الداعية والمربي الإمام الشهيد حسن البنا : ماذا قدم للأمة؟
فضيلة المرشد العام الأستاذ / مصطفي مشهور
مقدمة
المحاولات والجهود المحمومة التي تبذلها جهات بعينها للحيلولة بين شباب الإسلام والنهل من منابع إسلامه الصافي النقي، تكاد لا تتوقف ولا تتغير ، فعلى ساحات كثيرة محلية وخارجية تجري هذه المحاولات والجهود لتحول بين الأمة وخاصة شبابها من أن تعرف حقيقة إسلامها وحقيقة دعوة الأخوان المسلمين ، وما قدمه الإمام الشهيد حسن البنا من منهج كامل هو من صميم الإسلام ، ينهض على أساس منه مشروع حضاري إسلامي عالمي ، قدمه وصاغه في مدة قصيرة لا تزيد عن 20 عاما غير به معالم وأبعاد واقع أفرزه عصر من التراجع كما طرح أفكاره المريضة زحف غربي حاول بشتى الطرق والأساليب أن يقتلع جذور هوية وأصالة الأمة ، ويعبث في أرجائها وشتي أقطارها وشعوبها بأفكاره ونظرياته ومفاهيمه .
ووضوح الرؤية والفهم عند الإمام الشهيد ، مع الهمة والعزم في العمل والإنجاز مع التضحية بشتى أشكالها وأنماطها ، صاحبها تربية عميقة جادة للرجال الأبرار الأوفياء الذين حملوا الراية من بعده ومضوا على نفس الدرب بعد رحيله إلى جوار ربه شهيداً ، فكان للمنهج ، وللمشروع وللرجال أعظم الأثر وأقوي البصمات في تحدي كافة أشكال الزحف ، والصمود أمام كافة محاولات الإفساد والفساد ، حتى قال أهل الفكر إن ما قدمه الإمام البنا خلال سنوات عمره القصيرة من مشروع للنهوض ، ومنهج للفكر الإسلامي ، وما صاحبهما من تفاعلات في واقع حياة الأمة لهو أمر يحتاج إلى وقفات متأنية ونظرات فاحصة مع تقدير عظيم للمسيرة التي مازالت ممتدة ، وللعمل الذي مازال يثمر حصادا طيبا ، وأثرا فاعلا .
يقول د. محمد عمارة : (على امتداد أوطان الأمة الإسلامية ، بل وفي مواطن الأقليات الإسلامية – خارج دار الإسلام – إذا نظر الباحث المنصف إلى ظواهر وحركات ومشروعات البعث الإسلامي ، والنهضة والتغيير والإصلاح فسيجد ظاهرة الصحوة الإسلامية ، ومشروعها الحضاري أقوي وأخطر وأكبر وأعمق ظواهر ومشاريع العصر الذي نعيش فيه ، يستوي في ذلك التقييم : الباحثون المؤيدون ، أو المعارضون لهذا المشروع) ثم يقول (والحقيقة الثانية التي لن تجد على ها خلافا بين الباحثين، هي الأبوة والإمامة والريادة ، التي يمثلها الإمام الشهيد حسن البنا ، بالنسبة لهذه الظاهرة الكبرى التي تمثل أمل النهضة لدي الإسلاميين ، والقلق المخيف لأعداء الإسلام)
لقد طرح الإمام البنا مفاهيم خالصة صافية للإسلام ، العقيدة والشريعة ونظام الحياة الرباني لخصها بقوله في رسالته بين الأمس واليوم ، يقول '(ومن الحق أيها الإخوان أن نذكر أننا ندعو بدعوة الله ، وهي أسمى الدعوات ، وننادي بفكرة الإسلام وهي أقوم الفكر ، ونقدم للناس شريعة القرآن ، وهي أعدل الشرائع).
