الحوار أم المواجهة؟!
بقلم د. حسان حتحوت
الحقيقة التي تؤكدها النبوة على تاريخها الطويل، ويدلل عليها الواقع، ويثبتها التاريخ البشرى، أنَّ الحوار بألوانه المتعددة: البرهان والبيان والمناقشة والتشاور والمجادلة بالتي هي أحسن، هي طريق الوصول إلى الإنسان، وهي وسيلة النبوة، كل النبوة، من لدن آدم عليه السلام؛ ذلكَ أن النبوة قرآن وبرهان وبيان قبل أن تكون سلطانًا، وأمة وفكرة قبل وبعد أن تكون دولة وسلطة.
ومن المعلوم: أن المواجهة والعنف والصراع لم تُشرع إلا لحماية الحوار وتأمين أجوائه وفتح قنواته، ذلك أن الإنسان لا يُقاد إلا من خلال قناعاته؛ حيث التدين أرقى أنواع الحرية والاختيار وتحقيق كرامة الإنسان.
ومن المعلوم أيضًا أن النبوات جميعًا اقتصرت على الحوار والدعوة، وتحملت في سبيل ذلك كل أنواع الأذى والإساءة والدفع بالتي هي أحسن، وفي تاريخ النبوة لا نجد سوى نبوة داود وسليمان ومحمد صلوات الله وتسليماته عليهم جمعت بين النبوة والحكم، بين السلطان والقرآن، بين الدولة والأمة، وشرعت الجهاد والمواجهة بضوابطها الشرعية وفي أضيق الحدود لحماية الدعوة وإزالة المعوقات وفتح الانسداد في أقنية الحوار ولهذا مغزاه الكبير، ذلك أن المواجهة العمياء والظن بأنها تعبد الإنسان هي عودة إلى حياة الغاب، وارتكاس بصفات وخصائص الإنسان، وردة نحو البهيمية.. حتى في عالم الحيوان اليوم أصبح من الممكن ممارسة عمليات الاستئناس والتأليف حتى للحيوانات المفترسة، وذلك بعد ترويضها من قِبَل الإنسان.
انتشار الإسلام كان بالحوار لا بالمواجهة
إضافةً إلى أنه حتى النبوات التي حلت معادلة تلازم الألوهية والحكم، ونزعت صفة الألوهية عن الحكام، وسوت الناس أمام الخالق، إنما كان انتشارها بالحوار لا المواجهة، ولو كانت المواجهة هي السبيل لانتصر أصحاب السيف وهزم أصحاب القيم.. والتاريخ ينبئنا بغير ذلك.. وهذه المعادلة الحضارية يمكن أن تعتبر سنة ماضية إلى يوم القيامة.. والعبرة بالعواقب البعيدة وليس بالنتائج القريبة التي قد توهم بغير ذلك..
ولا أدل على ذلك من التاريخ القريب والبعيد، من أنه بمجرد أن تتاح فرصة ولو محدودة، أو هامش ولو بسيط، للحرية في بعض بلاد العلم الإسلامي، تأتى كل المؤشرات والنتائج والمبشرات في صالح الإسلام والمسلمين، ابتداءً من الانتخابات النقابية وانتهاءً باستفتاءات الدولة والحكومة.
لقد أدرك خصوم الإسلام ذلك تمامًا، حيث تيقنوا أن الإسلام هو خيار الأمة، بضرب النظر عمن يمثله، وأن الحرية والحوار هو المناخ السليم لامتداد الإسلام وانتشاره واختياره، لذلك حولوا الكثير من دول العالم الإسلامي إلى مخافر، وعسكروا معظم الأنظمة، بعد نجاحهم في إسقاط الخلافة، وأجهدوا أنفسهم بوضع فلسفات ومسوغات للتدليل على أن الأمة متخلفة، وغير مؤهلة للحوار والديمقراطية، وغير قادرة على التعامل مع أجواء الحرية، وهي بحاجة إلى الوعي الديمقراطي الحواري، وانتهوا إلى أكذوبة كبرى هي أنه لا بد من حماية الديمقراطية من الديمقراطية، وحماية الحوار من الحوار فكانت أنظمة الاستبداد السياسي..!!
