السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث


بقلم : الشيخ محمد الغزالي

مقدمات

مقدمة الطبعة السادسة

فوجئت بصدور خمس طبعات في خمس شهور من هذا الكتاب! مما دل على ظمأ القارئ المسلم الى العلم النافع والدراسة النزيهة..

واتفقت مع الناشر على أن تصدر الطبعة الجديدة وبها زيادات ذات بال، انتفعت فيها من تصويبات أهل الذكر الذين حاورتهم أو كتبوا الي أو سمعت صوتهم من بعد..

وقد شتمني بعض الناس فوجدت الإعراض أولى! ومن من الأنبياء لم يشتم؟ فليتأس أتباعهم بهم في الصبر والتجاوز..!

قالوا: الآله ذو ولد!

قالوا الرسول قد كهنا!

ما نجا الله والرسول معا

من لسان الورى، فكيف أنا!

لكن الشتم الذي أوجعني اتهام البعض لي: بأني اخاصم السنة النبوية!!.

وأنا أعلم أن الله ورسوله أحب الي مما سواهما، وأن إخلاصي للإسلام يتجدد ولا يتبدد، وأنه أولى بأولئك المتحدثين أن يلزموا الفقه والأدب..

فغايتي تنقية السنة مما قد يشوبها! وغايتي كذلك حماية الثقافة الإسلامية من ناس قيل فيهم: إنهم يطلبون العلم يوم السبت، ويدرسونه يوم الأحد، ويعلمون أساتذة له يوم الاثنين. أما يوم الثلاثاء فيطاولون الأئمة الكبار ويقولون: نحن رجال وهم رجال!!.

وهكذا بين عشية وضحاها يقع زمام المسلمين الثقافي بين أدعياء ينظر اليهم أولو الألباب باستنكار ودهشة.

وإذا كان هؤلاء لم يرزقوا شيوخا يرونهم، أو أساتذة يثقفونهم فسوف تربيهم الايام والليالي وما أحفلها بالعجائب..!!

وقد رأيت أن أدخل الإضافات الجديدة في مادة الكتاب نفسه، مشيرا في الهامش الى أنها ردود على شبهات، أو إجابة على تساؤلات.

وأؤكد أنني مع جمهرة الفقهاء والمتحدثين عن الإسلام، ولست صاحب مذهب شاذ، بل إنني من صميم الجماعة ومن حماة أهدافها، وأولو العلم يعرفون ما أعني.

والخطورة تجئ من أنصاف متعلمين أو أنصاف متدينين يعلو الآن نقيقهم في الليل المخيم على العالم الإسلامي، ويعتمد أعداء الإسلام ـ في أوربا وأمريكا ـ على ضحالة فكرهم في إخماد صحوة جديدة لديننا المكافح المثخن بالجراح..

إن الحضارة التي تحكم العالم مشحونة بالأخطاء والخطايا، بيد أنها ستبقى حاكمة مادام لا يوجد بديل أفضل!.

هل البديل الأفضل جلباب قصير ولحية كثة؟ أم عقل أذكى وقلب أنقى، وخلق أزكى وفطرة أسلم وسيرة أحكم؟.

لقد نجح بعض الفتيان في قلب شجرة التعاليم الإسلامية فجعلوا الفروع الخفيفة جذوعها أو جذورا، وجعلوا الأصول المهمة أوراقا تتساقط مع الرياح!.

وشرف الإسلام أنه يبني النفس على قاعدة «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها» وأنه يربط الاستخلاف في الأرض بمبدأ «الذين إن كناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر».

وأنا أتوجه إلى أمراء الجماعات الدينية الأكارم، والى الأوصياء الكبار على تراث السلف أن يراجعوا أنفسهم كي يهتموا بأمرين:

أولهما: زيادة التدبر لآيات القرآن الكريم.

وآخرهما: توثيق الروابط بين الأحاديث الشريفة ودلالات القرآن القريبة والبعيدة، فلن تقوم دراسة إسلامية مكتملة ومجدية إلا بالأمرين معا..

إن الصلف مع العلم رذيلة، فكيف إذا كان الصلف مع عجز وقصور؟؟ وهذا الكتاب حصيلة تجارب كثيرة في ميدان الدعوة أردت به ترشيد الصحوة، وشد أزر العاملين المخلصين.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب».

محمد الغزالي

مقدمة الكتاب

قلبي مع شباب الصحوة الإسلامية الذين عملوا الكثير للإسلام، وينتظر منهم أن يعملوا الأكثر.

إنهم اشتبكوا مع الروس في أفغانستان فطلعوا عليهم بالردى، واضطروهم الى الفرار، ولا يزالون مشتبكين مع فلول المرتدين والخونة، والمعركة لا يؤذن ليلها بصبح قريب، والمعاناة مستمرة.

وقد اشتبكوا من قبل مع الفرنسيين في الجزائر، وكانت تضحياتهم بلا موارا بالدماء والأشلاء، حتى تأذن الله بالفرج، وانكسرت القيود، وعادت صيحات التكبير تنبعث من المساجد التي غلقت «ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها. أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين. لهم في الدنيا خزي ولهم ي الآخرة عذاب عظيم»(1).

وعندما كانت معركة فلسطين إسلامية القيادة والوجهة تضاعفت خسائر اليهود، واصطدمت أمانيهم بأسوار من جديد. ولو ظلت المعركة على طبيعتها فترة أخرى لولى اليهود الأدبار، ورجعوا من حيث جاءوا الى شرق أوربا أو غربها.

لكن المؤامرات العالمية سحبت الإسلام من المعركة وجعلت العرب يقاتلون بلا دين فقامت إسرائيل، ونفخ أوداجها الغرور!.

ثم عاد الإسلام كرة أخرى الى الساحة فإذا انتفاضة جديدة تشعل نار المقاومة، وتذكر العدو والصديق بأن الإسلام وحده هو النجاة!

إن قلبي ولبي مع الصحوة الإسلامية التي تحاك لها المؤامرات العالمية، ويتعرض أبطالها الى ظلم بعد ظلم وألم بعد ألم...

أريد أن أقول للشباب لمكافح: إن تحرير الأرض من محتليها الأجانب هدف عظيم إلا أنه بعض ما نعمل له!

إن السيخ في القارة الهندية يسعون لإقامة دولة للسيخ!

فما دولة السيخ! وما وزنا الإنساني في الأولين والآخرين؟ لا شيء.

إن دولة للعرب قد تقوم هنا أو هناك بعيدة عن الدين، فما قيمة ذلك وأثره؟ إننا طلائع الإسلام الذي يريد إعلاء الوحي الإلهي، وإنصاف الفطرة الإنسانية، وترشيد الحضارة كي ترتبط بربها وتسير على هداه...

إن تراثنا الذي قاد العالم دهرا يجب أن ينهض من كبوته، ويستأنف رسالته ويغسل الأرض من أدرانها.

لذلك أنظر باهتمام شديد الى الجو الفكري الذي يسود ميدان الصحوة، وأتابع بقلق مده وجزره وخيره وشره، وخطأه وصوابه! معتقدا أنه بقدر ما يقترب من الحق تسانده بركات السماء وخيرات الأرض...

وقد تدارست مع أولى الألباب هذا الجو الفكري السائد. واتفقت كلمتنا على ضرورة التعامل معه برفق، واقتياده الى الطريق المستقيم بأناة..

ولاحظنا أن الحقائق الرئيسية في المنهاج الإسلامي لا تحتل المساحة العقلية المقررة لها، وهذه الحقائق افتقدنا الكثير منها في مسيرتنا التاريخية لسيما في القرون الأخيرة!.

فلو كانت أنظمة الحكم اهدى، وعناصر الحرية والعدالة أقوى، ما كنا نسقط في براثن الاستعمار الذي اجتاحنا وكاد يمحو وجودنا ورسالتنا.

ما قيمة نهضة ا تعرف أسباب هزائمها السابقة؟.

إن السلطات المستبدة قديما وحديثا تسرها الخلافات العلمية التي لا تمسها! هل الشك ينقض الوضوء أم لا؟ هل رؤية الله في الآخرة ممكنة أم ممتنعة؟ هل قراءة الإمام تكفي عن المصلين أم لا تكفي؟.

إن حكام الجور يتمنون لو غرق الجمهور في هذه القضايا فلم يخرج! لكنه يشعر بضر بالغ عندما يقال: هل الدولة لخدمة فرد أم مبدأ؟ فماذا يكون المال دولة بين بعض الناس؟ هل يعيش الناس ـ كما ولدوا ـ أحرارا أم تستعبدهم سياط الفراعنة حينا ولقمة الخبز حينا؟.

إن البدوي الذي خاطب الفرس أيام الفتح الأول قال لهم: جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد الى عبادة الله الواحد.

كان هذا البدوي بفطرته الصادقة يعلم ما هي الحائق الكبرى في المنهاج الإسلامي فيفتح البصائر عليها..

وقد أوجع فؤادي أن بعض الشباب كان يهتم بهذه المسألة: هل لمس المرأة ينقض الوضوء أم لا؟.

وكان اهتمامه أحد وأشد من إجراء انتخابات حرة أو مزورة!!

إن عدم سيطرة الحقائق الكبيرة على الوعي الإنساني لا يمكن التغاضي عنه..

وشيء آخر نريد الحديث عنه! ما هو المنطق الذي عوملت به القضايا الثانوية بعدما استحوذت على الأفكار...؟.

لقد شاعت الأقوال الضعيفة والمذاهب العسرة، ورجحت الآراء التي كانت مرجوحة أيام الازدهار الثقافي الأول، حتى وهل الناس أن الإسلام إذا حكم عاد الى الدنيا التزمت والجمود!.

قال لي أحد الناس: ماذا كنت تفعل في«أسيوط» عندما تفاجأ بفرقة من المغنيين تريد «إحياء»«ليلة خليعة»؟.

قلت: سأذهب الى قائد الفرقة وأقول له: نحن نريد سماع كلمات وألحان معينة فهل تلبون رغباتنا؟ فإذا قال: ما تريدون؟ طلبت منه أغنية:

«أخي جاوز الظالمون المدى

فحق الجهاد وحق الفدا»..!!

أو أغنية: يا ظالم لك يوم..!!

أما أن تغني لنا «ليلنا خمر....» فسوف نغلق فمك أو نحشوه بالتراب!

إن إخواننا يقتلون في ميادين كثيرة ولا نرحب بالسكر والنشوة ومصارع المجاهدين تتنامى حولنا..

إننا نكره الفنون الرقيعة ونطارد الماجنين الذين يشيعون بين الناس الخنوثة والضعف..!!.

ماذا لو شرحنا موقف الإسلام بهذا الأسلوب؟.

إذن ممثلين يعيشون في الأوحال صنعوا لأنفسهم بطولة على اساس أن الإسلام يحارب الفن!!

نحن الذين مكنا المهازيل من الدعوى العريضة، وهم بفنونهم الرخيصة لا يساوون شيئا..

وزاد الطين بلة أن قيل للشباب الساذج: نحن لا نريد أقوال الرجال ولا مذاهب الأئمة. نريد الاغتراف مباشرة من الكتب والسنة..

وأنا أكره التعصب المذهبي وأراه قصور فقه، وقد يكون سوء خلق..

لكن التقليد المذهبي أقل ضررا من الاجتهاد الصبياني في فهم الأدلة.. وبديهي أن تنشأ مشكلات ثقافية واجتماعية من هذا النهج، وأن تسمع حدثا يقول: مالك لا يعرف حديثة الاستفتاح، ولاسنة الاستعاذة ولا يدرك خطورة البسملة، ويخرج من الصلاة دون أن يتم التسليمتين، فهو جاهل بالسنة النبوية..!!

وحدثا آخر يقول: أبو حنيفة لا يرفع يديه قبل الركوع ولا بعده ويوصي أتباعه ألا يقرؤوا حرفا من القرآن وراء الإمام، وربما صلى بعد لمس المرأة. فهو يصلي بلا وضوء.

إنه هو الآخر جاهل بالإسلام..!!

وينظر المسلمون الى مسالك هؤلاء الفتية فينكرونها ويلعنونهم...

وقد كان علماء الأزهر القدامى أقدر الناس على علاج هذه الفتن، فهم يدرسون الإسلام دراسة تستوعب فكر السلف والخلف والأئمة الأربعة كما يدرسون ألوان التفسير والحديث وما تتضمن من أقوال وآراء..

لكن الأزهر من ثلاثين عاما أو تزيد ينحدر من الناحية العلمية والتوجيهية. ولذلك خلا الطريق لكل ناعق، وشرع أنصاف وأعشار المتعلمين يتصدرون القافلة ويثيرون الفتن بدل إطفائها.

وانتشر الفقه البدوي، والتصور الطفولي للعقائد والشرائع.

وقد حاولت في كتابي «دستور الوحدة الثقافية» أن أقف هذا الانحدار، بيد أن الأمر يحتاج الى جهود متضافرة وسياسة علمية محكمة...

وفي هذا الكتاب جرعة قد تكون مرة للفتيان الذين يتناولون كتب الأحاديث النبوية ثم يحسبون أنهم أحاطوا بالإسلام علما بعد قراءة عابرة أو عميقة.

ولعل فيه درسا لشيوخ يحاربون الفقه المذهبي لحساب سلفية مزعومة عرفت من الإسلام قشوره ونسيت جذوره؟.

وأوكد أولا وآخرا أنني مع القافلة الكبرى للإسلام، هذه القافلة التي يحدوها الخلفاء الراشدون والأئمة المتبوعون والعلماء الموثقون، خلفا بعد سلف، ولاحقا يدعو لسابق.. يدعو الله بصدق قائلا: «ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تعجل في قلوبنا غلا للذين آمنوا. ربنا إنك رءوف رحيم»(2).

محمد الغزالي

نماذج للرأي.. والرواية

  • ـ صحة الحديث وشروطه
  • ـ هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه؟
  • ـ دائرة القصاص
  • ـ تحية المسجد
  • ـ حديث دنا الجبار فتدلى
  • ـ تحقيق لعائشة
  • ـ فتوى رعناء...
  • ـ موسى وملك الموت
  • ـ متهم برئ
  • ـ هل نعي الموتى حرام؟
  • ـ فضل الشام…!
  • ـ نفقة المطلقة ثلاثا
  • ـ إكراه الفتاة على الزواج من تكره.

توثيق الأخبار لون من إحقاق الحق وإبطال الباطل. وقد اهتم المسلمون اهتماما شديدا بهذا الجانب من المعرفة والاستدلال، لاسيما إذا اتصل الأمر بسيرة نبيهم وما ينسب اليه من قول أو عمل...

إن هناك طريقا واحدا لإرضاء الله سبحانه وتعالى ونيل محبته، هو إتباع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ واقتفاء آثاره والسير على سنته لقوله تعالى: «قل: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم...»(3).

وأمتنا، من تاريخ بعيد، تصون التراث النبوي، وتحميه من الأوهام، وتعد الكذب على صاحب الرسالة طريق الخلود في النار، لأنه تزوير للدين وافتراء على الله لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».

وقد وضع علماء السنة خمسة شروط لقبول الأحاديث النبوية: ثلاثة منها في السند، واثنان في المتن:

1 ـ فلابد في السند من راو واع يضبط ما يسمع، ويحكيه بعدئذ طبق الأصل...

2 ـ ومع هذا الوعي الذكي لابد من خلق متين وضمير يتقي الله ويرفض أي تحريف.

3 ـ وهاتان الصفتان يجب أن يطردا في سلسلة الرواة، فإذا اختلتا في راو أو اضطربت إحداهما فإن الحديث يسقط عن درجة الصحة.

وننظر بعد السند المقبول الى المتن الذي جاء به، أي الى نص الحديث نفسه..

4 ـ فيجب ألا يكون شاذا.

5 ـ وألا تكون به علة قادحة.

والشذوذ أن يخالف الراوي الثقة من هو أوثق به.. والعلة القادحة عيب يبصره المحققون في الحديث فيردونه به..

وهذه الشروط ضمان كاف لدقة النقل وقبول الآثار. بل لا أعرف في تاريخ الثقافة الإنسانية نظيرا لهذا التأصيل والتوثيق.. والمهم هو إحسان التطبيق..!

وقد توفر للسنة المحمدية علماء أولو غيرة وتقوى بلغوا بها المدى. وكانت غربلتهم للأسانيد مثار الثناء والإعجاب. ثم انضم اليهم الفقهاء في ملاحظة المتون، واستبعاد الشاذ والمعلول..

ذلك أن الحكم بسلامة المتن يتطلب علما بالقرآن الكريم، وإحاطة بدلالاته القريبة والبعيدة، وعلما آخر بشتى المرويات المنقولة لإمكان الموازنة والترجيح بين بعضها والبعض الآخر.

والواقع أن عمل الفقهاء متمم لعمل المحدثين، وحارس للسنة من أي خلل قد يتسلل اليها عن ذهول أو تساهل..

إن في السنة متواترا له حكم القرآن الكريم، وفيها الصحيح المشهور الذي يفسر العموم والمطلق في كتاب الله، وفيها حشد كبير من أحكام الفروع التي اشتغلت بها المذاهب الفقهية بعد م اتفقت على أن السنة المصدر الثاني للأحكام.

وقد يصح الحديث سندا ويضعف متنا بعد اكتشاف الفقهاء لعلة كامنة فيه.

واكتشاف الشذوذ والعلة في متن الحديث ليس حكرا على علماء السنة، فإن علماء التفسير والأصول والكلام والفقه مسئولون عن ذلك، بل ربما ربت مسئوليتهم على غيرهم..

ألم تر إلى ابن حجر شارح صحيح البخاري في كتابه الجليل فتح الباري الذي قال فيه العلماء بحق لا هجرة بعد الفتح!! إن الرجل على صدارته في علوم السنة قوى حديث الغرانيق وأعطاه إشارة خضراء فمر بين الناس يفسد الدين والدنيا، والحديث المذكور من وضع الزنادقة، يدرك ذلك العلماء الراسخون!.

وقد انخدع به الشيخ محمد بن عبد الوهاب فجعله في السيرة التي كتبها عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم والشيخ هو من هو غيرة على عقيدة التوحيد ودفاعا عنها..

ثم جاء الوغد الهندي سلمان رشدي فاعتمد على هذا الحديث المكذوب في تسمية روايته «آيات شيطانية!».

أليس من حق علماء الكلام والفقه والتفسير أن يحاربوا هذا القذى؟ بل إن حراس السنة الصحيحة رفضوا هذا الحديث المحقور..

وفي هذه الأيام صدر تصحيح من الشيخ الألباني لحديث «لحم البقر داء» وكل متدبر للقرآن الكريم يدرك أن الحديث لا قيمة له، مهما كان سنده!.

إن الله تعالى في موضعين من كتابه أباح لحم البقر وامتن به عل الناس فكيف يكون داء؟.

في سورة الأنعام يقول «ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين» ثم يفصل ما أباح أكله فيقول: «ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين» ثم يقول: «ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين…» فأين موضع الداء في هذه اللحوم المباحة على سواء؟.

وفي سورة الحج يقول «والبدن جعلناها لكم من شعائر الله، لكم فيها خير، فاذكروا اسم الله عيها صواف، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر، كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون».

والبدن هي الإبل والبقر والجاموس! فأين الداء فيها؟.

عيب بعض الذين يشتغلون بالحديث قصورهم في تدبر القرآن وفقه أحكامه فلم الغرور مع هذا القصور؟ ولماذا يستكثرون على يرهم من رجال الفكر الإسلامي الرحب أن يكتشفوا علة هنا أو شذوذا هناك!.

إن التعاون في ضبط التراث النبوي مطلوب، ومتن الحديث قد يتناول عقائد وعبادات ومعاملات يشتغل بها علماء المعقول والمنقول جميعا وقد يتناول الحديث شئون الدعوة والحرب واسلام، فلماذا يحرم علماء هذه الآفاق المهمة من النظر في المتون المروية؟.. وما قيمة حديث صحيح السند عليل المتن؟؟.

على أن هناك آلافا من الأحاديث الخالية من العلل والشذوذ تم تسجيلها في دواوين السنة، فإذا بقى نزر يسير يتعاون في ضبطه الفقهاء والمحدثون فذلك خير وأولى..

وفي عصرنا ظهر فتيان سوء يتطاولون على أئمة الفقه باسم الدفاع عن الحديث النبوي، مع أن الفقهاء ما حادوا عن السنة، ولا استهانوا بحديث صحت نسبته وسلم متنه. وكل ما فعلوه أنهم اكتشفوا عللا في بعض المرويات وفردوها ـ وفق المنهج العلمي المدروس ـ وأرشدوا الأمة الى ما هو أصدق قيلا وأهدى سبيلا…

وهم بهذا المنهج يتأسون بالصحابة والتابعين. انظر موقف عائشة رضى اله عنها عندما سمعت حديث إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه! لقد أنكرته، وحلفت أن الرسول ما قاله، وقالت ـ بيانا لرفضها إياه ـ «أين منكم قول الله سبحانه «لا تزر وازرة وزر أخرى»(4).

إنها ترد ما يخالف القرآن بجرأة وثقة، ومع ذلك فإن هذا الحديث المرفوض من عائشة ما يزال مثبتا في الصحاح بل إن «ابن سعد» في طبقاته الكبرى كرره في بضعة أسانيد!.

قال: أخبرنا ثابت عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب لما طعن عولت حفصة، فقال: يا حفصة أما سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول إن المعول عليه يعذب؟ قال: وعول صهيب فقال عمر: يا صهيب أما علمت أن المعول عليه يعذب؟.

وقال: أخبرنا ابن عون عن محمد قال: لما أصيب عمر حمل فأدخل فقال صهيب: واأخاه!.

فقال عمر: ويحك يا صهيب أما علمت أن المعول عليه يعذب؟.

وقال: أخبرنا أبو عقيل قال: أخبرنا محمد بن سيرين قال: أتى عمر بن الخطاب بشراب حين طعن فخرج من جراحته، فقال صهيب: واعمراه واأخاه، من لنا بعدك؟.

فقال له عمر: مه يا أخي أما شعرت أنه من يعول عليه يعذب؟.

وقال: أخبرنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك بن عمير عن أبي بردة عن أبيه قال: لما طعن عمر أقبل صهيب يبكي رافعا صوته، فقال عمر: أعلي؟ق قال: نعم، قال عمر: أما علمت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: من يبك عليه يعذب؟.

قال عبد الملك: فحدثني موسى بن طالب عن عائشة أنها قالت: أولئك الذين يعذب أمواتهم ببكاء أحيائهم، هم الكفار.

والذي تؤكده عائشة أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إن الكافر يعذب ببكاء أهله عليه..

فعن ابن أبي مليكة قال: توفيت ابنة لعثمان رضي الله عنه بمكة، وجئنا لنشهدها وحضرها ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما وإني لجالس بينهما...

فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهي النساء عن البكاء؟ فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» قال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك.. فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، فقالت: رحم الله عمر! واله ما حدث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن الميت يعذب ببكاء أهله عيه، ولكن رسول الله قال: «إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه».

وقالت: حسبكم القرآن «ولا تزر وازرة وزر أخرى».

قال ابن عباس عن ذلك: واله هو أضحك وأبكى ـ يعني أن بكاء الراحلين طبع لا حرج فيه ولا تثريب عليه ـ قال ابن أبي مليكة: والله ما قال ابن عمر شيئا..!

وماذا يقول؟ إن الخطأ غير مستبعد على راو ولو كان في جلالة ابن عمر..

وعندي أن ذلك المسلك الذي سلكته أم المؤمنين أساس لمحاكمة الصحاح الى نصوص الكتاب الكرمي، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه...

من أجل ذلك كان أئمة الفقه الإسلامي يقررون الأحكام وفق اجتهاد رحب، يعتمد على القرآن أولا، فإذا وجدوا في ركام المرويات ما يتسق معه قبلوه، وإلا فالقرآن أولى بالاتباع.

رد البعض على هذا كله بأن معنى تعذيب الميت ببكاء أهله عليه أن الميت يتعذب أي يتألم، لا أن الله يعذبه! وهو تأويل لطيف، وإذا قبلناه لم يختلف الحديث مع الكتاب الكريم! ولكن دون هذا التأويل صعوبات: منها أن عائشة تحلف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه، ولم يذكر المؤمن!.

وقد يقال: ولماذا يعذب الكافر بما لم يقترف؟ أليف ذلك ظلما؟ والجواب في قوله تعالى «ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون» وما يزاد في عذاب الكافر لأنه سبب في إضلال غيره.

والقول بأن المؤمن يتألم بعد موته لبكاء أهله مخالف للآية «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون» روى ابن كثير أن ذلك عند الموت، ونقل عن زيد ابن أسلم «يبشرونه عند موته، وفي قبره، وحين يبعث» وعلق على ذلك بأن هذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جدا، وهو الواقع! فاين يتعذب والحالة هذه؟ إن الله مطمئنه على ما ترك، وما سيلقى.

وقد بشر الله الشهداء بأن من تركوهم سوف يلحقون بهم في حين «ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون»..

إننا لا نحرص على تضعيف حديث يمكن تصحيحه، وإنما نحرص على أن يعمل الحديث داخل سياج من دلالات القرآن القريبة أو البعيدة.

وحديث الآحاد يفقد صحته بالشذوذ والعلة القادحة، وإن صح سنده..

فأبو حنيفة يرى أن من قاتلنا من أفراد الكفار قاتلناه، فإن قتل فإلى حيث القت، أما من له ذمة وعهد فقاتله يقتص منه.

ومن ثم رفض حيث لا يقتل مسلم في كافر، مع صحة سنده، لأن المتن معلول بمخالفته للنص القرآني «النفس بالنفس»(5) وقول الله بعد ذلك «فاحكم بنيهم بما أنزل الله»(6).

وقوله «أفحكم الجاهلية يبغون»(7)؟

وعند التأمل نرى الفقه الحنفي أدنى الى العدالة، وإلى مواثيق حقوق الإنسان، والى احترام النفس البشرية دون نظر الى البياض والسواد، أو الحرية والعبودية، أو الكفر والايمان.

لو قتل فيلسوف، كانس طريق، قتل فيه! فالنفس بالنفس..!!

وقاعدة التعامل مع مخالفينا في الدين ومشاركينا في المجتمع أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فكيف يهدر دم قتيلهم؟.

وقد بلغني أن بدويا قتل مهندسا أمريكيا في احدى دول الخليج، وقال أهل الحديث لا يجوز القصاص! وشعرت الحكومة بالحرج، ولكن تم الخروج من المأزق بقتل المجرم من باب السياسة الشرعية!.

القصاص شريعة الله، وهو ظاهر القرآن الكريم، والأحناف يقدمون ظاهر القرآن على حديث الآحاد، والمالكيون يقدمون عمل أهل المدين على حديث الآحاد باعتبار أن عمل أهل المدينة أدل على السنة النبوية من حيث راو واحد.

وقد أمضى مالك القصاص للفرع من الأصل، إذا كان الأب القاتل قد أقدم على الجريمة عامدا مصرا مغتالا، وترك الحديث الوارد بمنع هذا القصاص مع صحة سنده..

وأهل الحديث يجعلون دية المرأة على النصف من دية الرجل، وهذه سوأة فكرية وخلقية رفضها الفقهاء المحققون!.

فالدية في القرآن واحدة للرجل والمرأة، والزعم بأن دم المرأة أرخص، وحقها أهون زعم كاذب مخالف لظاهر الكتاب.

إن الرجل يقتل في المرأة كما تقتل المرأة في الرجل، فدمهما سواء باتفاق، فما الذي يجعل دية دون دية؟.

كنت في مجلس مع أستاذنا مصطفى الزقا، فقال لي: إن الدية تعويض عن مفقود! وفي العوض يلاحظ التكافؤ ومقتل الرجل خسارة للاسرة أفدح من مقتل المرأة، والفقهاء لم يفكروا قط في إهانة المرة ماديا أو أدبيا، وإنما نظروا في قيمة العوض المطلوب!.

ثم قال: إن القوانين الغربية لم تسو بين المرأة والرجل في أجر العمل، ولم تسو بينهما في تصرفات مالية شتى، إنما سوت بينهما في فرص اللذة الحرام والحلال!!.

وقال الأستاذ معروف الدواليبي: إنه عندما كان يشارك في وضع القوانين في باكستان على اساس الشريعة الإسلامية سوى في الدية بين الرجل والمرأة، إيثارا للرأي القائل بذلك، واستئناسا بمسلك عثمان بن عفان الذي أكمل دية الذمى وكانت على النصف من دية المسلم...

قال: رأينا أن نسد الطريق على من يتهمون الإسلام بانتقاص مكانة المرأة.

وفي مسلك الخليفة الراشد الثالث ما يدل على إمكان التغيير إذا تغيرت الأوضاع، ويبدو أن أهل الذمة اندمجوا في المجتمع الإسلامي عن إخلاص فرأى عثمان طمأنتهم على مكانتهم بتعزيز دياتهم!!.

على أن الفقه الحنفي يسوي في الدماء والديات بين الجميع...

وقد فكرت في السبب الذي جعل الأحناف والمالكية يكرهون تحية المسجد والإمام يخطب مع ورود حديث بطلب هذه التحية!.

وبعد تأمل يسير رأيت أن خطبة الجمعة شرعت بعد الهجرة، وظل المسلمون يصلون الجمع وراء النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عشر سنين! أي أن هناك نحو خمسمائة خطبة ألقيت خلال هذه المدة، فأين هي؟.

إن المحدثين لم يملوا تسجيل كلمة عابرة، أو فتوى خاصة، أو إجابة لسائل، فكيف تركوا هذه الخطب؟.

كل ما دونوه بضع خطب لا تبلغ أصابع اليد؟.

الواقع أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يخطب الناس بالقرآن الكريم، وعندما يكون على منبره أو في محرابه يتلو كتابه، فعلى الجميع الصمت والتدبر.

يستحيل أن ينشغل عنه أحد بقراءة أو بصلاة!.

كذلك جاء التوجيه الإلهي «وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون»(8) إن رب العالمين يستمع الى نبيه وهو يقرأ كما جاء في الحديث الشريف «ما أذن الله لشيء أذنبه النبي يقرأ القرآن يتغنى به» فكيف يتشاغل عنه الناس؟.

كانت السنة إذن هي الاستماع للخطب، وما جاء في حديث الأمر بتحية المسجد كان حالة خاصة بالرجل المذكور، وظلت السنة العملية تمنع الكلام والصلاة في أثناء الخطبة، بل إن مالكا أبطل هذه الصلاة، وما أظن صاحب الموطأ يتهم بمعاداة سنة ثابتة.

وندع قضية الخطب فيها سهل، الى قضية علمية مهمة لها وزنها، ولا نحب أن نجعل مها قضية عقائدية.

من الذي نزل بالقرآن الكريم على صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله؟.

يقول المسلمون خصتهم وعامتهم إنه أمين الوحي جبريل..! وليس هذا القول وليد إشاعة لا يدرى مصدرها! بل هو قول مستند الى المتواتر من الكتاب والسنة جميعا..

واذكر هنا خمسة مواضع في القرآن الكريم تؤيد هذه الحقيقة..

1 ـ «قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن اله مصداقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين»(9) والآية واضحة الدلالة..

2 ـ «قل نزله روح القدس ن ربك بالحق، ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين»(10) وروح القدس هو جبريل، وهو عبد لله وليس إلها كما يتوهم البعض.

وفي هذه الآية والتي سبقتها نلحظ أن الوحي الأعلى هداية وبشرى، هداية للشعوب الحائرة، وبشرى تورث الأفراح وتحقق الآمال لمن يرتبطون بهذا الوحي...!

3 ـ «وإنه لتنزيل رب العالمين.. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين. وإنه لفي زبر الأولين»(11). وظاهر أن الذي نزل بالوحي هو الروح الأمين وأن الرسول الكريم شرع يعلم الناس. ويدعوهم بعدما تلقى هذا الوحي المبارك، وأن رسالته تصديق وامتداد لرسالات النبيين الأولين في العقائد وحسن الخلق.

4 ـ وقد أقسم الله تبارك وتعالى عـلى عـظمة هذا القرآن فقال: «إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين. مطاع ثم أمين»(12).

ونلحظ هنا عدة أوصاف لأمين الوحي، فهو رسول كريم، وهو صاحب قوة، وهو صاحب مكانة عند ذي العرش، وهو مطاع في موضعه، وأمين...

وبين هذه الصفات وبين ما جاء في سورة النجم مشابه.. فلنتدبرها في الموضع الأخير..

5 ـ «إن هو إلا وحي يوحى. علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى...»(13).

القوي الذي علم الوحي، ونزل به الى السماء الدنيا، وحلق به في جو الأرض، ثم اقترب به من الرسول العربي هو جبلي بداهة. ولا يتحمل السياق إلا هذا، ولا تتحمل آيات القرآن كلها في غير هذا الموضوع إلا هذا...!

ومع ذلك فقد جاءت في الأحاديث المنقولة بطريق الآحاد رواية مستغربة أن الذي دنا فتدلى هو الله!!.

والرواية تخالف المتواتر المقطوع به في الكتاب والسنة، ومن هنا لم يكترث بها المحققون بل جمدت في مكانها حتى جاء ضعفاء الفقه فاستحيوها دون وعي...

وقد ضقت ذرا بأناس قليلي الفقه في القرآن كثيري النظر في الأحاديث. يصدرون الأحكام، ويرسلون الفتاوى فيزيدون الأمة بلبلة وحيرة.

ولا زالت أحذر الأمة من أقوام بصرهم بالقرآن كليل، وحديثهم عن الإسلام جريء، واعتمادهم كله على مرويات لا يعرفون مكانها من الكيان الإسلامي المستوعب لشئون الحياة...

وقد جاء الإمام مسلم رحمه الله فعلق على رواية إمامه البخاري رحمه الله، فبين ما بها من عطب، وذكر أن الخطأ جاء من شريك عن أنس بن مالك الذي ذكر الحديث فزاد ونقص وقدم وأخر...!!.

إن مسلما مضى على منهج المحدثين، فناقش عمل شريك ـ الراوي عن أنس ـ ثم رفض المتن! وحسنا فعل.

إن الخطأ في تفسير آية «النجم» والزعم بأن المعنى «دنا الجبار رب العزة فتدلى» كانا مثار استنكار السيدة عائشة رضي الله عنها! فلما سألها مسروق: يا أمام هل رأى محمد ربه؟ قالت: لقد قف شعر رأسي مما قلت! أين أنت من ثلاث؟ من حدثكهن فقد كذب!!

