضي الله ، وذلك يدفع العمل الإسلامي ؟ لا أظن إلا أنه يعوقه ويشكك فيه ويفيد أعداءه ، ولكنه ودائما ينتصر الحق وتعلو رايته ويفرح المؤمنون بنصر الله .
البيان الشافي من الشيخ البنا في المسألة
هذا وقد سئل الشيخ البنا عن التوسل النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين وعن الاستغاثة بهم ، فأجاب - رضي الله عنه -إجابة الفاقه العالم فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم .
إلى إخواننا في الله تعالى بميت سلسيل دقهلية ، إلى القراء الكرام ، وكل محب لخير الإسلام وبني الإسلام . . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد . . فأحب أن ألفتكم قبل الجواب عن هذه الأسئلة إلى أمور مهمة :
أولها : أرجو أن تلاحظوا أن الخلاف في فروع الدين ج مر طبيعي ولا يمكن أن يجتمع الناس في الفرعيات على رأي واحد أبدا ، وقد يكون الدليل إلى قلي واحد ويختلف الأئمة-رضوان الله عليهم -في استنباط الحكم بحسب ما يفيضه الله على قلب كل منهم من الفهم والإدراك ، وهذه آية الوضوء يستخرج منها الشافعي -رضي الله عنه -مائة مسألة ولا يستخرج منها غيره هذا المقدار .
والإخوان يعلمون أن الأئمة - رضوان الله عليهم - متعددون ، وسل رأيه في الدين مع وحدة الأصول ووحدة العقيدة بل إن الإمام الواحد قد يختلف في فتواه في وقت عنه في وقت آخر، وهذا الشافعي -رضي الله عنه -يفتي في الجديد بغير ما أفتى به في القديم وهكذا ، وهذا باب واسع دقيق فليعلمه الإخوان تمام العلم ، الخلاف لابد منه ولا عجب فيه ولكن العيب والإثم في التعصب للخلاف وخير للإخوان أن يتساهل بعضهم مع بعض ، وأن يحترم بعضهم بعضا ، فكلنا مسلمون والحمد لله ، ونحب أن تتحد كلمتنا على خصومنا لا أن نفترق على أنفسنا .
وثانيا ، أن الجدل في المسائل الدينية سبب كثيرا.من إلى كبات ، وقد كرهه النبي صلى الله عليه وسلم كراهية شديدة ونهى عنه نهيا مؤكدا ، وفي هذا الحديث كفاية وتذكرة : عن أبي الدرداء ، وواثلة بن الأسقع ، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - قالوا : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين ، فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله ثم انتهرنا ، فقال : "مهلا يا أمة محمد إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ذروا المراء لقلة خيره ، ذروا المراء فإن المؤمن لايماري ، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته ، ذروا المراء فكفئ إثما ألا تزال مماريا ، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة ، ذروا المراخ فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في ربضها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق ، ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان المراء" ، والمراء : الجدل في شؤون الدين ، والحديث رواه الطبراني في الكبير.
لهذا أنصح الإخوان الكرام وأرجوهم ألا يقعوا تحت طائلة هذا الوعيد الشديد ، وألا يخالفوا نبي الله لمجس!تر بالمداومة على الجدل والمراء وليترك كل إنسان لأخيه رأيه فإن أعظم مصيبة في الدين الفرقة والخلاف ، وحسبنا أن نتحد على أن الله واحد ، ومحمدا رسوله ، والقران حق ، فمن كان كذلك فهو أخ نحبه ونجله ونعرف له حق إخائه ، وفي هذا الكفاية .
ثالثهما : إن هذه المسائل وإضرابها مثار خلاف بين المسلمين من قديم العصور ، ولم يتحد السابقون فيها على رأي مع شدة بحثهم وخلوص نياتهم وتفرغهم للبحث واهتمامهم بشأن الدين فكذلك المتأخر ون سيظلون مختلفين فيها فإن لم يتسامح بعضهم مع بعض ويسلم بعضهم لبعض فهي الفتنة إلى يوم القيامة ، فخير لنا أن ندع فيها الخلاف ، يبين كل رأيه فإن اقتنع أخوه فبها ، وإلا تركه وما يريد ، من غير أن يعتقد فيه خروجا على الدين أو إثما أو عصيانا فإن له شبهة ودليلا وكفى .
ونحن حين نفتي في هذه الشؤون نبين ما هدانا الله إليه في هذه المسائل واعتقادنا فيها بحسب ما وضح لنا من الأدلة ، ولا نلزم أحدا اعتقاد عقيدتنا ، ولا نزكي أنفسنا ، بل ربما كنا مخطئين ونحن لا نشعر، فمرحبا بمن يدلنا على مكان إلى قص أو يرشدنا إلى مواطن الخطأ ، نقرر رأينا ونحترم رأي غيرنا ولا نجرح من خالفنا ، وتجمعنا دائرة الأخوة ا لإسلامية العامة .
بعد أن بينا هذا للإخوان الكرام نتناول المسائل التي جاءت بكتاب الأخ واحدة واحدة والله المستعان .
أولا : الكرامة للولي بعد الوفاة :
اختلف فيها الناس من قديم بعضهم يثبت وبعضهم ينفي ، والذي نعتقده أن الكرامة ثابتة للولي بعد وفاته ، كما تثبت له في حياته ، ودليلنا العقلي أن الكرامة ليست لحياة الولي ولكنها لمنزلته والمنزلة بعد الوفاة كما هي قبلها ، وربما تزيد، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فإن فاعل الكرامة ليس الولي ولكنه الله والله موجود في كل حال فلا محل لانتفاء الكرامة بعد الموت ، هذا من جهة العقل والقياس .
وأما إلى قل فقد ثبت في حديث البخاري - رضي الله عنه - في غزوة الرجيع أن عاصم بن ثابت -رضي الله عنه -حين امتنع عن الأخذ بأمان الكفار وقاتلهم حتى قتل - رضي الله عنه - وأرادوا أن يحزوا رأسه أو أن يقطعوا من جسده لأنه كان قد قتل بعض عظمائهم فحماه الله منهم بأن أرسل مثل الظلة من الدبر (إلى حل والزنابير) فهبت في وجوههم ومنعته منهم فلم يقدروا على التمثيل به، ولاشك أن هذا من أكرام الله له رضي الله عنه بعد وفاته ، ولذلك كان عمر-رضي الله عنه - حين يذكر هذه القصة يقول : يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته .
ودليل آخر هو ما رواه ابن سعد في الطبقات عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه -: كنت ممن حفر لسعد قبره (يعني سعد بن معاذ-رضي الله عنه ) فكنا نشم رائحة المسك ، ولاشك أن هذا من إكرام الله لسعد -رضي الله عنه - بعد وفاته.
ومن هنا قلنا بثبوت الكرامة بعد الوفاة كثبوتها في الحياة بشرط صحة الخبر وصدق الرواية .
ثانيا ، جواز التوسل النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين : ونحب أن نحدد معنى التوسل الذي نتكلم عنه هنا فنقول : هو أن يتقرب العبد في دعائه الله تبارك وتعالى إلى الله بذكر عبد من عباده الصالحين ، كأن يقول : (اللهم إني أتوسل بحب فلان أو بجاه فلان أو بحق فلان أو بمنزلة فلان أو بفلان أن تفعل كذا وكذا) هذا التوسل بهذه المعاني موضع خلاف أيضا ، أجازه قوم ومنعه آخرون ، ولكل حجته ودليله ، ومن الغريب أنك ترى بين المانعين منه بغير الرسول صلى الله عليه وسلم شيخ الإسلام العز بن عبدالسلام مع أنه ممن أخذ عن الصوفية - رضوان الله عليهم - واتصل بالشاذلي ، وكان معاصرا له على حين أنك ترى بين المجوزين له الإمام الشوكاني مع أنه سلفي متشدد .
فالمانعون يرون أن ذلك لم يحدث في زمن الصحابة -رضوان الله عليهم - والاتباع الأولى ، والمجوزون يستدلون على ذلك بحديث الأعمى ، ولد رواه كثير من المحدثين منهم النسائي ، والترمذي ، وغيرهما.
ونحن مع هذا القسم بشرط أن تتوقر العقيدة بأنه لا تصرف إلا لله ، ولا فعل إلا له سبحانه وتعالى . وقد استدل الشوكاني في كتابه الدر إلى النضيد على جواز التوسل بأن التوسل في الحقيقة إنما هو بميزة العبد الصالح لا بذاته ، فهو من التوسل بالأفعال وهو جائز، ونقول : إن التوسل لازم حب العبد للصالحين ، وحب العبد للصالحين عمل صالح ، فرجع الأمر إلى التوسل بالعمل الصالح وهو مجمع على جوازه .
ثالثا : ، قول الإنسان : أغثني يا رسول الله :
ينبغي أن يعلم أن ذكر أسماء الصالحين للتبرك لا بأس به فيما نعتقد، وقد أخرج ابن السني في كتاب "عمل اليوم والليلة" باب ما يقول الرجل إذا خدرت رجله : أن ابن عمر-رضي الله تعالى عنهما-لما خدرت رجله قال : "يا محمداه " فقام فمشى.
وليست هناك أي شبهة في ذكر أسماء الصالحين للتبرك أو التلذذ ، وأنت تقول في الصلاة : السلام عليك أيها النبي صلى الله عليه وسلم فهو نداء لا إثم فيه بل هو من القربات ، ذلك في ذكر الأسماء أو المناداة بها لمثل هذا الغرض ، ومنه نشيد الإخوان المسلمين : يا إله الكون هل يرضيك أنا أخوة في الله للإسلام قمنا .
بقي طلب المعونة منه صلى الله عليه وسلم أو من غيره من الصالحين ، أما في حالة الحياة وفيما هو في حدود قدرة المخلوقين فجائز لا شئ فيه ، وأما بعد الوفاة أو فيما هو من عمل الخالق سبحانه وتعالى فممنوع لما فيه من الشبهة الشركية ، والذريعة إلى الانحراف ، ولا نقول بالشرك لهؤلاء الجهلة وإخراجهم من الملة ، فإن السرك عظيم ، ولكن نقول . يجب أن نعلم قائل هذا ونرشده إلى تركه ، ونزجره ، وفي هذا الزجر الكفاية ، إلي أن ينتهي إن شاء الله ، فهو رجل مسلم وإذا عرف الصواب رجع إليه ، وهذا خير من إخراجه من الملة ووقوع فتنة بين المسلمين.
الشبهة الرابعة: الأسماء والصفات
يجب أن نفرق بين العقيدة وبين الشبهات التي أثيرت حول بعض أمور العقيدة وتم الرد عليها من علماء الإسلام في وقتها حتى لا تدرس هذه الشبهات على أنها عقيدة ، ومن هذه الشبهات ما أثير حول موضوع الإيمان بصفات الله تعالى وأفعاله . ولقد انقسمت الآراء حول هذه المسألة إلى أربع فرق حررها فضيلة الشيخ حسن البنا بقوله :
1- فرقة أخذت بظواهر النصوص كما هي: فنسبت إلى الله وجها كوجوه الخلق ، ويدا كأيديهم ، وضحكا كضحكهم ، وهكذا ، وهؤلاء هم المجسمة والمشبهة ، وليسوا من الإسلام في شيء وليس لقولهم نصيب من الصحة، ويكفي في الرد عليهم قول الله تعالى : "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " (الشورى : 11 ) . وقوله تعالى : " قل هو الله أحد *الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد *" (الإخلاص ) .
2- فرقة عطلت معاني هذه الألفاظ: على وجه يقصدون بذلك نفي مدلولاتها مطلقا عن الله تبارك وتعالى . فالله تبارك وتعالى عندهم لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر ، لأن ذلك لا يكون إلا بجارحة والجوارح يجب أن تنفي عنه سبحانه فبذلك يعطلون صفات الله تبارك وتعالى ويتظاهرون بتقديسه وهؤلاء هم المعطلة . . ويطلق عليهم بعض علماء تاريخ العقائد الإسلامية الجهمية ، ولا أظن أن أحدا عنده مسكة من عقل يستسيغ هذا القول المتهافت ، ولقد ثبت الكلام والسمع والبصر لبعض الخلائق بغير جارحة ، فكيف يتوقف كلام الحق تبارك وتعالى على الجوارح ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
وهذان رأيان باطلان لاحظ لهما من النظر ، وبقى أمامنا رأيان هما محل أنظار العلماء في العقائد ، وهما رأي السلف ورأي الخلف.
3 –أما السلف رضوان الله عليهم فقالوا: نؤمن بهذه الآيات والأحاديث كما وردت ، ونترك بيان المقصود منها لله تبارك وتعالى ، فهم يثبتون اليد والعين والأعين
والاستواء والضحك والتعجب . . الخ وكل ذلك بمعان لا ندركها ، ونترك لله تبارك وتعالى الإحاطة بعلمها ، ولا سيما وقد نهينا عن ذلك في قول النبي: " تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروه قدره " . قال العراقي : رواه أبو نعيم في (الحلية) بإسناد ضعيف ، ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب بإسناد أصح منه ، مع قطعهم -رضوان الله عليهم -بانتفاء المشابهة بين الله وبين الخلق.
وإليك أقوالهم في ذلك :
أ - روي أبو القاسم اللالكائي في ( أصول السنة ) عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهما قال : ( اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب : على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله !ذ في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه ، فمن فسر اليوم شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة ج فإنهم نم يصفوا ولم يفسروا ، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا ) . ب - وذكر الخلال في كتاب ( السنة ) عن حنبل وذكره حنبل في كتبه مثل كتاب (السنة والمحنة ) قال حنبل : ( سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروي ( أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا ) . و ( إن الله يرى) و ( إن الله يضع قدمه ) وما أشبه هذه الأحاديث ؟ فقال أبو عبد الله : نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئا ، ونعلم أن ما جاء به الرسول ( حق إذا كان بأسانيد صحاح ، ولا نرد على الله قوله ، ولا يوصف الله تبارك وتعالى بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ، لجس كمثله شيء ).
ج – وروي حرملة بن يحيى قال : سمعت عبد الله بن وهب يقول : (سمعت مالك بن أنس يقول : من وصف شيئا من ذات الله مثل قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " (المائدة : 64)، فأشار بيده إلى عنقه ، ومثل قوله :" وهو السميع البصير " فأشار إلى عينيه أو أذنه أو شيء من يديه ، قطع ذلك منه ؟ لأنه شبه الله بنفسه ثم قال مالك : أما سمعت قول البراء حين حدث أن النبي !بز لا يضحي بأربع من الضحايا وأشار البراء بيده كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم قال البراء : ويدي أقصر من يد رسول الله !و فكره البراء أن يصف يد رسول الله !نه إجلالا له وهو مخلوق ، فكيف الخالق الذي ليس كمثله شيء ؟!
د – وروي أبو بكر الأثرم ، وأبو عمرو الطلمنكي وأبو عبد الله بن أبي سلمة : الماجشون كلاما طويلا في هذا المعنى ختمه بقوله : ( فما وصف الله من نفسه فسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه ، ولم نتكلف منه صفة ما سواه ، لا هذا ولا هذا ، لا نجحد ما وصف ، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف ) .
4 - مذهب الخلف في آيات الصفات وأحاديثها :
قدمت لك أن السلف ، رضوان الله عليهم ، يؤمنون بآيات الصفات وأحاديثها كما وردت ، ويتركون بيان المقصود منها لله تبارك وتعالى ، مع اعتقادهم بتنزيه الله تبارك وتعالى عن المشابهة لخلقه . فأما الخلف فقد قالوا : ( إننا نقطع بأن معاني ألفاظ هذه الآيات والأحاديث لا يراد بها ظواهرها ، وعلى ذلك فهي مجازات لا مانع من تأويلها ، فأخذوا يؤولون (الوجه ) بالذات و ( اليد ) بالقدرة وما إلى ذلك ؟ هربا من شبهة التشبيه . وإليك نماذج من أقوالهم في ذلك :
1 – قال أبو الفرج بن الجوزي الحنبلي في كتابه ( دفع شبهة التشبيه ) : قال الله تعالي: :" ويبقى وجه ربك " ، قال المفسرون : يبقى ربك ، وكذلك قالوا في قوله تعالى" يريدون وجهه" أي يريدونه . وقال الضحاك وأبو عبيدة : " كل شئ هالك إلا وجهه" أي إلا هو . وعقد في أول الكتاب فصلا إضافيا في الرد على من قالوا إن الأخذ بظاهر هذه الآيات والأحاديث هو مذهب السلف ؟ وخلاصة ما قاله أن الأخذ بالظاهر هو تجسيم وتشبيه ؟ لأن ظاهر اللفظ هو ما وضع له ، فلا معنى لليد حقيقة إلا الجارحة، وهكذا وأما مذهب السلف فليس أخذها على ظاهرها ، ولكن السكوت جملة عن البحث فيها ، وأيضا فقد ذهب إلن تسميتها آيات صفات ، وأحاديث صفات تسمية مبتدعة لم ترد في كتاب ولا في سنة ، وليست حقيقية فإنها إضافات ليس غير، واستدل على كلامه في ذلك بأدلة كثيرة لا مجال لذكرها هنا
2 - وقال فخر الدين الرازي في كتابه ( أساس التقديس ) : وأعلم أن نصوص القران لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه :
الأول : أن ظاهر قوله تعالى : " ولتصنع على عيني * يقتضي أن يكون موسى عليه السلام مستقرا على تلك العين ملتصقا بها مستعليا عليها وذلك لا يقوله عاقل .
والثاني : أن قوله تعالى : " واصنع الفلك بأعيننا " يقتضي أن يكون آلة تلك الصنعة هي تلك العين . والثالث ، أن إثبات الأعين في الوجه الواحد قبيح فثبت أنه لابد من المصير إلن التأويل ، وذلك هو أن تحمل هذه الألفاظ على شدة العناية والحراسة .
3- قال الإمام الغزالي في الجزء الأول من كتابه ( إحياء علوم الدين ) عند كلامه على نسجة العلم الظاهر إلى الباطن وأقسام ما يتأتى فيه الظهور والبطون ، والتأويل وغير التأويل :
القسم الثالث أن يكون الشيء بحيث لو ذكر صريحا لفهم ولم يكن فيه ضرر، ولكن يكني عنه على سبيل الاستعارة والرمز ؟ ليكون وقعه في قلب المستمع أغلب . . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : "إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة على النار"، ومعناه أن روح المسجد وكونه معظما ، ورمي النخامة فيه تحقير له فيضاد معنى المسجدية مضادة النار لاتصال أجزاء الجلدة . وأنت ترى أن ساحة المسجد لا تنقبض من نخامة ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار" ، وذلك من حيث الصورة لم يكن قط ولا يكون ، ولكن من حيث المعنى هو كائن ؟ إذ رأس الحمار لم يكن بحقيقته وكونه وشكله بل بخاصيته ، وهي البلادة والحمق ، ومن رفع رأسه قبل الإمام فقد صار رأسه رأس الحمار في معنى البلادة والحمق ، وهو المقصود دون الشكل . وإنما يعرف أن هذا السر على خلاف الظاهر، أما بدليل عقلي أو شرعي . أما العقلي فأن يكون حمله على الظاهر غير ممكن ، كقوله صلى الله عليه وسلم : "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن " ، إذ لو فتشنا عن قلوب المؤمنين لم نجد فيها أصابع ، فعلم أنها كناية عن القدرة التي هي سر الأصابع وروحها الخفي ، وكنى بالأصابع عن القدرة لأن ذلك أعظم وقعا في تفهم تمام الاقتدار ) .
وقد نعرض لمثل هذا الكلام في موضع أخر من هذا البحث وفيما ذكرناه كفاية . ثم يقارن الإمام البنا بين مذهب السلف والخلف إلى نا وضح أمامك طريقا السلف والخلف ؟ وقد كان هذان الطريقان مثار خلاف شديد بين علماء الكلام من أئمة المسلمين ، وأخذ كل يدعم مذهبه بالحجج والأدلة ، ولو بحثت الأمر لعلمت أن مسافة الخلاف بين الطريقين لا تحتمل شيئا من هذا لو ترك أهل كل منهما التطرف والغلو، وأن البحث في مثل هذا الشأن ، مهما طال فيه القول ، لن يؤدي في النهاية إلا إلى نتيجة واحدة ، هي التفويض لله تبارك وتعالى، وذلك ما سنفصله لك إن شاء الله تعالى . ثم قارن الشيخ البنا-رحمه الله –بين مذهب السلف والخلف فقال :
بين السلف والخلف :
قد علمت أن مذهب السلف في الآيات والأحاديث التي تتعلق بصفات الله تبارك وتعالى أن بمروها على ما جاءت عليه ، ويسكتوا عن تفسيرها أو تأويلها ؟ وأن مذهب الخلف أن يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله تبارك وتعالى عن مسابقة خلقه . وعلمت أن الخلاف شديد بين أهل الرأيين حتى أدى بينهما إلى التنابز بالألقاب العصبية ؟ وبيان ذلك من عدة أوجه :
أولا : اتفق الفريقان على تنزيه الله تبارك وتعالى عن المشابهة لخلقه .
ثانيا : كل منهما يقطع بأن المراد بألفاظ هذه النصوص في حق الله تبارك وتعالىغير ظواهرها التي وضعت لها هذه الألفاظ في حق المخلوقات ، وذلك مترتب على اتفاقهما على نفي التشبيه .
ثالثا : كل من الفريقين يعلم أن الألفاظ توضع للتعبير عما يجول في النفوس أو يقع تحت الحواس مما يتعلق بأصحاب اللغة وواضعيها ، وأن اللغات مهما اتسعت ، لا تحيط بما لجس لأهلها بحقائقه علم ، وحقائق ما يتعلق بذات الله تبارك وتعالى من هذا القبيل ، فاللغة أقصر من أن تواتينا بالألفاظ التي تدل على هذه الحقائق ، فالتحكم في تحديد المعاني بهذه الألفاظ تغرير . وإذا تقرر هذا فقد أتفق السلف والخلف على أصل التأويل ، وانحصر الخلاف بينهما في أن الخلف زادوا تحديد المعنى المراد حيثما ألجأتهم ضرورة التنزيه إلى ذلك حفظا لعقائد العوام من شبهة التسبيه ، وهو خلاف لا يستحق ضجة ولا إعناتا.
وأخيرا يختار الإمام البنا مذهب السلف ويرجحه فيقول : ( ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هده المعاني إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى بالاتباع ، حسما لمادة التأويل والتعطيل ؟ فإن كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان ، وأثلج صدره ببرد اليقين فلا تعدل به بديلا ؟ ونعتقد إلى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجب إليكم عليهم بكفر ولا فسوق ، ولا تستدعى هذا النزاع الطويل بينهم وبين غيرهم قديما وحديثا، وصدر الإسلام أوسع من هذا كله ) .
هذا وبعد كل هذا الإيضاح والتفصيل الجيد وجمع الآراء وتمحيصها يأتي من يورد بعض الشبه تلصصا وحملا على ما لا يريده الشيخ ( وهذا شيء معروف القصد فيه والمراد منه ، لا يغمض فهمه على اللبيب أو إدراكه على المتجرد من الأحقاد والأضغان فضلا عن العلماء والباحثين.
الشبهة الخامسة: التشابه
مع أن الإمام البنا -رحمه الله - رجح مذهب السلف في الأسماء والصفات بقوله :
( ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى بالاتباع حسما لمادة التأويل والتعطيل ، فإذا كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان وأثلج صدره ببرد اليقين فلا تعدل به بديلا). وكذلك قال في (الأصل العاشر) : ( نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ). ثم قال : (حسما لمادة التعطيل ). إلا أن بعض ضعاف النفوس يحاولون تصيد بعض الألفاظ وإليك بعضها والرد عليها. قولهم إنه جعلها من التشابه ، ينكر هؤلاء على الإمام البنا قوله في الأصل العاشر في (رسالة التعاليم ) :
( معرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة، وما يلحق بذلك من التشابه نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء ويسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلموأصحابه : "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا (ال عمران : 7) . يلاحظ :
ا - أنه قال : (نؤمن بها كما جاءت ).
2 - من غير تأويل أيعني رفض مذهب الخلف الذين يؤولون الصفات .
3 - ولا تعطيل كما قال الجهمية (وسبق أنه رفض قول المشبهة كما أسلفنا) .
4 - أنه قال وما يلحق بذلك من التشابه ولم يقل من المتشابه كما قرأها البعض ثم أنه وضح ماذا يقصد بالتشابه في التسمية في رسالة العقائد أي بين صفات الخالق وصفات المخلوقات ، فقال موضحا ذلك بعنوان :
بين صفات الله وصفات الخلق:
( والذي يجب إن يتفطن له المؤمن أن المعنى الذي يقصد باللفظ في صفات الله .تبارك وتعالى. يختلف اختلافا كليا عن المعنى الذي يقصد بهذا اللفظ عينه في صفات المخلوقين ، فأنت تقول ، الله عالم والعلم صفة لله تعالى ، وتقول ، فلان عالم والعلم صفة لفلان من الناس ، فهل ما يقصد بلفظه العلم في التركيبين واحد؟ حاشا أن يكون كذلك ، وانما علم الله تبارك وتعالى علم لا يتناه كماله ، ولا يعد علم المخلوقين شيئا إلى جانبه ، وكذلك الحياة، وكلت لك السمع ، وكذلك البصر وكذلك الكلام ، وكذلك القدرة والإرادة . فهذه كلها مدلولات الألفاظ فيها تختلف عن مدلولاتها في حق الخلق من حيث الكمال والكيفية اختلافا كليا ؟ لأنه تبارك وتعالى لا يشبه أحدا من خلق ! فتفطن لهذا المعنى فإنه دقيق . ولست مطالبا بمعرفة كنها ، لم إنما حسبك أن تعلم آثارها في الكون ولوازمها في حقك . والله نسأل العصمة من الزلل وحسن التوفيق ).
هذا وممن صرح بمثل هذا القول جملة من العلماء منهم الإمام أحمد والإمام البغوي ، والإمام ابن تيمية وإليك بعضا من أقوالهم :
1– قال الإمام أحمد-رحمه الله -: ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف نفسه ، ق أجمل الله الصفة فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء ، وصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه ، قال فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون صفته ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه بما وصف به نفسه ، ولا نتعدى ذلك ولا يبلغ صفته الواصفون –نؤمن بالقران كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته بشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوه بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه ، فهذا كله يدل على أن الله – سبحانه وتعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا كله بدعة، والتسليم فيه بغير صفة ولا أحد إلا ما وصف به نفسه –سميع بصير لم يزل.متكلما عالما غفورا - عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال تعالى :" ثم استوى على العرش " كيف شاء المشيئة إليه والاستطاعة إليه لجس كمثله شيء وهو خالق كل شيء وهو سميع بصير بلا حد ، ولا تقدير- ولا نتعدي القرآن والحديث - تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة -).
لاحظ قوله : (نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته )
2 -قال البغوي : ( فأما أهل السنة فإنهم يقولون الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف ، يجب على الرجل الإيمان به ، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل ، ثم ذكر قول مالك ) .
وقال : وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينه وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهات أمروها كما جاءت بلا كيف.
3 - قول ابن تيمية : ( ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ، ونؤمن بمتشابهة لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة ي!به معانيها ما نعلمه في الدنيا- كما أخبر أن في الجنة لحمأ ولبنا وعسلا وخمرا ونحو ذلك ، وهذا يسبه ما في الدنيا لفظا ومعنى ، ولكن ليس هو مثله ولا حقيقته ، فأسماء الله تعالى وصفاته أولى ، وإن كان بينهما وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق ولا حقيقته كحقيقته ).
4- يقول الشيخ حافظ بن أحمد حكمي - مؤلف كتاب (معارج القبول ) -: (ولا يلزم من اتفاق التسمية اتفاق المسميات فإن الله تعالى قد سمى نفسه : سميعا بصيرا وأخبرنا أنه جعل " الإنسان سميعا بصيرا " ، وسمى نفسه الرؤوف الرحيم وأخبر أن نبيه " بالمؤمنين رؤوف رحيم " وسمرت نفسه الملك فقال : مالك يوم الدين " ، " ملك الناس " ، وسمى بعض خلقه ملكا فقال : " وقال الملك أتوني به استخلفه لنفسي " ، وهو العزيز بعض عباده عزيزا وغير ذلك ، فلا يلزم من اتفاق التسمية اتفاق الأسماء ومقتضياتها ، فليس السمع كالسمع ، ولا البصر كالبصر، ولا الرأفة كالرأفة ، ولا الرحمة كالرحمة ، ولا العزة كالعزة ، كما أنه ليس المخلوق كالخالق ) .
وهذا هو نفسه كلام الأستاذ البنا .
هذا ورغما عما قدمناه فقد صرح كثير من العلماء بأن آيات الصفات من المتشابه ، ومنهم الإمام ابن تيمية - رحمه الله - وآخرون.
قال ابن تيمية-رحمه الله -: فالمتشابه من الخبر مثل ما أخبر به في الجنة من اللحم واللبن والعسل والماء والحرير والذهب . فإن بين هذا وبين ما في الدنيا تشابه في اللفظ والمعنى، ومع هذا فحقيقة ذلك مخالفة لحقيقة هذا . وتلك الحقيقة لا نعلمها نحن في الدنيا ، وقد قال الله تعالى:
"فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" (السجدة : 17)
وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى : (أعددت لعبادي الصائمين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر) فهذا الذي وعد الله به عباده المؤمنين لا تعلمه نفس هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ، وكذلك وقت الساعة لا يعلمه إلا الله ، وأشرا طها ، وكذلك كيفيات ما يكون فجها من الحساب والصراط والميزان والحوض والثواب والعقاب لا يعلم كيفيته إلا الله ، فإنه لم يخلق بعد حتى تعلمه الملائكة، ولا له نظير مطابق من كل وجه حتى يعلم به ، فهو من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
ويقرر الإمام الشاطبي - رضي الله عنه - في كتابه القيم (الموافقات ) فيقول : ( الخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد من الأمور المتشابهة كمسائل الاستواء والنزول والضحك ، والبدء والتقدم والوجه ، وأشباه ذلك ).
وقوله :
" يد الله فوق أيديهم " (الفتح : 15).
وقوله تعالى: " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " (النساء : 171) .
هذا رأى جمهور المفسرين.
الشبهة السادسة: التفويض
والشبهة التالية التي وصم بها هؤلاء الشيخ البنا-رحمه الله -شبهة التفويض ويحسن بنا أن نعرف القارئ الكريم بمعنى التفويض .
التفويض لغة" هو جعل التصرف إلى المفوض ، قال صاحب القاموس التفويض في رد الأمر إلى المفوض وجعله الحاكم فيه ، ومنه قوله تعالى:"وأفوض أمري إلى الله"، وقال النووي : قال أهل اللغة ، فوض إليه الأمر أي وكله ورده إليه .
والاصطلاح الشرعي للتفويض : لا يخالف المعنى اللغوي . أصل الشبهة :
أولا: قول الشيخ البنا-رحمه الله -: ( ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض( كيفية )علم هذه المعاني إلى الله تبارك وتعالى ، أسلم وأولى بالاتباع حسما لمادة التأويل والتعطيل ). ونلاحظ أن الشيخ البنا -رحمه الله - لم يذكر كلمة ( الكيفية ) التي وضعناها بين القوسين اعتمادا على ما علم من أقواله السابقة في ذلك ، فاستغل بعض المنتسبين إلى العلم ذلك ، وقالوا : إن الشيخ -رحمه الله - : يفوض في المعنى وليس في الكيف ، وليس هذا هو مذهب السلف لأن الله تعالى لا يخاطبنا بما لا يعقل معناه ، وهم أي السلف يفوضون الكيف لا المعنى
والجواب عن ذلك :
أن المنهج العلمي يقتضي فهم العبارة ملتئمة مع سائر النصوص والأقوال دون أخذها مجتزأة .
فالعبارة جاءت منكرة وليست معرفة فهي لا تعني المذهب المذكور، ولكنها استعملت بمعناها اللغوي بمعنى عدم الخوض في كيفية الاستواء أو غيره من الصفات ، وترك ذلك إلى الله تعالى . فإذا أضيف إلى ذلك أن الرجل أكد ترجيحه لمذهب السلف ، وارتضاءه له ، واستشهاده بأقوالهم ، وأن هذه العبارة وردت في كلام غيره من الأعلام فإنه بمعين فهم مراده على هذا الوجه ، واليك بعضا من نصوصه في هذه المسألة لنصل إلى فهم النص المذكور .
1- ( قد علمت أن مذهب السلف في الآيات والأحاديث التي تتعلق بصفات الله تبارك وتعالى أن يمروها على ما جاءت عليه ويسكتوا عن تفسيرها وتأويلها ، وأن مذهب الخلف أن يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله تبارك وتعالى عن مشابهة خلقه ).
2 - عند احتجاجه بأقوال السلف ذكر منهم اللالكائي في ( أصول السنة ) ، ونقل عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ونقل عن الخلال في ( كتاب السنة) نصوصا عن أحمد بن حنبل ، ثم نقل عن مالك بن أنس ، وذكر ( أبو بكر الأثرم ) ( وأبو عمرو الطلمنكي ) و ( أبو عبد الله بن بطة ) وغيرهم من الأئمة ألأثبات الذين ساروا على نهج السلف الصالح .
كما أشار إلى ذلك ابن تيمية. قال -رحمه الله - : ( وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة مثل كتاب السنة للالكائي والإبانة لابن بطة ، والأصول لأبي عمرو الطلمنكي والسنة لأبي بكر بن الأثرم ، والسنة للخلال ، والسنة لأبي بكر ابن أبي عاصم ).
3- نقل عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون كلاما مختصرا لعقيدة السلف في الأسماء والصفات ، وقد ذكر هذا النص بتمامه ابن تيمية في الفتاوى.
4 - علق الإمام البنا على بعض آيات الأسماء والصفات وذكر معانيها مثل قدم الله تعالى وبقائه ، ومثل علمه سبحانه وتعالى وقيام الله تعالى بنفسه وكذلك بعض صفات الذات كالوجه والعين واليد والاستواء على العرش والعلو والقدم والفرح و غير هما .
5 - أنه صرح بمراد الكيفية تصريحا بينا في قوله : ( وإنما علم الله تبارك وتعالى علم لا يتناهى كماله ، ولا يعد علم المخلوقين شيئا إلى جانبه ، وكذلك الحياة ، وكذلك السمع . . فهذه كلها مدلولات الألفاظ فيها تختلف عن مدلولاتها في حق الخلق .
من حيث الكمال والكيفية اختلافا كليا لأنه تعالى لا يشبه أحدا من خلقه ، فتفطن لهذا المعنى فإنه دقيق . ولست مطالبا بمعرفة كنهها وانما حسبك أن تعلم آثارها في الكون ولوازمها في حقك.
6 - ارتضاؤه منهج السلف وتعويله عليه بقوله : ( فإن كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان ، وأثلج صدره ببرد اليقين فلا تعدل به بديلا ، وجعله أسلم وأولى بالاتباع حسما لمادة التأويل والتعطيل فأين هذا من التفويض ؟ من مجموع هذه النصوص يتضح أن مراد الإمام البنا هو تفويض الكيفية لا المعنى. على أن العبارة التي اشتد فيها النكير وفسرنا مراده فيها قد جاءت في كلام الأئمة ممن هم على منهج السلف ا لصالح.
وإليك هذه الأقوال :
1 - نقل الخلال عن أحمد بن حنبل : ( نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ، ولا نرد منها شيئا ، ونعلم أن ما جاء به الرسول لمج!لى حق إذا كان بأسانيد صحاح ) وهذا (تفويض بالكيف والمعنى) .
2 - جاء عن ابن رجب الحنبلي في فضل علم السلف على الخلف : والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها . . ولا يصح منهم خلاف ذلك البتة خصوصا الإمام أحمد ولا خوض في معانيها وهذا ( تفويض في المعنى) .
3-كذلك ما جاء عن ابن قدامة في لمعة الاعتقاد حين عرض لمسألة الصفات ، وتلقيها بالتسليم والقبول أشار إلى ترك التعرض إلى معناها ، ورد علمها إلى قائلها. وهذا ( تفويض في المعنى) .
4 - قال أبو العباس بن سريج : ذكره صاحب معارج القبول من طبقه أبى جعفر الطبري إمام المفسرين وإسحاق بن خزيمة فقال :
( قد صح عن جميع أهل الديانة والسنة إلى زماننا أن جميع الآي والأخبار الصادقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على المسلمين الإيمان بكل واحد منها كما ورد ، وأن السؤال عن معانيها بدعة . والجواب كفر وزندقة ) وهذا ( تفويض في المعنى ) .
5 - قول الإمام الشافعي : ( آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وأمنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ) وهذا ( تفويض كامل في الكيف المعنى ).
6 - قال ابن المنير : (ولأهل الكلام في هذه الصفات كالعين والوجه واليد ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنها صفات ذات أثبتها السمع ولا يهتدي إليها العقل .
الثاني : أن العين كناية عن صفة البصر ، واليد كناية عن صفة القدرة ، والوجه كناية عن صفة الوجود .
الثالث : إمرارها على ما جاءت مفوضا معناها إلى الله تعالى وهذا (تفويض في المعنى).
7- قال ابن تيمية : وأما ( السلف والأئمة ) فلم يدخلوا مع طائفة من الطوائف فيما ابتدعوه من نفي وإثبات بل اعتصموا بالكتاب والسنة ، ورأوا ذلك هو الموافق لصريح العقل فجعلوا كل لفظ جاء به الكتاب والسنة من أسمائه وصفاته حقا يجب الإيمان به ، وإن لم تعرف حقيقة معناه . وهذا ( تفويض في المعنى وهذا مخالف لرأيه الذي قال به بعدم ا لتفويض ) .
8 - وقال السيوطي في الإتقان ( فصل ) من المتشابه آيات الصفات ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد نحو-الرحمن على العرش استوى -كل شيء هالك إلا وجهه - ويبقى وجه ربك - ولتصنع على عيني - يد الله فوق أيديهم – والسماوات مطلوبات بيمينه . وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ، جـ 1 ص7 من الإتقان في علوم القرآن وهذا (تفويض في المعنى ) .
ولقد اختلف الحنابلة في موضوع الصفات : فمنهم من قال بالتفويض كأبي يعلى(المتوفى سنة 458هـ) ، وغيره ، ومنهم من قال بالتأويل والمجاز كأبي الفرج بن الجوزي (المتوفى 597ه ) ، ومنهم يرفضهما معا (التأويل والتفويض ) كابن تيمية (المتوفى 728 س ) ، وكل منهم يعتبر أن ما ذهب إليه هو رأي السلف ، فهل رأي الإسلام هو ما ذهب إليه أحد الحنابلة - فحسب –؟.
ولنا الآن أن نسأل هؤلاء المعترضين هل هناك خلاف بين ما قاله الإمام البنا وما قاله هؤلاء الأعلام من أئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين خصوصا أنه ألزم نفسه برأيهم وإذا قالوا : إنما أرادوا الكيف وليس المعنى ، قلنا لهم ولماذا لم تحملوا كلام الإمام البنا الذي قال بقولهم على نفس المحمل رغم أن كلام الأئمة صريح في المعنى وليس في الكيف كما أوردنا وبيناه سابقا .
ومما يلاحظ في هذه الأقوال أن لابن تيمية -رحمه الله -رأيين في هذه المسألة : رأي يذم وينكر التفويض بالمعنى ، ورأي قد ذكرناه آنفا يفوض فيه بالمعنى (انظر رقم 7 ) ، كما يلاحظ أن الرأي الذي قال فيه بعدم تفويض المعنى قد خالف فيه كثير من الأئمة منهم إمام مذهبه ( الإمام أحمد بن حنبل ) .
ولنا أن نسأل هؤلاء : إذا كان في المسألة أكثر من رأي لأهل العلم المعتبرين ، فهل يجوز الإنكار فيها كما هو معروف في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمور المختلف فيها بين العلماء؟ ! .
الإجماع على أنه لا يجوز الإنكار في الأمور المختلف فيها بين الأئمة ، وإنما يكون هناك الإرشاد بالدليل بين العلماء بعضهم مع بعض فقط .
حكم التكفير بالتأويل :
يقول الإمام البنا في أواخر رسالة العقائد بعد أن رجح مذهب السلف في موضوع الصفات : ( نعتقد إلى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجب لكم عليهم بكفر ولا فسوق )
فهل خالف في ذلك الإمام البنا رأي السلف ؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وأما التكفير فالصواب أن من اجتهد من أمة محمد وقصد الحق فأخطأ لم يكفر، بل يغفر له خطوه –ومن تبين له الهدى واتبع غير سبل المؤمنين فهو كافر-ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب ، ثم قد يكون فاسقا، وقد يكون له حسنات ترجح على سيئاته).
وقال أيضا: (هذا مع أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني أني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين ( شخص بعينه ) إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا وعاصيا أخرى وأني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها ، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العلمية) .
(وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية . . إلى أن قال : وكنحت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال : إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم زروني في اليم ،. فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين . ففعلوا به ذلك ، قال الله : ما حملك على ما فعلت ، قال : خشيتك ، فغفر له ). فهذا رجل شك في قدرة الله ، وفي إعادته إذا ذري ، بل اعتقد أنه لا يعاد ، وهذا كفر باتفاق المسلمين ، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك ، وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه ، فغفر له بذلك .
قال: ( والمتاول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا )
فهل هناك خلاف بين الإمامين ؟
الشبهة السابعة: عدم الاهتمام بدارسة العقيدة
قبل الشروع في الرد على هذه الشبهة ، يجب أن نوضح بعض الأمور :
أولا : طبيعة الفترة التي ظهر فيها أئمة الدعوة:
فالفترة التي كان فيها الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه -ظهرت فيها فتنة القول بخلق القران الكريم وغيرها من القضايا الفلسفية وعلم الكلام ، فتصدئ لها الإمام - رضي الله عنه -، وكانت محنته المشهورة مع القائلين بخلق القران .
والإمام ابن تيمية-رضي الله عنه -فقد ظهر في فترة كثر فيها الحديث عن الأسماء والصفات والتصوف والهجوم التتري على البلاد الإسلامية فتصدئ لها ، وكثر كلامه في الرد على هؤلاء .
والإمام محمد بن عبد الوهاب ، ظهر في فترة كثرت فيها الأضرحة والبدع ، فتصدئ لها ، وكان جل اهتمامه بها ، وللعلم فهذه الدعوات قد ظهرت في ظل دولة وخلافة إسلامية تطبق الشريعة الإسلامية ، قد تقترب أو تبتعد عنها ، ولكن على كل حال فهي قائمة .
أما الإمام البنا فقد جاء وكل شيء قد ذهب ( الخلافة الإسلامية ألغيت -احتلال أجنبي لأغلب البلاد الإسلامية - فرض القوانين الأجنبية على المسلمين واقصاء أحكام الشريعة الإسلامية ، انتشار البدع والأضرحة والجهل والتغريب ، والمطالبة بمتابعة الغرب في كل شيء ونبذ الإسلام بكل صوره )، ولذلك جاءت دعوته بهذه الشمولية للعودة بالأمة إلى كل ما هو إسلامي في شتى مجالات الحياة ، وعدم قصر الإسلام على جانب معين دون باقي الجوانب .
ثانيا : طبيعة النظرة إلى المجتمعات الحالية :
هل المجتمعات الإسلامية الحالية مجتمعات كافرة مثل مجتمع مكة فنبدأ معهم من الصفر؟ أم المجتمعات إسلامية بها بعض الأخطاء يجب أن تصحح كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع من طلبوا منه أن يجعل لهم ذات أنواط ( سدرة ) كما للكفار ذات أنواط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر إنها السنن قلتم – والذي نفسي بيده –كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ملأ اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ) ، لتركبن سنن من كان قبلكم ). وواصل بهم المسير إلى حنين ، ولم يكفرهم ، بل صحح لهم الخلل ، وانطلق بهم إلى الجهاد والعمل والإصلاح .
ثالثا : طبيعة الدعوة في مكة :
فالبعض يقارن المجتمعات الإسلامية الحالية بمجتمع مكة ، ويقول إن المجتمعات الحالية شبيهة بمجتمع الرسول بمكة فيجب أن نقتصر على دراسة العقيدة ( فقط ) وهذا فهم خاطئ ، وذلك لأن الإسلام قد اكتمل في حياة الرسول في س!ذ ولأن الرسول لمج!نه دعا الناس إلى الإسلام بكل جوانبه ، ومما يدل على هذا المعنى دلالة واضحة ما قاله جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه - وهو يحدث النجاشي عن حقيقة الدعوة الإسلامية حيث قال : (أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه ، وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ) .
ومعروف أن الهجرة إلى الحبشة كانت في منتصف العهد المكي تقريبا وواضح من خلال هذه الرواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتصر في دعوته بمكة على العقيدة فقط بل تعداها إلى الدعوة إلى الإصلاح في كل جوانب الحياة .
رابعا : وجوب التفرقة بين العقيدة وما أثير حولها من شبهات:
بعض طلاب العلم يخلطون بين العقيدة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم (قرآن وسنة) وبين الشبهات التي أثارها المتكلمون وتم الرد عليها من علماء الإسلام في وقتها وانتهت هذه الشبهات بموت أصحابها . فهل يجوز لنا أن نثير هذه الشبهات في الوقت الحاضر على أنها عقيدة رغم أنها ليست كذلك ؟ ، وإن جاز لنا أن ندرسها مع بعض طلاب العلم المنشغلين بهذا الأمر من باب العلم بها وكيف رد العلماء عليها ، فهل يجوز إثارتها مع العوام كما يحدث مع بعض المنتسبين إلى العلم الآن ؟ .
وهنا نترك الإجابة للإمام ابن تيمية-رضي الله عنه –حيث يقول : ( وأما قول القائل لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام فأنا ما فاتحت عاميا في شيء من ذلك قط ). كما قال : (أنا ما بغيت على أحد ولا قلت لأحد وافقني على اعتقادي وإلا فعلت بك ، ولا أكرهت أحدا بقول ولا عمل ، بل ما كتبت في ذلك شيئا قط إلا أن يكون جواب استفتاء بعد إلحاح السائل واحتراقه وكثرة مراجعته ولا عادتي مخاطبة الناس في ذلك ابتداء).
خامسا : وجوب التفرقة بين الثقافة الإيمانية والتربية الإيمانية:
فالثقافة الإيمانية هي مجموعة من الدروس والمحاضرات والخطب والكتب والنشرات والكتيبات والرسائل التي تتحدث عن العقيدة ، فهل هذه الأمور تحتاج إلى ثلاثة عشر عاما قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة؟ ! . أما التربية الإيمانية فهي التي ربى الله تعالى عليها رسوله صلى الله عليه وسلم في سورة المزمل (قيام الليل ) ، وربى عليها الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم في دار الأرقم ، بل واستمرت حتى بعد الهجرة ، وعلى سبيل المثال نزلت سورة الأنفال بعد غزوة بدر وكثير من آيات سورة العمران بعد غزوة أحد وسورة الأحزاب بعد الخندق وسورة التوبة بعد تبوك ، وكلها تربية للصحابة – رضوان الله عليهم جميعا - .
هذا ومما يجب الالتفات إليه هو الحذر من تحويل العقيدة إلى قضايا كلامية جدلية فلسفية ، فتفقد بذلك تأثيرها البناء في النفوس ، ومن ثم نقع فيما أنكرناه على ا لآخرين .
سادسا : الإخوان المسلمون ودراسة العقيدة:
رغم أن منهج الإخوان هو التربية الإيمانية ، وليس مجرد الوقوف عند الثقافة الإيمانية فقط ، إلا أنهم لم يهملوا الجانب الثقافي في التربية العقائدية لأفرادهم فاعتمدوا بعض الكتب الموجودة مثل كتب الإمام ابن تيمية ، وكتب الإمام ابن عبدالوهاب إلى جانب ما ألفه بعض علماء الإخوان والتي تستقي العقيدة من الكتاب والسنة بعيدا عن شبهات المتكلمين مثل : كتاب حقيقة التوحيد ، وكتاب العبادة في الإسلام للدكتور يوسف القرضاوي ، وكتاب العقائد الإسلامية للشيخ سيد سابق ، وكتاب الإيمان أركانه وحقيقته ونواقضه للدكتور محمد نعيم ياسين ، كما أن كتاب العقيدة الطحاوية والذي نال قبول الأمة يعتبر مرجعا أساسيا لدراسة العقيدة عند الإخوان المسلمين .
ومع هذا فهل أغفلت رسائل الإمام البنا ( والتي منها رسالة العقائد ) هذا ا لجانب ؟
وللإجابة عن هذا التساؤل ، فإليك بعض ما كتبه الإمام البنا في هذا الجانب من خلال رسالة واحدة من رسائله ، وهي (رسالة التعاليم ) :
1 - ركن الإخلاص : يقول :
( وأريد بالإخلاص أن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله ، وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر ، وبذلك يكون جندي فكرة وعقيدة لا جندي غرر ومنفعة . " قل إن صلاتي و نسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك وبذلك أمرت " (الأنعام : 162 – 163 ).
وبذلك يفهم الأخ المسلم معنى هتافه (الله غايتنا ، والله أكبر ولله الحمد ) . فهل يختلف هذا مع ما ذكره الإمام ابن عبد الوهاب في كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد الباب الثاني " فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب " ، والباب الثالث "من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب " ، والباب الرابع " الخوف من الشرك " ، والباب الخامس "الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله " ، والباب السادس والثلاثون "ما جاء في الرياء" ، والباب السابع والثلاثون "من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا"؟ .
2 . ركن التجرد : حيث يقول الإمام البنا : ( وأريد بالتجرد أن تتخلص لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص لأنها أسمى الفكر وأجمعها وأعلاها : " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة " (البقرة : 138) . " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمئوا بالله وحدة " (الممتحنة : 4 ).
والناس عند. الأخ الصادق واحد من ستة أصناف : مسلم مجاهد ، أو مسلم قاعد ، أو مسلم اثم ، أو ذمي معاهد ، أو محايد ، أو محارب ، ولكل حكمه في ميزان الإسلام ، وفي حدود هذه الأقسام توزن ا لأشخاص والهيئات ، ويكون الولاء والبراء . وواضح من خلال السياق أن الركن يتحدث عن التجرد وعن الولاء والبراء ، فهل يختلف هذا مع ما أورده الإمام ابن عبد الوهاب في الباب السادس ( تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ) والباب الحادي والثلاثون قوله تعالى : " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا . . " (البقرة : 165 ) .
3 - الأصل الأول من ركن الفهم :
حيث يقول : ( الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا ، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء ، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء). فهل يختلف هذا مع تعريف شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية للعبادة بقوله : ( هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة . ( رسالة العبودية ) ، ومع ما كتبه الإمام ابن عبد الوهاب في الباب الأول من كتاب التوحيد " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " (الذاريات : 56) .
-4 الأصل الرابع من ركن الفهم :
والذي يقول فيه الإمام البنا : ( والتمائم والرقي والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته ( إلا ما كان آية من قرآن أو رقية ثورة ).
لاحظ هنا قوله : ( منكر ) ولم يقل ( معروف ) ، وقوله : تجب محاربته - واجب بالمعنى الشرعي الذي يأثم تاركه - ومحاربته ، ولم يقل مهادنته - ثم رخص في الرقية إذا كانت شرعية من القرآن أو السنة ( رقية مأثورة ).
فهل يختلف هذا مع ما كتبه الإمام محمد بن عبد الوهاب في:
1 - الباب الثالث من كتاب التوحيد ( من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ).
2 - الباب السابع ( من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لدفع البلاء أو وقفه ).
3- الباب الثامن ( ما جاء في الرقئ والتمائم ) .
4 - الباب السادس عشر " حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير " (سبأ : 23) .
5 -الباب الرابع والعشرين ( ما جاء في السحر ) .
6 - الباب الخامس والعشرين ( بيان شيء من أنواع السحر ) .
7 - الباب السادس والعشرين ( ما جاء في الكهان ونحوهم ) .
8- الباب السابع والعشرين ( ما جاء في النشرة ) .
9 - الباب الثامن والعشرين ( ما جاء في التطير ) .
10 - الباب التاسع والعشرين ( ما جاء في التنجيم ) .
11 - الباب الثلاثين ( ما جاء في الاستسقاء بالأنواء ).
أما جواز الرقية المشروعة والتي استثناها الإمام البنا بقوله : إلا ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة ، فهذا ما قرره أيضا الإمام محمد بن عبد الوهاب في الباب الثالث (من حقق التوحيد دخل الجنة) المسألة 16 الرخصة في الرقية من العين والحمة والباب الثامن ( ما جاء في الرفى والتمائم ) المسألة أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك ، والمسألة الخامسة أن التميمة إذا كانت من القران فقد اختلف العلماء هل هي من ذلك أم لا؟ .
5 – الأصل الرابع عشر من ركن الفهم :
والذي يقول فيه الإمام البنا - رحمه الله - وزيارة القبور أيا كانت سنة مشروعة بالكيفية المأثورة ، ولكن الاستعانة بالمقبورين أيا كانوا ونداءهم لذلك وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد والنذر لهم وتشييد القبور وسترها وأضاءتها والتمسح بها والحلف بغير الله ، وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها ولا نتأول لهده الأعمال سدا للذريعة . لاحظ كما بينا في الأصل السابق أنه وصفها بأنها مبتدعات - وكبائر - وأوجب محاربتها - وقال : ولا نتأول لهذه الأعمال سدا للذريعة .
والآن تعالوا معنا لنقارن هذا الأصل بما أورده الإمام عبد الوهاب في كتاب التوحيد:
1 - الباب التاسع ( من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما).
2-الباب العاشر ( ما جاء في الذبح لغير الله ).
3 - الباب الحادي عشر ( لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله ) .
4 - الباب الثاني عشر ( من الشرك النذر لغير الله ) .
5 - الباب الثالث عشر ( من الشرك الاستعاذة بغير الله ) .
6 - الباب الرابع عشر ( من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره ) .
7-الباب الخامس عشر : قول الله تعالى أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون " (الأعراف : 191 ) .
8- الباب التاسع عشر ( ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في ا لصا لحين ) .
9 - الباب العشرون ( ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده ) .
10 - الباب العشرون ( ما جاء في الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله ) .
