الإخوان المسلمون والسياسة الحزبية (5)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون والسياسة الحزبية (5)


[15:06مكة المكرمة ] [04/07/2009]

ما زلنا بصدد علاقة الإخوان بحكومة حسين سري باشا؛ لأنها كانت أكثر الحكومات التي اضطهدت الإخوان في هذه الفترة، ولقد تعدَّد الاضطهاد ما بين نفي إلى قنا، ومحاولة شراء الإخوان بالمال من قِبل الإنجليز، ثم محاولة حلِّ الجماعة؛ بناءً على أوامر الإنجليز، ثم استكملت الوزارة تعنتها باعتقال الإمام البنا والأستاذ أحمد السكري وكيل الجماعة والأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للجماعة.

وقلنا: إن الإمام البنا وصاحبيه تمَّ نفيهم في شهر مايو من عام 1941م؛ لكن بسبب الضغوط الرسمية والشعبية، عاد الإمام البنا مرة أخرى إلى القاهرة، غير أنه كانت تنتظره مفاجأة؛ وهي أن حسين سري باشا، وبناءً على أوامر من الإنجليز أصدر قرارًا باعتقاله، ومعه صاحباه في 14 أكتوبر من عام 1941م، وإنْ كان الأستاذ عبد الحكيم عابدين كان قد اعتُقل قبله بفترة بسيطة، وخرج بعده أيضًا بفترة، وكان الإنجليز يهدفون إلى عرقلة مسيرة هذه الجماعة الفتية، في ظلِّ الضربات التي كان يوجهها الألمان للإنجليز في كل مكان.

كان الاعتقال على خلفية المؤتمر الذي عقده الإخوان في دمنهور في 3/10/1941م، وهاجم فيه الإمام البنا السياسة البريطانية، وبناءً على ذلك رفع مأمور بندر دمنهور مذكرة لسري باشا؛ فتمَّ اعتقال الإمام البنا ووضع في معتقل الزيتون، وقد أقام الأستاذ البنا والسكري وعبد الحكيم عابدين في نفس الغرفة، وانشغل الإمام البنا داخل المعتقل بالعبادة ومراجعة القرآن الكريم، واهتمَّ بمتابعة أمور الدعوة بالخارج.

وخلال فترة اعتقال الإمام البنا وصاحبيه، حرَّك الإخوان المظاهرات للضغط على الحكومة؛ لكي تفرج عن المرشد وزملائه، ومن ذلك ما قام به طلاب الإخوان من عمل اعتصام، وهتفوا ضد الظلم والطغيان، وذلك بعد صلاة الجمعة بمسجد السلطان حسن.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل قام الإخوان في كل مكان بإرسال البرقيات إلى الديوان الملكي والملك، يلتمسون فيها الإفراج عن الإمام البنا وصاحبيه.

يقول الدكتور زكريا بيومي: "وقد حدثت مصادمات بين البوليس وطلاب الإخوان بالقاهرة في 12 نوفمبر؛ بسبب إصرار الطلاب على عقد مؤتمر للمطالبة بالإفراج عن الإمام البنا، إلا أن البوليس منع ذلك بالقوة".

ولقد شاركت الهيئاتُ الإخوان في الضغط على الحكومة من أجل الإفراج عن الإمام البنا، وأمام هذا الضغط وخوف الحكومة من انتقال الأمر مرة ثانية إلى البرلمان أرسل حامد بك جودة سكرتير حزب السعديين إلى الإمام البنا في المعتقل للتفاوض معه على خروجه وحده، وإبقاء صاحبيه كحلٍّ وسط، ولكن الإمام البنا رفض أن يخرج إلا بعد أن يخرجا أولاً، وردَّ عليه كما يذكر الأستاذ جمعة أمين بقوله: "يا أستاذ حامد لست ممن يريد أن يصطنع من المعتقلات مواقف بطولية، ولكن إذا كان التحمس لهذه الدعوة جريمة فأنا المجرم الأول، وإن كانت مؤامرة فأنا رأس المؤامرة، وإن كان اعتداءً على النظام فأنا أول المعتدين، فأي حكمة لكم، وأي سياسة تلك التي تجعلكم تمنحونني الحرية وتتركونهم.