من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير»(14) و«ما وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب»(15).

ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب! ثم قرأت «وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس باي أرض تموت»(16).

ومن حدثك أن محمدا كتم أمرا فقد كذب، ثم قرأت «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك...»(17)، ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين...

وأم المؤمنين عائشة فقيهة محدثة أديبة، وهي وقافة عند نصوص القرآن، ترفض أدنى تجاوز لها.. وعندما سمعت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقف على حافة البئر التي دفن المشركون بها يناديهم بأسمائهم كان لها تعليق جدير بالتدبر.

والرواية في هذا أن النبي ـ صلى الله عيه وسلم ـ مشى واتبعه أصحابه حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟

فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم!.

أنكرت عائشة عبارة «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» مستدلة بالآية الشريفة «وما أنت بمسمع من في القبور»(18) وصححت الرواية: ما أنتم بأعلم لما أقول منهم!.

قال قتادة مبينا الرواية الأولى ومدافعا عنها: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا..

والذي أراه أن الرواية الأولى لا تحتاج الى هذا الدفاع، فالموتى لم يفنوا، وصوت النبوة يبلغهم وهم في سجين.. ولكن عائشة رضي الله عنها لا تقبل ما يعارض ـ في ظاهره ـ لفظ القرآن، فالموتى عادة لا يكلمون ولا يسمعون، وإنما يعلمهم الله بما يشاء، فإذا علموا فكأنهم سمعوا، والعبارة مقبول على طريق المجاز...

كل ما نحرص نحن عليه شد الانتباه الى ألفاظ القرآن ومعانيه، فجملة غفيرة من أهل الحديث محجوبون عنها، مستغرقون في شئون أخرى تعجزهم عن تشرب الوحي!!.

والفقهاء المحققون إذا أرادوا بحث قضية ما، جمعوا كل ما جاء في شأنها من الكتاب والسنة، وحاكموا المظنون الى المقطوع، وأحسنوا التنسيق بين شتى الأدلة...

أما اختطاف الحكم من حيث عابر، والإعراض عما ورد في الموضوع من آثار أخرى فليس عمل العلماء...

وقد كان الفقهاء على امتداد تاريخنا العلمي هم القادة الموثقون للأمة، الذين أسلمت لهم زمامها عن رضا وطمأنينة، وقنع أهل الحديث بتقديم ما يتناقلون من آثار كما تقدم مواد البناء للمهندس الذي يبني الدار، ويرفع الشرفات.

والواقع أن كلا الفريقين يحتاج الى الآخر، فلا فقه بلا سنة ولا سنة بلا فقه، وعظمة الإسلام تتم بهذا التعاون.

والمحنة تقع في اغترار أحدهما بما عنده، وتزداد مع الإصرار وضعف البصيرة..

وقد ظهرت في الجزائر فتوى لواحد من أهل الحديث حاربناها بقوة قبل أن تصيب الإسلام وأهله بضر شديد.

إن على التجار في بضائعهم زكاة يتقربون الى الله بأدائها، والتجار في الدنيا ملوك المال وقد افتتح الانجليز القارة الهندية بشركة تجارية، ولا يزال الاستعمار الاقتصادي يهيمن على ميادين التجارة حتى يمتلك أعناق الشعوب!.

فكيف يزعم زاعم أن عروض التجارة لا زكاة فيها؟ وأين نذهب بقوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة» (19) وقوله تعالى «ومما رزقناهم ينفقون»(20)، وقوله «يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض»(21).

لكن الشاب المشتغل بالحديث النبوي نادى في الناس ألا زكاة في عروض التجارة، إذا لا أصل لها فيما قرأ...

وضم الى ذلك أن الزكاة في الزراعة لا تخرج إ

إلا من القمح والشعير والتمر والزبيب، كأن الكرة الأرضية هي نجد وتهامة والحجاز!!.

والمفتي القاصر يهبط بحصيلة الزكاة الى العشر مادام جمهور التجار والفلاحين قد أعفى من إيتاء الزكاة، وسقط عنهم ركن الإسلام.

ومتى يقع هذا؟ في أيام جندت الكنيسة خلافها ثروات التجار والفلاحين لتنصير العالم الإسلامي المبتلى بجدب الأرض وجدب العقول!.

لماذا لا نتدبر القرآن أولا حتى نعرف أبعاد التكاليف التي ناطها الإسلام بأعناقنا، وأوعية المال التي نخرج منها زكواتنا؟.

ولماذا لا نعرف طبيعة الدنيا التي نعيش فيها، والاساليب التي يتبعها خصومنا لكسب معاركهم ضدنا؟.

إنه لا فقه مع العجز عن فهم الكتاب ومع العجز عن فهم الحياة نفسها..

وبعض المشتغلين بالحديث يستوعب تدبر القرآن، ودراسة دلالاته القريبة والبعيدة، ويستهل سماع حديث ما ثم يختطف الحكم منه فيشقي البلد والعباد.

قلنا: إنه لا خلاف بين المسلمين في العمل بما صحت نسبته لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفق أصول الاستدلال التي وضعها الأئمة، وانتهت إليها الأمة...

إنما ينشأ الخلاف حول صدق هذه النسبة أو بطلانها... وهو خلاف لباد من حسمه، ولابد من رفض الافتعال أو التكلف فيه..

فإذا استجمع الخبر المروي شروط الصحة المقررة بين العلماء فلا معنى لرفضه وإذا وقع خلاف محترم في توفر هذه الشروط أصبح في الأمر سعة، وأمكن وجود وجهات نظر شتى، ولا علاقة للخلاف هنا بكفر ولا إيمان، ولا بطاعة أو عصيان..

وقد وقع لي وأنا بالجزائر أن طالبا سألني: أصحيح أن موسى عليه السلام فقأ عين ملك الموت عندما جاء لقبض روحه، بعدما استوفى أجله؟ فقلت للطالب وأنا ضائق الصدر: وماذا يفيدك هذا الحديث؟ إنه لا يتصل بعقيدة، ولا يرتبط به عمل! والأمة الإسلامية اليوم تدور عليها الرحى، وخصومها طامعون في إخماد أنفاسها! اشتغل بما هو أهم وأجدى!.

قال الطالب: أحببت أن أعرف هل الحديث صحيح أم لا؟ فقلت له متبرما: الحديث مروي عن أبي هريرة، وقد جادل البعض في صحته.

وعدت لنفسي أفكر: إن الحديث صحيح السند، لكن متنه يثير الريبة، إذ يفيد أن موسى يكره الموت، ولا يحب لقاء الله بعدما انتهى أجله، وهذا المعنى مرفوض بالنسبة الى الصالحين من عباد الله كما جاء في الحديث الآخر «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه». فكيف بأنبياء الله؟ وكيف بواحد من أولى العزم؟.. إن كراهيته لموت بعدما جاء ملكه أمر مستغرب! ثم هل الملائكة تعرض لهم العاهات التي تعرض للبشر من عمى أو عور؟ ذاك بعيد..

قلت: لعل متن الحديث معلول، وأيا ما كان الأمر فليس لدي ما يدفعني الى إطالة الفكر فيه..

فلما رجعت الى الحديث في أحد مصادره ساءني أن الشارح جعل رد الحديث إلحادا! وشرع يفند الشبهات الموجهة إليه فلم يزدها إلا قوة... وهاك الحديث أولا:

عن أبي هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «جاء ملك الموت الى موسى ـ عليه السلام ـ فقال له: أجب ربك، قال: فلطم موسى ـ عليه السلام ـ عين ملك الموت، ففقأها، قال: فرجع الملك الى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتني الى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني، قال: فرد الله إليه عينه، وقال: أرجع الى عبدي فقل له: ألحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعر فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، رب أمتني من الأرض المقدسة رمية بحجر».

قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «والله لو أني عنده لأريتكم قبره الى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر»(22).

قال المازري: وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث وأنكر صوره، قالوا: كيف يجوز على موسى فقء عين ملك الموت؟.

قال: وأجاب العلماء عن هذه الشبهة بأجوبة:

أحدها: أنه لا يمتنع أن يكون موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أذن الله تعالى له في هذه اللطمة، ويكون ذلك امتحانا للملطوم، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يفعل في خلقه ما شاء، ويمتحنهم بما أراد!!.

والثاني: أن هذا على المجاز، والمراد أن موسى ناظره وحاجه فغلبه بالحجة، ويقال: فقأ فلان عين فلان إذا غابه بالحجة، ويقال: عورت الشيء إذا ادخلت فيه نقصا.

وعلق المازري على الرأي الثاني بقوله: وفي هذا ضعف لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرد الله عينه، فإن قيل: أراد حجته كان بعيدا.

والثالث: أن موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يعلم أنه ملك من عند الله، وظن أنه رجل قصده يريد نفسه (اي يريد قتله) فدافعه عنها، فأدت المدافعة الى فقء عينه، لا أنه قصدها بالفقء، وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين، واختاره المازري والقاضي عياض.

قالوا: وليس في الحديث تصريح بأنه تعمد فقء عينه، فإن قيل: فد اعترف موسى حين جاءه ثانيا بأنه ملك الموت.

فالجواب: أنه أتاه في المرة الثانية بعلامة علم بها أنه ملك الموت فاستسلم بخلاف المرة الأولى.

نقول نحن: هذا الدفاع كله خفيف الوزن، وهو دفاع تافه لا يساغ!!

ومن وصم منكر الحديث بالإلحاد فهو يستطيل في أعراض المسلمين. والحق: أن في متنه علة قادحة تنزل به عن مرتبة الصحة.

ورفضه أو قبوله خلاف فكري، وليس خلافا عقائديا.

والعلة في المتن يبصرها المحققون، وتخفى على أصحاب الفكر السطحي.

سمعت كلاما حادا ممن يرون أن موسى فقأ عين ملك الموت حقا، وأن هذا غير مستغرب.

وقبل أن أذكر ما عندي أثبت هنا حديث أحمد عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه! قلنا: يا رسول الله كلنا نكره الموت! فقال رسول الله: ليس ذلك كراهية الموت! ولكن المؤمن إذا حضر ـ احتضر ـ جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر اليه فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقى الله تعالى، فأحب لقاء الله!!... قال: وإن الفاجر أو الكافر إذا حضر ـ احتضر ـ جاءه «النير» بما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه».

والحديث المذكور يتجاوز أحوال الصحة المعتادة، وانغماس الناس في معايشهم يزرعون ويصنعون ويتجرون، فإن إقبالهم على الحياة لا نكر فيه، ونزول الموت هنا قد يوصف بأنه معصية! وما تقوم الدنيا وينشأ عمران إلا من هذا الشعور بالحياة وحبها.

على أن المؤمن قد ينبذ الحياة الدنيا في ساعة فداء ينصر بها دينه ويلقى بها ربه، فهو وإن انغمس في شئون الدنيا لا ينسى أبدا دينه، ولا ينكص عن لقاء ربه.

وحديث أحمد بن حنبل يتجاوز هذه الظروف كلها ليشرح اللحظات الأخيرة من عمر المتوفى وهو في فراش المرض، أو وهو على أبواب الآخرة، وقد شرع ملك الموت يسترد الروح ليعود بها الى بارئها.

في هذه الأويقات الحرجة تجيء البشرى التي يطير بها المؤمن فرحا، أو الأنباء التي ينوء بها الفاجر كمدا..

فلننظر على ضوء هذه الحقائق الى حديث فقء موسى لعين ملك الموت.. إن الملك قال لموسى: أجب ربك.. يعني أن عمرك انتهى، فاستعد لتسليم روح والعودة الى ربك!!.

أفي هذه العودة ما يضايق موسى؟ قال المدافعون عن الحديث: موسى كسائر البشر يكره الموت! ونقول: كراهية الموت مفهومة في الأحوال العادية للناس العاديين، ولا معنى لها بعد انتهاء الأجل، ومجيء الملك ليسترد وديعته!.

ما الذي يكرهه موسى من اللقاء الحتم؟ إن هذا الكره تحول الى جزع وغضب جعلا موسى يفقأ عين الملك كما يقال!.

يقول المدافعون عن الحديث: إن موسى فقأ الصورة التي تمثل بها الملك، لأنه جاء في صورة بشر.. ويرد ذلك ما جاء في الحديث أن الله رد إليه عينه، أفكان موسى عاجزا عن إصلاح العور في الهيئة التي تشكل فيها؟.

وقد طلب موسى أن يدفن على مرمى حجر من حدود فلسطين التي جبن قومه عن دخولها فهل هذا الطلب تفسير لحرص اليهود الآن على نقل موتاهم الى الأرض المقدسة؟.

وسمعت من قال: إن الحديث من الابتلاء بالغيب؟ والإيمان بالغيوب حق إذا كانت مستيقنة المصدر أما السياق الغامض والأسلوب المضطرب فهما موضع بحث الفقهاء ليتعرفوا الحقيقة من خبر آحاد، يتعرض للدرس والفحص سندا ومتنا...

وأخيرا فهذا الحديث وأمثاله مما لا صلة له بعقيدة أو سلوك قار في مكانه تعدوه العين الى المهم من تعاليم الإسلام العملية، فمن نبش التراب عنه، وشغل الناس به، ونسب الى الإلحاد من يتوقف فيه؟ إن أعداء الصحوة الإسلامية من وراء هذا الحراك الطائش...

وقد رفض الأئمة أحاديث صح سندها واعتل متنها فلم تستكمل بهذا الخلل شروط الصحة..

ومن أجل ذلك. استغربنا ما رواه ثابت عن أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي أذهب فاضرب عنقه، فأتاه علي فإذا هو في ركى يتبرد فيها فقال له علي: أخرج.

فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر! فكف علي عنه ثم أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر.

يستحيل أن يحكم على رجل بالقتل في تهمة لم تحقق، ولم يواجه بها المتهم، ولم يسمع له دفاع عنها، بل كشفت الأيام عن كذبها!.

وقد حاول النووي غفر الله لنا وله تسويغ هذا الحكم، بقوله: لعل ارجل كان منافقا مستحقا للقتل لسبب آخر! ونقول: متى أمر رسول الله بقتل المنافقين؟ ما وقع ذلك منه! بل لقد نهى عنه.

وظاهر من السياق أن الرجل نجا من القتل بعدما تبين من العاهة التي به استحالة توجيه الإتهام إليه، أفلو كان سليما أبيح دمه؟ هذا أمر تأباه أصول الإسلام.. وفروعه كلها.

إن بالحديث علة قادحة، وهي كافية في سلب وصف الصحة عنه، وأهل الفقه لا أهل الحديث هم الذين يردون هذه المرويات.

قال مدافعا عن هذا الخبر: لعله من باب التعزير؟ وهذا تفكير مستنكر! هل الإسلام أعطى ولي الأمر حق قتل الناس لشبهة أو شائعة؟ أبأسم التعزير تستباح الدماء على نحو طائش..؟ إننا نقتل ديننا بهذا الفهم، ونعرض سيرة نبينا للقيل والقال....

ومما يحتاج الى الفقه السليم تحريم نعى الموتى، ورفض ما تنشره الصحف الآن من إعلانات عن وفاة فلان وفلانة.. وقد جاءني بعض الطلاب يقولون: إنهم قرؤوا أحاديث تفيد ذلك، ومن ثم فهم يستنكرون الايذان بأخبار الموتى.

قلت: إن النعي المكروه ما كان استعراضا للمآثر والمفاخر، وتنويها بالأفراد والأسر، أما ما عدا ذلك فلا شائبة فيه، بل لابد منه..!

قالوا: ما رواه الترمذي وإبن ماجة غير ما تقول! عن حذيفة رضي الله عنه قال عندما احتضر: «إذا أنا مت فلا يؤذن علي أحد، إني أخاف أن يكون نعيا، وإني سمعت رسول الله ينهى عن النعي».

هكذا روي الترمذي، وأكد ابن ماجة الرواية إلا أنه قال: «كان حذيفة إذا مات له الميت قال: «لا تؤذنوا به أحدا، إني أخاف أن يكون نعيا، إني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأذني هاتين ينهى عن النعي».

وعن عبد الله بن مسعود «أن رسول الله كان ينهى عن النعي، وقال: إياكم والنعي فإنه من عمل الجاهلية» قال عبد الله والنعي: أذان بالميت...

ونحن نؤكد أن النعي المحظور ما قارنه الرياء وإحياء العصبية أما الإخبار المعتاد فيستحيل كرهه.

وما أكثر الأحاديث المنتشرة اليوم بين الشباب، يستنتجون منها أحكاما سيئة، إن قبلنا سندها على إغماض فإن متنها لايصح قبوله!.

وقد قرأت للمنذري رحمه الله في كتابه «الترغيب والترهيب» سنة عشر حديثا في سكنى الشام وما جاء في فضلها.

منها ما جاء عن زيد بن ثابت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوما ونحن عنده: «طوبى للشام، إن ملائكة الرحمن باسطة °نحتها عليه» وأغلب الأحاديث الستة عشر تدور على هذا المعنى، وأغلبها من رواية الترمذي والحاكم والطبراني وابن حبان وأبي داود وأحمد...

ونحن نحب أقطار الإسلام كلها ونعد أهلها إخوتنا، ونرى نصرتهم دينا، وخذلانهم كفرا، وما يروى في تفضيل بلد على آخر والترغيب في سكناه أو المرابطة فيه فهو عندما يتعرض الإسلام للخطر من قبله أ» تحدث ثغرة في حدوده تتطلب الرجال لسدها..

وذلك كما تتجمع كرات الدم البيضاء لحماية الجسم من الجراثيم الغازية، عندما يصاب بجرح، أو تنشأ به قرحة.. إن مسارعة قوات الدفاع هنا مفهومة الحكمة..

أما في حالة الجسم العادية، فموقف الكرات من جميع الأعضاء واحد ...

والواقع أن دار الإسلام الآن مهددة من ثغرات شتى، والغزاة يتواثبون حولها شرقا وغربا..

ولما كانت فلسطين جزءا من الشام فنحن نعد الفرار منها عصيانا والثبات فيها جهادا. وللمدافعين عن الإسلام في أفغانستان والقلبين، وسائر أراضيه كل الحقوق التي لعرب فلسطين، أو لأرض الشام كما جاء في الأحاديث الستة عشر...!!

كان عمر رضي الله عنه يشغل نفسه ويشغل الناس معه بالقرآن الكريم ويوصي الجيوش أن تلهج به وتعكف عليه. ومن أقضيته التي استند فيها الى القرآن وحده: ما رواه ابن إسحاق، قال: كنت جالسا مع الأسود بن يزيد في المسجد الأعظم، ومعي الشعبي. فحدث بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ـ وكانت قد طلقت ثلاثا ـ فأخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به! ثم قال: ويلك تحدث بمثل هذا؟ قال عمر: لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت، لها السكنى والنفقة. قال تعالى «لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة».

وحديث فاطمة المذكور هو موضع خلاف بين الفقهاء، رفضه الأحناف، وقبله الحنابلة، ويرى المالكية والشافعية: أن المطلقة ثلاثا لها السكنى دون النفقة.

وملحظ الحنابلة: أن سياق الآية التي ذكرها عمر في الطلاق الرجعي لا البائن، ولمن شاء أن يدرس القضية في مصادرها، والذي يعنينا منها: هو أن «عمر» جعل ظاهر القرآن هو السنة التي تتبع!.

وإذا كنا نقدم الرأي القوي على الرواية المريبة فيما سقنا قبلا من نماذج فإن عجبنا يشتد عندما نرى من يترك النقل والفقه معا في بعض الأحكام.

اتفق المحدثون أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لا تنكح الايم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن. قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت» وفي ورواية: «الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها»!.

وعن ابن عباس رضي الله عنه أن جارية بكرا أتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكرت أن أبها زوجها وهي كارهة!، فخيرها رسول الله».

وفي رواية: «أن فتاة دخلت على عائشة فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه يرفع بي خسيسته وأنا له كارهة! قالت عائشة: اجلسي حتى يأتي رسول الله!فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخبرته، فارسل الى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها!.

فقالت يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء!».

ومع هذا فإن الشافعية والحنابلة أجازوا أن يجبر الأب ابنته البالغة على الزواج بمن تكره!!، ولا نرى وجه النظر هذه إلا انسياقا مع تقاليد إهانة المرأة، وتحقير شخصيتها... وقد ذكرنا أن الأحناف أعطوا المرأة حى أن تباشر عقدها إمضاء لظواهر القرآن.. «ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا»(23).

في عالم النساء - معركة الحجاب

  • ـ الحجاب والنقاب
  • ـ المرأة والأسر والوظائف العامة
  • ـ علاقة المرأة بالمسجد
  • ـ شهادة المرأة في الحدود والقصاص.

معركة الحجاب...!!

نريد للصحوة الأسلامية المعاصرة أمرين: أولهما: البعد عن الأخطاء التي انحرفت بالأمة وأذهبت ريحها وأطمعت فيها عدوها.. والآخر: إعطاء صورة عملية للإسلام تعجب الرائين، وتمحو الشبهات القديمة وتنصف الوحي الإلهي...

ويؤسفني أن بعض المنسوبين الى هذه الصحوة فشل في تحقيق الأمرين جميعا، بل ربما نجح في إخافة الناس من الإسلام، ومكن خصومه من بسط ألسنتهم فيه..

ولنستعرض هنا طائفة من المعارك التي أثاروها، أو المبادئ التي رأوا أن ينطلقوا منها. ونبدأ بمعركة النقاب!.

قرأت كتيبا في إحدى دول الخليج يقول فيه مؤلفه: إن الإسلام حرم الزنا! وإن كشف الوجه ذريعة إليه، فهو حرام لما ينشأ عنه من عصيا!.

قلت: إن الإسلام أوجب كشف الوجه في الحج، وألفه في الصلوات كلها، أفكان بهذا الكشف في ركنين من أركانه يثير الغرائز ويمهد للجريمة؟ ما أضل هذا الاستدلال!.

وقد رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوجوه سافرة في المواسم والمساجد والأسواق فما روي عنه قط أنه أمر بتغطيتها، فهل أنتم أغير على الدين والشرف من الله ورسوله؟.

وللنظر الى كتاب اله ورسوله لنستجلي اطراف الموضوع

1 ـ إذا كانت الوجوه مغطاة فمم يغض المؤمنون أبصارهم؟ كما جاء في الآية الشريفة «قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم...»(24). أيغضونها عن القفا والظهر؟..

الغض يكون عند مطالعة الوجوه بداهة، وربما رأى الرجل ما يستحسنه من المرأة فعليه ألا يعاود النظر عندئذ كما جاء في الحديث. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي رضي الله عنه: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة»!.

2 ـ وقد رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تستثار رغبته عند النظر المفاجئ، وعندئذ فالواجب على المتزوج أن يستغني بما عنده كما روى جابر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله ـ أي ليذهب الى زوجته ـ فإن ذلك يرد ما في نفسه».

إن لم تكن له زوجة فليع قوله تعالى: «وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله»(25).

حكى القاضي عياض عن علماء عصره ـ كما روى الشوكاني ـ أن المرأة لا يلزمها ستر وجهها وهي تسير في الطريق، وعلى الرجال غض البصر كما أمرهم الله...

3 ـ في أحد الأعياد خطب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ النساء ـ ومصلى العيد يجمع الرجال والنساء بأمر من رسول الله ـ فقال لهن: «تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم» فقال امرأة سفعاء الخدين جالسة في وسط النساء: لم نحن كما وصفت؟ قال: «لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير» يعني ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن نساء كثيرات يجحدن حق الزوج، وينكرن ما يبذل في البيت ولا تسمع منهن إلا الشكوى!..

قال الراوي: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن...! والسؤال: من أين عرف الراوي أن المرأة سفعاء الخدين ـ؟ والخد الأسفع هو الجامع بين الحمرة والسمرة ـ ما ذلك إلا لأنها مكشوفة الوجه.

وفي رواية أخرى: كنت أرى النساء وأيديهن تلقى الحلى في ثوب بلال.. فلا الوجه عورة ولا اليد عورة.

4 ـ قال بعض النساء: إن الأمر بكشف الوجه في الحج، أو في الصلاة، يعطى أن الوجه يجب ستره فيما وراء ذلك، وأن على المرأة ارتداء النقاب. والقفازين!.

ونقول: هل إذا أمر الله الحجاج بتعرية رؤوسهم في الإحرام كان ذلك يفيد أن الرءوس تغطى وجوبا في غير الإحرام؟ من قال ذلك؟ من شاء غطى رأسه ومن شاء كشفه..

5 ـ عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن أمرأة جاءت الى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر اليها رسول الله فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه ـ لم يجبها بشيء ـ فلما رأت أنه لم يقض فيها بشيء جلست...».

وفي رواية أخرى أن أحد الصحابة خطبها، ولم يكن معه مهر فقال له النبي: التمس ولو خاتما من حديد!.

وانتهت القصة بزواجه منها.

والسؤال فيم صعد النظر وصوبه إن كانت منقبة؟.

6 ـ عن ابن عباس كان الفضل رديف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجاءت امرأة من خثعم ـ تسأله ـ فجعل الفضل ينظر اليها وتنظر إليه وجعل رسول الله يصرف وجه الفضل الى الشق الآخر... فقالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده الحج، وقد أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحة، أفأحج عنه؟ قال: نعم... وكان ذلك في حجة الوداع ـ أي لم يأت بعده حديث ناسخ ـ.

7 ـ وحدثت عائشة قالت: كان نساء مؤمنات يشهدن مع النبي صلاة الفجر، متلحفات بمروطهن ـ مستورات الأجساد بما يشبه الملاءة ـ ثم ينقلبن الى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفن من الغلس ـ تعني أنه لولا غبش الفجر لعرفن لانكشاف وجوههن ـ.

8 ـ على أن قوله تعالى: «وليضربن بخمرهن على جيوبهن»(26) يحتاج الى تأمل، إذ لو كان المراد إسدال الخمار على الوجه لقال: ليضربن بخمرهن على وجوههن، مادامت تغطية الوجه هي شعار المجتمع الإسلامي، وما دامت للنقاب هذه المنزلة الهائلة التي تنسب اليه… وعند التطبيق العملي لهذا الفهم اضطرت النساء لاصطناع البراقع أو حجب أخرى على النصف الأدنى للوجه كي يستطعن السير، فإن إسدال الخمار من فوق يعشى العيون، ويعسر الرؤية.. ومن ثم فنحن نرى الآية لا نص فيها على تغطية الوجوه!.

ولاشك أن بعض النساء في الجاهلية، وعلى عهد الإسلام كن يغطين وجوههن مع بقاء العيون دون غطاء، وهذا العمل كان من العادات لا من العبادات، فلا عبادة إلا بنص.

9 ـ ويدل على ماذكرنا: أن امرأة جاءت الى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقال لها «أم خلاد» وهي متنقبة تسأل عن ابنها الذي قتل في إحدى الغزوات فقال لها بعض أصحاب النبي: جئت تسألين عن ابنك وأنت متنقبة؟ فقالت المرأة الصالحة: إن أرزأ ابني فلم أرزأ حيائي..!!.

واستغراب الأصحاب لتنقب المرأة دليل على أن النقاب لم يكن عبادة!.

10 ـ قد يقال: إن ما روي عن عائشة يؤكد أن النقاب تقليد إسلامي، فقد قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات، فإذا جازوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه» ونجيب بأن هذا الحديث ضعيف من ناحية السند، شاذ من ناحية المتن، فلا احتجاج به..

والغريب أن هذا الحديث المردود يروج له دعاة النقاب مع أنهم يردون حديثا خيرا منه حالا وهو حديث عائشة أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار الى وجهه وكفيه»

ونحن نعرف ان الحديث مرسل، ولكن الحديث قوته روايات أخرى، وهو أقوى من الحديث الذي سبقه.

11 ـ وأدل على ذلك السفور المباح: مارواه لنا مسلم أن سبيعة بنت الحارث ترملت من زوجها وكانت حاملا، فما لبثت أياما حتى وضعت، فأصلحت نفسها، وتجملت للخطاب! فدخل عليها أبو السنابل أحد الصابة ـ وقال لها: مالي أراك متجملة؟ لعلك تريدين الزواج، إنك والله ما تتزوجين إلا بعد أربعة أشهر وعشرة أيام..

قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، وسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي! وأمرني بالتزوج إن بدا لي..

كانت المرأة مكحولة العين مخصوبة الكف، وابو السنابل ليس من محارمها الذين يطلعون بحكم القرابة على زينتها، والملابسات كلها تشير الى ببيئة يشيع فيها السفور!.

وقد وقع ذلك بعد حجة الوداع، فلا مكان لنسخ حكم أو إلغاء تشريع.. وأعرف ان هناك من ينكر كل ما قلناه هنا، فبعض المتحدثين في الإسلام أشد تطيرا من ابن الرومي! وهم ينظرون الى فضائل الدنيا والآخرة من خلال مضاعفة الحجب والعوائق على الغريزة الجنسية..

ويعلم الله إني ـ مع اعتدادي برأيي ـ أكره الخلاف والشذوذ. وأحب السير مع الجماعة، وأنزل عن وجهة نظري التي أقتنع بها بغية الإبقاء على وحدة الأمة..

فهل ما قلته رأي انفردت به؟.

كلا كلا إنه رأي الفقهاء الأربعة الكبار، ورأي أئمة التفسير البارزين..

إن الشاغبين على سفور الوجه يظاهرون رأيا مرجوحا، ويتصرفون فيه قضايا المرأة كلها على نحو يهز الكيان الروحي والثقافي والاجتماعي لأمة أكلها الجهل والاعوجاج لما حكمت على المرأة بالموت الأدبي والعلمي.

إن من علماء المذاهب الأربعة من يرى أن وجه المرأة ليس بعورة، وأثبت هنا نقولا عن كبار المفسرين من أتباع هذه المذاهب: قال أبو بكر الجصاص ـ وهو حنفي ـ في تفسير قوله تعالى: «وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها...»(27).

قال أصحابنا: المراد: الوجه والكفان، لأن الكحل زينة الوجه، والخضاب والخاتم زين الكف. فإذا أبيح النظر الى زينة الوجه والكف فقد اقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر الى الوجه والكفين.

ويقول القرطبي ـ وهو مالكي ـ «لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة، وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما...».

ويقول الخازن ـ وهو شافعي ـ مفسرا الاستثناء في الآية «قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي: الوجه والكفان».

ويقول ابن كثير ـ وهو سلفي ـ «ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور...».

وقال ابن قدامة في «المغني» ـ وهو مرجع حنبلي ـ: المرأة كلها عورة إلا الوجه، وفي الكفين روايتان!!.

ونختم برأي ابن جرير الطبري في تفسيره الكبير «أولى الأقوال في ذلك بالصواب من قال ـ في الاستثناء المذكور عن زينة المرأة المباحة ـ عني بذلك الوجه والكفين، ويدخل الكحل والخاتم والسوار والخضاب.. وإنما قلنا ذلك أقوى الأقوال، لأن الإجماع على أن كل مصل يستر عورته في الصلاة وأن للمرأة أن تكشف وجها وكفيها في الصلاة، وأن تستر ما عدا ذلك من بدنها، وما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره...».

والمذهب الحنفي يضم ظهور القدمين الى الوجه والكفين، منعا للحرج...

وبعد هذا السرد نسارع الى التنبيه بأن المجتمع الإسلامي بما شرع الله له من آداب اللباس والسلوك العام هو شيء آخر غير المجتمع الأوروبي ـ بشقيه الصليبي والشيوعي ـ فإن هذا المجتمع أدنى الى الفكر المادي البحت وأقرب الى الإباحة الحيوانية المسعورة..

إن الملابس هناك تفصل للإثار لا للستر، والتزين للشارع لا للبيت، والاختلاط لا يعرف التصون أو تقوى الله، والخلوة ميسورة لمن شاء، والقانون لا يرى الزنا جريمة ما دام بالتراضي!! وتكاد الأسر تكون حبرا على ورق..

إن الإسلام شيء آخر مغاير كل المغايرة لهذا الاتجاه الطائش الكفور، فهل أحسنا نحن بناء المجتمع القائم على حدود الله؟.

إننا قدمنا للإسلام صورا تثير الاشمئزاز وفي خطاب لأحد الدعاة المشاهير قال: إن المرأة تخرج من بيتها للزوج أو للقبر! ثم ذكر حديثا(28): إن امرأة مرض أبوها مرض الموت فاستأذنت زوجها لتعوده فأبى عليها! فلما مات استأذنته أن تشهد الوفاة وتكون مع الأهل عند خروج الجنازة فأبى... قال الخطيب: فلما ذكرت ذلك لرسول الله قال لها: إن الله غفر لأبيك لأنك أطعت زوجك!!.

أكذلك يعرض ديننا؟ سجنا للمرأة تقطع فيه ما أمر الله به أن يوصل؟..

وجاءتني رسالة من طالبة منعها أبوها من الالتحاق بالجامعة، قالت: إن أبانا يقول لي ولأخواتي البنات: «إن الله دفنكم أحياء، فلا أترككن لما تردن من خروج»!.

هذا فهم الأب الأحمق لآية «وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى...»(29).

في عالم النساء - المرأة والأسرة والوظائف العامة

أكره البيوت الخالية من رباتها! إن ربة البيت روح ينفث الهناءة والمودة في جنباته ويعين على تكوين إنسان سوي طيب.. وكل ما يشغل المرأة عن هذه الوظيفة يحتاج الى دراسة ومراجعة...

والى جانب هذه الحقيقة فإني أكره وأد البنت طفلة، ووأدها وهي ناضجة المواهب مرجوة الخير لأمتها وأهلها.. فكيف نوفق بين الأمرين؟.

لنتفق أولا على أن احتقار الأنوثة جريمة، وكذلك دفعها الى الطرق لإجابة الحيوان الرابض في دماء بعض الناس...

والدين الصحيح يابى تقاليد أمم تحبس النساء، وتضيق عليهن الخناق وتضن عليهن بشتى الحقوق والواجبات، كما يأبى تقاليد أمم أخرى جعلت الأعراض كلأ مباحا، وأهملت شرائع الله كلها عندما تركت الغرائز الدنيا تتنفس كيف تشاء...