11 - الباب الثاني والعشرون ( ما جاء في حماية المصطفى ( جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك ) .
12 - الباب الحادي والأربعون : قوله تعالى : * قلا تجعلوا يله أندادا وأنتم تعلمون (البقرة : 22 ) .
13 - الباب الثاني والأربعون ( ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله ) .
14 - الباب الثالث والأربعون ( قول ما شاء الله وشئت ).
فهل اختلفت هذه الأقوال مع الأصل ( الرابع عشر ) الذي ذكر آنفا ولكن صدق الله تعالى حيث يقول : " فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" (الحج : 46) .
ومع هذا الوضوح والشمول في عرض بعض ما يتعلق بقضايا لوحيد العبودية وعلاج ما يقع من البعض مخالفا لعقيدة أهل السنة والجماعة حتى رأينا أصلين من الأصول العشرين للإمام البنا ( الرابع والرابع عشر ) قد انتظما خمسة وعشرين بابا من أبواب كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب ، فضلا عن الكتب والمراجع التي سبق ذكرها ويدرسها الإخوان في مجال العقيدة نجد من يتجرأ ويتهم الإخوان بعدم الاهتمام بدراسة العقيدة محتجين في ذلك بأن الإخوان لا يثيرون هذه القضايا في اللقاءات الجماهيرية العامة، وللرد على هؤلاء نقول : نحن نعيش في مجتمعات إسلامية قد تقترب أو تبتعد عن الإسلام وفيهم أخطاء فكيف نعالج هذه الأخطاء؟ ومنأين نبدأ معهم . . . فهل نبدأ معهم بنقاط الاتفاق وبعد أن يطمئنوا إليك ويكونوا علي استعداد للتقبل منك تناقش معهم نقاط الخلاف أم نبدأ بنقاط الخلاف مباشرة .
منهج التغيير عند البنا :
يقول الإمام البنا : ( إن الناس يعيشون في أكواخ من العقائد البالية ، فلا تهدموا عليهم أكواخهم ، ولكن ابنوا لهم قصورا من العقيدة السمحة ، وعليه فسوف يهجرون هذه الأكواخ إلي هذه القصور ) .
والإمام البنا لم يأت بهذا من عنده بل من سيرة الرسول (صلي الله علية وسلم ) الذي لم يبدأ بهدم الأصنام إلا بعد أن حطمها في نفوس عبديها ، وظل يصلي عند الكعبة وحولها الأصنام ، إلي أن جاء النصر المبين فهدمها أصحابها بأنفسهم . فهل الإمام البنا متبع أم مبتدع فيما ذهب إليه ؟ !
الشبهة الثامنة: جذب الجماهير
هل جذب الجماهير سبة في حق الإخوان ؟؟
قد يكون من أشد الغرائب ما يثيره بعض المنتسبين لدعوات معينة حول نجاح دعوة الإخوان المسلمين في جذب الجماهير المسلمة إلي الفكرة الإسلامية ، وتحويلهم من مجرد مسلمين بشهادة الميلاد ، إلي جماهير ملتزمة بإسلامها ، عقيدة وعبادة ، سلوكا وأخلاقا ، عملا وتضحية ، لفكرة ا لإسلام ، مجاهدين بالنفس والمال ، في سبيلها ، ومسخرين أنفسهم وممتلكاتهم لخدمة أهدافها ، وتحقيق غايتها ، مجددين الأمل في نفوس المسلمين ، بإمكانية البعث الإسلامي من جديد واستعادة الأمة لمجدها ومكانتها مرة أخري ، متحملين في سبيل ذلك الكثير والكثير، وقد أثبتت الأيام صدق نيتهم ، ومضاء عزيمتهم ، وعظيم ثباتهم ، من قتال لليهود في فلسطين ، وحرب للإنجليز المستعمرين في مصر ، ومحاربة للظلم والطغيان ، ووقوف أمام من يحادون شريعة الله ، حتى قتل منهم من قتل ، وابتلي بالسجن المؤبد منهم من ابتلي ، واعتقل وشرد منهم الكثير : " فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين " (آل عمران : 146 ) .
هذا كله بدون فتنة أو إرهاب ، أو إتلاف ، أو تعد علي أحد ، وإنما بما يرضي الله وحسب شريعته وفي سبيله .
هذا وقد ضربوا للناس أروع الأمثال في الأخوة والصفاء ، والقدوة الحسنة ، والعمل الصالح الذي به تظهر آثار الإيمان في المجتمع ، فتقدموا بجدارة إلي الخدمة العامة في شتي المجالات ، في اتحادات الطلاب لتربية الطلبة علي الإيمان وتعريفهم بدينهم ، وفي النقابات المهنية ليحفظوا الحقوق ويؤدوا الخدمات ، ويشيعوا الرحمة ، ويوجهوا جهود العاملين إلي الإنتاج والتفاني في العمل ، وخدمة أمتهم ، وفي الخدمات الطبية ، ليقدموا الطب لمسة حنان وشفاء ومواساة ، حتى لا يكون الطب له جيب وليس له قلب ، وكما شاركوا في رفع المعاناة عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بالإغاثات في النكبات والحروب في أفغانستان ، في البوسنة والهرسك ، في الصومال ،
في الشييشان ، وغيرها من البلاد الإسلامية علي قدر الجهد والطاقة ، رغم المضايقات من السلطات وجهات معينة ، حاقدة أو معادية ، فاسدة أو متأخرة ، هذا كله مع نشر للثقافة الإسلامية وبعث لحضارة القرآنية ، واثراء المكتبة الإسلامية والفقهية والقانونية ، وإظهار لمكانة التشريع ، وريادة المهج وقدرته علي قيادة البشرية من جديد .
والحقيقة ما كان يخطر علي بال إنسان أن تجميع شباب الأمة ودفعه إلي طريق الإسلام الصحيح ، يكون في يوم من الأيام سبة ومذمة للإخوان المسلمين ، اللهم !لا إذا كان هذا الإنسان عدوا ، وفاقد لعقله وبصيرته ، وقد حصل ذلك .يقول صاحب كتاب الجماعة الأم : "إن جماعة الإخوان رأت أن الأحزاب السياسية إنما تصل إلي الحكم والتمكين عن طريق الرصيد الجماهيري الذي يمكنها من السيطرة علي قبة البرلمان " ، ثم يقول : "ثم إن الإخوان يرون استحالة الجماهير للتعاطف مع جماعتهم ، أهم من تصحيح معتقداتهم، ونحن نري أن الدعوات والرسالات السماوية لا تنتصر إلا بالجمهور المؤيد لها ، وكان دائما إقبال الجماهير علي الدعوات من البشريان التي يجب علي الدعاة أن يشكروا الله عليها ، ولهذا نزلت صورة النصر علي رسول الله (صلي الله عليه وسلم ) تؤكد ذلك قال تعالي : "إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون نجي دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " * (النصر) .
قال المفسرون : دخل الناس سنة تسع في دين الله أفواجا، ووفدت أفواج العرب إلي المدينة يدخلون في الإسلام حتى عم الإسلام الجزيرة، ولقد حضر مع رسول الله (صلي الله علية وسلم ) في حجة الوداع مائة ألف من مختلف القبائل . قال ابن عطية : لم يمت رسول الله (صلي الله علية وسلم )وفي العرب رجل كافر، بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين والطائف ، منهم من قدم ، ومنهم من قدم وفده " .
وكان طلب الحق سبحانه وتعالي من رسوله بعد أن رأي الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، أن يسبح ربه حمدا علي حصول النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام جماعات ، وقال بعض العلماء ، بل هو تسبيح وابتهاج وفرح لدخول الناس أفواجا في الإسلام مما يشير إلي نصر الله وفتحه.
أما عن قولهم دخول الجماهير إلي الإخوان بدون تصحيح عقيدة ، فهذا شيء عجيب ! ! لأن الجماهير أصلا مسلمة ، ولكن تحتاج إلي تفعيل العقيدة ، وإشعال روح الإيمان في النفوس ، وكان (صلي الله علية وسلم ) يقبل من المشركين لا إله إلا الله حين يدخلوا في الإسلام ، ثم يفعلوا بعد ذلك عقديا وإيمانيا ، ويعلموا العقيدة الصحيحة .
عن المقداد بن الأسود أنه قال : يا رسول الله ، أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فضرب إحدي يدي بالسيف فقطعها ، ثم لاذ مني بشجرة ، فقال : أسلمت لله ، أفأقتله يا رسول الله ! بعد أن قالها؟ قال رسول الله: "لا تقتله " قال : فقلت : يا رسول الله ، إنه قد قطع يدي ، ثم قال ذلك بعد أن قطعها ، أفأقتله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تقتله ، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها"، قيل المعني : أن لا إله إلا الله عصمت دمه ، فإن قتلته فقد قتلت مؤمنا مثلك .
وعن أسامة بن زيد قال : بعثنا رسول الله في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلا، فقال : لا إله إلا الله ، فطعنته ، فوقع من نفسي من ذلك ، فذكرت ذلك للنبي (صلي الله علية وسلم) ، فقال رسول الله في: أقال : "لا إله إلا الله وقتلته ؟" ، قال : قلت : يا رسول الله ! إنما قالها خوفا من السلاح ، قال : "أفلا شققت عن قلبه حتى لتعلم هل قالها صدقا؟ " فمازال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.
وفي رواية ، قال (صلي الله علية وسلم ) لأسامة : "فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟" قال يا رسول الله استغفر لي ، قال : "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟" قال : فجعل لا يزيد علي أن يقول : "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم ا لقيامة ؟ ".
هذا هو رسول الله جم!ذ قدوتنا ما كان يمنع أحدا من المشركين من الدخول في الإسلام بلا إله إلا الله ، أما من يريد فتنة الناس والإعنات عليهم وسد الطرق أمامهم ، فهذا لم يفهم إسلامه بعد ، ثم يزيد الطين بلة فيتهم الإخوان المسلمين بإقبال الناس عليهم ليتعلموا أمر دينهم ويفعلوا عقيدتهم وينقوها من الدخن إن كان بها شيء من ذلك .
واتهام الإخوان بعدم الاهتمام بالتوحيد تأليفا وتدريسا ، هذه الشبهة يوجهها كثير من العوام للدعوة ، والواقع أن التوحيد يطلق علي أمرين :
الأول : ما يجب علي المرء تعلمه ، وهذا هو ما بينه الرسول (صلي الله علية وسلم ) في حديث جبريل ، لما سأله عن الإيمان ، قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره . . الحديث ، فهذا الواجب الذي لا يسع أحدا جهله ، هو هذه الأركان الستة ، أما التفصيلات ورد الشبهات والأقوال المختلفة ، والأدلة فهذه لا تجب معرفتها علي أعيان الناس ، ولم يعلمها رسول الله (صلي الله علية وسلم ) لعوام أصحابه .
الثاني : علم من العلوم الشرعية تبحث فيه التفاصيل المذكورة وهذا لا يجب علي أعيان الناس ، بل تعلمه فرض كفاية إن قام به بعض الناس سقط عن الباقين ، وهو مثل غيره من علوم فرض الكفاية ليس له مزية عليها ، بل قد يشق علي بعض الناس تعلمه لأن عقول بعض الناس لا تدركها وقد تثير شبهة لدي الشخص لا يمكنه جوابها ، فالاهتمام الزائد بهذه المادة وجعلها قبل كل شيء تضخيم وتفخيم لبعض الأمور علي حساب بعض ، فإذن : الذي يقول إن الإخوان مثلا لا يعتنون بالتوحيد لا يمكن أن يقصد الإطلاق الأول ، أما الإطلاق الثاني فليس عيبا ألا تعتني جماعة من المسلمين بتخصص من التخصصات إذا كان من أفرادها من يتقنه ، ومع هذا فإن هذه الدعوى مجازفة ، فإن جماعة الإخوان تعتني بهذه المادة عناية كبيرة ، ولهم كتب كثيرة فيما يتعلق بالاعتقاد مع أن المقرر العقدي لدي الجماعة كبير جدا ، والذي يقول هذا لم يطلع علي مقررات الجماعة ، وما تضمنه منهاجها التربوي ، وما تقرره من دراسة بعض الكتب في التوحيد ، وكذلك العناية بآيات التوحيد وأحاديث التوحيد ونحو هذا . وزيادة الإيمان لا تحصل بمجرد قراءة الشبهات والرد عليها ، وإنما تحصل بالممارسة العملية لهذه الدعوة والجهاد في سبيل الله تعالي ، وبذل الجهد في سبيل نصرة دين الله تعالي ، وكثير من الناس يظن أنه أكمل التوحيد بمجرد قراءته لأقوال الفرقة الفلانية والرد عليها ، وبهذا يصحح العقيدة ويستحق الجنة بمجرد هذا .
والواقع أن تكميل الإيمان وتقويته وزيادته لا يكون إلا بالعمل وبعلاج النفس وجهادها علي ذلك ، والتفكر في عجائب خلق الله تعالي والتدبر فيها وبذل الجهد من أجل إعلاء كلمة الله تعالي وإعزاز دينه وتحقيق محبته ومحبة رسوله (صلي الله علية وسلم )، وكثرة الأعمال الصالحة وزيادة الأدب مع الله والرحمة لعباده ليزول جفاء النفوس وجفافها .
هذا وقد وضح الإمام البنا طبيعة دعوة الإخوان واهتمام جماعة الإخوان بدراسة العقيدة ، لأنها دعوة ربانية ، يقول الإمام الشهيد البنا :
إن دعوتنا ربانية . . فلأن الأساس الذي تدور عليه أهدافنا جميعا أن يتعرف الناس إلي ربهم وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانية كريمة تسمو بأنفسهم عن جمود المادة الصماء وجحودها إلي طهر الإنسانية الفاضلة وجمالها ، ونحن الإخوان المسلمين نهتف من كل قلوبنا الله غايتنا ، فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكر الناس من جديد هذه الصلة التي تربطهم بالله تبارك وتعالي والتي نسوها فأنساهم الله أنفسهم : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون " * (البقرة : 21)
ويقول الإمام الشهيد : أ معرفة الله تبارك وتعالي وتوحيده وتنزيهه أسمي عقائد الإسلام ، وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يليق بذلك من التشابه نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء، ويسعنا ما وسع رسول الله لمج!ذ وأصحابه ! " والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا (ال عمران : 7)م .
ثم ينهي -رحمه الله - عن كثير من المخالفات العقدية فيقول : " وزيارة القبور أيا كانت سنة مشروعة بالكيفية المأثورة ولكن الاستعانة بالمقبورين أيا كانوا ونداءهم لذلك وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد، والنذر لهم ، وتشييد القبور وسترها وإضاءتها ، والتمسح بها ، والحلف بغير الله ، وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها ، ولا نتأول سدا للذريعة
ولقد أفرد الإمام الشهيد حسن البنا رسالة خاصة بالعقائد الإسلامية وضح فيها منهاج الإخوان في دراسة العقيدة ، هذا وقد فعل الإخوان العقيدة عمليا حتى رأي الناس رجل العقيدة ، وجندي العقيدة ، ومثقف العقيدة في واقع الحياة يمشي علي الأرض عنوانا للإسلام الفاعل الذي يطلع فجره من جديد في إشراقة الدعوة المباركة .
هذا وزعماء السلفية الحديثة قد ذهبوا إلي ما ذهب إليه الإخوان من تجميع المسلمين علي أصول العقيدة لأن المفترض أنهم مسلمون موحدون ، ثم تفعل عقيدتهم وتنقي إن كان بها شائبة .
يقول الأستاذ الدكتور ناصر عبدالكريم العقيل ، أستاذ العقيدة بكلية أصول الدين بالرياض : "إن عامة المسلمين الذين يقيمون شعائر الدين ، سالمين من الشركيات ، وهم علي الفطرة ، يدخلون في سواد الأمة ، وهم أهل السنة في أي بلد ومكان كانوا" .
ثم يقول في مكان أفرد في الصفحة نفسها :
"فإن الأكثرية من المسلمين اليوم من العامة الذين يغلب عليهم الجهل ، وعدم الإلمام بتفصيلات العقائد ، وهؤلاء جمهورهم علي الفطرة ، والأصل فيهم البراءة وسلامة الاعتقاد ، ومن كان هذا وصفه فهو داخل في سواد المسلمين من أهل السنة ، ما لم تجتالهم شياطين البدع والخرافات وشياطين الفرق والأهواء ، ودعاة الضلال "، أي من المذاهب الهدامة علمانية وغيرها .
وهذا هو نفس ما ذهب إليه الشيخ سفر الحوالي في رسالته منهج الأشاعرة في العقيدة تعقيبا علي مقالات الصابوني ، ص 23 ، فقال :
"أما عوام المسلمين فالأصل فيهم أنهم علي عقيدة السلف ، لأنها الفطرة التي يولد عليها الإنسان وينشأ عليها المسلم بلا تلقين ولا تعليم من حيث الأصل فكل من لم يلقنه المبتدعة بدعتهم وكتبهم ، فليس من حق أي فرقة أن تدعيه إلا أهل السنة والجماعة " .
إذن فالإخوان المسلمون يضمون المسلمين إليهم وهم علي الفطرة كما تقولون وديانتهم سليمة كقولكم ، خوف أن يأخذهم الغزو الثقافي أو الأحزاب العلمانية أو يشتتهم الضياع ، ثم تفعل عقيدتهم وتعلمهم أمر دينهم ودنياهم ، فهل في ذلك من بأس يا عباد الله ، أم أن العقود هو الأفضل ، وترك جمهور المسلمين نهبا لكل ناهب هو الأحسن ؟ فما قولكم دام فضلكم بعد هذا البيان من أقوال رسولنا وعلمائنا وواقعنا الذي نعيش ؟ ثم من أقوال علمائكم ، هل نظل رغم ذلك نسمع هذه الهرطقة؟ ! .
هذا . . ومما تمتاز به جماعة الإخوان المسلمين عن غيرها من جماعات الدنيا ، أن الفرد فيها يخضع بعد الدراسة والفهم وتعلم السلوك العملي الإسلامي ، للتوثيق والتضعيف ، يخضع لاختبارات معينة عقديا ونفسيا وسلوكيا حسب نظام دقيق ، حتى يكون الفرد في الإخوان نقيا ، صاد ق التوجه ، قوي العقيدة ، شديد العزيمة ، مستعدا للتضحية قي سبيل دعوته بكل مر تخص وغال ، يثبت في المحن ، ولا يتزعزع في الشدائد والإبتلاءات ، وها هي الجماعة تتعرض للابتلاء أكثر من نصف قرن من الزمان ، وتعادي من القاصي والداني وما وهن لأفرادها قوة ، أو تضعضع لهم عزم ، وما ضعفوا وما استكانوا ، بل كانوا صابرين عاملين مكافحين ، أترى بعد ذلك أنهم صفوة أم لا؟
الشبهة التاسعة: الإخوان والعمل السياسي
يري بعض المتحاملين على الإخوان المسلمين أنهم جماعة سياسية لأنهم يخلطون الدين بالسياسة ، ويشتغلون بها وهذا خطأ بين ، لأن المتحدث بمثل هذا لا يعرف السياسة ولا يفقه الإسلام بشموله ، ولا يعرف العلاقة بينهما ، والحقيقة أن هذا الجهل بالإسلام قد استشري في الأمة زمن الضعف حتى أنك تجد أن الشيخ البنا-رحمه الله - يعبر عن هذه الفترة المحزنه أصدق تعبير فيقول : قلما تجد إنسانا يتحدث إليك عن الإسلام والسياسة إلا وجدته يفصل بينهما ، ويضع كل واحد من المعنيين في جانب ، فهما عند الناس لا يلتقيان ولا يجتمعان ، ومن هنا سميت هذه جمعية إسلامية لا سياسية ، وذلك اجتماع ديني لا سياسة فيه، ورأيت في صدر قوانين الجمعيات الإسلامية ومنهجها "لا تتعرض الجمعية للشؤون السياسية" .
ويحسن بنا لبيان هذا الجهل أن نعرف السياسة سواء عند الغربيين أو الإسلاميين حتى نعرف إن كان الإسلام يهتم بالسياسة أم لا ، أو هو السياسة . نفسها وليس شيئا آخر، ونبدأ بتعريف الغربيين للسياسة من عهد أرسطو إلى اليوم .
فالسياسة عند فلاسفة الجونان -أرسطو خاصة - هي كل ما من شأنه أن يحقق الحياة الخيرة في المجتمع ، فهي تستوعب كافة الشؤون السائدة في المجتمع ، وهذا التحديد يعتبر السياسة فرعا عن الأخلاق ، ولعل المعني اللغوي عند العرب لهذا المصطلح يتشابه مع التحديد الأوسطي له من حيث الاتصال بالأخلاق ، ومن حيث الشمول ، فأصل كلمة "سياسة" جاء من السوس ، وهي تعني الرئاسة ، وعندما نقول : ساس الأمر ، نعني : أنه قام به ، وشرط السياسة أن يقوم بالأمر "بما يصلحه " أي أمر الجماعة أو مجموع الناس.
أما السياسة عند الإسلاميين فقد عبر عنها ابن عقيل الحنبلي حيث قال : السياسة هي ما يكون الناس معه أقرب إلي الصلاح والفلاح وأبعد عن الفساد في أمورهم الدنيوية ، وان لم يضعه رسول أو نزل به وحي
وقد عرف رفاعة الطهطاوي السياسة بقوله:
"هي فن الإدارة أو تدبير المملكة ونحو ذلك " ، ثم قال والبحث في هذا العلم ودوران الألسن فيه والتحدث به والمنادمة عليه في المجالس والمحافل والخوض فيه كل ذلك يسمى "سياسة"
وعرفها مالك بن نبي بقوله:
"هي العمل المنظم الفعال الذي تقوم به الأمة ككل - الدولة والجماعات - المتفق مع عقيدة جمهورها لتحقيق التجانس والتعاون بين الدولة والفرد على الصعيد الاجتماعي والثقافي لتكون السياسة مؤثرا حقيقيا في واقع الوطن"
ويقول الدكتور زكي نجيب محمود :
" هذه الفظة تعني تحقيق المصالح المشتركة بين الناس في مجتمع معين ، وأن هذا الصالح المشترك لهو حاصل جميع المنافع التي تنتفع بها مجموعة الأفراد كل في مجاله "
وعلى هذا فالسياسة الشرعية كما يقول الفقهاء هي : تدبير الشؤون العامة للدولة ا لإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار بما لا يتعدي حدود الشريعة وأصولها الكلية لي وإن لم يسبق إلي القول به الأئمة المجتهدون .
مفهوم السياسة عند الإخوان المسلمين
بعد هذا العرض لمعني السياسة ننظر إلى فهم الإخوان المسلمين لها ونأخذ هذا الفهم من عرض الشيخ حسن البنا- المرشد الأول لجماعة الإخوان المسلمين - لمفهوم السياسة عند حديثة عن علاقة الإسلام بالسياسة ، وموقف المسلم منها ، يقول رحمه الله : "السياسة هي : النظر في شئون الأمة الداخلية والخارجية ولها جانبين : الداخلي ، وتعني السياسة - عندئذ - : (تنظيم أمر الحكومة وبيان مهماتها ، وتفصيل واجباتها وحقوقها ، ومراقبة الحاكمين ، والإشراف عليهم ليطاعوا إذا أحسنوا ، وينقدوا إذا أساءوا) والجانب الخارجي وتعني السياسة حينئذ (المحافظة على استقلال الأمة وحريتها ، والسير بها إلى الأهداف التي تحتل بها مكانتها بين الأم ، وتخليصها من استبداد غيرها بها وتدخله في شئونها) 00 الخ ، ويربط البنا بوضوح بين العقيدة والعمل السياسي بقوله : (إن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيا : بعيد النظر في شؤون أمته ، مهتما بها ، فالمسلم مطالب بحكم إسلامه أن يعني بكل شؤون أمته ، ويقول : (إننا سياسيون بمعني أننا نهتم بشئون أمتنا وأننا نعمل لاستكمال الحرية . . الخ )
. فالسياسة عند الإخوان هي التفكير في شئون الأمة الداخلية والخارجية ، والاهتمام بها والعمل على إصلاح كافة جوانبها ، وهي ترتبط بالعقيدة والأخلاق ، وتهدف إلى التغيير ، وهذا التحديد كان يتلاءم مع الواقع المصري وخاصة في فترة الاحتلال الأجنبي ويعطي الفرد دافعا داخليا للعمل السياسي تفكيرا واهتماما وعملا مغيرا لأوضاع الأمة ، ويجعل السياسة مسألة تخص كل مسلم لأن أمور أمته في مقدمة أولوياته ، ولأنه مفروض أن يعمل جاهدا لإصلاحها وعزتها وتقدمها .
والمقابلة بين تعريف ابن نبي وتعريف زكي نجيب محمود وتعريف الإخوان تظهر تقاربا بينها جميعا ، فهي عند الأول العمل المغير للإطار الثقافي ، وعند الثاني العمل المغير للأوضاع الاجتماعية نحو الأفضل والخير ، وعند الإخوان التفكير ، والاهتمام والعمل المصلح لشئون ا لأمة كلها داخلها وخارجها ، والإصلاح تغيير بالضرورة وعلى الرغم من أن مؤسس الجماعة الإمام حسن البنا -رحمه الله - قد وضح ذلك كما قدمنا بأسلوب لا لبس فيه إلا أن البعض ما زال لا يريد أن يقرأ، أو لا يريد أن يفهم ، أن الإسلام ما جاء بقرآنه وسنته وسيرة سلفه الصالح إلا ليصلح حياة الناس وأعمالهم ويقود الأمة ويحكمها مصداقا لقوله تعالي : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم " (المائدة : 49) ، ولهذا فقد أكد الإمام البنا -رحمه الله - على أن مرجعية الجماعة هي الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح في الدعوة إلى إصلاح حال الناس والأمة بتعاليم وأحكام وهدي الإسلام دون النظر إلى الألفاظ والمسميات وهو بهذا يبين جهل أصحاب هذه الشبهات فيقول -رحمه الله -:
نحن والسياسة:
ويقول قوم : إن الإخوان المسلمين قوم سياسيون ودعوتهم دعوة سياسية ، ولهم من وراء ذلك مآرب أخرى ، ولا ندري إلى متى تتقارض أمتنا التهم وتتبادل الظنون وتتنابذ بالألقاب ، وتترك يقينا يؤيده الواقع في سبيل ظن توجيه الشكوك ؟
( أ يا قومنا : إننا نناديكم والقران في يميننا والسنة في شمالنا ، وعمل السلف الصالح من أبناء هذه الأمة قدوتنا ، وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام وهدئ الإسلام ، فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا وان كان من يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسيا فنحن أعرق الناس والحمد لله في السياسة ، وان شئتم أن تسموا ذلك سياسة فقولوا ما شئتم فلن تضرنا الأسماء متى وضحت المسميات وانكشفت الغايات )
يا قومنا : أ لا تحجبكم الألفاظ عن الحقائق ، ولا الأسماء عن الغايات ، ولا الأعراض عن الجواهر ، وان للإسلام لسياسة في طيها سعادة الدنيا وصلاح الآخرة ؟ وتلك هي سياستنا لا نبغي بها بديلا فسوسوا بها أنفسكم ، واحملوا عليها غيركم تظفروا بالعزة الأخروية ، ولتعلمن نبأه بعد حين ). والواقع أن غير المسلمين حينما جهلوا هذا الإسلام ، أو حينما أعياهم أمره وثباته في نفوس أتباعه ، ورسوخه في قلوب المؤمنين به ، واستعداد كل مسلم لتفديته بالنفس والمال ، لم يحاولوا أن يجرحوا في نفوس المسلمين اسم الإسلام ولا مظاهره وشكلياته ، ولكنهم حاولوا أن يحصروا معناه في دائرة ضيقة تذهب بكل ما فيه من نواح قوية عملية ، وان تركت للمسلمين بعد ذلك قشورا من الألقاب والأشكال والمظهريات لا تسمن ولا تغني من جوع . . فأفهموا المسلمين أن الإسلام شيء والاجتماع شيء أخر، وأن الإسلام شيء والقانون شيء غيره ، وإن الإسلام شيء ومسائل الاقتصاد لا تتصل به ، وأن الإسلام شيء والثقافة العامة سواه ، وأن الإسلام شيء يجب أن يكون بعيدا عن السياسة .
فحدثوني بربكم أيها المسلمون إذا كان الإسلام شيئا غير السياسة وغير ا لاجتماع ، وغير ا لاقتصاد ، وغير الثقافة ، فما هو إذن ؟. . أهو هذه الركعات الخالية من القلب الحاضر ؟ ، أم هذه الألفاظ التي هي كما تقول رابعة العدوية : استغفار يحتاج إلى استغفار ، لهذا أيها المسلمون نزل القرآن نظاما كاملا محكما مفصلا " تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشري للمسلمين " (النحل : 89).
أيها المسلمون أعلنها بكل صراحة ووضوح وقوة ، أن الإسلام شيء غير هذا المعني الذي أراد خصومه والأعداء من أبنائه أن يحصروه فيه ويقيدوه به ، وأن الإسلام عقيدة وعبادة ، ووطن وجنسية ، وسماحة وقوة ، وخلق ومادة ، وثقافة وقانون ، وأن المسلم مطالب بحكم إسلامه أن يعني بكل شؤون أمته ، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم .
وأعتقد أن أسلافنا - رضوان الله عليهم - ما فهموا للإسلام معني غير هذا ، فبه كانوا يحكمون ، وله كانوا يجاهدون ، وعلى قواعده كانوا يتعاملون ، وفي حدوده كانوا يسيرون في كل شأن من شؤون الحياة الدنيا العملية قبل شؤون الآخرة الروحية ، ورحم الله الخليفة الأول إذ يقول : " لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله ". ،
إذن فغريب أمر هؤلاء ، ينكرون على المسلمين المشاركة في شؤون وطنهم ويعطون هذا الحق للشيوعي والعلماني و-البوذي وكل الملل ، ويطلقون يدهم في تدبير شؤون الأمة وتصريف أمورها ، في حين يمنعون على المسلمين القيام بهذا الأمر ، وهذا هو نفسه ما يريده أعداء الإسلام ؟. السياسة الداخلية، ثم يعرض الأستاذ البنا –رحمه الله –للتفاصيل السياسية فيقول : دعوي في أيها الأخوة أسترسل معكم في تقرير هذا المعني ، فأقول إن كان يراد بالسياسة معناها الداخلي من حيث تنظيم أمر الحكومة وبيان مهماتها وتفصيل حقوقها وواجباتها ومراقبة الحاكمين والإشراف عليهم ليطاعوا إذا أحسنوا وينقدوا إذا أساءوا . . فالإسلام قد عني بهذه الناحية ، ووضع لها القواعد والأصول ، وفصل حقوق الحاكم والمحكوم ، وبين مواقف الظالم والمظلوم ، ووضع لكل حدا لا يعدوه ولا يتجاوزه . فالدساتير والقوانين المدنية والجنائية بفروعها المختلفة عرض لها ا لإسلام ، ووضع نفسه منها بالموضع الذي يجعله أول مصادرها وأقدس منابعها . وهو حين فعل هذا إنما وضع ا لأصول الكلية ، والقواعد العامة ، والمقاصد الجامعة ، وفرض على الناس تحقيقها ، وترك لهم الجزئيات والتفاصيل يطبقونها بحسب ظروفهم وعصورهم ، ويجتهدون في ذلك ما وسعتهم المصلحة وواتاهم الاجتهاد. وقد قرر الإسلام سلطة الأمة وأكدها ، وأوصي بأن يكون كل مسلم مشرفا تمام الإشراف على تصرفات حكومته ، يقدم لها النصح والمعونة ويناقشها الحساب ، وهو كما فرض على الحاكم أن يعمل لمصلحة المحكومين بإحقاق الحق وإبطال الباطل فرض على المحكومين كذلك أن يسمعوا ويطيعوا للحاكم ما كان كذلك ، فإذا انحرف فقد وجب عليهم أن يقوموه على الحق ويلزموه حدود القانون ، ويعيدوه إلي نصاب العدالة ، هذه تعاليم كلها من كتاب الله تبارك وتعالي ، ومن أحاديث رسوله (صلي الله علية وسلم ) في لم نتقولها ولم نخترعها ، وإلي حضراتكم قول الله تبارك وتعالي : " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلي الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم و أحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " (المائدة 48، 50)، إلي عشرات الآيات الكريمة التي تناولت كل ما ذكرنا بالبيان والتفصيل .
ويقول الرسول (صلي الله علية وسلم ) في تقرير سلطة الأمة وتقرير الرأي العام فيها : " الدين النصيحة" ، قالوا : لمن يا رسول الله ؟ ، قال : " لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم" . . ويقول (صلي الله علية وسلم ) أيضا : " إن من أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، ويقول كذلك : " سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله."
وإلى مئات الأحاديث التي تفصل هذا المعني وتوضحه ، وتوجب على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر ، وأن يراقبوا حكامهم ويشرفوا على مبلغ احترامهم للحق وإنقاذهم لأحكام الله .
فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يأمر بهذا التدخل ، أو الإشراف ، أو التناصح ، أو سمه ما شئت ، وحين يحض عليه ، ويبين أنه الدين وأنه الجهاد الأكبر، وأن جزاءه الشهادة العظمي . . يخالف تعاليم الإسلام فيخلط السياسة بالدين ؟ ، أم أن هذه هي طبيعة الإسلام الذي بعث الله به نبيه (صلي الله علية وسلم ) ، وأننا في الوقت الذي نعدل فيه بالإسلام عن هذا المعني نصور لأنفسنا إسلاما خاصا غير- الذي جاء به رسول الله !نه عن ربه .
لقد تقرر هذا المعني الفسيح للإسلام الصحيح في نفوس السلف الصالح لهذه ا لأمة ، وخالط أرواحهم وعقولهم ، وظهر في كل أداور حياتهم الاستقلالية قبل ظهور هذا الإسلام الاستعماري الخانع الذليل .
ومن هنا أيها المسلمون كان أصحاب رسول الله بلا يتكلمون في نظم الحكم ويجاهدون في مناصرة الحق ، ويحتملون عبء سياسة الأمة ، ويظهرون على الصفة التي وصفوا أنفسهم بها "رهبان بالليل فرسان بالنهار" حتى كانت أم المؤمنين عائشة الصديقة تخطب الناس في دقائق السياسة ، وتصور لهم مواقف الحكومات في بيان رائع وحجة قوية ، ومن هنا كانت الكتيبة التي شقت عصا الطاعة على الحجاج وحاربته وأنكرت عليه بقيادة ابن الأشعث تسمي كتيبة الفقهاء ، إذ كان فيها سعيد بن جبير وعامر الشعبي وإضرابهما من فقهاء التابعين وجلة علمائهم.
ومن هنا رأينا من مواقف الأئمة - رضوان الله عليهم - في مناصحة الملوك ومواجهة الأمراء والحكام بالحق ما يضيق المقام بذكر بعضه فضلا عن كله .
ومن هنا كذلك كانت كتب الفقه الإسلامي قديما وحديثا فياضة بأحكام : الإمارة والقضاء والشهادة والدعاوى والبيوع والمعاملات والحدود والتعزيزات ، ذلك أن الإسلام أحكام عملية وروحية ، إن قررتها السلطة التشريعية فإنما تقوم على حراستها وإنفاذها السلطة التنفيذية والقضائية ، ولا قيمة لقول الخطيب كل جمعة على المنبر : " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " (المائدة :95) . في الوقت الذي يجيز فيه القانون السكر وتحمي الشرطة السكيرين وتقودهم إلي بيوتهم آمنين مطمئنين ، ولهذا كانت تعاليم القرآن لا تنفك عن سطوة السلطان ولهذا كانت السياسة الحكومية جزءا من الدين ، وكان من واجبات المسلم أن يعني بعلاج الناحية الحكومية كما يعني بعلاج الناحية الروحية .
وذلك موقف الإسلام من السياسة الداخلية .
السياسة الخارجية
أما إن أريد بالسياسة معناها الخارجي ، وهو المحافظة على استقلال الأمة وحريتها ، وإشعارها بكرامتها وعزتها ، والسير بها إلي الأهداف المجيدة التي تحتل بها مكانتها بين الأمم ومنزلتها الكريمة في الشعوب والدول ، وتخليصها من استبداد غيرها بها وتدخله في شؤونها ، مع تحديد الصلة بينها وبين سواها تحديدا يفصل حقوقها جميعا ، ويوجه الدول كلها إلى السلام العالمي العام وهو ما يسمونه (القانون الدولي ) . . فإن الإسلام قد عني بذلك كل العناية ، وأفتي فيه بوضوح وجلاء ، وألزم المسلمين أن يأخذوا بهذه الأحكام في السلم والحرب على السواء ، ومن قصر في ذلك وأهمله فقد جهل الإسلام أو خرج عليه . قرر الإسلام سيادة الأمة الإسلامية وأستاذيتها للأم في آيات كثيرة من القرآن منها قوله تعالي : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " * (آل عمران : 110 ) ، وقوله تعالي : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " (البقرة 1430 ) ، وقوله تعالى : " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون " (المنافقون : 8)، وأكد قوامتها وأرشدها إلى طريق صيانتها وإلى ضرر تدخل غيرها في شؤونها بمثل قوله تعالى : ! يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد نجدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم * (آل عمران : 118 )،
وأشار إلى مضار الاستعمار وسوء أثره في الشعوب فقال تبارك وتعالى : ! إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون * (النمل : 34) . ثم أوجب على الأمة المحافظة على هذه السيادة ، وأمرها بإعداد العدة واستكمال القوة ، حتى يسير الحق محفوفا بجلال السلطة كما هو مشرق بأنوار الهداية ! وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة* (الأنفال : 60)، ولم يغفل التحذير من ثورة النصر ونشوة الاعتزاز وما تجلبه من مجانبة للعدالة وهضم للحقوق ، فحذر المسلمين العدوان - على أية حال - في قوله تعالى : " ولا يجرمنكم شنئنان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " (المائدة : 8) ، مع قوله تعالي : " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " (الحج : 41 ) .
ومن هنا أيها الأخوة رأينا أخلاء المسجد ، وأنضاء العبادة ، وحفظة الكتاب الكريم ، بل وأبناء الربط والزوايا من السلف - رضوان الله عليهم -، لا يقنعون باستقلال بلادهم ، ولا بعزة قومهم ، ولا بتحرير شعوبهم ، ولكنهم ينسابون في الأرض ، ويسيحون في آفاق البلاد فاتحين معلمين ، يحررون ا لأم كما تحرروا ، ويهدونها بنور الله الذي اهتدوا به ، ويرشدونها إلي سعادة الدنيا والآخرة ، لا يغلون ولا يغدرون ، ولا يظلمون ولا يعتدون ، ولا يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا .
ومن هنا رأينا عقبة بن نافع يخوض الأطلسي بلبة جواده قائلا : " اللهم لو علمت وراء هذا البحر أرضا لمضيت في البلاد مجاهدا في سبيلك " ، في الوقت الذي يكون فيه أبناء العباس الأشقاء قد دفن أحدهم بالطائف إلى جوار مكة ، والثاني بأرض الترك من أقصي الشرق ، والثالث بإفريقيا من أقصي المغرب ، جهادا في سبيل الله وابتغاء مرضاته . وهكذا فهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان أن السياسة الخارجية من صميم الإسلام .
الحقوق الدولية:
وأحب قبل أن أختم هذا الاسترسال أن أؤكد لحضراتكم تأكيدا قاطعا أن سياسة الإسلام داخلية وخارجية تكفل تمام الكفالة حقوق غير المسلمين ، سواء أكانت حقوقا دولية أم كانت حقوقا وطنية للأقليات غير المسلمة ، وذلك لأن شرف الإسلام الدولي أقدس شرف عرفه التاريخ ، والله تبارك وتعالى يقول : " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ) (الأنفال : 58) ، ويقول : " إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصئوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلي مدتهم إن الله يحب المتقين ) (التوبة : 4)، ويقول تعالي : مطر وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم " (الانفال : 61).
ولئن كانت إيطاليا المتمدنة قد غزت الحبشة حتى استولت عليها ولم تعلن عليها حربا ولم تسبق إلى ذلك بإنذار ، وحذت حذوها اليابان الراقية فهي تحارب الصين ولم تخطرها ولم تعلنها ، فإن التاريخ لم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته أنهم قاتلوا قوما أو غزوا قبيلا دون أن يوجهوا الدعوة ويتقدموا بالإنذار وينبذوا إليه على سواء.
وقد كفل الإسلام حقوق الأقليات بنص قرآني هو قول الله تبارك وتعالى: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين " (الممتحنة : 8) .
كما أن هذه السياسة الإسلامية نفسها لا تنافي أبدا الحكم الدستوري السوري ، وهي واضعة أصوله ومرشدة الناس إليه في قوله تعالى عن أوصاف المؤمنين :"وأمرهم شورى بينهم " (الشورى : 38)، وقوله تعالى : "وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل علي الله " (آل عمران : 159 ) ، وقد كان (يشاور أصحابه وينزل على رأي الفرد منهم ف ئ وضح له صوابه ، كما فعل ذلك مع الحباب بن المنذر في غزوة بدر، ويقول لأبي بكر عمر : " لو اجتمعتما ما خالفتكما " ، وكذلك ترك عمر الأمر شورى بين المسلمين ، وما زال المسلمون بخير ما كان أمرهم شورى بينهم.
الفرق بين السياسة والحزبية
ثم يفرق الإمام البنا بين السياسة والحزبية فيقول :
( الفارق بعيد بين الحزبية والسياسة قد يجتمعان وقد يفترقان ، فقد يكون الرجل سياسيا بكل ما في الكلمة من معان وهو لا يتصل بحزب ولا يمت إليه ، وقد يكون حزبيا ولا يدري من أمر السياسة شيئا، وقد يجمع بينهما فيكون سياسيا حزبيا أو حزبيا سياسيا على حد سواء ) .
وقد يقول قائل : هل نحن حزبيون متعصبون ؟ ، أقول لهذا القائل في صراحة ووضوح : أما أننا سياسيون حزبيون نناصر حزبا ونناهض آخر فلسنا كذلك ولن نكونه ، ولم لا يستطيع أحد أن يأتي على هذا بدليل أو شبه دليل . وأما إننا سياسيون بمعني أننا نهتم بشؤون أمتنا ، ونعتقد أن القوة التنفيذية جزء من تعاليم الإسلام تدخل في نطاقه وتندرج تحت أحكامه ، وأن الحرية السياسية والعزة القومية ركن من أركانه وفريضة من فرائضه ، وأننا نعمل جاهدين لاستكمال الحرية ولإصلاح الأداة التنفيذية فنحن كذلك ، ونعتقد أننا لم نأت فيه بشيء جديد، فهذا هو المعروف عند كل مسلم درس الإسلام دراسة صحيحة ، ونحن لا نعلم دعوتنا ولا نتصور معني لوجودنا إلا تحقيق هذه الأهداف . ولم نخرج بذلك قيد شعرة عن الدعوة إلى الإسلام ، والإسلام لا يكتفي من المسلم بالوعظ والإرشاد ، ولكنه يحدوه دائما إلي الكفاح والجهاد : " والذين جاهدوا فينا لنهد ينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) (العنكبوت : 69).
وعلم الله أيها السادة أن الإخوان ما كانوا يوما من الأيام غير سياسيين ، ولن يكونوا يوما من الأيام غير مسلمين ، وما فرقت دعوتهم أبدا بين السياسة والدين ، ولن يراهم الناس في ساعة من نهار حزبيين متعصبين مهاترين ، " وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين (القصص :55)، ومحال أن يسيروا لغاية غير غايتهم أو يعملوا لفكرة سوئ فكرتهم أو يتلونوا بلون غير الإسلام الحيف " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون " (البقرة : 138 ) .
بعد هذا التحديد العام لمعني الإسلام الشامل ولمعني السياسة المجردة عن الحزبية أستطيع أن أجهر في صراحة بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيا ، بعيد النظر في شؤون أمته ، مهتما بها غيورا عليها . وأستطيع كذلك أن أقول أن هذا التحديد والتجريد للإسلام أمر لا يقره الإسلام ، وأن على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمتها السياسية ، وإلا كانت تحتاج هي نس!فسها إلي أن تفهم معني الإسلام. وبعد كل هذا البيان الشافي نحب أن نقول للجاهلين بالإسلام والذين يلقون الشبه بغير علم ولا فهم ، يجب أن تتلمذوا على العباقرة ومجددي القرون قبل أن يخيم الران على قلوبكم فتندمون وتتخلفون ، والكتيبة سائرة بحمد الله وعونه ، ولكنا نريدكم في الصف حتى لا تكون فتنة ، وتكون الدعوة قوية بالأمة والعاملين في الحقل الإسلامي جميعا ويتحقق للإسلام المنعة والقوة ويفرح المؤمنون بنصر الله .
الشبهة العاشرة: الإخوان والدستور والقانون
بعض الناس لا يعرف شيئا عن نظم الحكم إسلامية كانت أو غربية ، ومع هذا لا يتعب نفسه أو يكلفها مؤونة البحث ويكتفي برفض أي شيء، ولا يستطيع أن يوضح ما يريد أو يبين عما يقصد، مكتفيا برفض كل ما يقال أو يبحث أو يتوصل إليه في مجال البحث والاجتهاد الإسلامي سواء كان ذلك في نظم الحكم ، أو القانون المدني والجنائي والدولي ، والاقتصادي ، كما لا يستطيع أن يستوعب ما استوعبه العلماء من مصادر للتشريع ملحقة بالكتاب والسنة ، كالمصالح المرسلة والقياس والاستحسان وغيرها ، ومع هذا كله يوزع العداوة على العلماء والفاقهين والباحثين والمجتهدين الذين يميزون بين الطيب الذي ينفع المسلمين وينبغي أن يستفيدوا منه ، وبين الخبيث الذي يجب أن يحذروا منه ، وهم بهذا يعطون الناس دليلا خاطئا على أن الإسلام جامد لا يستوعب قضايا العصر وليس صالحا لكل زمان ومكان .
ومن قبيل ما ذكرنا اعتراض البعض على الشيخ البنا رضوان الله عليه ، في مقارنه بين الإسلام وبين الدستور الذي كان موجودا في جمهورية مصر العربية ، وأنا اعتقد تماما أن هؤلاء لا يعرفون ما هو الدستور فضلا عن قراءتهم للدستور المصري وبنوده التي تكلم الإمام البنا عنه ، وبين ما بينه وبين الإسلام من توافق أو تضاد ، وقد وصفوا الدستور بالصنم ، واكتفوا من الغنيمة بالإياب . وعلى هذا فكل من يذكر هذه الكلمة يكون قد حام حول الصنم ، ويحسن بنا أن نذكر الكلام العلمي وبدليله كما ذكره الشيخ البنا رحمه الله بنصه وفصه .
الإخوان المسلمون والدستور المصري
يقول رحمه الله ويتساءل كذلك فريق من الناس عن موقف الإخوان المسلمين من الدستور المصري ؟ وهذه فرصة طيبة أتحدث إلى حضراتكم فيها عن رأي الإخوان المسلمين ، وموقفهم من الدستور المصري . وأحب قبل هذا أن نفرق دائما بين (الدستور) وهو نظام الحكم العام الذي ينظم حدود السلطات وواجبات الحاكمين ومدي صلتهم بالمحكومين ، وبين (القانون ) وهو الذي ينظم صلة الإفراد بعضهم ببعض ، ويحمي حقوقهم الأدبية والمادية ويحاسبهم على ما يأتون من أعمال ، وأستطيع بعد هذا البيان أن أجلي لكم موقفنا من نظام الحكم الدستوري عامة ، ومن الدستور المصري خاصة:
( أ ) يقول علماء الفقه الدستوري إن النظام النيابي يقوم على مسؤولية الحاكم ، وسلطة الأمة ، واحترام إرادتها ، وأنه لا مانع فيه يمنع من وحدة الأمة واجتماع كلمتها ، وليست الفرقة والخلاف شرطا فيه ، وإن كان بعضهم يقول إن من دعائم النظام النيابي البرلماني : الحزبية . ولكن هذا إذا كان عرفا فليس أصلا في قيام هذا النظام ، لأنه يمكن تطبيقه بدون هذه الحزبية وبدون إخلال بقواعده الأصلية
. والواقع أيها ا لإخوان ، إن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها ، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة ، وعلى مسؤولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم على ما يعلمون من أعمال ، وبيان حدود كل سلطة من السلطات ، هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم.
(ب ) وعلى هذا فليس في قواعد هذا النظام النيابي ما يتنافى في القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم ، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيدا عن النظام الإسلامي ولا غريبا عنه وبهذا الاعتبار يمكن أيضا أن نقول في اطمئنان : إن القواعد الأساسية التي قام عليها الدستور المصري لا تتنافى مع قواعد الإسلام ، وليست بعيدة من النظام الإسلامي ولا غريبة عنه ، بل إن واضعي الدستور المصري رغم أنهم وضعوه على أحدث المبادئ والآراء الدستورية وأرقاها ، فقد توخوا فيه ألا يصطدم أي نص من نصوصه بالقواعد الإسلامية ، فهي إما متمشية معها صراحة كالنص الذي يقول : "دين الدولة الإسلام " أو قابلة للتفسير الذي يجعلها لا تتنافى معها كالنص الذي يقول : "حرية الاعتقاد مكفولة". سبب موافقته على النظام الدستوري :
ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلن الإسلام ، وهم لا يعدلون به نظاما آخر .
تخفظ الإمام البنا على الدستور المصري وقتها :
بقي بعد ذلك أمران :
أولهما: النصوص التي تصاغ في قالبها هذه المبادئ .
ثانيهما، طريقة التطبيق التي تفسر بها عمليا هذه النصوص . إن المبدأ السليم القويم قد يوضع في نص مبهم غامض فيدع مجالا للعبث بسلامة المبدأ في ذاته ، وإن النص الظاهر الواضح للمبدأ السليم القويم قد يطبق وينفذ بطريقة يمليها الهوى وتوجيها الشهوات ، فيذهب هذا التطبيق بكل س ا يرجئ من فائدة .
وإذا تقرر هذا فإن من نصوص الدستور المصري ما يراه الإخوان المسلمون مبهما غامضا يدع مجالا واسعا للتأويل والتفسير الذي تمليه الغايات والأهواء ، فهي في حاجة !لي وضوح وإلى تحديد وبيان . هذه واحدة ، والثانية هي أن طريقة التنفيذ التي يطبق بها الدستور ، ويتوصل بها إلى جني ثمرات الحكم الدستوري في مصر ، طريقة أثبتت التجارب فشلها وجنت الأمة منها الأضرار لا المنافع ، فهي في حاجة شديدة إلي تحوير وإلى تعديل يحقق المقصود ويفي بالغاية . .
وحسبنا أن نشير هنا إلي قانون الانتخاب ، وهو وسيلة اختيار النواب الذين يمثلون الأمة ويقومون بتنفيذ دستورها وحمايته ، وما جره هذا القانون على الأمة من خصومات وحزازات ، وما أنتجه من أضرار يشهد به الواقع الملموس . ولابد أن تكون فينا الشجاعة الكافية لمواجهة الأخطاء والعمل على تعديلها . لهذا يعمل الإخوان المسلمون جهدهم حتى تحدد النصوص المبهمة في الدستور المصري ، وتعدل الطريقة التي ينفذ بها الدستور في البلاد . وأظن أن موقف الإخوان قد وضح بهذا البيان ، وردت الأمور إلي نصابها الصحيح .
الإخوان المسلمون والقانون
قدمت أن الدستور شئ والقانون شئ آخر ، وقد أبنت موقف الإخوان من الدستور ، وأبين لحضراتكم الآن ، موقفهم من القانون:
إن الإسلام لم يجئ خلوا من القوانين ، بل هو قد أوضح كثيرا من أصول التشريع وجزئيات الأحكام ، سواء أكانت مادية أم جنائية ، تجارية أم دولية. والقران والأحاديث فياضة بهذه المعاني ، وكتب الفقهاء غنية كل الغني بكل هذه النواحي ، وقد اعترف الأجانب أنفسهم بهده الحقيقة وأقرها مؤتمر لاهاي الدولي أمام ممثلي الأم من رجال القانون في العالم كله .
فمن غير المفهوم ولا المعقول أن يكون القانون في أمة إسلامية متناقضا مع تعاليم دينها وأحكام قرانها وسنة نبيها ، مصطدما كل الاصطدام بما جاء عن الله ورسوله ، وقد حذر الله تعالي نبيه (صلي الله علية وسلم ) ذلك من قبل ، فقال تبارك وتعالي : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم و أحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون * (المائدة : 49 - 50)، وذلك بعد قوله تعالي : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك فم الكافرون . . الظالمون . . لفاسقون * (المائدة : 4 4 ، 45 ،47) ، فكيف يكون موقف المسلم الذي يؤمن بالله وكلماته إذا سمع هذه الآيات البينات وغيرها من الأحاديث والأحكام ، ثم رأي نفسه محكوما بقانون يصطدم معها ؟ فإذا طالب بالتعديل قيل له : إن الأجانب لا يرضون بهذا ولا يوافقون عليه ، ثم يقال بعد هذا الحجر والتضييق إن المصريين مستقلون ، وهم لم يملكوا بعد أن يتمتعوا بحرية الدين ، على أن هذه القوانين الوضعية كما تصطدم بالدين ونصوصه تصطدم بالدستور الوضعي نفسه الذي يقرر أن دين الدولة هو الإسلام ، فكيف نوفق بين هذين يا أولي الألباب ؟
وإذا كان الله ورسوله قد حرم الزنا وحظر الربا ومنع الخمور وحارب الميسر وجاء القانون يحمي الزانية والزاني ويلزم بالربا ويبيح الخمر وينظم القمار ، فكيف يكون موقف المسلم بينهما ؟ أيطيع الله ورسوله ويعصي الحكومة وقانونها والله خير وأبقي ؟ أم يعصي الله ورسوله ويطيع الحكومة فيشقي في الآخرة والأولي ؟ نريد الجواب على هذا من رفعة رئيس الحكومة ومعالي وزير العدل ومن علمائنا الفضلاء الإجلاء . أما الإخوان المسلمون فهم لا يوافقون على هذا القانون أبدا ولا يرضونه بحال . وسيعملون بكل سبيل على أن يحل مكانه التشريع الإسلامي العادل الفاضل في نواحي القانون . ولسنا هنا في مقام الرد على ما قيل في هذه الناحية من شبهات أو ما يعترض سبيلها من توهم العقبات ، ولكنا في مقام بيان موقفنا الذي عملنا وسنعمل عليه ، متخطين في سبيله كل عقبة، موضحين كل شبهة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . ولقد تقدم الإخوان المسلمون إلى معالي وزير العدل بمذكرة ضافية في هذا الموضوع ، ولقد حذروا الحكومة في نهايتها من إحراج الناس هذا الإحراج ، فالعقيدة أثمن ما في الوجود ، وسوف يعاودون الكرة ، وسوف لا يكون ذلك آخر مجهودهم " ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * (التوبة : 31 ). وبعد أيها الإخوة فهذا حديث الحقيقة ، وبيان الطريق ، وليس الخبط في الأمور بغير عقل أو علم أو بصيرة ، وليس اتهام الناس بغير الحق عملا سهلا تتلهى به الصغار وتلوكه الأفاعي السامة التي لا تعرف إلا لدغ المصلحين العاملين .