والشيء المحزن حقًا وقوع بعض جماعات وتنظيمات العمل الإسلامي في الشرك، والتوهم بأن المواجهة هي السبيل، الذي يختصر المسافة، ويرغم العدو، ويحقق النصرة، ويستدلون على ذلك بأنَّ الأعداء يواجهوننا وينتصرون علينا، دون أن يدركوا أننا الرابحون في أجواء الحرية والديمقراطية والحوار، بما نمتلك من قيم إنسانية، وأننا الخاسرون في المواجهة والصراع..
علم الأعداء أنهم خاسرون في أجوار الحوار والحرية والديمقراطية؛ لذلك ما عليهم إلا استفزازنا وإغضابنا وجرُّنا للمواجهة، لتكريس غلبتهم والقضاء علينا، وهذا الأمر الذي نطرحه بين الحوار والمواجهة ليس جديدًا، أو بسبب الظروف المحيطة أو الشعارات والأفكار المطروحة على المنطقة الإسلامية للمناقشة، سواء على المستوى السياسي أو الإعلامي أو التعليمي، كما أنَّ هذا الطرح لأهمية الحوار والحرية والشورى ليس رد فعل على الإخفاقات الكبيرة للمواجهة في الواقع الإسلامي، وإن كان تحليلاً واستقراءً لها، كما أنه ليس تراجعًا إلى مواقع الفكر الدفاعي، الذي اجتاح المنطقة الإسلامية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 م.
الحوار مع الذات مقدمة للحوار مع الآخر
والحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها في عالم المسلمين، أن الحوار يكاد يكون غائبًا تمامًا على مستوى الفرد أو إن شئت على مستوى النفس، وعلى مستوى الأسرة والحي والنادي والمدرسة والمجتمع والأمة والدولة حتى أصبح غياب الحوار آفةً وإن شئت فقل ثقافة تلف الجميع!!
إنَّ الحوار الداخلي هو المؤهل للحوار الخارجي، يجب أن نعي ذلك جيدًا، حتى لا يتحول تغييب الحوار إلى وسيلة للهيمنة السياسية، تستدعى المواجهة، وتؤدي إلى صراع الحضارات الذي يريده الكثير من فلاسفة الغرب، فيحل محل حوار الحضارات، الذي يحرص عليه المسلمون، بحجة أن وسائل الحوار لم تجد نفعًا ولم توصل إلى نتيجة.
لذلك نقول: إنَّ الكسب الإسلامي كان ولا يزال يتحقق بالحوار وليس بالمواجهة، كائنًا ما كان هذا الحوار، وإن استقراء التاريخ الحضاري الإنساني يدل على أن الإسلام انتشر بالحوار والدعوة، وإن المواجهة والجهاد إنما شرع لحالات خاصة للحيلولة دون الفتنة "الإكراه" وتقرير حرية الاختيار، وتمهيد سبيل الحوار، وتوفير مناخ الاقتناع.
إنَّ العنف والمواجهة لم تأت أبدًا بخير، بل لعلها تصنع حواجز نفسية، وتشوه الصورة الإسلامية، وتحول دون الإسلام والانتشار، لذلك كان من أخطر الإصابات جر المسلمين إلى المواجهات لتشويه صورة الإسلام ، وقد يصل هذا التشويه إلى صور من الاختراق، واصطناع عناصر وتثقيفهم بالثقافة المطلوبة لممارسته باسم الإسلام .. ولا ننكر هنا أن الكثيرَ من المسلمين قد يتوهمون أن المواجهة هي الطريق الأقصر لخدمة الإسلام ونشره كرد فعل؛ لأن خصمنا انتصر علينا بالمواجهة، فلِمَ لا نلجأ إليها.
وقد تغري المواجهة بما يمكن أن يتحقق من نتائج قريبة، لكنها تخفي وراءها العواقب الوخيمة البعيدة، والعبرة دائمًا بالعواقب، وهذا منطق السنن وحكم التاريخ الذي اختبر هذه السنن ودلل على نضجها.
المصدر
- مقال:الحوار أم المواجهة؟!إخوان أون لاين