يمكن أن تعمل المرأة داخل البيت وخارجه، بيد أن الضمانات مطلوبة لحفظ مستقبل الأسرة ومطلوب أيضا توفير جو من التقى والعفاف تؤدي فيه المرأة ما قد تكلف به من عمل..

إذا كان هناك مائة ألف طبيب أو مائة ألف مدرس فلا بأس أن يكون نصف هذا العدد من النساء والمهم في المجتمع المسلم قيام الآداب التي أوصت بها الشريعة، وصانت بها حدود الله، فلا تبرج ولا خلاعة، ولا مكان لاختلاط ماجن هابط، ولا مكان لخلوة فأجنبي «تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون»..(30).

على أن الاساس الذي ينبغي أن نرتبط به أو نظل قريبين منه هو البيت، إني أشعر بقلق من ترك الأولاد للخدم أو حتى لدور الحضانة.

إن أنفاس الأم عميقة الآثار في إنضاج الفضائل وحماية النشء.

ويجب أن نبحث عن ألف وسيلة لتقريب المرأة من وظيفتها الاولى وهذا ميسور لو فهمنا الدين على وجهه الصحيح، وتركنا الانحراف والغلو..

أعرف أمهات فاضلات مديرات لمدارس ناجحة، وأعرف طبيبات ماهرات شرفن أسرهن ووظائفهن وكان التدين الصحيح من وراء هذا كله..

وقد لاحظت أن المرأة اليهودية شاركت في الهزيمة المخزية التي نزلت بنا وأقامت دولة إسرائيل على أشلائنا، إنها أدت خدمات اجتماعية وعسكرية لدينها.

كما أن امرأة يهودية هي التي قادت قومها، وأذلت نفرا من الساسة العرب لهم لحي وشوارب في حرب الأيام الستة وفي حروب تالية..!

وقد لاحظت في الشمال الأفريقي وأقطار أخرى أن الراهبات وسيدات متزوجات وغير متزوجات يخدمن التنصير بحماس واستبسال!.

ولعلنا لا ننسى الطبيبة التي بقيت في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وهي تهدم على رءوس أصحابها وتحملت أكل الموتى من الحيوانات والجثث، ثم خرجت ببعض الأطفال العرب آخر الحصار لتستكمل معالجة عللهم في انجلترا..

إن هناك نشاطا نسائيا عالميا في ساحات شريفة رحبة لا يجوز أن ننساه لما يقع في ساحات أخرى من تبذل وإسفاف.

وقد ذكرني الجهاد الديني والاجتماعي الذي تقوم النساء غير المسلمات به في أرضنا أو وراء حدودنا، بالجهاد الكبير الذي قامت به نساء السلف الأول في نصرة الإسلام.

لقد تحملن غربة الدين بشجاعة، وهاجرن وآوين عندما رضت الهجرة والإيواء، وأقمن الصلوات رائجات غاديات الى المسجد النبوي سنين عددا، وعندما احتاج الأمر الى القتال قاتلن.

وقبل ذلك أسدين خدمات طبية ـ أعن في المهام التي يحتاج اليها الجيش ـ.

وقد ساء وضع المرأة في القرون الأخيرة، وفرضت عليها الأمية والتخلف الإنساني العام...

بل إنني أشعر بأن أحكاما قرآنية ثابتة أهملت كل الإهمال لأنها تتصل بمصلحة المرأة، منها أنه قلم نالت امرأة ميراثها، وقلما استشيرت في زواجها!.

وبين كل مائة ألف طلاق يمكن أن يقع تمتيع مطلقة.. أما قوله تعالى «وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين»(31) فهو كلام للتلاوة..

والتطويح بالزوجة لنزوة طارئة أمر عادي، أما قوله تعالى «وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها...»(32) فحبر على ورق..

المرأة أنزل رتبة وأقل قيمة من أن ينعقد لأجلها مجلس صلح! إن الربة في طردها لا يجوز أن تقاوم..!!

وقد نددت في مكان آخر بأن خطيئة الرجل تغتر أما خطأ المرأة فدمها ثمن له!!.

وقد استغل الاستعمار العالمي في غارته الأخيرة علينا هذا الاعوجاج المنكور، وشن على تعاليم الإسلام حربا ضارية! كأن الإسلام المظلوم هو المسئول عن الفوضى الضاربة بين أتباعه..

والذي يثير الدهشة أن مدافعين عن الإسلام أو متحدثين باسمه وقفوا محامين عن هذه الفوضى الموروثة، لأنهم ـ بغباوة رائعة ـ ظنوا أن الإسلام هو هذه الفوضى! والجنون فنون والجهالة فنون!!.

إن الأعمدة التي تقوم عليها العلاقات بين الرجال والنساء تبرز في قوله تعالى: «لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض»(33) وقوله: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»(34).

وقول الرسول الكريم: «النساء شقائق الرجال».

وهناك أمور لم يجئ في الدين أمر بها أو نهي عنها، فصارت من قبيل العفو الذي سكت الشارع عنه ليتيح لنا حرية التصرف فيه سلبا وإيجابا.

وليس لأحد أن يجعل رأيه هنا دينا، فهو رأي وحسب!.

ولعل ذلك سر قول ابن حزم. إن الإسلام لم يحظر على امرأة تولى منصب ما، حاشا الخلافة العظمى!.

وسمعت من رد كلام ابن حزم: بأنه مخالف لقوله تعالى: «الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم...»(35) فالآية تفيد ـ في فهمه ـ أنه لا يجوز أن تكون المرأة رئيسة رجل في أي عمل!.

وهذا رد مرفوض والذي يقرأ بقية الآية الكريمة يدرك أن القوامة المذكورة هي للرجل في بيته، وداخل أسرته..

وعندما ولي عمر قضاء الحبسة في سوق المدينة للشفاء، كانت حقوقها مطلقة على أهل السوق رجالا ونساء، تحل الحلال وتحرم الحرام وتقيم العدالة وتمنع المخالفات...

وإذا كانت للرجال زوجة طبيبة في مستشفى فلا دخل له في عملها الفني، ولا سلطان له على وظيفتها في مستشفاها..

قد يقال: كلام ابن حزم منقوض بالحديث «خاب قوم ولوا أمرهم امرأة»..

وجعل أمور المسلمين الى النساء يعرض الأمة للخيبة فينبغي ألا تسند اليهن وظيفة كبيرة ولا صغيرة...

وابن حزم يرى الحديث مقصورا على رياسة الدولة، أما ما دون ذلك فلا علاقة للحديث به...

ونحب أن نلقي نظرة أعمق على الحديث الوارد، ولسنا من عشاق جعل النساء رئيسات للدول أو رئيسات للحكومات! إننا نعشق شيئا واحدا، أن يرأس الدولة أو الحكومة أكفأ إنسان في الأمة...

وقد تأملت في الحديث المروي في الموضوع، مع أنه صحيح سندا ومتنا، ولكن ما معناه؟.

عندما كان فارس تتهاوى تحت مطارق الفتح الإسلامي كانت تحكمها ملكية مستبدة مشئومة.

الدين وثني! والأسرة المالكة لا تعرف شورى، ولا تحترم رأيا مخالفا، والعلاقات بين أفرادها بالغة السوء. قد يقتل الرجل أباه أو إخوته في سبيل مآربه. والشعب خانع منقاد..

وكان في الإمكان، وقد انهزمت الجيوش الفارسية أمام الرومان الذين أحرزوا نصرا مبينا بعد هزيمة كبرى وأخذت مساحة الدولة تتقلص أن يتولى الأمر قائد عسكري يقف سيل الهزائم لكن الوثنية السياسية جعلت الأمة والدولة ميراثا لفتاة لا تدري شيئا، فكان ذلك إيذانا بأن الدولة كلها الى ذهاب..

في التعليق على هذا كله قال النبي الحكيم كلمته الصادقة، فكانت وصفا للأوضاع كلها..

ولو أن الأمر في فارس شورى، وكانت المرأة الحاكمة تشبه «جولدا مائير» اليهودية التي حكمت اسرائيل واستبقت دفة الشؤون العسكرية في ايدي قادتها لكان هناك تعليق آخر على الأوضاع القائمة..

ولك أن تسأل: ماذا تعني؟ واجيب: بأن النبي ـ عليه الصلاة واسلام ـ قرأ على الناس في مكة سورة النمل، وقص عليهم في هذه السورة قصة ملكة سبأ التي قادت قومها الى الإيمان والفلاح بحكمتها وذكائها، ويستحيل أن يرسل حكما في حديث يناقض ما نزل عليه من وحي!.

كانت بقليس ذات ملك عريض، وصفه الهدهد بقوله: «إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم»(36).

وقد دعاها سليمان الى الإسلام، ونهاها عن الاستكبار والعناد، فلما تلقت كتابه، تروت في الرد عليه، واستشارت رجال الدولة الذين سارعوا الى مساندتها في أي قرار تتخذه، قائلين «نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد. والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين»؟(37).

ولم تغتر المرأة الواعية بقوتها ولا بطاعة قومها لها، بل قالت: نختبر سليمان هذا لنتعرف أهو جبار من طلاب السطوة والثروة أم هو نبي صاحب إيمان ودعوة؟.

ولما التقت بسليمان بقيت على ذكائها واستنارة حكمها تدرس أحواله وما يريد وما يفعل، فاستبان لها أنه نبي صالح.

وتذكرت الكتاب الذي ارسله إليها: «إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين»(38) ثم قررت طرح وثنيتها الاولى والدخول في دين الله قائلة: «رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين...»(39).

هل خاب قوم ولوا أمرهم امرأة من هذا الصنف النفيس؟ إن هذه المرأة أشرف من الرجل الذي دعته ثمود لقتل الناقة ومراغمة نبيهم صالح «فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر. فكيف كان عذابي ونذر. إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر»(40).

ومرة أخرى أؤكد أني لست من هواة تولية النساء المناصب الضخمة، فإن الكملة من النساء قلائل، وتكاد المصادفات هي التي تكشفهن، وكل ما أبغي، هو تفسير حديث، ورد في الكتب، ومنع التناقض بين الكتاب وبعض الآثار الواردة، أو التي تفهم على غير وجهها! ثم منع التناقض بين الحديث والواقع التاريخي.

إن انجلترا بلغت عصرها الذهبي أيام الملكة «فيكتوريا» وهي الآن بقيادة ملكة ورئيسة وزراء، وتعد في قمة الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي. فأين الخيبة المتوقعة لمن اختار هؤلاء النسوة؟.

وقد تحدثت في مكان آخر عن الضربات القاصمة التي أصابت المسلمين في القارة الهندية على يدي «انديرا غاندي» وكيف شطرت الكيان الإسلامي شطرين فحققت لقومها ما يصبون!.

على حين عاد المرشال، يحيى خان يجرر أذيال الخيبة!!.

أما مصائب العرب التي لحقت بهم يوم قادت «جولدا مائير» قومها فحدث ولا حرج، قد نحتاج الى جيل آخر لمحوها! إن القصة ليست قصة أنوثة وذكورة! إنها قصة أخلاق ومواهب نفسية..

لقد أجرت انيرا انتخابات لترى أيختارها قومها للحكم أم لا؟ وسقطت في الانتخابات التي أجرتها بنفسها! ثم عاد قومها فاختاروها من تلقاء أنفسهم دون شائبة إكراه!.

أما المسلمون فكأنهم متخصصون في تزوير الانتخابات للفوز بالحكم ومغانمه برغم أنوف الجماهير.

أي الفريقين أولى برعاية اله وتأييده والاستخلاف في أرضه؟ ولماذا لا نذكر قول ابن تيمية: إن الله قد ينصر الدولة الكافرة ـ بعدلها ـ على الدولة المسلمة بما يقع فيها من مظالم؟.

ما دخل الذكورة والأنوثة هنا؟ إمرأة ذات دين خير من ذي لحية كفور!!

والمسلمون الآن نحو خمس العالم، فكيف يعرضون دينهم على سائر الناس!

ليتهموا قبل أي شيء بأركان دينهم وعزائمه وغاياته العظمى! أما ما سكت الإسلام عنه فليس لهم أن يلزموا الناس فيه بشيء قد أفوه هم أنفسهم من قبل!!.

إننا لسنا مكلفين بنقل تقاليد عبس وذبيان الى امريكا وأستراليا، إننا مكلفون بنقل الإسلام وحسب!.

والأمم تلتقي عند الشئون المهمة! هل أن الانكليز يلزمون الجانب الأيسر من الطريق على عكس غيرهم من أهل أوروبا، إن ذلك لا تأثير له في حلف الأطلسي ولا في دستور الأسرة الأوروبية!.

وإذا كان الفقهاء المسلمون قد اختلفت وجهات نظرهم في تقرير حكم ما، فإنه يجب أن نختار للناس أقرب الأحكام الى تقاليدهم..

والمرأة في أوربا تباشر زواجها بنفسها، ولها شخصيتها التي لا تتنازل عنها، وليست مهمتنا أن نفرض على الأوربيين مع أركان الإسلام رأي مالك أو ابن حنبل إذا كان رأي ابي حنيفة(41) أقرب الى مشاربهم فإن هذا تنقطع أو صد عن سبيل الله..

وإذا ارتضوا أن تكون المرأة حاكمة أو قاضية أو وزيرة أو سفيرة، فلهم ماشاءوا، ولدينا وجهات نظر فقهية تجيز ذلك كله، فلم الإكراه على رأي ما؟.

إن من لا فقه لهم يجب أن يغلقوا أفواههم لئلا يسيئوا الى الإسلام بحديث لم يفهموه أو فهموه وان ظاهر القرآن ضده...

والجماعة من شعائر الإسلام، ومنذ قام المجتمع الإسلامي والمسجد محور نشاطه وملتقى أبنائه، تتصافح فيه الوجوه والأيدي، وتتلاقى فيه على الحب والتعاون.

ويقف المؤمنون في صفوف مرصوصة بين يدي الله تبارك وتعالى قدما لقدم وكتفا لكتف، يزينهم الخشوع لسماع القرآن، والتسبيح والتحميد خلال الركوع والسجود...

وأثر الصلاة الفكري والخلقي عميق، فإن القرآن المتلو يرفع المستوى ويورث التقوى، واللقاء المتكرر يصون العلاقات الخاصة والعامة، ويجعل الأمة تواجه يومها وغدها وهي متعارفة لا متناكرة.

وثم أمر آخر.. أن المبطلين أقاموا في هذه الدنيا جوا من المادية والأطماع والمدرب الصغيرة يملأ انديتهم، ويسود طرقهم، ويصنع تقاليدهم، ويدعم بعدهم عن الله وكفرهم بآياته، فيجب أن يكون للمؤمنين جو أنقى يعلو فيه ذكر الله، وتسمع فيه قضايا الحق، ويتحول فيه الإيمان بالغيب الى حقائق مأنوسة لا خيالات مستوحشة!.

من ثم كانت الجماعة من معالم الدين! وبعض الفقهاء يرى الجماعة رضا للصلوات المس لا يسقطه إلا غدر صحيح، ولكن الذي عليه جمهور الأمة أن الجماعة سنة مؤكدة...

فهل هي سنة مؤكدة للرجال والنساء على السواء؟ كذلك يقول الظاهرية!! ولكن الأمر يحتاج الى تأمل..

فقد صح في السنة أن المرأة راعية في بيتها وهي مسئولة عن رعيتها! ولا ريب أن شئون الأولاد خصوصا الرضع، وإعداد البيت لاستقبال الرجل العائد من عمله، كل ذلك يحول دون انتظام المرأة في الجماعات الخمس

ولذلك نرى أن حضور الجماعات مطلوب منها بعد أن تفرغ من وظائف بيتها، فإذا قامت بما عليها فلا يجوز لرجلها أن يمنعها من الذهاب الى المسجد وقد جاء في الحديث «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»

ونحن موقنون بأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ جعل أحد أبواب المسجد خصا بالنساء، وأنه أقامهن في الصفوف والمؤخرة من المسجد ـ وذلك أصون لهن في الركوع والسجود ـ وأنه زجر الرجال الذين يقتربون من صفوفهن، كما زجر النساء اللائي يتقدمن قريبا من صفوف الرجال..

وقد بقيت صفوف النساء في المسجد طيلة العهد النبوي وأيام الخلافة الراشدة، فلم يشغب عليها شاغب، تبدأ مع الفجر وتنتهي عند العشاء..

وربما قامت للنساء جماعات حاشدة لصلاة التراويح في رمضان، ومعروف أن اشتراكهن في صلاة العيد وسماع الخطبة من شعائر الإسلام.

بيد أن الازدهار الذي أحدثه الإسلام في عالم المرأة أخذ يتعرض للذبول والتلاشي فوضع حديث يمنع تعليم النساء الكتابة، كي يبقين على أميتهم الأولى!!.

لحساب من تعود هذه الجاهلية؟.

وعندما يفرض على نصف الأمة الجهل والعمى فكيف تنشأ الأجيال المقبلة؟.

ثم شاع حديث آخر يأبى على النساء حضور الجماعات كلها، بل طلب من المرأة إذا أرادت الصلاة في بيتها أن تختار المكان الموحش المعزول، فصلاتها في سرداب أفضل من صلابتها في الغرفة، وصلتها في الظلمة أفضل من صلتها في الضوء!!.

وراوي هذا الحديث يطوح وراءه ظهره بالسنن العملية المتواترة عن صاحب الرسالة.

وينظر الى المرأة المصلية وكأنها أذى يجب حصره في أضيق نطاق وأبعده، ولنقرأ هذا الحديث الغريب كما ذكره ابن خزيمة وغيره.

«عن أم حميد أمرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت الى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت:

يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، قال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي! وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي».

قال الراوي: فأمرت فبنى لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، وكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل!!.

والبيت في الحديث هو غرفة النوم، والحجرة غرفة الجلوس، والصلاة في الأولى أفضل من الصلاة في الأخرى!.

والصالة في غرفة الجلوس أفضل من الصلاة في رصة الدار، وهي في عرصة الدار أفضل من الصلاة في مسجد الحي..

وكلما ضاق المكان وبعد واستوحش كانت الصلاة فيه أفضل!.

ويجعل ابن خزيمة عنوان الباب الذي ذكره فيه هذه القضايا «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد رسول الله. وأقول قول النبي ـ عليه الصلاة والسلام «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد» إنما أراد به صلاة الرجال دون صلاة النساء!!.

والسؤال السريع إن كان هذا الكلام صحيحا فلماذا ترك النبي يشهدن الجماعات معه طوال عشر سنين من الفجر الى العشاء؟ ولماذا خص أحد أبواب المسجد بدخولهن؟ ولماذا لم ينصحهن بالبقاء في البيوت بدل هذه المعاناة الباطلة؟.

ولماذا قصر صلاة الفجر على سورتين صغيرتين عندما سمع بكاء رضيع مع أمه حتى لا ينشغل قلبها؟.

ولماذا قال: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله؟ ولماذا استبقت الخلافة الراشدة صفوف النساء في المساجد بعد وفاة الرسول الكريم؟.

إن ابن حزم أراح نفسه وأراح غيره عندما كذب أحاديث منع النساء من الصلاة في المساجد، وعدها من الباطل!

وعلماء المصطلح يقولون: يعتبر الحديث شاذا إذا كان الثقة قد خالف به الأوثق.

فإذا كان المخالف ليس ثقة بل ضعيفا، فحديثه متروك أو منكر!.

ولم يجئ في أحد الصحيحين ما يفيد منع النساء من الصلاة في المساجد.. فهذه الأحاديث مردودة كلها.. فكيف إذا خالف الضعيف السنة العملية المتواترة والمشهورة؟ إن حديثه يستبعد ابتداء..

وقد أتت على المسلمين عصور ماتت فيها السنة الصحيحة، ولا تزال هذه المأساة باقية تتعصب لها بيئات لا تعرف إلا المرويات المتروكة والمنكرة..

وقد يقبل زجر المرأة عن حضور الجماعات إذا كانت متبرجة، فإن الذهاب الى المساجد ليس استعراضا للزينات، وبعثرة للفتن! إنه سعي مرضاة الله، وغرس للتقوى..

وحجز النساء عن هذا الشر هو بتنفيذ وصاة رسول الله «... يخرجن تفلات» أي في ملابس عادية وهيئة طبيعية لا تعطر ولا تبختر..

أما إصدار حكم عام بتحريم المساجد على النساء فهو مسلك لا صلة له بالإسلام..

وإن الفقهاء ليرتاعون لما يرويه المحدثون مخالفا لما ثبت لديهم!.

انظر ما رواه المنذري تحت عنوان «الترهيب من ترك التسمية على الوضوء عمدا»، قال الإمام أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله: ثبت لدينا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لا وضوء لمن لم يسم الله..».

وعن أبي هريرة قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه»!

وفقهاء المذاهب على أن التسمية سنة لا فريضة واحتجوا بما رواه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا «من توضأ وذكر اسم الله عليه كان ظهورا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لأعضاء وضوئه».

قال المنذري: «في الباب أحاديث كثيرة لا يسلم شيء منها عن مقال».

وقد ذهب الجمهور الى أن التسمية على الوضوء سنة، وذهب الحنابلة والظاهرية الى أنها فريضة، والأحاديث المروية بالسب أو الإيجاب موضع أخذ ورد ولا داعي لتهويل في الأمر...

ومن الخير أن نعلم أن الفرض لا يثبت إلا بدليل قطعي وأن التحريم لا يثبت إلا بدليل قطعي، وأن الأدلة الظنية لها دلالات أقل من ذلك.

والذي يدخل ميدان التدين وبضاعته في الحديث مزجاة كالذي يدخل اسوق ومعه نفوذ مزيفة. لا يلومن إلا نفسه إذا أخذته الشرطة مكبل البدين..!

ونري من الجماعات العاملة للإسلام أن تكون يقظة فلا تنخدع بالآثار الواهية والأحاديث الموضوعة كما نري منها أن تعرف المعاني الصحيحة لما صح من نقول...

وأئمة الفقه هم أرباب تلك الصناعة..!

في عالم النساء - حول شهادة المرأة..

ومعروف أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، وقد علل القرآن الكريم بأن المرأة قد تنسى أو تحار أو يشتبه عليها وجه الحق، وعندما تكون معها امرأة أخرى فسوف يتعاونان على الإدلاء بالحقيقة كاملة...

وقد بحثت في هذا الموضوع فأدركت أن المرأة في عادتها الشهرية تكون شبه مريضة. وأن انحراف مزاجها واضطراب أجهزتها الحيوية يصيبها بعض الارتباك. والتثبت في أداء الشهادات واجب...

ذاك سر قوله تعالى: «واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء. أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى»(42).

وكان يجب أن يقف الأمر عند هذا الحد لكن تيارا نشأ في الفكر الديني يستبعد شهادة المرأة استبعادا تاما في أهم ميادين التقاضي..! وهو ميدان القصاص والحدود أي فيما يتصل بالدماء والأعراض..

وإذا كان اللصوص يسرقون البيوت ليلا أو نهارا فما معنى رفض شهادة المرأة في حد السرقة؟ وإذا كان العدوان على النفس والأطراف يقع كثيرا بمشهد من النساء فما معنى أن ترى المرأة مصرع آلها أو أقرب الناس إليها ثم ترفض شهادتها؟.

ولماذا لم يلتزم نصاب الشهادة كما ذكره القرآن الكريم؟.

إن ابن حزم في تمحيصه للآثار المروية يؤكد أن رفض شهادة النساء في الحدود والقصاص لا يوجد له أصل في السنة النبوية.

ولست أحب أن أوهن ديني أمام القوانين العالمية بموقف لا يستند استنادا قويا الى لنصوص القاطعة. وإذا كان المسلمون الآن أكثر من مليار نفس فما معنى التطويح بكرامة خمسمائة مليون امرأة لقول أحد من الناس؟..

المأساة أننا نحن المسلمين مولعون بضم تقاليدنا وآرائنا الى عقائد الإسلام وشرائعه لتكون دينا مع الدين، وهدايا من لدن رب العالمين، وبذلك نصد عن سبيل الله..!

وأذكر هنا قصة الناقة التي عرضها صاحبها بعشرة دراهم، واشترط أن تباع قلادتها معها بألف درهم! فكان الناس يقولون: ما أرخص الناقة لولا هذه القلادة الملعونة..!

وأقول كذلك: ما أيسر الإسلام وأيسر أركانه، وما أصدق عقائده وشرائعه. لولا ما أضافه أتباعه من عنده أنفسهم، واشترطوا على الناس أن يأخذوا به ويدخلوا فيه..!

ولننقل كلام ابن حزم في موضوع الشهادة من كتابه «المحلى»...

قال: «ولا يجوز أن يقبل في الزنا أقل من أربعة رجال عدول مسلمين أو مكان كل رجل امرأتان مسلمتان عدلتان فيكون ذلك ثلاثة رجال وامرأتين أو رجلين وأربع نسوة أو رجلا واحدا وست نسوة أو ثمان نسوة فقط.

ولا يقبل في سائر الحقوق كلها من الحدود والدماء وما فيه القصاص، والنكاح والطلاق والرجعة والأموال إلا رجلان مسلمان عدلان أو رجل وامرأتان كلك أو أربع نسوة.

قال: «وصح عن شريح أنه أجاز شهادة امرأتين في عتاقة مع رجل.

وصح عن الشعبي قبول شهادة رجل وامرأتين في الطلاق وجراح الخطأ ولم يجز شهادة النساء في جراح عمد ولا في حد.

وصح عن إياس بن معاوية قبول امرأتين في الطلاق.

وعن محمد بن سيرين أن شريحا أجاز شهادة أربع نسوة على رجل في صداق امرأة.

وعن الزبير بن الخريت عن لبيد قال: أن سكرانا طلق امرأته ثلاثا فشهد عليه أربع نسوة فرفع الى عمر بن الخطاب فأجاز شهادة النسوة وفرق بين الزوجين.

وعن سفيان بن عيينة عن أبي طلق عن امرأة أن امرأة أوطأت صبيا فقتلته فشهد عليها أربع نسوة، فأجاز علي بن أبي طالب شهادتهن.

وعن عطاء قال: أجاز عمر بن الخطاب شهادة النساء مع الرجال في الطلاق والنكاح. وفي رواية أخرى عن عطاء بن أبي رباح قال: تجوز شهادة النساء مع الرجال في كل شيء».

قال ابن حزم عن عبد الله بن عمر عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال في حديث: فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل.

أما ما جاء عن الزهري الذي قال: مضت السنة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن ابي بكر وعمر أنه لا تجوز شهادة النساء في الطلاق ولا في النكاح ولا في الحدود فبلية: لأنه منقطع من طريق إسماعيل بن عياش وهو ضعيف عن الحجاج بن أرطاة وهو هالك.

وأما الرواية عن عمر: لو فتحنا هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين رجل وامرأته إلا فعلت ذلك فهو عن الحارث الغنوي وهو مجهول. ثم إن عمر لا يقول هذا الكلام.

انتقيت هذه السطور من عدة صفحات تضمنت آراء فيها الخطأ والصواب،ومرويات فيها المقبول والمردود، ورأيت ـ حتى استنقذ نفسي والناس من هذه اللجة ـ أن أعتصم بالمتواتر من كتاب الله، والمشتهر من السنة النبوية! وأن أقرر قبول شهادة امرأة في كل شيء وفق النصاب الثابت في ديننا.

ومن حق كل مسلم أن يتجاوز ما وراء ذلك غير متهم ولا مريب..

ولي أن أتساءل هل من مصلحة الأمن العام إهدار شهادة المرأة في قضايا يقع ألوف منها بمحضر النساء؟ وهل من مصلحة الفقه والأثر ترجيح مذهب يسيء الى الإسلام أكثر مما يحسن..؟

ثم نختم هذا الباب بقول ابن حزم: «وجائز أن تلي المرأة الحكم» وهو قول أبي حنيفة، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه ولي الشفاء ـ امرأة من قومه ـ السوق، فإن قيل: قد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لن يفلح قوم أسندوا أمرهم الى امرأة» قلنا: إنما قال ذلك رسول الله في الأمر العام الذي هو الخلافة.

برهان ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: «المرأة راعية على مال زوجها وهي مسئولة عن رعيتها».

وقد أجاز المالكيون أن تكون وصية ووكيلة(43) «ولم يأت نص من منعها أن تلي بعض الأمور! وبالله تعالى التوفيق...».

في عالم النساء - الغناء

خبر الواحد وقيمته

  • ـ ابن حزم يناقش ما ورد في تحريم الغناء من أخبار
  • ـ الترويح عن النفس بالمباحات
  • ـ نماذج للغناء الشريف
  • ـ فساد أغلب البيئات الفنية
  • ـ التطرف في التحريم نزعة غير إسلامية.

محمد صاحب الرسالة الخاتمة أحب البشر إلينا وأجلهم نعما لدينا!.

وإذا حسبت أقدار الناس، وفق جهادهم لإحقاق الحق وإبطال الباطل، فمحمد أصدقهم قيلا وأهداهم سبيلا وأقدرهم ـ بالخلق الجميل، والصبر الطويل ـ على إبراز الحقيقة وحمايتها وتفتيح الجفون المغلقة على سناها..

لقد أنصف الوحي الإلهي كله، وصانه مما عراه خلال القرون الأولى، وعرفنا بالله الأحد الصمد، وخط لنا سبيل رضاه في وجه سلطات شرسة وكهانات خرقة وجماهير وتوارث الخبال.

ولم يزل يصابر الليالي ويكافح الطغاة حتى بلغ رسالة الهدى والخير، فله في أعناقنا صنائع المعروف لا ننساها له أبدا، وإن جهل الجاهلون وجحد الجاحدون...

إن نبوة محمد تلقى في هذا العصر تحديا نلقاه بالازراء تشارك فيه الصهيونية والصليبية والشيوعية يحاولون جميعا غمط حقه وبخس تراثه! ولكننا ننظر الى ما تقدم هذه النحل للدنيا من عوج وشر وما يقدمه محمد للدنيا ـ في كتابه وسنته ـ من استقامة وخير، ونعلم أن المستقبل لنا، وأن يوم الإسلام قادم «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».

والمهم أن نعرف رسالتنا بصدق، وأن نطبقها على أنفسنا بوفاء، وأن نبلغها الى الناس سماوية لا يعلق بها من أكدار الأرض قذى ينفر منها أصحاب الفطر السليمة...

نحن نعلم أن الأنبياء كلهم مبلغون عن الله، ولا نعجب عندما نقرأ قوله تعالى: «من يطع الرسول فقد أطاع الله..» وقوله: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم...».

فللرسول علينا حق السمع والطاعة ونحن ندرس سيرته لننهج نهجه ونقتفي أثره ونقتدي به فيما فعل وترك.

ولا خلاف بين المسلمين في أن محمدا أسوتهم الحسنة وإمامهم الأول والصورة العملية الوسيمة لما في القرآن الكريم من هدى ونور.

وعندما نقرر مصادر الأحكام فالإجماع منعقد على أن الأصلين الأولين هما الكتاب والسنة... والكتاب لا ترقى إليه شبهة فهو متواتر حرفا حرفا، ونحن نؤمن به جملة وتفصيلا..

وما بلغ من السنة درجة اليقين فسبيله سبيل القرآن الكريم لا يزيغ عنه إلا هالك! ومن علم على وجه اليقين أن رسول الله أصدر أمرا ثم قرر رفضه فقد انسلخ عن الملة، لا خلاف في هذا.

وإذ وقع لغط حول حديث ما فمداره: هل قال الرسول هذا؟ أم لم يقله..! فالكلام في صحة النسبة وفي ضمانات هذه الصحة لا في جواز التقدم بين يدي الله ورسوله، أو أخذ ما يعجب وترك ما لا يعجب..!!.

وقد قرأت البحث الذي كتبه الأستاذ الشيخ يوسف القرضاوي في أسلوب التعامل مع السنة(*) فوجدته أوفى على الغاية وجمع أنفس ما يقال في هذه القضية، والحق أن الشيخ يوسف من العلماء الذين يظهرون بقلة في تاريخنا ولهم رسوخ في الفقه والأثر، وبصر بالنص الإلهي وواقع الحياة، بل هو في ميدانه إمام من الثقات العدول، والدعاة الأمناء..

وأنا أطمع في أن أضيف الى جهده أشياء ليست استداركا عليه، وإنما هي إضافات توضح مواقف جمهرة المسلمين من السنة الشريفة، عندما يتركون حديثا من الأحاديث لملحظ آخر من ملاحظ الشريعة رأوه أجدر بالترجيح..

وقبل أن أشرح ما عندي أحب أن أقول: إنني مع الجماعة الكبرى أستظل بلوائها وانتظم في صفوفها وأكره الشذوذ وأرفض الخروج على ما ارتضاه جمهور الأمة..

إنني أعرف العداوات الرهيبة التي تواجهها أمتنا في هذه السنوات العجاف، وأريد أن تبقى جبهتنا متحدة لصون بيضتنا وكبت عدوانا.

لقد تخرجت في الأزهر من نصف قرن، ومكثت في الدراسة بضع عشرة سنة لم أعرف خلالها إلا أن حديث الآحاد يفيد الظن العلمي، وأنه دليل على الحكم الشرعي ما لم يكن هناك دليل أقوى منه، والدليل الأقوى قد يؤخذ من دلالات القرآن القريبة والبعيدة، أو من السنة المتواترة، أو من عمل أهل المدينة...

والقول بأن حديث الآحاد يفيد اليقين كما يفيده المتواتر ضرب من المجازفة المرفوضة عقلا ونقلا ومن هنا فقد ألفنا قبول أحكام شتى تخالف المتبادر من بعض المرويات الصحيحة.

كنت وأنا أدرس الفقه على المذهب الحنفي أسمع المالكيين يقولون: من أفطر في رمضان ناسيا فعليه القضاء، أو يقولون: الشك ينقض الوضوء، وهذا يخالف أحكاما مقررة عندنا تعتمد على أحاديث صحيحة..

وكنا لا نقرأ حرفا وراء الإمام في الصلوات الخمس، أو نترك البسملة أحيانا لما استقر عندنا من مرويات، على حين كان الشافعيون يصرون على تلاوة الفاتحة ويرون البسملة جزءا منها..

ولم نكن نشعر بغضاضة من هذا الاختلاف، وإذا ثار جدل علمي ركد بعد قليل غير مخلف غضبا ولا أسفا..