ومع هذا لابد وأن يعلم القاصي والداني أن الإخوان المسلمين ما قاموا وما تحملوا ما تحملوه إلا لإقامة شرع الله وتحكيم كتابه ، فمنهاجهم واضح وطريقهم ناصع وجهادهم مشرق فماذا يبدي الباطل أو يعيد . يقول الشيخ البنا رحمه الله موضحا منهاجه في هذا المجال تحت عنوان المنهاج واضح :
يعتقد الإخوان المسلمون أن الله تبارك وتعالى حين أنزل القرآن وأمر عباده أن يتبعوا محمدا (صلي الله علية وسلم )ورضي لهم الإسلام دينا ، وضع في هذا الدين القويم كل الأصول اللازمة لحياة الأم ونهضتها وإسعادها ، وذلك مصداق قول الله تبارك وتعالى : " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم * (الأعراف : 157 ) ، ومصداق قول الرسول (صلي الله علية وسلم ) في الحديث الشريف ما معناه : "والله ما تركت من شر إلا ونهيتكم عنه " . وأنت إذا أمعنت النظر في تعاليم الإسلام وجدته قد وضع أصح القواعد وأنسب
النظم وأدق القوانين لحياة الفرد رجلا وامرأة ، وحياة الأسرة في تكوينها وانحلالها ، وحياة الأصم في نشوئها وقوتها وضعفها ، وحلل الفكر التي وقف أمامها المصلحون وقادة الأم .
فالعالمية والقومية والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية والحرب وتوزيع الثروة والصلة بين المنتج والمستهلك ، وما يمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى هذه البحوث التي تشغل بال ساسة الأم وفلاسفة الاجتماع ، كل هذه نعتقد أن الإسلام خاض في لبها ، ووضع للعالم النظم التي تكفل له الانتفاع بما فيها من محاسن ، وتجنب ما تستتبعه من خطر وويلات . وليس ذلك مقام تفصيل هذا المقال ، فإنما نقول ما نعتقد ونبين للناس ما ندعوهم إليه ، ولنا بعد ذلك جولات نفصل فيها ما نقوله .
لابد أن نتبع :
وإذا كان الإخوان المسلمون يعتقدون ذلك فهم يطالبون الناس بأن يعملوا على أن تكون قواعد الإسلام الأصول التي تبني عليها نهضة الشرق الحديث في كل شأن من شؤون الحياة . ويعتقدون أن كل مظهر من مظاهر النهضة يتنافى مع قواعد الإسلام ويصطدم بأحكام القرآن فهو تجربة فاسدة فاشلة ، ستخرج منها الأمة بتضحيات كبيرة في غير فائدة ، فخير للأم التي تريد النهوض أن تسلك إليه أخصر الطرق باتباعها أحكام الإسلام .
والإخوان المسلمون لا يختصون بهذه الدعوة قطرا دون قطر من الأقطار الإسلامية ، ولكنهم يرسلونها صيحة يرجون أن تصل إلى آذان القادة والزعماء في كل قطر يدين أبناؤه بدين الإسلام . وإنهم لينتهزون لذلك هذه الفرصة التي تتحد فيها الأقطار الإسلامية وتحاول بناء مستقبلها على دعائم ثابتة من أصول الرقي والتقدم والعمران .
احذروا الانحراف :
وإن أكبر ما يخشاه الإخوان المسلمون أن تندفع الشعوب الشرقية الإسلامية في تيار التقليد ، فترفع نهضاتها بتلك النظم البالية التي انتفضت على نفسها وأثبتت التجربة فسادها وعدم صلاحيتها . إن لكل أمة من دول الإسلام دستورا عاما فيجب أن تستمد مواد دستورها العام من أحكام القران الكريم ، وإن الدولة التي تقول في أول مادة من مواد دستورها : إن دينها الرسمي الإسلام ، يجب أن تضع بقية المواد على أساس هذه القاعدة ، وكل مادة لا يسيغها الإسلام ولا تجيزها أحكامه يجب أن تحذف حتى لا يظهر التناقض في القانون الأساسي للدولة .
أصلحوا القانون :
وإن لكل أمة قانونا يتحاكم إليه أبناؤها ، وهذا القانون يجب أن يكون مستمدا من أحكام الشريعة مأخوذا عن القرآن الكريم متفقا مع أصول الفقه الإسلامي .
وان في الشريعة الإسلامية وفيما وضعه المشترعون المسلمون ما يسد الثم ض ة ، ويفي بالحاجة وينقع الغلة ، ويؤدي إلي أفضل النتائج وأبرك الثمرات - وإن تأصل في نفسه العدوان - ويريح الحكومات من عناء التجارب الفاشلة ، والتجربة تثبت ذلك وتؤيده ، وأصول التشريع الحديث تنادي به وتدعمه ، والله تبارك وتعالي يفرضه ويوجبه : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (المائدة : 44 ) .
اصلحوا مظهر الاجتماع :
وإن في كل أمة مظاهر من الحياة الاجتماعية تشرف . عليها الحكومات وينظمها القانون وتحميها السلطات ، فعلى كل أمة شرقية إسلامية أن تعمل على أن تكون كلى هذه المظاهر مما يتفق وآداب الدين ويساير تشريع الإسلام وأوامره . إن البغاء الرسمي لطخة عار في جبين كل أمة تقدر الفضيلة ، فما بالك بالأم الإسلامية التي يفرض عليها دينها محاربة البغاء والضرب على يد الزناة بشدة : " ولا تأخذكم بهما رأفة نجي دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " (النور : 2) .
إن حانات الخمر في أظهر شوارع المدن وأبرز أحيائها ، وتلك اللوحات الطويلة العريضة عن المشروبات الروحية ، وهذه الإعلانات الظاهرة الواضحة عن أم الخبائث مظاهر يأباها الدين ، ويحرمها القران أشد التحريم .
حاربوا الإباحية :
وإن هذه الإباحية المغرية والمتعة الفاتنة واللهو العابث في الشوارع ، والمجامع والمصايف والمرابع ، يناقض ما أوصي الإسلام باتباعه من عفة وشهامة وإباء وانصراف إلى الجد وابتعاد عن الإسفاف . " إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها" .
فكل هذه المظاهر وأشباهها ، على الأمم الإسلامية أن تبذل في محاربتها ومناهضتها كل ما في وسع سلطانها وقوانينها من طاقة ومجهود، لا تني في ذلك ولا تتواكل .
نظموا التعليم :
وإن لكل أمة وشعب إسلامي سياسة في التعليم وتخريج الناشئة وبناء رجال المستقبل ، الذين تتوقف عليهم حياة الأمة الجديدة ، فيجب أن تبني هذه السياسة على أصول حكيمة تضمن للناشئين مناعة دينية وحصانة خلقية ، ومعرفة بأحكام دينهم ، واعتدادا بمجده الغابر وحضارته الواسعة .
هذا قليل من كثير من الأصول التي يريد الإخوان المسلمون أن ترعاها الأم الإسلامية في بناء النهضة الحديثة ، وهم يوجهون دعوتهم هذه إلى كل المسلمين شعوبا وحكومات . ووسيلتهم في الوصول إلى تحقيق هذه الغايات الإسلامية السامية وسيلة واحدة : أن يبينوا ما فيها من مزية وإحكام ، حتى إذا ذكر الناس ذلك واقتنعوا بفائدته انتج ذلك عملهم له ونزولهم على حكمه : " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين " (يوسف : 108 ).
انتفعوا بإخاء إخوانكم :
ينادي الإسلام أبناءه ومتبعيه فيقول لهم : " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين ! قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا (آل عمران : 153 ) .
ويقول القرآن الكريم في آية أخرى : " إنما المؤمنون اخوة * (الحجرات : 10 ) . وفي آية أخرى : " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " (التوبة : 71) . ويقول النبي الكريم (صلي الله علية وسلم ) : "وكونوا عباد الله إخوانا"وكذلك فهم المسلمون الأولون - رضوان الله عليهم - من الإسلام هذا المعني الأخوي ، وأملت عليهم عقيدتهم في دين الله أخلد عواطف الحب والتآلف ، وأنبل مظاهر ا لأخوة والتعارف ، فكانوا رجلا واحدا وقلبا واحدا ويدا واحدة ، حتى امتن الله بذلك في كتابه فقال تبارك لم وتعالي : في وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم (الأنفال : 63) .
الشبهة الحادية عشرة: الإخوان والديمقراطية والمجالس
انبري بعض الذين لا يريدون أن يعلموا أو يفقهوا أو يتقوا الله في الناس والأمة لعيب غيرهم ، وممارسة هواية التكفير والتبديع وإطلاق الشركيات هنا وهناك ، فقالوا : أيد ا لإخوان الديمقراطية ، وهي الكفر بعينه والشرك السياسي بنصه وفصه ، وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها ، يحسبون أنهم قد وجدوا ضالتهم لإشاعة حقدهم على الإخوان ، وحجتهم في ذلك أن الاسم ليسر إسلاميا ، وأنه أجنبي ، وأن الديمقراطية تعني حكم الشعب ، والحكم لله عز وجل ، وذلك تأليه للإنسان ، ونبذ للشريعة إلى غير ذلك من الأقوال المتهافتة .
ويؤسفنا كل الأسف أن تختلط الأمور في عقولهم ، ويلتبس الحق والباطل في افهام بعض المتدينين ، والمتكلمين عن الدين وباسمه ، إلى الحد الذي يكشف عن جهل مطبق بحقائق الأمور ، وعن جرأة عجيبة في اتهام الناس بدون روية بالكفر أو الفسق ، أو الابتداع ، حتى أصبح ذلك أمرا سهلا عليهم ، وذلك في نظر الشرع جريمة كبرى وموبقة ، يخشى أن ترتد على أصحابها ومطلقيها، كما جاء في الحديث الصحيح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله !نه قال : "من قال لأخيه : يا كافر، فقد باء بها أحدهما ".
والغريب أن بعض الناس ممن يحكمون على الديمقراطية بأنها منكر صراح ، أو كفر بواح ، إذا سألته عن الديمقراطية يتبين لك أنه لم يعرفها أو يقرأ عنها ، أو قرأ ولم يستطع أن يستبين نفعها أو صلتها بالأصول الإسلامية ، أو يدرك جوهرها ويخلص إلى لبابها وما تؤديه في المجتمعات التي أخذت بها ، فضلا أن يدرك أنها ديمقراطيات متعددة ، لكل فيها أصول وأشكال توافق توجهاته وآماله .
ومن القواعد التي قرر العلماء السابقون أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، فمن حكم على شيء وهو جاهل به فحكمه خاطئ، كما ثبت في الحديث أن القاضي الذي يقضي على جهل فهو في النار كالذي عرف الحق وقضي بغيره .رواه الجماعة إلا النسائي.
ولهذا يقول الدكتور يوسف القرضاوي مستغربا قول هؤلاء وموضحا الحق في ذلك :
جوهر الديمقراطية
إن جوهر الديمقراطية - بعيد عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية - أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم ، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه ، أو نظام يكرهونه ، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ ، وحق عزله إذا انحرف ، وألا يساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها ، فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤه التشريد والتنكيل ، بل التعذيب والتقتيل .
هذا هو جوهر الديمقراطية الحقيقة التي وجدت البشرية لها صيغا وأساليب عملية ، مثل الانتخاب والاستفتاء العام ، وترجيح حكم الأكثرية ، وتعدد الأحزاب السياسية وحق الأقلية في المعارضة وحرية الصحافة ، واستقلال القضاء . . الخ .
فهل الديمقراطية - في جوهرها الذي ذكرناه - تنافي الإسلام ؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يدل على هذه الدعوى ؟ الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام ، فالإسلام ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه ، ولا يرضون عنه ، وفي الحديث : "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا . . " وذكر أولهم : "رجل أم قوما وهم له كارهون . . . ".
وإذا كان هذا في الصلاة فكيف في أمور الحياة والسياسة؟ وفي الحديث الصحيح : "خيار أئمتكم – أي حكامكم – الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم – أي تدعون لهم – ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم" .
نبذ الإسلام للدكتاتورية
لقد شن القرآن حملة في غاية القسوة على الحكام المتألهين في الأرض ، الذين يتخذون عباد الله عبادا لهم مثل "نمرود" الذي ذكر القران موقفه من إبراهيم وموقف إبراهيم منه : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها من المغرب .فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ) (البقرة : 258) .
فهذا الطاغية يزعم أنه يحيي ويميت ، كما أن رب إبراهيم - وهو رب العالمين - يحيي ويميت ، فيجب أن يدين الناس له ، كما يدينون لرب إبراهيم . وبلغ من جرأته في دعوي الإحياء والإماتة ، أن جاء برجلين من عرض الطريق ، وحكم عليهما بالإعدام بلا جريرة ، ونفذ في أحدهما ذلك فورا ، وقال : ها قد أمته ، وعفا عن الآخر ، وقال : ها قد أحييته ! ألست بهذا أحيي وأميت ؟ ! . ومثله فرعون الذي نادي في قومه : " أنا ربكم الأعلى " (النازعات : 24) . وقال في تبجح : ملأ يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري * (القصص : 38) .
وقد كشف القرآن عن تحالف دنس بين أطراف ثلاثة خبيثة :
الأول : الحاكم المتأله المتجبر في بلاد الله ، المتسلط على عباد الله ، ويمثله فرعون .
والثاني: السياسي الوصولي ، الذي يسخر ذكاءه وخبرته في خدمة الطاغية ، وتثبيت حكمه ، وترويض شعبه للخضوع له ويمثله هامان .
والثالث : الرأسمالي أو الإقطاع المستفيد من حكم الطاغية ، فهو يؤيده ببذل بعض ماله ، ليكسب أموالا أكثر من عرق الشعب ودمه ، ويمثله قارون .
ولقد ذكر القرآن هذا الثالوث المتحالف على الإثم والعدوان ، ووقوفه في وجه رسالة موسى، حتى أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر : " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب * (غافر : 23 - 24 ) " وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين " ( العنكبوت : 39 ) .
والعجيب أن قارون كان من قوم موسى ، ولم يكن من قوم فرعون ، ولكنه بغى على قومه ، وانضم إلي عدوهم فرعون ، وقبله فرعون معه ، دلالة على أن المصالح المادية هي التي جمعت بينهما ، برغم اختلاف عروقهما وإنسابهما ومن روائع القران أنه ربط بين الطغيان وانتشار الفساد ، الذي هو سبب هلاك الأمم ودمارها ، كما قال تعالى : " ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جاجوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فاكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد ) (الفجر : 6 - 14 ) .
وقد يعبر القرآن عن "الطغيان " بلفظ "العلو" ويعني به الاستكبار والتسلط على خلق الله بالإذلال والجبروت ، كما قال تعالى عن فرعون : " إنه كان عاليا من المسرفين " (الدخان : 31).
والسنة النبوية حملت كذلك على الأمراء الظلمة والجبابرة ، الذين يسوقون الشعوب بالعصا الغليظة ، وإذا تكلموا لا يرد أحد عليهم قولا فهم الذين يتهافتون في النار تهافت الفراش .
كما حملت على الذين يمشون في ركابهم ، ويحرقون البخور بين أيديهم ، من أعوان الظلمة .
ونددت السنة بالأمة التي ينتشر فيها الخوف ، حتى لا تقدر أن تقول للظالم : يا ظالم .
فعن أبي موسى أن رسول الله (صلي الله علية وسلم ) قال : "إن في جهنم واديا ، وفي الوادي بئر ، يقال له هبهب ، حق على الله أن يسكنه كل جبار عنيد" وعن معاوية أن النبي أنه قال : "ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم قولهم ، يتفاحمون في النار كما تفاحم القردة" .
وعن جابر أن النبي (صلي الله علية وسلم ) قال لكعب بن عجرة : "أعاذك الله من إمارة السفهاء ياكعب " ، قال : وما إمارة السفهاء؟ قال : "أمراء يكونون بعدي ، لا يهدون بهدي ، ولا يستنون بسنتي ، فمن صدقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فأولئك ليسوا مني ، ولست منهم ، ولا يردون على حوضي ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ، ولم يعنهم على ظلمهم ، فأولئك مني ، وأنا منهم ، وسيردون على حوضي" .
وعن معاوية مرفوعا : "لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق ، ولا يأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع "
وعن عبدالله بن عمرو مرفوعا : "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم : يا ظالم فقد تودع منهم" .
لقد قرر الإسلام الشورى قاعدة من قواعد الحياة الإسلامية ، وأوجب على الحاكم أن يستشير، وأوجب على الأمة أن تنصح ، حتى جعل النصيحة هي الدين كله ، ومنها : النصيحة لأئمة المسلمين ، أي أمرائهم وحكامهم . . كما جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة لازمة ، بل جعل أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر ، ومعني هذا أنه جعل مقاومة الطغيان والفساد الداخلي أرجح عند الله من مقاومة الغزو الخارجي ، لأن الأول كثيرا ما يكون سببا للثاني .
الحاكم في نظر الإسلام
إن الحاكم في نظر الإسلام وكيل عن الأمة أو أجير عندها ، ومن حق الأصيل أن يحاسب الوكيل أو يسحب منه الوكالة إن شاء الله ، وخصوصا إذا أخل بموجباتها .
فليس الحاكم في الإسلام سلطة معصومة ، بل هو بشر يصيب ويخطئ ، ويعدل ويجور ، ومن حق المسلمين أن يسددوه إذا أخطأ ، ويقوموه إذا اعوج . وهذا ما أعلنه أعظم حكام المسلمين بعد رسول الله !ذ : الخلفاء الراشدون المهديون الذين أمرنا أن نتبع سنتهم ، ونعض عليها بالنواجذ باعتبارها امتدادا لسنة المعلم الأول محمد (صلي الله علية وسلم ) .
أحدهما رجا ل الصحيح 7/ 62 2 ، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4 / 96
يقول الخليفة الأول أبو بكر في أول خطبة له : "أيها الناس ، إني وليت عليكم ولعست بخيركم ، فإن رأيتموني على حق فأعينوني ، وإن رأيتموني على باطل فسددوني . . أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته ، فلا طاعة لي عليكم " .
ويقول الخليفة الثاني عمر الفاروق : "رحم الله امرأ أهدئ إلي عيوب نفسي " ، ويقول : "أيها الناس من رأي منكم في اعوجاجا فليقومني . . . " ، ويرد عليه واحد من الجمهور فيقول : والله يا بن الخطاب لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا !
وترد عليه امرأة رأيه وهو فوق المنبر ، فلا يجد غضاضة في ذلك ، بل يقول : "أصابت المرأة وأخطأ عمر" ! . ويقول علي بن أبي طالب كرم اله وجهه لرجل عارضه في أمر : "أصبت وأخطأت " ! وفوق كل ذي علم عليم ) (يوسف : 76) . إن الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها ، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهادات المسلمين ، وفق أصول دينهم ، ومصالح دنياهم ، وتطور حياتهم ، بحسب الزمان والمكان ، وتجدد أحوال ا لإنسان . وميزة الديمقراطية أنها اهتدت - خلال كفاحها الطويل مع الظلمة والمستبدين من ا لأباطرة والملوك والأمراء - إلى صيغ ووسائل ، تعتبر - إلى اليوم - أمثل الضمانات لحماية الشعوب من تسلط المتجبرين .
ولا حجر على البشرية وعلى مفكريها وقادتها ، أن تفكر في صيغ وأساليب أخرى، لعلها تهتدي إلي ما هو أوفي وأمثل ، ولكن إلى أن يتيسر ذلك ويتحقق في واقع الناس ، نري لزاما علينا أن نقتبس من أساليب الديمقراطية ما لابد منه لتحقيق العدل والشورى واحترام حقوق الإنسان ، والوقوف في وجه طغيان السلاطين العالين في الأرض .
ومن القواعد الشرعية المقررة : أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وأن المقاصد الشرعية المطلوبة إذا تعينت لها وسيلة لتحقيقها ، أخذت هذه الوسيلة حكم ذلك المقصد .
ولا يوجد شرعا ما ينع اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي ، من غير المسلمين ، فقد أخذ النبي !ذ في غزوة الأحزاب بفكرة "حفر الخندق " وهو من أساليب الفرس . واستفاد من أسري المشركين في بدر "ممن يعرفون القراءة والكتابة" في تعليم أولاد المسلمين الكتابة ، برغم شركهم ، فالحكمة ضالة المؤمن أنئ وجدها فهو أحق بها .
فمن حقنا أن نقتبس من غيرنا من الأفكار والأساليب والأنظمة ما يفيدنا . . مادام لا يعارض نصا محكما، ولا قاعدة شرعية ثابتة ، وعلينا أن نحور فيما نقتبسه ، ونضيف إليه ، ونضفي عليه من روحنا : ما يجعله جزءا منا، ويفقده جنسيته الأولي.
وهناك أشياء كثيرة أخذ بها الإسلام ، وأخرى أقر منها ما يتفق مع مبادئه ورفض الآخر أو عدله ، وعلى سبيل المثال ، أقر الإسلام الطواف حول الكعبة ولكنه رفض طواف العاري وحرمه على المشركين بعد حج العام التاسع الهجري .
وأقر الإسلام ما يتفق معه من التلبية في الحج "لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك " ، ورفض الباقي مما لا يتفق معه "إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك "، وأقر الإسلام الزواج الذي يتفق معه ورفض أنواع الزواج الأخرى من أنكحة الجاهلية ، مثل الاستبضاع والبغايا وغيرهما مما لا يتفق معه .
والذي نريد التركيز عليه هنا هو ما نوهنا به في أول الأمر، وهو : جوهر الديمقراطية ، فهو بالقطع متفق مع جوهر الإسلام ، إذا رجعنا إليه في مصادره الأصلية ، واستمددناه من ينابيعه الصافية ، من القرآن والسنة ، وعمل الراشدين من خلفائه ، لا من تاريخ أمراء الجور ، وملوك السوء ، ولا من فتاوى الهالكين المحترقين من علماء السلاطين ، ولا من المخلصين المتعجلين من غير الراسخين .
وقول القائل : إن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب ، ويلزم منها رفض المبدأ القائل : إن الحاكمية لله -قول غير مسلم .
فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر ، فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هذا ببالهم ، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو رفض الدكتاتورية المتسلطة ، رفض حكم المستبدين بأمر الشعوب من سلاطين الجور و الجبروت .
أجل . . كل ما يعني هؤلاء من الديمقراطية أن يختار الشعب حكامه كما يريد، وأن يحاسبهم على تصرفاتهم ، وأن يرفض أوامرهم إذا خالفوا دستور الأمة ، وبعبارة إسلامية : إذا أمروا بمعصية ، وأن يكون له الحق في عزلهم إذا انحرفوا وجاروا ، ولم يستجيبوا لنصح أو تحذير .
وأحب أن أنبه هنا على أن مبدأ "الحاكمية لله " مبدأ إسلامي أصيل ، قرره جميع الأصوليين في مباحثهم عن "الحكم " الشرعي ، وعن "الحاكم " فقد اتفقوا على أن "الحاكم " هو الله تعالي ، والنبي مبلغ عنه ، فالله تعالى هو الذي يأمر وينهي ، ويحلل ويحرم ، ويحكم ويشرع .
وقول الخوارج : " لا حكم إلا لله " قول صادق في نفسه ، حق في ذاته ، ولكن الذي أنكر عليهم هو وضعهم الكلمة ، في غير موضعها ، واستدلالهم بها على رفض تحكيم البشر في النزاع ، وهو مخالف لنص القرآن الذي قرر التحكيم في أكثر من موضع ، ومن أشهرها التحكيم بين الزوجين إن وقع الشقاق بينهما . ولهذا رد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الخوارج بقوله : "كلمة حق أريد بها باطل " فقد وصف قولهم بأنه "كلمة حق " ، ولكن عابهم بأنهم أرادوا بها باطلا . وكيف لا تكون كلمة حق وهي مأخوذة من صريح القران الكريم : " إن الحكم إلا لله * (الأنعام : 57).
فحاكمية الله تعالى للخلق ثابتة بيقين ، وهي نوعان :
1 - حاكمية كونية قدرية ، بمعني أن الله هو المتصرف في الكون ، المدبر لأمره الذي يجري في أقداره ، ويحكمه بسننه التي لا تتبدل ، ما عرف منها وما لم يعرف ، وفي مثل هذا جاء قوله تعالي : ! أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب * (الرعد : 41) . فالمتبادر هنا أن حكم الله يراد به الحكم الكوني القدري لا التشريعي الأمري .
2 - حاكمية تشريعية أمريه ، وهي حاكمية التكليف والأمر والنهي ، والإلزام والتخيير ، وهي التي تجلت فيما بعث الله به الرسل ، وأنزل الكتب ، وبها شرع الشرائع وفرض الفرائض ، وأحل الحلال ، وحرم الحرام . . . وهذه لا يرفضها مسلم رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد لمج!تر نبيا ورسولا و المسلم الذي يدعو إلي الديمقراطية إنما يدعو إليها باعتبارها شكلا للحكم ، يجسد مبادئ ا لإسلام السياسية في اختيار الحاكم ، وإقرار الشورى والنصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومقاومة الجور ، ورفض المعصية ، وخصوصا إذا وصلت إلي "كفر بواح " فيه من الله برهان .
ومما يؤكد ذلك : أن الدستور ينص - مع التمسك بالديمقراطية - على أن دين الدولة هو الإسلام ، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين ، وهذا تأكيد لحاكمية الله ، أي حاكمية شريعته ، وأن لها الكلمة العليا .
ويمكن إضافة مادة في الدستور صريحة واضحة : إن كل قانون أو نظام يخالف قطعيا الشرع ، فهو باطل ، وهي في الواقع تأكيد لا تأسيس . لا يلزم -إذن - من الدعوة إلى الديمقراطية اعتبار حكم الشعب بديلا عن حكم الله ، إذ لا تناقض بينهما .
ولو كان ذلك لازما من لوزام الديمقراطية ، فالقول الصحيح لدي المحققين من علماء الإسلام : أن لازم المذهب ليس بمذهب ، وأنه لا يجوز أن يكفر الناس أو يفسقوا أخذا لهم بلوازم مذاهبهم ، فقد لا يلتزمون بهده اللوازم ، بل قد لا يفكرون فيها بالمرة .
ومن الأدلة عند هذا الفريق من الإسلاميين ، على أن الديمقراطية مبدأ مستورد ، ولا صلة له بالإسلام : أنها تقوم على تحكيم الأكثرية ، واعتبارها صاحب الحق في تنصيب الحكام ، وفي تسيير الأمور، وفي ترجيح أحد الأمور المختلف فيها ، فالتصويت في الديمقراطية هو الحكم والمرجع ، فأي رأي ظفر بالأغلبية المطلقة ، أو المقيدة في بعض الأحيان ، فهو الرأي النافذ ، وربما كان خطأ أو باطلا .
هذا مع أن الإسلام لا يعتد بهذه الوسيلة ولا يرجح الرأي على غيره ، لموافقة الأكثرية عليه ، بل ينظر إليه في ذاته : أهو صواب أم خطأ؟ فإن كان صوابا نفذ-وإن لم يكن معه إلا صوت واحد ، أو لم يكن معه أحد- وإن كان خطأ رفض ، وإن كان معه (99)من إل (00 ا)إ!! بل إن نصوص القران الكريم تدل على أن الأكثرية دائما في صف الباطل ، وفي جانب الطاغوت ، كما في مثل قوله تعالي : " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ! (الأنعام : 116 ) ، ! وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) (يوسف : 153 ) .
وتكرر في القران مثل هذه الفواصل القرآنية :" ولكن أكثر الناس لا يعلقون " (الأعراف : 187 ) ، " بل أكثرهم لا يعقلون " (العنكبوت : 63 ) ، " ولكن أكثر الناس لا يؤمنون * (هود : 17 ) ، " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " (البقرة : 243 ) .
كما دلت على أن أهل الخير والصلاح هم الأقلون عددا، كما في قوله تعالى : " وقليل من عبادي الشكور* (سبأ : 13 ) ، " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم " * (ص: 24).
وهذا الكلام مردود على قائله ، وهو قائم على الغلط أو المغالطة .
فالمفروض أننا نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم ، أكثره ممن يعلمون ويعقلون ويؤمنون ويشكرون ، ولسنا نتحدث عن مجتمع الجاحدين أو الضالين عن سبيل الله .
ثم إن هناك أمورا لا تدخل مجال التصويت ، ولا تعرض لأخذ الأصوات عليها ، لأنها من الثوابت التي لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته ، ولم يعد مسلما.
فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع ، وأساسيات الدين ، وما علم منه بالضرورة وانما يكون التصويت في الأمور "الاجتهادية" التي تحتمل أكثر من رأي ، ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها ، مثل اختيار أحد المرشحين لمنصب ما ، ولو كان هو منصب رئيس الدولة ، ومثل إصدار قوانين لضبط حركة السير والمرور ، أو لتنظيم بناء المحلاى التجاريه أو الصناعية أو المستشفيات ، أو غير ذلك مما يدخل فيما يسميه الفقهاء "المصالح المرسلة" ومثل اتخاذ قرار بإعلان الحرب أو عدمها ، وبفرض ضرائب معينة أو عدمها ، وبإعلان حالة الطوارئ أولا ، وتحديد مدة رئيس الدولة ، وجواز تجديد انتخابه أولاً ، إلى أي حد . . الخ . . . خ . فإذا اختلفت الآراء في هذه القضايا، فهل تترك معلقة أو تحسم ، هل يكون ترجيح بلا مرجح ؟ أو لابد من مرجح ؟ إن منطق العقل والشرع والواقع يقول : لابد من مرجح ، والمرجح في حالة الاختلاف هو الكثرة العددية ، فإن رأي ا لاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد ،
وفي الحديث : "إن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد" .
وقد ثبت أن النبي !بته قال لأبي بكر وعمر : "لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما"، إذ معني ذلك أن صوتين يرجحان صوتا واحدا ، وإن كان هو صوت النبي (صلي الله علية وسلم ) مادام ذلك بعيدا عن مجال التشريع والتبليغ عن الله تعالى .
كما رأيناه (صلي الله علية وسلم ) ينزل على رأي الكثرة في غزوة أحد ، ويخرج للقاء المشركين خارج المدينة ، وكان رأيه ورأي كبار الصحابة البقاء فيها ، والقتال من داخل الطرقات . وأوضح من ذلك موقف عمر في قضية الستة أصحاب الشورى ، الذين رشحهم للخلافة وأن يختاروا بالأغلبية واحدا منهم ، وعلى الباقي أن يسمعوا ويطيعوا ، فإن كانوا ثلاثة في مواجهة ثلاثة ، اختاروا مرجحا من خارجهم وهو عبدالله بن عمر، فإن لم يقبلوه ، فالثلاثة الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف .
وقد ثبت في الحديث التنويه ب "السواد الأعظم " والأمر باتباعه ، والسواد الأعظم يعني جمهور الناس وعامتهم والعدد الأكبر منهم ، حديث روي من طرق ، بعضها قوي ، ويؤيده اعتداد العلماء برأي الجمهور في الأمور الخلافية ، واعتبار ذلك من أسباب ترجيحه ، إذا لم يوجد مرجح يعارضه .
وقد ذهب الإمام أبو حامد الغزالي في بعض مؤلفاته إلى الترجيح بالكثرة عندما تتساوى وجهتا النظر.
وقول من قال : إن الترجيح إنما يكون للصواب وإن لم يكن معه أحد ، وأما الخطأ فيرفض ولو كان معه (99%) ، إنما يصدق في الأمور التي نص عليها الشرع نصا ثابتا صريحا يقطع النزاع ، ولا يحتمل الخلاف ، أو يقبل المعارضة وهذا قليل جدا . . وهو الذي قيل فيه : الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك .
أما القضايا الاجتهادية ، مما لا نص فيه ، أو ما فيه نص يحتمل أكثر من تفسير، أو يوجد له معارض مثله أو أقوى منه ، فلا مناص من اللجوء إلى مرجح يحسم به الخلاف والتصويت وسيلة لذلك عرفها البشر ، وارتضاها العقلاء ، ومنهم المسلمون ، ولم يوجد في الشرع ما يمنع منها ، بل وجد في النصوص والسوابق ما يؤيدها .
إن أول ما أصاب الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل هو التفريط في قاعدة الشورى ، وتحول " الخلافة الراشدة " إلي " ملك عضوض " سماه بعد الصحابة "كسروية " أو قيصرية" ، أي أن عدوي ا لاستبداد الإمبراطوري انتقلت إلي المسلمين من الممالك التي أورثهم الله إياها ، وكان عليهم أن يتخذوا منهم جرة ، وأن يتجنبوا من المعاصي والرذائل ما كان سببا في زوال دولتهم .
وما أصاب الإسلام وأمته ودعوته في العصر الحديث إلا من جراء الحكم الاستبدادي المتسلط على الناس بسيف المعز وذهبه ، وما عطلت الشريعة ، ولا فرضت العلمانية ، وألزم الناس بالتغريب !لا بالقهر والجبروت ، واستخدام الحديد والنار ، ولم تضرب الدعوة لإسلامية والحركة ا لإسلامية ، ولم ينكل بدعاتها وأبنائها ، ويشرد بهم كل مشرد ، إلا تحت وطأة الحكم الاستبدادي السافر حينا ، والمقنع أحيانا بأغلفة من دعاوى الديمقراطية الزائفة ائتي تأمره القوي المعادية للإسلام جهرا ، أو توجهه من وراء ستار .
ولم ينتعش ا لإسلام ، ولم تنتشر دعوته ، ولم تبرز صحوته ، وتعل صيحته ، إلا من خلال ما يتاح له من حرية محدودة ، يجد فيها الفرصة ليتجاوب مع فطر الناس التي تترقبه ، وليسمع الآذان التي طال شوقها إليه ، وليقنع العقول التي تهفو إليه . إن المعركة الأولي للدعوة الإسلامية والصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية في عصرنا هي معركة الحرية ، فيجب على كل الغيورين على الإسلام أن يقفوا صفا واحدا للدعوة إليها ، والدفاع عنها ، فلا غني عنها ولا بديل لها .
ويهمنا أن نؤكد بأننا لسنا من المولعين باستخدام الكلمات الأجنبية الأصل كالديمقراطية ونحوها للتعبير عن معان إسلامية .
ولكن إذا شاع المصطلح واستخدمه الناس ، فلن نصم سمعنا عنه ، بل علينا أن نعرف المراد منه إذا أطلق ، حتى لا نفهمه على غير حقيقته ، أو نحمله ما لا يحتمله ، أو ما لا يريده الناطقون به ، والمتحدثون عنه ، وهنا يكون حكمنا عليه سليما متزنا ، ولا يضيرنا أن اللفظ جاء من عند غيرنا ، فإن مدار الحكم ليس على الأسماء والعناوين ، بل على المسميات والمضامين . على أن كثيرا من الدعاة والكتاب استخدموا كلمة "الديمقراطية" ولم يجدوا بأسا في استعمالها ، وكتب الأستاذ عباس العقاد - رحمه الله -كتابا سماه "الديمقراطية الإسلامية" ، وبالغ الأستاذ خالد محمد خالد حين اعتبر الديمقراطية هي الإسلام ذاته .
ويقصد بذلك الديمقراطية التي لا تتنافى مع الشريعة .
وكثير من الإسلاميين يطالبون بالديمقراطية شكلا للحكم ، وضمانا للحريات ، وصماما للأمان من طغيان الحاكم ، على أن تكون ديمقراطية حقيقية تمثل إرادة الأمة ، لا إرادة الحاكم الفرد وجماعته المنتفعين به ، فليس يكفي رفع شعار الديمقراطية ير، حين تزهق روحها ، بالمسجون تفتح ، وبالسياط تلهب ، وبأحكام الطوارئ تلاحق كل ذي رأي حر، وكل من يقول للحاكم : لم ؟ بله أن يقول : لا .
ونحن من المطالبين بالديمقراطية بوصفها الوسيلة الميسورة ، والمنضبطة ، لتحقيق هدفنا في الحياة الكريمة التي نستطيع فيها أن ندعو إلي الله وإلى الإسلام ، كما نؤمن به ، بدون أن يزج بنا في ظلمات المعتقلات ، أو تنصب لنا أعواد المشانق. بقي أن نذكر لهؤلاء أن ديمقراطية الإسلام لها سقف لا تتعداه وهو الإسلام ، وذلك منصوص عليه في الدساتير، كما أن الأمة الإسلامية هي الضمان لذلك ، والشعب المسلم إذا خلي بينه وبين ما يريد وأعطي الحرية ، لا يبغي بالإسلام بدلا، بل عليه يحيا وعليه يموت ، وفي سبيله يجاهد حتى يلقي الله . إذن فالديمقراطية كنظام من هذا المنطلق ، هي آلية تنفيذ الشورى الإسلامية ، وإذا وجدنا آلية أخرى أسلم فلا بأس من أن تأخذ بها الأمة وتسير عليها .
الشبهة الثانية عشرة: الإخوان و دخول البرلمان
ما كنا نحسب أن الغزو الثقافي والإيحاء الغربي وصل إلي كثير من الإسلاميين وترجم في مخيلتهم إلى اتهامات لكل من استعصي على الغزو الثقافي ، وسار على طريق الإسلام الصحيح ، ليترجم تعاليم دينه عمليا ، ويأخذ دينه كاملا لا أبعاضا وتفا ريق كما يفعل البعض الآن ، فقد أوحي بعض شياطين الغرب ومستشر قيهم إلى شياطين الشرق ومهزوميهم ، أن لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة ، والإسلام الحق لا يمكن أن يكون سياسيا، وإذا جرد الإسلام من السياسة كان دينا آخر ، قد يكون بوذية أو نصرانية أو غير ذلك .
لأن الإسلام ليس عقيدة لاهوتية ، أو شعائر تعبدية ، فحسب ، وليس علاقة بين الله وربه ، ولا صلة له بالحياة ، وتوجيه المجتمع والدولة ، كلا وألف كلا . .
فالإسلام يتناول مظاهر الحياة جميعا ، فهو دولة ووطن ، أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة ، أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون ، أو علم وقضاء ، وهو مادة وثروة ، أو كسب وغني ، وهو جهاد وفكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء.
ومن قرأ القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وكتب الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه وجد هذا واضحا كل الوضوح ، بل الإسلام لا يقبل أن تقسم الحياة بينه وبين سيد اخر، يقاسمه التوجيه أو التشريع ولا يرضي المقولة التي أسرت عن السيد المسيح "ا ما لقيصر لقيصر، وما لله " .
وشخصية المسلم ، كما كونها ا لإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته لا يمكن إلا أن تكون سياسية، إلا إذا ساء فهمها للإسلام ، أو ساء تطبيقها له ، لأنه يعلم أن للإسلام شريعة تصاحبه في الحياة ، لابد أن تحكم المجتمع ، ولا يتم ذلك إلا بقيادة ودولة ، تقيم العدل ، وتحارب المنكر ، وتدافع عن الدولة ، ولابد لكل فرد أن يؤازر تلك الدولة ، وفي الحديث : "من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ، ومن لم يصبح ناصحا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم ، وأيما أهال عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله " كما يحض المسلم على إقامة الدولة وتنصيب إمام ، وإلا التحق بأهل الجاهلية ، ففي الحديث الصحيح : "من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية"
ولقد قام الإسلام بدولة ، وحارب أعداءه بدولة ، وساس الدنيا بتعاليمه ورجاله ، واستمرت هذه الدولة أربعة عشر قرنا من الزمان تملك زمام العالم بسياسة رشيد ة .
إذن فالسياسة - من الناحية النظرية - علم له أهميته ومنزلته ، وهي من الناحية العملية مهنة لها شرفها ونفعها، لأنها تتعلق بتدبير أمر الخلق على أحسن وجه ممكن . نقل الإمام ابن القيم عن الإمام أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي : أن السياسة هي الفعل الذي يكون الناس معه أقرب إلي الصلاح وأبعد عن الفساد مادامت لا تخالف السرع .
وذكر ابن القيم أن : السياسة العادلة لا تكون مخالفة لما نطق به الشرع ، بل هي موافقة لما جاء به ، بل هي جزء من أجزائه ، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم ، وإنما هي عدل الله ورسوله.
وقد نوه علماؤنا السابقون بقيمة السياسة وفضلها حتى قال الإمام الغزالي : "إن الدنيا مزرعة الآخرة ، ولا يتم الدين إلا بالدنيا ، والملك والدين توأمان ، فالدين أصل ، والسلطان حارس ، ومالا أصل له فمهدوم ، وما لا حارس له فضائع"
. وقد عرفوا الإمامة أو الخلافة بأنها : نيابة عامة عن صاحب الشرع - وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم - في "حراسة" الدين ، و"سياسة" الدنيا به ، فالخلافة حراسة وسياسة .
وقد كان النبي (صلي الله علية وسلم ) سياسيا ، بجوار كونه مبلغا ومعلما وقاضيا ، وكان خلفاؤه الراشدون المهديون من بعده سياسيين على نهجه وطريقته ، حيث ساسوا الأمة بالعدل والإحسان ، وقادوها بالعلم والإيمان . ولكن الناس في عصرنا وفي أقطارنا خاصة من كثرة ما عانوا من السياسة وأهلها ، سواء كانت سياسة الاستعمار أم سياسة الحكام الخونة ، أو الحكام الظلمة ، كرهوا السياسة ، وكل ما يتعلق بها ، وخصوصا بعدما أصبحت فلسفة ميكافيلي هي المسيطرة علي السياسة والمواجهة لها ، حتى حكوا عن الشيخ محمد عبده أنه قال -بعدما ذاق من مكر السياسة وألاعيبها ما ذاق - قال كلمته الشهيرة : "أعوذ بالله من السياسة ، ومن لساس ويسوس ، وسائس ومسوس " ! .
ومن ثم استغل خصوم الفكر الإسلامي ، والحركة الإسلامية بغض الناس للسياسة ، وضيقهم بها ، ونفورهم منها ، ليصفوا الإسلام الشامل المتكامل الذي يدعو إليه الإسلاميون اليوم بأنه "ا لإسلام السياسي " .
ولقد أصبح من المألوف الآن وصف كل ما يتميز به المسلم الملتزم من المسلم المتسيب بأنه "سياسي " ! ويكفي هذا ذما له وتنفيرا منه .
ذهب بعض الفتيات المسلمات المحجبات في بلد من بلاد المغرب العربي إلئ شخصيه لها منصب ديني وسياسي ، يشكون إليه أن بعض الكليات تشترط عليهن -لكي يقبلن فيها -أن يخلعن الحجاب ، وهن يستشفعن به في إعفائهن من هذا الشرط الذي يفرض عليهن كشف الرأس ولبس القصير ، وهو ما حرم الله ورسوله ، وما كان أشد دهشة هؤلاء الطالبات الملتزمات حين قال لهن هذا الرجل المشفع : إن هذا الذي ترتدينه ليس مجرد حجاب ، إنه زي سياسي ! . وقبله قال العلماني الأكبر في تونس : إنه زي طائفي ! .
وقال آخر عن صلاة العيد في الخلاء : إنها ليست سنة، إنما هي صلاة سياسية! والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان اعتكاف سياسي !
ولا تستبعد أن يأتي وقت تكون فيه صلاة الجماعة في المسجد صلاة سياسية ! وقراءة الغزوات في كتاب مثل سيرة ابن هشام أو "إمتاع الأسماع " أو المغازي من صحيح البخاري قراءة سياسية .
وقد تصبح تلاوة القرآن الكريم نفسه - وخصوصا سورا معينة منه - تلاوة سياسية
ولم ننس عهدا كان من الأدلة التي تقدم ضد المتهمين فيه حفظ سورة الأنفال ، لأنها سورة جهاد! ! . إذن فينبغي على المسلم أن يملك الزمام في أمته وأن يسارع إلى تولي قيادة التشريع ا لاجتهادي والرقابي في أمته ، حتى ينفذ تعاليم ربه ويعتدل ميزان العدالة ، وتسود تعاليم الإسلام ، ولا ينفذ في الأمة إلا ما يرضي الله ورسوله .
أما أن يتقاعس عن البرلمانات والمجالس صاحبة القرار ، ويترك ذلك للعلمانيين وممثلي الثقافات الدخيلة ، أو المناهضين للإسلام ، فهذا خطأ كبير يدل على عدم فهم وتقدير للأمور ، لأن أحوال الأمة اليوم تحتاج من المخلصين أن يتقدموا ليكونوا البديل الصالح داخل البرلمانات وليكونوا دعاة ومثلا لرسالتهم ومنهجهم ، هذا وقد راجع بعض الذين يلومون الإخوان علي دخولهم الحياة النيابية أشمهم ، وتقدموا للحياة النيابية ودخلوا البرلمانات والمجلس فما قولهم فيما سطروه من لوم يوم كانوا غير مدركين لنفع ذلك للأمة .
ولقد شعر الاستعمار وأعوانه من السلطات أخيرا بخطر الإسلاميين على مناهجهم وعلى توجهاتهم الفاسدة ، فمنع كثير من البلاد والأقطار الإسلاميين من دخول المجالس النيابية بل حتى النقابات المهنية ، بل تعدي ذلك إلى ردعهم بالسجن والمحاكم العسكرية ، حتى يتخلصوا منهم ومن قوتهم في قول الحق ، وفي تقديمهم للبديل الصالح الذي سيفضح أمر المفسدين والضالين ، نقول بعد ذلك :
ما موقف الذين ينتقدون ، أما زالوا لا يعلمون ولا يفقهون ؟
ثم لما عجز الإسلاميون الممنوعون من دخول البرلمانات بقوانين جائرة من السلطات تحايلوا على الدخول بالتحالف مع ا لأحزاب الوطنية المؤيدة لهم ، ليؤدوا ستهم في الدفاع عن الإسلام ودعوته وتعاليمه من المنابر المؤثرة ، والمواقع المهمة التي ترهب الجرمين ، وتمكنوا من ذلك بعد كفاح وجراح ، إذ ببعض القاعدين والمتسكعين من المتدينين العاجزين ، يلومون الإخوان على تحالفهم هذا ، ولم يعط أحد من العاملين المسلمين لأحد أي مقابل ولم يرض الدنية في دينه وشخصه ، ويقولون : إن الذين تحالف معهم الإخوان ليسوا إسلاميين ، بل قوميين .
يا سبحان الله ، وما المانع من ذلك ؟ ألم يقرؤوا قول الرسول (صلي الله علية وسلم ) عن حلف الفضول : "وكان حلفا في الجاهلية لنصرة المظلومين " ، وقال (صلي الله علية وسلم ) : "لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان لحفا ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت " ، أترفض من يتحالف معك على تنفيذ الحق ؟
ثم ألم تدخل خزاعة –وهم مشركون – في حلف الرسول لمج!ز في صلح الحديبية؟ فهل من تحالف معهم الإخوان المسلمون كفار؟ ! ثم ألم يدخل الرسول !ؤ مكة في جوار المطعم بن عدي وهو كافر ، ليبلغ دعوة ربه ، وكان ينادي في مواسم الحج : هل من رجل يأويني ويحميني حتى أبلغ دعوة ربي ؟
وبعد . . ماذا نقول لهؤلاء السلبيين المتخفين وراء أوهامهم ؟ هدانا الله وإياهم .
الحركة السلفية ودخول البرلمانات :
وبعد كل هذا نري أن الحركة السلفية في أنحاء الوطن العربي قد فهصت مهمتها ا لإسلامية وتقدمت للمشاركة في الحياة السياسية بفعالية مشكورة ، ونافست للدخول في مجالس الأمة ، والوزارة ، ووقفت بالمرصاد للمد العلماني والقرارات التي تجرح الأمة في عقيدتها وهويتها ، وقد أصدرت الحركة السلفية في الكويت بيانا صحفيا أبانت فيه رأيها في حل مجلس الأمة وما ينبغي عمله في ذلك :
بيان الحركة السلفية :
أكدت الحركة السلفية "أن أي مجتمع لا يستقيم نظامه إلا بالقيام بما أمر الله به من الحكم بالحق في قوة ، والأخذ بالعدل في إحسان ، وأداء الأمانة في قسط ، ومشاورة أولي الرأي في تواضع ، وأن هذا هو الميزان الذي إذا اضطرب اختل نظام الأمة ، وتخللها الوهن والضعف ، وتوالت عليها الأزمات " . وأضافت في بيان لها بشأن حل مجلس الأمة : "وإذا وجدت أن مجتمعنا الكويتي الصغير قد أثقلته في الآونة الأخيرة مشكلات سياسية متلاحقة أخذت تعرقل مسيرة التنمية والبناء فيه ، وأدخلت المواطنين في دوامة من الهموم والأزمات ، حتى أفضي ذلك كله إلي أزمة حل مجلس الأمة الذي صدر فجه المرسوم يوم 4/ 5/ 1999 م وحتى لا تموج الساحة السياسية في تحليلات ، تخوض فيها الأطراف ، كل من منظوره الخاص ، ويلقي كل طرف باللائمة على غيره ، مما قد يفضي إلي تولد أزمات جديدة ، فإن الحركة السلفية إزاء هذا الوضع - مع إشادتها بالتمسك بالمشاركة الشعبية المتمثلة بالحل الدستوري والدعوة إلى الانتخابات - وهي تشير مع ذلك إلى أن اللجوء إلف الحلول الدستورية للمجالس النيابية لا يصار إليه إلا في حالات الضرورة القصوى ، لأنه دليل على تراجع في وعي أهمية المشاركة الشعبية ، غير أنها تؤكد ما يلي :
1 - ضرورة التشخيص السليم والمحايد للأزمة الحالية والذي يجب أن ينطلق من المصلحة العامة للوطن ، دون المصالح الشخصية ، والحزبية والطائفية ، وغيرها .
2- عدم إلقاء اللوم على المجلس فحسب ، بل التمسك بالتحليل الشمولي الذي يحمل كل طرف مسؤوليته .
3 - الدعوة الصادقة إلي ضرورة إعادة النظر في أسلوب الممارسة وتجنب كل ما من شأنه أن يعكر على التفاهم بين السلطتين التشريعية والتنفيذية .
4 - العمل على إيجاد وبث روح الانسجام والتلاحم بين الشعب والسلطة ، والتأكيد على أن مفهوم العمل الوزاري وتوزير النواب يجب أن يغذي هذه الروح لا يضعفها .
5 - ضرورة مراجعة كل من الحكومة والقوي السياسية لأولوياتها وبرامجها في ضوء استمرار ظاهرة التأزم السياسي بين السلطتين التشريعية والتنفيذية - وبناء على تلك الأولويات والبرامج على نظرة موضوعية متجردة هدفها ا لإصلاح وا لاستقرار السياسي ورفاه المواطن " . ودعت الحركة السلفية "القوي السياسية إلى عقد اجتماع عاجل لمناقشة الوضع ورسم الأولويات والخروج بتصور عام متوازن يحقق المصلحة العامة" .
هذا بيان الحركة السلفية في الكويت ، والذي صدر بمناسبة حل مجلس الأمة ، ويظهر فيه أن الحركة السلفية متمسكة بالمشاركة الشعبية ، وقد شاركت فعلا في الحياة النيابية ، وكان لها حضور في قلب الأحداث ، وكان لها مطالب لإصلاح الحياة السياسية ، كما طالبت بالتمسك بالدستور الذي يعدونه القول الفصل في الحياة النيابية ، ويطالبون كذلك بالتفاهم بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ، وبضرورة التفاهم بين القوي السياسية ، ومراعاة الأولويات في ذلك كما جاء في البيان . . الخ.
وهذا يدل على تقدم فكري وحركي وسياسي ينبغي أن يشاد به ويعمل على تقويته حتى تخلص عقلياتنا جميعا من التقوقع والسلبية التي استغلها أعداء الإسلام واستولوا على قيادات ا لأمة ومراكز الرأي فيها .
كما أن الحركة السلفية في الكويت وفي بعض الأقطار دخلوا الوزارات وتعاونوا على تنفيذ القرارات تحت ما يسمونه بالقانون الوضعي ، وكذلك فعلوا في اتحادات الطلبة والنقابات المختلفة ، وأصدروا المجلات السياسية ، ونشروا فيها التصاوير الغي كانوا يحرمونها قبل ذلك . . إلخ .
ولا أظن أن اعتراضهم على الإخوان المسلمين في دخولهم الحياة السياسية واشتراكهم في المجالس النيابية وغير ذلك ، ما كان هذا إلا مرحلة معينة من مراحل التطور الفكري وفي النهاية سينتهون إلى ما بدأ به الإخوان من 70 عاما ، وهذا شيء يختصر الطريق على العاملين في الحقل الإسلامي ، ويوحي بخير، بدل الجدل العقيم والفرقة والنشر ذم الذي أصيب به العمل الإسلامي من جراء ذلك الفهم الذي كانت تنقصه الدراية والخبرة وسعة الأفق .