فقال له حامد جودة: "إن حسين سري ما كان ليقبل الإفراج عنك إلا بعد أن هدَّدنا بالاستقالة فلا تخذلني"، فقال له الإمام البنا: "آسف أن أقول لك: إنني أدرِّس كتاب كليلة ودمنة للتلاميذ بالمدارس، وأدرس فيه قصة الحمامة المطوقة المعروفة، التي أبت أن تخرج من الشبكة إلا مع آخر حمامة أسيرة معها، بمساعدة الفأر الذي عرض عليها أن يخرجها أولاً؛ فتكون مساعدةً له في إخراج باقي زميلاتها، لكنها تيقنت أنه بمجرد أن يقرض الشبكة من عندها ويحررها ستفتر همته، وربما يترك الباقين، أما وهي حبيسة؛ فلن يهدأ إلا بعد أن يخرجها، ثم قال له: أأعلِّمُ التلاميذ هذا الوفاء وأفعل غيره؟! والله لا يكون".

وفي 13 نوفمبر من نفس العام، صدر قرار بالإفراج عن الإمام البنا والسكري وإبقاء عابدين، فرفض الإمام البنا؛ لكنه وافق بعدما أخذ وعدًا بالإفراج عنه في أقرب فرصة، وأيضًا بعد ضغط الإخوان عليه بالقبول.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل بلغ على تفكير الإنجليز في اغتيال الإمام البنا، بعد أن أعيتهم الحيل في كسبه إلى صفوفهم، ومن ثَمَّ جهز العدة لاغتياله عن طريق دهسه بعربة تابعة للجيش الإنجليزي، على أن يصور الحادث على أنه قضاء وقدر، إلا أن المؤامرة تمَّ اكتشافها، وقام الإخوان بنشرها؛ مما أفزع الإنجليز وأحجموا على الإقدام على تنفيذ هذا المخطط، بعد كشف المؤامرة؛ خاصة في ظلِّ الهزائم المتتالية لهم أمام الألمان.

لقد ربَّى الإمام البنا أتباعه على تحمل هذه الصعوبات التي ستواجه الدعوة فقال في رسالة المؤتمر الخامس: "أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولةً عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميَها، ستلقون منهم خصومةً شديدةً وعداوةً قاسيةً، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقَّات، وسيعترضكم كثيرٌ من العقبات، وفي هذا الوقت وحدَه تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، أما الآن فلا زلتم مجهولين، تمهِّدون للدعوة، وتستعدون لما تتطلَّبه من كفاح وجهاد.. سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبةً في طريقكم، وستجدون من أهل التديُّن ومن العلماء الرسميين مَن يستغرب فهمَكم للإسلام، وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقِد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كلُّ الحكومات على السواء، وستحاول كلُّ حكومة أن تحدَّ من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم".

وقد ازدادت شراسة الإنجليز ضد الإخوان، فبعد كل ما قاموا به وجدوا أن الدعوة قد ازدادت قوية، وزاد عدد أنصارها، سواء وسط طلبة الجامعة أو وسط ربوع الشعب، ومن ثَمَّ كان لا بد من عَمَل عملٍ ينفر الناس من هذه الدعوة، فوجدوا بغيتهم أثناء تقدم روميل بأن قاموا باتهام الأخَوَيْن: محمد عبد السلام فهمي، وكان مهندسًا في مصلحة الطرق والكباري بطنطا، وجمال الدين فكيه، وكان موظفًا ببلدية طنطا؛ عن طريق المجلس البريطاني" بطنطا بتهمة إعداد جيش للترحيب بمقدم روميل، وإحداث بلبلة وسط المجتمع، وأنهما الوسيطان بين الإمام البنا ومجموعة أفراد عرَضَت على الأستاذ البنا شخصيًّا أنواعًا من السلاح والعتاد الألماني، وقد اعترف الأفراد المقبوض عليهم من غير الإخوان بذلك كما خطط الإنجليز، فقبض على الأخوَيْن، وقُدِّما للمحاكمة العسكرية، وسُمِّيت القضية "الجناية العسكرية العليا 883 لسنة 1942م قسم الجمرك، وُنْظِرَت القضية أمام محكمة الجنايات العسكرية العليا بباب الخلق.