وفي المذهب الحنفي يعرف الفرض بأنه ما ثبت بدليل قطعي، أما الواجب ـ وهو دون الفرض ـ فما ثبت بدليل ظني، ويعني ذلك أن حديث الآحاد لا يثبت به فرض، كما أنه لا يقع به تحريم، بل يفيد الكراهية وحسب...

وعندما توغلنا في دراسة القرآن الكريم وجدنا المفسرين المحققين يجنحون الى ذلك المنهج. يقول صاحب المنار: «التفرقة بين ما ثبت بنص القرآن من الأحكام، وما ثبت بروايات الآحاد وأقيسة الفقهاء ضرورية، فإن من يجحد ما جاء في القرآن الكريم بحكم بكفره، ومن يجحد غيره ينظر في عذره! فما من إمام مجتهد إلا وقد قال أقوالا مخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة لأسباب يعذر بها، وتبعه الناس على ذلك..

ولا يعد أحد ذلك عليهم خروجا من ادين حتى من لا عذر له في التقليد..».

ثم نقل صاحب المنار عن ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين قوله: «الربا نوعان جلي وخفي، فالجلي حرم لما فيه م الضرر العظيم والخفي حرم لأنه ذريعة الى الجلي...».

ويرى ابن القيم أن ربا الفضل المعروف في حديث الأصناف الستة إنما حرم من باب سد الذرائع، والواقع أن ربا الفضل لا يكاد يوجد في الحياة العملية! فما معنى أن تبيع جراما من ذهب بجرام من ذهب مثلا بمثل، هاء وهاء؟.

المقصود إغلاق الباب من بعيد على ربا النسيئة... والحق أن الحديث المتفق عليه في تحريم التفاضل والإرجاء بين الأصناف الستة لا يفهم إلا في ضوء بيان ابن القيم..

إن العقائد والأركان والمعالم الرئيسة لديننا تؤخذ مما نقل بالتواتر، أو مما استفاضت شهرته من الصحاح أما الأحكام الفرعية فلا بأس عند تقريرها من النظر في أحاديث الآحاد، وقد بذل علماؤنا جهدا مقدورا مشكورا في ضبطها،إنهم لم يهدروا نقل عدل ضابط، بل أعطوه ما يستحق من اهتمام بيد أننا في ميدان الشهادة لا نحمي دماء الناس وأعراضهم وأموالهم بشهادة رجل واحد مهما كانت جلالته، إننا نطب شاهدين أو أربعا في الإثبات، ودين الله أهم من دنيا الناس!.

ذلك، وهناك قضايا لا يجوز فيها التساهل لخـطورتها، وقد شعرت بالغيظ والحرج وأنا أقرأ أن يهوديا وغدا سحر النبي عليه الصلاة والسلام وأعجزه عن مباشرة نسائه مدة قدرها ابن حجر بستة شهور! أكذلك تنال القمم؟.

قالوا: كما يستطيع سفيه أن يقذفه بحجر أو كما يستطيع مجرم أن يصيبه بجرح! وهذا اعتذار مرفوض، فإن السحر تسلط على الإرادة والفكر وهذا مستحيل، لاسيما والوسيلة تسلط أرواح شريرة، أو بعض الجن.. على الجهاز العصبي للإنسان، فيوقعه في اضطراب وحيرة...

وقد سرني ان الشيخ محمد عبده رفض هذا الحديث، وساءني أن الرجل الضخم اتهم في دينه لهذا الموقف المعظم لقدر الرسول!!.

وسمعت الشيخ محمد أحمد عثمان رحمه الله ـ وكان وكيلا للجمعية الشرعية في مصر ـ يقول: إن في سند حديث السحر مقالا، فقلت له: لست من علماء هذا الفن! وكل ما لاحظت على السند أنه يجعل نزول المعوذتين في المدينة، وهما في «علوم القرآن» وعند كتاب المصاحف نزلتا بمكة...

إنني أطيل النظر في كتب السنة، معتقد أن بها كنوزا ثمينة من تراث النبوة، واستهدى فطرتي في تجنب الضعيف وقبول الصحيح، وهي فطرة صقلتها التلاوة الدائمة لكتاب الله، والحب الصادق لهذا الوحي المبارك، والدراسة الحسنة لمناهج الفقهاء الأربعة الكبار ومن يليهم من أهل الذكر وقادة الفكر.!.

ومن هنا ابتعدت عن أحاديث تركها أبو حنيفة ومالك وغيرهما، وإن رواها المشتغلون بجمع الأحاديث.

لقد تركها الأئمة بتلطف وأدب، وأمامي الآن تفسير المنار لقوله تعالى: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» يقول الشيخ رشيد: لم نر في الأحاديث الصحيحة ما هو أقرب الى كلام الصوفية منه الى كلام الله عز وجل الا حديث «من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب...»!!.

وقد انفرد به البخاري وفي سنده ما في متنه غرابة! قال الحافظ ابن رجب: هذا الحديث تفرد البخاري بإخراجه دون بقية أصحاب الكتب.

الى أن قال: وهو من غرائب الصحيح، تفرد به ابن كرامة عن خالد ابن مخلد، وليس في مسند أحمد، مع أن خالدا هذا تكلم فيه الإمام أحمد وغيره وقالوا: له مناكير! ثم قال: وقد روى من وجوه أخرى لا تخلو كلها من مقال! وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب اختلاف أئمة الجرح والتعديل في خالد، ومنه تصريح جماعة بروايته للمناكير وفي الميزان للذهبي: يكتب حديث ولا يحتج به! الخ...

قال الشيخ رشيد: وأما الغرابة في متن هذا الحديث فهو قوله تعالى ـ والحديث قدسي ـ ولا يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به.. الخ الذي استدلوا به على الحلول والاتحاد وقد أوله العلماء، وبينت أمثل تأويل له عند الكلام على حب الله تعالى...

والإنصاف يقضي علي بأن أوكد مكانة صحيح البخاري فهو بلا ريب أدق كتب السنة، ومن الإنصاف كذلك توكيد احتواء كتب السنة على آلاف الأحاديث المقبولة، بذل الأسلاف في تدوينها جهودا مضية، ولا تتم الإفادة منها إلا بتعاون الفقهاء، والمحدثين جميعا على ضبط معانيها ومغازيها.

والمأساة التي نعاني منها، ونخشى بلاءها على الصحوة الإسلامية تجئ من قبل قوم يسمون أنفسهم «الأخوة أهل الحديث» نلحظ عليهم عيوبا ثلاثة:

اكتراثهم بالمرويات الواهية، وبناء العلالى فوقها.

ثم سوء فهمهم للصحاح وتعصبهم لما يفهمون من أخطاء.

ثم عجزهم عن إدراك الحكمة القرآنية، ووقوفهم بعيدا عن محاور القرآن وغاياته...

وقد نستطرد في الشكوى فنقول: إن من هؤلاء من يرفع خسيسته بالطعن في الأئمة الكبار، ومن يواري سوأته باللجاجة في تكبير أحكام محدودة أ» تجسيم خلاف تافه...

ولأكن صريحا في توضيح ما أخافه. منذ أيام وقف بين الإسلاميين في الجزائر من يصيح بأعلى صوته:

إن المرأة في الإسلام خلقت لكي تلد الرجال! لا عمل لها إلا هذا..

وهذه الصيحة تنطلق والغزو الثقافي الديني والشيوعي يعد المرأة بالعلم والكرامة واستكمال الشخصية والمشاركة في إصلاح الأرض وغزو الفضاء! قلت للإسلاميين وأنا كاسف البال: قفوا هذا المجون قبل أن ترتد الجزائر وتستولي عليها فرنسا مرة أخرى..

هذا المتحدث المسكين باسم الإسلام لا يعرف إلا حديثا مكذوبا أن المرأة لا ترى رجلا ولا يراها رجل وأنها خلقت ليفترشها فحل وحسب!.

وهذا متحدث إسلامي آخر يرى أن خروج الرسول في «بدر» يدل على جواز أن تكون الحرب في الإسلام هجومية! بل يدل على أن الإسلام قام بالسيف!.

يقع هذا الفهم والمسلمون لا يقدرون على التقاط أنفاسهم من وطأة الهجوم عليهم!! لا يصنعون سنانا ولا يقدمون برهانا.. ولا أمضي في هذه الشكاة فالأمر يطول...

من حق المهتمين بالأحاديث الضعيفة أن يذكروها بعيدا عن دائرة العقائد والأحكام التشريعية.

فإن الدماء والأموال والأعراض أ:بر من أن تتداول فيها شائعات علمية.

وكذلك أصول التربية، وتقاليد المجتمع، والشعائر التي يشخص اليها الرأي العام، وتعد منارات على حقائق الإسلام وأهدافه في الحياة...

يمكن الاكتراث بالأحاديث الضعيفة في قضايا هامشية أو حيث تكون زيادة تنبيه الى ما قررته الأدلة المحترمة فيك تاب الله وسنة رسوله...

وهذا هو منهج علمائنا من قديم، ولكن طوائف من العوام، أو من ذوي الأغراض حادوا عن هذا المنهج فرأينا أشياء تهتاج لها جماهير ما كان السلف الأول يأبه لها!!.

وتم ذلك على حساب حقائق الإسلام الكبرى في مجال العقيدة والشريعة، ومجال الإدارة والاقتصاد والسياسة!.

بل أستطيع القول بأنه تم على حساب الأخلاق والتزكية التي بعث بها صاحب الرسالة العظمى..

ومن الدهماء من يهتم بقضية رفع اليدين قبل الركوع وبعده أكثر مما يهتم بتوفير الخشوع والقنوت بين يدي الله سبحانه وتعالى، وخلاف الفقهاء في هذه القضية معروف..

والبعد الذي لاحظناه عن منهج السلف يرجع الى انتشار الأحاديث الضعيفة، ويرجع قبل ذلك الى انتشار مقولة لم يكن لها رواج بين الفقهاء القدامى، وهي أن حديث الآحاد يفيد اليقين العلمي الذي يفيده المتواتر!!

إن الحديث الصحيح له وزنه، والعمل به في فروع الشريعة له مساغ وقبول، وتركه لأدلة أقوى منه أمر مقرر مأنوس بين فقهائنا، أما الزعم بأنه يفيد اليقين كالأخبار المتواترة فهي مجازفة مرفوضة...

وقد قال لي أحد المتمسكين بأن خبر الواحد يفيد اليقين: إن المدرس ـ وهو رجل واحد ـ يؤتمن على التعليم، وأن السفير ـ وهو رجل واحد ـ يؤتمن على أخبار دولته، وأن الصحافي في الحديث الذي ينقله يؤتمن على ما يذكره... الخ.

قلت: إن العنعنات التي تنقل بها المرويات ليست مثل ما ذكرت من وقائع!.

وإذا فرضنا جدلا أنها مثلها من كل وجه فإن اليقين لا يستفاد من هذه الوقائع، فإن المدرس قد يخطئ فيصحح نفسه أو يصحح له غيره! والسفير ترقبه دولته وقد تراجعه فيما بلغ، وكذلك الأحاديث الصحافية، إن ما يحفها من قرائن النشر والإقرار أو الرد يجعل الثقة بها أقرب.

ونحن مع تحرى عالة الشاهد لا نكتفي بشاهد واحد، وربما طلبنا أربعة شهداء حتى نطمئن الى صدق الخبر.

والشاهدان أو الأربعة ينشئون ظنا راجحا، ولا ينشئون يقينا ثابتا، بيد أن حماية المجتمع لا تتم إلا بهذا الأسلوب، أسلوب قبول الظن الراجح! وهو ما قامت عليه الشرائع والقوانين في دنيا الناس...

وذلك كله غير بناء العقائد في النفوس، وإقامة الأمم عليها، إن العقائد أساسها اليقين الخالص الذي لا يتحمل أثارة من شك..

وعلى أية حال فإن الإسلام تقوم عقائده على المتواتر النقلي والثابت العقلي، ولا عقيدة لدينا تقوم على خبر واحد، أو تخمين فكر..

ثم يجيء دور التشريع في تحديد مسار الأمة العام، ومسالك الأفراد الخاصة، وعندنا في هذا من النصوص ما هو قطعي الثبوت والدلالة، وما هو ظني الثبوت والدلالة، وما هو قطعي الثبوت ظني الدلالة، وما هو ظني الثبوت قطعي الدلالة!.

واستفادة الأحكام من مصادرها لها علم خاص بها ولها رجال ثقات وعلى العامة أن تسمع وتطيع.

وقد رأيت في هذه الأيام من يسمى نفسه أمير جماعة، والجهد الذي يتصبب له عرقا وهو يقوم به، هو إشاعة النقاب بين النساء، أو إشاعة الجلباب بين الرجال، أو تحريم الذهب على النساء والرجال جميعا، أو ترك شعر اللحية ينمو فلا يؤخذ منه شيء حتى لقاء الله!!!.

أهذه غايات تتكون لها جماعات؟ والغريب أن الأحاديث الواهية والخلافات الفرعية لها حظوظ متناقضة أو طوالع سعد ونحس!! فلست تدري لماذا عشت هذه؟ ولماذا ماتت تلك..؟.

في مصر تحتفل العامة بلية النصف من شعبان وليست لهذه الليلة القيمة التي تعطيها هذا الشأن الرفيع، وفي حديث مع أحد الأخوة من علماء الخليج قال: إن للأحاديث الموضوعة والواهية سوقا رائجة عندكم! قلت: للأسف وعندكم كذلك!.

قال: نحن نتحرى الأحاديث التي نصدر وفقها أحكامنا! فضحكت وأنا أرد عليه بإجابة سريعة:

أظن الأحاديث التي وردت في ليلة النصف أقوى من الأحاديث التي وردت في تحريم الغناء!.

أجاب مستنكرا: هذا غير صحيح! إن تحريم الغناء وآلاته ثابت في السنة النبوية...

قلت له: تعال نقرأ سويا ما قاله ابن حزم في ذلك الموضوع، ثم انظر ما تفعل...

قال ابن حزم: «وبيع الشطرنج والمزامير والعيدان والمعازف والطنابير حلال كله ومن كسر شيئا من ذلك ضمنه، إلا أن يكون صورة مصورة ـ تمثالا مجسما ـ فلا ضمان على كاسرها، وتضمين المعتدي على هذه الأشياء واجب، لأنها مال من مال مالكها».

قال: «وكذلك يجوز بيع المغنيات ـ من الجواري ـ وابتياعهن! وأساس الجواز في كل ما ذكرنا قوله تعالى: «خلق لكم ما في الأرض جميعا»(44) وقوله: «وأحل الله البيع»(45)، وقوله: «وقد فصل لكم ما حرم عليكم»(46) ـ يعني أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأنه لا تحريم إلا بنص، وقد فصل الله ما حرم في كتابه وعلى لسان نبيه، ولم يأت نص بتحريم شيء مما ذكره من البيوع السابقة» ثم ذكر ابن حزم أن أبا حنيفة يوجب الضمان على من كسر شيئا من آلات اللهو التي سماها آنفا!

قال: «واحتج المانعون بآثار لا تصح، أو يصح بعضها ولا حجة لهم فيها.. منها عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إن الله حرم المغنية وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها» قال ابن حزم وهو يناقش سند هذا الحديث: «فيه من الرواة» ليث وهو ضعيف، وسعيد بن أبي رزين، وهو مجهول لا يدري من هو؟ عن أخيه؟ وما أدراك ما عن أخيه! هو ما يعرف وقد سمي فكيف أخوه الذي لم يسم؟.

وعن علي بن أبي طالب قال رسول الله: إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء...

منهن «واتخذوا القينات والمعازف، فليتوقعوا عند ذلك ريحا حمراء ومسخا وخسفا».

قال ابن حزم في رواة هذا الحديث: لاحق بن الحسين وضرار بن علي والمحمصي مجهولون. وفرج ابن فضالة متروك...

وعن معاوية قال: «نهى رسول الله عن تسع، وأنا أنهاكم عنهن الآن، فذكر فيهن الغناء والنوح» قال ابن حزم: في رواته محمد بن المهاجر ضعيف، وكيسان مجهول!.

وروى أبو داود بسنده عن شيخ(!) عن ابن مسعود يقول: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «إن الغناء ينبت النفاق في القلب»!.

يقول ابن حزم: الرواية عن شيخ عجب جدا! من هذا الشيخ؟.

وعن أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يضرب على رؤوسهم بالمعازف، والقينات يخسف الله بهم الأرض».

قال ابن حزم وهو يناقش السند: معاوية بن صالح ضعيف، وليس فيه أن الوعيد المذكور إنما هو على المعازف، كما أنه ليس على اتخاذ القينات، والظاهر أنه على استحلالهم الخمر، والديانة لا تؤخذ بالظن.

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: «من جلس الى قينة فسمع منها صب الله في أذنيه الآنك يوم القيامة» والآنك هو الرصاص المذاب.

قال ابن حزم: هذا حديث موضوع فضيحة، ما عرف قط عن طريق أنس!!.

وعن مكحول عن عائشة قالت: قال رسول الله: «من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه»..

قال ابن حزم: مكحول لم يلق عائشة، وهاشم وعمر الراويان مجاهيل!

وهناك حيث لا ندري له طريقا وهو «نهي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن صوتين ملعونين صوت نائحة وصوت مغنية» وسنده لا شيء!.

وعن أبي أمامة سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن، وثمنهن حرام». وقد نزل تصديق ذلك في كتاب الله وهو «ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا»(47)، والذي نفسي بيده ما رفع رجل قط عقيرته بغناء إلا ارتدفه شيطانان يضربان على صدره وظهره حتى يسكت» وقد نظر ابن حزم في الرواة فوجدهم بين ضعيف ومتروك ومجهول..

ولعل أهم ما ورد في هذا الباب ما رواه البخاري معلقا عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «ليكونن من أمتي قوم يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف».

ومعلقات البخاري يؤخذ بها، لأنها في الغالب متصلة الأسانيد، لكن ابن حزم يقول: إن السند هنا منقطع، لم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد راوي الحديث...

نقول: ولعل البخاري يقصد أجزاء الصورة كلها، أعني جملة الحفل الذي يضم الخمر والغناء والفسوق، وهذا محرم بإجماع المسلمين..

قال ابن حزم عن تحريم الغناء: «لا يصح في هذا الباب شيء أبدا، وكل ما ورد فيه موضوع، والله لو أسند جميعه أو واحد منه عن طريق الثقات الى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما ترددنا في الأخذ به.

ثم نظر ابن حزم في الآية الكريمة: «ومن الناس من يشتري لهوا لحديث ليضل عن سبيل الله..»

فنفى أن تكون في الغناء وقال: إنه نصفها يشرح المراد منها، فإن من يريد الإضلال عن سبيل الله واتخاذها هزوا كافر بإجماع المسلمين.

قال: ولو أن امرءا اشترى مصحفا ليضل عن سبيل الله لكان كافرا..!

إن الله ما ذم قط من روح عن نفسه بشيء من اللهو ليعينه على الكثير من الجد، وإنما الأعمال بالبينات ولا حرج على مسلم أن ينظر في بستان متنزها، أو يتنقل هنا وهناك متفرجا ليريح طبعه المكدود..

والحق أن الغناء كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح! هناك أغان آثمة، تلقى في ليال ظالمة مظلمة وإن كثرت فيها الأضواء، لا تسمع فيها إلا صراخ الغرائز أو فحيح الرغبات الحرام..

وهناك أغان سليمة الأداء شريفة المعنى قد تكون عاطفية وقد تكون دينية وقد تكون عسكرية تتجاوب النفوس معها، وتمضي مع ألحانها الى أهداف عالية...

كنت مع رفقة طيبة نتغدى في فندق محافظ بحي «الهرم» ووصل الى أسماعنا صوت جذب انتباهي، وألقيت إليه زمامي، كأنه صوت ناصح حزين يقاوم المجون والاسترخاء..

وأخذت أتبين الألفاظ التي تصدر من مسجل موضوع بإحدى الزوايا، فإذا هي للبوصيري أو بتعبير أدق تشطير لأبيات من البردة، كان البوصيري والشاعر الآخر يدوران فيها حول البيت المشهور في وصف الرسول الكريم:

كأنه ـ وهو فرد ـ من جلالته

في عسكر حين تلقاه وهو حشم!

لم تكن هناك ألحان مصاحبة تثير المشاعر، كان صوت المبتهل الشادي مزيحا من إيمان وحب جعلاني أطوي العصور القهقهري، وأمثل في حضرة صاحب الرسالة، وهو في مجلسه الروحي يوجه ويربي، ويخلق الجيل الذي سينشئ حضارة أرقى وأتقى، ويلقي بذور الإنسانية الجديدة التي ستنقذ العالم من جبروت الرومان والفرس...

كان فردا يجلس كما يجلس العبد ويأكل كما يأكل العبد ولكن الأشعة المنبثقة من أركانه تجعل الأبصار تنحسر عنه، وتعجل الأباطرة والقياصرة يجثون عند قدميه..!

إن الغناء الرقيق المتواضع الذي سمعته لا يزال يؤثر في نفسي كلما استحضرت جرسه، بعد ما صار ذكرى..

قال الإمام الشاطبي في الجزء الأول من كتابه «الاعتصام»: إن قوما أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن لنا إماما إذا فرغ من صلاته تغنى!!.

فقال عمر: من هو؟ فذكروا له الرجل، فقال: قوموا بنا إليه، فإنا إن وجهنا إليه ـ من يحضره ـ يظننا تجسسنا عليه أمره.

وقام عمر مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أتوا الرجل وهو في المسجد، فلما نظر الى عمر قام إليه واستقبله قائلا: يا أمير المؤمنين ما حاجتك؟ وما جاء بك؟.

إذا كانت الحاجة لنا كنا أحق بذلك منك أن نأتيك، وإن كانت الحاجة لك فأحق من عظمناه خليفة رسول الله!. فقال له عمر ويحك بلغني عنك أمر ساءني! فقال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: أتتمجن في عبادتك ـ من المجانة والاتضاع ـ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، لكنها عظة أعظ بها نفسي!.

قال عمر: قلها، فإن كانت كلاما حسنا، قلته معك، وإن كان قبيحا نهيتك عنه... فأنشد الرجل هذه الأبيات:

وفؤاد كلما عاتبته

في مدى الهجران يبغي تعبي!

لا أراه الدهر إلا لاهيا

في تماديه، فقد برح بي

يا قرين السوء ما هذا الصبا؟

فنى العمر كذا في اللعب!

وشبابي بان عني فمضى

قبل أن أقضي مني أربي

ما أرجى بعده إلا الفنا

ضيق الشيب علي مطلبي

ويح نفسي لا أراها أبدا

في جميل، لا ولا في أدب

نفسي لا كنت ولا كان الهوى!

راقبي المولى، وخافي، وارهبي!

فقال عمر رضي الله عنه مرددا البيت الأخير:

نفسي لا كنت، ولا كان الهوى!

راقبي المولى وخافي، وارهبي!

ثم قال عمر: على هذا فليغن من غنى...!.

أول: ولنا في أمير المؤمنين أسوة حسن! كل إنشاد يبعث على السمو والجد والاستقامة فهو غناء حسن، وما أحسب أحد يرى نفسه أتقى لله من عمر! أو يتنزه مما أقره ودعا إليه.

وعندما أسمع قول شوقي:

ويا رب هل تغني عن العبد حجة؟

وفي العمر ما فيه من الهفوات!

أتذكر فضل الله في جعل الحج توبة كاملة! لكن صوت المغنية الضارعة يحرك أشجان الأخطاء القديمة، كما يحرك الآمال في عفو اله، وهذا كله لون من العبودية المطلوبة لله سبحانه.

وكما ينشد المرء الخلاص من ماض مرهق.. ينطلق الشعر والغناء الى استنقاذ الأمة الإسلامية من حاضر مؤسف، مع مناجاة صادقة لرسول عليه الصلاة والسلام..

شعوبك في شرق البلاد وغربها

كأصحاب كهف في عميق سبات!

بأيمانهم نوران ذكر وسنة!!

فما بالهم في حالك الظلمات؟

يقول الدكتور عبادة: إن أبا حامد الغزالي ـ اقتداء بالشافعي ـ يرى أن الشعر كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح، وأن سماع الغناء منه ما هو مباح ومنه ما هو مستحب، وما هو واجب وما هو مكروه، وما هو حرام!! ثم يصنف الغناء الى سبعة أقسام:

1 ـ إلهاب الشوق الى زيارة الأماكن المقدسة، وابتعاث المسلمين في الأقطار البعيدة كي يشدوا الرحال الى الحرمين وذلك يبدو في قصيدة شوقي:

إلى عرفات الله يا خير زائر

عليك سلام الله في عرفات!

2 ـ إثارة الحمية للقتال، والدفاع عن العقائد والأوطان. وأغلب الشعوب تضع لبنيها نشيدا قوميا يتغنون به جماعات..

وخير نموذج لهذا النوع من الغناء ما جمعه أبو تمام في ديوان الحماسة!

وليت أمتنا تحسن الغناء بمعاني القوة المنبثة في قصائده..

3 ـ وصف المعارك والمبارزات وثبات الرجال في الساعات الحرجة..

4 ـ الرثاء المحرك للأحزان النبيلة! والذي يعيد للنفس الفهم الصحيح لطبيعة الحياة الدنيا، وهذا الرثاء قد يكون بكاء سلبيا متفجعا مثل قول متمم ابن نويرة يرثى أخاه مالكا:

يقول: أتبكي كل قبر رأيته؟

لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك

فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا!

فدعني، فهذا كله قبر مالك!

وقد يكون رثاء مفعما بتمجيد الفضائل والالتفاف حولها وذلك كقول دريد ابن الصمة:

تقول: ألا تبكى أخاك؟ وقد أرى

مكان البكا لكن بنيت على الصبر!

فقلت: أعبد الله أبكي أم الذي

له الحدث الأعلى قتيل بني بكر؟

أبى القتل إلا آل صمّة إنهم

أبوا غيره والقدر يجري الى القدر!

5 ـ وصف ساعات الرضا والسرور، احتفاء بها واستبقاء لآثارها.

6 ـ الغزل الشريف، وشرح عواطف المحبين وارتقاب جميع الشمل.

وربما كان للأمم والأفراد في هذا الميدان هبوط وهزل، لكن هناك مشاعر جديرة بكل إعزاز مثل:

حننت الى «ريا» ونفسك باعدت

مزارك من ريا وشعباكما معا

فما حسن أن تأتي الأمر طائعا

وتجزع أن داعى الصبابة أسمعا

قفا ودا نجدا ومن حل بالحمى

وقل لنجد عندنا أن يودعا

بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا

وما أحسن المصطاف والمتربعا!

وليست عشيات الحمى برواجع

إليك، ولكن خل عينيك تدمعا

بكت عيني اليسرى فلم زجرتها

عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

وأذكر ايام الحمى ثم أنثني

على كبدي من خشية أن تصدعا

كأنا خلقنا للنوى وكأنما

حرام على الأيام أن نتجمعا

7 ـ وصف الأمجاد الإلهية، ما يليق بذي الجلال والإكرام من تحميد وإعظام.

وارتفاع المغنين الى مستوى المعاني التي يترنمون بها أمر صعب! ونجاح الأغنية يعود بعد شرف المعنى الى حسن الأداء وجودة اللحن، وتجميع الأنغام التي تخدم في النفس البشرية ما يحقق الاستشارة المنشودة!

وقد استمعت الى بيت شوقي:

وللحرية الحمراء باب

بكل يد مضرجة يدق!

وشعرت بأن المغني فشل فشلا ذريعا في تلحينه، كان ينبغي أن يتعاون النغم والأداء على إبراز صوت المطارق التي تهوى على الأبواب الموصدة، وجؤار المجاهدين وهم يهاجمون السجون التي قبعت داخلها الجماهير المستعبدة، وعزائم الشهداء وهم يجودون بأنفسهم فداء للحق، وأنين الجرحى، وعناد المكابرين... إن حشودا من الأصوات المزمجرة، والجيوش الملتحمة كان يجب أن تبرز خلال تلحين القصيد وعند غناء هذا البيت ذاته.. لكن الملحن المغني ليس رجل هذه الملحمة...!

والواقع ان البيئة الفنية ـ كما تترامى إلينا أنباؤها ـ تعيش في أرض الغرائز وتحسن الطبل والزمر وهي تحدو العواطف الرخيصة، وما احسبها تنهض الى هدف عال.

أذلك سر تحريم بعض الوعاظ للغناء؟ ربما، إنه ليس لدين نص يحظره! وإن أولى الغيرة ينظرون الى سيرة المشتغلين بالغناء والموسيقى ثم يرفضون هذا النمط من السلوك، ويستنكرون ما يلابسه وما يصاحبه من آلات، وجو عابث..

لكن الإنصاف يفرض علنيا غير ذلك.

من حملة الأقلام من عاش ذيلا لحكام الجور، يتلون كالحرباء في خدمتهم، ويصبح ويمسي وهو يخادع الجماهير عن حقوقها وحرياتها. فهل هذا البغاء الصحفي يجعل الصحافة باطلا؟ كلا!.

ومن رجال الدين نفسه من يحيا بلا دين! بل ربما كان عائقا عن الدين كما قال جل وعلا في وصف بعض الكهان: «إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله..»(48).

فهل ذلك يعني ن الدين باطل؟ كلا!.

وهناك فنانون لا يساوون قلامة ظفر! وهناك أيضا من صليت معهم في جماعات عامة ومن رأيتهم في قوافل الحجاج والعمار يؤدون المناسك بأدب وتقوى!.

وأكر أني عندما كنت مدرسا بمكة المكرمة، جلست سأمان في بيتي يوما أعاني من بعض المتاعب فقلت: أتسلى عن همومي بشيء، وفتحت الراديو وسرني أن كانت به أغنية أحبها.

وما كدت أمضي مع الأبيات والألحان حتى طرق الباب طالب أشرف على رسالته!.

وخيل ألي أني استطيع السماع مع وجوده ولكنه أقسم علي أن أغلق الراديو!.

ورأيت إكراما له أن ألبي رغبته، وأكملت وحدي بعض كلمات الأغنية:

أين مما يدعي ظلاما يا رفيق الليل أينا؟

إن نور الله في قلبي! وهذا ما أراه!

وصاح الطالب: ما هذا؟ قلت له: كل يغني في الأنام بليلاه، إنني أعني شيئا آخر.!

قال: أما تعلم أن الغناء حرام كله؟ قلت له: ما أعلم هذا…!

ثم أقبلت عليه بجد أقول له: إن الإسلام ليس دينا إقليميا لكم وحدكم، إن لكم فقها بدويا ضيق النطاق! وعندما تضعونه مع الإسلام في كفة واحدة، وتقولون: هذه الصفقة لا ينفصل أحدها عن الآخر، فستطيش كفة الإسلام وينصرف الناس عنه.

وهذا ظلم كبير لرسالات الله وهداياته!!.

قال: كيف؟ قلت له: تستطيعون إعلان حرب شعواء على الغناء الوضيع، وستجدون من يؤيدكم من أهل الأرض! أما الزعم بأن الإسلام حرب على الفن كله خيره وشره فلا!.

إن أهل القارات لهم غناء يجتمعون عليه، فميزوا الخبيث من الطيب ثم دعوا لهم ما يستحبون.

وكتبت الأستاذة المهدية «مريم جميلة»(49) فصلا عن الإسلام والفنون في كتابها «الإسلام في النظرية والتطبيق» وذكرت أن الأوروبيين يحترمون احتراما بالغا «بتهوفن» و«باخ» في الموسيقى و«فردي» و«واجنر» في الأوبرا و«شكسبير» في المسرح.. الخ. ويلقبونهم بالسادة العظام، ويعتبرون تكريس الحياة لأي فرع من هذه الفنون الجميلة من أشرف المقاصد وأكثرها جدا!!.

قالت: وإذ عرفت موهبة شخص ما بالتفوق افني ـ وغالبا ما يقع ذلك بعد سنوات من رحيله ـ حسب في زمرة العظماء الخالدين! ويحقق الروائيون التقليدين خلودهم الفني عندما تطبع كتبهم مرات ومرت وتمتدح على أنها أعمال أدبية عظيمة يلزم كل طالب في المدارس أن يدرسها.

ويخلد مؤلفو الموسيقى السمفونية، والأوبرا باداء إنتاجهم مرارا وتكرارا في قاعات الاحتفالات العظمى في المدن الكبرى كما يكرم أعظم المغنين والعازفين بتسجيل أعمالهم على الأشرطة والاسطوانات.

قلت لنفسي: ما المنهاج الإسلامي الذي أقدمه لهذه الأوساط؟ هل أطلب إليهم الغاء الفنون الجميلة جملة وتفصيلا؟.

علام أعتمد في هذا الطلب؟ على جملة من الأحاديث الواهية والموضوعة لا وزن لها في مجال التمحيص العلمي؟.

إنني عندما أفعل ذلك أكون كأبي العلاء المعري الذي قال لكل إنسان:

غدوت مريض الدين والعقل والحجى

لتعرف أنباء الأمور الصحائح؟

فلما التقى الناس به واستمعوا إليه رأوه نباتيا يعرض الأمور الصحيحة عنده على أنها ترك أكل اللحم!.

إنني أطلب من الأوربيين وغيرهم ترك التجسيد والتعديد لإصلاح عقائدهم فهل أضع عائقا أمام هذا الإصلاح الخطير بدعوتهم الى ترك الغناء والموسيقى؟ فما يكون موقفي من قوله تعالى في كتابه المصون «قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون. وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون»(50).

أستطيع أن أحرم نحت التماثيل، أستطيع أن أحرم كل صورة عارية، أستطيع أن أحرم الرقص مفردا ومزدوجا، إن هذه فنون رديئة وليست فنونا جميلة...

أستطيع أن أبرز الضوابط الإسلامية لسلوك الأفراد مهما كانوا عباقرة، فالعبقري في أي علم أو فن يجب أن يستشعر نعماء الله عنده، وأن يكون أتقى لله وأحفظ لحدوده، وأرعى لحقوقه من الآخرين..

والمصادر الوثيقة لتحدي ما نفعل وما نترك وما نأمر وما ننهى، هي كتاب الله وسنة رسوله، لا الشائعات الطائرة في ميدان العلم الديني!.