الدين والسياسة
ولعله من قبيل الإشفاق أو من قبيل تلبس في الرؤية أن يظن البعض أن الصراع والتضييق الواقع على الإخوان ، إنما هو بسبب رؤيتهم للسياسة واعتمادها شطرا من الإسلام ، ولعله أيضا من قبيل كيل الاتهامات والسعي لتشويه الصورة أن تزعم جهات (إن الإخوان سيّسوا الدين ، أي انحرفوا بدعوتهم من دعوة دينية ، إلى الاشتغال بالسياسة)
ويرد الإمام البنا على هؤلاء فيقول (فمن ظن أن الدين أو بعبارة أدق – الإسلام لا يعرض للسياسة ، أو أن السياسة ليست من مباحثه ، فقد ظلم نفسه ، وظلم علمه بهذا الإسلام ، ولا أقول ظلم الإسلام ، فإن الإسلام شريعة الله ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وجميل قول الغزالى رضي الله عنه (اعلم أن الشريعة أصل ، والملك حارس ، ومالا أصل له فمهدوم ، ومالا حارس له فضائع) فلا تقوم الدولة الإسلامية إلا على أساس الدعوة ، حتى تكون دولة رسالة ، لا تشكيل إدارة ، ولا حكومة مادة جامدة صماء لا روح فيها ، كما لا تقوم الدعوة إلا في حماية تحفظها وتنشرها وتبلغها وتقويها) من رسالة نظام الحكم في الإسلام .
ويقول الإمام البنا :
(أستطيع أن أجهر في صراحة ، بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيا بعيد النظر ، في شئون أمته ، مهتما بها غيورا عليها) ولعل من أهم إنجازات الإمام الشهيد أن تصدي لهجمة العلمانية وأكد ورسخ مفهوم الإسلام الذي ربط بين الدين والسياسة ، وشئون الدنيا وشئون الآخرة فنادي في الأمة بما نادي به الأوائل والسلف الصالح الذين اتبع نهجهم ومضي على مفهومهم "بأن الإسلام .. دين ينهض على أساسه البناء ، وتنضبط بمفاهيمه وتعاليمه الدنيا ، وكافة التصرفات وأنماط السلوك والممارسات ، وتنطلق من قيمه ومثله السياسات والتوجهات ، ويشهد له كل المنصفون أنه كان ومازال عظيم الأثر في تثبيت المعالم الصحيحة حين أكد على الشورى ركنا من أركان بناء الأمة وعلى الحرية فريضة ، وعلى الجهاد سبيلا وعلى الربط بين الأصالة والهوية والعصرية ، طريقا للتقدم والنهوض .
كما يقرر رحمه الله (أن الإخوان ما كانوا يوما من الأيام غير سياسيين ، ولن يكونوا في يوم من الأيام غير مسلمين ، وما فرقت دعوتهم أبدا بين السياسة والدين )
وفي وظيفة العقيدة يقول الإمام : إن العقيدة هي الأمر الذي يجب أن يصدق به قلبك ، وتطمئن إلى ه نفسك ، وتكون يقينا عندك ، لا يمازجه ريب ولا يخالطه شك) ويقول (أيها الإخوان ، آمنوا بالله ، واعتزوا بمعرفته ، والاعتماد على ه ، والاستناد إلى ه ، فلا تخافوا غيره ، ولا ترهبوا سواه ، وأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه) من رسالة بين الأمس واليوم .
والحق أن عقيدة التوحيد ، قوة هائلة في أيدينا ، قوة عميقة في كياننا ، لا يمكن أبدا أن يتخلى عنها الفرد ، أو الأمة ، في الصراع مع الباطل ، إلا أن يكون هناك اضطراب في الموازين ، أو حمق وسفه في العقول .
من أجل ذلك وعلى أساس منه فإن من معالم المشروع الحضاري للنهضة ، مواجهة التغريب والتبعية والتقليد ، لقد واجه الإمام العلمانيين ودعاة التغريب ، الذين يصرون على إبعاد الدين عن الحياة ، ويصرون على اختراق عقل الأمة ، وأصبح لهم أنصار من بين أبنائها ، فقال الإمام بصراحة : (إن الحضارة الغربية بمبادئها المادية ، قد انتصرت في هذا الصراع الاجتماعي ، على الحضارة الإسلامية ، بمبادئها القويمة الجامعة للروح والمادة معا ، في أرض الإسلام نفسه ، وفي حرب ضروس ميدانها نفوس المسلمين ، وأرواحهم وعقائدهم وعقولهم ، كما انتصرت في الميدان السياسي والعسكري ، وكما كان لذلك العدوان أثره ، في تنبيه المشاعر القومية، كان لهذا الطغيان الاجتماعي أثره كذلك في انتعاش الفكرة الإسلامية) رسالة بين الأمس واليوم .