الشبه الثالثة عشرة: الحكم بما أنزل الله
مكانة الحكم في الإسلام
يرى بعض المتحاملين على الإخوان أن الإخوان (طلاب حكم ) ، ونحن نحب بدورنا أن نلقي الضوء أولا على مفهوم الحكم ومكانته في الإسلام . ولبيان مكانة الحكم في الإسلام يقول الإمام البنا -رحمه الله -والحكم في كتبنا الفقهية من الفروض لا من الفقهيات والفروع فالإسلام حكم وتنفيذ كما هو تشريع وتعليم ، كما هو قانون وقضاء لا ينفك واحد منهما عن الآخر، ولقد اعتمد الإمام البنا-رحمه الله -في قوله هذا على الكثير من الآيات التي توجب الحكم بما أنزل الله تعالى نحو قوله تعالى : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما " (النساء : 105 )، وقوله تعالى :" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم إلى فرون . . الظالمون . . الفاسقون * (المائدة : 4 4 ، 45 ، 47 ) ، وقوله تعالى : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " (المائدة : 49) ، وقوله تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما "(النساء : 65)، وقوله تعالي : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا مه (الأحزاب : 36)، وقوله تعالى : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم امنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا " (النساء : 60) ، ويقول ابن كثير في تفسير معنى الطاغوت "الذي يجب الكفر به ليتحقق الإيمان ا، الآية ذامه لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا ، والآيات كثيرة في هذا المجال ومعلوم أن التحليل والتحريم "التشريع " حق لله عز وجل ومن أعطى لنفسه أو لغيره هذا الحق فقد اعتدى على حق الله تعالى وهذا ما فسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة التوبة : " اتخذوا أحبارهم وربط نهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم " (التوبة : 31) ، عندما قال عدي بن حاتم الطائي : يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم ، قال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ قال عدي : بلى ، قال صلى الله عليه وسلم: "فتلك عبادتهم ".
ومما سبق يتضح لنا وجوب تحكيم شرع الله تعالى وأن إعطاء حق التشريع لغير الله تعالى مخالف للعقيدة الصحيحة . ولقد اتفق كثير من العلماء قديما وحديثا مع الإمام البنا –رحمه الله –فقال الإمام محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى : " اتخذوا أحبارهم " (أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في المعصية.
وإليك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق حديثه عن الحكم بغير ما أنزل الله : قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (المائدة : 44 ) .
لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله ؟ فهو كافر؟ فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل ، وقد يكون العدل في دينها ما راه أكابرهم ، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله ، كسوالف البادية ، وكأوامر المطاعين فيهم ، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة ، وهذا هو الكفر ج فإن كثيرا من الناس أسلموا ، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم ، التي يأمر بها المطاعون ج فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله ، فلم يلتزموا ذلك ، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله ج فهم كفار، وإلا كانوا جهالا كمن تقدم أمره ، وقد أمر الله المسلمين كلهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه !ك الله والرسول ، فقال تعالى : "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تاويلا" (النساء : 59) ، وقال تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما" (النساء: 65). فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم ج فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن ، وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا ، لكن عصى واتبع هواه ؟ فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة ، هذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله ، ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله ، وقد تكلم الناس بما يطول ذكره هاهنا ، وما ذكرته يدل عليه سياق الآية ، والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقا في كل زمان ومكان على كل أحد ، ولكل أحد ، والحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو عدل خاص ، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها ، والحكم به واجب على النبي في صلى الله عليه وسلم وكل من اتبعه ، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله ج فهو كافر، وهذا واجب على الأمة ، في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية والعملية".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -أيضا في معنى قوله تعالى : " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " (التوبة : 31) : " وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ، حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله ، يكونون على وجهين :
أحدهما : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله ، فيتبعونهم على التبديل ، فيعتقدون تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل الله ؟ اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل ؟ فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركا ، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم ، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف للدين ، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركا مثل هؤلاء .
الثاني : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتا ، لكنهم أطاعوهم في معصية الله ، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب ، كما ثبت عن النبي في صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إنما الطاعة في المعروف "
ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسل ، لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع فهدا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه ، ولكن من علم أن هذا (المجتهد) أخطأ فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم اتبعه على خطئه ، وعدل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله ، لا سيما إن أتبع ذلك هواه ونصره باليد واللسان ، مع علمه أنه مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم ، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه ، ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه ".
ويقول العلامة ابن القيم - رحمه الله -: (الطاغوت هو ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لدله ).
ويقول الشيخ ابن باز - رحمه الله تعالى - :
تحت عنوان " نواقص الإسلام " - القسم الرابع - من اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه -أو أن حكم غيره أحسن من حكمه ، كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر ، ويدخل فيه أيضا من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام ، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين ، أو أنه كان سببا في تخلف المسلمين ، أو آن يحصر الإسلام في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شئون الحياة الأخرى ويدخل فجه أيضا من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر ويدخل في ذلك أيضا كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرهما وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة لأنه بذلك يكون قد استباح ما جرم الله إجماعا وكل من استباح ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالزنا والخمر والربا والحكم بغير شريعة الله فهو كافر بإجماع المسلمين.
هذا هو رأي العلماء فيمن حكم بغير الإسلام أو اعتقد أن الإسلام ليس فيه حكم أو عاب أحكام الإسلام ، أو قصر الإسلام على العبادة فقط ولم يطالب بتحكيم شرع الله . وهل هذا يخرج عن رأي الإخوان المسلمين وعن رأي الشيخ البنا -رحمه الله - الذي قال بالإسلام عقيدة وشريعة تشمل كل أمور الحياة اجتماعية وسياسية وقانونية وثقافية ، كما أن ا لإسلام عبادة تنظم شئون الناس في الآخرة وتقودهم إلى الفوز ورضاء الله تعالى .
ولهذا يحسن بنا أن نذكر طرفا من أقوال الشيخ البنا -رضوان الله عليه -في هذا المجال ، حيث يحرر ذلك في نقاط يذكر منها :
( 1 ) نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة ، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن ، فالإسلام عقيدة وعبادة ، ووطن وجنسية ، ودين ودولة ، وروحانية وعمل ، ومصحف وسيف ، والقرآن الكريم ينطق بذلك كله ويعتبره من لب الإسلام ومن صميمه ويوصي بالإحسان فيه جميعه ، وإلى هذا تشير الآية الكريمة : " وابتغ فيما اتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك " (القصص ر : 77) .
وإنك تقرأ في القرآن وفي الصلاة إن شئت قول الله تبارك وتعالى في العقيدة والعبادة : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة " (البينة : ه ) ، وتقرأ قوله تعالى في الحكم والقضاء والسياسة : أ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما مه (النساء : 65)، وتقرأ قوله تعالى في الدين وفي التجارة : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدير إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بين!كم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخسن منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا للمهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تفعل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تساموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد " (البقرة : 282) .
وتقرأ قوله تعالى في الجهاد والقتال والغزو : " وإذا كنت فيهم فاقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتات طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم " (النساء : 102 ) .
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة البارعة في هذه الأغراض نفسها وفي غيرها من الآداب العامة وشؤون الاجتماع . وهكذا اتصل الإخوان بكتاب الله واستلهموه واسترشدوا فأيقنوا أن الإسلام هو هذا المعنى الكلي الشامل ، وأنه يجب أن يهيمن على كل شؤون الحياة وأن تصطبغ جميعها به وأن تنزل على حكمه وأن تساير قواعده وتعاليمه وتستمد منها مادامت الأمة تريد أن تكون مسلمة إسلاما صحيحا ، أما إذا أسلمت في عبادتها وقلدت غير المسلمين في بقية شؤونها ، فهي أمة ناقصة الإسلام تضاهي الذين قال الله تعالى فيهم : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منهم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون"(البقرة : 85) .
( 2) إلى جانب هذا يعتقد الإخوان أن أساس التعاليم الإسلامية ومعينها هو كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله !ؤ ، اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدا ؟ وأن كثيرا من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها . ولهذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي معين السهولة الأولى ، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم ، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا الله به ، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه ، والإسلام دين البشرية جميعا .
( 3) وإلى جانب هذا أيضا يعتقد الإخوان المسلمون أن الإسلام كدين عام انتظم كل شؤون الحياة في كل الشعوب والأم لكل الأعصار والأزمان ، جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزيئات هذه الحياة وخصوصا في الأمور الدنيوية البحتة ، فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشؤون ، ويرشد الناس إلف الطريق العملية للتطبيق عليها والسير في حدودها .
ولضمان الحق والصواب في هذا التطبيق أو تحريهما على الأقل ، عني الإسلام عناية تامة بعلاج النفس الإنسانية وهي مصدر النظم ومادة التفكير والتصوير والتشكل ، فوصف لها من الأدوية الناجعة ما يطهرها من الهوى ويغسلها من أدران الغرض والغاية ويهديها إلى الكمال والفضيلة ويزجرها عن الجور والقصور والعدوان ، وإذا استقامت النفس وصفت فقد أصبح كل ما يصدر عنها صالحا جميلا .
يقولون أن العدل ليس في نص القانون فقط ولكنه في نفس القاضي ، وقد تأتي بالقانون الكامل العادل إلى القاضي ذي الهوى والغاية فيطبقه تطبيقا جائرا لا عدل معه ، وقد تأتي بالقانون الناقص والجائر إلى القاضي الفاضل العادل البعيد عن الأهواء والغايات فيطبقه تطبيقا فاضلا عادلا فيه كل الخير والبر والرحمة والإنصاف ، ومن هنا كانت النفس الإنسانية محل عناية كبرى في كتاب الله ، وكانت النفوس الأولى التي صاغها هذا الإسلام مثال الكمال الإنساني ، ولهذا كله كانت طبيعة الإسلام تساير العصور والأمم وتتسع لكل الأغراض والمطالب ، ولهذا أيضا كان الإسلام لا يأبى أبدا الاستفادة من كل نظام صالح لا يتعارض مع قواعده الكلية وأصوله العامة .
لا أحب أيها السادة أن استرسل في هذا البيان فذلك باب واسع وحسبنا هذه الإلمامة الموجزة و تلقي ضوءا على هذا المعنى العام للفكرة الإسلامية في نفوس الإخوان المسلمين.
وبعد:
هذا الكلام البين الشافي الذي قال به العلماء والذي هو طبيعة الإسلام وجوهره ، وبعد هذا التفسير والتوضيح المبهر من الشيخ البنا - رحمه الله - لمنهج الإسلام ومفهومه في نفوس الإخوان المسلمين ، يجب أن يسأل كل نفسه من سينفذ هذا المنهج ويحكم شرع الله ، أهم الشيوعيون أم الملحدون أم الجهال والعملاء وأعداء شرع الله ؟ أم أنه ولابد وأن يكون هناك رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، يحملون التبعة ويرفعون الراية ويقودون الركب ويمسكون بالزمام ويرودون الأمة ، لإقرار تعاليم الإسلام وإقامة دولة القرآن ، ولا يشترط أن يكونوا من الإخوان أو من غيرهم من الجماعات فقد يكون منهم أو من غيرهم ، ولكنه لابد من أن تعمل الأمة لتحقيق هذه الغاية والوصول إلى هذا الهدف . وفي هذا يقول الشيخ البنا -رحمه الله -:
الإخوان المسلمون والحكم
ويتساءل فريق آخر من الناس : هل في منهاج الإخوان المسلمين أن يكونوا حكومة وأن يطالبوا بالحكم ؟ وما وسيلتهم إلى ذلك ؟ ولا أدع هؤلاء المتسائلين أيضا في حيرة، ولا نبخل عليهم بالجواب. فالإخوان المسلمون يسيرون في جميع خطواتهم وامالهم وأعمالهم علي هدئ الإسلام الحنيف كما فهموه ، وكما أبانوا عن فهمهم هذا في أول هذه الكلمة . وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من أركانه ، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد ، وقديما قال الخليفة الثالث رضي الله عنه : " إن الله ليزغ بالسلطان ما لا يزع بالقران " . وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحكم عروة من عري الإسلام ، والحكم معدود في كتبنا الفقهية من الفروض والأصول ، لا من الفقهيات والفروع ، فالإسلام حكم وتنفيذ ، كما هو تشريع وتعليم ، كما هو قانون وقضاء ، لا ينفك واحد منها عن الآخر . والمصلح الإسلامي إن رضي لنفسه أن يكون فقيها مرشدا يقرر ا لأحكام ويرتل التعاليم ويسرد الفروع والأصول ، وترك أهل التنفيذ يشرعون للأمة ما لم يأذن به الله ويحملونها بقوة التنفيذ على مخالفة أوامره ، فإن النتيجة الطبيعية أن صوت هذا المصلح سيكون صرخة في واد ونفخة في رماد كما يقولون .
قد يكون مفهوما أن يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا من أهل التنفيذ إصغاء لأوامر الله وتنفيذا لأحكامه ، وإيصالا لآياته وأحاديث نبجه !ته ، وأما والحال كما نرى : التشريع الإسلامي في واد والتشريع الفعلي والتنفيذي في واد آخر فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف .
هذا كلام واضح لم نأت به من عند أنفسنا ، ولكننا نقرر به أحكام الإسلام الحنيف . وعلى هذا فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم ، فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قراني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه وإن لم يجدوا ، فالحكم من منهاجهم ، وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله .
وعلى هذا فالإخوان أعقل وأحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذا الحال ، فلابد من فترة تنشر فيها مبادئ الإسلام وتسود ، ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
هل الإخوان بعد هذا طلاب حكم لأنفسهم أم طلاب تحكيم لشرع الله : ولهم على هذا مؤيدات كثيرة منها رفض الإخوان الاشتراك في أول حكومة لثورة يولجو وكانت برئاسة اللواء محمد نجيب ، وقد فصل الإخوان الشيخ الباقوري . حينما خالف رأي الجماعة واشترك في الحكومة .
هل الثورة والعنف من وسائل الإخوان ، هذا وقد زعم بعض الناقمين على دعوة الإخوان وعلى مناهجهم أنهم ثوريون وأنهم دعاة ثورة ، ولم يبخل رائد الجماعة الإمام البنا رضوان الله عليه ، عليهم بالإجابة فشرح وسيلة الإخوان في الدعوة والإقناع ، وأبان أن الثورة أسلوب لا يقره الإخوان ولا يعملون له ، وإليك ما قاله في هذا الأمر، وما سار عليه الإخوان المسلمون إلى اليوم ، وبشهادة الجميع من أهل الصدق والفضل ، فكتب -رحمه الله - تحت عنوان :
وسائل الإخوان المسلمين في تحكيم كتاب الله
أما وسائلنا العامة ، فالإقناع ونشر الدعوة بكل وسائل النشر حتى يفقهها الرأي العام ويناصرها عن عقيدة وإيمان ، ثم استخلاص العناصر الطيبة لتكون هي الدعائم الثابتة لفكرة الإصلاح . . ثم النضال الدستوري حتى يرتفع صوت هذه الدعوة في الأندية الرسمية وتناصرها وتنحاز إليها القوه التنفيذية ، وعلي هذا الأساس سيتقدم مرشحو الإخوان المسلمين حين يجيء الوقت المناسب إلى الأمة ليمثلوها في الهيئات النيابية ، ونحن واثقون بعون الله من النجاح ما دمنا نبتغي بذلك وجه الله : " ولينصرن الله من ينصره إن الله نقيري عزيز " (الحج ! هـ 4) . ثم تحدث رحمه الله عن الثورة وفكر الإخوان :
وأما الثورة فلا يفكر ا لإخوان المسلمون فيها ، ولا يعتمدون عليها ، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها ، دان كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أولو الأمر في إصلاح عاجل وعلاج سريع لهذه المشاكل ، فسيؤدي ذلك حتما إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم ، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال ، وإهمال مرافق الإصلاح . وليست هذه المشاكل التي تتعقد بمرور الزمن ويستفحل أمرها بمضي الأيام إلا نذيرا من هذه النذر، فليسرع المنقذون بالأعمال.
هذا وأما ما يستشكل على البعض من قول الإمام البنا -رحمه الله -، في معرض بيانه لوسائل إصلاح الحكومة ، بعد التسديد والطاعة والنصح وا لإرشاد والتنبيه وا لأمر بالمعروف ، فإذا لم يجد ذلك ، وتجاهلت فرائض الإسلام وتخطت حدوده وأكثرت المظالم وجاهرت بالعصيان وقهرت وبغت ، فينبغي أن تعمل الأمة على ذهاب تلك الحكومة وخلعها ، فتلقف هذا البعض قائلا إن هذه هي الثورة بعينها ولا ندري كيف فهم من كلام الإمام رضي الله عنه ، أنه يدعو إلف الثورة ، ويحسن بنا أن نذكر طرفا مما قاله رحمه الله في إصلاح الحكومة بل نذكر ما قاله حرفيا حتى يستبين سبيل المؤمنين قال : " يجب إصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق ، وبذلك تؤدي مهمتها كخادم للأمة وأجير عندها وعامل على مصلحتها . والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير متجاهرين بعصيان ، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه . من حقها متى أدت واجبها الولاء والطاعة والمساعدة بالنفس والأموال . ثم قال : فإذا قصرت ، فالنصح والإرشاد ، ثم الخلع والإبعاد ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" .
والخلع والإبعاد في كل أمة خاصة الإسلامية يكون بالشورى ووفق الضوابط الشرعية ، وبالوسائل السلمية ، والدستورية ، وهذا في الحقيقة لابد وأن ينظر إليه ضمن وسائل الإخوان التي أبانوا عنها في كل حديث وموضع ، وهذه الوسائل : " أعني الخلع والإبعاد" ليس بدعا في الأهم فإن تداول السلطة أمر معمول به في أرجاء العالم ، وليس هناك حكومات مخلدة ، وخصوصا إذا كانت من المتجاوزين والمقصرين ، فتخلع عن طريق صناديق ا لاقتراع ، أو عن طريق نزع الثقة ، أو عن طريق المحاكمات التي تجرئ للحكومات ، أو غير ذلك ولكن يظهر أنه قد طال العهد ببعض الشرقيين فلم يروا في أزمانهم تداولا للسلطة أو إبعادا إلا عن طريق القسر ، فصاروا يفهمون كل إبعاد يكون بمثل ما ألفوا وهذا خطأ الإلف ، لا خطأ المشرعين والموجهين.
هذا ومع أن الإخوان لا تدعو إلى العنف ولا تقره نرى هؤلاء المتهمين للإخوان يقرون العنف ويدعون إليه ، ومن غريب أن مورد هذه الشبهة على الإخوان يقول في كتابه الطريق إلى الجماعة الأم ص 22 عن السياسيين الذي لا يحكمون بشرع : " هؤلاء أغلبهم معاند لا يفعل هذه الأشياء ظنا أنها قربة إلف الله ولكن يفعلها احتقارا لدين الله ، على أساس أن شريعة الإسلام أصبحت أفكارا رجعية متخلفة ومثل هذا لا ينفع معه إلا الجهاد المسلح في حال القدرة والتكافل " ، -كما يقول أيضا - : "ولا علاج للشيوعية والعلمانية إلا الجهاد المسلح ".
فانظروا يا أولي الألباب إلف هذا المتخبط الذي يدعو إلى العنف ويفصح عنه ، ويتهم به غيره من الداعين إلى الله بالحسنى ، وندع بعد ذلك الحكم للقارئ الكريم .
الشبهة الرابعة عشرة: التعددية الحزبية
لاشك في أن الزمان سيلد من الوسائل والنظم في الحكم، وفي الإدارة، وفي المصالح المرسلة، الشيء الكثير مادامت للناس عقول واجتهادات ونظريات ومذاهب، ومادامت الحياة مستمرة والنوازل والقضايا متجددة، كتجدد الصناعات والاختراعات التي غيرت شكل الحياة في كثير من جوانبها وآفاقها، والمسلمون ليسوا في معزل عن هذا كله، ولا يمكن أن تقف عجلة الحياة عندهم، أو عجلة التفكير والاجتهادات فيما يصلحهم ويرتقي بمجتمعهم، كما أنهم ليسوا منعزلين عن العالم، ولا عن افاقه ووسائله ونظرياته، وكثير من المسائل والمشاكل كانت في الماضي عسيرة الحل، أو مستحيلة التذليل، فتوصلت العقول والاجتهادات إلى تذليلها وحلها، أو تيسيرها وتسهيلها، من هذه الأمور تحقيق المصالح في مجال سياسة الشعوب، لأن السياسة كما يقول ابن عقيل:
"هي ما كان فعلا يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي "، فإن أردت بقولك: "إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع " فصحيح، وإن أردت: "لا سياسة إلا ما نطق به الشرع " فغلط، وتغليط للصحابة رضي الله عنهم، فقد جرئ للخلفاء الراشدين من الأفعال والاجتهادات ما لا يجحده عالم بالسنن، ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف، فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة.
ولقد رأت بعض الأم في هذا العصر أن أفضل وسيلة لمنع ظلم السلطات هو قيام رقابة شعبية قادرة لها سند قانوني بمراقبة الحاكم في برامجه وتصرفاته، وتستطيع أن توقفه إذا تعدى وأن تستدرك عليه إذا أخطأ، وأن تستبدل به غيره إن رغبت الأمة في ذلك.
يقول د. يوسف القرضاوي: ولقد علمنا التاريخ، وتجارب الأمم، وواقع المسلمين، أن تقويم اعوجاج الحاكم ليس بالأمر السهل، ولا بالخطب اليسير، ولم يعد لدى الناس سيوف يقومون بها العوج، بل السيوف كلها يملكها الحاكم ! والواجب هو تنظيم هذا الأمر لتقويم عوج الحكام بطريقة غير سل السيوف، وشهر السلاح. وقد استطاعت البشرية في عصرنا - بعد صراع مرير، وكفاح طويل - أن تصل إلى صيغة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقويم عوج السلطان، دون إراقة للدماء، وتلك هي وجود "قوى سياسية" لا تقدر السلطة الحاكمة على القضاء عليها بسهولة، وهي ما يطلق عليه "الأحزاب ".
إن السلطة قد تتغلب بالقهر أو بالحيلة على فرد أو مجموعة قليلة من الأفراد، ولكنها يصعب عليها أن تقهر جماعات كبيرة منظمة، لها امتدادها في الحياة وتغلغلها في الشعب، ولها منابرها وصحفها وأدواتها في التعبير والتأثير.
فإذا أردنا أن يكون لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معناها وقوتها وأثرها في عصرنا، فلا يكفي أن تظل فريضة فردية محدودة الأثر، محدودة القدرة، ولابد من تطوير صورتها، بحيث تقوم بها قوة تقدر على أن تأمر وتنهى، وتنذر وتحذر، وأن تقول عندما تؤمر بمعصية: لا سمع ولا طاعة، وأن تؤلب القوى السياسية على السلطة إذا طغت، فتسقطها بغير العنف والدم.
إن تكوين هذه الأحزاب أو الجماعات السياسية أصبحت وسيلة لازمة لمقاومة طغيان السلطات الحاكمة ومحاسبتها، وردها إلى سواء الصراط، أو إسقاطها ليحل غيرها محلها، وهي التي يمكن بها الاحتساب على الحكومة، والقيام بواجب النصيحة والأمر بالمعروف، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
بل إن هذا التعدد قد يكون ضرورة في هذا العصر، لأنه يمثل صمام أمان من استبداد فرد أو فئة معينة بالحكم، وتسلطها على سائر الناس، وتحكمها في رقاب الآخرين، وفقدان أي قوه تستطيع أن تقول لها: لا، أو: لم ؟ كما دل على ذلك قراءة التاريخ، واستقراء الواقع. كل ما يشترط لتكتسب هذه الأحزاب شرعية وجودها أمران أساسيان:
1 - أن تعترف بالإسلام - عقيدة وشريعة - ولا تعاديه أو تتنكر له، وإن كان لها اجتهاد خاص في فهمه، في ضوء الأصول العلمية المقررة.
2 -ألا تعمل لحساب جهة معادية للإسلام ولأمته، أيا كان اسمها وموقعها. فلا يجوزان ينشأ حزب يدعو إلى الإلحاد أو الإباحية أو اللادينية، أو يطعن في الأديان السماوية عامة، أو في الإسلام خاصة، أو يستخف بمقدسات الإسلام: عقيدته أو شريعته أو قرانه، أو نبيه عليه الصلاة والسلام.
وذلك أن من حق الناس في الإسلام - بل من واجبهم -أن ينصحوا للحاكم، ويقوموه إذا اعوج، ويأمروه بالمعروف، وينهوه عن المنكر، فهو واحد من المسلمين، ليس أكبر من أن ينصح ويؤمر، وليسوا هم أصغر من أن ينصحوا أو يأمروا.
وإذا ضيعت الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقدت سر تميزها، وسبب خيرتها، وأصابتها اللعنة كما أصابت من قبلها من الأم، ممن كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " (المائدة: 79). وفي الحديث: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منهم ".
وفي الحديث الآخر : "إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ".
وعندما ولي أبو بكر الخلافة قال في أول خطبة له: "أيها الناس إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.. أطيعوني ما أطعمت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم ". وقال عمر: "أيها الناس.. من رأى منكم في اعوجاجا فليقومني " قال رجل: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا ! فقال عمر: "الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بحد سيفه "!.
شبهات حول التعددية
توجد آراء إسلامية معاصرة على طرفي نقيض، منها ما يحرم التعددية السياسية مطلقا ومنها ما يجيزها مطلقا بغير ضوابط، ولكل رأيه ولا بأس بالتمحيص بالدليل:
أولا، المانعون للتعددية: يستند المانعون إلى ما يلي:
ا - الآيات القرآنية التي تنهي عن التفرق والتنازع وتأمر بالوحدة، مثل قوله تعالى : " ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون " (الروم: 31- 32)، والتفرق الوارد في الآية هو التفرق في الدين المفضي إلى الكفر، وحزب الشيطان الوارد في القران الكريم هم الكفار المحاربون لله ومن والاهم من المنافقين، وفي هذا يقول الله تعالى : " استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون "(المجادلة: 19 )، فلم يرد حزب الشيطان إلا كوصف للكافرين.
2 - التعدد يتنافى مع الوحدة التي يفرضها الإسلام في قوله تعالى : " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (ال عمران: 103 )، " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * (آل عمران:05 ا)، وفي الحديث: "لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا".
والتعدد لا يعني بالضرورة التفرق كما أن بعض الاختلاف ليس ممقوتا مثل الاختلاف في الرأي نتيجة الاختلاف في الاجتهاد، ولهذا اختلف الصحابة في مسائل فرعية كثيرة ولم يضرهم ذلك شيئا، واختلفوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم في بعض القضايا مثل اختلافهم في صلاة العصر في طريقهم إلى بني قريظة، وهي واقعة مشهورة ولم يلم النبي جم!نه أحدا على ذلك من الفريقين، بل اعتبر هذا الاختلاف من باب الرحمة التي وسح بها على الأمة، وفيها ورد الأثر: "اختلاف أمتي رحمة". والاختلاف كما هو معروف قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد، والأول محمود، والآخر مذموم.
فالاختلاف الذي لا يؤدي إلى تفرق ولا عداوة، بل هو تعدد في ظل الأمة الواحدة هو ظاهرة صحية.
3 - التعددية مبدأ مستورد والواجب أن يكون لنا استقلالنا السياسي والفكري ولا نتبع سنن غيرنا.
والذي يحذر منه الجميع ويحذر منه الشرع، هو: التقليد الأعمى في الخير وفي الشر، بحيث يجعلنا ذيولا لغيرنا نمضي خلفهم في كل شيء، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه معهم.
والتشبه الممنوع هو ما كان تشبها فيما هو من علامات تميزهم الديني كلبس الصليب للنصارى، والزنار للمجوس، ونحو ذلك، مما يدخل صاحبه في زمرة المتشبه بهم، ويحيله كأنه واحد منهم. أما الاقتباس منهم فيما عدا ذلك مما هو من شؤون الحياة المتطورة فلا حرج فيه، ولا جناح على من فعله، والحكمة ضالة المؤمن أنئ وجدها فهو أحق الناس بها.
وقد حفر الرسول صلى الله عليه وسلم خندقا حول المدينة، ولم تكن مكيدة تعرفها العرب، إنما من أساليب الفرس، أشار بها سلمان رضى الله عنه. واتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم خاتما يختم به كتبه، حين قيل له: إن الملوك لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان مختوما. واقتبس عمر نظام الخراج ونظام الديوان. واقتبس معاوية نظام البريد. واقتبس من بعده أنظمة مختلفة. وعلى هذا لا غضاضة ولا حرج من اقتباس مبدأ التعدد الحزبي من الديمقراطية الغربية بشرطين: أولهما 4 أن نجد في ذلك مصلحة حقيقية لنا، ولا يضرنا أن نخشى من بعض المفاسد من جرائه، المهم أن يكون نفعه أكبر من ضرره، فإن مبنى الشريعة على اعتبار المصالح الخالصة أو الغالبة، وعلى إلغاء المفاسد الخالصة أو الراجحة، وقوله تعالى في الخمر والميسر: " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " (البقرة: 291)، أصل في هذا الباب.
وثانيهما: أن نعدل ونطور فيما نقتبسه، حتى يتفق مع قيمنا الدينية ومثلنا الأخلاقية، وأحكامنا الشرعية، وتقاليدنا المرعبة.
ولا يجبرنا أحد أن نأخذ النظام بحذافيره وتفاصيله، ومنها: التعصب للحزب بالحق وبالباطل، ونصرته ظالما ومظلوما، على ظاهر ما كان يقوله العرب في الجاهلية: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قبل أن يعدل الرسول عليه الصلاة والسلام مفهومها لهم، ويفسرها تفسيرا يجعل لها معنى آخر، فنصره ظالما بأن تأخذ فوق يديه، وتمنعه من الظلم، فبذلك تنصره على هوى نفسه ووسوسة شيطانه.
4 - التعددية الحزبية تجعل الولاء للأشخاص والأحزاب وليس للدولة أو الإسلام الذي بايع على أن يكون له السمع والطاعة، وللدولة الإخلاص والولاء.
هذا صحيح إذا كان الفرد سيتخذ موقف المعارضة للدولة في كل شيء والتأييد لحزبه في كل شيء. وهذا ما لا نقول به. إن ولاء المسلم إنما هو لله ولرسوله ولجماعة المؤمنين، كما قال تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون "(المائدة:55 - 56).
وانتماء الفرد المسلم إلى قبيلة أو إقليم، أو جمعية، أو نقابة، أو اتحاد، أو حزب، لا ينافي انتماءه للدولة وولاءه لها. فإن هذه الولاء والانتماءات كلها مشدودة إلى أصل واحد هو الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والمحظور كل المحظور هو اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين: " أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " (النساء: 139 )، " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء كر (الممتحنة: 1 ).
وإذا كان النمط الحزبي المعهود هو تأييد الفرد لحزبه في مواقفه، وإن اعتقد أنه مبطل بيقين ومعارضة للدولة وإن اعتقد أنها على حق، فهذا ما لا نقره ولا ندعو إليه، وما لا ينبغي تعديله إلى صيغة تتفق وقيم الإسلام وأحكامه وآدابه..
ثانيا: التعددية المطلقة:
إنه على النقيض من الآراء الفردية التي تنكر التعددية، وذلك لفهم خاطئ لبعض النصوص الشرعية، فإن حركة الاتجاه الإسلامي في تونس برئاسة الأستاذ راشد الغنوشي، تنادي بالتعددية المطلقة حتى لو أدت إلى تكوين أحزاب شيوعية أو غيرها.
فرئيسها قد قال في الندوة الصحفية المنعقدة في أول يونيو 1981 م: "نحن لا نعارض البتة قيام أي حركة سياسية وان اختلفت معنا اختلافا أساسيا جذريا، بما في ذلك الحزب الشيوعي.. وهذا الموقف منطق مبدئي إسلامي أصولي شرعي ".
إن حجة الغنوشي أن النظام الإسلامي قد استوعب في داخله المجوس وهم عبدة النار وعبدة الأصنام عند كثير من أهل العلم،.كما استوعب اليهود والنصارى، وفي الصحيفة - التي عقدها رسول الله !لمجز مع أهل المدينة من المسلمين واليهود ومن دخل في عهدهم - عبرة ومنهاج. ولقد غاب عن الغنوشي -إن كان قال ذلك - أو غيره:
ا - أنه لا توجد في الدساتير المعاصرة نظام التعددية المطلقة، فلا يجيز الدستور الأمريكي تكوين أحزاب شيوعية، وكل دستور في العالم الحر يجيز التعددية بما لا يتعارض مع المقومات الرئيسة للمجتمع والمنصوص عليها في الدستور. لهذا نصت المادة الخامسة من الدستور المصري المعدل في 30/ 4/ 1980 م على أن "يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية على ساس تعدد الأحزاب، وذلك في إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور".
2 - أنه ليس صحيحا أن قبول الأقليات المجوس واليهود والنصارى أو غيرهم هو تصريح لهم بالدعوة إلى الإلحاد كالشيوعيين أو الدعوة إلى شيوع الفواحش، أو أن تكون شرائعهم هي القانون الواجب التطبيق على المسلمين، فالوثيقة التي وضعها النبي جم!تر لتنظيم العلاقة بين المسلمين واليهود تضمنت أن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل و إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
والنظم القانونية المعاصرة قد أخذت بهذه القاعدة، فالأغلبية يصبح قانونها هو الواجب التطبيق، مع ملاحظة أنه لا توجد لدى اليهود والنصارى نصوص في الكتاب المقدس تنظم المعاملات، ولهذا فخضوعهم في ذلك إلى الشريعة الإسلامية لا يخالف نصا دينيا عندهم، وليس في ديانتهم إنكار لوجود الله أبى حل الزنا.
3-أنه ليس صحيحا أن التعددية في النظام الديمقراطية مطلقة بغير قيود، فالقيود في النظم الأوروبية التي تبنت الديمقراطية أهمها:
ا - قيود ا لالتزام بالدستور والقوانين.
2 - قيود حماية النظام العام في الدولة.
3 - قيود لحماية المقومات الأساسية للمجتمع كعقيدة الأغلبية ونظامها السياسي.
4 -قيود للمحافظة على سلطة الدولة وهيبتها.
5 - قيود لحماية حقوق الآخرين.
6 -قيود لضمان الحريات العامة.
7 - قيود لحماية الحرية الشخصية وأسرار الأفراد والعائلات.
حقيقية سيادة الأمة
إن مبدأ سيادة الأمة في النظام الديمقراطية ترد عليه هذه القيود، فمن باب أولى عند الأخذ بهذا النظام كوسيلة من الوسائل الحديثة والتي حققتها التجارب العملية، أن يتم ذلك في حدود القواعد الإسلامية، والتي تعتبر قيودا ترد على حرية المجالس النيابية.
وبهذا المفهوم أخذت الحركات الإسلامية المعاصرة بالتعددية وبالديمقراطية أي بالمفهوم الإسلامي.
على هذا رأت الحركة الإسلامية أن تأخذ بتعددية الأحزاب المقيدة بتعاليم الإسلام وبدستور الدولة وبدين الأغلبية الذي هو الإسلام، وبثوابت الأمة اجتهادا منها لنفع الأمة وخيرها، ولا بأس بأن تجتهد فيما بعد في النظام الحزبي وتحسنه وتضيف إليه ما ينفع الناس والأمة شأن كل أمة ناهضة وليس هذا أمرا لا تتقدم عنه الأمة، والأمة والإسلامية رائدة-إن شاء الله - في مجال خدمة المسلمين والبشرية جمعاء.
المتهمون للحركة الإسلامية:
والمتهمون للحركة الإسلامية " الإخوان المسلمون " فريقان: فريق إسلامي يتهمها بأنها خرجت عن النظام الإسلامي ورضيت بالتعددية التي لا يقرونها، وقد ذكرنا رأيهم ورددنا عليه بما نظن أنه يكفي في هذه العجالة، والقسم الآخر هم العلمانيون، الذين يتهمون الحركة الإسلامية بالإرهاب الفكري والجسدي، ويدعون أنها استئصالية ولا تقبل الرأي الآخر ولنا مع هؤلاء وقفة أخرى .
الحركة الإسلامية والتعددية
يزعم أتباع الفكر العلماني أنه لو التزمت أي دولة إسلامية بأحكام الشريعة الإسلامية لترتب على ذلك قمع الرأي الآخر ، بل سجن وتشريد أصحاب الرأي الآخر، وهذا اتهام لا دليل عليه من الشريعة أو الواقع، لقد بحث هؤلاء عن دليل فقالوا: القران الكريم لم يقر إلا حزبا واحدا هو حزب الله، وهذا فهم خاطئ، كما أوضحت من قبل، حتى لو قالت به جدلا أي جماعة إسلامية.
واتهام هؤلاء العلمانيين للحركات الإسلامية المعاصرة إذا حكمت أنها ستقتل أصحاب الرأي المخالف، باعتبار آرائهم هرطقة وكفرا بالله، لا تستند إلى أي واقع عملي بل الواقع يكذبه، وهذا الاتهام هو مصادرة على المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله، وتكذيب للواقع بل افتراء على الناس:
أ - فجماعة الإخوان المسلمين، وهي أقدم الحركات الإسلامية في العمل السياسي، قد تحالفت مع حزب الوفد في الخمسينيات، وذلك في انتخابات سنة 1951 م، كما تحالفت مع حزب الوفد الجديد في أول انتخابات على أساس التعددية في عهد الرئيس أنور السادات، وتحالفت مع حزب العمل وحزب الأحرار في الانتخابات التالية.
ب - والسلفيون في الكويت قد شاركوا في الانتخابات، وتحالفوا مع الأفراد والتجمعات السياسية وكان لهم نواب في البرلمان بل ووزراء في الحكومة.
ج- والجماعة الإسلامية في باكستان تحالفت مع عدة أحزاب، وتولى التحالف الإسلامي تشكيل الحكومة، ولم يصدر عنه أي قرار بمنع الأحزاب الأخرى ، بل ولم تنشر آراء في ذلك، لا قبل تشكيل الحكومة ولا بعدها مع وجود الأحزاب العلمانية وتداولها السلطة، وفي مقدمتها حزب الشعب الذي شكل الحكومة برئاسة السيدة بنازير بوتو، مرتين، آخرها سنة 1994 م، والتجمع اليمني للإصلاح قد شارك في الحكم متحالفا مع أحزاب غير إسلامية وأقروا التعددية.
د - حزب إلرفاه الإسلامي في تركيا قد تحالف مع أحزاب أخرى علمانية، ولم يصدر عنه ولا عن غيره من الجماعات والأحزاب الإسلامية في جميع الأقطار ما يقطع به أحد من رفض الحركات الإسلامية للتعددية، وتجربة ماليزيا وكذا باكستان أكبر شاهد على ذلك.
وأما النقل عن بعض الأفراد في الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر بعد فوز الجبهة في الانتخابات التي ألغاها الجيش، لم يكن عن التعددية إنما ينصب حول إنكار الديمقراطية في جانبها التشريعي، والذي يخول البرلمان التشريع من دون الله، ولا ينصب حول الجانب النافع منها، وهو التعددية السياسية واختيار الحاكم ومحاسبته وعزله، وهذا ما أوضحه المتحدث الرسمي للجبهة. أما الحركة الإسلامية في تونس فرئيسها قد تجاوز الحد في قبول التعددية، وهو ما أشرنا إليه في البند السابق.
حسن البنا والتعددية
لاشك في أن الواقع العملي هو أصدق دليل على موقف الإخوان من التعددية، وهو التفسير العملي لما قد يوجد من غموض في أي بيان، ولكن البعض تجاهل هذا الواقع وذهب بعيدا عنه، واختار بعض العبارات في أقوال الإمام حسن البنا ليستدل بها على رفضه التعددية. ولهذا ظن بعض المسلمين إلى الحركة الإسلامية أن الإمام حسن البنا يرى عدم شرعية نظام تعدد الأحزاب، ولا يسمح بحرية الرأي الآخر ، وهذا فهم غير صحيح لأقواله في هذه المسألة، فيجب أن يجمع الباحث بين جميع ما قاله وما كتبه الإمام البنا عن الأحزاب حتى يصبح الحكم في هذه القضية سليما.
وكل من يتابع ما ينسب إليه في ذلك يجده موجها من علمانيين ينكرون حكم الإسلام أصلا، ويتمسحون في كلمة للإمام البنا يحرفونها عن مواضعها ليصلوا إلى نتيجة حددوها سلفا.
وتكون النتيجة من هذا التصيد للألفاظ أن ينسب خصوم الحكم الإسلامي إلى الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية الحديثة أنهم سيقصون الرأي المخالف، فيزعم خليل حيدر أنه لو قامت الدولة الإسلامية ستصفي جسديا كل مسلم لا ينضم إلى الجماعه الشي تحكم، ومن باب أولى لا تسمح لأصحاب الرأي الآخر للحياة.
وبالرجوع إلى أقوال الإمام حسن البنا نجدها على النحو التالي:
أ - ينكر الحزبية التي شعارها الخلاف والانقسام وتسخير الوسائل الشريفة وغير الشريفة للوصول إلى الحكم، فهذه كانت سمة الأحزاب المصرية التي كانت قائمة في عصره، وأفسدت ا لأخلاق، ومزقت الروابط، وأضرت بالأمة.
ب - هذه النظرة خاصة بالأحزاب المصرية في عصره، حيث قال عنها: "ليست أحزابا حقيقية بالمعنى الذي تعرف به الأحزاب في أي بلد من بلاد الدنيا، فهي ليمت أكثر من سلسلة انشقاقات أحدثتها خلافات شخصية". واستدل بأقوال فقهاء القانون الدستوري في عصره عن هذه الأحزاب، واستشهد بعلوبة باشا في كتابه: "مبادئ وطنية"، وبالأستاذ حسن الجداوي في كتابه: "عيوب الحكم في مصر"، ونقل عن الفقيه الدستوري سيد صبري: أنه لم يعد لأغلب الأحزاب السياسية في مصر برنامج يدافع عنه أنصاره، بل أصبح كل حزب عبارة عن وزير سابق له أنصاره ومريدوه، ولهذه النتيجة أهميتها فإن الانتخاب لن يقوم على المفاضلة بين البرامج.. وستكون الانتخابات شخصية لا حزبية بالمعنى المفهوم لدى الشعوب الغربية، وبديهي أن بقاء الأحزاب على هذا المنوال يقسم البلاد شيعا وأحزابا، ويثير الشقاق والمنازعات بين الأفراد والأسرات بلا سبب مفهوم ولا أساس معقول ".
ج - يعلل الإمام البنا فكرته بأن الوفد تكون من الأمة كلها للمطالبة بجلاء الإنجليز، واستقلال مصر عن طريق المفاوضات. ثم تفرع عنه حزب الأحرار الدستوريين للخلاف في أسلوب المفاوضات، ثم انتهت المفاوضات بأساليبها ونظمها وانتهت مهمتها، وتكون حزب الشعب لإيجاد نظام خاص ودستور خاص، وقد انتهى هذا الدستور وذلك النظام بأشكاله وأوضاعه، فانتهت مهمته هو الآخر، ثم تكون حزب الاتحاد لموقف خاص بين الملك والأحزاب، وانتهت هذه الظروف وتجددت ظروف أخرى تستدعي مناهج وأعمالا، فلا معنى لبقاء هذه الأحزاب (ص 167 )، ولأن مصر بلد محتل فيجب تجميع القوى للنضال من أجل ا لاستقلال والإصلاح الداخلي (ص 327).
د-أعلن في المؤتمر الخامس سنة 7 5 3 1 س / 938 1 م بمناسبة مرور عشر سنوات على قيام جماعة الإخوان المسلمين، أنه منذ عام طلب الإخوان من رؤساء هذه الأحزاب أن يطرحوا هذه الخصومة جانبا، وأن ينضم بعضهم إلى بعض لتحقيق الهدف الذي قامت الأحزاب من أجله حينذاك، وهو تحرير وادي النيل من الإنجليز، وأعلن أن ا لإخوان يفرقون بين حرية الرأي والتفكير والشورى والنصيحة، وهو ما يوجبه الإسلام، وبين التعصب للأحزاب سالفة الذكر والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام في الأمة.
س - هذه النظرة الخاصة بالأحزاب سالفة الذكر وبظروفها المشار إليها، جعلته يوجه رسالة مطولة إلى رئيس الحكومة، وإلف البرلمان، وإلى رؤساء الهيئات الشعبية السياسية والوطنية والاجتماعية، وإلى موجهي الجماهير، وإلى كل محب للخير، والرسالة بعنوان: "مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي "، ولقد جاء فيها ما يتعلق بالحزبية والانتخابات أن يعدل قانون الانتخابات بما يضمن الآتي:
1- وضع صفة خاصة للمرشحين، فإذا كانوا ممثلين لهيئات، فلابد أن يكون لهذه الهيئات برامج واضحة وأغراض مفصلة يقوم على أساسها المرشح، وإذا لم يكونوا ممثلين لهيئات، فيجب أن يكون لهم مناهج إصلاحية تؤهلهم للتقدم للنيابة عن الأمة، وأكد أن "هذا المعنى مرتبط إلى حد كبير بإصلاح الأحزاب في مصر، وما يجب أن يكون عليه أمر الهيئات السياسية (ص 330).
2 - ضرورة وضع حدود للدعاية الانتخابية بحيث لا تتناول الأسر والبيوت والمعاني الشخصية كما كان متبعا من قبل، لتدور الدعاية والمناهج والخطوط الإصلاحية مع وضع عقوبات لمن يخالف ذلك.
3 -دعا الإمام البنا إلى الأخذ بنظام الانتخاب بالقائمة حتى يتحرر النواب من ضغط الناخبين ومطالبهم الشخصية، وتحل المصالح العامة محل المصالح الشخصية، وتكون المنافسة حول مناهج للإصلاح، والمعروف أن الانتخاب بالقائمة أنسب للأحزاب والهيئات ذات البرامج، ومن ثم فالإمام البنا يدعو إلى إصلاح نظام الأحزاب في مصر، وذلك لا شأن له بإنكار تعدد الأحزاب، ولهذا تراه يرد على من طالب باتحاد حزب "مصر الفتاة" مع جماعة الإخوان فيقول: "ليس أجمل من الوحدة والتعاون على الخير، ولكن مع الأمور ما ليس يفصل فيه إلا الزمن وحده.. وإنه ليسرنا أن يوفق كل عامل للخير وإلى الخير.. ".
بقي أن نذكر موقف الإخوان من "مصر الفتاة" في قضية تحطيم الحانات، فقد ألقى الإخوان تبعة ذلك على الحكومة، لأنها هي التي أحرجت شعبها المسلم، وتعتقد أن هذا التحدي لم يحن وقته بعد، ولابد من تخير الظرف المناسب واستخدام منتهى الحكمة فيه وإنفاذه بصورة أخف ضررا وأبلغ في الدلالة على المقصود" (ص 148، 149 ) أي أن يكون ذلك بالوسائل القانونية وليس عن طريق استخدام القوة. وكان ينبغي على من أراد الاستناد إلى رأي الإمام حسن البنا أن يرجع إلى جميع أقواله وألا يفسرها بما يؤدي إلى التناقض في الأقوال، ففي رسالته عن "مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي " (ص د 31- 333)، ييين الرأي في الأحزاب المصرية خاصة، وهو ما ذكر عنه من قبل، ورأيه في نظام الحكم والانتخابات والتعددية، فيقول. "لقد رتب النظام النيابي الحديث طريق الوصول إلف أهل الحل والعقد بما وضع الفقهاء الدستوريين من نظم الانتخابات وطرائقه المختلفة والإسلام لا يأبى هذا التنظيم.. ".
ثم تعلم عن عيوب نظام الانتخاب في مصر من الانتخاب المباشر في قانون سنة 3 2 9 1 م، والانتخاب على درجتين في قانون1930م، وكلاهما لم يحقق الغرض المقصود، ويؤكد أن الخطأ المذكور ليس عيبا في ذاته لكن الرضا به والدفاع عنه، ويرى إجراء تعديل وإصلاح يضمن آلاتي:
1 - وضع صفات خاصة للمرشحين أنفسهم، فإذا كانوا ممثلين لهيئات فلابد أن يكون لهذه الهيئات برامج واضحة وأغراض مفصلة، وإذا لم يكونوا ممثلين لهيئات فلابد أن يكون لهم من الصفات والمناهج الإصلاحية ما يؤهلهم للتقدم للنيابة عن الأمة، وهذا المعنئ مرتبط إلى حد كبير بإصلاح الأحزاب في مصر، وما يجب أن يكون عليه أمر الهيئات السياسية فيها.
2 - وضع حدود للدعاية الانتخابية وفرض عقوبات على من يخالفها، بحيث لا تتناول الأسر والبيوت.
3 - إصلاح جداول الانتخاب، وتعميم نظام تحقيق الشخصية، وفرض التصويت إجباريا
4 - وضع عقوبة قاسية للتزوير وللرشوة الانتخابية.
5 - الأولى العدول إلى الانتخاب بالقائمه.. حتى يتحرر النواب من ضغط ناخبيهم، وتحل المصالح العامة محل المصالح الشخصية.
هذا وقد أصدر الإخوان المسلمون بمصر والعالم العربي بيانا صادرا عن مكتب الإرشاد العام، والمصدق عليه من الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين في مصر، ومنشور في مجلة الدعوة بتاريخ 27/ 7/ 2 5 9 1 م، وكذا البيان الآخر بتاريخ 2/ 8/ 1952 م عن الإصلاح المنشود أي بعد قيام الثورة بأسبوع، تضمن المطالبة بالإصلاح الدستوري وبالديمقراطية الصحيحة وبإلغاء الأحكام العرفية والقوانين المنافية للحريات وإعادة بناء الحياة البرلمانية.
وفي يناير 1953 م عندما صدر قانون حل الأحزاب ولم يطبق على الإخوان المسلمين، أجاب المرشد العام في حديث الثلاثاء عن سؤال صحفي بشأن حل ا لأحزاب، قال: "إنما أكلت يوم أكل الثور ا لأبيض "، وفي 4 / 5/ 1954 م، أرسل خطاب إلى رئيس الوزراء بضرورة إعادة الحياة البرلمانية. وظل هذا موقفهم وكذا غيرهم من الجماعات بلا جدال.
وتأكيدا لذلك أكد المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبى التمسك بالنظام الديمقراطي، وعارض الإجراءات العسكرية التي أدت إلى حل البرلمان والأحزاب، وأكد ذلك المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني، أما المرشد الرابع الأستاذ محمد حامد أبو النصر فقد نشرت له مجلة السياسي المصري في 4 2/ 11/ 1993م ما يؤيد التعددية السياسية.
وقد تكلم المرشد الحالي الأستاذ مصطفى مشهور كثيرا في هذا الموضوع، وأن التعددية ببيانات متعددة، وأصدر مكتب الإرشاد في مصر وفي العالم بيانات بذلك، بل طلب الإخوان في مصر تشكيل حزب مرارا فلم يؤذن لهم، وهذا شيء معروف للقاصي والداني، وبعض الإخوان في بلاد متعددة قد شكلت أحزابا، وعلى هذا فالحركة الإسلامية تسير في الطريق الصحيح لتنفيذ تعاليم الإسلام الذي جاء لتحرير الإنسان ورفع الظلم عن أي إنسان على وجه الأرض لأن الإسلام جاء للجميع وليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
الشبهة الخامسة عشرة: الموازنات بين المصالح والمفاسد
لا نلوم أحدا، استهان بنا كمسلمين، أو ساء ظنه فينا لأننا لم نستطع استبانة الطريق الصحيح، أو اكتشاف الوسائل الفاعلة لنهضتنا وتقدمنا، ولقد نهض كثيرون لمعالجة انحدار الأمة وضياعها وإزالة العوائق التي تمنع تقدمها، فكان منهم البصير، ومنهم الأعور، ومنهم الأعمى الذي ضل الطريق وتنكب الهداية، وظن أنه يحسن صنعا، ولقد عانى الإسلام من الصنفين الأخيرين أشد مما عانى من أعدائه، لسببين اثنين:
أ - لتصور مشوش يخلط بين الأصول والفروع، وبين التعاليم المعصومة والتطبيقات التي تحتمل الخطأ والصواب، وقد يتبنى أحكاما وهمية ويدافع عنها دفاعه عن الوحي ذاته.
2 - لعجز في العلم والفهم والعمل، وقصور في الوسائل والأساليب والعزائم، فقد رأينا جماعات تقف بعيدا دون عمل، تنتظر أن ينزل الله بأعدائهم الويل والثبور، وعظائم الأمور، وهي في ميدان العلم ضحلة التفكير، وفي ميدان الدعوة بطالة مقنعة، والمسلم سواء ملك سلطة رسمية أم لم يملك، إنسان ناشط دؤوب لا ينقطع له عمل في الشارع، أو البيت، أو المسجد، أو المصنع، أو الدكان، أو المكتب، أو المدرسة، باللسان والقلم والإذاعة والتلفاز، بالجريدة أو الكتاب، وليس العمل المطلوب مضغ كلمات فارغة، أو مجادلات فقهية، أو خصومات تاريخية، ولكن العمل المطلوب أسمى من ذلك وأجدى وهو أن نكمل نقصنا، ونجبر كسرنا في ميادين كثيرة، حضارية، وعلمية، وصناعية، وثقافية هزمنا فيها هزائم منكرة.
والجهاد المطلوب اليوم هو كدح مضن في ميادين وعرة، ودروب شاقة، في أمة مهددة فعلا بالضياع، أمة لا تستطيع إنتاج طعامها، أو صنع ملابسها، أو سلاحها، وتعرف أن الرغيف الذي تأكل، والثوب الذي تلبس، والسيارة التي تركب، والمرافق التي تستخدم، والكهرباء التي تضيء، والكتاب الذي تكتب، والمطبعة التي تطبع.. كلها في يد المستعمر الماهر، فهل اشتبك دعاة الإسلام مع هذا التخلف، وعالجوا كوامن العلة، وبذروا بذور الإسلام الحق، وجاهدوا في ميادينه الفسيحة الفاعلة المنتجة؟ ! أم اشتبكوا مع الناس في جدال عقيم، ومراء رجيم، يحلون فيه صغائر الأمور ويحرمون ؟
أصحيح أن الأكل على المائدة حرام ؟ ويجب أن نأكل على الأرض إقامة للسنة؟ قلت: إن الله أنزل مائدة على أصحاب عيسى، وما أظنه حظر على أصحاب محمد أن يأكلوا على مثلها.
-أصحيح أن ارتداء البدلة الإفرنجية ممنوعة لأنها تشبه بالكفار يلحقنا بهم ؟ قلت: التشبه المنكور يكون في العقائد والخلال، لا في الملابس والنعال.
ثم يقولون: يجب الاعتناء بالمخبر لا بالمظهر.