قرأت السطور التالية(51) عن تعلق الأوروبيين بالفنون الجميلة ثم ضربت كفا بكف من شدة العجب للضلال المبين الذي استولى على أفئدة هؤلاء الذاهلين، وهاكم ما كتب نقلا عن كتاب «الثقافة الإسلامية» للأستاذ محمد مرمادوك بكثال قال: «لا شك أن بعضكم يذكر البحث الذي أوردته الصحف البريطانية من سنوات، كان السؤال: لنفرض أن تمثالا يونانية شهيرا جميلا فريدا في نوعته، وهو من أجل ذلك لا يعوض، كان في غرفة واحدة مع طفل حي، ثم اندلعت النيران في الغرفة، ولم يكن في الإمكان إلا إنقاذ واحد من الإثنين إما التمثال وإما الطفل(!) فأيهما يجب إنقاذه؟.

إن كثرة عظمى من الذين أجابوا على هذا السؤال في رسائلهم الى الصحيفة من الرجال ذوي الثقافة والمكانة المرموقة قالوا ـ حسب ما أذكر ـ أنه يجب إنقاذ التمثال وترك الطفل يهلك(!).

وكانت حجتهم في ذلك: أن ملايين الأطفال يولدون يوميا على حين أن هذا التمثال لا يمكن تعويضه، فإنه عمل فني عظيم من تراث اليونان».

أرأيت كفرا أقبح من هذا الكفر؟ وإهانة للإنسانية أبشع من هذه الإهانة؟.

حجر يستنقذ وطفل رقيق وديع يترك حطبا للنار؟.

المثير في هذه القضية أن مصورا يرسم على الورق منظر الشروق أو الغروب بمهارة تحاكي الأصل أو تومئ إليه يعد فنانا جديرا بالإشادة والتقدير! أما صاحب الأصل نفسه، أما فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا، فهو ينسى أو يجحد، ولا توجه اليه عبارة ثناء!!.

عندما يجيء فنان حجر فيطبع عليه صورة إنسان، يكون رجلا عظيما..

وتبلغ عظمته القمة عندما يقترب في نحته من قسمات الإنسان الأصيل وتعابير وجهه..

أما خالق الإنسان نفسه ومبدع الحياة في خلاياه ومجرى الدم في العروق، وبارئ الحس في الأعصاب، ومودع الذكاء في المخ، ومطلق هذا البشر العجيب ليملأ الدنيا حراكا وإنتاجا. هذا الخالق الماجد لا تذكره الحضارات الضالة بكلمة تقدير وإعزاز.

إن الوثنيات اليونانية والرومانية انتقلت الى الحضارة الأوروبية، وليست النصرانية إلا قشرة مزورة ملصقة على وجه كفور يرفضها وينأى عنها.

أما الحضارة الإسلامية فشأو آخر، إنها ترمق عظمة اله قبل كل شيء، وانظر الى أبي حامد الغزالي يتحدث عن الجمال وفنونه فيقول(52):

إن الفن محاكاة للجمال الذي أبدعه الله في آفاق العالم، أو هو تشبيه للصنعة بالخلقة وما من شيء بلغه أهل الصناعات بجهدهم إلا وله مثال في الخلقة التي اخترعها الصانع الأعلى! فمنه تعلم الصانعون، وبه اقتدوا!.

ويقول: كل جمال في العالم تدركه العقول والأبصار والأسماع وسائر الحواس من مبتدئ العالم الى منقرضه ومن ذروة الثريا الى سفوح الثرى، فهو ذرة من خزائن قدرته سبحانه.

وأنقل هنا سؤالا وجوابا يتصلان بموضوع البحث، حتى لا تبقى هنالك أثارة من شك أو شبهة...

– من موقف الإسلام من مظاهر الحضارة الحديثة، السينما والمسرح والموسيقى والفنون جميعها، كالرسم والنحت والتصوير؟.

الحضارة الحديثة نتاج تقدم علمي باهر، وصل إليه الإنسان بعد قرون من ابحث المضني والتجارب الغالية! ولم يكن عجبا أن يستغل الإنسان كشوفه لاسرار الكون وقواه الخفية في ترقية نفسه وترقية معايشه، بل إن لك أقرب الى الحكمة من استغلال هذه الكشوف في تدمير الحضارة نفسها وتيسير الانتحار الجماعي على الناس!.

وأحسب أن التقدم الصناعي العام وفر للجماهير متعا ما كان يحصل عليها الملوك الأقدمون! الاطعمة أنعم، والاشربة صنوف، والملابس تفضل الحرير نسجا ولونا ورقة، وأدوات النقل أغنت عن الخيل والبغال والحمير، والقيان التي كانت تغنى في مقاصير الامراء انتقل صوتها الى الأكواخ، ونام على لحنها العمال والفلاحون، والمرء في المشرق يكلم صاحبه في المغرب بثمن ميسور، وربما بلغ الناس من الرفاهة درجة أعلى، وملكوا غدا أنصبة أكثر..!.

ومع هذا كله فالأعصاب مشدودة، والاطماع طاغية، والبكاء على القليل المنشود يفسد السعادة بالكثير الموجود، وتحاسد الأفراد والاقطار أشعل البغضاء هنا وهناك!

وقيل في وصف العالم: أن عضلاته أكبر من فكره، ولو أنصفوا لقالوا: إنه عالم يذكر نفسه، وينسى ربه، ويجحد حقه، ويمارى في لقائه، ويظن أن هذه الدنيا كل شيء، فلا امتداد لوجود آخر، ولا حياة إلا هنا...!!.

وأنا رجل مسلم أحب الحياة وأبتهج بطيباتها! إن الله استضافني في كونه وأطعمني خيره فمن السفاهة أن أرفض الكرم المبذول، ومن السفاهة كذلك أن أضن بشكر المنعم!.

إن الله تبارك اسمه يعطي الفضل ولا يطلب إلا الاعتراف بالجميل، فهل هذا ثمن فادح؟؟.

يبدو أن ناسا كثيرين يعز عليهم دفع هذا الثمن «وقليل من عبادي الشكور»(**).

عى ذلك الأساس أنظر الى ما قدمته الحضارات قديمها وحديثها! إنه ـ كما علمني الإسلام ـ لي وليس لغيري، أليس يقول الله: «هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا»(***)؟.

ومن ثم فالأصل في الأشياء الاباحة، ولا تحريم إلا بنص قاطع، والواقع أن نفرا من سوداويي المزاج أولعوا بالتحريم ومنهجهم في الحكم على الأشياء يخالف منهج نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والأديرة رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم».

وقد أشاعت المدين الحديثة «الراديو والتلفزيون» وغيرهما من الأجهزة الناقلة للثقافة والملاهي على سواء، ومعروف أن هذه الأجهزة أدوات غير مسئولة عما يصدر عنها، وإن المسئولية تقع على المؤلفين والمغنين والمخرجين، ففي استطاعتهم أن يقدموا النافع ويحجبوا الضار..!.

لقد كان من المستطاع أن نتوسل بهذه الأجهزة لاشاعة اللغة السليمة وتذوق الآداب الرفيعة وحماية الأخلاق ودعم التقاليد الفاضلة، بل كان من الممكن أن ندرب الألوف على اتقان حرف نحن محتاجون إليها، وأن نرفع مستوى الأداء لاشغال كثيرة، فإن البطالة السافرة والمقنعة تفتك لدينا بأعمار الناس.

كان من الممكن أن نحارب عادات ضارة موروثة أو مستوردة انتشرت بيننا ووقفت مسيرتنا، إن وسائل الاعلام لو أحسنا استغلالها تصنع الكثير، ولكن ذلك لا تستطيعه إلا أمة تحس أن لها رسالة في الحياة، أما الأمة الذنب فقد سقط عنها التكليف لأن غيرها يشدها.

قد يفهم من ذلك أني أحارب الغناء والموسيقى والترويح عن النفس.. لا، ولكني ألحظ أن الأمة العربية والإسلامية تريد أن تعمل قليلا وتغني كيرا، والاستجمام حق المرهقين لا حق القاعدين!.

أما الغناء فكلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح، ومن غنى أو استمع الى غناء شريف المعنى طيب اللحن فلا حرج عليه! وما نحارب إلا غناء هابط المعنى واللحن...

لم يرد حديث صحيح في تحريم الغناء على الاطلاق، وقد احتج البعض بقوله تعالى «ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا، أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها..»(****).

ولعمري أن من يشتري جد الحديث او لهوه للأسباب المذكورة في الآية جدير بسوء العقاب، أما من يريح أعصابه المكدودة بصوت حسن ولحن جميل فلا علاقة للآية به، وكما يقول ابن حزم: لو اشترى مصحفا للاضلال فهو مجرم...

ويبدو أن اقتران الغناء ببعض المحرمات من خمر وفحش. وما يشاع عن البيئة الفنية من تحل، هو الذي جعل عددا من العلماء يحرمه، والى هذه الجملة من الرذائل يشير حديث البخاري الى من يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف..

بيد أنه ليس من الضروري أن تجتمع هذه العناصر كلها عند سماع أغنية.. وعلى أية حال فإذا كان الغناء مقرونا بتلك المحرمات فهو مرفوض، أما إذا برئ منها فلا شيء فيه.

والموسيقى كالغناء وقد رأيت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم مدح صوت أبي موسى الأشعري ـ وكان حلوا وقد سمع يتغنى بالقرآن ـ فقال له: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود! ولو كان المزمار آلة رديئة ما قال له ذلك.

وقد سمع رسول الله صوت الدف والمزمار دون تحرج، ولا أدري من أين حرم البعض الموسيقى، ونفر من سماعها؟.

على أن الألحان تختلف في تأثيرها وصداها النفسي، فإذا كان هناك مجال لاعتراض فعلى الأصوات الخنثة والألحان الطرية المائعة..

ونعود الى ما بدأنا به موضوعنا وهو أن أمتنا بحاجة الى الكثير من الجد والقليل من اللهو، ولو رزقنا بفنانين ذوي شرف ومقدرة لأمكن تحويل الفنون الى عوامل للبناء لا للهدم، ولإثارة المشاعر النبيلة لا اهاجة الغرائز الدنيا..

أما الصور فيجب أن نرق بين نوعين: المجسم الذي يصنعه المثالون الآن لأغراض شتى! والرسوم التي توضع على المسطحات من أوراق وأقمشة وغير ذلك.

والتصوير سواء كان شمسيا أو قلميا هو جزء من الطب والأمن والعلوم الكونية والحيوية والتاريخ والشئون الاجتماعية الكثيرة، والأصل فيه الإباحة لحديث مسلم «إلا رقما في ثوب» والحديث رزين سئل ابن عباس عن أجرة كتابة المصحف، فقال: «لا بأس إنما هم مصورون، وأنهم إنما يأكلون من عمل أيديهم».

ولم يقل أحد أن صورة الوجه في المرآة محرمة، ولا يقول أحد أن أثباتها بطريقة أو بأخرى تحول المباح الى محرم..

ولا يحرم من هذا النوع إلا ما حمل طابعا دينيا لعقائد يرفضها الإسلام كصور بوذا، أو ابراهما، أو صلبان النصارى، أو أي شعار ديني يخالف التوحيد..

كما يحرم أي تصوير يخل بالآداب، ويحرك الغرائز الى المعصية..

أما التماثيل المجسمة إن النصوص الواردة تتظاهر على رفضها ما لم تكن ألاعيب للصبية أو عرائس هزلية كحلوى المناسبات المختلفة، فإن أحدا لا يفكر في توقيرها أو عبادتها..

لقد رأيت بعيني من يعبدون هذه الأصنام في جنوب آسيا، ورأيت في مصر من يحيي بخشوع تمثالا لعبد الناصر!! وذلك أثناء نقله من مكان الى مكان..!!.

وأعرف ان هناك من رجال الفتوى من يحرم التصوير كله سواء كان مجسما أو كان رسما على ورق، وأخشى أن يكون سوق النصوص مقطوعة عن ملابساتها سببا في ضياع الدين والدنيا معا!.

الدين بين العادات والعبادات - آداب الطعام

  • ـ آداب الطعام
  • ـ آداب الملبس
  • ـ آداب المساكن

آداب الطعام

هناك عادات ألفها الناس ويستغربون الخروج عليها. وهناك عبادات كلفوا بها ويرون التزامها دينا! والعادات من صنع الناس، أما العبادات فمن عند الله سبحانه...

وقد قرأت لعالم هندي آداب الإسلام في الطعام، فوجدت الرجل خلط بين العادات والعبادات، وحاب عادات غربية بعادات عربية، وهي حرب لا صلة لها بالإسلام.

قال: «يجب أن يوضع الطعام على الأرض لا على الطاولة» وقال: «يجب على الآكل أن يجلس متربعا أ» على ساق أو جاثما على الساقين ولا يتناول الطعام أبدا مستندا الى كرسي.

ويجب أن تسبق النية الطعام ـ أي أن يقصد بالأكل القوة على طاعة الله ـ لا إشباع الشهوة، ويجب أن تشترك الأيدي الكثيرة في الإناء الواحد، ويجب أن يذكر اسم الله قبل أن يأكل...»!!.

وأكثر ما قاله الرجل بعيد عن الصواب! فالأكثر جائز على الأرض وعلى المنضدة، ويجوز الجلوس على الكرسي في أثناء الأكل، وينبغي أن يرضى ربه بالطعام في الوقت الذي يشبع فيه نهمته منه! وله أن يأكل وحده في إنائه. أو يأكل مع آخرين!.

والواجب حقا أن يسمي الله قبل الأكل فقد صح قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «سم اله. وكل بيمينك، وكل مما يليك»!.

وقد وردت أحاديث شتى في آداب الأكل بعضها صحيح، وبعضها مرفوض، وبعضها من عادات العرب.

فالقول بأن أستعمال السكين في الأكل حرام لا أصل له. وقد روى أبو داود حديثا عن عائشة جاء فيه «لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنع الأعاجم وانهشوه نهشا فإنه أهنأ وأمرأ»!.

وهذا حديث باطل فقد ثبت في الصحاح أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يستخدم السكين في تقطع اللحم وهو يأكل، وسند الحديث المروي عن أبي داود مرفوض...

ولم يجيء أمر بالأكل على الأرض. أو نهي عن الأكل فوق طاولة، وما سكت الشارع عنه فهو في دائرة العفو، ولا مكان لوجوب أو حرمة!.

وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخشوشنا في حياته لا مترفا، ومع ذلك لم يحرم حلالا، ولم يضيق واسعا. عن أبي حازم سألت سهل بن سعد: هل أكل النبي النقي ـ الخبز الخالص من القشور ـ؟ فقال ما رأى النبي النقي منذ ابتعثه الله تعالى حتى قبضه!.

فقلت: هل كانت لكم مناخل؟ فقال ما رأى النبي منخلا من حين ابتعثه الله حتى قبضه! قلت: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول قال: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار ـ من قشر ـ وما بقي ثريناه فأكلناه»

تلك كانت حياتهم! وعليها اعتادوا، ثم تأنق الناس في صنع الخبز النقي دون حرج.

قال تعالى: «يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا...»(53).

وقال: «يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله...»(54).

وروي أبو داود عن وحشي بن حرب أن الصحابة قالوا يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع! قال: فلعلكم تفترقون؟ قالوا: نعم. قال: فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه!».

ونحن نرى في هذا الحديث بواعث الجود واستضافة الفقراء ومحاربة الأزمات، فلا يجوز ترك المحرومين يتضورون جوعا!.

ولا يجوز أن يفهم من الحديث تحريم الأكل في غير طبق واحد! كيف والله سبحانه يقول: «ليس علكيم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا...»(55) ولو وضع لكل فقير طعام في صحفة ما كان هناك من حرج.

ومن أركان النظافة أن يأكل المرء بيمينه، فإن الإسلام جعل اليد اليسرى لإزالة القذى. وهذه قسمة لابد منها، وليس من الشرف أن يضع إنسان يده على فرجه ثم يدسها بعد ذلك في فمه!!.

ولأي إنسان أن يأكل بيمناه مباشرة أو يأكل بملعقة، ففي الأمر سعة! وكان العرب يأكلون بأيديهم. وتلك عاداتهم. ولا غرابة إذا كان الآكل بيده يعلق أصابعه.. ولكن جعل هذه العادة دينا مما لا أصل له، ومن الدين ألا يترك المسلم في صحفته طعاما كثيرا أو قليلا ليرمى بعد في القمامة فهذا مسلك ذميم..

والغريب أن الأوروبيين يتركون صحونهم أقرب ما تكون الى النظافة. أما العرب فيدعون في صحونهم ما يزحم أواني القمامة وما يقر عين الشيطان بالإسراف.

وفي هذه الأيام تذهب وفود من المسلمين الى أ»روبا وأمريكا، ويمكن أن يتميزوا عن غيرهم في آداب الأكل، بترك المحرمات وتسمية الله مثلا!.

أما الجلوس على الأرض حتما، والامتناع عن استعمال الملاعق، والحرص على لعق الاصابع.. الخ. فهذا تنطع أضر بالإسلام ورسالته، وأطلق ضد المسلمين شائعات رديئة!.

فهل أمست الدعوة الى التوحيد دعوة الى نمط من سلوك العرب الأوائل حتى في أيام جاهليتهم؟ إن هذا السلوك البدائي صد عن سبيل الله....

الدين بين العادات والعبادات - آداب الملبس

ولنترك الطعام الى الملابس.

قرأت للعالم الهندي السابق ذكره حديثا عن البيهقي. «عليكم بالعمائم فإنها سيماء الملائكة وأرخوها خلف ظهوركم»!.

وقرأت عدة أحاديث في فضل العمائم رواها الترمذي وأبو داود، وهي جميعها لا قيمة لها. كما قال الشيخ محمد حامد الفقي: «ليس في فضل العمامة حديث يصح».

والعمائم لباس عرب، ولي شارة إسلامية، وكذلك العقال، والواقع أن البيئة الحارة تفرض تغطية الرأس والقفا، ويستحب فيها البياض والسعة. أما البيئات الباردة فطلب الدفء يدفع الى تضييق الملابس واختيار الألوان الداكنة. وقد جاء في الحديث الصحيح: «كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة».

ونحن نلحظ أن الإسراف والخيلاء، من وراء عادات عربية وغربية كثيرة، وأصحاب الخلق والجد يترفعون عن المبالغة في اختيار الأزياء، حتى لكأن قيمة الرجل من عظمة ثوبه..!

والحضارة الحديثة لفساد تدينها وعرام شهواتها عقدت تقاليد اللباس والزينة، فجعلت للسهرات ملابس فاضحة، وجعلت للإقامة زيا وللسفر زيا وللأكل زيا والرياضة زيا، وللربيع زيا وللصيف زيا... الخ.

والسلم يرتدي ما يشاء غير جانح الى إسراف أو خيلاء..

وجمهور العلماء على تحريم الحرير والذهب للرجال وإباحتهما للنساء، كما أن الجمهور على أن للنساء ملابس، وللرجال ملابس. ولأصل في ملابس النساء أن تكون ساترة لأجسامهن، ولا حرج في أن تكون جميلة غير مثيرة، والأصل في ملابس الرجال أن تلائم أعمالهم، ولا حرج في أن تكون جميلة. كما قال ابن عباس: رأيت على رسول الله أحسن ما يكون من الحلل».

ووددت لو كانت للرجال أزياء موحدة، وللنساء كذلك أزياء موحدة، فإن هذا التوحد يقطع دابر التنافس الباهظ التكاليف، المفسد للأخلاق، الذي نراه في ميادين كثيرة...

هل للإسلام زي معين؟ كلا. وقد توهم بعض الشباب أن الجلباب هو زي الإسلام، وأن البدلة زي الكفار! وهذا خطأ!.

وإذا أردنا الحفاظ على «شخصيتنا» فإن ذلك يتم بصدق اليقين وشرف السيرة وسعة المعرفة ودمائة الخلق!.

إن الجلباب العربي في عواصم عالمية أمسى شارة على الإسراف السفيه. والانطلاق المجنون وراء شهوات مطاعة واهواء جامحة..!! أذلك ما يخدم الإسلام وينشر دعوته؟.

الدين بين العادات والعبادات - آداب المساكن

وننتقل الى المساكن، وأسلوب المعيشة داخلها.. إن الله سبحانه امتن على الناس بأن جعل لهم بيوتا يأوون إليها ويستريحون فيها «والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم..»(56).

وظاهر من السياق أن البيوت نعمة تستوجب الشكر، وأن بناءها عادة وعبادة معا، وهل يستغني البشر عن البيوت؟.

من أجل ذلك استغربت ما رواه الشيخان عن خباب بن الأرت وهو «إن أصحابنا الذين سلفوا ومضوا لم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب... ثم يقول: إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب»!!.

وكلام خباب رضي الله عنه عليه مسحة تشاؤم غلبت مرضه الذي اكتوى منه، ولا يجوز أن نعد البناء رذيلة، فقد يكون فريضة!.

والأصل الذي نرجع اليه في مسالكنا كلها: هو القصد الطيب المصاحب للعمل، أو النية الطيبة الباعثة على العمل، فإن كانت النية حسنة فالعمل صالح، وتتحول فيه العادات الى عبادات.

ويظهر أن كثيرا من الناس جعل من المباني إعلانا عن العظمة، واستطالة على الآخرين. بدل أن يجعلها مواطن استجمام وتهيؤ للعمل في أرجاء الحياة ويظهر ذلك في قول الله لثمود: «واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عادة وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتوا الجبال بيوتا فاذكروا آلاء اله ولا تعثوا في الأرض مفسدين»(57)!.

ولو بنينا ناطحات سحاب وعمرنا غرفاتها بالتسبيح والتحميد لتقبل الله منا! أما بناء دار صغيرة، والتقلب داخلها بطرا وكبرا فذاك ما لا خير فيه، وهذا ما نفسر به حديث أنس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «النفقة كلها في سبيل الله إلا البناء فلا خير فيه»..

والواقع ان هناك حضارات بادت ومدائن دمرت لأن مبانيها كانت ضجيجا لا تتبين فيه شكرا لله ولا أثارة من تقوى!.

وفي هذه الأمم الجاحدة يساق قوله تعالى: «أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون»(58)؟.

ثم قوله لمن جاء من بعدهم: «... وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال»(59).

وقد قرأت جملة أحاديث تكاد تجعل البناء جريمة! وهي تفهم على وجهها الصحيح داخل النطاق الذي رسمناه هنا، ولا ضرورة لذكرها..

سمعت نقدا لاذعا لما كتبته عن آداب المساكن يحملني على إيراد الأحاديث التي دونها صاحب «تيسير الوصول الى جامع الأصول» تحت عنوان كتاب البنيان.. لقد أصبحت هناك ضرورة لذكرها، فلأنقلها كالمة، ولأترك دلالتها تنضح على النفوس.. ثم أعلق عليها بعد ذلك.

كتاب البنيان

عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بنيت بيتا بيدي يكنني من المطر ويظلني من الشمس ما أعانني عليه أحد من خلق الله تعالى. أخرجه البخاري. وفي رواية ما وضعت لبنة على لبنة منذ قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

وعن قيس بن أبي حازم رضي الله عنه. قال: أتينا خباب بن الارت رضي الله عنه نعوده ـ وقد اكتوى سبع كيات في بطنه ـ فقال إن أصحابنا الذين سلفوا ومضوا ولم تنقصهم الدنيا وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراث، ولولا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به. ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطا له فقال إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب. أخرجه الشيخان.

وعن أنس رضي الله عنه. قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: النفقة كلها في سبيل الله إلا البناء فلا خير فيه. أخرجه الترمذي.

وعنه ـ رضي الله عنه ـ. قال: خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوما ونحن معه فرأى قبة مشرفة. فقال ما هذه؟ قيل لفلان ـ رجل من الأنصار ـ فسكت وحملها في نفسه حتى جاء لصاحبها فسلم عليه في الناس أعرض عنه فصنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب فيه والاعراض عنه فشكى ذلك الى أصحابه فقال والله إني لانكر نظر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أدر ي ما حدث في. فقالوا خرج فرأى قبتك فقال لمن هذه فأخبرناه فرجع الرجل الى القبة فهدمها حتى سواها بالأرض. فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات يوم فلم يرها فقال ما فعلت القبة فحدثوه بما كان من صاحبها. فقال رسول الله ـ صلى الله عيه وسلم ـ: أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا مالا إلا مالا. يعني: ما لابد منه. أخرجه أبو داود.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ. قال: مر بي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا اطين حائطا لي من خص. فقال ما هذا يا عبد الله؟ فقلت حائطا صلحه. فقال الأمر أيسر من ذلك، وفي رواية ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك أخرجه أبو داود والترمذي وصححه. «الخص» القصب.

وعن دكين بن سعيد المزني ـ رضي الله عنه ـ. قال: أتينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سألناه الطعام فقال يا عمر اذهب فأعطهم فأرتقى بنا الى علية فأخرج المفتاح من حجرته، ففتح ... ـ يعني أنه كان هناك غرفة عليا...! ـ فلا حرج من بناء غرفة عليا.

القارئ لجلة هذه الأحاديث لا يفكر في بناء دارة أنيقة ولا قصر شاهق بل لعله يرى العيش في مدفن أقرب الى التقوى..

والصحيح أن هناك أحاديث ترتبط بمناسباتها وما تفهم إلا في الجو الذي قيلت فيه. ونحن في حياتنا المعتادة قد يفكر أمرؤ في الزواج ويؤخر البت لظروف عارضة، وقد ينوي بناء بيت ثم يؤخر البناء لفتن ناشبة!.

ومنطق الاستقرار غير منطق القلق، ولقد كانت المدينة المنورة تعاني الكثير من أعباء الدعوة والجهاد والحصار والدفاع، وكانت جمهرة الصحابة تشترك في السرايا والغزوات، فهي بين قتال او استعداد له..

وقد نظرت الى الترهيب من بناء القصور وزخرفتها من خلال هذه الملابسات، وإلا فالأصل إباحة الطيبات في المأكل والمسكن والمنكح، ولو أخذنا الأمر على عمومه ما بنيت مدينة ولا قامت حضارة..

وأعرف من علماء السلف المعاصرين من بني العمائر الشاهقة، وأجرها لساكينها بما يشاء من مال، وله أن يفعل ذلك، ولكن ليس له أن ينهى الناس عن البناء والتأنق فيه..!

إنني أنظر الى حرمة استعمال الجرس فأرى أن هذه الحرمة بدأت لحماية شعيرة الأذان وبعدا عن معالم النصرانية، فإذا استقر الأذان وارتفعت مآذنه فلا حرج من سماع جرس عن مزالق السكك الحديدية، أو عند الاستئذان في دخول بيت أو مع الساعة الموقظة من النوم أو في جهاز الهاتف.. إلخ.

والبيت المسلم له وظائف معروفة وآداب مقررة، ومن الخير ملاحظتها عند بنائه وإعداد مرافقه.

ولم يكن العرب في العهد الأول قد ورثوا هندسة معمارية تنسجم مع تعاليم الإسلام الجديدة بل الذي كان يتحدث أن البيوت غالبا تخلو من المراحيض! وكان الكبار والصغار والرجال والنساء يخرجون الى الصحراء لقضاء حاجاتهم..!

على أن هذا الوضع المرهق قد اختفى مع استقرار المجتمع الاسلامي وانتشار صبغته على الحياة الداخلية والخارجية!.

هناك آداب للمبيت تفرق بين الأولاد في المضاجع وتجعل لكم منهم فراشا خاصا.

وهناك آداب للاستئنذان والتلاقي تصون الهيئات والمروءات..

وهناك مظاهر دقيقة ترسي قواعد النظافة الشخصية الى جانب الوضوء والغسل..

ولا شك أن المسلمين أيام ازدهار حضارتهم كانوا أطهر أهل الأرض أبدانا وثيابا وأن استخدامهم للمياه في الأغسال المتنوعة، جعل إنسانيتهم أرقى.. أما غيرهم من الأوروبيين. فكانوا دونهم مكانة وكرامة..

وقد حرص البشر في هذا العصر على استكمال أسباب النظافة، ونحن لا نوازن بين عادات وعادات. وإنما نتعرف على مطالب ديننا، وننشئ العادات التي تنسجم معها.

وقد قرأت أن الحمام الغربي سيء لأنه يجعل المرحاض في المكان الذي يتم فيه الاغتسال، ولأنه يجبر الشخص على التبول قائما وهذا ما يحرمه الإسلام.

والإسلام لا يحرم التبول قائما، ولا مانع ليه من التنظف أولا بالورق، ثم يزداد التطهر بالماء.

وهذا يغني يقينا عما كان مألوفا من التطهر بالحجارة ثم بالماء أ» الاكتفاء بالماء وحده..

الإسلام دين الفطرة السليمة، وكل ما يسمو بالجسد ويوفر له السناء والجمال مطلوب.

ونحن نفرض تعاليم دينا على الناس كلهم عندما ننشئ باسمه حضارة للإنسان الذي يحترم المبني والمعنى أو الشكل والموضوع لقوله تعالى: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن لنحيينه حياة طيبة. ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»(60).

المس الشيطاني .. حقيقته وعلاجه

طرق بابي رجل يقول: إنه بحاجة الى عوني، فقمت لاستقباله وأنا متعب، ودهشت لمرآه، فقد كان عملاقا بادي الصحة، ولم تكن عليه سيماء الفقر!..

وبدأني بالحديث من غير مقدمات! قال: إنه مسكون..!! واستعدت ما قاله، فكرر شكواه مؤكدا أنه مسكون! قلت من سكنك؟ قال: جدني عات غلبني على أمري..!!

فقت وأنا أضحك: لماذا لم تسكنه أنت؟ إنك رجل طويل عريض؟ فسكت حائرا..

وأخذت أتأمل في ملامحه وحالته العامة ثم قلت: ما أظنك مريضا بالصرع، أتعتريك نوبات ما؟ فلم يزد على القول بأنه مسكون..

إن عددا كبيرا من النساء. وعددا قليلا من الرجال يجيئني بمثل هذه الشكاة، وكنت أبذل شيئا من الجهد في تثبيت القلق، وتسكين الحائر، وإعادة الاستقرار النفسي والفكري الى هذا وذاك..

وشعرت بأن الأزمات الروحية والاضطرابات العصبية من وراء الإدعاء بأن الجن تحتل هذا الجسد. أو تحتك بهذا البائس. وربما استعنت ببعض الرقي والتلاوات والنصائح لجعل أولئك المرضى أحسن حالا، وإن تبيد أوهامهم شيء يطول.

وتحدث معي بعض أهل العلم الديني، وكأنهم رأوا إنكاري على أولئك المرضى، وقالوا: لماذا ترفض فكرة احتلال الشياطين لأجسامهم؟.

كان جوابي محددا: لقد شرح القرآن الكريم عداوة إبليس وذريته لآدم وبنيه، وبين أن هذه العداوة لا تعدو الوساوس والخداع «واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجالك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا»(61).

وليس يملك الشيطان في هذا الهجوم شيئا قاهرا، إنه يملك استغفال المغفلين فحسب: «وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم..»(62).

وقد تكرر هذا المعنى في موضع آخر: «ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين. وما كان له عليهم من سلطان»(63).

إن الشيطان لا يقيم عائقا ماديا أمام ذاهب الى المسجد! ولا يدفع سكرانا في قفاه ليكرع الإثم من إحدى الحانات! إنه يملك الاحتيال والمخادعة، ولا يقدر على أكثر من ذلك...

قال لي أحدهم: هذا صحيح. لكن ما أوردته لا ينفي أن بعض المردة قد يساور بشرا مسلما وينال منه..! قلت: وأنا ضجر: هل العفاريت متخصصة في ركوب المسلمين وحدهم؟ لماذا لم يشك ألماني أو ياباني من احتلال الجن لأجسامهم؟.

إن سمعة الدين ساءت من شيوع هذه الأوهام بين المتدينين وحدهم؟ إنكم تعلمون أن العلم المادي اتسعت دائرته ورست دعائمه، فإذا كان ما وراء المادة سوف يدور في هذا النطاق فمستقبل الإيمان كله في خطر. فلنبحث علل أولئك الشاكين بروية، ولنرح أعصابهم المنهكة، ولا معنى لاتهام الجن بما لم يفعلوا..!!

وجاءني صديق يقول لي: أرى أن تسمع كلام أهل العلم في هذه القضية! قلت مرحبا بكلام أهل العلم، هات ما عندك...

قال: إن مس الشيطان للإنسان ثابت بالكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى: «الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس..»(64).

وأما السنة فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم» وقوله: «فناء أمتي بالطعم والطاعون وخزا أعدائكم من الجن. وفي كل شهادة» وقوله: «ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا من ابن مريم وأمه عليهما السلام»...

قال الشيخ منصور ناصف رحمه الله: إن الواقع من هذا كثير ومشاهد حتى إن عبد الله بن الإمام أحمد سأل والده ـ كما في آكام المرجان ـ فقال: يا والدي إن قوما يقولون: إن الجني لا يدخل بدن المصروع من الإنس، فقال: يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه! ثم قال الشيخ منصور: من هذا وضع الحق واستبان فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر!.

قلت: إقحام الإيمان والكفر هنا لا معنى له، ولعله من غلو بعض المتدينين في إثبات قضايا هامشية.. وأهل الفقه منزهون عن هذا المسلك.

إن عالم الفلك لا يعنيه أن تصب مجاري الإسكندرية في الصحراء أو البحر المتوسط، ولا يعنيه أن تمر السفن التجارية من قناة السويس أو تدور حول رأس الرجاء...

الذي يعنيني هو عقائد الإسلام وحاضر الوحي الآلهي ومستقبله!..

وعندما تناقلت الصحف أن الشيخ عبد العزيز بن باز أخرج شيطانا بوذيا من أحد الأعراب، وأن هذا الشيطان أسلم، كنت أرقب وجوه القراء، وأشعر في نفوسهم بمدى المسافة بين العلم والدين... إن قدر القرآن الكريم أعظم كثيرا من هذه القضايا..

ونعود الى ما ذكره صديقنا من أدلة على أن الشيطان يسكن جسم الإنسان ويؤثر فيه بما يشاء!.

أما الآية الكريمة: «... لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس» فجمهور المفسرين على أن ذلك يوم الجزاء، وسبب هذا التفسير أن أحدا لم ير أكلة الربا مصروعين في الشوارع توشك أن تدوسهم الأقدام!.

ومن ثم جعلوا ذلك عندما يلقون الله فيحاسبهم على جشعهم وظلمهم.

ونقل الشيخ رشيد عن البيضاوي في هذا التشبيه أنه وارد على ما يزعمون من أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، والخبط ضرب على غير اتساق كخبط العشواء..