واهتمَّ الإمام البنا بهذه القضية؛ لأنه لو ثبت صحتها فسيؤدي الأمر إلى حلِّ الجماعة ومحاكمة أعضائها جميعًا أمام القضاء العسكري، فكلَّف مجموعةً من الإخوان بحضور الجلسات وكتابة كل ما يحدث في الجلسة، ووكل الإمام البنا كلاًّ من الأستاذ محمد علي علوبة باشا، والدكتور علي بدوي، والأستاذ عمر التلمساني وغيرهم للدفاع عن الأخوين، واستطاعوا أن يشكِّكوا في مصداقية المحاكمة، فبعد مراجعة المدعي ثانيةً، وتهديده بالمواجهة مع المدعَى عليه كذب نفسه، وتراجَع في اعترافه، وذكر أن ذلك لم يحدث، وبعد المداولة خرجت هيئة المحكمة وكانت مكوَّنةً من 5 أعضاء برئاسة المستشار فؤاد بك أنور، وعضوية المستشارَين محمد توفيق إبراهيم بك، وزكي أبو الخير الأبوتجي بك، ومعهم اثنان من العسكريِّين، ونطق رئيس المحكمة بالأحكام، وفي صدرها براءة الأخوَين: جمال الدين فكيه، ومحمد عبد السلام.

وعلَّق الأستاذ فهمي أبو غدير المحامي على هذه القضية في رسالة "قضيتنا"، عندما فنَّد الأسباب التي استند إليها النقراشي باشا في حلِّ الجماعة؛ حيث قال: أولاً الجناية العسكرية العليا رقم 883 لسنة 1942م قسم الجمرك، وقد كان موضوع الاتهام فيها الدعاية للمحور، وشاء ذوو الأغراض أن يقحموا فيها الإخوان المسلمين، وادَّعى أحد المتهمين بأنه عرض على الأستاذ البنا شخصيًّا أنواعًا من السلاح والعتاد الألماني، وأن الأستاذ البنا سُرَّ بذلك، ورحَّب بالحصول على هذه الأسلحة، وأن الوسيط في ذلك إخَوَان من إخوان طنطا، وقد قبض عليهما فعلاً وقَضَيا في السجن ثمانية أشهر ونصف.. وماذا كانت النتيجة بعد ذلك؟!

لم تكن العلاقة بين الإخوان وسري قائمة على الاضطهاد فقط، بل تعدَّت إلى النصح الذي كان يقوم به الإخوان مع كل الوزارات وأيضًا التصدي للفساد، فقد قاد الإخوان حملةً مع بعض المخلصين من أبناء الوطن من أجل إلغاء الميسر بأنواعه، وعلى رأسه سباق الخيل؛ مما دفع النائب عبد المجيد الرمالي بسؤال لرئيس الوزراء حسين سري، مطالبًا إياه بإصدار أمر عسكري بإغلاق جميع المكاتب الفرعية الخاصة بالرهان على سباق الخيل؛ رعاية للأخلاق، ومنعًا لجرائم السرقة وخيانة الأمانة.

وبذلك نكون قد تعرَّفنا على تاريخ الإخوان مع الحكومات، وطبيعة هذه الحكومات التي باعت نفسها للمحتل من أجل مصالحهم الشخصية.

وفي الحلقات القادمة نستكمل علاقة الإخوان بحكومات وحزب الوفد والحكومات السعدية وصدقي باشا.


للمزيد

1- زكريا سليمان بيومي: الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية فى الحياة السياسية المصرية- مكتبة وهبة- القاهرة- الطبعة الثانية- 1412هـ/ 1991م.

2- جمعة أمين عبد العزيز: (أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين)- دار التوزيع والنشر الإسلامية- الكتاب الرابع- 2004م.

3- رسالة قضيتنا: تعليق الأستاذ فهمي أبو غدير المحامي، والتي أخرجها في كتيِّب عام 1398هـ، الموافق 1978م.