وهكذا تدور خلافات عقيمة حولت الأمة إلي قطاعات متناحرة، وحدث أن خطيبا على مغبره قال لرجل دخل ليصلي الجمعة، قم فصل تحية المسجد! فقال الرجل: أنا مالكي تبطل عندنا هذه الصلاة! فقال الخطيب المفهوه: أتترك محمدا وتتبع مالكا؟ وكانت فتنة مائجة قرت لها أعين أعداء الدين.
والحقيقة أن أئمة الفقه لا يقدمون بين يدي الله ورسوله، والاختلاف يكون في تفسير ما ورد أو في قيمة ثبوته، وما يفكر أحدهم أبدا في مخالفة رسول الله (صلي الله علية وسلم ).
ولكن جهل الخطيب وتعصبه وعدم فهمه للواقع، جعلها فتنة تشغل المسلمين عن عظائم الأمور، هذا في وسط العامة، أما ما بين العامة وسلطاتهم، وما بين المسلمين المخلصين وحكامهم، فشيء مهول، ومفجع ودموي، قد تعطل له القوانين، وتحكم الأمة بالطوارئ، وتمتلئ السجون لأوهن الأسباب، ولا يلتفت مسؤول إلي مصالح الأمة، وعلى العكس من ذلك ما حدث في أمريكا من بضع سنين، حيث أعلنت حالة الطوارئ في الولايات المتحدة، وسيطر ا لانتباه على أعصاب الناس وأفكارهم ! ماذا حدث ؟ أ إنذار بهجوم ذري ؟ أم إعصار بحري من تلك الأعاصير التي تخلف وراءها الدمار؟ لا هذا ولا ذاك. الذي حدث أن أولي الأمر كانوا مسترسلين في الإيمان بعظمة أمريكا وسبقها البعيد، ثم اكتشفوا بغتة أن الاتحاد السوفييتي قد سبقهم، وخلفهم وراءه في ميادين علمية كثيرة!.
وصدر الأمر بإنعام النظر في برامج التعليم كلها، ومراجعة كل شيء من المرحلة الأولي إلي درجا ت التخصص، وانشغلت الحكومة والشعب بهذه الكارثة، وضرورة السعي الحثيث لطي مسافة التخلف وإعادة التفوق القديم. ولم يمكث القوم غير بعيد حتى حققوا ما أرادوا، وهم الآن في إتمام تجاربهم لما يسمي بحرب الكواكب، سيقول الناس: عبقرية علمية جديرة بالإعجاب، وهذا صحيح ! والأجدر بالإعجاب عندي هو الشعور بحدة المنافسة ووجوب السبق.
إذا كانت القدرة العلمية تستدعي الثناء، فإن الأحوال النفسية المصاحبة من اعتراف بالقصور وشحذ للهمة واعتداد بالنفس وحرص على النجاح كل ذلك لا يجوز إهماله !
دعاة النهضات:
إن الإنسان الذي يدعو إلي نهضة وإلي قيام منهج وإصلاح أمة يجب أن يكون ذا عقل وبصيرة، وذا علم محيط بالمنهج وبنيرات أمته وقواعد الاجتهاد وأقوال الأئمة العظام، ثم يكون على دراية بأمراض أمته وعللها وأدوائها، وعلى علم مكين بأحوال زمانه وعصره وما يدور من حوله، من معرفة بالعدو والصديق وبمداخل الأمور ومخارجها، حالها ومالها، كبيرها وصغيرها، مصالحها ومفاسدها، كما ينبغي له أن يكون على دراية كاملة بالأساليب والوسائل، بأفضلها وأجداها، وأنفعها وأقواها بما يقدم أو يؤخر، وبما يكون سريا أو علنيا، وعلى معرفة وإدراك بالمراحل والمواقع، وبما ينبغي معه التدرج، وبما يكون فيه الحسم، وبما يقوم به الفرد وبما تؤديه الجماعة، وبما يلزمه العدة والتخطيط المرحلي أو الأساسي، والقريب والبعيد، مع دراسة للأهداف والمواقع وقياسات للأفعال وردودها، والأعمال ونتائجها، نجاحا وفشلا، صعودا وهبوطا، وكل ذلك يلزمه بصيرة وعبقرية لا تتوافر إلا في المبدعين المخلصين العالمين.. كما يحتاج إلي عقل لامع مدرك فاقه متقد، وإلي عزم لا يكل ولا يفل، والي أعوان وأنصار وجمهور يكافح به ويسانده، ويعمل معه، وإذا لم يوجد كان عليه أن يوجده، وإذا لم يكن فاعلا كان عليه أن يفعله، وإذا كان متفرقا كان عليه أن يوحده.
هذا ما كان عليه المصلحون والأنبياء والمرسلون، كانوا أصحاب حجج ومنطق وبيان وعزيمة وصبر وجلد، وكفاح وجهاد مع اتباع للأسباب، وتقدير للأحوال، وإعداد لكل أمر، وصدق الله: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة * (الأنفال: 60)، " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة " * (التوبة: 46 )، نظر ثاقب، وفكر لامع، وعزم متقد، ومعرفة ودراية بالمآلات والأحوال، وإدراك بالطبائع والعقول، والعادت والأمراض: "والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضيف ".
أقوال العلماء:
قال الإمام الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات: (النظر في مآلات الأفعال مقصود شرعا سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة للشرع، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلي ما يؤول إلي ذلك الفعل، فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو مفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدي استجلاب المصلحة أو درء المفسدة به، إلي مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدي استدفاع المفسدة واستجلاب المصلحة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول على ذلك بعدم المشروعية).
ثم قال - رحمه الله -: (وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق، محمود العواقب، جار على مقاصد الشريعة). ولهذا يجب أن يكون الأمر بالمعروف ذا بصيرة في أمور الدين والدنيا، عالما بأحوال الناس وطباعهم، وأحوال الأم والشعوب، ومداخل ا لأمر ومخارجه، ذا فقه وفهم بأمور السياسة الداخلية والخارجية حتى يستطيع أن يعرف ما يفسد وما يصلح، وما يكون فيه كل الخير، وما يكون فيه بعضه، وما يؤدي إلى فتنة، وما يؤدي إلى صلاح.
ولهدا يقول الإمام ابن تيمية -رحمه الله -في هذا الأمر: (ذلك ثابت في العقل، كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وينشد:
إن اللبيب إذا بدى من جسمه مرضان مختلفان داوي الأخطر وهذا ثابت في سائر الأمور، فإن الطبيب مثلا يحتاج إلى تقوية القوة ودفع المرض، والفساد أداة تزيدهما معا، فإنه يرجح عند وفور القوة تركه إضعافاً للمرض، وعند ضعف القوة فعله، لأن منفعة إبقاء القوة والمرض أولي من إذهابهما جميعا، فإن ذهاب القوة مستلزمة للهلاك، ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول
المطر لهم رحمة، و إن كان يتوفى بما ينبته أقوام على ظلمهم، لكن عدمه أشد ضررا عليهم، ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان، كما قال بعض العقلاء: ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان.
ثم السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من الحقوق مع التمكن، لكن أقول هنا: إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعه كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكنه يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصدا وقدرة: جازت له الولاية، وربما وجبت، وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها، من جهاد العدو، وقسم الفيء، و إقامة الحدود، وأحمت السبيل: ى ن فعلها واجبا، فإذا كان ذلك مستلزما لقولة بعض من لا يستحق، وأخذ بعض ما لا يحل، و إعطاء بعض من لا ينبغي، ولا يمكنه ترك ذلك: صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به، فيكون واجبا أو مستحبا إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب، بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك خفيف الظلم فيها، ودفع أكثره باحتمال أيسره: كان ذلك حسنا مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدا.
وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد، فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه ما الا، فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الحلم، وأخذ منه وأعطي الظالم مع اختياره ألا يظلم، ودفعه ذلك لو أمكن: كان محسنا، ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا.
وإنما الغالب في هذه الأشياء فساد النية والعمل، وأما النية فبقصده السلطان والمال، وأما العمل فبفعل المحرمات، ويترك الواجبات، لا لأجل التعارض و لا لقصد الأنفع و الأصلح. ففقه الموازنات بين المنافع والمضار ليس هو المطلوب فقط، وإنما فقه أكثر المنافع، وأكثر المضار، والتمييز بينهما، وفعل الأصلح منها للمسلمين أو الأخف ضررا عليهم بقدر ا لاستطاعة، ولو كان في ذلك تفويت بعض المصالح، إذن فلابد من ملاحظة المآل في الجملة، وقد كان هذا هو فعل رسول الله !و حين أشير عليه بر! بقتل من ظهر نفاقه، فقال: "أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه". فموجب القتل حاصل، وهو الكفر بعد النطق بالشهادتين، والسعي في إفساد حال المسلمين كافة بما كان يصنع المنافقون، بل كانوا أضر على الإسلام من المشركين، فقتلهم درءا لمفسدة حياتهم، ولكن المآل الآخر- وهو هذه التهمة التي تبعد الطمأنينة عن مريدي الإسلام -أشد ضررا على الإسلام من بقائهم.
وعلى هذا قول الرسول (صلي الله علية وسلم ) لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم".
وبمقتضى هذا أفتي مالك الأمير حين أراد رد البيت على قواعد إبراهيم، فقال له: "لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله "، فالأصل في إقامة البيت على قواعد إبراهيم، ولكن الامتناع مع كون الرد مصلحة، خشية المفسدة، ولا يخفي أن المصلحة المتروكة فيهما محققة، والمفسدة المتروكة من أجلها مظنونة ومع ذلك رجحت.
وعلى هذا فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أكدهما، لم يكن الأخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة.
وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب، وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في هذا مثل ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة، أو للضرورة، أو لدفع ما هو أشد حرمة، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها: إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء.
هذا.. وقد قال النبي (صلي الله علية وسلم ): "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إن ذكرها، فإن ذلك وقتها، ولا كفارة لها إلا ذلك".
وهذا باب التعارض باب واسع جدا، لاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب، وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلن السيئات فيرجحون الجانب ا لآخر، وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم .
الشبهة السادسة عشرة: موقف الإمام البنا من القومية والوطنية
لقد عاصر الإمام البنا الدعوة الجارفة إلى الوطنية والقومية والتي أراد أعداء الإسلام أن يضفوا بها ولاء المسلم لأخيه المسلم أينما كان، ويقيموا هذه الدعوات على حساب الولاء والبراء في الإسلام.
يقول صاحب كتاب الولاء والبراء في الإسلام. أ ولما أدرك أعداء الإسلام مدئ جدوئ وفاعلية هذه الفكرة التي تمنح المسلم حتى يصبح مخلوقا لا صلة له بالله - كما قالوا - بدأوا ببث فكرة القومية والوطنية مبتدئين بتركيا مقر آخر خلافة إسلامية - وليسط الأخيرة وأنها لعائدة بإذن الله - حيث نشأت القومية الطورانية، وتزعم هذه الدعوة حزب” الاتحاد والترقي” فبدأ بالمطالبة”بتتريك” تركيا، وعودة القومية الطورانية متخذين لذلك شعار”الذئب الأغبر الذي هو معبود الأتراك قبل أن يعرفوا الإسلام”. وبهذا”التتريك” أخذت الدولة العثمانية تضغط على العرب حيث تعطي الأتراك امتيازات خاصة بهم لأنهم ترك وهذا الفعل فضلا عن كونه يعارض مبدأ العدل الإسلامي هو أيضا مؤشر للعرب أن يتحدوا في قوميه عربية جديدة ! وهذا هو الذي حصل فعلأ، فلقد قام الجاسوس لورانس - الذي سماه المغفلون -”لورانس العرب” بالتخطيط لقيام ما يسمى بالثورة العربية الكبرى ضد الخلافة العثمانية، وانضم العرب إلى جيوش الحلفاء الذين لا يرقبون زي مؤمن إلا ولا ذمة، ولا يراعون في مسلم عهدا ولا حرمة". فماذا كان موقف الإمام البنا منهما ؟
يقول رحمه الله:”وموقفنا من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر ففرقت القلوب، وبلبلت الأفكار أن نزنها بميزان دعوتنا (الإسلام)، فما وافقها فمرحبا، وما خالفها فنحن براء منه.
أقسام الوطنية
ثم قسم -رحمه الله -الوطنية إلى قسمين:
1 - ما يتفق مع الإسلام.
2- ما لا يتفق مع الإسلام.
أولا: ما يتفق مع الإسلام
1- وطنية الحنين:
إن كان دعاة الوطنية يريدون بها حب هذه الأرض وألفتها والحنين إليها، والانعطاف نحوها فذلك أمر مركوز في فطر النفوس من جهة، مأمور به في الإسلام من جهة أخري، وان بلالا الذي ضحي بكل شيء في سبيل عقيدته ودينه هو بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلى مكة في أبيات تسيل رقة، وتقطر حلاوة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
- بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
- وهل يبدون لي شامة وطفيل
ولقد سمع رسول الله (صلي الله علية وسلم ) وصف مكة من”أصيل” فجرئ دمعه حنينا إليها، وقال: يا أصيل دع القلوب تقر.
2 - وطنية الحرية والعزة:
وإن كانوا يريدون أن من الواجب العمل بكل جهد في تحرير البلد من الغاصبين وتوفير استقلاله له، وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك أيضا، وقد شدد الإسلام في ذلك أبلغ التشديد، فقال تبارك وتعالي: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون * (المنافقون: 8)، ويقول:” ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا*(النساء: 141).
3 - وطنية المجتمع:
وإن كانوا يريدون بالوطنية تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد وإرشادهم إلى طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم فذلك نوافقهم فيه أيضا، ويراه الإسلام فريضة لازمة فيقول نبيه إلى:”وكونوا عباد الله إخوانا” ، ويقول القران الكريم: في يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالآ ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون” (آل عمران 1180 ).
4- وطنية الفتح:
وإن كانوا يريدون بالوطنية فتح البلاد وسيادة الأرض، فقد فرض ذلك الإسلام ووجه الفاتحين إلى أفضل استعمار، وأبرك فتح، فذلك قوله تعالي:” وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله * (الأنفال: 39).
ثانيا: ما لا يتفق مع الإسلام
وطنية الحزبية:
وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضعية أملتها الأهواء وشكلتها الغايات والأغراض، وفسرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته ويزيد وقود هذه النار اشتعالا يفرقهم في الحق ويجمعهم على الباطل، ويحرم عليهم اتصال بعضهم ببعض، وتعاون بعضهم مع بعض، ويحل لهم هذه الصلة به، والالتفاف حوله فلا يقصدون إلا داره، ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خير فيها لدعاتها ولا للناس، فها أنمت ذا قد رأيت أننا مع دعاة الوطنية، بل مع غلاتهم في كل معانيها الصالحة التي تعود بالخير على البلاد والعباد، وقد رأيت مع هذا أن تلك الدعوى الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام.
حدود وطنيتنا
ثم يبين حدود الوطنية عند المسلم فيقول:
أما وجه الخلاف بينا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول:”لا إله إلا الله، محمد رسول الله” وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه، والإخلاص له، والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم، ونحس بإحساسهم، ودعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك، فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوي نفسها على حساب غيرها فنحن لا نرضي ذلك على حساب أي قطر إسلامي، وإنما نطلب القوة لنا جميعا، ودعاة الوطنية المجردة لا يرون في ذلك بأسا، ومن هنا تتفكك الروابط وتضعف القوي ويضرب العدو بعضهم ببعض.
غاية وطنيتنا:
هذه هي واحدة، والثانية أن الوطنيين فقط جل ما يقصدون إليه تخليص بلادهم فإذا ما عملوا لتقويتها بعد ذلك، اهتموا بالنواحي المادية كما تفعل أوروبا الآن، أما نحن فنعتقد أن المسلم في عنقه أمانة عليه أن يبذل نفسه ودمه وماله في سبيل أدائها، تلك هي هداية البشر بنور الإسلام، ورفع علمه خفاقا في كل ربوع الأرض، لا يبغي بذلك مالا ولا جاها ولا سلطانا على أحد، ولا استعبادا لشعب، وإنما يبغي وجه الله وحده وإسعاد العالم بدينه، وإعلاء لكلمه، وذلك ما حدا بالسلف الصالح - رضوان الله عليهم -إلي هذه الفتوح القدسية التي أدهشت الدنيا وأربت على كل ما عرف التاريخ من سرعة وعدل ونبل وفضل.
كما أكد المعني نفسه في رسالة المؤتمر الخامس دفاعا عن الإخوان، حيث غمزهم البعض في وطنيتهم وحبهم لبلدهم في فترة جن الناس بالوطنية، وصاروا يقيسون إخلاص الناس لأمتهم بمقدار حبهم لها، فوضح الإمام -رضوان الله عليه - الحق في ذلك، فقال: أ فما موقف الإخوان المسلمين من هذا الخليط من الأفكار والمناحي ؟ ولاسيما وكثير من الناس يغمزون الإخوان المسلمين في وطنيتهم، ويعتبرون تمسكهم بالفكرة الإسلامية مانعا إياهم من الإخلاص للناحية الوطنية. والجواب على هذا أننا لن نحيد عن القاعدة التي وضعناها أساسا لفكرتنا، وهي السير على هدي الإسلام وضوء تعاليمه السامية، فما موقف الإسلام نفسه من هذه النواحي ؟
إن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص منها أن يعمل كل إنسان لخير بلده، وأن يتفاني في خدمته، وأن يقدم أكثر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها، وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب رحما وجوارا حتى أنه لم يجز أن تنقل الزكوات أبعد من مسافة القصر –إلا لضرورة –إيثارا للأقربين بالمعروف، فكل مسلم مفروض عليه أن يسد الثغرة التي هو عليها وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه، ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية وأعظمهم نفعا لمواطنيه، لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين، وكان الإخوان المسلمون بالتالي أشد الناس حرصا على خير وطنهم، وتفانيا في خدمة قومهم، وهم يتمنون لهذه البلاد العزيزة المجيدة كل عز ومجد وكل تقدم ورقي، وكل فلاح ونجاح.
ثم أشار إلي وطنية الحنين ووطنية المجتمع، والعمل على تقوية العرب الذي نزل القرآن بلسانهم، ووصل إلي الأم عن طريقهم، ثم نادي رحمه الله بالوحدة الإسلامية الكاملة، فقال:
بقي علينا أن نحدد موقفنا من الوحدة الإسلامية، والحق أن الإسلام كما هو عقيدة فإنه قضي على الفوارق النسبية بين الناس، فالله تبارك وتعالى يقول:” إنما المؤمنون اخوة” * (الحجرات: 10 )، والنبي (صلي الله علية وسلم ) يقول:”المسلم أخو المسلم”، والمسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
فالإسلام والحالة هذه لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا يعتبر الفوارق الجنسية الدموية، ويعتبر المسلمين جميعا أمة واحدة، ويعتبر الوطن الإسلامي وطنا واحدا مهما تباعدت أقطاره، وتناءت حدوده، وكذلك ا لإخوان المسلمون يقدسون هذه الوحدة، ويؤمنون بهذه الجامعة، ويعملون لجمع كلمة المسلمين وإعزاز أخوة الإسلام، وينادون بأن وطنهم هو كل شبر أرض فيه مسلم، يقول”لا إله إلا الله، محمد رسول الله”، وما أروع ما قال في هذا المعني شاعر من شعراء الإخوان:
ولست أدري سوي الإسلام لي وطنا
- الشام فيه ووادي النيل سيان
وكلما ذكر اسم الله في بلد
- عددت أرجاءه من لب أوطاني
كما يفرق بين وطنية المسلم ووطنية غيره، فيقول:
ولكن الفارق بين المسلمين وبين غيرهم من دعاة الوطنية المجردة أن أساس وطنية المسلمين العقيدة الإسلامية، فهم يعملون لوطن مثل مصر ويجاهدون في سبيله، ويفنون في هذا الجهاد، لأن مصر من أرض الإسلام، وزعيمة أممه، كما أنهم لا يقفون بهذا الشعور عند حدودها بل يشركون معها فيه كل أرض إسلامية وكل وطن إسلامي، على حين يقف كل وطني مجرد عند حدود أمته ولا يشعر بفريضة العمل للوطن إلا عن طريق التقليد أو الظهور أو المباهاة أو المنافع، لا عن طريق الفريضة المنزلة من الله على عباده، وحسبك من وطنية الإخوان المسلمين أنهم يعتقدون عقيدة جازمة لازمة أن التفريط في أي شبر أرض يقطنه مسلم جريمة لا تغتفر حتى يعيدوه أو يهلكوا دون اعادله، ولا نجاة لهم من الله إلا بهذا .
ثم يبين الإمام درجة الاهتمام بالأوطان وتعددها فيقول:
1 - القطر الخاص أولا.
2 - ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى فكلها للمسلم وطن ودار.
3 - ثم يرقي إلى الإمبراطورية الإسلامية الأولي التي شادها الأسلاف بدمائهم الغالية العزيزة فرفعوا عليها راية الله، ولا تزال آثارهم فجها تنطق بما كان لهم من فضل ومجد، فكل هذه الأقاليم يسأل المسلم بين يدي الله تبارك وتعالى ولماذا يعمل على استعادتها.
4 - ثم يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعا، ألمت تسمع قول الله لبارك وتعالى :” وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله” (الأنفال: 39).
وبذلك يكون الإسلام قد وفق بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة بما في الخير كل الخير للإنسانية جميعاً :” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” * (الحجرات: 13).
ولاشك أن وطنية المسلم تخالف وطنية الأهم غير الإسلامية، وقد أبان الإمام البنا-رضوان الله عليه -ذلك حيث قال:
ولقد علمت الأهم الحديثة على ترسيخ هذا المعني في نفوس شبابها ورجالها وأبنائها، ومن هنا سمعنا:”ألمانيا فوق الجميع”، و"إيطاليا فوق الجميع”، و"سودي يا بريطانيا واحكمي”، ولكن الفارق بين الشعور الذي يمليه المبدأ الإسلامي وبين الشعور الذي أملته هذه الكلمات والمبادئ، أن شعور المسلم يتسامن حتى يتصل بالله، على حين ينقطع شعور غيره عند حد القول فقط من جهة، ومن جهة أخري فإن الإسلام حدد الغاية من خلق هذا الشعور وشدد في التزامها، وبين أنها ليست العصبية الجنسية والفخر الكاذب، بل قيادة العالم إلى الخير، ولهذا قال تبارك وتعالي: لا تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله،" (ال عمران: 110 )، ومعني ذلك مناصرة الفضيلة ومقارعة الرذيلة واحترام المثل الأعلى، وملاحظته عند كل عمل، ولهذا انتهج الشعور بهذه السيادة في السلف المسلم منتهى ما أثر عن الأم من عدالة ورحمة.
أما مبدأ السيادة في نفس الأهم الغربية فلم يحدد غايته بغير العصبية الخاطئة، ولهذا انتهج التناحر والعدوان على الأم الضعيفة، فكان المبدأ الإسلامي أخذ خير ما في هذه الناحية، وأراد أن ينطبع بذلك أبناوه، وجنبهم ما فيها من شر وطغيان، ولقد وسع الإسلام حدود الوطن الإسلامي فأوصي بالعمل لخيره، والتضحية في سبيل حريته و عزته ) .
القومية وموقف الإمام البنا منها
كان هذا موقف الإمام البنا -رحمه الله - من الوطنية، ثم بدأ-رحمه الله -في الحديث عن القومية فقسمها كما قسم الوطنية ثم أبان ما يوافق الإسلام منها وما يخالفه، فتحدث عن أنواع تلك القوميات فذكر منها:
1. قومية المجد:
إن كان الذين يعتزون بمبدأ القومية يقصدون به أن الأجلاف يجب أن ينهجوا نهج الأسلاف في مراقي المجد والعظمة ومدارك النبوغ والهمة، وأن تكون لهم بهم في ذلك قدوة حسنة، وأن عظمة الأب مما يعتز به الابن ويجد لها الحماس والأريحية بدافع الصلة والوراثة، فهو مقصد حسن جميل نشجعه ونأخذ به، وهل عدتنا في إيقاظ همة الحاضرين إلا أن نحدوهم بأمجاد الماضين ؟ ولعل الإشارة إلى هذا في قول رسول الله (صلي الله علية وسلم ):”الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"، فها أنت ذا تري أن الإسلام لا يمنع من القومية بهذا المعني الفاضل النبيل.
2. قومية الأمة:
وإذا قصد بالقومية أن عشيرة الرجل وأمته أولي الناس بخيره وبره، وأحقهم بإحسانه وجهاده، فهو حق كذلك، ومن ذا الذي لا يري أولن الناس بجهوده قومه الذين نشأ فيهم ونما بينهم ؟ لعمري لرهط المرء خير بقية عليه وإن عالوا به كل مركب وإذا قصد بالقومية أننا جميعا مبتلون مطالبون بالعمل والجهاد، فعلى كل جماعة أن تحقق الغاية من جهتها حتى نلتقي –إن شاء الله –في ساحة النصر فنعم التقسيم هذا، ومن لنا بمن يحدو الأهم الشرقية كتائب كل في ميدانها حتى نلتقي جميعا في بحبوحة الحرية والخلاص ؟
كل هذا وأشباهه في معني القومية جميع معجب لا يأباه الإسلام، وهو قياسنا، بل لجفسح صدرنا له ونحض عليه. ثم بين –رحمه الله –القوميات التي لا يقرها الإسلام فذكر منها:
1. قومية الجاهلية:
أما أن راد بالقومية إحياء عادات جاهلية درست، وإقامة ذكريات بائدة خلت، وتعفية حضارة نافعة استقرت، والتحلل من عقدة الإسلام ورباطه بدعوى القومية والاعتزاز بالجنس، كما فعات بعض الدول في المغالاة بتحطيم مظاهر الإسلام والعروبة، حتى الأسماء وحروف الكتابة وألفاظ اللغة، وإحياء ما اندرس من عادات جاهلية، فذلك في القومية معني ذميم وخيم العاقبة، سيئ المغبة، يؤدي بالشرق إلى خسارة فادحة يضيع معها تراثه وتنحط بها منزلته، ويفقد أخص مميزاته، وأقدس مظاهر شرفه ونبله، ولا يضر ذلك دين الله شيئا” وإن تتولوا يستبدل قوما غ!يركم ثم لا يكونوا أمثالكم مه (محمد: 38).
2 - قومية العدوان:
وأما أن يراد بالقومية الاعتزا بالجنس إلي درجة تؤدي إلي انتقاص الأجناس الأخرى والعدوان عليها والتضحية بها في سبيل عزة أمة وبقائها، كما تنادي بذلك ألمانيا وإيطاليا مثلا، بل كما تدعي كل أمة تنادي بأنها فوق الجميع فهذا معني ذميم كذلك، ليس من الإنسانية في شيء، ومعناه أن يتناحر الجنس البشري في سبيل وهم من الأوهام لا حقيقة له ولا خير فيه. ثم يبين موقفه من الشعارات الجاهلية مثل الفرعونية والفينيقية والآشورية وغيرها مما يثيره أعداء الإسلام علي حساب الولاء للإسلام وأهله:
( الإخوان المسلمون لا يؤمنون بالقومية بهذه المعاني، ولا بأشباهها، ولا يقولون فرعونية وعربية وفينيقية وسورية ولا شيئا من هذه الألقاب والأسماء التي يتنابز بها الناس، ولكنهم يؤمنون بما قال رسول الله !ذ الإنسان الكامل بل أكمل معلم علم الإنسان الخير:”إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس لأدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوى”، ما أروع هذا وأجمله وأعدله، الناس لأدم فهم في ذلك أكفاء والناس يتفاضلون بالأعمال، فواجبهم التنافس في الخير.
خواص العروبة
ثم يبين الإمام البنا -رحمه الله -موقفه من العروبة فقال:
ولسنا مع هذا ننكر خواص الأهم ومميزاتها الخلقية، فنحن نعلم أن لكل شعب مميزاته وقسطه من الفضيلة والخلق، ونعلم أن الشعوب في هذا تتفاوت وتتفاضل، ونعتقد أن العروبة لها من ذلك النصيب الأوفى والأوفر، ولكن ليس معني هذا أن تتخذ الشعوب هذه المزايا ذريعة إلي العدوان، بل عليها أن تتخذ ذلك وسيلة إلي تحقيق المهمة السابقة التي كلفها كل شعب، تلك هي النهوض بالإنسانية، ولعلك لست واجدا في التاريخ من أدرك هذا المعني من شعوب الأرض كما أدركته تلك الكتيبة العربية من صحابة رسول الله إلا
رباط العقيدة
ثم يبين أن ولاء المسلم لعقيدته وليس لغيرها فيقول:
( أما إذا عرفت هذا فاعلم - أيدك الله -أن الإخوان المسلمين يرون الناس بالنسبة إليهم قسمين: قسم اعتقد ما اعتقدوه من دين الله وكتابه وآمن ببعثة رسوله وما جاء به، وهؤلاء تربطنا بهم أقدس الروابط، رابطة العقيدة وهي عندنا أقدس من رابطة الدم ورابطة الأرض، فهؤلاء هم قومنا الأقربون الذين نحن إليهم ونعمل في سبيلهم، ونذود عن حماهم، ونفتديهم بالنفس والمال، في أي أرض كانوا، ومن أي سلالة انحدروا، وقوم ليسوا كذلك ولم نرتبط معهم بعد بهذا الرباط، فهؤلاء نسالمهم ما سالمونا، ونحب لهم الخير ما كفوا عدوانهم عنا، ونعتقد أن بيننا وبينهم رابطة هي رابطة الدعوة، علينا أن ندعوهم إلى ما نحن عليه لأنه خير الإنسانية كلها، وأن نسلك إلى نجاح هذه الدعوة ما حدد لها الدين نفسه من سبل ووسائل، فمن اعتدي علينا منهم رددنا عليهم عدوانه بأفضل ما يرد به عدوان المعتدين، أما إذا أردت ذلك من كتاب الله فاسمع:
ا –” إنما المؤمنون إخوة فاصلحوا بين أخويكم * (الحجرات: 10 ).
2 –” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ) (1 لممتحنة:8-9). ولعلي أكون بذلك قد كشفت لك عن هذه الناحية من دعوتنا بما لا يدعها في نفسك ملتبسة أو غامضة، لعلك بعد ذلك عرفت إلى أي قبيل ينتسب الإخوان المسلمون. وبعد هذا العلم النابه، والفهم العميق، والبصيرة النفاذة في معرفة السياسات الشرعية والطرائق والمسالك الزمانية، وبعد دراسة لطبائع النفوس وعادات وتقاليد ا لأهم، ودراية بتاريخ الدعوات والموازنات بينها وبين أزمانها وأوقاتها ورجالها، يستطيع كل صاحب لب وعقل، أن يعرف حديث الرائد الذي لا يكذب أهله، وأن يفقه علم وجهد الدعاة الربانيين، وكفاح الصادقين المحتسبين:” فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا * (الأحزاب: 23 ).
وبعد هذه الروعة في بيان الشيخ البنا في العلم وسياسة العمل به، يأتي بعض أصحاب الطفولات العلمية فيخبط في الأمور ضبطا عشوائيا مضحكا، بدل أن يجلس ويطلب العلم والفهم:
وإذا كنت بالمعارف غرا
- ثم أبصرت حادقا لا تماري
وإذا لم تر الهلال فسلم
- لأناس رأوه بالأبصار
فمثلا من الغرائب التي يقولون بها:
1 - الوطنية كفر صراح، والقومية أشد منها كفرا! !.. هكذا بدون أسباب أو تفصيل، واكتفوا من الغنيمة بالإياب، ولم يكلف هؤلاء أنفسهم بالبحث في الإسلام وبما يؤديه هذا من فتن أو صدود عن الإسلام، أو ما يوافق منها الإسلام وما يخالفه، وما ينبغي السكوت عنه وما لا ينبغي.
2 - الأحزاب كافرة، مثل الوفد في مصر، والحزب الوطني ورئيسه مصطفي كامل، وما على شاكلتها.
3-حرب فلسطين ضد اليهود في 1948 م وما بعدها جاهلية تحت راية عمية، ومن قاتل فيها كان خاطئا، ومن مات فيها ليس بشهيد، لأنه دخل تحت تلك الراية، هذا مع العلم أن المجاهدين الإسلاميين، دخلوا للحرب في فلسطين رغم أنف الأنظمة، وعلى خلاف رأيهم، ولما تمكنت الأنظمة من المجاهدين اعتقلتهم في فلسطين، وقتلت مرشدهم في مصر”الشيخ البنا".
4 - الشيعة كفار، والتفاهم معهم أو مهادنتهم كفر، والتعامل معهم حرام، ومن فعل ذلك فهو منهم، هكذا بدون تفاهم، أما معاملة الأمريكان واليهود، فأظن أنه لا بأس به ! ! ووجود صيغة للتفاهم على الأهداف الكبرى وعلى الدفاع عن الدين، أظن أن هذا لا يحرك عندهم ساكن رغم أن الأمة تستأصل هنا وهناك، وتذبح هنا وهناك في البوسنة في الشيشان، وفي فلسطين، والفلبين، وقد تجمع اليهود والمسيحيون والغرب والشرق، وعباد البقر علينا، ولكننا يحرم علينا وعلى أهل السنة والشيعة التجمع لصد ذلك الهجوم الكاسح، هذا.. ورغم أن الرسول (صلي الله علية وسلم ) عاهد يهود على الدفاع عن المدينة، ورغم أنه استعان ببعض المشركين في الهجرة والقتال.. إلخ، إلخ، ورغم أن الحديث حول الشيعة فيه كثير من المغالطات التي يجب إزالتها عن المسلمين، وهذا أمر يحتاج إلي تفصيل أكثر في غجر هذا الموضع.
5 - الأشاعرة كفار، لأنهم يقولون بالتأويل في آيات الصفات، رغم أن ذلك رأي معترف به عند الأئمة، ولا يجوز التكفير به أو التخطئة، وقد بينا رأي ابن تيمية وغيره من العلماء في ذلك.
لكن يظهر أن هناك أناس يتعشقون التفكير والتبديع، ويتقربون إلي الله بإخراج الناس من الملة، وقد أبنا ضرر هذا على هؤلاء أنفسهم وعلى المجتمع وعلى الإسلام.
الولاء و البراء المظلوم
اتخذ قوم الولاء والبراء تكأة لتعميق العداوة بين المسلمين وبين غيرهم، ولتكفير بعض المسلمين الذين يتصلون بغير المسلمين، واستغلوا جهل الناس بهذا الأمر وصالوا وجالوا، حتى أحدثوا بذلك فتنا بين المسلمين، وهدموا نظام الإسلام الاجتماعي بالنسبة إلي أهل الكتاب، من البر والعدل والإحسان، وظن أهل الكتاب أن الإسلام دين عنصري بدل أن يكون عالمي، ودين استئصال بدل أن يكون رحمة للعالمين، ودين لا يقبل الأخر ، بدل” لا إكراه في الدين” * (البقرة: 256)، ودين يخفر الذمة بدل أن يحفظها، ويجيرها ويؤمنها.
وبهذا المنطق الكليل، والفهم العلل!، حكموا على بعض أعمال الشيخ البنا - رحمه الله - والإخوان بالخطأ، أنها هادنت النصارى وأهل الكتاب في مصر، وحاولت التعايش معهم، من ذلك:
ا - الشيخ البنا أرسل رسالة إلي نصراني، وكأن الإسلام لم يخاطب النصارى وأهل الكتاب أبدا، وكذلك المشركين، وجل القرآن والأحاديث خطاب إليهم !.
2 - مرشد الإخوان الثالث”الأستاذ عمر التلمساني” رحمه الله، يزور النصارى، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يزر أهل الكتاب أبدا، رغم أنه كان يزور حتى أطفال أهل الكتاب المرضي، قال ابن حجر: وقد تختلف الزيارة باختلاف المقاصد كأن يكون هناك مصلحة للمسلمين، أو رجاء تأليف القلوب.
3 - الإخوان حضروا لجنة فيها نصارى: وكأن حضور أهل الكتاب في المشاورات المعيشية في القطر الواحد شيء محرم، وكأن الدولة الإسلامية على طولها وعرضها لم تستعمل النصارى أو تأخذ رأيهم في الأمور المعيشية والثقافية، وكان معظم الصيادلة والأطباء ومترجمي الكتب، وكثير من الأعمال، يقوم بها أهل الكتاب مع المسلمين.
4 - قول الإخوان: إننا لا نكره أهل الكتاب، ولا نريد أن نستأصلهم، وإنما نودهم ونبرهم ونعايشهم ماداموا لا يقاتلوننا أو يؤذوننا.
هذا وغيره مما يدل على عدم اطلاع أو معرفة بالإسلام وبشريعته، ونصيحتنا لهؤلاء أن يتعلموا ويتفقهوا، وإلا فليستتروا:”وإذا بليتم فاستتروا".
والناظر في أقوال هؤلاء فيما سبق بيانه يجد أنهم أخطأوا في أمرين:
الأول: أنهم يكفرون الأسماء، بصرف النظر عما يقصد بها، فالوطنية والقومية كفر بالاسم، لكن إذا كان مقصودها الحفاظ على الوطن الإسلامي وعلى ديار المسلمين يكون هذا شيء آخر، وكذلك القومية، وهذا ما وضحه الشيخ البنا -رحمه الله -لا، وقال: نقيس كل شيء بمقياس الإسلام إلى آخر ما قدمنا، فظهر أن هناك شيء مقبول وشيء مرفوض، وقد قدمنا ذلك في بيانه رحمه الله.
الثاني: أنهم لا يفرقون بين الولاء والبراء المنهي عنه، وبين البر الجائز شرعا، ولا يفرقون بين الحربي، والذمي، والمعاهد، والمستأمن، ويظهر أن البعض لم يسمع حتى عن ذلك، فضلا عن أن يعرف أحكامهم.
والولاء المنهي عنه في قوله تعالي:” لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة” * (ال عمران: 28).
يكون بالظاهر والباطن، وبالظاهر فقط، وتعتورها أحوال تتبعها أحكام منها الكفر، ومنها المحرم، ومنها المباح:
الحالة الأولى: أن يتخذ المسلم جماعة الكفر، أو طائفة أولياء له في باطن أمره، ميلا إلى كفرهم، ومناوأة لأهل الإسلام، وهذه الحالة كفر، وهي حال المنافقين.
الحالة الثانية: أن يكون إلى فار مجاهرين بعداوتهم للمسلمين والاستهزاء بهم وأذاهم كما كان معظم أحوال الكفار عند ظهور الإسلام، فمن ظاهرهم لأجل قرابة ومحبة دون ميل إلى دينهم، فلا يوجب كفرا، إلا أن ذلك يكون إثما كبيرا، وفي هذا قوله تعالى :” يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا”(ال عمران: 118 )، وقوله تعالى :” يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء” (المائدة: 57 ). الحالة الثالثة: موالاة طائفة من الكفار لأجل الإضرار بطائفة معينة من المسلمين مثل الانتصار بالكفار على جماعة من المسلمين، قال ابن القاسم: ذلك زندقة، وقال غيره كفر، أما ما عرا ذلك من الحالات فتحكمها المصالح والمنافع، والمفاسد والمضار، مثل استعانة المسلمين بالكفار على الكفار، والمعاملات الدنيوية كالتجارات، والعهود، والمصالحات، وإظهار الموالاة لهم لاتقاء الضرر، وهذه هي المثار إليها بقوله “إلا أن تتقوا منهم تقاة * (السورة)، هذا وقد باع النبي (صلي الله علية وسلم) واشترى من أهل الكتاب، وكذلك الصحابة - رضوان الله عليهم - وصالحهم، وتعاهد معهم، بما يتوافق مع شرع الله ومنهجه.
والحالات الثلاث التي ذكرنا هي التي منعت الموالاة والبر بهم، للايات المانعة من ذلك من مثل قوله تعالى :
" لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر يوادون من حاد الله ورسوله” (المجادلة: 22)،
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة” (الممتحنة: 1 )،
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء” (المائدة: 57 ).
قال الإمام الطبري:”بر المؤمن بمن بينه وبينهم قرابة من أهل الحرب أو بمن لاقرابة بينه وبينهم غير محرم، إذا لم يكن في ذلك دلالة على عورة المسلمين” أو حربا لهم أو مكيدة، وذلك المذكور في الآية الكريمة:” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة : 8).
قال القرطبي: آية البر محكمة كما قال أكثر أهل العلم.
وقال ابن جرير الطبري: ! لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم" عني بذلك جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم، وتصلوهم، وتقسطوا إليهم لأن الله تعالى عمم في الآية".
واختار ذلك ابن القيم، وقال للولد المسلم أن يبر والديه من الكفار لقوله تعالى :” وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا” * (لقمان:15 )، وقوله تعالى : ! واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام" * (النساء: 1 )، وقد جعل الله للقرابة حقا وان كانت كافرة، ويبين ذلك الخبر المروي عن ابن الزبير في قصة أسماء مع أمها، هذا عن بر المسلمين بأهل الكتاب، أما إذا بر أهل الكتاب المسلمين ووادوهم، فهذا شيء لا بأس به، بل هو دال على مكانة المسلمين وفضلهم وقوتهم، أن يتودد إليهم غيرهم، وهذا من حقوق المسلمين لأن المسلم أهل فضل وينبغي أن يكون محبوبا، وقد جبلت الإنسانية على شكر المعروف والصنج الحسن.
أما أن نجد أناسا يمنعون ذلك فهذا من الغرائب، ولا أظن أن ذلك يصدر عن عاقل يعرف حقوق الإنسانية حتى يرد الجميل بأحسن منه، ويظهر أن بعض الناس لم ينس تعاليم الإسلام فقط، بل تعدي ذلك إلي نسيان التعاليم الفطرية والأخلاق الإنسانية، وهذا من نكد الطالع والعياذ بالله.
كما أن أهل الكتاب في مجتمع المسلمين”يعرفون بأهل الذمة" لهم حقوق، تجمعها القاعدة الإسلامية المعروفة”لهم ما لنا وعليهم ما علينا" تلك القاعدة التي أجمع عليها فقهاء المذاهب، وتؤيدها الآثار المروية عن السلف، منها قول الإمام علي -رضي الله عنه -:”أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا”.
ومن هنا وجب حماية الدولة والمسلمين لهم فيما يأتي:
1 - حماية أموالهم وعدم ظلمهم، وحماية دمائهم وأعراضهم.
2 - حق الإقامة والتنقل للتجارة وغيرها.
3- حقوق التملك وما يتبعها.
4 - عدم التعرض لهم في عقيدتهم وعبادتهم، وتركهم وما يدينون به.
5 - برهم والإحسان إليهم ماداموا على العهد مع المسلمين، وشروط ذلك معروفة.
الشبهة السابعة عشرة: التقريب بين السنة والشيعة
يلمز نفر الإخوان لبعض الولاءات المؤقتة التي قد تتخذها الجماعة كالتحالفات وحسن التصنع لقوم لغرض مفيد، ولاشك أن الجماعة قد تنتهج هذا المنهج في بعض الأحيان، وهو ما يفرض نفسه، وذلك لأن من أصول الشرع المتفق عليها ارتكاب أخف الضررين الحرامين.
وقد ثبت أن رسول الله (صلي الله علية وسلم) اتخذ هذا الموقف في مواقف متعددة، ومن ذلك أنه يوم الأحزاب عرض على بني غطفان أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة وينصرفوا عنه، وكذلك صالح اليهود عندما أتن وعقد معهم الهدنة، وأيضا درجهم فبدأ أولا بإخراج بني قينقاع ثم بإخراج بني النضير، ثم بقتل بني قريظة جعلهم اخرا، وكذلك دخل (صلي الله علية وسلم) في جوار المطعم بن عدي حين رجع من الطائف، وكان أبو بكر دخل في جوار الأخنس بن شريق أو غيره من قادة الكفر في ذلك الوقت، وكلها تحقق مصالح معينة وتزول تلك الولاءات بعد زوال المصلحة. وطبعا هذه التحالفات التي قد تدخل فيها الجماعة، ى لتحالف مثلا مع الناصريين القوميين أو التحالف مع الشيوعيين أو التحالف مع بعض الحكومات الجائرة في بعض الأحيان، لنجل بعض المكاسب ولتقليل بعض المضار، ويدخل في عموم القاعدة التي ذكرناها، وهي: ارتكاب أخف الضررين، وهذه القاعدة دليلها قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام:” في هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد” (هود: 78)، فإن زواج الكافر بالمسلمة محرم، ولكن ضرره أخف من ضرر الاعتداء على الملائكة، فلذلك قال لوط:" هؤلاء بناتي هن أطهر لكم". فالمسألة هنا ليست مسألة عقدية وإنما هي خلاف في تحديد: هل الضرورة تقتضي هذا أو هل المصلحة تقتضيه ؟ وكذلك الهدنة في بعض الأحيان في بعض الجوانب، ونظير هذا ما اتهمت به الجماعة في التقارب بين السنة والشيعة، وفي الجمع بين كلمة المسلمين، وهذا أمر من مصلحة المسلمين لتحقيق أهداف عليا، أقلها حفظ دماء المسلمين وديارهم. يقولون مثلا هؤلاء قد أيدوا ثورة الخميني حين قامت، وهذا يقتضي أنهم يوالون الروافض، والجواب أن الخميني خير من الشاه، وأقل ضررا منه، وقد يستفاد منه في بعض الأحيان، وقد أستفيد من ثورته في بعض المواقف التي اتخذتها، وأيضا فإن مثل هذا من رسول الله (صلي الله علية وسلم) والمؤمنين حين فرحوا بانتصار الروم على فارس، وكان ذلك في أيام غزوة بدر، وفيه يقول الله تعالي :” ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء (الروم: ا –ه).
ففرح المؤمنون بنصر الروم على فارس لأن الروم أهل كتاب وفارس كانوا مجوسا، فكان المشركون يحبون انتصار فارس والمسلمون يحبون انتصار الروم، وكذلك فإن المسلمين الذين هاجروا إلي الحبشة قد كان لهم دور في انتصار النجاشي على خصمه وكلاهما في ذلك الوقت كافر، ومع هذا فإن الأمر ليس من الأمور العقدية، وإنما هو راجع إلي الأمور الفقهية في ترتيب الأولويات وفي انتقال بعض التحالفات المؤقتة التي تتخذ باعتبار المصالح، لي إنما يرجى من ورائها مصالح محددة، فإذا زالت تلك المصالح فإنها تراجع، وهذا هو الأصل الشرعي كما ذكرنا في ارتكاب أخف الضررين، إن كان هناك ضرر، ولا أظن ذلك، بل هم قوة للمسلمين وظهير، ولأن هؤلاء مسلمون، يدخلون الحرم ويقولون لا إله إلا الله، والأمة في حاجة إلى جمع الكلمة لمواجهة العدو المشترك، الذي يريد أن يستأصل شأفتهم.
وعلى هذا تكون التحالفات المؤقتة التي تحكمها المصالح ويكون فيها نفع المسلمين، فإذا رأي الإخوان أن في مصلحة الإسلام اتفاقهم مع جماعة أخري أو حزب آخر فلا بأس، وإذا رأت الجماعة العمل الدنيوي مع آخرين ولو كانوا كافرين سيفيد الدولة الإسلامية كتجارة أو صناعة أو معاهدة فلا بأس من ذلك.
يقول الإمام ابن تيمية-رحمه الله -في الفتاوى –جـ 25، ص 56، 57:
ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة، فقد يكون في حق الشرع غيرها أوجب أو أحب، فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة، واستحبابا أخري. ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالي:
" ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به” (غافر: 34)، وقال تعالى عنه:” يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار” ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم * (يوسف: 39 - 40). ومعلوم أنه مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله:”فاتقوا الله ما استطعتم" (التغابن: 16).
فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما، لم يكن الأخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة).
إن قضية الموازنات بين المصالح والمفاسد هي المدخل إلي فقه هذه المرحلة، وهي مفتاح الرشد في التعامل مع الناس. والدول في واقعنا المعاصر بكل علله ومتناقضاته، وهي وسيلة للدفاع عن بيضة الإسلام، كما أنها تتضمن الإجابة عن كثير من الأفعال التي يراها قادة العمل الإسلامي نافعة للدعوة، ويتجاوز بها العمل الإسلامي كثيرا من العقبات، وعقد التمحول حول الذات والتهارج مع الآخر.
الشبهة الثامنة عشرة: الإخوان وحادث المنشية
يستشهد من يزعمون أن الإخوان تؤيد العنف بحادث المنشية الذي دبره عبدالناصر ليوقع بخصومه من الإخوان ويزج بهم في غياهب السجون، وليعذب ويحكم بالمؤبد وغيره ويقتل من يقتل بغيا وعدوانا، وقد دبر وقدر، وقتل كيف قدر، ودبر هذا الكم الكبير من البغي والطغيان، ونجحت مؤامراته الخبيثة ووقع على الإخوان من الظلم والكوارث ما وقع مما يعرفه القاصي والداني، ولكن الغريب في الأمر بعد ذلك، أن هناك من يهجم بذلك على ا لإخوان أنفسهم ويتهمهم زورا بمحاولة قتل عبدالناصر ويصبح بذلك المجني عليه جانيا، وشاء الله أن تظهر الحقيقة بكل ملابساتها، ويشهد لذلك شهود من أهلها، ومن المحيطين بعبدالناصر أنفسهم، ومنهم رئيس جمهورية مصر الأسبق محمد نجيب. وغيره، هذا وسنذكر طرفا من حديثهم في هذا الأمر الجلل
شهود العصر على اختراع عبد الناصر لحادث المنشية
(1) جاء في كتاب” كنت رئيساً لمصر" مذكرات لمحمد نجيب. ص 268 وص 269 ما يلى:
( وبينما يلقي جمال عبدالناصر خطابا في المنشية في 26 أكتوبر، احتفالا بتوقيع اتفاقية الجلاء، أطلقت عليه عدة رصاصات، وسط 10 آلاف شخص في السرادق واتهم محمود عبداللطيف، كان محمود عبداللطيف يجلس على بعد15 مترا من المنصة مع الضيوف، وقيل أنه أطلق 9 رصاصات، لكن عبدالناصر لم يصب، وأصيب ميرغني حمزة” وزير سوداني” وأحمد بدر المحامي) .
ثم يعقب الكاتب نفسه في نفس الصفحة فيقول: -
" كانت هذه المسرحية المدبرة، محاولة لتحويل عبدالناصر إلي بطل شعبي، ومحاولة لينسئ الناس مواد اتفاقية الجلاء، ثم هي فرصة ليتخلص عبدالناصر من القوة الوحيدة الباقية وهي الإخوان، وظهر للعيان وبدون عناء أنها مسرحية، لأن محمود عبداللطيف المتهم باغتيال عبدالناصر كان معروفا عنه مهارته في إصابة الهدف بالمسدس، كما أنه من الفدائيين المحترفين الذين أرقوا الإنجليز في منطقة القناة عام 1951 م، ثم إن المسافة كانت قريبة تسمح له بإصابة الهدف وهو جسد عبدالناصر العملاق، ثم إن الرصاصات كانت تسع وكان من الطبيعي أن يصاب بواحدة منها على الأقل، ؟لو إصابة سطحية، أكثر من ذلك ذهب الاتهام إلي حد القول بشريك آخر يسنده بمسدس أو قنبلة ولو أراد ا لإخوان أن يقتلوا عبدالناصر ويضمنوا نجاح العملية فلماذا لم يرسلوا خمسة أو عشرة لتنفيذها ؟.
واتضح فيما بعد أن الحائط المواجه لإطلاق النار لم يكن به أي أثر للرصاص مما يثبت أن المسدس كان محشوا برصاص” فشنك”
(2) جاء في كتاب” أسرار حركة الضباط الأحرار" لحسين محمد أحمد حمودة” أحد الضباط الأحرار"
يقول الكاتب في ص 163:
" وقد وضح تماما أن عبدالناصر هادن الإخوان ليلتقط أنفاسه في أزمة مارس 54 حتى يعد خطة جديدة للفتك بجماعة الإخوان وقد كان فاتخذ من تمثيلية محاولة اغتياله في أكتوبر سنة 1954 مبررا لاعتقال عشرين ألفا من الإخوان وتم تعذيبهم تعذيبا وحشيا في السجن بأسلوب بربري وهمجي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية”. ويقول الكاتب ص 164:
" فحادث المنشية تمثيلية لا شك فيها لتبرير عمليات القمع والتعذيب والمشانق ولو كانت محاولة اغتيال عبدالناصر صحيحة فلماذا لم يقدم الإخوان لمحاكم الجنايات وفجها قضاه متخصصون وظيفتهم إقرار العدل بين الناس ؟ ولماذا الضرب بالسياط حتى تتمزق ا لأجساد ونفخ البطون وألوان التعذيب ؟ كل هذه التصرفات الإجرامية التي أقدم عليها عبدالناصر وأعوانه تؤكد أنه لم يكن هناك جريمة على الإطلاق ولا أدلة قانونية ؟ وإذا كان هناك محاولة اغتيال حقا. فهل يعقل أن يشترك في التدبير لها عشرون ألفا من البسر. وإذا كانت الحكومة قد ألقت القبض على الفاعل فور ارتكابه الجريمة فهل يعقل أن التحقيق معه قد أدي إلى اعترافه على عشرين ألفا حتى يقبض على هذا العدد في بضع ساعات بعد محاولة الاغتيال المزعومة، والمعقول أن كشوف المعتقلين كانت معدة قبل حادث الشروع في اغتيال عبدالناصر يوم 26 / 10 / 1954 م، وإن إطلاق الرصاص الفشنك عليه كان هو ساس ة الصفر لبدء الاعتقالات وهل يعقل أن تكون نتيجة محاولة اغتيال شخص لم يقتل فيها ولم يمس بسوء أن يعدم ستة أفراد ويحكم على ألف إنسان بالأشغال الشاقة المؤبدة ويعتقل 19000 آخرين لعدة سنوات من تاريخ الحادث”.
(3)ويذكر الأستاذ الدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية في جامعة القاهرة -ولم يكن من الإخوان - في (موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية) الجزء 9 ص 0 42 إلي 429:
في مساء 26 أكتوبر 1954 أقيم لعبدالناصر ورفاقه حفل تكريم في حي المنشية بالأسكندرية بمناسبة توقيع المعاهدة مع بريطانيا، وأقيم الحفل في سرادق ضخم ودعيت للاحتفال طوائف معينة، ثلاث هيئات بارزة مكلفة باحتلال مقاعد السرادق هي:
1- هيئة التحرير.