ثم قال صاحب المنار: «فالآية على هذا لا تثبت أن الصرع المعروف يحصل بفعل الشيطان حقيقة ولا تنفي ذلك وفي المسألة خلاف بي المعتزلة وبعض أهل السنة أن يكون للشيطان في الإنسان غير ما يعبر عنه بالوسوسة. وقال بعضهم: إن سبب الصرع مس الشيطان كما هو ظاهر التشبيه وإن لم يكن نصا فيه. وقد ثبت عند أطباء هذا العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي عالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الحديثة. وقد يعالج بعضها بالأوهام... الخ.

أما حديث أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فإن القصة التي ورد فيها تشريح المراد منه! قالت صفية ـ زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كان رسول الله معتكفا. فأتيته أزوره ليلا. فحدثته، ثم قمت الى بيتي. فقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمشي معي مودعا ـ وكان مسكنها في دار أسامة ابن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسرعا! فقال لهما: على رسلكما ـ أي تمهلا ـ إنها صفية بنت حيي! قالا سبحان الله يا رسول الله! قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو قال شرا..».

وظاهر من الحديث ان الرسول يريد منع الوسوسة التي قد يلقيها الشيطان عندما يرى مثل هذا المنظر، ومع أن الصاحبين أنكرا واستعظما أن يجري في نفسهما شيء من ظنون السوء بالنسبة للمعصوم عليه الصلاة والسلام، فإن النبي أراد منع هذه الوسوسة.

ولا صلة للحديث باحتلال الشيطان لجسم الإنسان...

وأما الحديث الآخر وهو أن الطاعون وخز الجن وهم أعداء البشر يكفينا في شرحه صاحب المنار عندما قال: يرى المتكلمون أن الجن أجسام حية خفيفة لا ترى، وقد قلنا غير مرة: إن الأجسام الحية الخفيفة التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة وتسمى «بالميكروبات» يصح أن تكون نوعا من الجن وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض، قلنا ذلك في تأويل ما ورد من أن الطاعون من وخزن الجن.. على أننا نحن المسلمين لسنا في حاجة الى النزاع فيما أثبته العلم وقرره الأطباء أو إضافة شيء إليه مما لا ليل في العلم عليه لأجل تصحيح بعض الروايات الآحادية.

ونحمد الله على أن القرآن ارفع من أن يعارضه العلم..»

ونجيء الى حديث نفس الشيطان للإنسان كما يذكر الرواة.! ونقول:

خيل أي أن الشيطان قابع تحت الرحم يستقبل الوليد القادم وهو شديد الحقد، يقول له: إن قصتي مع أبيك الأول لم تنته بعد. وسأحاول إرهاقك كما أرهقته.

ثم ينخسه نخسة يصرخ الوليد الساذج منها. ثم يستقبل بعد ذلك حياته خارج الرحم.

وقد اقترب الشعراء من هذا المعنى عندما قال قائلهم:

لما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولد!

وقد كانت أم مريم بادية القلق عليها عندما استجارت بالله أن يصونها ويصون ذريتها «وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم»(65) ومريم وابنها على أية حال من عباد الله الصالحين، وليس للشيطان سلطا على أولئك العباد..!

وننظر الى الموضوع من خلال أقوال العلماء المحققين، قال صاحب المنار: «في حديث أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما واللفظ هنا لمسلم «كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها» فسر البيضاوي المس هنا بالطمع في الإغواء! وقال الأستاذ الإمام: إذا صح الحديث فهو من قبيل التمثيل لا من باب الحقيقة ولعل البيضاوي يرمي الى ذلك..! قال الشيخ رشيد: والحديث صحيح الإسناد بغير خلاف، ويشهد له من وجه حديث شق(66) الصدر وغسل القلب، بعد استخراج حظ الشيطان منه، وهو أظهر في التمثيل، ولعل معناه أنه لم يبق للشيطان نصيب، في قلبه ولا بالوسوسة كما يدل على ذلك على قوله في شيطانه «إلا أن الله أعانني عليه فأسلم» وفي وراية مسلم «فلا يأمر إلا بخير».

ثم قال صاحب المنار رضي الله عنه: المحقق عندنا أن ليس للشيطان سلطان على عباد الله المخلصين وخيرهم الأنبياء، والمرسلون! وأما ما ورد في حديث مريم وعيسى من أن الشيطان لم يمسها وحديث إسلام شيطان النبي ـ صلى الله عليه وسلم وحديث إزالة حظ الشيطان من قلبه فهو من الأخبار الظنية، لأنه من رواية الآحاد، ولما كان موضوعها عالم الغيب، والإيمان بالغيب من قسم العقائد، هي لا يؤخذ فيها بالظن لقوله تعالى: «وإن الظن لا يغني من الحق شيئا»(67) كنا غير مكلفين أن نؤمن بمضمون هذه الأحاديث في عقائدنا.

وقال بعضهم: أيؤخذ فيها بأحاديث الآحاد لمن صحت عنده! ومذهب السلف في هذه الأحاديث تفويض العلم بكيفيتها الى الله تعالى... الخ».

ومع أن مذهب السلف أحب إلي إلا أن مدافعة أعداء الإسلام تقتضي مزيدا من الحر واليقظة، ولست أحب أن أفتح أبواب الشعوذة والسحر والدجل باسم ان الشيطان احتل بدن إنسان...

وقد قبضت الشرطة من أيام على رجل ظل يهوى على أحد المرضى بعصاه حتى أخمده أنفاسه، وكان الأحمق يظن أنه يضرب الشيطان ليخرج، وكان يقول له: أخرج عدو الله! وانتهت المأساة بقتل المريض البائس.

وما يرويه صاحب «آكام المرجان في أحكام الجان» أكثره خرافات وخيالات، وإن ذكره ابن حنبل وابن تيمية وغيرهما!.

نحن نعلم أن الأرض التي نسكنها هباءة صغيرة في كون ضخم خم يضج بالحياة والأحياء! نعم قد تكون أرضنا حبة رمل على شاطئ الوجود الرحب الذي تختفي أبعاده عن وهمنا!!.

ونحن نشعر بسعة الملكوت عندما نتابع مباحث الفلكيين، وقطرات من المعارف التي ترشح عليهم من إدمان النظر في الفضاء..

ونستطيع الحكم بأنه من الحماقة الظن بأننا وحدنا الأحياء في هذا الوجود الكبير!! إن الذي يبني ناطحة سحاب لا يدع الريح تصفر في جنباتها مكتفيا بإسكان غرفة في سرداب منها..

إن العلم مشحون بالأحياء التي خلقها الله لتدل عليه وتشهد بمجده، ومن غرور البشر أن يحسبوا أنفسهم الحياة كلها.

ومع النظر في القرآن الكريم ندرك تلك الحقيقة، يقول الله تعالى: «وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون» ويقول «من آياته خلق السموات والأرض. وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير».

والآيات كثيرة، ومنها نعلم أن أبناء آدم نوع من المخلوقات، وليسوا المخلوقات كلها... وهناك الملائكة، ولا نتحدث الآن عن وظائفهم! وقد تكون هناك كائنات أخرى لا ندري شيئا عن سيرتها أو مصيرها، وهناك عالم الجن الذي نومئ هنا الى بعض سماته.

إن القرآن الكريم حدثنا عن الشيطان الأكبر إبليس عدو آدم وبنيه! وحدثنا عن الجن مبينا أنهم يأكلون وينسلون ويكلفون وان فيهم المؤمن والكافر والتقى والفاجر.

وقد علمنا أن الجن لهم حياتهم الخاصة بهم، وأنهم أشد منا قوة، وأنهم يروننا ولا نراهم! ومع ذلك فإن رجلا من البشر أمكنهم الله من تسخير الجن كسليمان الذي جاء في وصف سلطانه «ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات... إلخ.

وفي هذا السياق كشف القرآن الكريم عن أن الجن لا يعلمون الغيب، وأن هوايتهم في إغواء أبناء آدم لا تتعدى المكر السيء واستدراج المغفلين، ولذلك قال في وصف العصاة من البشر «ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين، وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك..».

تدبر هذه الجملة(ما كان له عليهم من سلطان) لتعلم حدود مقدرته على الإيذاء!.

هل الجراثيم الخفية من عالم الجن؟ لا يستبعد صاحب المنار هذا! مستشهدا بالحديث في سبب الطاعون، وقد يكون رأيه صحيحا! وقد يكون الجن الواعون الخبثاء أصحاب بصر بعالم الجراثيم وأصحاب قدرة في إصابة البشر بهذه الجراثيم وما تحمل من علل!!.

ولعل مطالبة المؤمنين بالتعوذ من الجن في أوقات وأماكن معينة ما يشهد لذلك، فالمسلم مكلف عند الذهاب الى الخلاء أن يقول: «أعوذ بك من الخبث والخبائث»! وعندما يتصل بزوجته أن يقول: «اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا».

ولا أحب أن أمضي في طريق غامضة المعالم! ولولا أن أشغل المسلمين بأمور توافه، وبيضتهم مستباحة وحدودهم مجتاحة!!.

إن هناك قسسا في الأديرة يزعمون أنهم يسخرون الجن، وهناك رجال منا يرددون الدعوى نفسها..

والفرصة أمام الخرافيين موجودة ليبيضوا ويفرخوا!! ولا يجوز أن ننسى قول الله لكل مسلم «ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا».

إن المسلم الحق يخاصم الأوهام ويصادق اليقين ولا تستفزه ترهات المرضى..

قرأت هذا الحديث ثم استغرقني الفكر عن عطاء بن أبي رباح، قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أجل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء اتت النبي ـ صلى الله عيه وسلم ـ، فقالت إني أصرع وأتكشف فادع الله لي!

قال: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله ان يعافيك! قالت: أصبر، فادع اله لي ألا أتكشف، فدعا لها..

هذه مرأة مصابة بالصرع آثرت أن تموت به ضامنة الجنة كما بشرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

وكل ما أحبته ألا يتكشف بدنها في أثناء الغيبوبة التي تنتابها، وقد تكفل لها النبي بذلك.. قلت: لو كان مرضها من شيطان يركبها أكان النبي الكريم يتركها صريعة هذا اللعين؟ ما أظن..!.

ماذا يقع لو كان المرأة من أهل هذا العصر؟ ربما عولجت بالصدمات الكهربية لتشفى! ربما قال بعض الناس: يسكنها شيطان، وظلوا يضربونها حتى يخرج الشيطان المزعوم منها، وربما خرجت روحها مع الضرب المبرح...

ليس لدي مانع من مناقشة الموضوع كله بفكر معتدل مفتوح! أما الذي أرفضه بقوة فهو إقحام الإيمان واكفر في الموضوع كأن الدين سلوك ماجنين، أو نزوع مجانين!!.

الخطأ والصواب هنا في تشخيص مرض، وقد استبعد ما يصدقه الآخرون دون حرج وأنا أريد حماية أمتنا من الشعوذة، والتمائم، وحروف الجمل، واقام الحروف وحساب الطوالع، وصداقة الأشباح وتسخير الجان.. إلخ.

المرض الحقيقي عند قوم يتهمونك بأنك تنكر الجن وعالم الغيب، لأنك ترفض أوهامهم، أولئك بلاء على الإسلام.

والناس في عصرنا يعانون من الوحشة والإرهاق، وقد لقيني فتيان وفتيات يشكون من مس الشيطان وكد الأعصاب، وهم بحاجة الى مربين رحماء.

وفي أقطار أوربا وأمريكا يقوم الأطباء النفسيون بدور كبير في علاج هذه المآسي بيد أن أغلب هؤلاء الأطباء من مدرسة «فرويد» وهو رجل معتل الفكر طافح الشهوة، ووصايا هذه المدرسة تدور على محاربة الكبت، وإرخاء العنان للنفس!.

والكبت الدائم قد يكون سبب بلاء، ولكن الكبت الموقوت دعامة التربية والترقي.. والتفرقة بين الأمرين لا يعرفها عديمو الإيمان تاركو الصلوات، أحلاس الشهوات.

وهناك شيء كان أولى بالمتدينين أن يعرفوه ويعرفوا الناس به، ذاك أن شياطين الإنس والجن تنتشر في كل مكان، وتحاول الإيقاع بكل إنسان، والاستعاذة منها واجبة ونافعة!.

وقد أمر الله بها نبيه «وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون»(68).

وكان رسول الله يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه ونفثه»(69). ومن أدعيته: اللهم إني أعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من الهدم ومن الغرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت»

هذا المسلك أفضل من إشاعة سكنى الشيطان لبدن الإنسان والاحتيال على طرده بشتى الأوهام.

فقه الكتاب أولا...

  • ـ أحاديث حرفت عن مواضعها أو جهل معناها
  • ـ القتال في الإسلام
  • ـ الأمة ليست على مستوى الدعوة الناجحة
  • ـ أحاديث الزهد ...
  • ـ جهالة بعض المتحدثين في السنة هذه الأيام…

تلاوة قليلة للقرآن الكريم، وقراءة كثيرة للأحاديث، لا تعطيان صورة دقيقة للإسلام بل يمكن القول بأن ذلك يشبه سوء التغذية، إذ لابد من توازن العناصر التي تكون الجسم والعقل على سواء...

ولنضرب أمثلة متدرجة م الخفيف الى الدقيق: يرى الصنعاني أن النذر حرام، معتمدا على حديث ابن عمر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه نهى عن النذر! وقال: «إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من مال البخيل».

والنذر الذي لا يأتي بخير هو النذر المشروط الذي يشبه المعاوضات التجارية، يقول الإنسان: لله علي كذا إن شفيت من مرضي أو إن نجح ابني... الخ.

أما النذور الأخرى في طاعة الله فلا حرج فيها، مادامت من الناحية الفقهية صحيحة..

والسؤال: كيف يحكم بأصل الحرمة في النذور كلها مع قوله تعالى في وصف الأبرار «يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا»(70)؟ وقوله في موضع آخر «ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق»(71).

وقد رأيت الجهل بالقرآن الكريم يبلغ حدا منكورا عند شرح حيث مسلم «كل ذي ناب من السباع فأكله حرام» فإن شارح الحديث زعم أن الحديث قيل في المدينة المنورة، وأنه نسخ من نزل بمكة من قوله تعالى: «قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به...»(72).

والزعم بأن حديث آحاد ينسخ آية من القرآن الكريم زعم في غاية الغثاثة! ثم إن الآية التي قيل بنسخها تكرر معناها في القرآن أربع مرات، مرتين في سورتي الأنعام والنحل المكيتين، ومرتين في سورتي البقرة والمائدة المدنيتين!!، بل ما جاء في سورة المائة هو من آخر ما نزل من الوحي!!.

فكيف يفكر عاقل في وقوع النسخ؟ ثم إن عددا من الصحابة بينهم ابن عباس، وعددا من التابعين فيهم الشعبي وسعيد بن جبير، رفضوا حديث مسلم.! فكيف نترك آية لحديث موضع لغط؟.

ولندع ما ذكرنا الى حديث يدخل في دائرة القانون الدولي بلة العصر.

عن عبد الله بن عون كتبت الى نافع رحمه الله أسأله عن الدعاء قبل القتال ـ ويقصد بالدعاء دعوة الناس الى الدخول في الإسلام قبل المعركة ـ قال عبد الله فكتب إلي «إنما كان ذلك في أول الإسلام وقد أغار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بني المصطلق وهم غارون...».

ونافع ـ غر الله له ـ مخطئ! فدعوة الناس الى الإسلام قائمة ابتداء وتكرارا، وبنو المصطلق لم يقع قتالهم إلا بعد أن بلغتهم الدعوة، فرفضوها وقرروا الحرب!.

ورواية نافع هذه ليست أول خطأ يتورط فيه، فقد حدث بأسوأ من ذلك!.

قال: كنت أمسك على ابن عمر المصحف فقرأ قوله تعالى: «نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنئ شئتم...»(73) فقال: تري فيم نزلت هذه الآية؟ قلت: لا.. قال: نزلت في رجل أتى امرأته في دبرها، فشق ذلك عليه! فنزلت هذه الآية!!.

قال عبدالله بن الحسن: إنه لقي سالم بن عبد الله بن عمر، فقال له: يا عم، ما حديث يحثه نافع عن عبد الله أنه لم يكن يرى بأسا بإتيان النساء في إدبارهن! فقال: كذب العبد وأخطأ، إنما قال عبد الله: يؤتون في فروجهن من أدبارهن.

ونعود الى رواية نافع وهي عدم الدعوة قبل القتال ونقول: إنه مع اهتزازها فإن أهل الحديث ـ لقلة فقههم ـ رجوا لها حتى جعل الصنعاني عنوان الموضوع «الغارة بلا إنذار»!(*****).

غارة بلا إنذار؟ أين هذا المسلك من قوله تعالى: «وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ اليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين»(74) وقوله: «فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون»(75)!.

والغريب أن الشيخ ناصر الألباني ـ وهو من أعلم رجال الحديث في عصرنا ـ عتب علي أني تركت رواية نافع، وآثرت عليها روايات أخرى وأنا أصور طبيعة القتال في الإسلام!!

في كتابي «جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج» أحصيت أكثر من مائة آية تتضمن حرية التدين، وتقيم صروح الإيمان على الاقتناع الذاتي، وتقصي الإكراه عن طريق البلاغ المبين.

وليس في تاريخ الثقافة الإنسانية كتاب ينشئ العقل المؤمن إنشاء، ويعرض آيات الله في الأنفس والآفاق لتكون ينابيع فكر يتعرف على الله، ويستريح الى عظمته كما وقع في هذا القرآن...

ومع ذلك، فنحن المسلمين يوجد بيننا من ينسى هذا كله ليقف عند راو تائه يزعم أن الدعوة الى الاسلام كانت في صدور الإسلام ثم ألغيت! ومن ألغاها؟.

إنه لأمر ما، يجئ بختام خاص لسورة براءة التي نزلت في السنة التاسعة، يقول عن الكافرين: «فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم»(76) أفي هذا الختام رائحة إكراه؟.

إن الإيمان أساس، والجهاد حارس، وستبقى الحراسة فريضة قائمة ما بقي في الدنيا من يهدد الأمان، ويستنكر الإيمان؟.

ومعنى هذا أن الجهاد وسيلة وليس غاية ويوم تسود الحريات أرجاء الحياة، وتنمو أعواد التوحيد فلا يرى من يكسرها أو يحرقها، فلا قتل ولا قتال، نعم! لا قتال حيث تستخفي الفتن وتشيع العدالة.

ذلك هو ديننا كما تشرحه آيات الكتاب العزيز، ويظهر في السيرة النبوية المباركة..

وفي أربعة مواضع متشابهة من القرآن الكريم كانت وظيفة الرسالة الخاتمة:

1 ـ تلاوة الوحي، أو قراءة المنهاج الذي يسير عليه المسلمون أو تحيد النطاق الذي يعملون داخله:
2 ـ تربية الأمة بتنمية ملكاتها الطيبة وكبح غرائزها الجامحة.
3 ـ تقرير الأحكام التفصيلية التي جاء بها الكتاب نظاما للفرد والمجتمع والدولة، وهي أحكام مقرونة بالحكمة والسداد.

هذه الأثاث الثلاثة هي عناصر الرسالة التي نهض بها كبير الأنبياء، وأحيى بها مواريث من سبقوه وأغنى بها العالم عن الفلسفات الأرضية والأهواء البشرية!!.

وقد ذكرت ثلاثتها(77) عن البشارة بالبعثة الأخيرة لما دعا إبراهيم وإسماعيل ربهما بإرسال محمد.

وذكرت كلها مرة ثانية(78) عند جعل المسجد الحرام قبلة الناس في المشارق والمغارب، فكان اتجاه البشر الى الكعبة نعمة أخرى على العرب بعد ابتعاث النبي منهم، فكان تشريفا لأرضهم بعد تشريف جنسهم.

وذكرت مرة ثالثة(79) بعد هزيمة أحد وانكسار قلوب المؤمنين وحاجتهم الى ما يجبرهم ويعيد الثقة اليها وذلك في سورة آل عمران. التي واست المهزومين وذكرتهم برسالتهم..

وذكرت مرة رابعة(80) عند كشف السر في إقصاء اليهود عن ميدان التربية الدينية، وإبعادهم عن رسالات الله، وإحلال العرب محلهم، بعد فشل بني إسرائيل في هذه الساحة.

تلك هي رسالتنا تحت عناوينها الرئيسة! وما من شك في أن الجهاد حق لتأمين الدعوة وهزيمة الفتانين!.

أما تصوير الإسلام بأنه يتحرش بالآخرين ويتعطش لدمائهم فهو افتراء على الله والمرسلين، ومع أننا أشبعنا هذا الموضوع بحثا في كتبنا الأخرى فإن الحاجة الى الكلام فيه لا تزال ماسة. ذلك أن حديث الإفك لا ينقطع!!.

وفي هذه الأيام النحسات شاعت الخلافات في أرجاء الأمة وقتل بعضها بعضا، بل إن حصيلة القتلى في الفتن الداخلية أربى من القتلى في محاربة الاستعمار الصليبي العائد المتحالف مع اليهود والناقمين..

والحكومات الإسلامية على الإجمال دون مثيلاتها من حكومات العالم عدالة ونزاهة.

والجماهير أقل ثقافة وإنتاجا واقتدارا على الحياة وتكاليفها.

والتقاليد السائدة تبتعد عن الإسلام الحنيف روحا ونصا.

فأمتنا من أفقر أمم الأرض الى التعليم والتربية ومعرفة الذات..

وفي هذه الآونة استخرج ابعض حديث «بعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصار على من خالف أمرى...».

قلت: ليت لكم سيفا يحمي الح، ويرد عنه العوادي! فإن الحق يغرق وليس له صريخ!.

ليت لكم رمحا ترتزقون في ظله، إنكم تتسولون أرزاقكم من غراس عدوكم، وهو الذي يصنع السلاح الذي تشترونه بالغالي والرخيص لأغراض يعلمها الله!..

مالكم ولهذا الحديث؟ قال لي غلام متعالم: إنه يرد كل ما تقول..!

قلت: سأتجاوز عن ضعف هذا الحديث من ناحية سنده، ولن أطعن في صحته ـ مع أن الطعن وارد ـ ولكني أسأل: لماذا لا تتعلمون الدين وتحسنون فقهه والعمل به، ثم تحسنون الدعوة إليه؟ عندما يراكم العالم أدنى مستوى منه فلن يسمع منكم ولن يرتضيكم قادة له، لا يجوز أن يكون الإمام أجهل من المأموم..!

ما وظيفة السيف في أيديكم وأنتم متظالمون؟ جائرون عن سبيل الرشاد؟.

وتذكرت أن «لينين» الحاكم الأول للشيوعية، وناقلها من الميدان النظري الى ميادين السياسة، ألف كراسة عن اليسار الطفولي أو الطفولة اليسارية، نعى فيها على جيل من الناس يرفع شعار الشيوعية ولا يحسن خدمتها!!.

قال: «هذه الطفولة، والطفولة تتميز بالقصور والعناد» وقد طردها من ميدان العمل حتى تستطيع الشيوعية الانطلاق دون عائق..

وليت القياد بقي في يد الأطفال! إذن لاختفت الشيوعية من زمان طويل بفضل الأصدقاء الجهلة!.

واليوم توجد طفولة إسلامية تريد الأنفراد بزمام الأمة، وعندما يسمع أولوا الألباب حديثها يطرقون محزونين!!.

والمخيف أنها طفولة عقلية تجمع في غمارها أرباب لحي، وأصحاب هامات وقامات!! يقعون على أحاديث لا يفهمونها ثم يقدمون صورة الإسلام تثير الانقباض والخوف..!

إن نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ تكلم كثيرا وكلامه موضع الإعتزاز والطاعة، «وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله..» وكان يمكن ان تعرف مرامي الكلام وحقائقه لو ضبطت الملابسات التي قيل فيها...

وأيا ما كان الأمر فإن إطار القرآن الكريم ضابط دقيق إذا عزت معرفة الملابسات.

ونحن نلحظ أن القرآن أطال الحوار مع مخالفيه، وافتن قبل أي شيء في بسط براهينه على صدق عقائده، وشرف عباداته، وجدوى ما يدعو إليه من عمل صالح وغايات كريمة..

وفي طول السور وعرضها مناشدة حارة للإنسان أن يرعوي ويثوب الى رشده ويتوب الى ربه.

ولم تبدأ سياسة العصا الغليظة إلا بعد أو أوجعت عصى الأعداء جلود المؤمنين، وكسرت عظامهم. هنا نزل قوله تعالى: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير»(81).

وأنبياء الله على اختلاف الليل والنهار خاضوا أشرف قتال يمكن أن يقع على ظهر الأرض! والقول بأن فرعون كان أولى بالحق من موسى، أو أن اليهود كانوا أولى بالنصر من عيسى، او أن خصوم محمد كانوا أولى بالبقاء منه قول عاهر منكور، لا يصدر من صاحب دين أو خلق!.

المهم أن المنتمين الى الله يحسنون أولا الدعوة ويوفرون فرص السلام والمصالحة، ويقدرون أخطاء الطباع البشرية فإذا ألجئوا بعدئذ للقتال كانوا رجالا، وكانوا كراما..

وهذا ما فعله محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعرف في سيرته بوضوح، وقد لخصه شوقي في كلمات موجزة:

الحرب في حق لديك شريعة!

ومن السموم الناقعات دواء!!

فإذا جاء مسلم قصير الرؤية، وكان أول ما يذكره في معاملة أعداء الإسلام الحديث المعروف «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله..» كان إنسانا ممن يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتعاملون بغباء شديد مع تراث النبوة.

وقد شرحنا في كتاب آخر أن الحديث قيل مع نزول سورة براءة، قبل وفاة الرسول بنحو عام، وبعد جهاد رهيب مع وثنيات أعطاها الإسلام حق الحياة، ولم تعطه إلا الموت!، وعاش معها دهرا على مبدأ «لكم دينكم ولي دين» فلم ير منها إلا الغدر والاغتيال!.

وكان آخر ما صنعت لتعيد الليل الى جزيرة العرب أن كذابا اسمه «مسيلمة» قام بحركة ردة مزعجة ولم يطفئها حفاظ القرآن إلا بدمائهم، فتفانوا في إطفائها حتى كادوا يبيدون، وحتى خيف من انقراض الحفظة بعد العدد الكبير الذي استشهد منهم!!

وصدر سورة براءة يعطي صورة كاملة لهذه الوثنية الخائنة الجريئة، وفي هذا الجو قيل هذا الحديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله...» فلا يجوز لجاهل أن يعدو به مكانه!.

هل قيل يوم صعد الرسول الصفا غداة أرسل وشرع يذكر الجاهلين بالبعث ويدعوهم الى التوحيد؟.

هل قيل يوم عاد كسير القلب من الطائف، ودخل مكة في جوار مشرك؟.

هل قيل يوم اختفى في الغار ليضلل مطارديه ويطلب الحياة لنشر الدعوة في أرجاء الجزيرة؟.د

هل قيل يوم أعطى اناس في المدينة المنورة حق اللحاق بمشركي مكة وترك الدين إذ استبهظوا تكاليفه؟.

والحمد لله لم يرتد أحد، ولم يلحق بالمشركين رجل ولا امرأة! بل الذي حدث هو العكس..

هل قيل في عمرة القضاء، قبل فتح مكة بعام، وهو يطوف بالكعبة وحولها مئات الأصنام فلم يكسر منها صمنا! ولم ينقض للمشركين عهدا؟.

إن أهل الفقه هم الذين يتحدثون عن الإسلام، ويشرحون المرويات التي حفلت بها الكتب ووقع عليها الدهماء كما يقع الذباب على العسل.

وقد كان أهل الفقه قديما هم المتحدثين عن الإسلام، وأعرف الناس بتراث النبوة..

وأنا وغيري من المشتغلين بالدعوة الإسلامية ننظر باهتمام بالغ الى أحوال الناس وراء دار الإسلام، ننظر الى التيارات الفكرية التي تسودهم والمذاهب الخلقية والدينية التي تؤثر فيهم وأنصبة الحضارة التي حصلوا عليها، ومقادير الإنتاج التي يصدرونها للعالم.. الخ.

وكيف نحسن الدعوة إذا لم نعرف ذلك كله؟ وقد قرأت كلمة للأستاذ أحمد بهاء الدين يشرح فيها شيئا من ذلك، رأيت أن أسجلها هنا. قال:

«بعض القراء يراني معجبا بالمجتمعات الأوربية والأمريكية عندما أتحدث عنها في رحلاتي، وهذا صحيح! لكنني كذلك أكره فيها أشياء أخرى، ترى ما الذي أوثر نقله الى الناس في بلدي؟.

البعض يفضل أن أنقل نقاط الضعف في المجتمعات الأخرى! وهذا خداع للنفس وإرضاء لغرور كاذب، واستنامة الى أننا أحسن من غيرنا، وتلك غيبوبة باهظة الثمن..!

نحن هنا نحب أن نتكتم عيوبنا وأمراضنا! أما هناك فهم يسرعون الى مناقشة أمراضهم الاجتماعية علانية ومصارحة!! ولذلك يستشفون منها، على حين يبقى المرض لدينا كامنا..

وما لا نراه أو ما لا ننشره يعد كأنه غير موجود، وذاك بلاء مجتمعات الكتمان، لا تزال تنافق حتى تهلك!.

وقد تخطى غيرنا هذا الطور، وشرع يناقش أخطاءه بقوة المخدرات ـ الخمور ـ تصبح مشكلة قويمة رسمية وشعبية! و«الإيدز» تتفجر أنباؤه بمجرد ظهوره كالقنبلة على حين نسمى نحن «الكوليرا» حين تظهر بأمراض الصيف! ويمضي كل شيء في هدوء!.

وهناك أمر آخر الانكليز يعتبروننا كسالى لأنهم يعملون من الصباح الى المساء، والأمريكان يعتبرون الانكليز كسالى، لأن الأمريكي يعمل ضعف الإنكليزي، ولا يقطع يوم العمل بشرب البيرة! ومن يرى الأمريكي أو الأمريكية يعملون يظن أنهم شعب فقير يبني مستقبله بالكدح والكفاح، مع أنهم أغنى الشعوب!.

والآن ظهر اليابانيون يتهمون الأمريكيين بالكسل!، والأمريكان في ذعر من «مرض» العمل والاجتهاد والتفاني لدى اليابانيين. إنهم يعتبرونهم مرضى لعدم وجود أي متعة يرفهون بها عن أنفسهم، ولذلك يرون المنافسة غير عادلة بين الشعبين الكبيرين.... هذا هو العالم الذي يتقدم من حولنا.

ويلفتني بقوة شيوع القيم التي لا تحتاج الى عملة صعبة، ولكن لها ثمارا يانعة، أو مردودا هائلا.. النظام، احترام الدور والقواعد العامة للحياة النظافة التامة فلا تجد من يلقي ورقة على الأرض».

ثم قال الأستاذ أحمد بهاء الدين: «شكا لي سائح أمريكي ـ ونحن في روما ـ من قذارة الإيطاليين، لأنهم ينزلون من السيارات ـ الحافلات ـ ويلقون تذاكر الركوب على أرض الشارع..» (انتهى كلامه) ونقول:

هذه أنباء السباق الحضاري بين الدول الصناعية في أوربا وأمريكا وشرق آسيا! ترى ما أخبار العرب والمسلمين في هذا الميدان؟ الأخبار المؤكدة أننا شعوب مستهلكة لا منتجة وأننا نأخذ أكثر مما نعطي..

ويستحيل أن تنجح رسالة كبرى يوم يكون حملتها في هذا المستوى! إن امتلاك الحياة الدنيا عن قدرة وخبرة هو السبيل الأوحد لنصرة المبادئ والمذاهب...

ويوم اشتبك المسلمون الأوائل مع الدولتين العظميين الروم والفرس كانوا أحق بالنصر لأنهم نازلوا أعداءهم في الميادين التقليدية المعروفة، وحملوا ذات الأسلحة، وتفرقوا عليهم بالإيمان الحق وتأييد الله..

ثم وقع في عصور التخلف الحضاري أن انسحب المسلمون انسحابا عاما شائنا من آفاق الحياة، وسيطرت عليهم أفكار غريبة.. فهموا أن الاستعلاء على مغريات الدنيا يعني ترك الدنيا، وأن النجاح في الامتحان يكون بالفرار منه لا بالدخول فيه واجتياز مشقاته...

ونسيت تعاليم القرآن التي تقرر أن الأرض مخلوقة للناس، وأن التمكين فيها جزء من رسالة الحياة الأولى والأخرى وحلت محل هذه التعاليم أحاديث تغري بالفقر والتجرد!.

ومع أن هذه الأحاديث عند التأمل تخالف أحاديث أخرى أصح منها سندا ومتنا، وقبل ذلك تخالف منطق القرآن الذي يجعل الجهاد ركنا لحراسة الإيمان ونظمه وشعبه، مع ذلك فإن هذه الأحاديث وجدت رواجا وسيطرت على الجماهير الكثيرة.

قرأت خمسين حديثا ترغب في الفقر وقلة ذات اليد وما جاء في فضل الفقراء والمساكين والمستضعفين وحبهم ومجالستهم كما قرـ سبعة وسبعين حديثا ترغب في الزهد في الدنيا والاكتفاء منها بالقليل وترهب من حبها والتكاثر فيها والتنافس.. وقراـ سبعة وسبعين حديثا أخرى في عيشة السلف وكيف كانت كفافا...

ذكر ذلك كله المنذري في كتابه الترغيب والترهيب وهو من أمهات كتب السنة، ورحم الله المؤلف الحافظ وغر لنا وله، فهو حسن النية ناصح للأمة، بيد أن الفقه الصحيح يقتضي منهجا آخر، ومسلكا أرشد..

وأعرف ويعرف غيري أن عبادة الدنيا أهلكت الأولين والآخرين وأنها من وراء جرائم مذهلة يقترفها الخاصة قبل العامة، والرؤساء قبل الأتباع والأذكياء قبل الأغبياء، ولكن العلاج الصحيح للداء العضال يكون بالتمكن من الدنيا والاستكبار على دنياها..

املك أكثر مما ملك قارون من المال، وسيطر على أوسع مما بلغه سليمان من سلطات، واجعل ذلك في يدك، لتدعم به الحق حين يحتاج الحق الى عم، وتتركه لله في ساعة فداء حين تحين المنية!! أما أن تعيش صعلوكا، حسابا أن الصعلكة طريق الجنة فهذا جنون وفتون.