ثم يقول (ونحن نريد أن نفكر تفكيرا استقلالي ، يعتمد على أساس الإسلام الحنيف ، لا على أساس الفكرة التقليدية ، التي جعلتنا نتقيد بنظريات الغرب ، واتجاهاته في كل شيء ، نريد أن نتميز بمقوماتنا ، ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة مجيدة ، تجر وراءها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل ومظاهر الفخار والمجد) من رسالة دعوتنا في طور جديد .
ومن ثم فإن مشروع الإمام البنا يرفض التبعية والتقليد ، ولكن لا يرفض التفاعل بين الحضارات ، كما لم يكن دعوة للعزلة ، أو الانغلاق ، فهو الذي يقول عن حضارتنا الإسلامية وأمتنا الإسلامية (لقد اتصلت بغيرها من الأمم ، ونقلت كثيرا من الحضارات ، ولكنها تغلبت بقوة إيمانها ، ومتانة نظامها ، على ها جميعا فعربتها أو كادت واستطاعت أن تصبغها ، وأن تحملها على لغتها ودينها ، بما فيها من روعة وحيوية وجمال ، ولم يمنعها أن تأخذ النافع من هذه الحضارات جميعا ، من غير أن يؤثر ذلك في وحدتها الاجتماعية والسياسية) المرجع السابق .
مفهوم التجديد عن الإمام الشهيد
في مواجهة التخلف الموروث .. دعا الإمام البنا إلى "التجديد" وأعلن في صراحة "أن دعوته هي واحدة من الدعوات التجديدية لحياة الأمم والشعوب" المرجع السابق
ولقد طالب بالتمييز بين "الدين الثابت" وبين الفكر المتغير ، والممارسات البشرية" ذلك : أن أساس التعإلى م الإسلامية ومعينها هو كتاب الله ، تبارك وتعإلى ، وسنة رسوله صلي الله على ه وسلم ، وإن كثيرا من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه ، تحمل لون العصور التي أوجدتها ، والشعوب التي عاصرتها ، ولهذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل على ها الأمة من هذا المعين الصافي ، معين السهولة الأولي ، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضي الله عنهم ، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية ، حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا به الله ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه ، والإسلام دين البشرية جمعاء) المصدر السابق
إن الإسلام لا يأبي أن نقتبس النافع ، والحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها ، ولكن يأبي كل الإباء أن نتشبه في كل شئ بمن ليسوا من دين الله في شئ ، وأن نطرح عقائده وفرائضه وحدوده وأحكامه ، لنجري وراء أقوام فتنتهم الدنيا ، واستهوتهم الشياطين) رسالة تحت راية القرآن
قدّم مشروع الإمام البنا موقفا واضحا ثابتا من الغلو ، ومواجهة صريحة للغلاة والمتشددين ، الذين لا هم لهم إلا إصدار الأحكام على المجتمعات والنظم ، فكان موقفه الموقف الموضوعي المتوازن ، فيقول (لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدي الفرائض ، برأي أو معصية إلا أن أقر بكلمة الكفر ، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة ، أو كذب صريح القرآن ، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال ، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر) رسالة التعاليم .
وهذا هو رأي أهل السنة والجماعة ، وهو منطق العلماء الثقات في جميع العصور ، فنحن دعاة لا قضاة .
القضية الفلسطينية في مشروع الإمام الشهيد
لقد اهتم الإمام بجميع قضايا المسلمين في العالم ، وكانت قضية فلسطين موضع العناية ، وقد بذل أبناء البنا في جميع العالم العربي والإسلامي ، كل ما في وسعهم من جهد ، وعملت الحركة الإسلامية على تبصير الشعوب وتوعيتها بالخطر إلى هودي ، وقادت الحركة الدعوة إلى مقاطعة إلى هود ومؤسساتهم التجارية وكل من يتعامل معهم ، وعقدت المؤتمرات لنصرة فلسطين ، وانطلق رجال الحركة الإسلامية من جميع أنحاء العالم العربي لزيارة فلسطين ومساندة أهلها، وحين حدث التآمر الذي فرض على الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين سارع الإخوان إلى الجهاد وجمع السلاح ، وخوض المعارك ضد اليهود .