2 - مديرية التحرير.
3 - الحرس الوطني.
ونظم استعمال السرادق أدق تنظيم بحيث تجلس كل جماعة من جماعات المدعوين في مكان محدد.. وبالتالي لم يكن هناك أي مقعد يمكن أن يتسلل إليه مغامر ليتعدي على عبدالناصر، فما كان الوصول إلن المقاعد أمرا ميسورا.
أليس الأيسر إطلاق الرصاص عليه وهو يركب عربة مكشوفة بشارع سعد وقد أعلن من قبل عن خط سير الموكب.
وإذا أعمل الإنسان فكره في الحقائق عن هذه الحادثة يجد أن الصحف ذكرت أن المسافة بين الجاني وموقف عبدالناصر الذي يقف على المنصة العالية - وخلف حاجز من البشر قريبة، واستعمال مسدس أداة ضعيفة في هذا الموقف الرهيب.. وهل يعقل أن تنطلق ثمان أو تسع رصاصات من مسدس يمسك به رجل مشهود له بالدقة في إصابة الهدف.. ولا تنجح واحدة من هذه الرصاصات في إصابة الهدف، أو إصابة أي شخص من الذين يحيطون بعبدالناصر أو أي إنسان على الإطلاق.. هذا مستحيل.
بعد الحادث طمأن المشرفون على الحفل الناس ودعوهم إلى الهدوء.. ولو كانت مؤامرة لانفض الحفل مخافة أن يكون هناك مزيد من الرصاص.
وتحدثت الصحف عن الإصابات البالغة.. وهي تدري أن سببها الزجاج المتطاير، والجموع التي تحركت عقب الحادث، ولم تكن هناك إصابات من المسدس على الإطلاق، وثبت أن الحائط المواجه للحادث ليس به أي أثر للرصاص.
وذكرت الصحف أنها ضبطت لدي بعض الإخوان في ا لإسكندرية أسلحة ومفرقعات.. ورغم ذلك استعملوا مسدسا فقط.
أيعقل أن جماعة لها خبرة في التخطيط والحرب في القناة وفلسطين لو خططوا ودبروا لا يستعملون وسائل أخري مناسبة للموقف ! !
ويقول الدكتور أحمد شلبي:” حادث المنشية نفسه مشكوك فيه وإدراج اسم محمد نجيب في هذه القضية فكرة ساذجة لوضع نهاية لهذا الرجل”.
(4) ويروي الأستاذ، فتحي رضوان ما يؤيد هذا الاتجاه كان عبدالناصر أكبر المتحمسين لإقالة محمد نجيب في أكتوبر 1954 م قال عبدالناصر في هذا الموضوع:” في فبراير كان نجيب أقوي منا، وكان في إقالته ضرر، أما ألان فقد أصبحنا أقوي منه وعلى هذا ففي تأخير إقالته نفس الضرر". (حكومة يوليو ص 92).
(5) ويذكر الأستاذ أحمد شلبى.. عندما أشيع أن محمد نجيب له صلة بالحادث وتدبيره، وتقرر تقديمه للمحاكمة، تدخل بعض زعماء السودان فقنع الثوار بعزل محمد نجيب وتحديد إقامته وإعفائه من المحاكمة.
(6)يروي صلاح الشاهد، أنه كان لمجود سيارته مساء يوم 26 وسمع جزءا من خطاب الرئيس من مذياع بالسيارة ثم سمع الطلقات، فأسرع نحو بيت الرئيس ليكون مع أولاده في هذه الأزمة، ولم يجد صلاح الشاهد بالبيت اضطرابا أو ذعرا وأخذ يداعب أولاد الرئيس الذين كانوا يلعبون، وهذا يوحي لي أن أسرة الرئيس كانت تعلم سلفا بما سيجري، وقد شاهد هذا الاطمئنان قبل أن يتصل بهم عبدالناصر من الأسكندرية.
ثم يعلق الدكتور: أحمد شلبي على هذا الحادث فيقول:
وبناء على هذه الأشياء أعتقد أن الحادث مختلق، وأسطورة مصنوعة لم يستطع مؤلفوها أن يجيدوا حبكها، فجاءت بها هذه الثغرات التي كشفت عن حقيقتها، ولكن ذلك كان بعد إراقة الدماء البريئة، وبعد تعذيب عدد هائل من أصفياء المسلمين، وإذا كان الظلام قد أحاط بهذا الحادث في حينه فنرجو أن تكون أشعة الضوء التي دوناها كافية لإبراز الحقيقة ولإنصاف المظلومين ومعاقبة الآثمين.
واختلاق هذا الحادث يقرره محمد نجيب في مقال له بمجلة الرأي الكويتية وفيه يقول: إن فكرة إطلاق الرصاص على عبدالناصر في الأسكندرية تتحدث عن مؤامرة وهمية من أولها لا أخرها، وكانت مرتبة بواسطة رجل من أجهزة المباحث العامة، وقد كوفئء هذا بمنصب كبير أسند إليه، وقد استطاع هذا الرجل استئجار شاب مصاب بجنون العظمة، وأغراه بأنه لو اعترف بأنه حاول قتل عبدالناصر فسينال مكافأة ضخمة ويسمح له بالهجرة خارج البلاد.. فلما وقع هذا الفخ واعترف، صدر الحكم بإعدامه حتى يموت ويموت معه السر.
بقيت كلمة عن حادث المنشية هي أن هذا الحادث كان ضمن مجموعة من أحداث تغلب بها عبدالناصر على ما كان يعانيه من كراهية الشعب، وكانت هذه المجموعة من الأحداث وسائل استغلت أوسع استغلال لخلق ما يمكن أن يسمي شعبية لعبدالناصر، وسنتحدث فيما بعد عن هذه الأحداث وطريقة استغلالها. لقد كان تدبير حادث المنشية عملا بشعا مملوءا بالظلم والقوة والاستبداد، وبه فصمت العلاقات بين ا لإخوان والثورة.
(7) واستمع إلى السيد، حسن التهامي أحد الضباط الأحرار يكتب إلى روز اليوسف عدد أول مايو 1978 م عن حادث المنشية: (وقد شد انتباهنا وقتها أن خبيرا أمريكي الجنسية في الدعاية، كان قد حضر إلى مصر، وكان من بين مقترحاته غير العادية، والتي لم ( تتمشى) مع مفهومنا وقت اقتراحها هو اختلاق محاولة إطلاق الرصاص على عبدالناصر ونجاته منها فإن هذا الحادث بمنطق العاطفة والشعور الشعبي
لابد أن يزيد من شعبية عبدالناصر، لتأهيله للحكم الجماهيري إلى القيادة الشعبية من أقرب الطرق.
ثم ها هو أيضا (حسن التهامي) يصرح لجريدة الأنباء الكويتية بتاريخ 16 / 4 / 1989 م عندما سئل - ولكنك قلت إن أمريكا هي التي أوعزت لعبدالناصر بالتخلص من الإخوان والشيوعيين للانفراد بالسلطة في مصر- فتخلص من الشيوعيين في أزمة مارس ثم تخلص من الإخوان في أزمة المنشية..
قال - لقد أوفدت أمريكا بول لينبارجر - مسؤول الدعاية السوداء - في أمريكا عام 1954 ليقوم بالتخطيط الإعلامي لتصعيد نجومية عبدالناصر وقد اقترح لينبارجر افتعال محاولة للاعتداء على حياة عبدالناصر تكون سليمة التدبير، وتجذب مشاعر الشعب المصري نحوه لما يراه من مظاهر الشجاعة أثناء ثباته في هذا الموقف ! ! وكان أن وقع بعدها حادث المنشية الذي أدعي فيه عبدالناصر أن الإخوان قاموا بمحاولة اغتياله ليسهل عليه بعد ذلك تصفيتهم.
وعندما سئل - لماذا إذن الخلاف بين عبدالناصر وا لإخوان أو بين الإخوان والأمريكان إذا كان التنسيق بينهم جميعا كان قائما، أجاب: لأن الإخوان كانوا خطرا حقيقيا على إسرائيل وأراد عبدالناصر أن يتخلص منهم لينفرد بالسلطة في مصر وأرادت أمريكا أن تتخلص منهم لتوقف خطرهم على إسرائيل.
وبعد..
فإننا نحسب أن هذا الكلام قد بلغ من الوضوح مبلغا، ولا يحتاج منا إلى تعليق.
وبعد هذه التصريحات المتكررة لحسن التهامي وغيره نذكر له مواجهة بينه وبين سامي شرف نشرتها مجلة أكتوبر تحت عنوان” حادث المنشية كما وضعه خبير أمريكي”.
السيد الأستاذ رجب البنا رئيس إدارة مجلس إدارة مجلة أكتوبر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
فإني أري أن رواية أحداث التاريخ ينبغي أن يتوافر فيها شرطان على الأقل، وهما المعرفة وصدق الرواية، فإذا فقدا في أي نص لم يكن تسجيلا تاريخيا، إنما تكون قصة لمن يرويها. والموضوع الذي نحن بصدده هو جزء من أحداث التاريخ الماضي لازال الرأي العام يأمل في معرفة حقائقه. لقد نشرت مجلة أكتوبر في العدد رقم 6 4 5 1 بتاريخ 0 1 نوفمبر 996 1 م على لسان سامي شرف حديثا يذكر فيه أن حسن التهامي هو الذي أحضر القميص الواقي لجمال عبدالناصر من أمريكا، وكذلك تعليقا منه على حادث المنشية ويستوجب هذا النص الرد على سامي شرف في المجلة حيث نشره.
فأرجو نشر النص التالي ردا على ما قاله سامي شرف خطأ في حقي.
لقد بعثت المخابرات المركزية الأمريكية على يد مايلز كوبلاند مندوبها في مصر في ذلك الوقت، عدد اثنين صديري (صدرية) واقية ضد رصاص الأسلحة الصغيرة لشخص جمال عبدالناصر رئيس الحكومة، وذلك ضمن برنامج موسع للحفاظ على حياة جمال رئيس الحكومة.
وعندما لبس جمال عبد الناصر الصديري عندما وصله، قال إنه ثقيل الوزن، وعندما سافر إلى الأسكندرية لإلقاء خطابه في المنشية كما تعود كل عام بمناسبة تنازل الملك فاروق عن الحكم ورحيله عن الأسكندرية بعد نجاح الثورة، سافر من مصر إلى الأسكندرية تاركا الصديري في بيته في منشية البكري ولم يأخذه معه.
أما حادث إطلاق الرصاص عليه في المنشية بالطريقة المعروفة لنا جميعا، فقد كان صورة طبق الأصل مما اقترحه خبير الدعاية والإعلام الأمريكي الذي أرسلته المخابرات المركزية إلى مصر لتطوير برامج الإعلام، وبالذات لوضع برنامج إعلامي يرفع من شعبية رئيس الحكومة جمال عبدالناصر في مواجهة شعبية الرئيس محمد نجيب، وذلك كخطوة لارتقاء جمال عبدالناصر منصب رئيس الجمهورية والتمهيد له، وقال أمام مجموعة محترمة من أعلى رجال الحكم في مصر وقتئذ، أن الشعب المصري شعب مؤمن وعاطفي، وأن تدبر حادث أو موقف تطلق فيد النيران من طبنجة في اتجاه شخص عبدالناصر بشرط عدم إصابته، وينجو منه عبدالناصر شكلا، ومن ناحية المظهر ينجو من الموت، يرفع ذلك من شعبية عبدالناصر عند الشعب المصري، أكثر بكثير من جميع وسائل الإعلام، ومهما كانت البرامج. وسبق تنفيذ هذه العملية في دول أخرى تتشابه شعوبها مع شعوب مصر والشرق ونجحت نجاحا تاما. وخرجنا من بيت عبدالناصر من هذا الاجتماع وكان معي بعض زملاء آخرين رافضين لهذه الفكرة، وضعا في الحسبان أن أي خط في تصرف هذا الذي سيكلف بالضرب، قد يتحول إلي موقف صعب لا نضمنه ولا نضمن نتائجه، ولم يكن سامي شرف حاضرا هذا الاجتماع، وبعد ستة شهور بالضبط من تاريخ هذا الاجتماع في بيت عبدالناصر وأمامه، حدث حادث المنشية بالضبط كما وصفه خبير الإعلام والدعاية الأمريكي وكان ذلك بحضور مايلز كوبلاند نفسه ومعه مساعد من المخابرات الأمريكية. السيد الأستاذ / رجب البنا
أرجو نشر هذا النص على لساني كما يلزم بذلك القانون وأصول الصحافة.. علما بأنني بصدد كتابة كتاب شامل عنوانه”أضواء على السياسة في أربعين عاما" سيشمل مثل هذه المواقف ومواقف أخرى أكثر أهمية بكثير من ذلك ومما ينشره بعض الناس من آن لآخر، ويعتبره القارئ جزءا من التاريخ. ولكن الحقيقة التي عشتها وكنت مشاركا في معظمها سأنشرها إن شاء الله لأول مرة مؤيدا معظمها بالمستندات والحقائق التي ستلقي الضوء بلا تردد على حقائق ما كان في المدة السابقة.
وأتمني لكم التوفيق والسداد في الرأي والقرار وتقبلوا تقديري وتحياتي.
محمد حسن محمد تهامى
المؤامرات صنعة عبد الناصر
يقول محمود أبو الفتح - السياسي والصحفي المصري -: إن عبد الناصر قد برع في المؤامرات براعة منقطعة النظير، وكان يدبر الحوادث ليصل منها إلى ما يريد، من ذلك تدبيره للمظاهرات التي تطالب بعدم رجوع الحياة النيابية أو الدستور، والمطالبة بحكم رجال الثورة، ومن ذلك أن عبد الناصر دبر بليل المظاهرات للمطالبة بذلك، وأصبح الصباح وانتشرت فرق من ضباط الحرس الوطني الذي شكله عبدالناصر في الطرقات يقودون مظاهرات متفرقة، وعقد ضباط من أنصار جمال اجتماعات رسموا فيها خطط الإخلال بالأمن، وإحداث فتنة يتمكن عن طريقها جمال من إلغاء القرارات الدستورية وفرض نظام دكتاتوري سافر، وألقي ضباط الحرس الوطني أربع قنابل انفجرت في أنحاء القاهرة، فأحدثت دويا هائلا أفزع الناس وأدخل الرعب في النفوس.
والحرس الوطني كان عبارة عن تجمع لأعداد من الشباب يرأسهم ويشرف على تكوينهم أحد أعضاء مجلس القيادة.
وخصصت الحكومة قطارات وسيارات من سيارات الجيش لنقل أعضاء الحرس الوطني من الأقاليم وجمعهم في القاهرة لتنفيذ المؤامرات.
وقد ظلت القاهرة دون حكومة، وقد سيطر الرعب وانتشر أعضاء الحرس الوطني يعتدون على الأهالي ويفجرون القنابل، ونجيب في خطر الاغتيال. وكانت تجمعات أفراد الحرس الوطني قد وصلت إلى مدينة القاهرة، وفي تلك الليالي أي مساء يوم 26 من مارس كانت فرق الحرس الوطني تتلقى التعليمات بالأعمال التي يناط بكل فرقة من هذه الفرق أن تقوم بها.
ولم ينم جمال ورجاله طوال الليل، بل كانوا يتصلون ببعض زعماء العمال ويصدرون إليهم تعليماتهم ويوزعون عليهم المال ببذخ شديد.
ونشط أعضاء هيئة التحرير.
ولم ينم الناس طوال الليل فقد بات كل إنسان يشعر أن حياته في خطر وأنه مهدد بأن يهاجمه في منزله بعض رجال الحرس الفاشتي أعوان عبدالناصر. وتفاصيل ما حدث يوم السبت 27 من مارس أن عمال الأوتوبيس والترام كانوا قد حددوا هذا اليوم للقيام بإضراب، معلنين بذلك احتجاجهم على عدم إجابة الشركة لمطالبهم، فانتهز جمال ذلك اليوم لتنفيذ مؤامرته، وفي الصباح الباكر وزع أنصار جمال منشورات تقول: إن إضراب عمال النقل قد قام احتجاجا على إعادة الدستور، وأن العمال قرروا:
1 - عدم السماح بقيام الأحزاب.
2 - استمرار مجلس قيادة الثورة في مباشرة سلطاته.
3-تأليف جمعية وطنية استشارية.
4 - عدم الدخول في المعارك الانتخابية.
وانتشرت في البلد سيارات الجيش تمنع سائقي الأجرة”التاكسيات” من العمل وتلزمهم بالإضراب.
ومن الصباح الباكر ذهبت قوات الجيش لمخازن الترام والأوتوبيس ومنعت خروج مركبات الترام وعربات النقل”الأوتوبيس” بعد أن تبين لعبدالناصر أن العمال قد عدلوا عن إضرابهم حتى لا يستغله عبدالناصر في تحقيق أطماعه السياسية.
ومرت سيارات الجيش على المحال التجارية تأمرهم بغلق حوانيتهم وتنذرهم بأن الحكومة غير مسؤولة عما سيقع للحوانيت التي تفتح أبوابها.
وهكذا أقبل الصباح على مدينة القاهرة وقد لفها صمت رهيب لا صوت فيها ولا حركة، والمحال مغلقة والحزن يخيم على المدينة، وأصبحت القاهرة بلدا هجره سكانه وفرد الموت جناحيه عليه.
وبعد فترة أخذت بعض المظاهرات تطوف أرجاء القاهرة. مظاهرات تنتقل بسيارات الجيش اسري وفي كل سيارة عدد من شباب الحرس الوطني وبعض الأهالي. ومرت إحدى السيارات أمام فندق سميراميس فهب الناس إلى النوافذ والشرفات يسمعون ما تردده هذه المظاهرات من هتافات، ولم يصدق الناس ما يسمعون فأعادوا الإنصات فإذا بها نفس الهتافات، هتافات لم يهتف بها من قبل بشر:”تسقط الحرية.. تسقط الديمقراطية.. يسقط البرلمان.. يسقط المتعلمون”.
كانت الهتافات تردد بحماية الضباط ورقابة الحرس الوطني:”يسقط المتعلمون. تسقط الحرية".
ومرت القوات الحربية على جميع محطات بيع البنزين فأغلقتها وعلى دواوين الحكومة ومنعت الموظفين الذين حضروا سيرا على الأقدام من دخولها، وخلت الشوارع إلا من سيارات الجيش التي حملت المرتزقة من أعضاء هيئة التحرير ومنظمات الشباب والحرس الوطني.
واتجهت المظاهرات إلى دار جريدة المصري وأخذت تهتف قائلة:”تسقط المصري”. ثم هتفت:”يسقط أحمد أبو الفتح الخائن.. وأخذت تلقي الحجارة على مبني الدار وهشمت بعض الألواح الزجاجية، ثم تصدئ لها الأهالي ففرت ثم عادت تقذف الناس بالحجارة وأخذت تهتف: بسقوط الدستور.. وسقوط المتعلمين.. وسقوط الحرية. وذهبت قوات أخرى من الجيش إلى محطة مصر وأوقفت القطارات عن السير وأمرت القطارات التي كانت قد بدأت سيرها بالوقوف وأمرت بإغلاق جميع المزلقانات كي تتعطل حركة القطارات.
وأخذت محطة الإذاعة التي يشرف عليها الصاغ صلاح سالم تردد من الصباح الباكر أنباء مختلفة وبيانات كاذبة مضللة تدعي أن النقابات أرسلت احتجاجا على قرارات 5وه 2 من مارس وتطالب فيها باستمرار مجلس الثورة في الحكم وعدم إجراء انتخابات.
وقد أرسلت هذه” النقابات برقيات إلى محطة الإذاعة وإلى جميع دور الصحف وإلي الرئيس نجيب تحتج فيها على البيانات المختلفة التي تنسبها لها محطة الإذاعة، وتؤكد نصرتها للرئيس نجيب وتمسكها بقرارات 5وه 2 من مارس، ولكن محطة الإذاعة لم تعر هذه البرقيات أي اهتما!ا، بل راحت تكرس جهودها في تشجيع ا لإضراب والترويج له، وإذاعة البيانات.الكاذبة المختلفة.
ورغم ذلك استمرت المظاهرات تجوب طوال النهار وجزءا كبيرا من الليل أرجاء القاهرة في سيارات الجيش تهتف بسقوط الحرية وسقوط الدستور وسقوط المتعلمين.. وسقوط.. وسقوط.. وفي الساعة الثانية عشرة من مساء هذا اليوم المشؤوم 28 من مارس أبلغ نجيب بأن حياته باتت يخشى عليها وأن المؤامرة قد أحكمت لاغتياله هذه الليلة، فخرج من داره مسرعا، وذهب إلى قصر الطاهرة حيث في للملك سعود، وفي ساعة متأخرة من الليل استدعي الملك سعود البكباشي جمال عبدالناصر وطلب منه تأمين حياة نجيب فأبدي جمال لطفا وتوددا لنجيب، وقال إنه لا يمكن أن يسمح بالاعتداء على حياته، وأنه لا ينسئ الأيام التي اشتركا فيها في العمل سويا، وهكذا بحديث ناعم وكلام معسولي راح جمال يسأل:”لماذا تتمسك بإعادة الدستور؟”، وقال نجيب:”إن كل البلد تتمسك بالدستور"، فقال جمال:”أبدا.. إن البلد لا تريد الدستور".
ثم واصل حديثه قائلا:”إننا نريد أن نصفي كل أسباب الخلاف معك، ولن يكون ذلك إلا بعد أن يكشف كل واحد منا ورقه للآخر ويفتح قلبه، وأنا أريد أن أعه لم من الذي يحبذ عودة الدستور، وانطلت الحيلة، فقال:”كل رجال البلد الكبار عاوزين الدستور"، فقال جمال:”مثل من ؟” فقال نجيب:”السنهوري، وهو رجل عاقل”. وفي صباح يوم 29 من مارس انتشرت المظاهرات مرة أخري تجوب القاهرة بواسطة سيارات الجيش تواصل هتافاتها المشينة، وكان السنهوري في مجلس الدولة ففوجئ بوصول ضابط شاب عليه في مكتبه يقول له:”إن مظاهرة قادمة صوب مجلس الدولة، وأري أن تخرج إلى المتظاهرين تخطب فيهم لتهدئهم”، فقال الدكتور عبدالرزاق السنهوري:”أنا أخطب في المتظاهرين، ليس من المعقول – وأنت ضابط أن تلجأ إلي أنا لأهدئ المتظاهرين – وبإمكانك باستعمال التليفون أن تستحضر قوة تفرق المظاهرات وتحمي المجلس من أي مظاهرة".
ولكن الضابط جادل السنهوري، وكانت في هذه اللحظة قد وصلت المظاهرة إلى فناء مجلس الدولة، فدفع الضابط السنهوري دفعا وطلب منه أن يخطب في المتظاهرين وحاول السنهوري الإفلات من يد الضابط، فما كان منه إلا أن أخرج مسدسه وأطلق طلقتين في الهواء.
ويبدو أن هذه كانت الإشارة التي اتفق عليها لبدء الهجوم ولتحديد شخصية السنهوري للمتظاهرين الذين كانوا جميعا من الدهماء الذين لا يعرفونه من قبل، إذ هجم المتظاهرون فجأة على الرجل وانهالوا عليه ضربا، وتطاير دم السنهوري وعلق بحائط المبني تسجيلا للجرم الفظيع، ورغم تألم الرجل وتوجعه لم يرحمه المتظاهرون بل بروه ! نزلوا به إلى فناء المجلس.
وبعد هذا الاعتداء الوحشي على أكبر حصن للعدالة في مصر وعلى أكبر شخصية قضائية، وأعلم علماء القانون توجه الصاغ صلاح سالم إلن المجلس، وادعي أنه ذهب ليحمي السنهوري وقال: لولا حضوره لأجهز المتظاهرون عليه، والمفهوم أنه ذهب ليمتع نظره، ويشفي حقده بما أصاب الرجل الذي تجرأ على تحريض محمد نجيب على المطالبة بالدستور.
مؤامرة تفجير القاهرة
ثم يقول أحمد أبو الفتح - وهو من الشاهدين على عصر عبدالناصر وأحد أصدقائه -: وقام عبدالناصر بعد هذه المظاهرات بإلقاء القنابل في القاهرة، وأوحي إلى بعض كتاب صحفه أن يردوا على المطالبين بالحريات بأن البلد بهذا ليست آمنة، فما معني المطالبة بالحريات ؟ وضحكت عند قراءة هذا الرد للسيد المكافح لأنه كان قد شاع وعرف أن جمال عبد الناصر هو الذي دبر أمر تفجير القنابل واعترف لزملائه بذلك، وأنه طلب تفجيرها جميعا في وقت واحد كي يسيطر الرعب على الناس ويطالبون ببقاء حكم حركة الجيش.
وكانت جريدة المصري خلال شهر مارس تنشر تحذيرات للشعب في صفحاتها المختلفة مثل ذلك الذي نشرته يوم 27 مارس، إذ قالت :
من المصري إلى الشعب المصري: إحذر أيها الشعب العظيم ما قد يدبر لك في هذه الأيام من مؤامرة لدفعك إلى القيام بأعمال شغب”.
مؤامرة حرق جريدة المصري
بقي أن أضيف أن الدكتور صليب بطرس - مدير المصري - الذي كان أحد العمد الرئيسة التي ارتكز عليها المصري في نجاحه ووصوله إلى أن يصبح أوسع جرائد مصر انتشارا فوجئ ذات يوم بأحد عمال ورشة الجمع بالجريدة يدخل عليه مكتبه ويخرج من جيبه ورقة بمائة جنيه ثم ينفرط في البكاء.
يقول العامل أن بعض الضباط قابلوه بعد انصرافه من عمله وأركبوه سيارة جيش ثم راودوه أن يحرق مبني المصري وأعطوه هذه الورقة ذات المائة جنيه كمكافأة ابتدائية وأنه خاف أن يرفض فيعتقلوه.
طلب من الدكتور صليب أن يأخذ المائة جنيه وأن يسمح له بإجازة ليختفي عن الأعين، وأخذ منه الورقة وكتب عليها التاريخ ووضعها في خزينه الجريدة، ثم أخرج منها مائة جنيه أخرى وأعطاها للعامل مكافأة له ومنحه إجازة مفتوحة.
وهذه الواقعة حدثت خلال شهر مارس سنة 1954م.
ثم يقول أحمد أبو الفتح: إن عبد الناصر كان يملك كل مقومات المتآمر، فهو كتوم بصورة نادرة حقود، استطاع أن يتخلص من زملائه: من رشاد مهنا، ومن محمد نجيب ومن زملائه حتى أخلص الناس إليه عبدالحكيم عامر الذي مات مسموما، واستطاع أن يمكر بقادة مصر وأصحاب النفوذ فيها بعد قتل الحريات وإنشاء محاكم القهر - من أمثال محكمة الغدر والجنايات، ومحكمة الثورة، ومحكمة الشعب، والمحاكم العسكرية - كما أنه كان من صفاته انعدام العواطف، وقساوة القلب، وانتهاز الفرص، وما ترك عبد الناصر شيئا إلا وتآمر عليه، حتى جيش مصر الذي كان يهلكه ويشغله في حروب دائمة لا ناقة له فيها ولا جمل، في الكنغو، وفي اليمن، وفي سيناء بغير استعداد، وتآمر على الأغنياء فشردهم وأفقرهم، وبدد أموالهم... إلخ.
هذا هو عبد الناصر الذي تآمر ودبر حادث المنشية ليتخلص من أشرف وأنبل من في مصر وهم الإخوان المسلمون
الشبهة التاسعة عشرة: العمل السري
هذه الشبهة يري بعض الناس أنها أخطر الشبه الموجهة إلى الجماعة، ويقولون: !ن هذا المنهج ليس منهج رسول الله (صلي الله علية وسلم) وأيضا لا مصلحة فيه، دائما لا يأتي بخير، ويؤدي إلي دخول السجون والمعتقلات والقتل وغير هذا، والواقع أن الذي يقول هذه الشبهة جاهل بواقعه، وجاهل بشرع الله تعالى ، وبمنهج رسول الله (صلي الله علية وسلم)، فعمل الرسول !ز لم يخل من السرية وقتا ما، فقد كان قبل التمكين ينهج المنهج السري في تكوين جماعته، ولا أدل على ذلك من اختفائه في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وتكوين الجماعة فيها، وكذلك اختفاؤه في بيعة العقبة، ثم بعد هذا فإن الرسول (صلي الله علية وسلم) بعد أن مكن له وقامت الدولة كان أيضا ينهج هذا المنهج نفسه، فقد ثبت عنه (صلي الله علية وسلم) أنه كان إذا أراد أن يغزو جهة وري بغيرها، ففي بعض الأحيان يخرج من المدينة إلى جهة وهو يقصد سواها، وقد كان له بعض الأشخاص الذين يقومون ببعض الأعمال السرية الخاصة مثل عمرو بن أمية الضمري، ومثل عبدالله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان - أمين سر رسول الله (صلي الله علية وسلم).
أما إذا كان مقصودة بالعمل السري مثلا أن الجماعة تنظم بعض الدروس أو بعض الدورات أو تكون بعض الأشخاص، أو تسعي لجمع الكلمة من خلال اكتساب بعض الأشخاص وتوظيفهم في عمل معين يستوعبهم فهذا ليس محظورا لدي أحد، تقوم به الدول القائمة وحتى الأشخاص حتى لا يخلو أي شخص من عمل سري يقوم به ولديه كثير من الأسرار يكتمها.
والواقع أن الجماعة عملها ليس محصورا بالعمل السري فلديها بعض الجواب سرية وبعض الجوانب علنية، وهكذا كل دولة وكل تنظيم، وكل فرد في عمله بعض الجوانب السريه وبعض الجوانب العلنية، والجماعة تري علنية العمل وسرية التنظيم. أما المنهج فهو واضح وضوح الشمس في رائعة النهار، وليس فيه جديد، بل كله بالنصوص الشرعية والآثار التي سلكها الرسول لمج!ط وأصحابه، وتنزيلها على الواقع فقط هو الذي فيه تجديد، وذلك بتنقيح المناط وتحقيقه، وفي بعض الأحيان يضطر إلى تخريجه إذا جاء أمر لم يعهد من قبل، وكل هذه الأمور شرعية لا غبار عليها، وأما عن قصة الجهاز السري فقد أوضح ملابسات القيام به الأستاذ محمود عبدالحليم -أحد قادته فقال: ( أدرك الأستاذ المرشد بحاسة القيادة التي وهبه الله إياها أن أعداء الدعوة التقليديين وهم المستعمرون وعلى رأسهم الإنجليز، ثم أذنابهم من الحكام المصريين الذين هم اليد العي يبطش بها هذا المستعمر.. أدرك أن هؤلاء الأعداء هم للدعوة بالمرصاد، وأن الدعوة يجب ألا تكون فريسة باردة لهم، بل أن تكون ذات شوكة لا يسهل التهامها، ومن هنا نبتت فكرة”النظام الخاص” للدفاع عن الدعوة.
وقد أدرك الأستاذ المرشد أن قضية فلسطين هي قضية الإخوان المسلمين، وأن الإنجليز بتواطئهم مع اليهود لن يعدلوا عن خطتهم ويسلموا البلاد لأهلها إلا مكرهين، وعلم الأستاذ المرشد أن الإنجليز يسلحون عصابات اليهود، وأنه لابد من معركة فاصلة بين الإخوان المسلمين وبين هذه العصابات مادام الإخوان مصرين على تحرير هذه البلاد وإنقاذ المسجد الأقصى الذي هو هدف اليهود الأصيل. وأدرك الأستاذ المرشد أن الحكومة المصرية والحكومات العربية حكومات ضعيفة هازلة متخاذلة بل متواطئة، وأن ليس في البلاد العربية جيوش سوئ الجيش المصري، ولكن هذا الجيش من الهزال والجهل وعدم الخبرة بحيث لا يقوي على مواجهة عصابات اليهود المدربة المسلحة بأحدث أسلحة الإنجليز والأمريكان، والتي تحارب على عقيدة مستمدة من دينهم.. أدرك الأستاذ المراشد هذا أيضا، فكان ذلك حافزا على سرعة الاستعداد بتكوين”النظام الخاص”.
العمل السري وعلاقته بالاحتلال
والملاحظ لهذه الفترة الغي ظهر فيها هذا التنظيم يدرك بغير عناء أنها كانت فترة احتلال وكفاح ضد المستعمر على أرض مصر له ولأعوانه، وعلى أرض فلسطين لليهود ومن وراءهم، وكان لابد لكل مسلم ولكل وطني غيور أن يستعد لإخراج المستعمرين، وليس الإخوان بدعا في ذلك ولا المسلمين، بل هذا أمر طبيعي تقوم به كل الشعوب حتى العابدين للبقر والصنم، لأن الاستعمار العسكري لا يمكن أن تتقبله أمة صاحبة كرامة، إلا إذا تودع منها، وهذا الفترة الجهادية لا يصلح معها إلا العمل السري، والاستعداد الخفي، وإلا فسيكون المعلن فيها إنسانا فقد عقله وعمله، لأن المستعمر له رجاله وجواسيسه الذين لا يهدأون لا ليلا ولا نهارا، وتصور أن حماس في فلسطين مثلا تعلن عن خلاياها وفدائييها، وتنشر أسماءهم وصورهم، ماذا يكون مصيرها ومصير جهادها، وتصور أن حزب الله في لبنان يكشف عن مواقعه ورجاله وأسراره للملأ، ماذا تكون النتيجة؟ وماذا يقول عنه البله فضلا عن العقلاء؟
والإخوان المسلمون لم يكونوا وحدهم في هذا الأمر، بل كل التنظيمات الوطنية في مصر كان لها تنظيما سرية مثل الإخوان، وقام الكل بأعمال جهادية وبطولية، ومن ذلك ما قام به الإخوان في حرب فلسطين من حرب لليهود، ومن مساندة الجيش المصري وجبر كسره، بشهادة كبار رجاله للإخوان أمام محاكم العهد الفاسد، ليحفظ التاريخ هذه الصفحات الرائعة نورا للأجيال وشهادة للمخلصين المجاهدين:
شهادة سعادة اللواء أحمد فؤاد صادق باشا قائد عام حملة فلسطين
س: نريد أن نعرف رأي سعاد رأي بصفتكم قائدا عاما لحملة فلسطين عن موقف الإخوان والمتطوعين في هذه الحرب وفى ميدانها:
ج: كانوا جنودا أبطالا أدوا واجبهم على أحسن ما يكون.
س، هل يسمح الباشا أن يذكر لنا وقائع معينة تدل على البطولة:
ج: نعم، سمعت بعد وصولي لرئاسة القوات في قلم المخابرات العسكرية أن اليهود يبحثون دائماً عن مواقع الإخوان ليتجنبوها في هجومهم، فبحثت عن حالتهم من الناحية الفنية، وأمرت بتمرينهم أسوة بالجنود ودخلوا مدارس التدريب، وأصبح يمكن الاعتماد عليهم في كثير من الأحوال التي تستدعي بطولة خاصة، مثلا: أرسلتهم من دير البلح إلى ما يقرب من 100 كيلو إلى الجنوب لملاقاة الهجوم الإسرائيلي على العريش فاستبسلوا وأدوا واجبهم تماما، واشتركوا أيضا في حملة للدفاع عن موقع 86 في دير البلح، وأعطيتهم واجبا من الواجبات الخطيرة فكانوا في كل مرة يقومون بأعمالهم ببطولة استحقوا من أجلها أن أكتب لرياسة مصر أطلب لهم مكافأة بنيا شين، وذكرت بعضهم للشجاعة في الميدان، وبعضهم ذكر اسمه في الأوامر العسكرية، واتصلت بالحكومة في ذلك الوقت وطلبت منها مساعدة هؤلاء بأن يعطوهم أعمالا عندما يعودون ويعاونوا أسرهم والحكومة ردت ووافقت، وأرسلت تأخذ معلومات عنهم، وكان ده تكريم الحكومة لهم.
س، هل نفذت الحكومة هذا الوعد؟
ج: ما أعرفش ولكن عندما طلبت مني اعتقالهم رفضت ووضعتهم تحت حراستي الخاصة.
س : في أي تاريخ أرسل الباشا الإخوان ليحموا العريش ؟ ج: في المدة من 6 2 ديسمبر إلى 0 3 ديسمبر 948 1 م؟
س، أمر حل الإخوان صدر في 8 ديسمبر وتقرر سعادتكم أنكم أرسلتم هؤلاء المتطوعين في 26 ديسمبر إلى 30 ديسمبر سنة 948 1 م فماذا كانت الروع المعنوية بعد أمر الحل ؟
ج: أنا جاوبت على كده وقلت إنهم قاتلوا ببسالة ولم يؤثر قرار الحل على روحهم المعنوية.
س، ما الدور الخطير الذي قام به المتطوعون في دير البلح ؟
ج: قلت إنهم قاتلوا قتالا مجيدا، وعندما رأيت الخطر في المعركة فاعتمادي عليهم جعلني أقدم المتطوعين من الإخوان لأنهم أحسن ما لدي من الجنود.
س: حين صدر أمر الحل للجماعة هل أخطرت به من القاهرة؟
ج: كل الناس عرفت ولم يكن هناك سبب لإخطار خاص، وأنا عرفت من الرئاسة بالتليفون ومن الجرائد.
س، ما الشروط الواجبة في رجل العصابات ؟
ج: يكون فدائيا وعلى بطولة كاملة وإلمام ببعض العمليات العسكرية كنسف الطرق ووضع الألغام في طرق العربات – مهاجمة –كمين... الخ.
س، هل زرتم معسكر الإخوان المسلمين بفلسطين ؟
ج: أنا أعطيتهم أسلحة لمقابلة العدو وذلك تكملة لسلاحهم.
ص، وكيف وقع اعتقالهم،
ج: وقع ذلك بأمر حكومي.
شهادة سعادة اللواء أحمد على المواوي بك قائد عام حملة فلسطين
س، عند دخول الجيوش النظامية أرفى فلسطين بقيادتكم ، هل كان يقاتل فيها متطوعون من الإخوان المسلمين ؟
ج: نعم لأنهم سبقوا بدخولهم القوات النظامية.
س: من كان من المتطوعين في معسكر البريج ؟
ج: كان فيه المتطوعون من الإخوان المسلمين.
س: هل استعان الجيش النظامي بالإخوان المسلمين ببعض العمليات الحزبية أثناء الحرب كطلاتع ودوريات وما إلى ذلك ؟
ج: نعم استعنا بالإخوان واستخدمناهم كقوة حقيقية تعمل على جانبنا الأيمن في الناحية الشرقية، وقد اشترك المتطوعون من الإخوان في كثير من المواقع أثناء الحرب في فلسطين، وبالطبع أننا ننتفع بمثل هؤلاء في مثل هذه الظروف.
س: ما مدى الروح المعنوية بين الإخوان المسلمين ؟
ج: الواقع أن كل المتطوعين من الإخوان وغيرهم كانت روحهم المعنوية قوية جدا، وقوية للغاية.
س: هل قام المتطوعون بعمليات نسف في صحراء النقب لطرق المواصلات وأنابيب المياه لفصل المستعمرات الصهيونية ؟
ج: نعم، وأذكر بالنسبة لروحهم المعنوية أنهم كانوا يطلبون دائما ألغاما للنسف وكانت في هذا الوقت الألغام متعذرة وأذكر أن هؤلاء الإخوان كانوا يقومون بدوريات ليلية يصلون فيها إلى النطاق الخارجي للمستعمرات اليهودية، وينزعون من تحت الأسلاك الشائكة الألغام التي يبثها اليهود وسط الأسلاك ويستعملونها في تلغيم الطرق الموصلة إلى المستعمرات اليهودية وقد نتج من جراء هذه الأعمال خسائر لليهود، وتقدم لي من جرائها مراقبو الهدنة يشتكون من هذه الأعمال التي كانت تعمل في وقت الهدنة.
س: وهل لم يكن عندكم الغام ؟
ج: معروف أن الجيش لم يكن عنده معدات كافية.
س: هل كلفتم المتطوعين بعمل عسكري لمي خاص عند مهاجمتكم العسلوج ؟
ج: نعم والعسلوج هذه بلد تقع على الطريق الشرقي واستولي عليها اليهود أول يوم هدنة، ولهذا البلد أهمية كبيرة جدا بالنسبة لخطوط المواصلات، وكانت رئاسة الجيش تهتم كل الاهتمام باسترجاع هذا البلد، حتى أن رئيس هيئة أركان حرب أرسل لي إشارة مهمة يقول فيها: لابد من استرجاع هذا البلد بالهجوم عليها من كلا الطرفين من الجانبين، فكلفت المرحوم أحمد عبدالعزيز بك بإرسال قوة من الشرق من المتطوعين وكانت صغيرة بقيادة ملازم، وأرسلت قوة كبيرة من الغرب تعاونها جميع الأسلحة، ولكن القوة الصغيرة هي التي تمكنت من دخول القرية والاستيلاء عليها. س: وكيف تغلبت القوة الصغيرة ؟
ج: القوة العربية كانت من الرديف وضعفت روحهم المعنوية، وبالرغم من وجود مدير العمليات الحربية فيها، إلا أن المسألة ليست مسألة ضباط، المسألة مسألة روح، إذا كانت الروح طيبة يمكن للضابط أن يعمل شيئا، لابد من ونجود روح معنوية. س: هل تعرف عدد المتطوعين من الإخوان ؟
ج: بلغ عدد المتطوعين من الإخوان عشرة آلاف.
س” هل تعلم أن متطوعين مصر معظمهم من الإخوان ؟
ج: أنا أعرف أن الإخوان كانوا أكثر من الفئات الأخرى .
س: والي أي تاريخ استمر دخول المتطوعين في فلسطين ؟
ج: أنم ا لم أظل في الجيش لغاية آخر الحرب، وإنما رجعت في نوفمبر سنة 1948 م، أنا أرجعت الليبيين لأنهم لم يكن لهم فائدة بالمرة.
س: هل كان للمتطوعين أسلحة خاصة أم كانوا يستوردون أسلحة من الجيش ؟
ج: كانوا يحضرونها بمعرفتهم وأثناء الحرب كنت أعطيهم بعض الأسلحة والذخيرة كانت تنتهي فكنت أمولهم بالذخيرة، وأذكر أن طلب مني قائد غزة أن أعطيهم مدفع هاون فأمرت بإعطائهم.
س: ، بعد15 مايو إلى نوفمبر ألم يدخل متطوعون جدد ؟
ج: أذكر لما ابتدأت أتقدم للشمال كان فيه الكتيبة السابعة وأنا سحبت هذه الكتيبة وحل محلها متطوعون في العريش، وكان ذلك بعد15 مايو.
س: هل كان من الجائز أن ترد أسلحة إلى المتطوعين من غير طريق سلاح الحدود أو العريش،
،ج:لا.. غير ممكن.
س: ألا يذكر حضرة الشاهد أنواع الأسلحة التي يستعملها الفدائيون المتطوعون ؟
ج: البندقية والرشاشات والهاونات.
انتهي التحقيق
الإخوان ومقاومة الاحتلال
هذا وقد قام الإخوان المسلمون ضد الإنجليز في مصر واليهود بمئات العمليات في قلب القاهرة وفي القنال، ومنها:
ا -تعطيل سفينة يهودية محملة بالسلاح إلى اليهود في فلسطين بتفجيرها في ميناء بورسعيد في يوم من أيام 947 ا م.
2 - إلقاء القنابل على الإنجليز في البارات وأماكن سكرهم وعربدتهم.
3 - حادث النادي الإنجليزي.
4 - حادث القطار الإنجليزي.
5 - حادث فندق الملك جورج، قذف مئات من سيارات الإنجليز بالقنابل.
6 - نسف مخزن الذخيرة الإنجليزي بأبي سلطان.
7 - تدمير أنابيب المياه وقطع أسلاك التليفونات، واصطياد الأطقم ا لإنجليزية التي تأتي للإصلاح في المعسكرات الإنجليزية.
8 -نسف قطار بريطاني في منطقة القنطرة.
9 - معارك كتيبة الجامعة بمنطقة القرين مع الإنجليز.
10 - معركة التل الكبير واستشهاد عمر شاهين، وأحمد المنيس من طلبة الجامعة في المعركة.
11 - مهاجمة مطارات ا لإنجليز في الديفرسوار، ومطار كسفريت، وإحراق مخازن البترول في عتاقة.
12 - محاولة اغتيال البريجادير إكسهام من كبار القادة الإنجليز في الإسماعيلية.
13 - كمائن لإحدى الدوريات البريطانية.
هذا عدا المئات من العمليات الحربية ضد الإنجليز وقتل جنودهم، ونسف قطاراتهم الحربية، حتى ضج المستعمرون، وتأكدوا أن لا بقاء لهم في مصر وعزموا على الرحيل. هذه الأعمال وغيرها كان يقوم بها رجال المقاومة المسلحة السرية التي كانت معدة لذلك، واستطاعوا بشهادة الجميع أن يفعلوا الكثير الكثير.
هل يفهم هؤلاء الذين لا يعرفون ولا يقرؤون أن لكل مقام مقال ؟ولكل ميدان عدة، وميدان السلم غير ميدان السلم ، وفى كل هذا نجد أن حديث الرسول (صلي الله علية وسلم) يرود الجميع بقوله:”استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان” خاصة إذا كان هناك أعداء متربصون ولا يرحمون.
الشبهة العشرون: التعاون على الخير
بعد دخول المسلمين في فترة الوهن والضعف والشقاق، ونسيانهم لاخوتهم واتحادهم، استبد بهم التعصب لآراء ومذاهب معينة زادت من ضعفهم وأكثرت من فرقتهم، فأحزن ذلك كثيرا من المخلصين وحفز هذا جملة من العلماء الفاقهين فعمدوا إلى استحداث قواعد تصبح دستورا للعاملين في الحقل الإسلامي تنظم خطوهم وتلم شعثهم فكان أن وضع العلامة الشيخ محمد رشيد رضا القاعدة الذهبية المعروفة:”نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”، ومقصود هذه القاعدة أن يتفق الناس ويتعاونوا في العمل على الأصول الإسلامية التي لا يختلف عليها أحد، وأما الفروع المعتمدة عند كل إمام من الأئمة فلا داعي للخلاف حولها حتى لا تتفرق الأمة وتتقطع، وهذه القاعدة يعززها إجماع جمهور العلماء على أنه لا يجوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ما اختلف فيه بين الأئمة، وقد قال الشيخ البنا -رحمه الله - بهده القاعدة، ولكن بعض الذين لا يقرأون ولا يعرفون يعيبون على العلماء جهدهم ورغبتهم في جمع شمل الأمة، ويدعون أن هذا يعد تساهلا مع المخلفين.. الخ.
والشيخ البنا - رحمه الله - يوضح الصلة بين جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات الإسلامية فيقول تحت عنوان:
نحن والهيئات الإسلامية
يقول الشيخ البنا: وأما موقفنا من الهيئات الإسلامية جميعا على اختلاف نزعاتها، فموقف حب وإخاء وتعاون وولاء، نحبها ونعاونها: (ونحاول جاهدين أن نقرب بين وجهات النظر ونوفق بين مختلف الفكر توفيقا ينتصر به الحق في ظل التعاون والحب، ولا يباعد بيننا وبينها رأي فقهي أو خلاف مذهبي) ، فدين الله يسر، ولن يشاد الدين أحدا إلا غلبه، ولقد وفقنا الله إلي خطة مثل، إذ نتحرى الحق في أسلوب لين
يستهوي القلوب وتطمئن إليه العقول، ونعتقد أنه سيأتي اليوم الذي تزول فيه الأسماء والألقاب والفوارق الشكلية والحواجز النظرية، وتحل محلها وحدة عملية تجمع صفوف الكتيبة المحمدية، حيث لا يكون هناك إلا إخوان مسلمون، للدين عاملون، وفي سبيلي الله مجاهدون:” ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون * (المائدة: 56).
ثم يقول في مكان آخر: والإخوان المسلمون يرون هذه الهيئات على اختلاف ميادينها تعمل لنصرة الإسلام، وهم يتمنون لها جميعا النجاح، ولم يفتهم أن يجعلوا من مناهجهم التقرب منها والعمل على جمعها وتوحيدها حول الفكرة العامة، وقد تقرر هذا في المؤتمر الدوري الرابع للإخوان بالمنصورة وأسيوط في العام الفائت، وأبشركم بأن مكتب الإرشاد حين أخذ يعمل على تنفيذ هذا القرار، وجد روحا طيبة من كل الهيئات التي اتصل بها وتحدث إليها، مما يبشر بنجاح السعي مع الزمن إن شاء الله سبحانه وتعالي.
الإخوان والشبان
ثم يضرب مثالا بالعلاقة مع الشبان المسلمين فيقول:
كثيرا ما يرد على أذهان الناس هذا السؤال: ما الفرق بين جماعة الإخوان وجماعة الشبان؟ لاذا لا تكونان هيئة واحدة تعملان على منهاج واحد؟
وأحب قبل الجواب عن هذا السؤال: أن أؤكد للذين يسرهم وحدة الجهود وتعاون العاملين أن الإخوان والشبان، وبخاصة هنا في القاهرة، لا يشعرون بأنهم في ميدان مناقشة، ولكن في ميدان تعاون قوي وثيق، وأن كثيرا من القضايا الإسلامية العامة يظهر فيها الإخوان والشبان شيئا واحدا وجماعة واحدة، ( إذ إن الغاية العامة مشتركة، وهي العمل لما فيه إعزاز الإسلام وإسعاد المسلمين، وإنما تقع فروق يسيرة في أسلوب الدعوة، وفي خطة القائمين بها، وتوجيه جهودهم في كلتا الجماعتين، وإن الوقت الذي ستظهر فيها الجماعات الإسلامية كلها جبهة موحدة غير بعيد على ما أعتقد والزمن كفيل بتحقيق ذلك إن شاء الله).
وعلى هذا فالإمام البنا يريد تفادي المنازعات لا على حساب العقيدة أو الأصول كما يدعون، ولكن في الفروع وفي خطط العمل ووسائل وميادينه، كما لا منازعة في أن التعدد إذا خلا من الخصومات وتجرد من المنازعات، كان تعدد تنوع وتخصص، بأن اتفقت هذه الجماعات فيما بينها أن تتكافل في أداء فروض الكفايات، فهذه كتجبة تعمل على المحافظة على السنة تخريجا وتحقيقا، وتسهر على بجانبها للناس درسا وتصنيفا.
وهذه كتيبة تهتم بتصحيح عقائد الأمة ومحاربة البدع والخرافات، وهذه كتيبة تحيي في الأمة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحثها على القيام بها، وتعطي لها في ذلك المثل والقدوة. وهذه كتيبة تعمل على إحياء فريضة الجهاد وتحث الأمة عليها، وتقدم لها أمثلة في الفداء والتضحية، وهذه كتيبة تعمل على مقارعة المبطلين من الحكام وجبابرة السياسة، ولسعي إلى أن ينفذ صوت الإسلام إلي هذه المواقع، وأن تنتزع منها ما يمكن انتزاعه لمصلحة الأمة.
وهذه كتيبة تسعي إلي دعوة العوام وإخراجهم من بيئة الغفلة إلى بيئة التذكر، ومن بيئة المعصية إلي بيئة الطاعاة ونحوه.
وهذه كتيبة تعمل في مجال بحوث تطبيق الشريعة واعداد النماذج والصياغات العملية القابلة للتطبيق في واقعنا المعاصر، لو كان الأمر على هذا النحو وتم الاتفاق بين هذه الجماعات على ذلك، وقسموا العمل فيما بينهم على هذا النحو، وكفوا ألسنتهم عن التقاذف فيما بينهم بالتهم والمناكر، وجمعتهم المجالس للتنسيق والتعاون وتبادل الرأي، وجددوا مفهوم الأمة في العمل الإسلامي، ودعوا إلى نبذ التعصب والتحزب الجاهلي الذي يربط الولاء بالأشخاص لا بالمبادئ والعقيدة المتعلقة في الكتاب والسنة، كان هذا التنوع خيرا للمسلمين والإسلام.
إذن فلا مجال للخوض في القاعدة التي تدعو إلي التآلف على الخير والاتفاق على الأصول الإسلامية المجمع عليها بين الأئمة، وأما الفروع وأساليب الدعوة، والخطط والوسائل، فهذا شيء يمكن الاتفاق عليه، أو إفساح المجال فيه للاجتهاد بالضوابط السر عيه المعروفة، حتى لا تكون فتنة.
ولم يضع السيد رشيد هذه القاعدة من فراغ، بل الذي يظهر للمتأمل أنه إنما استنبطها من هداية الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، وإملاء الواقع وظروفه وضروراته، وحاجة الأمة الإسلامية إلى التلاحم والتساند في مواجهة أعدائهم الكثيرين، الذين يختلفون فيما بينهم على أمور كثيرة، ونكنهم يتفقون على المسلمين، وهو ما حذر منه القرآن أبلغ التحذير: أن يوالي أهل الكفر بعضهم بعضا، ولا يوالي أهل الإسلام بعضهم بعضا، يقول تعالى :” والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير” (الأنفال: 73).
ومعني”إلا تفعلوه” أي إن لم يوال بعضكم بعضا ويساند بعضكم بعضا كما يفعل أهل الكفر في جانبهم، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، لوجود التماسك والتلاحم والموالاة نجين الكفار، في مقابلة التفرق والتخاذل بين المسلمين.
فلا يسع أي مصلح إسلامي إلا أن يدعو أمة الإسلام إلى الاتحاد والتعاون، في مواجهة القوي المعادية لهم، المتعاونة عليهم، وهي قوي عاتية جبارة، وأن ينسوا خلافاتهم الجزئية، من أجل القضايا المصيرية، والأهداف الكلية.
وهل يملك عالم مسلم يري تعاون اليهودية العالمية، والصليبية الغربية، والشيوعية الدولية، والوثنية الشرقية، خارج العالم ا لإسلامي - إلى جوا ر الفرق التي انشقت عن الأمة ومرقت عن الإسلام داخل العالم الإسلامي -إلا أن يدعوا أهل القبلة الذين التقوا على الحد الأدنى من الإسلام، ليقفوا صفا واحدا في وجه هذه القوي الجهنمية التي تملك السيف والذهب، وتملك قبلهما المكر والدهاء والتخطيط، لتدمير هذه الأمة ماديا ومعنويا، ولهذا رحب المصلحون بهذه القاعدة، وحرصوا على تطبيقها بالفعل، وأبرز من رأيناه احتفل بها الإمام الشهيد حسن البنا، حتى ظن كثير من الإخوان (وغيرهم) أنه هو واضعها.