إذا كان الإلحاد يفرض سلطانه بالتمكين في الأرض، فإن انصرافك عن التمكن من الأرض فاحشة أشد من الزنا والربا..

وللناقش بعض ما روي ي هذا المجال لنعرف ما وراءه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، اشتكى سليمان الفارسي ـ في مرض موته ـ فعاده سعد بن أبي وقاص، فرآه يبكي، فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي؟ أليس قد صحبت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ أليس ؟ أليس؟..

قال سلميان: ما أبكي واحدة من اثنتين، ضنا على الدنيا ولا كراهية للآخرة، ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهد إلينا عهدا، وما أراني إلا قد تعديت!!.

قال سعد: وما عهد إليك؟ قال عهد الينا أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب! ولا أراني إلا قد تعديت! وأما أنت يا سعد فاتق الله عند حكمك إذا حكمت! وعند قسمك إذا قسمت! وعند همك إذا هممت!.

قال المنذري. وقد جاء في صحيح ابن حبان أن مال سليمان جمع بعد وفاته ـ فبلغ خمسة عشر درهما.

إن سلمان من أكابر الصحابة وأوفيائهم، والحديث يفيد أنه وجل من لقاء الله وتركته خمسة عشر درهما.

وإنها لصورة تثير الخشية والخشوع أن نرى أميرا من أمراء الفتح الإسلامي يلقى ربه بهذا التجرد والتبتل!.

على حين نرى القادة والأمراء يتشبعون من الدنيا بلا حدود!.

لكن للفقه سؤالا هنا: إن سعد بن أبي وقاص الذي كان يحاور سلمان سمع من رسول الله هذا التوجيه «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس» فليس الميراث الكبير جريمة!

وسعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة ـ كما جاء في السنن ـ وهؤلاء العشرة كانوا من أغنياء المسلمين، بل لم يكن فيهم فقير!.

وزعم الرواة أن احدهم خلف من الذهب ما كانت تعمل فيه الفؤوس!.

المشكلة ليست في امتلاك المال الواسع بل المشكلة في كيف تمتلكه؟ وكيف تتفقه؟ وقد رأينا في الدنيا أغنياء بنوا الجامعات حصونا للعلم والبحث، وأغنياء حاربوا المرض والشظف ببأس شديد، وأغنياء قدموا لدولهم ما تطلب من ضرائب كي تضع موازناتها إقامة للمصالح العامة.

ورأينا عثمان بن عفان يعين إعانة رائعة في الإعداد لغزوة العسرة، حتى جعل الرسول يقول: اللهم ارض عن عثمان فإني راض عنه.

الواقع أن حديث سلمان ليس إلا تعبيرا عن حالة نفسية خاصة، ولا يعطي حكما شرعيا عاما..

وننظر النظرة نفسها الى ما رواه أحمد عن أبي عسيب قال: خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلا فمر بي، فدعاني فخرجت إليه! ثم مر بأبي بكر رضي الله عنه فدعاه فخرج إليه، ثم مر بعمر رحمه الله فدعاه فخرج إليه. فانطلق حتى دخل حائطا لبعض الأمصار، قال لصاحب الحائط: أطعمنا.

فجاء بعذق فوضعه، فأكل رسول الله وأصحابه، ثم دعا بماء بارد فشرب، فقال: لتسألن عن هذا يوم القيامة! أخذ عمر العذق فضرب به الأرض حتى تناثر البسر قبل رسول الله، ثم قال: يا رسول الله: إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة؟ قال نعم إلا من ثلاث:

«خرقة كف بها عورته (أي سترها) أو كسرة سد بها جوعته، أو جحر يتدخل فيه من الحر والقر»!!.

وفي وراية أخرى «ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال ـ والرواية عن عثمان بن عفان ـ:

«بيت يكنه، وثوب يوارى عورته، وجلف الخبز والماء»!!.

وفي عبارة البيهقي «كل شيء فضل عن ظل بيت، وكسرة خبز، وثوب يوارى عورة ابن آدم فليس لابن آدم فيه حق»!.

قال الحسن البصري لراوي الحديث: ما يمنعك أن تأخذ به؟ ـ وكان يعجبه الجمال ـ فقال الرجل للحسن: يا أبا سعيد إن الدنيا تقاعدت بي!!.

ورأيي أن الرجل كان يستطيع تقديم إجابة أفضل إجابة من كتاب الله تعالى، فبدل أن يرد تطلعه الفطري الى حب الدنيا، يقول: «قل: من حرم زينة اله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، هل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة»(82) ولو جعلنا هذه المرويات محور حياة عامة لشاع الخراب في أرجاء الدنيا!!.

فهل هذه المرويات باطلة؟ ربما ظن البعض أني أرى كذلك! الواقع أن هذه المرويات تساق في مجال محدد لهدف محدد، وهي جرع من أدوية يتناولها الإنسان حتى لايكون منهوما بالدنيا شقيا وراء بعض الحرمان الذي يطرأ عليه!!.

كم من الناس لا يجد إلا هذه الضرورات؟ ومع ذلك لم يمت.

وكم من الناس أيام الحروب والأزمات عاش داخل هذا النطاق ومع ذلك لم يمت.

وكم من الناس لديه أنصبة مضاعفة من هذه الأرزاق ومع ذلك لم يقدر ولم يشكر!!

إن عثمان بن عفان راوي هذه المعاني كان من الأغنياء، وقد استفاد من وعيها طلب الآخرة والاستعلاء على رذائل البخل والطمع!.

إن سعة الفقه لابد منها لفهم مرويات شتى!.

وقد وقف الحرفيون عند هذه الآثار فوقفوا بالعالم الإسلامي كما وقف حمار الشيخ في العقبة لا يتقدم ولا يتأخر! بل لعله تراجع الى العصر الحجري في بعض جوانبه!!.

ويبدو أن الطبش في فهم المرويات، وسوء تقديرها مرض محذور العقبى من قديم فقد روى الترمذي عن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث! فدخلت على علي رضي الله عنه فأخبرته، فقال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم! قال: أما إني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: أما إنها ستكون فتنة! قلت: فما المخرج مها يا رسول الله؟.

قال: «كتاب الله تعالى يه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم! هو الفصل ليس بالهزل! من تركه من جبار قصمه الله تعالى، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله تعالى... وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم..

وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه...

وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: «إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي الى الرشد فآمنا به».

من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى الى صراط مستقيم.!

خذها إليك يا أعور»(******).

إن الحكم الديني لا يؤخذ من حيث واحد مفصول عن غيره، وإنما يضم الحديث الى الحديث. ثم تقارن الأحاديث المجموعة بما دل عليه القرآن الكريم، فإن القرآن هو الإطار الذي تعمل الأحاديث في نطاقه لا تعدوه، ومن زعم أن السنة تقضي على الكتاب، أو تنسخ أحكامه فهو مغرور!.

ويوضح ما قلنا ما رواه ابن كثير في تفسيره عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله قال: «كل ما حكم به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو مما فهمه من القرآن! قال الله تعالى «إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما»(83).

وقال: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون»(84).

ولهذا قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» يعني السنة..

وهذا صحيح! فإن حياة محمد ـ صلوات الله عليه ـ كانت تطبيقا عمليا لتوجيهات القرآن! كانت سيرته في العبادة والخلق والجهاد والمعاملة قرآنا حيا يغير الأرض ويصنع حضارة أخرى، ولولا هذه السنة العملية والقولية لكان القرآن أشبه بالفلسفات النظرية الثابتة في عالم الخيال!.

إن سنة محمد في النواحي الاجتماعية والمدنية والعسكرية، وقبل ذلك كله في شرائع العبادة والاعتقاد جزء لا يتجزأ من الرسالة الخالدة، فإن الإسلام يتكون من الكتاب والسنة كما يتكون الماء من عنصريه المعروفين..

ونحن هنا نذود المرويات الواهية، والأحاديث المعلولة كما نذوذ عن القرآن نفسه التفاسير المنحرفة والأفهام المختلفة، ليبقى الوحي الإلهي نقيا..

إن ركاما من الأحاديث الضعيفة ملأ آفاق الثقافة الإسلامية بالغيوم، وركاما مثله من الأحاديث التي صحت، وسطا التحريف على معناها، أو لابسها كل ذلك جعلها تنبو عن دلالات القرآن القريبة والبعيدة...

وقد كنت أزجر بعض الناس عن رواية الحديث الصحيح حتى يكشفوا الوهم عن معناه! إذا كان هذا المعنى موهما، مثل حديث «لن يدخل أحد الجنة بعمله.. الخ».

إن طوائف من البطالين والفاشلين وقفت عند ظاهرة المرفوض، وحسبوا أن الجنة تدخل دون عمل، وتناسوا عشرات الآيات التي تجعل دخول الجنة نتيجة عمل واجب.

فكنت أبين لهم أن الحديث ينفي الاغترار والاستكبار بالعمل أي ينفي أن الجنة ثمن العمل المقدم، ولكنه لا ينفي أبدا أن العمل سببها المحتوم لقوله تعالى: «ونودوا: أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون»(85).

وكثير من القصاص والوعاظ ينقصهم الوعي الذكي بالقرآن والاقتراب الخاشع من مغازيه وبيناته.. ومع ذلك فلديهم ثروة طائلة من أحاديث الآحاد التي تحتاج الى ترتيب وحسن إدراك..

وقد غاظني أن أحدهم كان يطير في المجامع بحديث «أبي وأبوك في النار» وكأنما يسوق البشرى الى المسلمين، وهو يشرح لهم كيف أن أبوي رسولهم في النار!!.

قلت: قبحكم الله من داع أعمى البصيرة!! ما لديك شيء من فقه الإسلام، ولا من أب الدعوة..

ومثلك لا يزيد الأمة إلا خبالا باسم السنة، والسنة منك براء...!

قال الشيخ يوسف القرضاوي في شرح حديث «أبي وأبوك في النار»: إن الأب قد يطلق لغة واصطلاحا على العم، فلعل المقصود بالأب هنا عمه أبو طالب

ذلك أن أبا طالب عرضت عليه كلمة التوحيد قبل أن يموت فأبى أن ينطق بها.

.... ونحن نقبل هذا التأويل حتى لا يقع تعارض بين السنة والكتاب.!

وقد سمعت بأذني من يقول: الحديث صحيح وهو يخصص عموم الآية، فأهل الفطرة ناجون جميعا ـ عدا عبد الله بن عبد المطلب..!! قلت له: ماذا فعل حتى يستحق وحده النار؟ كان عبد الله شابا شريفا عفيفا حكى عنه التاريخ ما يزينه! ولم يحك عنه ما يشينه! والآية خبر لا يتحمل استثناء، فما حماسكم في تعذيب عبد الله؟ وما جريكم هنا وهناك بهذه الشائعة؟ وماذا وراء تأكيدكم أن أبوي الرسول في النار..! إنني أشم رائحة النيل منه في هذا الحماس الأعمى..!!.

أحاديث الفتن

  • ـ نظرة سريعة
  • ـ الدجال زعيم اليهود .. مصرعه ، وبدء طور جديد للإسلام
  • ـ مناقشة حديث الساق
  • ـ مناقشة ما يقطع الصلاة.

قرأت أحاديث كثيرة في الفتن وعلامات الساعة، وخرجت من قراءتي وأنا أسرح البصر خلال غيوب لا أري أعماقها!.

إني وسائر المسلمين نؤمن بقيام الساعة والإيمان باليوم الآخر حق، ولا يتردد في إلا كار، وليس يعنيني كثيرا أن أعلم حقائق ما يقع من حساب وثواب أو عقاب، فإن تفاصيل ذلك فوق العقل..

ولكني أشعر بأن العالم في أواخر عمره من هذه الدنيا سيتضاعف بلاؤه، وسيحصد الشر ما غرس على امتداد تاريخه من آثام وانحرافات!.

لطالما نسي ربه، وأهمل وحيه، وأطاع هواه! فلا عجب إذا قال ربنا تبارك اسمه: «وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شيدا، كان ذلك في الكتاب مسطورا»(86) «وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا»(87)..

ولا يستغربن أحد أن يكثر الدجالون الذين يغررون بالجماهير، ويسخرون مالديهم من فضل معرفة في إتاهة الناس عن الحق، وتدويخهم هنا وهناك...

وتشير الأحايث الى أن عشرات الدجالين سوف يظهرون، وأن هناك دجالا مستطير الشر سيفوق إخوانه في فنون الدجل وأن عشرات الألوف من اليهود يتبعون هذا الدجال الأخير..!!

وقبل أن أذكر نماذج من الأحاديث الواردة أقرر حقيقة واحدة هي أننا نحن المسلمين نؤمن بإله لا حدود لمجده ولا منتهى لكمالاته ومحامده، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

خلقنا ورزقنا وكسانا وآوانا وعلمنا وربانا وأفاض علينا من آلائه مالا يحصى، وأننا سنظل نذكره ونعبده ما بقينا على ظهر الأرض، مستعدين بذلك للقائه بعد الموت لنستأنف حياة أخرى عنده عامرة بالثناء عليه والتسبيح بحمده!.

ذلكم هو الصراط المستقيم الذي نهزم به الفتانين ونر به الشياطين، ونراغم به كل دجال يحاول إضلالنا أو ثنينا عن هدفنا العظيم..!.

بعد هذه المقدمة أذكر بعض ما قرأت عن الدجال بإيجاز، في حديث أنه مكبل بالقيود في إحدى الجزر ببحر العرب أو بالمحيط الهندي، ولقد لقيه تميم الداري وهو رجل كان نصرانيا وأسلم... ثم التقى برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحدثه بأنه لقى الدجال في وثاقه الذي يحبسه عن الانسياح في الأرض، وأنه موشك على الانطلاق ليقوم بفتنته آخر الزمان.

وفي حديث آخر وصف لأسرة الدجال، وفيه: إن أبويه يمكثان ثلاثين عاما لا يولد لهما ولد وأخيرا يولد لهما غلام أعور أضر شيء وأقله منفعة!.

قال أبو بكر رضي الله عنه: فسمعنا بمولود في المدينة بين اليهود، فيه شيء من هذه الصفات، فذهبت أنا والزبير بن العوام حتى دخلنا على أبويه، فإذا هما كما نعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ! ونظرنا إلى ابنهما فإذا هو منجدل في الشمس في قطيفة له وله همهمة... الخ.

قال الشارح: لعل الدجال ـ وقد ولد من يهود المدينة ـ قد انتقل بعد ذلك الى الجزيرة التي رآه فيها تميم الداري!!.

وللنواس بن سمعان حديث طويل في الدجال، ذكر فيه طرفا من القوة التي زود بها أو الفتنة التي يثيرها بين الناس قال: «... يأتي على القوم فيدعوهم ـ الى عبادته ـ فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتبنت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى وأسبغه ضروعا وأمه خواصر...!!

أما الذين يكفرون به فينصرف عنهم فيصبحون مملحين ليس بأيديهم شيء من أموالهم..!!.. الخ.

ثم ينزل عيسى بن مريم فلا يزال يطارد الدجال حتى يدركه باللد فيقتله، ويريح الناس من شروره...

والأحاديث التي اقتبسنا نتفا منها هي أحاديث آحاد، وبعضها في الصحاح..

والروايات عنه كثيرة. وفي إحداهما: أنه مكتوب بين عيني الدجال (ك ف ر) أي كافر يقرؤه كل مسلم!!

وفي رواية عن أم شريك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ليرن الناس من الدجال في الجبال! قالت أم شريك: يا رسول الله، فأين العرب يومئذ؟. قال: هم قليل…».

ويظهر لي أن الدجال من زعماء اليهود، وقد يكون من كبار علمائهم الكونيين، وهو يمثل عوج الضمير اليهودي وانقطاعه عن الله، بل عداوته له..

وقصته قبيل الساعة تمثل خاتمة الصراع السيء بين أتباع الأديان الثلاثة.. فاليهود بقيادة مسيحهم يحاولون الظهور والسيطرة والنصارى مستمسكون بأقانيمهم وتثاليثهم وصلبانهم وسيرتهم الاجتماعية المعروفة، وهم يظاهرون اليهود على العرب.

والمسلمون فرق شتى فيهم الصالح المستميت في المقاومة، وفيهم التائه الهائم على وجهه.

ومع اشتداد الصراع الديني يقدم الزحف الأحمر من الشرق جيشا بعد جيش، وفوجا بعد فوج. فلا يصده شيء....

في غمار هذه الفوضى الضربة ينزل عيسى بن مريم ليؤيد عقيدة التوحيد. ويصدق النبوة الخاتمة ويقتل إله اليهود. ويواجه بالمسلمين الزحف الأحمر. زحف يأجوج ومأجوج حتى يقضي بقدر الله عليه.

ذاك ما فهمته من حشد هائل من الأحاديث التي تباينت فيها عبارات الرواة، وتخللتها بعض الأوهام.

وفي القرآن الكريم إشارات موجزة لبعض ما فهمنا...

ونترك الأحداث العظام التي تقع قبيل الساعة الى بعض مشاهد القيامة. ومواقف الحساب أمام رب العزة: لا ريب أن يوم الحساب يوم رهيب، يلقى فيه العصاة والفجار ما لم يخطر لهم ببال «يوم يكشف عن ساق ويدعون الى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة. وقد كانوا يدعون الى السجود وهم سالمون»(88)!

والآيات تعني أن الذين ألفوا العصيان في الدنيا والتمرد على الله يحشرون بعاداتهم التي ألفوها من قبل، فلا يقام لهم عوج. ولا ينظم لهم خلل. وتكون حالتهم على تلك المشاهد وهم يقادون الى العذاب ويوقع بهم القصاص...

لقد أبوا في دنياهم إلا أن يكونوا أشرارا فليذوقوا ما ارتضوا لأنفسهم’

وكلمة «يوم يكشف عن ساق» تعبير عربي أصيل قال ابن عباس: تقول العرب للرجل إذا وقع فيأمر عظيم فظيع يحتاج فيه الى الجد ومقاسات الشدة: شمر عن ساقك!.

ولما سئل عن هذه الآية قال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن. فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب. أما سمعتم القائل:

سن لنا قومك ضرب الأعناق

وقامت الحرب بنا على ساق!

وأنشد أبو عبيدة:

فإن شمرت لك عن ساقها

فدتها ربيع، ولاتسأم!

وقال جرير:

ألارب ساهى الطرف من آل مازن

إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا

على هذا الأساس فهم ابن عباس ـ وهو ترجمان القرآن ـ الآيات، وتبعه العلماء من الصحابة والتابعين، وما نعرف إلا هذا التفسير للوحي الكريم..

حتى جاء بعض المولعين بمشكل الحديث وغريب الروايات، فذكروا كلاما آخر لابد من كشف حقيقته لخطورة مضامينه وشذوذها عما يعرف علماء المسلمين.. قالوا: إن الساق هي العلامة التي يعرف بها المؤمنون ربهم في امتحان عصيب يجرى لهم يوم القيامة!!.

والقصة كما ذكروها تتلخص في أنه بعد إلقاء المشركين في العذاب يبقى المسلمون وحدهم: «حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها! فقال: ماذا تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد! قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم! ولم نصاحبهم! فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب!.

فيقول: هل بينكم وبينه آية؟ فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم! فيكشف عن ساق. لا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود. ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة. كلما أراد أن يسجد خر على قفاه! ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال: أنا ربكم؟ فيقولون أنت ربنا...»!.

هذا سياق غامض مضطرب مبهم!! وجمهور العلماء يرفضه، وقد حاول القاضي عياض القول بأن الذي جاء المؤمنين في صورة أنكروها أول الأمر هو أحد الملائكة، وكان ذلك اختبارا من الله لهم.. وهو آخر اختبار يلقاه المؤمنون!!

ومحاولة القاضي عياض لا تقدم ولا تؤخر، فليست الآخرة دار اختبار، إن الاختبار تم في الدنيا، كما جاء في البخاري «اليوم عمل ولا جزاء وغدا جزاء ولا عمل»

ثم لماذا يقوم أحد الملائكة بهذه التمثيلية المزعجة؟ وبإذن من؟ وما جدواها؟

وإذا تركنا كلام عياض لنتأمل في الوقائع نفسها وجدنا ما يستحيل عقلا ونقلا أن يقبل! فإن الله لا يجيء في صورة تنقص عظمته وجلاله، ثم يبدو في صورة حقيقة بعد ذلك، مهما قلنا: إن المقصود بالصورة هو الصفة!!.

الحديث كله معلول، وإلصاقه بالآية خطأ، وبعض المرضى بالتجسيم هو الذي يشيع هذه المرويات. وإن المسلم الحق ليستحي أن ينسب الى رسوله هذه الأخبار.

سلف الأمة وخلفها متقون على تنزيه الله سبحانه، وعلى أنه أهل الثناء والحمد والمجد.

والسلف والخلف يستنكرون ما جاء في كتب اليهود والنصارى مفيدا لتجسيد أو ناسبا الى الذات الأقدس ما لا يليق بجلاله وجماله، تباركت أسماؤه..

وجمهور حكمائنا يلومون «المعتزلة» على تأثرهم بفلسفة الإغريق، وتصورهم للإله الواحد تصوروا نظريا يكاد يجعله ـ من الغلو في التجريد ـ وهما..

ولست أحب أن أحيي الجدل القديم، ولا أن أخوض فيه، ولا أن أعلق عليه، فقد كرته بفطرتي! واعتمدت على القرآن الكريم وأنا أبني العقيدة في نفسي وفي المجتمع الذي أعيش فيه.

ولعلي استفدت من أستاذي حسن البنا في هذا الاتجاه، كما استفدت من الشيخ محمد عبده في اعتذاره عن الأقدمين واعتباره العراك الناشب بينهم لفظيا لا حقيقيا.

وربما قيلت كلمات في المساجلات الأولى تحتاج الى ضبط، أو تفهم في نطاق ملابسات خاصة وإلا فهي كلمات مرفوضة..

من ذلك ما نقل عن بعض علماء السلف: أنهم لا ينفون ولا يثبتون جسيمة لله تعالى! إن ظاهر هذا الكلام مردود، وهو مناف للآية الكريمة «ليس كمثله شيء» إننا ننفي الجسيمة بداهة، وفي عصرنا هذا استيقنا من أن الجسم مادة، وللمادة خصائصها التي تدرس في علم الطبيعة، ومن المستحيل أن يتصف الله سبحانه بشيء من تلك الخصائص..

ونحسب أن المبالغة في التمسك بالنقل هي من وراء تلك العبارات الحذرة، وقد لجأ الخلف الى تأويل كل ما يوهم المادية،وآثر السلف عدم الخوض في هذه المرويات مفوضين المعنى الى اله، ومؤمنين بدلالتها مع إثبات التنزيه المطلق لرب العالمين.

والخطب سهل كما قلت، بيد أننا حين نفتح باب التفويض نأبى أن تدخل منه آثار معلولة، فإن العقل المسلم لا يخدع بهذا الأسلوب.

واضطرب القول يقع في الأمور الغيبية كما يقع في الأمور التكليفية العملية ولا يضير الإسلام أن تتشابه الأمور على أحد الرواة، فالكتاب معصوم والسنة في جملتها سليمة، وليس العجب من غلط يقع فيه راو وإنما العجب من قبول هذا الخطأ ثم الحماس في الدفاع عنه، ولم يكن ذلك شأن الأئمة ولا منهج السلف والخلف...

روى مسلم بسنده سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث اله إليها ملكا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء فيكتب الملك!.

ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما يشاء ويكتب الملك!.

ثم يقول الملك: يا رب رزقه؟ فيقول ربك ما يشاء ويكتب الملك!.

ثم يخرج الملك الصحيفة، فلا يزيد على أمر ولا ينقص»

أما البخاري فيروي عن ابن مسعود، حثنا الصادق المصدوق أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه نطفة أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك.

ثم يبعث الله ملكا بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح... الخ.

وبين الروايتين تفاوت واضح، فالأخيرة تفيد أن الكتابة المذكورة بعد أربعة شهور والأولى تفيد أن الكتابة بعد اثنين وأربعين يوما...

وندع أمر الترجيح والرد والقبول للمشتغلين بهذا الأمر، ف"، أي مسلم لو ذهب الى الله ب"يمان واضح وعمل صالح فلن يضيره الجهل بأحد الحديثين أوبهما معا.

إن قواعد الإيمان وأركان الصلاح مشروحة في الكتاب والسنة وليس من بينها الإحاطة ببدء الخلق، والأزمنة التي يستغرقها، وحسبنا ما أثبته القرآن الكريم في هذا المجال، ولتتجه العزائم بعد ذلك الى الجهاد وما يهب رفيع الدرجات!.

إن القاصرين من أهل الحديث يقعون على الأثر لا يعرفون حقيقته ولا أبعاده، ثم يشغبون به على الدين كله دون وعي، خذ مثلا ما يقطع الصلاة، فقد تشبثوا بحديث يقول إن الصلاة تقطعها المرأة، والحمار، والكلب الأسود!

وجمهرة الفقهاء رفضت هذا الحديث، واستدلت بأحاديث أخرى تفيد أن الصلاة لا يقطعها شيء، وأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يصلي وزوجته عائشة مضطجعة أمامه، كما أن ابن عباس مر بحمار كان يركبه أمام جماعة تصلي، فلم تفسد لها صلاة، والكلاب أبيضها وأسودها سواء!.

للشيخ أحمد شاكر ـ وهو من أكابر علماء السلف ـ رأي يستحق التسجيل وتتضح به هذه القضية، ذكره في تعليقاته على «المحلى» لابن حزم في سياق رواية جاء فيها «.. سمعت عمر بن عبد العزيز يحدث عن عياش ابن أبي ربيعة قال: بينما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي يوما بأصحابه إذ مر بين أيدينا حمار! فقال عياش: سبحانه اله! فلما انصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من صلاته قال: أيكم سبح؟ قال عياش: أنا يا رسول الله! سمعت أن الحمار يقطع الصلاة فقال رسول اله لا يقطع الصلاة شيء!.

وقد قلت في شرحي على التحقيق لابن الجوزي بعد رواية هذا الحديث: هذا إسناد صحيح.

وشرح الشيخ أشياء تحتاج الى بيان ثم قال وهو صريح في الدلالة على أن الأحاديث التي فيه الحكم بقطع الصلاة ـ بالمرأة والحمار والكلب ـ قد نسخت!.

فقد سمع عياش أن الحمار يقطع الصلاة، وعياش من السابقين الذين هاجروا الهجرتين، ثم حبس بمكة، وكان رسول اله يدعو له في القنوت كما ثبت في الصحيحين، فعلم الحكم الأول ثم غاب عنه نسخه، فأعلمه رسول الله بعد أن الصلاة لا يقطعها شيء.. قال الشيخ شاكر رحمه الله: وهذا تحقيق دقيق واستدلال طريف أر من سبقني إليه!.

ولست ممن يبنون العلالي على الخلافات في فروع الفقه وإنما تعنيني سمعة الإسلام عندما يسافر امرؤ متعصب الى أوربا وأمريكا ثم يذكر للناس أن المرأة والكلب والحمار سواء في إفساد الصلاة عند مرورها...!.

وخير له أن يتبع جمهور الفقهاء أو يلوذ بالصمت، ويمنع الفتنة، ولا يثير الدخان حول سمعة الإسلام.

عندما كتبنا في أحد مؤلفاتنا أنه لا سنة بلا فقه كنا نريد أن نمنع أناسا يشترون أحد كتب الحديث، ثم يطالعون أثرا لا يدرون ما قبله ولا ما بعده، ثم يحدثون فوضى قد تراق فيها الدماء...

كان نقض البيعة في تاريخنا القديم يعني الخروج المسلح على دولة الخلافة، فإذا هو يتحول في أذهان بعض الشباب الى مارقة إحدى الجماعات العاملة في الميدان الإسلامي ورفض الولاء لشاب تعين أميرا على هذه الجماعة!.

وقد شاعت أحكام فقهية كثيرة مصدرها هذا الاطلاع الطائش...

وسائل وغايات

ـ المتغير والثابت في...

1 ـ ميدان الجهاد
2 ـ ميدان الشورى

ذكرنا في بعض ما كتبنا: الحديث الشريف وهو: «أنتم أعلم بشئون دنياكم» وقلنا: إن شئون الدنيا تتبع اجتهاد البشر مؤمنهم وكافرهم، وإن الأنبياء لم يبعثوا ليعلموا الناس الحرف وفنون الصناعات وأنواع الزراعات كما لم يبعثوا مهندسي معمار أو طرق وجسور، وكذلك ما بعثوا، أطباء بطون وعيون، إن صميم رسالاتهم هو شرح العقائد والعبادات والأخلاق وتزكية النفس والمجتمع، وبث التعاليم التي تحكم صلات الناس بربهم وصلة بعضهم بالبعض الآخر، وتعدهم للعودة الى الله أتقياء بررة...

وهناك ميادين أخرى تشبه ميادين الدنيا في حرية الحركة والاختراع والمنافسة! هي ميادين الوسائل التي لابد منها لتحقيق غايات دينية مقررة، ترك الشارع للمؤمنين كيفية بلوغها، ولم يذكر فيها أحكاما ملزمة!.

إن الصلاة واجبة، ولابد لأدائها من أغسال فصلها الشارع، فالوسائل هنا لابد من القيام به دون تزيد ولا انتقاص..

والجهاد واجب، ولكن أدوات الجهاد وأساليبه ليس لها قالب معين تصب فيه! فإذا تغيرت الوسائل من السيف والرمح الى المدافع والصواريخ تغيرت معها الأحكام القديمة وتحول رباط الخيل الى إنشاء المطارات والحصون الحديثة، وإلى إنشاء معاهد العلوم الكيماوية والذرية والفلكية... الخ.

قديما كان الرجل يشتري سلاحه من ماله الخاص، ويتعهد صيانته ويترب عليه! فإذا سمع النداء خرج راجلا، أو خرج معه فرسا الذي ارتبطه في سبيل الله، فإذا استشهد خلف أيامي ويتامى! وإذا جرح تحمل مداواة نفسه!.

ونظام الغنائم ـ في مثل هذه الأحوال ـ لابد منه، بل هو العدالة المفروضة..

وقد وردت نصوص كثيرة تشرحه وتحدد أنصبته!.

أما اليوم فقد تغيرت الظروف تغيرا جذريا، فالدول تجند الأفراد تجنيدا عاما، يأتيها الشاب فتطعمه وتكسوه وتضع بين يديه سلاحه الذي اشترته له، وتعده للمعركة أتم إعداد، فإذا جرح داوته، وإذا قتل كرمته وتولت الإنفاق على أهله وولده...

وهو طول حياته يأخذ مرتبا حسنا، قد يتنامى مع اختلاف الرتب التي يتقلب فيها... وهذا النظام أمسى ضرورة لا محيص عنها، ولا يمكن ترك الدفاع لرغبات التطوع أو لظروف الأفراد! إن ذلك يجعل الأمم تداس في زحام الأحياء وبطش الأقوياء!.

ومع الأنظمة الجديدة يتغير نظام الغنائم تغيرا تاما،! وتنشئ الدولة تعاليم جديدة لمعاقبة مجرمي الحرب، ومعاملة المحسن والمسيء.

وعى ضوء ما ذكرنا نفهم ما رواه البخاري «قسم رسول الله ـ الغنائم ـ يوم خيبر للفرس سهمين(89) وللراجل سهما»..

ومع أن الاختلاف رفضوا الحديث، وقدموا عليه حديثا آخر وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام «أعطى الفارس سهمين والراجل سهما(90)» فنحن نرى القضية كلها منتهية، لأن دور الخيالة والرجالة انقضى وأضحى كسب الحرب منوطا بأجهزة أهم وأدق، تعمل فيها المدرعات والطائرات...

وكذلك ينتهي العمل بمبدأ «من قتل قتيلا فله سلبه»

ويجوز للدولة أن تمنح جوائز خاصة لمن أبلوا بلاء حسنا..

ونعرض هنا لقوله تعالى: «واعلموا انما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير»(91).

ونسارع الى القول بأن القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن نصوصه باقية إلى آخر الدهر، لا ينسخها شيء!!.

ونتساءل ما معنى هذه الآية؟ هل ثمانون في المائة من الغنائم يقسم على الجيش، ويوزع الخمس الباقي على مصارفه المذكورة في الآية؟ وكذلك يرى أغلب الأئمة..!

ونحن نرجح رأى الإمام مالك رضي الله عنه، الذي يرى التخميس أحد الصور التي تقوم بها الدولة، ولكنها غير ملزمة به إذا رأت المصلحة في غيره، فالأمر إليها تنظر في الغنائم نظرة أوسع...

ويستشهد مالك على مذهبه بأن الرسول ـ عليه الصلاة واسلام ـ وزع غنائم حنين فأعطى الطلقاء عطاء ما توقعه أحد، كادت قلوب الأنصار تحزن منه! حتى شرح لهم الحكمة مما صنع..!

ونضم الى هذا الدليل وغيره ـ مما استدل به مالك ـ ما صنعه عمر بن الخطاب في الأراضي المفتوحة، فقد رفض تقسيمها أخماسا على الفاتحين، واكتفى بإعطائهم مرتبات من الضرائب المفروضة عليها...

وجمهور العلماء يدخل القضية في باب المصالح المرسلة، ولا ريب أن مسلك عمر كان أرشد وأجدى على الإسلام وأمته.

إن الوضوء وسيلة للصلاة لا مجال للرأي فيها لأن الشارع ضبطها بنص محكم، أما أدوات الجهاد ووسائله فلم يضبطها الشارع أو يضع لها إحصاء، ومن ثم كان العقل مرجعها الأول...

ولا حرج علينا أن ننقل أحث الأسلحة من شرق أو غرب، ولا حرج أن يدربنا عليها الإخصائيون المهرة من أي لون وملة، ويبقى أن نستخدمها وفق قواعد الشرف التي سنها الإسلام!.

والشورى مبدأ إسلامي عظيم! لكن وسائل تحقيق الشورى وضبط أجهزتها لم يتقرر لدينا، ويظهر أن هذا مقصود لاختلاف البيئات والمستويات الحضارة، بل إننا لاحظنا أن أمة واحدة رفيعة الحضارة غيرت وسائل الشورى فيها عدة مرات حسب تجاربها ومنافعها.