وأعلن الإمام البنا عن استعداده لمد فلسطين بعشرة آلاف مقاتل لمواجهة كيد إلى هود ، ورغم أن النقراشي رئيس الحكومة المصرية حينئذ أعلن الهدنة ، وحل الإخوان ، وطالب قائد الجيش في فلسطين بوضع المجاهدين في فلسطين في المعتقلات والسجون ، بعد أن يسلموا أسلحتهم ، إلا أن الإمام البنا لم يستسلم بل أصر على المضي في طريق الجهاد ولإنقاذ فلسطين ، يقول الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين حينئذ رحمه الله في شهادته في قضية السيارة الجيب التي حاولت حكومة النقراشي أن تلفق من خلالها للإخوان المسلمين تهمة جمع السلاح لعمل انقلاب وتهديد أمن الدولة ، لقد زارني المرشد العام للإخوان المسلمين بعد الهدنة الأولي وأبدي قلقه وانزعاجه من تخاذل الحكومات الغربية ومن سعي الجهات الرسمية العربية لتسليم فلسطين لليهود ، وأنه من أجل ذلك سيعمل على تجنيد عشر آلاف متطوع من الإخوان المسلمين لإنقاذ فلسطين والتصدي لكافة المؤامرات .
وفي قضية السيارة الجيب نفسها وقف اللواء أحمد المواوي قائد الجيش المصري في فلسطين ليقول : إن الجيش المصري استفاد بالإخوان المسلمين المتطوعين في فلسطين واستخدمهم كقوة ، حقيقية تعمل على جانبه الأيسر وشاركوا معه في كثير من المعارك بروح معنوية قوية جدا ، وكانوا يزحفون على المستعمرات إلى هودية ليقتلعوا الألغام من تحت أسوارها ثم لينصبوها على الطرق المؤدية لهذه المستوطنات ليوقعوا الخسائر الفادحة باليهود ، كما اشتركوا في معركة العصلوج التي استولي على ها إلى هود أول أيام الهدنة وقامت قوة من الإخوان باستعادتا .
أما اللواء أحمد فؤاد صادق الذي تولي قيادة الجيش المصري بعد اللواء المواوي فقد قال في نفس القضية : إن الإخوان المسلمين كانوا الجنود الأبطال في فلسطين ، أدوا واجبهم على أحسن وجه ، وكان إلى هود يتجنبون دائما مواقع الإخوان ، وأنه رغم صدور قرار بحل جماعتهم في 8/12/1948 إلا أنهم شاركوا في حملة الدفاع عن العريش دون أن يؤثر ذلك على هم، لقد كانوا محط إعجاب الجيش ، ورفضت اعتقالهم حسب طلب الحكومة لحاجتي إلى هم وعوملوا من الجيش معاملة حسنة كريمة ، واتصلت بالجهات المعنية لصرف نياشين لهم لشجاعتهم"
لقد رفع حسن البنا الشعار الصحيح على القضية الفلسطينية وهي أنها قضية عربية إسلامية ، وأكد بالقول والعمل أن الطريق لها هو طريق الجهاد ، تحت هذا الشعار ، واليوم وبعد أكثر من خمسين سنة انحرفت القضية خلالها عن طريق الجهاد وإلى طريق الحلول السياسية ، مع رفع شعار : السلام من خلال المفاوضات خيار استراتيجي لا رجعة عنه" يعود الناس ليؤكدوا أن القضية الفلسطينية قضية عربية إسلامية ، بعد أن صبت محصلة المفاوضات والاتصالات والمعاهدات مع الكيان الصهيوني الغاصب في سلة تصفية القضية ، والسعي الأمريكي إلى هودي لإغلاق ملفها ، فهل يعود الناس إلى طريق الجهاد ، كطريق وحيد لاستخلاص كافة الحقوق ، ليكون هناك تلازم بين شعار عروبة وإسلامية القضية ، وبين الحل الإسلامي للقضية؟