والمقصود بعد هذا كله أن نقول: إن من خالفنا في نص قطعي الثبوت والدلالة لا يستحق منا أن نعذره بحال، لأن القطعيات لا مجال فيها للاجتهاد، وإنما مجاله الظنيات، وفتح باب الاجتهاد في القطعيات، إنما هو فتح لباب شر وفتنة على الأمة لا يعلم عواقبها إلا الله تعالى ، لأن القطعيات هي التي يرد إليها التنازع، وهي التي تحكم عند الاختلاف، فإذا أصبحت هي موضع تنازع واختلاف، لم يبق في أيدينا شيء نحتكم إليه ونعول عليه !. وقد نبهنا كثيرا إلى أن من أشد الفتن والمؤامرات الفكرية خطرا على حياتنا الدينية والثقافية، تحويل القطعيات إلى ظنيات، والمحكمات إلف متشابهات.
بل قد تكون المخالفة في بعض القطعيات من الكفر البواح، وذلك ما بلغ منها المرتبة التي يسميها علماؤنا”المعلوم من الدين بالضرورة"، وهو ما اتفقت الأمة على حكمه، وتساوي في معرفته الخاص والعام، مثل فرضية الزكاة والصيام، وحرمة الربا وشرب الخمر، ونحوها من ضروريات دين ا لإسلام.
أما من خالفنا في نص ظني لسبب من الأسباب التي ذكرناها أو ما شابهها مما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه”رفع الملام عن الأئمة الأعلام”، وقد ذكر فيه عشرة أسباب أو أعذار، تجعل الإمام من الأئمة لا يأخذ بنص أو بحديث معين، وهذا من عظيم فقهه وإنصافه رضي الله عنه، فهدا نعذره وإن لم نوافقه على رأيه . وعلى هذا الرأي علماء الأمة، وقد أورد الإمام القاسمي -رحمه الله -عند شرحه لآية:” واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (ال عمران: 03 ا)، أقول العلماء في وجوب الاتحاد، كما حذر من الفرقة في الصف الإسلامي، وإليك ذلك عند قوله تعالي:” ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم 9 (ال عمران: 105).
ينهي تعالي عباده أن يكون كاليهود والنصارى في افتراقهم مذاهب، واختلافهم عن الحق بسبب اتباع الهوي، وطاعة النفس، والحسد، حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضا دون بعض، ويدعو إلى ما ابتدعه في دينه، فصاروا إلى العداوة والفرقة من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة المبينة للحق، الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة، وهي كلمة الحق، فالنهي متوجه إلي المتصدين للدعوة أصالة، وإلى أعقابهم تبعا، وفي قولة تعالي:”وأولئك لهم عذاب عظيم" * من التأكيد والمبالغة في وعيد المتفرقين، والتشديد في تهديد المشبهين بهم، ما لا يخفي .
تنبيهات
الأول: ذكر الفخر الرازي من وجوه قوله تعالي:” اختلفوا" أي بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق، وأن صاحبه على الباطل، ثم قال: وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة، فنسأل الله العفو والرحمة - انتهي كلامه - وقوله (هذا الزمان) إشارة إلي أن هذا الحال لم يكن في علماء السلف، ومازالوا يختلفون في الفروع وفي الفتاوى بحسب ما قام لديهم من الدليل، وما أداه إليه اجتهادهم، ولم يضلل بعضهم بعضا، ولم يدع أحدهم أنه على الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، وأن مخالفه علن خطأ لا يحتمل الصواب، وإنما نشأ هذا من جمود المقلدة المتأخرين وتعصبهم وظنهم عصمة مذهبهم، فإن لله وإن إليه راجعون، وقد تفرق أصحاب رسول الله (صلي الله علية وسلم) في البلاد، وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين، وهم على وحدتهم وتناصرهم.
ثا نيا: قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، قدس سره، في أول كتابه:”رفع الملام عن الأئمة الأعلام”: وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين، عند الأمة قبولا عاما يعتقد مخالفة رسول الله (صلي الله علية وسلم) في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا الرسول (صلي الله علية ولم) . ولكن إذا وجد لواحد منهم قول، قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلابد له من عذر في تركه، وجماع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي (صلي الله علية ولم) قاله.
الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلي أسباب متعددة -ثم أوسع المقال في ذلك -. وذكر قدس سره، في بعض فتاويه، أن السلف والأئمة الأربعة والجمهور يقولون: الأدلة بعضها أقوي من بعض في نفس الأمر، وعلى الإنسان أن يجتهد ويطلب الأقوى، فإذا رأي دليلا أقوي من غيره، ولم ير ما يعارضه، عمل به، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئا معذورا، وله أجر على اجتهاده وعمله بما بين له رجحانه، وخطوة مغفور له، وذلك الباطن هو الحكم، لكن بشرط القدرة على معرفته، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه، فإذا أريد بالخطأ الإثم، فليس المجتهد بمخطئ، بل كل مجتهد مصيب، مطيع لله، فاعل ما أمره الله به، وإذا أريد به عدم العلم بالحق في نفس الأمر، فالمصيب واحد، وله أجران، كما في المجتهدين في جهة الكعبة، إذا صلوا إلن أربع جهات، فالذي أصاب الكعبة واحد، وله أجران لاجتهاده وعمله كان أكمل من غيره، والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ومن زاده الله علما وعملا زاده الله أجرا بما زاده من العلم والعمل، قال تعالى :” وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم علي قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم” * (الأنعام: 83)، قال مالك عن زيد بن أسلم: بالعلم، وكذلك قال في قصة يوسف:” ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات ما نشاء وفوق كل ذي علم عليم” (يوسف: 76).
وقد تبين بذلك أن جميع المجتهدين إنما قالوا بعلم، واتبعوا العلم، وأن الفقه من أجل العلوم، وأنهم لجسوا من الذين لا يتبعون إلا الظن، لكن بعضهم قد يكون عنده عالم ليس عند الآخر، إما بأن سمع ما لم يسمع الاخر، وإما بأن فهم ما لم يفهم الأخر، كما قال تعالى :” وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفثت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكما وعلما” (الأنبياء: 78، 9 7)
وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال في الأصول والفروع. ثم قال: وإذا تدبر الإنسان تنازع الناس وجد عند كل طائفة من العلم ما ليس عند الأخرى ، كما في مسائل الأحكام. ولم يستوعب الحق إلا من اتبع المهاجرين والأنصار، وآمن بما جاء به الرسول كله على وجهه، وهؤلاء هم أهل المرحمة الذين لا يختلفون – انتهي.
فعلم أن اختلاف الصحابة والتابعين والمجتهدين في الفروع ليس مما تشمله الآية، فإن المراد منها الاختلاف عن الحق، بعد وضوحه، برفضه، وشتان ما بين الاختلافين. ثم على طالب الحق أن يستعمل نظره فيما يؤثر من هذه الخلافيات، فما وجده أقوي دليلا أخذ به، وإلا تركه، وحينئذ يكون ممن قال الله تعالى فيهم:” فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) (الزمر: 17، و 18) ، وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه، فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة-رضي الله عنها -أن رسول الله (صلي الله علية وسلم) كان يقول -إذا قام يصلي من الليل - اللهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلي صراط مستقيم، فإن الله تعالى قال فيما رواه عنه رسول الله (صلي الله علية وسلم):”يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم” انتهي.
ولهذا فإن الاختلاف في الفروع لا يسبب لوما ولا تفسيقا ولا تبديعا وهو دأب العلماء الذين اختلفوا، ومازالوا، ولكنه ينبغي الإرشاد بالدليل إذا كان هناك رأي أقوي من رأي ولا يجوز التقاطع، لأن جمع كلمة الأمة والتعاون على الخير فيما بينها، والاتفاق في الأصول والقضايا التي تهم الأمة أكثر مما يحصيه العادون، فيجب على الأمة وعلى الناشطين في الدعوة إلى الإسلام، أن يجمعوا ولا يفرقوا، وأن يرشدوا إلي الصواب بالحكمة والموعظة الحسنة، خاصة في زمان تفرقت فيه الأمة وذهب ريحها فلا يأت آخرون بزيادة الطين بلة وليتقوا الله في الأمة، وليتلطفوا في إرشاد الناس، فهذا هو طريق الأنبياء والمصلحين.
الشبهة الحادية والعشرون: الإمام البنا والخلافات الفقهية
عاصر الإمام البنا -رحمه الله - تعصبا مذهبيا مقيتا، كاد يقضي على وحدة الأمة حتى كانت تقام في المسجد الواحد عدة جماعات لكل مذهب جماعته !
فماذا فعل الإمام البنا رحمه الله ؟
أولا: لقد آثر أن يبتعد عنها جميعا، وأن يخرج بإخوانه خارج هذه القوقعة التي لن تقدم ولن تؤخر ولن تقدم حلولا عملية تنهض بالأمة من كبوتها، إلى جانب أنه أشار على فضيلة الشيخ سيد سابق –رحمه الله –بإخراج كتاب يعتمد على الدليل من الكتاب والسنة، فأصدر كتابه المشهور”فقه السنة".
ثانيا: أنه أصل نظرته في هذه القضية في عدة رسائل منها:
رسالة التعاليم
حيث يقول:
أ - الأصل السابع:”ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين، ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متي صح عنده صلاح من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نفعه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر".
ويلاحظ أنه -رحمه الله - قال:”لكل مسلم”، واللام للتخيير ولم يقل على كل مسلم، وقوله:”يتبع إماما" فهو اتباع فيما أنزل الله وليس فيما يخالف أمر الله، كما يدعي البعض، ثم إن تركنا هؤلاء الأئمة فسوف نتبع غيرهم أيضا، لأننا لسنا من أهل الاجتهاد.
ب -الأصل الثامن:”والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله، والتعاون على الوصول إلف الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلي المراء المذموم والتعصب” انتهي.
رسالة دعوتنا
حيث بين أن دعوة الإخوان مع الحق أينما كان، فهو رائدها وهي تنادي الأمة إلى التجمع على هذا الحق ففيه صلاحها، وتبتعد عن التفرق ففيه ضياعها، فيقول رحمه الله:
أتحدث إليك الآن عن دعوتنا أمام الخلافات الدينية والآراء المذهبية:
تجمع ولا تفرق
فاعلم - فقهك الله -أولا أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلن طائفة خاصة، ولا تنحاز إلى رأي عرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة، وهي تتوجه إلى صميم الدين ولبه، ونود أن تتوحد وجهة ا لأنظار والهمم حتى يكون العمل أجدي، والإنتاج أعظم وأكبر.. فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملونة، وهي مع الحق أينما كان، تحب الإجماع، وتكره الشذوذ، وإن أعظم ما مني به المسلمون الفرقة والخلاف، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، هذه قاعدة أساسية وهدف معلوم لكل أخ مسلم، وعقيدة راسخة في نفوسنا، نصدر عنها وندعو إليها.
ثم بين رحمه الله أن الخلاف الفقهي في الفروع أمر ضروري، مبينا أسبابه فقال:
الخلاف ضروري
ونحن مع هذا نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لابد منه ضرورة، ولا يمكن أن نتحد في هذه الفروع والآراء والمذاهب لأسباب عدة:
1 - منها اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعف وإدراك الدلائل والجهل بها، والغوص على أعماق المعاني، وارتباط الحقائق بعضها ببعض، والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والناس - في ذلك -جد متفاوتون فلابد من خلاف.
2 - ومنها سعة العلم وضيقه، وأن هذا بلغه ما لم يبلغ ذاك والأخر شأنه كذلك، وقد قال مالك لأبي جعفر: إن أصحاب رسول الله جم!ؤ تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رائي واحد تكون فتنة.
3- ومنها اختلاف البيئات حتى إن التطبيق ليختلف في كل بيئة، وإنك لترئ الإمام الشافعي رضي الله عنه يفتي بالقديم في العراق ويفتي بالجديد في مصر، وهو في كليهما آخذ بما استبان له وما اتضح عنده ولا يعدو أن يتحرى الحق في كليهما.
4 - ومنها اختلاف الاطمئنان القلبي إلي الرواية عند التلقي لها، فبينا نجد هذا الراوي ثقة عند هذا الإمام تطمئن إليه نفسك وتطيب بالأخذ عنه، تراه مجروحا عند غيره لما علم عن حاله.
5 - ومنها اختلاف تقدير الدلالات فهذا يعتبر عمل الناس مقدما على خبر الآحاد مثلا وذاك لا يقول معه به وهكذا. ولذلك يقول:
الإجماع على أمر فرعى متعذر
كل هذه أسباب جعلتنا نعتقد أن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور، ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن لين لا جمود فيه ولا تشديد والسؤال الآن، هل هناك فرق في ما قرره الإمام البنا هنا وما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام
ثم بين الإمام البنا -رحمه الله -أن الخلاف في الفرعيات الفقهية لا يكون سببا في التفرق والتحزب والتنافر، فقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم والأئمة الأعلام ولم تختلف قلوبهم. ثم بين موقف الإخوان مع مخالفيهم في هذا الرأي فقال:
نعتذر لمخالفينا
نعتقد هذا فنلتمس العذر كل العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونري أن هذا الخلاف لا يكون أبدا حائلا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معني الإسلام السابغ بأفضل حدوده وأوسع مشتملاته، وألسنا مسلمين وهم كذلك ؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك ؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن ؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالا للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو للتفاهم ؟
هؤلاء أصحاب رسول الله (صلي الله علية وسلم) كان يخالف بعضهم بعضا في الإفتاء، فهل أوقع ذلك اختلافا بينهم في قلوبهم ؟ وهل فرق وحدتهم أو فرق رابطتهم ؟ اللهم لا، وما حديث صلاة العصر في قريظة ببعيد.
وإذا كان هؤلاء قد اختلفوا وهم أقرب الناس عهدا بالنبوة وأعرفهم بقرائن الأحكام، فما بالنا نتناحر في خلافات لا خطر لها؟ وإذا كان الأئمة وهم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله قد اختلف بعضهم مع بعض، وناظر بعضهم بعضا، فلم لا يسعنا ما وسعهم ؟ وإذا كان الخلاف قد وقع في أشهر المسائل الفرعية وأوضحها، كالأذان الذي ينادي به خمس مرات في اليوم الواحد، ووردت به النصوص والآثار، فما بالك في دقائق المسائل التي مرجعها إلى الرأي والاستنباط.
وثم أمر آخر جدير بالنظر، إن الناس كانوا إذا اختلفوا رجعوا إلى (الخليفة) وشرطه الإمامة، فيقضي بينهم ويرفع حكمه الخلاف، أما الآن فأين الخليفة؟ وإذا كان الأمر كذلك فأول بالمسلمين أن يبحثوا عن القاضي ثم يعرضوا قضيتهم عليه، فإن اختلافهم من غير مرجع لا يردهم إلا إلى خلاف آخر.
يعلم الإخوان المسلمون كل هذه الحيثيات، فهم لهذا أوسع الناس صدرا مع مخالفيهم، ويرون أن مع كل قوم علما، وفي كل دعوة حقا وباطلا، فهم يتحرون الحق ويأخذون به ويحاولون في هوادة ورفق إقناع المخالفين بوجهة نظرهم، فإن اقتنعوا فذاك، وإن لم يقتنعوا فإخوان في الدين نسأل الله لنا ولهم الهداية. ذلك منهاج الإخوان المسلمين أمام مخالفيهم في المسائل الفرعية في دين الله، يمكن أن أجمله لك في أن الإخوان يجيزون الخلاف ويكرهون التعصب للرأي، ويحاولون الوصول إلي الحق، ويحملون الناس على ذلك بألطف وسائل اللين والحب.
رسالة المؤتمر الخامس
أما في رسالة المؤتمر الخامس فيقول مبينا بعض خصائص دعوة الإخوان: 1- البعد عن مواطن الخلاف:
فأما البعد عن مواطن الخلاف الفقهي فلأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف في الفرعيات أمر ضروري لابد منه، إذ إن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصورها العقول والأفهام، لهذا كان الخلاف واقعا بين الصحابة أنفسهم، ومازال كذلك وسيظل إلى يوم القيامة، وما أحكم الإمام مالك رضي الله عنه حين قال لأبي جعفر وقد أراد أن يحمل الناس على الموطأ:”إن أصحاب رسول الله (صلي الله علية وسلم) تفرقوا في الأمصار، وعند كل قوع علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة"، وليس العيب في الخلاف، ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر على عقول الناس وآرائهم.. هذه النظرة إلي الأمور الخلافية جمعت القلوب المتفرقة على الفكرة الواحدة، وحسب الناس أن يجتمعوا على ما يصير به المسلم مسلما كما قال زيد رضي الله عنه، وكانت هذه النظرة ضرورية لجماعة تريد أن تنتشر فكرة في بلد لم تهدأ بعد فيه ثائرة الخلاف على أمور لا معني للجدل ولا للخلاف فيها.
وبعد كلام الإمام البنا -رحمه الله -يحسن بنا أن نشير إلى بعض الأحكام الفقهية وأقوال العلماء في المسألة حتى نكون على بينة من الأمر.
حقيقة الاختلاف وأنواعه
ا. يجب على المجتهد تحقيق موضع الاختلاف، فإن نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها خطأ، كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح ، فليس كل تعارض بين قولين يعتبر اختلافا حقيقيا بينهما، فإن الاختلاف إما أن يكون اختلافا في العبارة، أو اختلاف تنوع، أو اختلاف تضاد، وهذا الأخير هو الاختلاف الحقيقي.
2 - أما الاختلاف في العبارة فأن يعبر كل من المختلفين عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، مثال ذلك تفسير الصراط المستقيم، قال بعضهم: هو القران، وقال بعضهم هو الإسلام، فهذان القولان متفقان لأن دين الإسلام هو اتباع القران الكريم. وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة.
3. وأما اختلاف التنوع، فأن يذكر كل من المختلفين من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثال ذلك تفسير قوله تعالى :” فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات”(فاطر: 32)، قال بعضهم: السابق الذي يصلي أول الوقت، والمقتصد في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلي الاصفرار، وقيل: السابق المحسن بالصدقة، والمقتصد بالبيع، والظالم بأكل الربا.
واختلاف التنوع في الأحكام الشرعية قد يكون في الوجوب تارة وفي الاستحباب أخرى:
فالأول: مثل أن يجب على قوم الجهاد، وعلى قوم الصدقة، وعلى قوم تعليم العلم، وهذا يقع في فروض الأعيان كما مثل، وفي فروض الكفايات، ولها تنوع يخصها، وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره: فقد تتعين في وقت، أو مكان، وعلى شخص أو طائفة كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهات والفتيا والقضاء.
قال ابن تيمية: وكذلك كل تنوع في الواجبات يقع مثله في المستحبات.
4. وقد نظر الشاطبي في المسألة، وحصر الخلاف غير الحقيقي في عشرة أنواع: منها: ما تقدم من الاختلاف في العبارة.
ومنها: ألا يتوارد الخلاف على محل واحد.
ومنها: اختلاف أقوال الإمام الواحد، بناء على تغير الاجتهاد، والرجوع عما أفتي به أولا.
ومنها: أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، بأن يكون كل من العملين جائزا، كاختلاف القراء في وجوه القراءات، فإنهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكار غيره، بل على إجازته والإقرار بصحته، فهذا ليس في الحقيقة باختلاف، فإن المرويات على الصحة لا خلاف فيها، إذ الكل متواتر.
وهذه الأنواع السابقة تقع في تفسير القران، وفي اختلافهم في شرح السنة، وكذلك في فتاوى الأئمة وكلامهم في مسائل العلم، وهي أنواع - وإن سميت خلافا - إلا أنها ترجع إلى الوفاق.
الحكم التكليفي للاختلاف بحسب أنواعه:
أمور الدين التي يمكن أن يقع فيها الخلاف إما أصول الدين أو فروعه، وكل منهما إما أن يثبت بالأدلة القاطعة أولا، فهي أربعة أنواع:
النوع الأول: أصول الدين التي تثبت با لأدلة القاطعة، كوجود الله تعالى ووحدانيته، وملائكته، وكتبه، ورسالة محمد (صلي الله علية وسلم)، والبعث بعد الموت ونحو ذلك، فهذه أمور لا مجال فيها للاختلاف، من أصاب الحق فيها فهو مصيب، ومن أخطأه فهو كافر.
النوع الثاني: بعض مسائل أصول الدين مثل مسألة رؤية الله في الآخرة، وخلق القرآن، وخروج الموحدين من النار، ويشابه ذلك، فقيل يكفر المخالف، ومن القائلين بذلك الشافعي، فمن أصحابه من حمله على ظاهره، ومنهم من حمله على كفران النعم
وشرط عدم التكفير أن يكون المخالف مصدقا بما جاء به الرسول (صلي الله علية وسلم)، والتكذيب المكفر أن ينفي وجود ما أخبر به الرسول، ويزعم أن ما قاله كذب محض أراد به صرف الناس عن شيء يريده، كذا قال الغزالي.
النوع الثالث: الفروع المعلومة من الدين بالضرورة كفرضية الصلوات الخمس، وحرمة الزنى، فهذا ليس موضعا للخلاف، ومن خالف فيه فقد كفر.
النوع الرابع: الفروع ا لاجتهادية التي قد تخفي أدلتها، فهذه الخلاف فيها واقع في الأمة. ويعذر المخالف فيها، لخفاء الأدلة أو تعارضها، أو الاختلاف في ثبوتها، وهذا النوع هو المراد في كلام الفقهاء، إذ قالوا: في المسألة خلاف، وهو موضوع هذا البحث على أنه الخلاف المعتد به في الأمور الفقهية.
فأما إن كان في المسألة دليل صحيح صريح لم يطلع عليه المجتهد فخالفه، فإنه معذور بعد بذل الجهد، ويعذر أتباعه في ترك رأيه أخذا بالدليل الصحيح الذي تبين أنه لم يطلع عليه.
فهذا النوع لا يصح اعتماده خلافا في المسائل الشرعية، لأنها اجتهاد لم يصادف محلا، وإنما يعد في مسائل الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة.
أدلة جواز الاختلاف في المسائل الفرعية
أولا: ما وقع من الصحابة في غزوة بني قريظة: روي البخاري عن ابن عمر قال: ( قال النبي (صلي الله علية وسلم) يوم الأحزاب:”لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي (صلي الله علية وسلم) فلم يعنف أحدا منهم).
ثانيا: اتفاق الصحابة في مسائل تنازعوا فجها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والنكاح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك.
الاختلاف فيما لا فائدة فيه
قال ابن تيمية: قد يقع الاختلاف في ألفاظ من تفسير القرآن بما لا مستند له من النقل عن الرسول ( صلي الله علية وسلم) ، أو بنقل لا يمكن تمييز الصحيح منه من الضعيف، ودون استدلال مستقيم، وهذا النوع من الاختلاف لا فائدة من البحث عنه، والكلام فيه من فضول الكلام، وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته فإن الله نصب على الحق فيه دليلا.
فمثال ما لا فائدة فيه اختلافهم في أصحاب الكهف، وفي البعض الذي ضرب به موسى من البقرة، ومقدار سفينة نوح، ونحو ذلك، فهذه الأمور طريق العلم بها النقل، فما كان من هذا منقولا نقلا صحيحا، كاسم صاحب موسئ أنه الخضر، فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك بل كان مما ينقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب، فهذا لايجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة.
الاختلاف الجائز هل هو نوع من الوفاق ؟
يري الشاطبي أن ما يعتد به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلن الوفاق، فإن الاختلاف في بعض المسائل الفقهية راجع إما إلى دورانها بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإما إلى خفاء بعض الأدلة، أو إلي عدم الاطلاع على الدليل.
وهذا الثاني ليس في الحقيقة خلافا، إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله، فلذا ينقض لأجله قضاء القاضي.
أما الأول فإن تردده بين الطرفين تحر لقصد الشارع المبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين، واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده، وقد توافقوا في هذين القصدين توافقا لو ظهر معه لكل واحد منهما خلاف ما رواه لرجع إليه، ولوافق صاحبه، وسواء قلنا بالتخطئة أو بالتصويب، إذ لا يصح للمجتهد أن يعمل على قول غيره، وان كان مصيبا أيضا. فالإصابة على قول المصوبة إضافة، فرجع القولان إلف قول واحد بهذا الاعتبار، فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون، ومن هنا يظهر وجه التحاب والتالف بين المختلفين في مسائا، الاجتهاد، لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فلم يصيروا شيعا، ولا تفرقوا فرقا.
هذا وقد سلك الشعراني مسلكا آخر في إرجاع مسائل الخلاف إلي الوفاق، بأن يحمل كل قول من أقوال المختلفين على حال من أحوال المكلفين فمن قال من الأئمة: إن الأمر في باب من أبواب العبادة للوجوب، وخالفه غيره فقال بأنه المندوب، وكذلك اختلافهم في النهي بأنه للكراهة أو للتحريم، فلكل من المرتبتين رجال، فمن قوي منهم من حيث إيمانه وجسمه خوطب بالعزيمة والتشديد الوارد في الشريعة صريحا أو ضمنا، ومن ضعف منهم خوطب بم الرخصة، فالمرتبتان عنده على الترتيب الوجوبي لا التخيير.
الاختلاف الفقهي هل هو رحمة ؟
المشهور أن اختلاف مجتهدى الأمة في الفروع رحمة لها واسعة. والذين صرحوا بذلك احتجوا بما رواه ابن عباس مرفوعا”مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه. فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي. أن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة". وفي الحديث أيضا:”وجعل اختلاف أمتي رحمة وكان فيمن كان قبلنا عذابا".
واستأنسوا لذلك بما روي عن بعض التابعين من مثل قول القاسم بن محمد: لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله (صلي الله علية وسلم) في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة، ورأي أن خيرا منه قد عمله.
وعن عمر بن عبدالعزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا، لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدي بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة.
وعن يحيي بن سعيد أنه قال: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا، ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا .
وقال ابن عابدين: الاختلاف بين المجتهدين في الفروع - لا مطلق الاختلاف -من آثار الرحمة فإن اختلافهم توسعة للناس، قال: فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر .
وتوسط ابن تيمية في الأمر، فرأي أن الاختلاف قد يكون رحمة، وقد يكون عذابا، قال: النزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلف شر عظيم في خفاء الحكم، والحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون خفاؤه على المكلف -لما في ظهوره من الشدة عليه - من رحمة الله به، فيكون من باب:” لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤ كم” (المائدة: 101)، وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوبا، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله حلالا لا شيء عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم، فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة وقد يكون عقوبة، والرخصة رحمة، وقد يكون مكروه النفس أنفع كما في الجهاد.
أسباب اختلاف الفقهاء
الاختلاف إما أن يكون ناشئا عن هوي، أو عن الاجتهاد المأذون فيه.
فأما ما كان ناشئا عن هوي فهو موضع الذم، إذ إن الفقيه تابع لما تدل عليه الأدلة الشرعية، فإن صرف الأدلة إلى ما تهواه نفسه فقد جعل الأدلة تابعة لهواه. وذكر الشاطبي أن الخلاف الناشئ عن الهوى هو الخلاف حقيقة، وإذا دخل الهوى أدي إلى اتباع المتشابه حرصا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدي إلى الفرقة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع، وإنما يذكرها بعض الناس ليردوا عليها ويبينوا فسادها، كما فعلوا بأقوال اليهود والنصارى ليوضحوا ما فيها .
أما النوع الثاني وهو الاختلاف الناشئ عن الاجتهاد المأذون فيه فله أسباب مختلفة، يتعرض لها الأصوليون لماما، وقد أفردها بالتأليف قديما وحاول الوصول إلن حصر لها ابن السيد البطليوسي في كتابه”الإنصاف في أسباب الخلاف”، وابن رشد في مقدمة”بداية المجتهد"، وابن حزم في”الإحكام”، والدهلوي في”الإنصاف” وغيرهم. ويرجع الاختلاف إما إلي الدليل نفسه، وإما إلى القواعد الأصولية المتعلقة به.
أسباب الخلاف الراجع إلى الدليل:
مما ذكره ابن السيد من ذلك:
ا-” ا لإجمال في الألفاظ واحتمالها للتأويلات.
2 - دروان الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه.
3 - دورانه بين العموم والخصوص نحو”لا إكراه في الدين” اختلف فيه هل هو عام أم خاص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية؟
4 – اختلاف القراءات بالنسبة إلى القران العظيم، واختلاف الرواية بالنسبة إلي الحديث النبوي.
5” دعوى النسخ وعدمه.
6 - عدم اطلاع الفقيه على الحديث الوارد أو نسيانه له.
أسباب الخلاف الراجع إلى القواعد الأصولية:
من العسر بمكان حصر الأسباب التي من هذا النوع، فكل قاعدة أصولية مختلف فيها ينشأ عنها اختلاف في الفروع المبنية عليها.
الإنكار والمراعاة في المسائل الخلافية
ذكر السيوطي في الأشباه والنظائر قاعدة:”لا ينكر المختلف فيه ولكن ينكر المجتمع عليه”، وقال: إنه يستثنى منها صور ينكر فيها المختلف فيه:
إحداها، أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ، ومن ثم وجب الحد على المرتهن بوطء الأمة المرهونة، ولم ينظر للخلاف الشاذ في ذلك.
الثانية: أن يترافع فيه لحاكم، فيحكم بعقيدته، إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده.
الثالثة: أن يكون للمنكر فيه حق، كالزوج المسلم يمنع زوجته الذمية من شرب الخمر، بالرغم من وجود خلاف في حقه بمنعها وعدمه .
وذكر ابن تيمية أن للمجتهد أن يعتقد في الأمور المختلف فيها بين الحل والتحريم أن مخالفه قد ارتكب (الحرام) في نحو (لعن الله المحلل والمحلل له) ولكن لا يلحقه الوعيد واللعن إن كان قد اجتهد الاجتهاد المأذون فيه، بل هو معذور مثاب على اجتهاده، وكذلك من قلده التقليد السائغ.
ارتفاع الخلاف بحكم الحاكم
إذا حكم القاضي في واقعة من الوقائع بحكم مختلف فيه مما يسوغ فيه الخلاف لعدم مخالفته لنص أو إجماع، فإن النزاع يرتفع بالحكم فيما يختص بتلك الواقعة، ويعود الحكم في تلك الواقعة كالمجمع عليه، فليس لأحد نقضه حتى ولا القاضي الذي قضي به نفسه، كما لو حكم بلزوم الوقف.
أما في غير تلك الواقعة فإن الخلاف لا يرتفع بالقضاء.
وهذه إحدى القواعد الفقهية المشهورة، وتعنون عادة بعنوان (الاجتهاد لا ينتقض بمثله) وعلتها أنه يؤدي إلي أن لا يستقر حكم، وفيه مشقة شديدة، فلو نقض لنقض النقض أيضا، ولأنه ليس الثاني بأقوى من الأول. وقد ترجح الأول باتصال القضاء به، فلا ينقض بما هو دونه.
وهذه المسألة إجماعية، وقد حكم أبو بكر رضي الله عنه في مسائل، وخالفه فيها بعده عمر-رضي الله عنه - ولم ينقض حكمه، وحكم عمر في المشركة بعدم المشاركة، ثم حكم في واقعة أخرى بالمشاركة، وقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي.
ومن هذه القضية يتبين أن القاضي لا ينقض الماضي، وأما في المستقبل فيجوز أن يحكم فيه بما يخالف ما مضي.
ومن شرط نفاذ الحكم في المسائل الخلافية أن يكون في حادثة ودعوى صحيحة وإلا كان فتوى لا حكما .
ارتفاع الخلاف بتصرف الإمام أو نائبه:
إذا تصرف الإمام أو نائبه بما تختلف فيه الاجتهادات طبقا لأحد الأقوال المعتبرة، فلا ينقض ما فعله كذلك، ويصيركالمتفق عليه (أي بالنسبة لما مضئ، وأما في المستقبل فله أن يتصرف تفحرفا مغايرا إذا تغير وجه المصلحة في رأيه)، وقد قرر أبو بكر رضي الله عنه العطاء بالسوية، ولما جاء عمر رضي الله فاضل بين الناس بحسب سابقتهم وقربهم من النبي لمج!ظ، وذكر الفقهاء أن للإمام أن ينقض حكم من قبله من الأئمة، لأنه يتبع المصلحة، والمصلحة قد تتغير.
قال ابن نجيم:”إذا رأي الإمام شيئا ثم مات أو عزل فللثاني تغييره حيث كان من الأمور العامة. ويستثني هذا من قاعدة عدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد، لأن هذا حكم يدور مع المصلحة، فإذا رآها الثاني وجب اتباعها" .
وقال ابن تيمية:”إذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي شاع فيها النزاع لم يكن لأحد أن ينكر علي الإمام ولا علي نائبه من حاكم أو غيره، ولا ينقض ما فعله الإمام ونوابه من ذلك”.
ومع هذا يذكر ابن تيمية أن الواحد من العلماء والأمراء ليس معصوما، ولهذا يسوغ لنا أن نبين الحق الذي يجب اتباعه، وان كان فيه بيان خظ من أخطأ من العلماء والأمراء.
هذا ولقد فصلنا القول في الاختلاف عند الفقهاء، لأن بعض الجهلة وأصحاب العلل والأهواء يعيبون علي الشيخ حسن البنا -رضوان الله عليه -قوله:”فأما البعد عن مواطن الخلاف الفقهي فلأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف في الفرعيات أمر ضروري، لابد منه إذ إن أصول الإسلام آيات وأحكام وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصوراتها العقول والأفهام لهذا كان الاختلاف واقعا بين الصحابة أنفسهم، ومازال كذلك إلي يوم القيامة... الخ، إلى أن قال: وليس العيب في الخلاف، ولكن العيب في التعصب للرأي، والحجر علي عقول الناس وآرائهم”.
وكان - رحمه الله -يري في زمانه أن الناس قد أهلكتهم الخلافات الفقهية والعصبيات المذهبية في فروع الدين، واشتغلوا بها عن الأصول وجلائل ا لأمور، فأراد أن يعالج ذلك بفقه حكيم ورأي سديد، وأن يردهم إلف ما رضيه رسول الله (صلي الله علية وسلم) وصحابته، والسلف الصالح.
ولكن أنئ للمتعصبين والشانئين أن يفقهوا ذلك، وجملة ما اعترضوا به علي الإمام أشياء رد عليها الفقهاء وقررها الإمام، ومنها:
ا - ما قاله الإمام البنا”أن الناس كانوا إذا اختلفوا رجعوا إلي الخليفة (الإمام) فيفصل في القضية ويقضي بينهم ويرفع حكمه الخلاف، أما الآن فأين الخليفة؟" ثم أراد الإمام البنا – رضوان الله عليه –أن يدل علي البديل إلى أن يوجد الخليفة، فقال:”فأول بالمسلمين أن يبحثوا عن القاضي ثم يعرضوا قضيتهم عليه، فإن اختلافهم في غير مرجع، لا يردهم إلا إلى خلاف آخر".
هذا التقرير العلمي الرصين لا يقولون به، ويدعون أن حكم الإمام لا يفصل في الخلاف، ويستشهدون بما كان بين علي ومعاوية، علي بطلان ذلك، حيث اقتتل المسلمون في أمر فرعي .
والرد علي هؤلاء قد قدمناه فيما قيل من أقوال الفقهاء في ذلك فليقرأوه -إن أرادوا - ثم نقول لهم: إذا لم يفصل الإمام المجتهد ومن حوله من المجتهدين المستشارين له فمن يفصل أهم ؟ أمن من ؟ ثم. ما كان بين علي ومعاوية كان بغيا علي الإمام، وخروجا عن أمور العدالة والالتزام، ثم ألم يقرأوا قول الرسول (صلي الله علية وسلم) للصحابي الذي قتل مع علي -رضي الله عنه -تقتلك الفئة الباغية، والبغي علي الإمام له أحكامه، وهذا خلط لا يقول به عالم.
ثم يحاول معترض آخر أن يمنع تعدد آراء الفقهاء والأخذ برأي منها، فيفترض سوء النية في اختيار الناس لأحد الأدلة، فيقول:”وليس الجائز لمفت أو مستفت إذا كثرت الأقوال في المسألة الواحدة أن يتخير منها الأقرب إلى رغبته، علي زعم أن اختلاف الأقوال يجعل هذه المسألة ظنية اجتهادية"، ونحن نقول: لا يجوز أن يمنع الأخذ بتعدد الآراء لظن ظنه، أو لتشهي إنسان، فذلك يعود عليه وحده، وكثره الأقوال في المسائل الاجتهادية لا تكون إلا عن علماء إثبات مجتهدين بالأدلة المعتبرة، أما إن كان الاختلاف ناشئا عن هوي، فهو مذموم، إذ إن الفقيه تابع لما تدل عليه الأدلة الشرعية، فإن صرف الأدلة إلى ما تهوي نفسه فقد جعل الأدلة تابعة لهواه، وهذا مذموم وممنوع، فافهم.
وأما الأخذ بأحد الأقوال الصحيحة عن الأئمة المجتهدين فهذا جائز، ومن أخذ به لأنه فيه سعة له، أو نفي حرج سيقع عليه فلا عيب عليه في ذلك، وفي الحديث:”وجعل اختلاف أمتي رحمة، وكان فيمن كان قبلكم عذابا".
وعن عمر بن عبدالعزيز قال:”ما أحب أن أصحاب رسول الله في (صلي الله علية وسلم) لم يختلفوا، لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدي بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة"، وعن يحيي بن سعيد أنه قال:”اختلاف أهل العلم توسعة".
وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا علي هذا، ولا هذا علي هذا، وقد قدمنا طرفا من ذلك قبل.
ثم يحاول هذا المعترض الإمعان في منع الأخذ بتعدد الآراء ويحاول أن يقضي علينا قصصا يثبت صحة رأيه فيقول: لا يمكن أن تعود للجماعة وحدتها وتماسكها إلا بإزالة الخلاف وتحقيق الإصلاح بين الأطراف المتنازعة، وذلك حين كانت للمسلمين دولة ذات هيبة وسلطان، ذلك وعهد النبوة غض طري”، وهو يدعي بذلك أن دولة النبوة والخلفاء ومن جاء بعدهم من السلف الصالح لم يكن عندهم تعدد في الآراء الاجتهادية وهذا منتهى الخط، فإن اختلاف الآراء كان في عهد رسول الله، تري هذا في غزوة أحد وبني غريظة، وغير ذلك الكثير، وكما كان بعد رسول الله، من أول يوم حين اختلفوا فيمن يتولي الخلافة في الثقيفة، وكما كان في خلافة أبي بكر وعمر، ومن بعدهم.
ويحكون أن الرشيد قال للإمام مالك -رحمه الله -: ينبغي أن تخرج معنا، فإني عزمت أن أحمل الناس علي الموطأ، كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس علي القرآن، فقال له: أما حمل الناس علي الموطأ فليس إليه سبيل، لأن أصحاب رسول الله جم!سه افترقوا بعده في الأمصار، فحدثوا، فعند كل أهل مصر علم، وقد قال (صلي الله علية وسلم):”اختلاف أمتي رحمة"، وأما الخروج معك فلا سبيل إليه.. الخ، وصاحبنا المعترض يتحدث عن فتن لا عن عمل برأي صحيح، وقد سارت الأمة عصورا علي فقه الإمام مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وكل علي رأي صحيح.
ثم استأنف صاحبنا المعترض في ذكر الأدلة الدالة علي رأيه المانع بقوله:( أما اليوم فإن الخلاف حول المنهج وحول سياسة الدعوة هو السبب المباشر الذي جعل الساحة الإسلامية تغص بشراذم من الشباب المتحمس، وكل مجموعة تتخذ لنفسها اسما وقائدا وطريقا؟ ومعظمها تتعرض لسلسلة من الانقسامات الذرية التي لا نهاية لها، وقد عانت جماعة الإخوان ذاتها من هذه المشكلة، وأفرزت عدة انشقاقات، بدءا بشباب محمد، ومرورا بجماعات التفكير، وتنظيم الجهاد في مصر.. الخ، إلى أن قال: وأساس المشكلة ليست متعلقة بالأشخاص بقدر ما هو ناجم عن جهل بمنهج أهل السنة أو الانحراف عنه) .
وهذا الإنسان في الحقيقة نسب إلى جماعة الإخوان ما ليس منها كتنظيم الجهاد، والتكفير والهجرة.. الخ، ثم نقول له أنت رجل تسمى نفسك سلفيا.ولا حرج فى ذلك ولا عيب.ولكن هل السلفية اليوم جماعة واحدة؟.. أنا أرى أمامي فى الكويت فقط ثلاث انقسامات متعارضة، وكلها تدعى أنها سلفية وتلمز الأخرى ، فمن تقصد بالسلفية التي أخذت عن علم بمنهج أهل السنة والجماعة؟
لنترك هذا إلى حين، ودعني أقول لك: أنت يا عزيزي تخبط في الأمور خبطا عميا،، أتدعي يا أخي أن اختلاف بعض المنحرفين عن الصراط المستقيم اليوم كان بسبب تعدد آراء العلماء الأثبات المجتهدين، كبرت كلمة تزعمها، اللهم إلا إذا كنت تضفي علي هؤلاء الصغار المتشرذمين من هنا وهناك صفة العلماء المجتهدين، وهذه بلوئ وقع فيها الكثيرون. إن اختلاف هؤلاء وغيرهم ممن علي شاكلتهم كان لأسباب كثيرة، أظنك ما درستها وما شغلت نفسك إلا بعيب الصحيح من أقوال العلماء المجتهدين فقط ! !
أسباب الاختلاف المذموم:
وأحب أن أبصرك ببعض أسباب هذا الاختلاف في اختصار شديد، لأن هذا يحتاج إلي أسفار، فضلا عن صفحات، وإليك بعضا من تلك الأسباب:
ا -التنطع والغلو:
روي الإمام أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجه في سننهما، والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (صلي الله علية وسلم) قال:”إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين”.
قال ابن تيمية : وذلك عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقاد والأعمال. وروي مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله لمج!تر:”هلك المتنطعون، قالها ثلاثا".
2 - التعصب للرأي:
وإلغاء الآخر بتفسيقه وتبديعه أو عيبه، وهو علي رأي صحيح من آراء العلماء، وهذا الآفة يعرفها القاصي والداني وعاني منها المسلمون اليوم.
ومن المواقف العملية التي تروى عن الإمام البنا - وربما رويت عن علماء آخرين أيضا- مما له دلالة بليغة في موضوعنا: أنه ذهب لزيارة إحدى القرى لإلقاء محاضرة هناك، وكان ذلك في رمضان، وقد انقسم أهل القرية إلى فريقين يختصمان حول صلاة التراويح أهي عشرون ركعة كما صليت في عهد عمر، وتوارثها الناس علي مر القرون بعد ذلك، أم هي ثماني ركعات فقط، كما ورد أن النبي (صلي الله علية وسلم) كان لا يزيد علي ذلك في رمضان ولا غيره ؟ رأيان تعصب لكل منهما فريق من أهل البلدة حتى كادا يقتتلان، وكل يدعي أنه علي الحق والسنة، وأن الأخر علي خظ وبدعة، فلما عرفوا أن الشيخ المرشد البنا قادم إليهم، رضوا أن يحتكموا إليه فيما اختلفوا فيه، وكل فئة تحسب أنه سيحكم لها ضد الأخرى .
ولكن الأستاذ الإمام -رحمه الله - اتجه بهم وجهة أخرى .
قال: ما حكم صلاة التراويح ؟
قالوا: سنة، يثاب من فعلها، ولا يعاقب من تركها.
قال: وما حكم الأخوة بين المسلمين ؟
قالوا: فريضة دينية، ودعامة من دعائم ا لإيمان.
قال: وهل يجوز في شرع الله أن نضيع فريضة للمحافظة علي سنة؟
إنكم لو أبقيتم علي أخوتكم ووحدتكم، وانصرفتم إلى بيوتكم، ليصلي كل منكم في بيته ما ترجح له واطمأن إلى دليله: ثماني ركعات أو عشرين لكان خيرا من أن تختصموا وتقتتلوا.
ذكرت ذلك لبعض الناس، فقال: هذا فرار من قول الحق، وبيان السنة من البدعة، وهذا واجب.
قلت: هذا أمر فيه سعة، وأنا - وإن كنت أصلي ثماني - لا أبدع من صلي عشرين. قال: ولكن الفصل في الخلاف واجب لا يجوز الهرب منه.
قلت: هذا صحيح حين يدور الأمر بين حلال وحرام، أو بين حق وباطل، أما الأمور التي اختلفت فيها المدارس الفقهية، وغدا لكل منها فيها وجهة، ودار الأمر فيها عادة بين الجائز والأفضل، فلا داعي للتشدد والتعنت فيها.
وهذا ما قرره العلماء المنصفون في وضوح وجلاء:
قال في”شرح غاية المنتهي” من كتب الحنابلة:
"من أنكر شيئا من مسائل الاجتهاد، فلجهله بمقام المجتهدين، وعدم علمه بأنهم أسهروا أجفانهم، وبذلوا جهدهم، ونفائس أوقاتهم في طلب الحق، وهم مأجورون لا محالة أخطأوا أو أصابوا، ومتبعهم ناج، لأن الله شرع لكم منهم ما أداه إليه اجتهاده، وجعله شرعا مقررا في نفس الأمر، كما جعل الحل في الميتة للمضطر، وتحريمها علي المختار، حكمين ثابتين في نفس الأمر للفريقين بالإجماع، فأي شيء غلب علي ظن المجتهد، فهو حكم الله في حقه وحق من قلده”.
ونقل عن ابن تيمية في الفتاوى المصرية قوله:
" مراعاة الائتلاف هي الحق، فيجهر بالبسملة أحيانا لمصلحة راجحة، ويسوغ ترك الأفضل لتأليف القلوب، كما ترك النبي (صلي الله علية وسلم) بناء البيت خشية تنفيرهم، ونص الأئمة كأحمد علي ذلك في البسملة، ووصل الوتر وغيره، مما فيه العدول عن الأفضل إلن الجائز، مراعاة للائتلاف أو لتعريف السنة، أو أمثال ذلك، والله أعلم. ويشير بترك بناء البيت إلي حديث النبي (صلي الله علية وسلم) الذي قال فيه لعائشة:”لولا قومك حديثو عهد بجاهلية، لبنيت الكعبة علي قواعد إبراهيم”.
8- اتباع المتشابه وترف المحكم البين:
وهذا شأن الذين في قلوبهم مرض وزيغ كما قال تعالى :” فيتبعون ماتشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله كر (آل عمران: 7).
ونعني بالمتشابه ما كان محتمل المعني وغير منضبط المدلول، ونعني بالمحكم البين المعني الواضح الدلالة المحدد الفهم، فتري الغلاة والمبتدعين من قديم يجرون وراء الشبهات ويجعلونها زادا لهم ويملأ ون بها جعبتهم، وكذلك غلاة اليوم، وهذا شيء بالغ الخطورة خاصة إذا جرئ وراء ذلك بعض الذين لا علم لهم.
9- غياب فقه التدرج: وعدم معرفة مقادير الأشياء وأجلها المسمي.
10 - ضعف المعرفة بالتاريخ والسنن : وحوادث الأيام التي حض القران علي معرفتها.
11 - البعد عن أدب الخلاف: وعدم الاطلاع علي ما قرره العلماء في ذلك، وقد ذكر ذلك الإمام ابن تيمية في كتابه القيم”رفع الملام عن الأئمة الأعلام”، و"حجة الله البالغة" فولي الله الدهلوي، و"الإنصاف في أسباب الاختلاف”، وللشيخ علي الخفيف كتاب قيم أسماه:”أسباب اختلاف الفقهاء".
هذه بعض أسباب الخلاف وليس منها اتباع الآراء الصحيحة علي مناهج العلماء، ولكنه يؤسفنا -كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي -أن يخوض في الدين من لا يحسنونه ممن ليس لهم صلة بالدين إلا صلة الجهل والغباء أو الخصومة والعداء أو السخرية والاستهزاء، وهذا في الحقيقة يصب في خانات أعداء الإسلام الذين لهم أهداف أخرى - ما أظن أن هؤلاء النقاد يقصدونها، ولكن يجرهم إليها سلامة النية - وأهداف أعداء الإسلام ضرب التحرك الإسلامي الفاعل قبل أن يبلغ أشده ويهيمن علي القاعدة الشعبية والشارع الإسلامي ويصبح له دور سياسي بارز ومؤثر في الأمة بمنهجه المعتدل، وأساليبه الحضارية الساحرة النافعة في أمة هي في أشد الحاجة إلى أمثال هؤلاء المخلصين المضحين في سبيل أمتهم وعقيدتهم.
آخر الأسافي:
لم يتورع المعترضون علي تعدد الآراء الاجتهادية عن الاستهزاء بأقوال العلماء وحقائق الرسالة الإسلامية والمنهج، فنري بعضهم يقول: يقول بعض القائلين بتعدد الآراء: أن وجود الاختلاف في المسائل الاجتهادية رحمة وعلامة صحة في فكر الأمة، وهو لحكمة ربانية، بها تتضح الآراء، ولستقم الأفكار، وتتحقق الحرية، فإذا صح ما زعموه أن اختلاف الأمة رحمة، إذن وربك فقد وجب أن يكون اتفاقها غمة ونقمة. هذا هو فهم البعض للإسلام، وليته وقف عند هذا الحد حتى يتفقه ولكنه أمعن فيما هو فيه من جهل وصار ينقد الآخرين من العلماء ويعيب عليهم.
يا هذا: إن الله يرحم الأمة ويخفف عنها بالآراء الصحيحة المتعددة التي تؤدي كلها إلى الخير لو اتبعت، ولو أراد الله أن يجعل الحكم واحدا لجاء بنصر لا يحتمل إلا وجها واحدا كآيات الميراث مثلا، وكثير من آيات الأصول في القرآن،”لكن الله سبحانه أراد نفي الحرج كما قدمنا، وليكون في ذلك تفريج للأمة وتيسير.
هل تحب التيسير في الأحكام إذا أرادها الله أم لا؟
ثم إن العلماء لهم آراؤهم في ذلك، وصدق القائل:
إذا كنت بالمعارف غرا
- ثم أبصرت حاذقا لا تماري
وإذا لم تر الهلال فسلم
- لأناس رأوه بالأبصار
ونعيد عليك ما قاله العلماء علك تري الصراط المستقيم:
الاختلاف الفقهي هل هو رحمة ؟
المشهور أن اختلاف مجتهدي الأمة في الفروع رحمة لها واسعة. والذين صرحوا بذلك احتجوا بما رواه ابن عباس مرفوعا”مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه. فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي. أن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة" .
وفي الحديث أيضا:”وجعل اختلاف أمتي رحمة وكان فيمن كان قبلنا عذابا”.
واستأنسوا لذلك بما روي عن بعض التابعين من مثل قول القاسم بن محمد: لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله لمج!ز في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة، ورأي أن خيرا منه قد عمله.
وعن عمر بن عبدالعزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا، لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدي بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة.
وعن يحيي بن سعيد أنه قال: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا، ويحرم هذا، فلا يعيب هذا علي هذا، ولا هذا علي هذا. وقال ابن عابدين: الاختلاف بين المجتهدين في الفروع - لا مطلق الاختلاف -من آثار الرحمة فإن اختلافهم توسعة للناس، قال: فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر.
الشبهة الثانية والعشرون: الموقف من البدع والبيعة
يقولون: الجماعة تساهلت في البدع الإضافية مثل: التزام المأثورات، والذكر الجماعي، والصيام الجماعي، ونحو ذلك، والبدع الإضافية هي ما له أصل في الشرع ولكن التزمت في هيئة معينة أو وقت معين لم يرد الشرع بخصوصه.
وهذه لاشك أنها أخف من البدع الحقيقية، وهل تدخل في مسمى البدع المنهي عنها في قوله صلي الله عليه وسلم:”كل بدعة ضلالة" أو لا تدخل في ذلك ؟ محل خلاف بين أهل العلم، فبعض العلماء يري أنها لا تدخل في البدع المنهي عنها، ويستدل لذلك بقول عمر بن الخطاب:”نعمت البدعة هذه”، وبإجماع الصحابة علي كتابة المصحف وتدوينه، وكذلك بكتابة العلم والرحلة فيه، ولاشك أن الانتقال في طلب العلم والحديث عبادة، ومع ذلك فإنما فعله الصحابة و التابعون وتابعوا التابعين، ولم يكن في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم.
وأما الذكر الجماعي فقد ثبت تشريعه بالنص، ومن ذلك قوله صلي الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:”ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدراسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده”، وكذلك قول النبي صلي الله عليه وسلم:”إن لله ملائكة سياحين في الأرض، فإذا رأوا حلقة من حلق الذكر حفوهم بأجنحتهم وتنادوا أن هذه طلبتكم” ، وفي هذا الحديث أنهم إذا ارتفعوا إلى ربهم سألهم وهو أعلم، فيخبرون أن هؤلاء الملأ كانوا يذكرونه ويسبحونه ويحمدونه ويهللونه، ويسألونه الجنة ويستعيذونه من النار، وكل هذا ذكر جماعي. وكذلك الصيام الجماعي فلاشك أن الجماعة الذين يراد تقارب وجهات نظرهم، وتقارب مستواهم فيما يتعلق بالتكوين والتربية وفي الإيمان يحتاجون إلف أن يتنافسوا في الخير، ويساعد بعضهم بعضأ، وقد كان كثير من السلف يتعاونون على هذا، فقد ثبت عن أيوب السخستياني أنه اجتمع مع عمرو بن عبيد قبل أن يفتن فطافا حتى أصبحا، فلما كان من العام القادم اجتمعا فطاف أيوب حتى أصبح، وتكلم عمرو حتى أصبح، ونظير هذا كثير.
وقد كان الرسول صلي الله عليه وسلم يوجه بعض الأسئلة إلي أصحابه، من ذلك أنه قال:”من أصبح صائما اليوم ؟ فقال أبو بكر: أنا، فقال: من اتبع جنازة؟ قال أبو بكر: أنا... إلى اخر الحديث”، وهو تنبيه علي أهمية هذه المنافسة، وكذلك قول معاذ:”تعالوا بنا نؤمن ساعة".
الذكر وأحكامه.. الشرعي والبدعى منه
هذا وقد رد فضيلة الشيخ البنا علي ذلك في فتاواه بجريدة الإخوان فقال: الذكر قربة إلى الله تبارك وتعالي بنص الآيات والأحاديث الكثيرة المعلومة للخاص والعام، أما كيفيته فقد أشارت إليها الآية الكريمة:” واذكر ربك تضرعا وخيفة ودون الجهر بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين” (الأعراف: 205)، وهو مطلوب علي كل حال، كما قال تعالي:” يأ أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا” * (الأحزاب: 41 - 42)، وكما قال تعالي :” فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم” (النساء: 103).
وكل صيغة فيها ثناء علي الله تبارك وتعالى وترديد لاسمه الكريم، وتذكر لآلائه ونعمه وشكر له عليها فهي ذكر.. فالاستغفار ذكر والتسبيح والتهليل والتحميد والصلاة علي الرسول (صلي الله علية وسلم) كلها من أنواع الذكر.
فالاستغفار ذكر، والتسبيح والتهليل والتحميد والصلاة علي الرسول (صلي الله علية وسلم) كلها من أنواع الذكر.
بقيت الكيفية التي يذكر بها أبناء الطريق الآن من الاجتماع للذكر والاهتزاز فيه وغير ذلك، فهذه الكيفية إن صحبها محرم كالدف أو الشبابة أو وجود نساء كما يقع أحيانا، أو كانت في موضع لا يليق فيه الذكر، أو كانت الأسماء التي يذكرون بها غير صحيحة أو كان المقصود من الاجتماع الرياء والتفاخر وتزيين ليالي الأفراح بمنظر الذاكرين والتلهي بمشاهدتهم والتفرج برؤيتهم أو أخذ الأجر علي الذكر، أو الحصول علي الطعام والمغانم الدنيوية، فذلك كله حرام لا يقره الدين ولا يوافق عليه، ولم يكن علي عهد النبي (صلي الله علية وسلم) ولا أصحابه، ولا ثواب فيه ولا بركة، وهو منكر شرعي يجب الإنكار عليه والإقلاع عنه.
وإن كان الاجتماع للذكر في مكان مناسب كمسجد أو منزل وكان الذكر بألفاظ صحيحة ولا محرم فيه مع الخشوع وحضور القلب، والاشتغال بالله تبارك وتعالى ، والتأدب في حضرته والاعتدال في الصوت، بحيث يكون كما قال تعالي:” ودون الجهر من القول” (الأعراف:255)، مع مراعاة آداب الذكر التي قال فيها الشيوخ كثيرا، واختصره بعضهم في عشرين أدبا قبله وفي أثنائه وبعده، وكانت الغاية طاعة الله وحده، وتذكير الناس به، إذا كان كذلك فلا بأس بالاجتماع علي طاعة الله تبارك وتعالي والتقرب إليه بذكره.
نعم.. إن هذه الكيفية لم تكن علي عهد النبي (صلي الله علية وسلم) كل واحد يذكر الله لنفسه واجتماعهم إنما كان علي مدارسة الحديث والعلم، ولكن لما قصرت الهمم، وكلت العزائم عن الطاعة، وكان الاجتماع منشطا علي العبادة والذكر، ولاسيما الاجتماع مطلوب في كثير من العبادات، ووردت في فضله أحاديث كثيرة، وفيه بركة عظيمة، لما كان الأمر كذلك، أوصي الشيوخ بالاجتماع علي الذكر، وهي وصية حسنة متقبلة، وعمل مشكور إن شاء الله تعالي، مادام قد خلا من المحرمات وروعيت فيه الآداب.
وهذا ما ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله (صلي الله علية وسلم)، فقد روي معاوية - رضي الله عنه -:”أن رسول الله (صلي الله علية وسلم) خرج علي حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم، قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده علي ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال: الله ما أجلسكم إلا هذا، قالوا: الله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة" .
وروي أبو هريرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله (صلي الله علية وسلم):”إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تناد؟ا: هلموا إلي حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلي السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم –وهو أعلم بهم -: ما يقول عبادي ؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك، ويحمدونك ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني ؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني ؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحا، قال: فيقول: فما يسألون ؟ قال: يقولون: يسألونك الجنة، قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون ؟ قال: يتعوذون من النار، قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها، لال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، وأشد منها مخافة، قال: فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان، ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقي جليسهم” (هذه رواية البخاري)
ورواية مسلم قال:”إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلا يبتغون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بجنهم وبين السماء والدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل -وهو أعلم -: من أين جئتم ؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في ا لأرض، يسبحونك ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك، قال: فماذا يسألوني ؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي ؟ قالوا: لا يا رب، قال: وكيف لو رأوا جنتي ؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومما يستجير وني ؟ قم من: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري ؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري ؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم، وأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: يقولون: ربنا، فيهم فلان، عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقئ بهم جليسهم”، ؟أخرجه الترمذي نحو رواية مسلم عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري - بالشك - وفي ألفاظه تغيير وتقديم وتأخير. أرسل أحد السائلين رسالة إلى الشيخ البنا تعليقا على ما سبق، يذكر كل طريقة يذكر لم ترد هيئتها عن السلف. رضوان الله عليهم. ويعد ذلك من البدع المحرمة المنهي عنها، فأجابه الأستاذ البنا بما يلي:
أخي السيد: فلان..
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
وبعد فما أجمل أن تتلاقى نفوس المسلمين وأقلامهم حول البحث عن الحقيقة وتجليتها للأمة في صفاء وإنصاف وإخلاص ليس لها من دافع إلا حب الحق ومناصرته، ومرحبا يا أخي بمساجلتك ومناصحتك، وليس أحب إلى نفسي من أن يتبين لي الصواب فأعود إليه مطمئن النفس مثلج الصدر، لأني أعتقد أن كل مخلوق يؤخذ من كلامه ويترك إلا الرسل المعصومون صلوات الله وسلامه عليهم، فأدلي إليك بوجهة نظري علي هذه القاعدة راجيا أن تقنع بها نفسك أنت الاخر، لا أقولها اتهاما ولكن تذكيرا، فاسمع يا أخي:
أولاً: كل خطابك الكريم دائر حول التنفير من البدعة وبيان سوء أثرها في العقائد والعبادات وإيراد النصوص والأمثلة علي ذلك، وأنا معك في أن البدع والمبتدعين في النار، وشي أ! لهم في الإسلام بل في كل دين أسوأ الآثار، وفي الأخذ بالسنة والسير علي نهجها الواضح هو أفضل منار يهتدي به المسلمون، ولكني أحب أن يلاحظ أن هذا البحث، بحث البدعة والسنة، من أعضل البحوث في أحكام الإسلام لا يقطع فيه ببادئ الرأي، بل لابد من نظر دقيق وإحكام تام في القواعد والتطبيق، وكم زلت فيه أقدام الفحول من السابقين واللاحقين.
ما تعريف البدعة الدقيق المضبوط ؟ وما أنواعها؟وما حكم ما له أصل في الدين وأدي بكيفية لم ينص عليها؟ وما حكم فعل تركه النبي (صلي الله علية وسلم) وما الفرق الواضح بين البدعة الحقيقية والمصالح المرسلة؟ وهل لا يتغير حكم البدعة باختلاف الظروف والمقتضيات ؟ كل هذه أبحاث تتناول البدعة والسنة، خاض فيها العلماء وتشعبت آراؤهم فيها تشعباً لابد أنك تعلمه وتحس ثقل وطأته، كما يحسه كل من عالج هذا الموضوع علاجا صحيحا، وبعد هذا فهل يكفي الاتفاق علي تحديد هذه الموازين لحسم الخلاف بين الناس في الحكم علي ما يحدث من الأمور؟ إن في كله لا يكفي فإن أنظار الناس تختلف في التطبيق أكثر مما تختلف في وضع القواعد والأصول. رأيت يا أخي كيف أن هذا البحث مضلة الأقوام، ومزلة العقول والأفهام، والناس فيه بين مفرط ومفرط، اللهم إنا نسألك العصمة من الزلل، والتسديد في القول والعمل. لقد قرأت كثيرا عن البدعة وقرأت ما كتب الشاطبي وابن الحاج وغيرهما، ولكن كل ذلك لم يلهم نفسي الطمأنينة إلى الحكم علي كثير مما يسميه الناس بدعا بهذه البدعية المطلقة وبهذا الوعيد الشديد، ولعلي أوفق في الأعداد القادمة إلى استيعاب هذه البحوث والكتابة عنها بما يزيل اللبس ويكشف الغموض -إن شاء الله تعالي.
وختام هذه النقطة أن أقول لأخي إن موضوعنا ليس تحرير أحكام البدعة من حيث هي، فإننا نكاد نكون متفقين في هذه الناحية، ولكن موضوعنا هو الحكم علي عمل خاص بالبدعية، فمن ثبت له وصف البدعية المحرمة ترتب علي ذلك ما ذكرتم في خطابكم، وهذا ما سأعرض له في النقطة الثانية.
ثانيا: لم يعرض الأخ –أيد الله به الحق - في خطابه إلى بيان وجه البدعية المحرمة في الذكر المقيد بالشروط التي ذكرتها في الفتوى إلا من حيث أنه لم يعمل به في عهد النبي مجلا!- ولا في عهد الخلفاء الراشدين وسلفنا الصالح، وهذا القدر نحن متفقان عليه فقد قلته في الفتوى بالنص تقريبا، ولكن أليست السنة تثبت بالقول كما تثبت بالعمل ؟ والجواب: نعم، لأن تعريف السنة عندهم فعل النبي (صلي الله علية وسلم) أو قوله أو تقريره، وألسنا قد أمرنا بالذكر في قول الله تعالي:” يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا” (أ لأحزاب: 41 – 42)، والجواب: نعم، وليس الحق تبارك وتعالى قد أطلق لنا الكيفية في قوله تعالى : في فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم (النساء: 103).
والمعلوم من ذلك أي علي كل حاله من حالاتكم، والجواب: نعم، و أليس قد ندبنا الرسول (صلي الله علية وسلم) إلى الاجتماع علي الذكر والتحلق له في مثل قوله (صلي الله علية وسلم):”إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله ؟ قال: حلق الذكر"، وفي مثل قوله (صلي الله علية وسلم):”ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم مناد من السماء أن قوموا مغفورا لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات”، وفي مثل قوله (صلي الله علية وسلم):”لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة" ، والجواب: نعم..
وقد تقول: إن الذكر هنا معناه العلم، فأقول لك إن الذكر معني عام يشمل العلم وغيره، وقد ورد في بعض الأحاديث بمعني العلم، وفي غيرها بمعني التسبيح والتحميد، وفي غيرها بمعناه المطلق فقصره علي العلم تحكم، إذا تبين هذا كان الذى س الذي أعنيه ذكرا مأمورا به علي كيفية لا ينكرها الشرع ولا ينطبق عليه وصف البدعية المحرمة، وهو ما ورد في فتواك، وأرجو أن أكون بذلك قد وفقت.
ثالثا: بقيت مسألة مهمة أحب أن تكون مسك الختام، وحبذا لو انضمت أصوات الفضلاء فيها إلى صوت هذا الضيف إذن لوجدت الأمة سبيلا مفيدا إلى الرجوع إلي هدي الدين الحنيف، هذه المسألة هي أنني أحب دائما أن يكون سبيلنا في الرجوع إلى السنة المطهرة، بحيث نوجه معظم العناية إلى دعوة الناس إلي السنة، ولا نسلك معهم سبل الجدل في إقناعهم بوجه الحق في محدثاتهم، وقد سبقني إلى ذلك بعض السلف فقال:”لا تجادلوا أهل المحدثات في محدثاتهم فإنهم قد أعدوا لكل سؤال جوابا، ولكن سلوهم عن السنة فإنهم لا يعرفونها، وبذلك نسد باب ندل والخلاف الذي لا يفتح علينا إلا كان سببا في دمارها، وتشعب أمرها، وفساد عقائدها"، وعلي هذه القاعدة الأخيرة، أقول لك إنه مما لا خلاف عليه أن أفضل أحوال الذكر ما كان عليه سلفنا الصالحون - رضوان الله عليهم -أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده رد السائل على الشيخ البنا:
ثم أرسل السائل برسالة أخرى تعليقا علي حديث الشيخ البنا، بنصوص عامة ومطلقة تنهي عن البدعة، ثم اتبع ذلك بصيغ مأثورة عن كيفية الذكر وردت عن السلف الصالح وهي الجلوس للذكر، أو الحلق، وأيد ذلك بحديث عن معاوية، وأنس، ثم تساءل فقال: هل غاب عن الشرع الحكيم تحديد صيغ الذكر، مثل تحديد الصلاة والصيام ؟
فأجابه الشيخ البنا. رحمه الله – بما يلي:
أخي الفاضل.. أيد الله به الحق..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أما بعد فقد قرأت خطابك وأحب قبل أن أعرض لإجابتك عنه، أن أعلن لك ولقراء الجريدة الإخوان المسلمين كبير سروري وعظيم فرحي بمظهرين رائعين تجليا في خطابك:
أما أولهما: فدقة بحثك في موضوع كسل عنه الباحثون من المتخصصين به فما بالك بالمستفيدين، وهي أمنية في النفس منذ القدم أن يلهم الله شباب الإسلام وبنيه أن يعنوا بالدراسة الدينية ويطلعوا علي البحوث الإسلامية ويتصلوا بأحكام الدين اتصالا قويا يفقههم فيها ويبصرهم بأسرارها:”ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين”.
وأما ثانيهما: فهو شعورك بالتبعة الملقاة علي عاتق كل مسلم أن يصدع لكلمة الحق وينادي بأحكام الله، ولا يخشى في ذلك لومه لائم، ولا تلهيه المجاملة الكاذبة عن تأييد رأي يري فيه موافقة شريعة الله تبارك وتعالي علي حين ضعف هذا الشعور في نفوس المسؤولين ا لأول وكل مسؤول، ولو أن في المسلمين كثيرين ينصرفون إلي دراسة الدين ويصدعون بما يعتقدون أنه الحي في هذه الدراسة لكانت الحال الآن غير ما نراهم عليه، فالله نسأل لنا جميعا الهداية والتوفيق، ولا أشكرك فذلك واجب، ولكن أسأل الله أن يجعلك ممن أراد بهم الخير ففقهم في دينه.
وأعود بعد بيان هذه العاطفة التي أوحاها الوجدان الصادق إلى خطابك فأجيبك عن بعض ما غمض من نقاطه تبيانا لما أري أنه الحق، فاسمع أيها الأخ العزيز:
أولاً : عرضت للبدعة من حيث تحريمها وتحليلها، وليس ذلك محل خلاف بيننا، ولكن الخلاف بيننا حول البدعة في حقيقتها، وفي تطبيق ما يشبه أن محدث علي هذه الحقيقة، وإذن فلا داعي لطول القول في هذه النقطة، لأنه أمر له مجال آخر.
ثانيا: عرضت للإجابة عن أسئلتي في خطابي السابق، واستغربت أن أرئ ذلك لبسا أو غموضا، أخذت تجيب عن كل سؤال منها فاعلم – يا عزيزي –أن الأمر أكبر من هذا، ولو كانت المسألة قاصرة علي مثل هذا الجواب لارتاحت الضمائر، وانتهي الخلاف، وكثير من طلاب الحق المخلصين وقفوا أمام هذه البحوث وقفة المتمكن المتثبت حتى انفلق لهم صبح اليقين وأثلج الله صدورهم بمعرفة الحق فلا تعجل بالحكم، وبعض أجوبتك فيه سداد وتقريب، وبعضها فيها إيجاز وغموض، وبعضها فيه قصور يتضح أمام الاستيعاب، ولعل لك العذر في ذلك، فقد اعتذرت بما يقبل في صدر خطابك ولعلي أوفق إلى بحث هذه الموضوعات بحثا وافيا في الأعداد القادمة إن شاء الله تعالي، وقل" أن أترك هذه النقطة ألفتك إلف أمرين أري لهما من الفائدة ما يستوجب ا لذكر:
أ- التثبث في الفتوى وطول الأناة في الحكم، وأذكر أن عبدالله بن مسعود- وهو من أحبار هذه الأمة وأعلامها – سئل عن المتوفى عنها رجل قبل الدخول ولم يسم لها مهرا، فطلب إلن السائل أن يتركه حتى يجتهد شهرا، ثم أفتى بعد ذلك في حادثة معروفة، ولا أخالك إلا جد عليم بتحرج السلف الصالح في تقرير الأحكام.
ب -أن تنزه قلمك -وهو نزيه بحمد الله -عن كل ما يشبه أن يكون لفظا جافيا أو وصفا نابيا أو عبارة جارحة، فلا لزوم لذكر العقل الضعيف، والبصر الكفيف، وسحائب الهوى في بحث شأن ديني بين أخوين كل منهما يطلب الحق للحق، وأذكر يا أخي محنة الأمة في كتابها الذين ولعوا بالمهاترة وبرعوا في الإقذاع حتى ضجت منهم الآداب الإسلامية العفيفة، ولا أشبه ما ورد في كتابك بهذا، ولكني أحب أن نتحامى كل ما يمت إلى هذه الناحية بصلة أو يشبه ألغ يكون منها قريبا.
ثالثا: عرض أخي بعد ذلك إلي كيفية الذكر علي عهد السلف الصالح -رضي الله عنهم - وروي في ذلك حديث معاوية، وحديث أنس، ولنا أمام هذين الحديثين الشريفين وأمثالهما وقفة نستجلي فيها أمور عدة، أولها: هل الكيفية التي وردت فيها محدودة يمكن تطبيقها تمام التطبيق ألان ؟ كيف كانوا يتحلقون ؟ وكيف كانوا يلفظون أفرادى أم جماعة؟ وما الألفاظ والصيغ التي كانوا يعظمون بها آلاء الله ويصلون بها علي نبيه (صلي الله علية وسلم) ويسألونه بها لأخرتهم ودنياهم ؟ كل هذه كيفيات لم يحددها الحديثان بل أطلقاها إطلاقا، وهو كما ترى مانع من التطبيق، وعلي فرض أن ذلك كله محدد فهل عمل هؤلاء الصحابة الكرام أمام حكم عبادة مطلق يحدد إطلاقها مع العلم بأن الصحابة - رضي الله عنهم -كانوا أنفسهم يختلفون في هذه الكيفيات، لست متعنتا يا أخي ولكني أري أن هذه نقاط تستحق التفكير، وقد بنيت علي ذلك حكمك علي الذكر بالطرق المعروفة، وأحب أن تفرق بين الذكر بالطرق المعروفة، وبين الذكر الذي رأيته جائزا في الفتيا، ولما كان الدليل السابق غير واضح في الدلالة كان بناء هذا الحكم عليه فيه نظر.
رابعا: تساءلت كيف غاب عن الشارع الحكيم أن يشرع لنا أحوال الذكر كما شرع لنا القيام والركوع والسجود في الصلاة.. الخ ؟ وهذا أمر مهم أحب أن يلاحظه الأخ، وقد يكون فيه حسم الخلاف إن شاء الله تعالى ، وقد يكون مقياسا صالحا يتضح لنا علي ضوئه كثير من مشتبهات الأحكام.
هذا الأمر هو أن العبادات تنقسم إلى نوعين:
1 - نوع حدده الشارع وقتا وزمانا ومكانا وكيفية وحكما، ومثاله الحج مثلا، وصلاة الجمعة مثلا.
2 -ونوع أطلقه كالصدقة النافلة، فأنت فيها مخير في المقدار وفي الوقت بحسب وسعك، وظرفك، وكالدعاء مثلا فيه مخير ما لم يخالف هذا التخيير حكما شرعيا ورد به النص.
نعم إن المأثور أفضل من غيره، ولكن هل يقول أحد إن الدعاء بغير المأثور وفي كل وقت غير جائز، والذكر من هذا القسم أمر به الشارع وأطلقه فأنت فيه مخير ما لم يخالف هذا التخيير حكما شرعيا، ولإيضاح هذه النقطة أضرب لك هذين المثالين:
أ - رجل تعود أن يتصدق كل يوم لقرش في وقت محدد يقصد بذلك وجه الله تبارك وتعالى ، وامتثال أمره في الصدقة، أتراه مبتدعا؟ وهل يشترط لجواز مثل هذا العمل أن يكون قد عمل مثله السلف الصالح.
ب - رجل تعود صباح كل يوم ومساءه أن يدعو الله تبارك وتعالي بصيغة كهذه مثلا:”اللهم فرج كربتي، واغفر ذنبي، واجعلني عندك من المقبولين، وارزقني اتباع سنة نبيك (صلي الله علية وسلم) “، أتري هذا الرجل مبتدعا؟
وهل يشترط لجواز مثل هذا العمل آن يكون واردا مأثورا ؟ أظنك معي في أن عموم الأمر بالدعاء والصدقة يجعل عمل هذين عبادة لا غبار عليها، وإذا تقرر هذا فاعلم - يا عزيزي -أن تقييد العبادة المطلقة هو البدعة، فما ورد مقيدا فالدين أن يؤتي به علي وجهه وما ورد مطلقا بقي علي إطلاقه، فكل كيفية تدخل تحت هذا العموم ولا تتعارض مع الأحكام الشرعية جائزة.
وأخيرا أحب أن أقول لك إن الجائز لذاته قد يكون محرما لغيره سدا للذريعة إذا اتخذ وسيلة لمحرم وخير الحالات ما وافق السنة المطهرة واتباع المأثور أول وأسلم.. والله أسأل أن يلهمنا وإياك التوفيق والتسديد..
وسلام الله عليك ورحمته وبركاته.
شبهة الأناشيد
ينقمون علي الجماعة أنها في الأنشطة تعود بعض أفرادها علي سماع الأناشيد التي يقوم بها بعض الفرق من الأولاد الصغار غالبا.
والواقع أن الأناشيد في العمل سنة من سنن الرسول (صلي الله علية وسلم) ثابتة عنه، فقد ثبت عنه !ته أنه يردد مع أصحابه النشيد في بناء المسجد وكذلك في حفر الخندق، وكان يقول:
هذا الحمال لا حمال خبير
- كهذا أعز ربنا وأطهر
وكذلك في إنشاده يوم حنين:
أنا النبي لا كذب
- أنا ابن عبد المطلب
وكذلك قوله:
هل أنت إلا إصبع دميت
- وفي سبيل الله ما لقيت
وكذلك كان أصحابه يرددون:
نحن الذين بايعوا محمدا
- علي الجهاد ما بقينا أبدا
فكان يجيبهم ( صلي الله علية وسلم) بقوله:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
- فاغفر للأنصار والمهاجرة
وكذلك ثبت عنه (صلي الله علية وسلم) أنه في حديث خيبر أنه أمر أصحابه يحرك الإبل بالحداء فانتدب لذلك عامر بن الأكوع فأنشد قولة ابن رواحة:
تاالله لولا الله ما اهتدينا
- ولا تصدقنا ولا صلينا
إن الذين قد بغوا علينا
- إن يسألونا خطة أبينا
فأنزلن سكينة علينا
- وثبت الأقدام إن لاقينا
وفي صحيح البخاري أن النبي (صلي الله علية وسلم) كان ينشده فيقول: أبينا يرفع بها صوته.
وأمر أنجشة بالحداء، وكان صوته جميلا حتى حرك ا لإبل، حتى قال (صلي الله علية وسلم):”رفقا بالقوارير" يقصد النساء، فكان النساء نساء رسول الله (صلي الله علية وسلم) يسمعن نشيده، وابن الأكوع جميل الصوت أيضا، حتى لقد أثر صوته في البهائم والإبل، هذا يدل علي أن صوت النشيد من دون آلة مباح حتى للأجنبية أن تسمعه وهو أصل لمشروعية النشيد في العمل وتحريك النفوس به وأيضا هو بديل صالح عن الأغاني المحرمة التي لا تفيد وتضر.
شبهة الملابس
إن بعض الاخوة وبالأخص إذا كانوا في السفر يلبسون الملابس الغربية وكذلك كثير من الناس يعتنون بالشكل والمظاهر.
والواقع أن لبس الملابس الغربية الآن ليسر فيه أي حرج من الناحية الشرعية، فإن رسول الله (صلي الله علية وسلم) لم يرو عنه أنه خيط له ثوب ولا نسج له، وإنما كان يلبس ملابس الكفار التي ينتزعها منهم بالسلاح أو يأخذها منهم جزية، ولذلك ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله (صلي الله علية وسلم) في غزوة تبوك كانت عليه جبة رومية ضيقة، والروم في ذلك الوقت كانوا كلهم من المشركين من أهل الكتاب، فإذن كان الرسول مجي!و يلبس ملابس الكفار وكذلك أصحابه، وليس في ذلك تشبه بهم، والمنهي عنه من ناحية التشبه هو لبس ثوب الدين، وثوب الدين بالنسبة للنصارى هو الزنار الذي يشده علي وسطه، وكذلك القبعة بالنسبة لليهود، فهذه الملابس الدينية هي التي لا يحل للمسلم أن يلبسها، وإذا فعلها يكون ذلك تشبها بالكفار، مثل لبس الصليب، وهو إن قصد به التشبه كفر بالله تعالى ، وإن لم يقصد فإنه يكون محرما شنيعا، ويعزر صاحبه، أما مجرد لبس هذه الملابس التي لا يرختص بدين فهو راجع إلي الحسن والقبح، فإذا كانت حسنة تتوافر فيها المعايير المطلوبة في لبس الرجل، وهي ألا يكون حريرا، ولا ذهبا، وألا تكون متجاوزة للكعبين بقصد الخيلاء، وألا تكون محددة للعورة، ولا فيها تشبه بالنساء، ولا تدخل في ملابس الدين بالنسبة للكفار، هذه المعايير الستة إذا اجتمعت فحينئذ يكون اللباس شرعيا مباحا، بل قد تكون إذا كانت جميلة مظهرا محمودا، ومدعاة لاستجابة المدعوين، ولهذا يقول الله تعالى :” قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة” (الأعراف: 32).
أما العناية بالشكل والمظهر: فأمر محمود شرعا، مرغوب فيه، لذلك كان الرسول (صلي الله علية وسلم) يعتني بمظهره، ومن ذلك خصال الفطرة التي حث عليها، كقلم الأظافر، وقص الشارب، وكذلك الإدهان والتطيب، وكان الرسول (صلي الله علية وسلم) يحب الطيب حبا شديدا، وكان لمج!نر يعتني بملابسه ويعتني بنظافتها، ويعتني بنظافة كل أموره حتى المسجد، لما رأي النخامة فيه اشتد غضبه واحمرت عيناه، وقام إليها وحكها بأظافره حتى أزالها، وأرسل إلي طيب وطيب موضعها، والعناية بالمظهر مدعاة لتقبل المدعوين وللدخول إلى المجتمع والتغلغل فيه، فإن البذاذة والتقلل بحيث يكون الشخص سمجا عند من يخاطبه ليس مقصدا شرعيا، بل المقصد الشرعي أن يكون الشخص الذي يقصد له التأثير في الآخرين مقبولا لديهم بشكله، ولذلك ذكر العلماء في آداب اللباس أن العلماء وأئمة المساجد والمؤذنين والقضاة ينبغي أن يكون لهم زي يميزهم.
فهؤلاء يندب لهم حسن اللباس، ولاشك أن الدعاة ممن يخالطون الناس فينبغي لهم تحسين الهيئة لمخالطة الناس، ولذلك ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما رأي حلة سيراء تباع علي باب المسجد فخاطب رسول الله (صلي الله علية وسلم): لو نشتريها لك حتى تلقي فيها الوفود، وكذلك جاء في صحيح البخاري أن رسول الله (صلي الله علية وسلم) كان يصلي في خميصة لما فرغ خلعها، وقال:”احملوا هذه إلي أبي جهم وأتوني بانبجانيته فإني نظرت في علمها في صلاتي فكادت تفتني عن صلاتي” .
فإذن: هذا يدل علي أن حسن المظهر إذا كان وفق الضوابط الشرعية المذكورة محمود ومرغوب فيه شرعا، بل هو من إبداء آثار النعم علي العبد، والله تعالى يحب إذا أنعم علي عبده أن يري عليه آثار نعمه،”إن الله يحب أن يري أثار نعمه على عباده”.
شبهة التصوير الفوتوغرافي
يقولون إن بعض أفراد الجماعة يعتنون بجمع الصور، وكذلك بتصوير بعض المشاهد، وتصوير بعض الحفلات، وتصوير بعض الأنشطة، وقد حذر الرسول (صلي الله علية وسلم) ونفر من التصوير.
والجواب عن هذه الشبهة أن التصوير الفوتوغرافي مباح ولا يدخل في معني التصوير الذي جاء في الأحاديث والنهي عنه والتنفير منه، فإن الألفاظ اللغوية لا تحمل إلا علي مسمياتها عند العرب، ولذلك فإن هذا التصوير لم يكن في عهد رسول (صلي الله علية وسلم) ولا في عهد الصدر الأول كله، ولا يمكن أن يحمل التصوير الموجود في كلامهم علي هذا التصوير الذي لم يعرفوه، وهذا من الاشتراك في الاسم الذي لا يقتضي الشبه في الحكيم، ومجرد أن الناس يطلقون علي هذا تصويرا لا يقتضي دخوله في المنهي عنه ولا في دلالة النصوص التي ورد فيها تحريم التصوير والنهي عنه والتحذير منه، والتصوير الفوتوغرافي لا تتحقق فيه العلل المذكورة في التصوير الذي كان في عهد الرسول (صلي الله علية وسلم)، فليس مضاهاة لخلق الله تعالى بل هو نفس الخلق علي هيئته مثل الصورة في المرآة، ولا يمنع شرعا لأنه لا دليل علي منعه والأصل في الأشياء الإباحة، وكونه قد يؤدي إلي بعض الذرائع المسدودة مثل تعميم الصور وتعليقها في البيوت أو جعلها في البراويز المكبرة ونحو هذا، لا يقتضي إطلاق تحريمه، بل تمنع تلك الذرائع فقط.
فالصور الأخرى التي لا تكون معظمة ولا تكون في البراويز وإنما تقصد للذكري لأمر معين، لحفز الهمم علي بعض الأنشطة فهذا لا يمكن تحريمه، وأدلة الشرع متوافرة علي أن الوسائل إذا حققت المقاصد ولم يكن فيها محظور شرعي بعينها ولم يرد نهي بخصوصها أنها تبقي علي أصل الإباحة والجواز، والصور الفوتوغرافية نظير النظر في المرآة والنظر في الماء، وقد كان لرسول الله لمج!نه مرآة ينظر فيها، فلو كان التصوير الفوتوغرافي مثل التصوير الآخر لما نظر الرسول (صلي الله علية وسلم) في المرآة، إذ لا فرق بين النظر في المرآة والتصوير الفوتوغرافي، إلا في تثبيت الصورة فقط، نكتفي بهذا القدر من الشبهات العملية.
هذا.. وقد رجع المعترضون عن هذه الشبهة، وفعلوا ما أنكروه بالأمس، وظهروا في التلفاز والسينما والبرامج، ونشرات ا لأخبار، وما أظنهم اليوم إلا نادمين علي التعجل في الإفتاء ولوم الآخرين بدون علم أو معرفة.. وكان بعض هؤلاء قد نسف التلفاز في بلده، وعطل البث التليفزيوني، ثم تراجع عن ذلك اليوم ولكن علي استحياء وما أظنه إلا سيتراجع في أمور كثيرة تسرع في الحكم عليها، والرجوع إلى الحق لاشك فضيلة، وهو خير من التمادي في الباطل والاستكبار المذموم.
شبهة البيعة للمرشد
كثير من الناس ينتقد البيعة للمرشد، ويري أن البيعة ينبغي أن تكون للحاكم فقط، وألا تتجاوز حدود ذلك.
ونقول: إن البيعة كانت معهودة منذ القدم وكانت معروفة في عهد الرسالات السابقة، وكان أصحاب الأنبياء يبايعونهم إما علي النصرة والحماية، وإما علي إعلاء كلمة الله تعالي، وتشير إلى هذا آية سورة الصف في قوله تعالى :” كما قال عيس ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فأمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين” (الصف: 14).
وقد ورد في ذلك بعض الأحاديث عن رسول الله (صلي الله علية وسلم)، أما في شرعنا فإن رسول الله !ته قد بايع الناس في مواقف متعددة واختلفت طرق البيعات اختلافا كثيرا، فمن أشهر البيعات السابقة علي الهجرة بيعة الأنصار ليلة العقبة، وقد بايعوه علي نحو بيعة النساء المذكورة في سورة الممتحنة في قوله تعالى :” يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك علي أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرفن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم” ( الممتحنة، 12).
ثم بايع الرسول (صلي الله علية وسلم) بعدها الأنصار بيعة أخرى حين قدم المدينة وآخي بين المهاجرين والأنصار، وآخن بين المهاجرين أنفسهم، وتلك البيعة كتب فيها كتاب، أمر الرسول بر!ص بكتابته ولم يرد كثير من تفاصيل الأمور فيها، ثم بايعهم بيعة أخرى عندما أراد غزوة بدر فبايعوه علي القتال، وكانوا قبل ذلك إنما بايعوه علي الحماية، مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم، ثم من أشهر البيعات بعد هذا بيعة الرضوان التي بايع عليها أصحابه بالحديبية تحت الشجرة، وهذه البيعة التي خلدها الله تعالى في سورة الفتح في قوله: مطر نقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة * (الفتح: 18)، وكانت بيعة علي الموت حب ما جزم به كثير من أصحاب رسول الله (صلي الله علية وسلم) الذين بايعوه عليها، وقد أنكر ذلك ابن عمر وذهب إلي أنها فقط كانت علي القتال وألا يفروا عنه، ومعني ذلك أن ابن عمر أنكر من قال بايعناه علي الموت بزعم أن القائل لذلك أنهم سيبذلون أنفسهم حتى الموت، والمقصود أنهم لا يفرون عنه، وهذه هي البجعة علي الموت لأن الشخص إذا كان سيصبر مهما كلفه ذلك الأمر فمعناه أن سيستعد للموت وسيبذل نفسه في سبيل المبايع، وهذه البيعة هي التي أكدها الله في كتابه في قوله:” إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم" * (الفتح: 10). وقد روي عن الرسول” بيعات غير هذه، من ذلك أنه بايع أبا بكر وتسعة من أصحابه آخرين بيعة خاصة، وهي ألا يسألوا أحدا شيئا، وكان أبو بكر وهو خليفة إذا سقطت عصاه لم يكن يأمر أحدا أن يناوله إياها بل ينزل إليها حتى يأخذها، لأنه بايع رسول الله (صلي الله علية وسلم) علي ألا يسأل أحدا شيئا.
وكذلك بايعه بعض أصحابه الذين أسلموا بدون قتال بايعوه بيعة خاصة من ذلك بيعة عمرو بن العاص التي هي في صحيح البخاري بايعه علي أن يغفر له ما تقدم من ذنبه، فقال له:”أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله، والهجرة تجب ما قبلها". وكذلك بيعة خالد بن الوليد، ومن ذلك بيعة جرير بن عبدالله التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما أنه قال: بايعني رسول الله (صلي الله علية وسلم) علي إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فشرط علي والنصح لكل مسلم، وكذلك بيعة ضمام بن ثعلبة الذي جاء من قبل نجد فقال بعد أن التزم ما علمه رسول الله (صلي الله علية وسلم) فقال:”وأنا رسول من ورائي” فكانت البيعة لنفسه وللذين أرسلوه بطريق النيابه.
وكذلك بايع النجاشي جعفر بن أبي طالب لرسول الله إلى بالنيابة عنه، وكتب إليه كتابا بذلك.
ومثل ذلك كثير من البيعات التي تكون منوعة فكل هذا التنوع يدلنا علي أن البيعة ليست ثابتة علي منهج موحد وأنها قابلة للتغيير بحسب الحال،،بيعة النساء تختلف عن البيعة علي القتال، وتختلف عن البيعة علن الموت وهكذا.
فهذا التطور يدلنا علي أن البيعة ليست مثبتة علي وضع واحد لا يتغير، وأنها تتطور مع المصلحة، وإذا نظرنا إلي المصلحة المتوخاة من البيعة فإننا نعلم أنها رباط وعهد بين الشخصين، وأيضا يكون الحق المترتب عليها من السمع والطاعة والامتثال والالتزام بالأوامر يكون حقا ناشئا عن عقد، وهذا أثبت الحقوق وأوثقها، فإن الحقوق تنقسم إلى قسمين: حقوق غير ناشئة عن عقد، وهذه وإن كانت موكدة مثل حقوق الله علي عباده بأن يعبده ولا يشركوا به شيئا، ومثل حقوق الوالدين في برهما والسمع لهما وطاعتهما والدعاء لهما ونصيحتهما.
إلا أن القسم الثاني من الحقوق وهو الناشئ عن عقد أيضا تتعلق بمروءة الشخص، فإذا لم يف بها فإنه قد أخل بمروءته والتزامه، وكان كمن لا ذمة له ولا عقد، وهذه العقود منها مثلا عقد النكاح الذي سماه الله تعالى ميثاقا غليظا، وكذلك عقد البيع، وعقد الشركة، وعقد الحلف، التي فسر بها زيد بن أسلم - رحمه الله تعالى - قوله تعالي:” يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود” (المائدة: 1).
فعلي هذا فإن تنوع البيعة يكون ناشئا عن المصلحة، فإذا كان المقصود بها الرباط الروحي الذي يربط المبايع والمبايع فكان ذلك مدعاة لعلاقة دنيوية سببها عقد، مع أن النسب غير موجود بين المبايع والمبايع، وإنما جاء الربط بسبب هذه البيعة والالتزام كان لذلك تسمي صفقة اليمين كما في قوله تعالي:”أيما رجل بايع أميرا فأعطاه سويداء قلبه وصفقة يمينه لا يبايعه إلا علي عرض من الدنيا إن عطاه رضي وإن منعه سخط، فقد برئت منه ذمة الله ورسوله”، أو كما قال الرسول ج لمج!لأ في الحديث المعروف. فهذا يدل علي أن المقصود بالبيعة هو الرباط الروحي أساسا، ولهذا قال أعطاه سويداء قلبه، فالمقصود محبة وطاعة، وكذلك قوله صفقة يمينه تدل علي أن المقصود هنا انعقد حتى يكون الحق بين الطرفين ناشئا عن عقد، وعلي هذا فقد كان بعض الناس يشترط بعض الشروط فيه، وهذه الشروط تشترط في بعض الأحيان علي المبايع وتشترط على المبايع، فمثلا لما طالب يزيد بن معاوية أهل المدينة بالبيعة له في واقعة الحرة، شرط علي كل من يبايع له أن يبايع أنه يطيع لأمير المؤمنين، معناه أنه مطيع طاعة التابع إلا علي بن عبدالله بن العباس فقد قام أخواله بنو الحارث بن كعب فقالوا بل يبايع علي أنه ابن عم أمير المؤمنين، فبايع علي أنه ابن عم أمير المؤمنين.
وعلي هذا فإن تطور البيعة إذا أمر طبيعي وللنظر إلي واقعة البيعة عبر التاريخ، فلما مات رسول الله (صلي الله علية وسلم) ونقله الله إلي دار الكرامة لم يأمر ببيعة أحد من الصحابة ولا عهد بها لأحد بعده، فاتفق أن الأنصار قد اجتمعوا ورأوا أنه لا يمكن أن يترك الناس هملا دون إمام، وحاولوا أن ينصبوا إماما يبايعونه، فرشحوا لذلك سعد بن عبادة بن دليم، واجتمعوا لبيعته في سقيفة بني ساعدة، فكانت المبادرة لهم ولم تكن لقريش في ذلك الوقت مبادرة إلا بعض الآراء الفردية، فمثلا كان أبو سفيان بن حرب يميل إلى أن يبايع علي بن أبي طالب، وقال هذا لجبر خاطر بني هاشم وفيه إصلاح لقريش وهو أولن الناس بهذا لقرابته وصهارته وخالفه المهاجرون السابقون الأولون فلم يروا أن يبايعوا قبل دفن رسول الله (صلي الله علية وسلم) فلم يتفقوا علي أحد، وفي هذا يقول أحد شعراء قريش:
حمدا لمن هو بالثناء خليق
- ذهب اللجاج وبويع الصديق
كنا نقول لها علي والرضا
- عمرو أولاهم بتلك عتيق
فكانوا يرشحون هؤلاء الأشخاص الثلاثة: علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وأبا بكر الصديق، فلما علم المهاجرون بأن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لبيعة سعد، انطلق إليهم ثلاثة من المهاجرين هم أبو بكر، وعمر، وعبيدة بن الجراح، فكلموهم بالكلام المشهور المعروف، ثم اتفق رأي الجميع أن يبايعوا أبا بكر الصديق، وقالوا رضيك رسول الله (صلي الله علية وسلم) لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟.. فانعقدت البيعة له وبايعه المهاجرون أيضا، ثم بايعه عموم الناس في المسجد ولم يتخلف عنه إلا نفر قليل من أصحاب رسول الله (صلي الله علية وسلم)، فلم يبايعه سعد بن عبادة لما كان في السقيفة وتأخر علي بن أبي طالب شهرا ولم يبايعه، ومع ذلك فقد استمرت إمامته منذ دفن رسول الله (صلي الله علية وسلم)، ولم يضره أن بعض الأفراد لم يبايعوه فانعقدت البيعة عليهم ببيعة الجميع.
ولما حضرت أبا بكر الوفاة عهد بالأمر إلى عمر، وكتب له كتابا بذلك وبايع الناس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -بيعة المسجد، ثم لما جرح عمر وحضره الموت عهد بالأمر إلي أهل الشورى الستة الذين توفى رسول الله (صلي الله علية وسلم) وهو عنهم راض، وعلي أن يختاروا أحدهم للخلافة وهم أول الناس بذلك، وهم الذين يدور عليهم الأمر، فتنازل ثلاثة لثلاثة وتنازل الثالث للاثنين بشرط أن يجعل الاختيار له وهو عبدالرحمن بن عوف، فاختار بيعة عثمان، وبقيت البيعة بعده لعلي، ثم لما قتل عثمان كانت البيعة من عهد عمر لعلي بن أبي طالب، بسبب تنازل إخوانه، ثم بعد علي كانت ستعود لبقية الستة فلم يكن أحد منهم حيا وقت قتل علي بن أبي طالب غير سعد بن أبي وقاص، فكان اللازم أن يبايع سعد، ولكن قدر الله وما شاء فعل، فتجدد نوع آخر من البيعة وبايع معاوية الناس علي شروط شرطها عليهم وأيمان يقسمونها، وكذلك كما ذكرنا طالب يزيد الناس علي بيعة أخرى ، فتطور الأسلوب عبر التاريخ.
وهكذا كانت تشترط الأيمان بالطلاق والعتاق، مع أن الرسول (صلي الله علية وسلم) نهي عن الحلف بهما وقال:”من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت”، وقال:”من حلف له بالله فليرض”، ومع هذا فقد جاء الملك العاض وأجبر الناس علي هذه الأيمان، وأفتي بعض العلماء بعدم لزوم هذه الأيمان، ورأي أن ذلك من الإكراه، ومن هؤلاء العلماء الإمام مالك أبو عبدالله رحمه الله تعالى .
وكل هذه التطورات عبر التاريخ في أسلوب البيعه وفي متضمنها وطريقتها، بالإضافة إلي بعض التطورات التي طويناها ولم نشر إليها، مثل تفريق الرسول (صلي الله علية وسلم) بين أصحابه في البيعة،كذلك في بيعة النساء فقد اختلفت الأساليب، فروي أنه كان يدخل يده في إناء فيه ماء ثم يغمس النساء أيديهن في ذلك الإناء، وروي أن عمر كان يبايع الناس بالنيابة عنه، وروي أنه كان يبايعهن من وراء ردائه، وكل هذه الأحاديث فيها مطعن لأهل العلم، والثابت عنه (صلي الله علية وسلم) أنه كان يبايعهن بالكلام، ولم يكن يبايعهن بصفقة اليد، ولذلك قال:”إني لا أصافح النساء، وإنما مقال لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة"، فهذه التطورات في البيعة كلها ترشدنا إلي أن البيعة ليست ثابتة علي منهج محدد فهي تدور مع المصلحة حيث دارت.
ولاشك أن كون القائد أو الأمير واحدا هو الأصل وهو المطلوب الشرعي والموافق للمقصد في عدم التنازع وعدم التشاكس، ولكن اقتضت الضرورة قيام بيعات أخرى ، وأصل البيعة هي العهد علي الطاعة في المعروف شرعا. والأصل أن الإمام إذا أعطي بيعة قام بمصالح المسلمين وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر لأنه لابد من سلطة تتحمل عبء الدعوة إلي الله تعالى لتبليغها إلي آفاق الأرض، لابد من سلطة مؤمنة مجاهدة، ترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله، سلطة تقوم على هاتين الركيزتين لتحقيق منهج الله في الأرض وإقراره في الحياة الإنسانية ومباشرة تنفيذه في الداخل والخارج.
والدعوة إلى الله والأمر بم المعروف والنهي عن المنكر وإقرار الخير بين الناس. تكليف شديد وليس بالأمر الهين أو اليسير، إذا نظرنا إلى طبيعته وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم وأهوائهم ومصالحهم ومنافعهم، وغرور بعضهم وكبرياء الآخر، وفيهم الجبار الغاشم، وفيهم الحاكم المتسلط وفيهم الهابط والمنافق الذي يكره الجد، وفيهم المسترخي الذي يكره الصعود، وفيهم المنحل الذي يكره الفضيلة، وفيهم الظالم الذي يمقت العدل، وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة. وهؤلاء وأولئك يحتاجون إلى تكاتف ورعاية حتى تستطيع الدعوة أن تطوعهم للخير ويستطيع الدعاة أن يجدوا منهم آذانا صاغية وقلوبا مفتوحة تنقلهم نقلة كريمة إلى منهج الله وهديه. إن إقامة هذه السلطة ضرورة من ضرورات قيام المنهج ذاته، فمنهج الله في الأرض لا يقوم بمجرد الوعظ والإرشاد والبيان فقط وإن كان هذا يمثل شطرا من الدعوة أما الشطر الباقي فهو قيام سلطة وقيادة تحمل منهج الله في الأرض، وتقوم به وتبلغه للناس بما ترسمه من الوسائل والخطط وبما تنظمه من إمكانات وتدربه من دعاة وتبثه من إعلام، ثم تحيط كل ذلك بسياج وحماية ورعاية كما تقوم تلك السلطة بصيانة تقاليد الجماعة وحمايتها من أن يعبث بها كل ذي هوي وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة.
علي هذا قامت الجماعة الأول في المدينة، واستمرت به الدعوة الإسلامية بعد ذلك في العصور الإسلامية المجيدة، حيث كانت يتنفس في رحابها هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية، المعروف فيها هو الخير والفضيلة والعدل، والسيادة فيها لأوامر الله، والمنكر فيها هو الشر والرذيلة والباطل والظلم، عمل الخير فيها أيسر من عمل الشر، والحق فيها أقوي من الباطل والعدل أنفع من الظلم، فاعل الخير فيها يجد علي الخير أعوانا وصانع الشر يجد مقاومة وخذلانا.
للمحسن فيها أجر إحسانه، وللمسيء فيها جزاء بطلانه، تعطي للرجال منازلهم وللأبطال أماكنهم، ولأهل الحق درجاتهم، لا يضيع فيها أجر المحسنين أو ثواب العاملين، أو جزاء المخلصين، لهدا طوف الإسلام في أرجاء الأرض وشرق وغرب ودخل الناس في دين الله أفواجا.
ولكن إذا لم تكن هناك سلطة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر أو منعت السلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
هل يستكين الناس، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فريضة لازمة؟
وهل ينتظرون سلطان ؟
وهل يشترط للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذن الإمام أو الحاكم ؟
قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لأحاد المسلمين ولا يشترط له إذن الإمام أو الحاكم.
قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول، والعصر الذي يليه كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم علي التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية إذن من الإمام .
قال الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في ذلك: واستمرار عادات السلف علي الحسبة علي الولاة أي أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر قاطع بإجماعهم علي الاستغناء عن التفويض أو الإذن في ذلك، بل كان من أمر بمعروف فإن كان الوالي راضيا به فذاك، وإن كان ساخطا له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه فكيف يحتاج إلي إذنه في الإنكار عليه ويدل علي ذلك عادة السلف وما روي عنهم في الإنكار علي الأئمة”.
رأي الإمام محمد عبده في وجوب إقامة جماعة للدعوة إلى الله:
قال الإمام محمد عبده - رحمه الله -: الدعوة في الصدر الأول قد تيسر بغير تعليم صناعي ولا تأليف جمعيات معينة، أما في هذا الزمان فإنه يتوقف فهم الدين علي التعلم الصناعي، وتتوقف الدعوة إليه، والأمر بما جاء به من المعروف وما حظره من المنكر علي تعليم خاص وتأليف جمعيات خاصة تقوم بهذا العمل، ولا ينتشر الدين ولا يحفظ علي وجهه إلا بهذا كما تقدم التنويه به في قوله تعالى :"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير”، (السورة).
فالمراد التنويه به، فالمراد بالأمة التي ذ قيمها الأمة لذلك ما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالجمعية. قال الأستاذ الإمام: ومن أعمال هذه الأمة الأخذ علي أيدي الظالمين، فإن الظلم أقبح المنكر، والظالم لا يكون قويا ولذلك اشترط في الناهين عن المنكر أن يكونوا أمة، لأن الأمة لا تخالف ولا تغلب كما تقدم، فهي التي تقوم عوج الحكومة والمعروف أن الحكومة الإسلامية مبنية علي أصل الشورى، وهذا صحيح والآية أدل دليل عليه ودلالتها أقوي من قوله تعالى :” وأمرهم شورى بينهم" * (الشوري: 38)، لأن هذا وصف خبري لحال طائفة مخصوصة أكثر ما يدل عليه أن هذا الشيء ممدوح في نفسه محمود عند الله تعالي، وأقوي من دلالة قوله:” وشاورهم في الأمر" * (آل عمران: 159)، فإن أمر الرئيس بالمشاورة يقتضي وجوبه عليه ولكن إذا لم يكن هناك ضامن يضمن امتثاله للأمر فماذا يكون إذا هو تركه ؟ وأما هذه الآية فإنها تفرض أن يكون في الناس جماعة متحدون أقوياء يتولون الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو عام في الحكام والمحكومين، ولا معروف أعرف من العدل ولا منكر أنكر من الظلم، وقد ورد في الحديث” لابد أن يأطروهم علي الحق أطرا".
ثم يقول الأستاذ الإمام محمد عبده –رحمه الله تعالي-: ما مثاله مع شيء من التفصيل: إذا كان كل فرد من أفراد المسلمين مكلفا الدعوة إلن الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمقتضى الوجه الأول في تفسير الآية، فهم مكلفون بمقتضى هذا الوجه الثاني أن يختاروا أمة منهم تقوم بهذا العمل لأجل أن تتقنه وتقدر علي تنفيذه إن لم يوجد ذلك بطبعه كما كان في زمن الصحابة، فإقامة هذه الأمة الخاصة فرض عين يجب علي كل مكلف أن يشترك فيه مع الآخرين، ولا مشقة في هذا علينا، فإنه يتيسر لأهل كل قرية أن يجتمعوا ويختاروا منهم من يرونه أهلا لهذا العمل، وعبارة الأستاذ: ويختاروا واحدا منهم أو أكثر، كأنه يريد بالواحد أن ينضم إلى من يختار من سائر القرى والبلاد لأجل الضرب في الأرض للدعوة إلى الإسلام في غير بلاده، أو لإقامة بعض الفرائض والشعائر، أو إزالة بعض المنكرات من بلد آخر من بلاد المسلمين، وإلا فالواجب علي أهل القرية أن يختاروا جماعة يصح أن يطلق عليهم لفظ”الأمة" ويعملوا ما تعمله بالاتحاد والقوة ليتولوا إقامة هذه الفريضة فيها، كما يجب ذلك في كل مجتمع إسلامي سواء كان في الحواضر أو البوادي، فإن معني الأمة يدخل فيه معني الارتباط والوحدة التي تجعل أفرادها علي اختلاف وظائفهم وأعمالهم - حتى في إقامة هذه الفريضة عند تشعب الأعمال فيها -كأنهم شخص واحد كما هو ظاهر وصرح به الأستاذ في هذا المقام.
قال: وهذه الأمة يدخل في عملها الأمور العامة التي هي من شأن الحكام وأمور العلم وطرق إفادته ونشره، وتقرير ا لأحكام وأمور العامة الشخصية، ويشترط فيها العلم بذلك، ولذلك جعلت أمة، وفي معني الأمة القوة والاتحاد، وهذه الأمور لا تتم إلا بالقوة ؟الاتحاد، فالأمة المتحدة لا تقهر ولا تغلب من الأفراد، ولا تعتذر بالضف يوما ما، فشرك ما عهد إليها، وهو ما لو ترك لتسرب الفساد إلى مجموع المسلمين .
إلي أن قال: ثم إن كون القائمين بالأمر والنهي أمة يستلزم أن يكون لا رياسة تدبرها، لأن أمر الجماعة بغير رياسة يكون مختلا معتلا، فكل كون لا رياسة فيه فاسد، فالرأس هو مركز تدبير البدن وتصريف الأعضاء في أعمالها، وكذلك يكون رئيس هذه الأمة مصدر النظام وتوزيع الأعمال علي العاملين، فمنهم من يوجهون إلى دعوة غير المسلمين إلي الإسلام، ومنهم من يوجهون إلى إرشاد المسلمين في بلادهم، ومقام الرياسة يختار بالمشاورة لكل عمل، ولكل بلاد من يكونون أكفاء للقيام بالواجب فيها، لتكون أعمالهم مؤدية إلى مقصد الأمة العام، فإن معني الأمة أن يكون للأفراد الذين تتكون منهم وحدة في القصد من أعمالهم وسيرهم فإذا اختلفت المقاصد فسد العمل باختلاف الآراء وتنكيث القوي، ولذلك جاء بجد هذه الآية النهى عن التفرق والاختلاف.
إذن فالتعاهد علي الدعوة وعلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبيعة عليه لازمة، لقوله تعالى :” وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” (المائدة: 2)، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.. هذا وقد أخذ الرسول (صلي الله علية وسلم) بيعات كثيرة علي الإسلام وعلي البر والتقوى منها:
1 - البيعة علي السمع والط