وما حث في فرنسا خلال أقل من نصف قرن نموذج لذلك التغيير..

والشورى في دولة الخلافة برزت في صور شتى، وليس المهم أي طراز نستمسك به؟ بل المهم أن نوفر الضمانات والأساليب التي تجعل الشورى حقيقة مرعية، فيختفي الفرد المستبد، وتموت الوثنيات السياسية، ويترجح الرأي الصحيح دون عوائق، ويتقدم الرجل الكفء دون أحقاد...

هل يمكن ذلك في غيبة العقائد والأخلاق؟ هذا مستحيل! لقد نقل الشرق الإسلامي صورة الديمقراطيات الغربية في مرحلة هابطة من تاريخه، صرعته فيها مواريث جاهلية، وخدعته تقاليد استعمارية سفيهة، فماذا حدث؟ تم تزوير الانتخابات على نحو مذهل، وشقت الوثنيات السياسية طرقها وسط هالة من تأييد شعبي مكذوب!.

ولو أن بعثة من النقاد والرواد زارت مزبلة التاريخ لوجدت في رغامه عددا من زعماء العرب والمسلمين، قتلوا الألوف المؤلفة لتكون لهم أمجاد ولتهتف بأسمائهم بلاد! وهم مع هذه الفرعنة زعماء الشعب المحبوبون...

يؤسفنا أن الشورى أينعت ثمارها في أقطار وسعة وراء دار الإسلام.

ونحن نطلب الشورى، ونريد اعتبار الوسائل المؤدية لها فروضا عينية على أساس من القاعدة الفقهية «ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب».

ويتقاضانا ذلك وضع تفاسير صحيحة لأحاديث الأمر والنهي وتغيير المنكر ومقاومة مرتكبي الكفر البواح، وتوضيح الفروق الدقيقة بين المعارضة المشروعة والثورة التي تنقض بنيان المجتمع، أو بين النقد الواجب، والخروج المسلح...

من خصائص «الديمقراطية» الحديثة أنها اعتبرت المعارضة جزءا من النظام العام للدولة! وأن للمعارضة زعيما يعترف به ويتفاهم معه دون حرج! ذلك أن مالك السلطة بشر له من يؤيده وله من ينقده، وليس أحدهما أحق بالاحترام من الآخر...

والواقع أن هذه النظرة تقترب كثيرا من تعاليم الخلافة الراشدة، إن علي بن أبي طالب لم يستبح من عارضوه، أو يحشد الجموع لضربهم، بل قال لهم: ابقوا على رأيكم ما شئتم على شرط ألا تحدثوا فوضى ولا تسفكوا دما، أي أن الرجل العظيم يريد معارضة بناءة لا هدامة، ولا يرى أن الاعتراض على شخصه منكر!.

وعبارة علي رضي الله عنه للخوارج هي «كونوا حيث شئتم، وبيننا وبينكم ألا تسفكوا دماء حراما، ولا تقطعوا سبيلا، ولا تظلموا أحدا! فإن فعلتم نفذت إليكم بالحرب!».

قال عبد الله بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام.

قال الصنعاني: فدل ذلك على أن مجرد الخلاف على الإمام لا يوجب قتال من خالفه، وبهذا التفكير الصائب فسر الحديث الشريف«من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة. وما فميتته ميتة جاهلية» أي كأهل الجاهلية إمام له.

ذلك كله ما لم يجنح الى الثورة المسلحة، فإن جنح إليها فله حكم آخر، وعن عبد الله بن عمر قال رسول الله ـ صلى اله عليه وسلم ـ: «من حمل علينا السلاح فليس منا»..

وقد تكون للديمقراطية الحديثة مثالب في أنها توفر الحرية للطاعة والفسق، والإيمان والكفر!.

ولكن هذه المثالب تختفي عندما يوضع في صلب الدستور أن الإسلام دين الدولة وأن الشريعة المصدر الأوحد للقوانين، وأن ما خالفها يسقط من تلقاء نفسه!.

ولولا غلو الغلاة من أصحاب العقائد، وعدوانهم على مخالفيهم في الرأي ولو كان هامشيا ما اتسعت دائرة الحرية الى حد قبول المتناقضات وإقرار الرذائل والشهوات..

بيد أن هناك سؤالا لا نوارب في الإجابة عليه: هل محاربة الإسلام ذاته تحت عنوان محاربة التطرف لون من الديمقراطية؟ هناك سلطات في العالم العربي والإسلامي تكره كل اكره ما أنزل الله، وتثور ثائرتها إذا رأت فتاة مستورة الرأس والأذرع، وترفض بغضب كل صيحة لإلغاء الأحكام التي جلبها الاستعمار العالمي عندما طوانا تحت رايته! فهل هذه ديمقراطية! أم أنها امتداد للإذلال القديم وللغارة الصليبية على العالم الإسلامي؟.

إن هناك من يريد قتل الشعب باسم الشعب، ووأد الحرية باسم الحرية، وفي مزبلة التاريخ ـ كما قلنا آنفا ـ زعماء من هذا القبيل المحقور، فعلوا بالمسلمين الأفاعيل..!!

وهناك من رجال الدين من يمشي في مواكبهم رابا في دنياه، زاهدا في أخراه، مستوجبا لعنة الله...!

إن للغايات الجليلة وسائل نبيلة تعين على إدراكها، ومن غير هذه الوسائل يصعب أن تقوم شورى صحيحة كما يصعب أن يقوم جهاد نزيه ناجح!.

ويستطيع أولو الألباب أن يحددوا الغايات الثابتة والوسائل المتغيرة، والفقهاء في الكتاب والسنة أقدر الناس على ذلك...

على أن هناك استدراكا حول ما ذكرنا من شئون الدنيا، وتجدد الوسائل.

صحيح أن الناس أعلم بشئون دنياهم، وبما يقرب لهم ما يصبون إليه من أهداف عظام..

لكن المهارة في الدنيا خطيرة الآثار، وكذلك الخبرة الإدارية الواسعة! ويوم يكون الملاحدة مكرة مهرة خبراء أذكياء، ويكون المؤمنون سذاجا أغرارا فإن مستقبل الإيمان على ظهر الأرض ضائع يقينا..

إن بعض الأتقياء يستكثرون حفظ النصوص ومطالعة الآثار على حين تراه في شئون الحياة غفل الذهن خالي الصحيفة، فماذا يكسب الدين من هذا الشخص؟.

لقد نجحت خرافات وسبقت أوهام لأن وراءها من أحسن خدمتها بقدراته وخبراته! على حين جمدت رسالات الله، وساءت بها الظنون لأن أتباعها أنصاف أذكياء وأنصاف عاملين.. ولا نطيل في هذه القضية فطالما خضنا فيها...

وإنما ألفت النظر في عجالة سريعة الى فشل المتدينين في عرض آرائهم الدينية وتزيينها في القلوب، بل إن الدعاية الدينية تكاد تكون مهزومة في ميادين الإعلام..

والأمر لا يحتاج الى استيراد مواد من الخارج! إنه يحتاج الى استحياء الملكات الخامدة في نفوس المؤمنين، وهي ملكات خمدت من طول تزويق الظاهر، ونسيان الباطن..

إنني ألقى ناسا يزعمون أنفسهم أقطابا، وهم فقراء الى المبادئ الأولى في تربية النفس، وإخلاص القلب ونشدان وجه الله ـ وما أبرئ نفسي بل أسأل ربي المغفرة ـ إننا عندما نصدق نخترع ما لا يخطر ببال لخدمة الحق، ونقتحم آفاقا ما عرفها الأولون، ونكسب معارك كثرت فيها هزائمنا من قبل..

القدر والجبر

  • ـ العلم الإلهي الشامل
  • ـ معنى سبق الكتاب
  • ـ رد ما يفيد الجبر مثل إن الله خلق للنار ناسا وللجنة ناسا
  • ـ عرض آيات الاختيار الحر والجزاء والعدل
  • ـ معنى الآية «لو شاء لهداكم أجمعين»
  • ـ مظاهر الإرادة العليا
  • ـ ندم المذنبين يوم القيامة ودلالاته
  • ـ نظرة في ختام سورة المؤمنين
  • ـ نظرة عامة الى أحاديث القدر

العلم الإلهي مسطور في كتاب ضابط شامل محيط. «ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض؟ إن ذلك في كتاب، إن ذلك على الله يسير»(92).

وهذا الكتاب يضم عالمي الغيب والشهادة، ويتناول الأصغر والأكبر من مثاقيل الذر، فالله لا يخفى عليه شيء «عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين»(93).

وفي تفصيل آخر لمحتويات هذا الكتاب يقول جل شأنه: «... ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين»(94).

وبديهي أن أعمارنا وأرزاقنا وتفاصيل حياتنا ومواعيد وفاتنا بعض محتويات هذا الكتاب. فليس من المعقول أن يجهل ربنا شئون ما خلق ومن خلق، أو يجهل الخط التي وضعها لسير الكون وسكانه، والأرض وقطانها، أو يجهل مراحل تنفيذها بما هيأ من أدوات «وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور. ألا يعلم من خلق؟ وهو اللطيف الخبير»(95).

والناس كلهم كافرهم ومؤمنهم، طفلهم وشيخهم ينالون ما سطر لهم في هذا الكتاب، بل المخلوقات من جماد وحيوان تتحرك في دائرة هذا العلم السابق الصادق. قال تعالى: «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير»(96).

وقد أمر الله المؤمنين أن يستريحوا لهذا العلم القديم، ويستكينوا لحقيقته «قل: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون»(97).

إن هذا العلم الأعلى يتناول ملكوتا نشغل نحن البشر حيزا صغيرا منه، وما نري شيئا عن آماده! ما لنا وللمريخ أو للشعري، أو لغيرهما من العوالم؟

كما يتناول في حياتنا على ظهر الأرض نوعين من الأعمال، نوعا لا ندري كيف بدأ، ولا أين يتجه، ولا متى يتوقف؟ وهذا النوع من الأعمال وإن مس حياتنا من قريب أو بعيد فلسنا مسئولين عنه ولا مؤاخذين بخيره أو شره!

إن الأقدار حولنا تصنع الكثير مما نفهم وما لا نفهم، وهذا الكثير يتحول إلى أسئلة عملية نجيب عليها بسلوكنا، ترى أنصبر في البأساء والضراء؟ ترى أنشكر في النعماء والسراء؟.

إن البشر جنس محكوم ومختار في آن واحد، إنه محكوم بالإمكانات التي في كيانه والملابسات التي من حوله!، ومختار في موقفه من هذه وتلك...

ونريد أن نقول مصارعين وحاسمين إننا لن نسأل أبدا عما لا إرادة لنا فيه، ولكنا نسأل يقينا عما نملك فيه حرية الاختيار..

وبعض الناس يحلو لهم الخلط بين الأمرين أحيانا، وهذا لون من الجدل المحقور والمشاقة لله ورسله، ولنا مع هؤلاء حديث قد يطول...

لقد شاء الله ـ لحكمة لا نعلمها ـ أن يخلقنا ويكلفنا، وقال في وضوح: «خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور»(98)، فجاء من يزعم أن الحياة رواية تمثيلية خادعة! وأن التكليف أكذوبة! وأن الناس مسوقون الى مصايرهم المعروفة أزلا طوعا أو كرها! وأن المرسلين لم يبعثوا لقطع أعذار الجهل، ومنع الاحتجاج. المفروض، بل المرسلون خدعة تتم بها فصول الرواية أو فصول المأساة..!

والغريب أن جمهورا كبيرا من المسلمين يجنح الى هذه الفرية، بل إن عامة المسلمين يطوون أنفسهم على ما يشبه عقيدة الجبر، ولكنهم حياء من الله يسترون الجبر باختيار خافت موهوم..

وقد أسهمت بعض المرويات في تكوين هذه الشبهة وتمكينها، وكانت بالتالي سببا في إفساد الفكر الإسلامي، وانهيار الحضارة والمجتمع...

إن العلم الإلهي الذي ذكرنا شموله وإحاطته وصاف كشاف، يصف ما كان ويكشف ما يكون، والكتاب الدال عليه يسجل للواقع وحسب! لا يجعل السماء أرضا ولا الجماد حيوانا إنه صورة تطابق الأصل بلا زيادة ولا نقص، ولا أثر لها في سلب أو إيجاب..

وعندما يذكرنا ربنا بهذا كله فلكي يكشف لنا جانبا من عظمته حتى نقدره حق قدره..

وعندما نتعلم منه أن ما نجهل من مستقبل، هو مكشوف لديه فليس معنى هذا أن الامتحان الذي نتعرض له صوري وأننا مسوقون الى هذا المستقبل برغم أنوفنا...

إن هذه الأوهام تكذيب للقرآن والسنة، فنحن يجهدنا وكدحنا ننجو أو نهلك، والقول بأن كتابا سبق علينا بذلك، وأنه لا حيلة لنا بإزاء ما كتب أزلا... هذا كله تضليل وإفك لقوله تعالى: «وقد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها...»(99). «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن من شاء فليكفر»(100).

والواقع أن عقيدة الجبر تطويح بالوحي كله، وتزييف للنشاط الإنساني من بدء الخلق الى قيام الساعة، بل هي تكذيب لله والمرسلين قاطبة..

ولما كانت بعض المرويات مسئولة عن هذا البلاء فقد أحببت أن أشرح القضية بضرب بعض الأمثلة..

قد يقول لك الأستاذ بعد ما خبر تلامذته في قاعة الدرس: إنني أعتقد أن لانا سوف ينجح وفلانا سوف يرسب.. ثم يعقد الامتحان آخر العام ويدخله الطلاب، فإذا رأي الاستاذ يتحقق! فيقول لك مباهيا: إن كلامي لا يقع على الأرض، كان لابد أن يتحقق ما قلت!.

هل معنى ذلك أن رأي الاستاذ هو الذي أنجح هذا وأسقط ذاك؟ كلا، إن ذلك نجح بجهده، وذاك سقط بلعبه.. وما قول الأستاذ إلا تصوير لصدق حكمه(101).

إن لله المثل الأعلى، وعلمه بكل شيء مستيقن، وعلمه السابق الذي لا يتخلف ليس سببا في نجاة ولا هلاك، إنه لا يختلف لأنه علم الله الذي يستوي عنده الماضي والحاضر والمستقبل. والظن بأن نجاة من نجا وهلاك من هلك هو أثر إكراه الله لهذا وذاك هو من الظن السوء، وما أراه إلا كفرا..!!

ومن ثم فإننا نتناول بحذر شديد ما جاء في حديث مسلم «فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب يعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحكم ليعمل بعمل أ÷ل النار... الخ».

إذا كان الحديث المذكور تنويها بشمول العلم الإلهي، وأن بدايات بعض الناس قد تكون مخافة لنهاياتهم فلا بأس من قبوله بعد الشرح المزيل للبس، المبطل للجبر..

أما المعنى القريب للحديث فمردود يقينا، وهو مخالف للكتاب والسنة، أو للعقل والنقل..

وأذكر هنا: أن الإمام مالكا في موطئه روى حديث عائشة ـ الذي نقله مسلم ـ «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسو الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهن فيما يقرأ من القرآن»(!) الإمام مالك: ليس على هذا العمل... ورفض الحديث.

وحق له أن يرفضه، وقد بنى مالك مذهبه كالأحناف على أن مطلق الرضاع يحرم..

ونحن نؤكد مرة ومرتين أنه ليس لروايات الآحاد أن تشغب على المحفوظ من كتاب الله وسنة رسوله، أو أن تعرض حقائق الدين للتهم والريب

وقد قرأت ما رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى: «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين»(102).

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسأل عنها فقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره، فاستخرج منه ذرية فقال: هؤلاء خلقت للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال: فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن الله إذا خلق العبد للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار».

وهذا السياق يكاد يكون نصا في الجبر، ولذلك نرفضه، ونراه من أوهام الرواة، بل نراه من الجهل بمعاني القرآن الكريم!.

فإن هذا التفسير المنسوب لعمر يسير في اتجاه مضاد للتفسير البديهي المفهوم من الآيات البينات، الآيات تقول للمشركين عن رب العزة: لا وجاهة لكم عندي، ليس لكم عذر قائم ولا حجة ناهضة، إنني منحتكم عقلا يفكر وفطرة تبعث على التوحيد والاستقامة، وأنزلت ما يمنعكم من تقليد الآباء الجهلة، فلماذا تجاهلتم هذه المعالم كلها، وهمتم على وجوهكم في طرق الشر والغواية... أفبعد هذا التفصيل والتوضيح تبعدون عني ولا ترجعون إلي؟.

هذا هو تفسير الآيات كما ينقدح في ذهن كل عاقل، وكما يثبت لأول وهلة في فهم القارئ العادي..

ولنذكر الآيات كما وردت في القضية كلها:

«وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنسهم أست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غالين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون. وكذلك نصل الآيات ولعلهم يرجعون» (الأعراف: 172 ـ 174).

فأين ـ يا أولي الألباب ـ آثار الجبر الإلهي هنا؟ وأين ما يفيد أن الله خلق ناسا للنار يساقون إليها راغمين، وخلق ناسا للجنة يساقون إليها محظوظين؟ إن التعلق بالمرويات المعلولة إساءة بالغة للإسلام، وينبغي ألا نتجاوز كتاب ربنا وسنة نبينا، فذاك نهج سلفنا الأول....

كل ميل بعقيدة القدر الى الجبر فهو تخريب متعمد لدين الله ودنيا الناس، وقد رأيت بعض النقلة والكتابين يهونون من الارادة البشرية، ومن أثرها في حاضر المرء ومستقبله، وكأنهم يقولون للناس: أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه، ومسوقون الى مصير لا دخل لكم فيه فاجهدوا جهدكم فلن تخرجوا عن الخط المرسوم لكم مهما بذلتم!.

إن هذا الكلام الرديء ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربنا، ولا اقتداء دقيق بسنة نبينا، إنه تخليط قد جنينا منه المر.!!.

يقول الله لكل بشر على ظهر الأرض: «فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون. من كفر فعليه كره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون»(103). فهل ربط الجزاء بالعمل هنا من قبيل المزاح أو الخديعة؟.

وعندما يصف ربنا جزاء الكذبة والمكذبين، ويذيقهم عقبى ماقدموا ويقول: «فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديد ولنجزينهم أسوأ الذين كانوا يعملون. ذلك جزاء أعداء الله. النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون»(104).

هل هذا الربط المتكرر بين العمل والجزاء؟ هل هذه النقمة المحسوسة على المجرمين، تومئ من قرب أو بعد إلى أن القوم كانوا أهل خير فلوى زمامهم قدر سابق، أو كتاب ما حق؟ ما أقبح هذا الفهم!.

في يوم الحساب يحصد الناس ما زرعوا لأنفسهم، والقرآن حريص كل الحرص على إعلان هذه الحقيقة: وهي إنك واجد ما قدمت! لن تؤاخذ أبدا بشيء لم تصنعه، لم تغلب على إرادتك يوما فيحسب عليك ما لم تشأ… إن المغلوب على عقله أو قصده لا يؤاخذ أبدا، بل إن التكليف يسقط عنه!!.

وتدبر قوله تعالى: «ألقيا في جهنم كل كفار عنيد. مناع للخير معتد مريب. الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد. قال قرينه: ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد. قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد. ما يبدل القول لي وما أنا بظلام للعبيد(105)».

ربنا سبحانه وتعالى ينفي الظلم عن نفسه، ويقول إنه ما عذب إلا من فرط وأساء.

ومع ذلك يجئ أقوام منا فيزعمون أنه رمى بناس في النار بعد أن قهرهم على طريقها، وأنه لا يسأل عما يفعل!! وليس بظالم فيما أوقع بعباده!!.

هذا تفكير أعمى لا يتصل بفطرة الله ولا يوحيه ويجب فطام العوام عنه!!.

وسبب هذا الشرود: سوء الفهم للآيات، وسوء النقل للاحاديث..

ولنضرب أمثلة لما ذكرنا: إن الحق يعرض على الناس، فمن قبله شرح الله به صدره، وأنار عقله، ومن أبى زاد الله قلبه ظلمة وسلوكه حيرة..

وعندما يضل الله مجرما فلن ينقذه أحد، ولن يجد وليا ولا نصيرا، وفي هذا يقول الله تعالى: «من يضلل الله فلا هادي له، ويذرهم في طغيانهم يعمهون»(106).

الجملة الأولى في الآية تفيد أن من عاقبه الله بالإضلال لن ينفعه أحد، والجملة الثانية تفيد أنه إنما أضله لطغيانه وعماه.

لكن البعض يقف عند الجملة الأولى وينسى الثانية أو يفهم أن طغيانه جاء نتيجة إضلال الله له وهذا جهل كبير، فإن إضلاله جاء نتيجة طغيانه، فالإضلال نتيجة لا سبب.

ويؤكد هذا قوله تعالى في موضع آخر: «قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا، حتى إذا رأوا ما يوعدون، إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا واضعف جندا. ويزيد الله الذين اهتدوا هدى....»(107)

وقد يجيء بعض الناس إلى آية يقف عقله الكليل عندها فيفهمها فهما مقلوبا مثل قوله تعالى: «فلله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين»(108).

أو قوله تعالى: «ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها، ولكن حق القول مني لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين»(109).

إنه يفهم أن الله خلق للنار ناسا، وخلق للجنة آخرين، ثم دفع هؤلاء دفعا الى الفنار ودفع هؤلاء دفعا الى الجنة، وقد سبق بذلك كتابه!!

وهذا كله جهل، فالآيات تعني أن الله كان قادرا على أن يخلق الناس كلهم ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون! لكنه ـ وهو المريد المختار ـ صنع البشر على مثال آخر، أو على نموذج فيه صلاحية للعوج والاستقامة، وأدخلهم في مسابقة عامة أو في اختبار حر وسوف تمتلئ النار بالساقطين وتمتلئ الجنة بالناجحين...

نعم هو من بدء الخلق يعرف ما سيكون، لكن علمه مبتوت الصلة بنجاة من نجا وهلاك من هلك.

وقد يتقعر البعض ويقول: ما تم شيء إلا بإذنه! ولكن نجيب على هذه الشبهة نقول:

إن المجرم يذهب الى حقل قمح ناضج السنابل حافل بالخير، فيشعل النار فيه، فإذا قبض عليه يقول: ما كانت النار لتشتعل لولا «الأوكسيجين» الذي خلقه الله في الهواء! ولو خلا الجو من هذا العنصر ما احترق الحقل، فالله هو المسئول عن جريمتي، إذ بإذنه تمت!.

إن إرادة الله مبثوثة في كل شيء، ولو قهرتنا على عمل ما حوسبنا، إننا نحاسب على ما قدمت أيدينا ولن نستطيع شرح العلاقة بين إرادة الله المحيطة، وبين الحرية المتاحة لنا في الاتجاه الى اليمين أو الشمال...

وتصيد الشبهات للفرار من المسئولية لا يجدى.

وكل أثر مروي يشغب على حرية الإرادة البشرية في نصع المستقبل الأخروي يجب ألا نلتفت إليه، فحقائق الدين الثابتة بالعقل والنقل لا يهدها حديث واهي السند أو معلول المتن.

لكننا مهما نوهنا بالإرادة الإنسانية لا ننسى أننا داخل سفينة يتقاذفها بحر الحياة بين مد وجزر، وصعود وهبوط، والسفينة تحكمها الأمواج ولا تحكم الأمواج.

ويعني هذا أن نلزم موقفا محددا بازاء الأوضاع المتغيرة التي تمر بنا.

هذا الموقف من صنعنا وبه نحاسب! أما الأوضاع التي تكتنفنا ليست من صنعنا، ومنها يكون الاختبار الذي يبت في مصيرنا..!

إن جراثيم الأمراض تملأ الجو، ولو أن كل عدوى تصيب لهلك البشر!

وإلا، فما قيمة جهاز المناعة الكامن في أجسامنا؟ وكيف يحمى؟ وكيف يفشل؟.

والصبغات الموروثة للخصائص المادية والنفسية والفكرية، ما نصيبنا منها؟ إن ذلك ليس إلينا وإن حدد المجال الذي يتم فيه اختبارنا.!.

إن الفلاح يرمي في التراب حفنات من البذور، قد ترتد اليه قناطير مقنطرة، وقد تعود عطاء محدودا، وقد تذهب سدى! وجهود الناس في الدنيا تتبع هذا المسار..

وقد نعزم وينفك عزمنا من تلقاء نفسه، وقد تعترضه عوائق تعصف به لأنه لا يطيق مواجهتها..

وقد نطيع حافزا نفسيا عابرا فيبلغ بنا الى القمة أو يهوى بنا الى القاع...

إن الإنسان عبد لله، وليس إلها على ظهر الأرض.. وقد شاء الله أن يخلقه على نحو خاص، فليس جمادا، ولا دابة ولا ملكا..

وبهمته أن يعبد ربه، وأن ينجح في أداء هذه العبادة، وأن يقهر المثبطات والعقبات، فإن نجح نجا، وإلا طاح!!.

ولن يغنى عنه أن يقول: إنني «جماد» لا إرادة لي. أو أنني ورقة تطير بها الريح وتهبط.. كلا، إنك إنسان مكتمل المشيئة في كل ما يزكي نفسك أو يدنسها، والسفسطة لا تجدي «ومن لناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله، له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عاب الحريق. ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد»(110).

وبعد انتهاء الحياة تعود الأرواح الى بارئها، ونحن أمام موقفين متضادين، هناك من قضى عمره كدحا الى الله وجهادا في سبيله، وهناك من عاش ذاهلا غادرا لم يقم لله بحق... أما الأولون فإن الملائكة تستقبلهم بالترحاب والود، تقول لهم «.... ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون»(111).

وأما الآخرون فالاستقبال عابس، والافق ملئ بالدخان والنذر، لقد واجه كل امرئ منهم ما كان ينكر، وعلم علم اليقين انه كان في ضلال مبين! إنه يتمنى في هذه اللحظة المستحيل، يتمنى لو عاد الى الدنيا مرة أخرى كي يستأنف حياة أهدى...!!

«حتى إذا جاء أحدهم الموت قال: رب ارجون. لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها، ومن ورائهم برزخ الى يوم يبعثون»(112).

وقد أحصيت في كتاب آخر نحو عشرة مواضع تكررت فيها هذه المنى! وهيهات فليس لامتحان العمر ملحق، ولا دور ثان يستدرك فيه المفرط ما فات.

وهذا الندم ـ بعد فوات الأوان ـ ينطق بحقيقة واحدة، شعور بالمجرم أنه هو الذي ظلم نفسه، وهو الذي صنع حتفه بظلفه!.

إنه لن يحاول الكذب فيقول: كنت مجبورا على ما كان مني، أو سبق علي كتاب بما لم أرد لنفسي!.

ولو أنه حاول الافتراء لأخرس الله لسانه، وأنطق أركانه بما حدث... إن الله لا يكره أحدا على طريق الشر ثم يدخله النار! ومن تصور هذا فهو جاهل بالله طائش العقل...

ومن المنتمين الى ديننا من يتصور ذلك ـ للأسف الشديد ـ ويحاول إساغته بترهات لا تقال.. ونشرح هنا موقف الضالين كما صورته سورة المؤمنين وحدها:

ليس العمر ساعة واحدة. إنه ساعات شتى. بعضها يسر وبعضها يضر. ليس العمر موقفا واحدا، إنه مواقف بعضها يشرف وبعضها يخزي، والمهم هو المحصل الأخير! «فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون. فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون. تفح وجوههم النار وهم فيها كالحون»(113).

ولنتدبر هذا الحوار بين رب العزة وبين الأشقياء المسجونين في جهنم! إنه يقول لهم: «ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون(114)؟» ترى ما جواب القوم؟ إنهم يطلبون فرصة أخرى ينجحون نفيها بعد هذه الفرصة الضائعة! يقولون: «ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين. ربنا أخرجنا منها فإن عندنا إنا ظالمون»(115).

ويستمع رب العزة إليهم، ثم يرد بما معناه: كان على الأرض عمل ولا حساب أما هنا فحسب ولا عمل، إنها فرصة واحدة توالت الرسل للحث على انتهازها، لكن المجرمين كابروا وكذبوا. يقول الله لهم: «اخسئوا فيها ولا تكلمون. إنه كان فريق من عبادي يقولون: ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين. فاتخذتموهم سخيا حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون»(116).

هذا تذكير بأيام الطغيان الأولى، لطالما وثب الزائغون الطاغون على جمهور المؤمنين الضعفاء فأذاقوهم عذاب الهون، وكانوا منهم يسخرون!.

ها قد تبدلت المواقف وتغيرت الأحوال، ورجحت كفة الخير، وجنى الصابرون عقبى ما تحملون وأملوا...

ويقول الله سبحانه خاتما الحوار: «إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون»(117).

أترى في هذا الحوار اثارة من ظلم نزلت بمعذب؟ أجرؤ أحد أن يفتري على الله كذبا فيقول له: إنك كتبت على ما كتبت، والآن تؤاخذني بما لم أستطع الفرار منه؟.

إن تصوير القدر على النحو الذي جاءت به بعض المرويات غير صحيح، وينبغي ألا ندع كتاب ربنا لأوهام وشائعات تأباها روح الكتاب ونصوصه...

القرآن قاطع في أن أعمال الكافرين هي التي أردتهم «يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون»(118). وقاطع في أن أعمال الصالحين هي التي نجت بهم «ونودوا أ تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون»..(119).

فلا احتجاج بقدر، ولا مكان لجبر.

وعلى من يسيئون الفهم أو النقل ألا يعكروا صفوا الإسلام..

وعندما كنت أكتب هذا البحث وقعت في يدي كلمة جميلة للأستاذ أحمد بهجت عنوانها «المغفلون» رأيت إثباتها لغرض سينكشف بعد قليل...

– «هناك ناس يحبون الله.. وهناك ناس يكرهون الخلق..

هناك ناس تخشع قلوبهم لذكر الله. وهناك ناس يشمئزون إذا تعلق الأمر بالحق.

هناك ناس يحبون الدين، ويحبون أن تشيع الفضيلة في الناس وأن تنتشر القيم بينهم، وهناك ناس يكرهون الدين كرههم للعمى، وهؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الناس، وأن ينتشر العرى لتسقط العيون الجائعة عليه كما يسقط الذباب على اللحم المكشوف»

والصراع بين المؤمنين والكارين جزء من سنة الحياة.

لقد خلق الله ناسا هم أهل للجنة، وخلق ناسا هم أهل للنار، والذين يدخلون الجنة يدخلونها برحمة الله وعفوه، والذين يدخلون النار يدخلونها بإصرارهم واختيارهم وحريتهم المطلقة. ولا حجة لأحد على الله عز وجل.

لقد أقيمت الحجة على الناس.. في فطرتهم وفي آيات الله في الكون. والأصل المعروف هو استغناء الله تعالى عن الخلق، وحاجة الخلق إليه «يأيها الناس أنتم الفقراء الله واله هو الغني الحميد»(124).

ونحن نعرف أن عبادة العابدين لا تزيد في ملكه سبحانه، كما أن كفر الكافرين وإلحاد الملحدين لا ينقص من ملكه سبحانه شيئا. الدين فائدة للناس لا فائدة لله.

واتباع الدين لخير الناس لا لخير أحد غيرهم، ومن هنا نرى المغفلين عادة يقفون في المعسكر المعادي للدين.

وقد وصف المغفلون بأن لهم أعينا لا يبصرون بها، وآذانا لا يسمعون بها، وقلوبا لا يفقهون بها(121).

أيضا تمت مقارنتهم بالبهائم، وصرح النص القرآني أن الأنعام أهدى منهم. «أولئك كالأنعام بل هم أضل...»(122).

وقد كان الرسول يحزن لتكذيب الناس له ويدهشه هذا الغلو في العداء واللدد في الخصومة، وأفهمه الله تبارك وتعالى أن الناس لا يكذبونه ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. والظالم مغفل كبير، إنه يشتري النار بإرادته واختياره، وليس بعد هذا التغفيل تغفيل.

والظالم يكسب الدنيا ويخسر الآخرة، وهذا أيضا تغفيل عظيم..

لأن الدنيا إذا قيست بالآخرة كانت أقل من جناح بعوضة. نسأل الله السلامة..» ا. هـ

وهذا كلام صادق، حسن الوقع والثمر. وقد أثبتناه بين يدي كلام آخر لا يزيد أمتنا إلا سقاما، ذكره أحد الواعظين في مجال تخويف الناس من الله حتى يدعوا الرذائل! انظر كيف خوفهم من الله؟ قال: إننا مهما عملنا من خير لا نعرف مصايرنا. وقد نكون من أهل النار ونحن لا ندري..!!

ثم ذكر أحاديث في القدر لا تخدم إلا مبدأ الجبر، بل تجعل العصاة يمضون مع المنحدر الى نهايته لأنهم يحسون فقدان الإرادة التي تسيطر على الأمور.

وأغلب المسلمين تساورهم هذه الظنون المجنونة لأنهم فهموا أن المثوبة والعقوبة حظوظ عمياء، أو مصادفات ليست لها ضوابط.

ونحن نتلو قوله تعالى: «قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا..»؟ ولكن الله القدير الحكيم العدل القائل: «كتب ربكم على نفسه الرحمة» لا يخلق ناسا للنار لمجرد أنه يريد لها العذاب.

ولنذكر طرفا من هذه الأحاديث:

جاءت في القدر أحاديث كثيرة، نرى أنها بحاجة الى دراسة جادة، حتى يبرأ المسلمون من الهزائم النفسية والاجتماعية التي أصابتهم قديما وحديثا..

روى أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه عند الموت: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، إني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: إن أول ما خلق اله القلم، فقال له: أكتب! قال: يا رب وما أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء حتى يوم القيامة. يا بني إني سمعت رسول الله يقول: من مات على غير هذا فليس مني»!.

وفي رواية أخرى للترمذي، ما يؤكد هذا الحديث.

وقد علق الشيخ محمد حامد الفقي على الحديث ورواته بأن في السند متهما بالوضع، ومتروكا، ومنكر الحديث!!

ومع ذلك فنحن مع تهافت الأسانيد نرى في المتن جملا مقبولة تتلاقى مع دلالات القرآن القريبة والبعيدة، وتتفق مع العقيدة الصحيحة: وهي أن الله أحاط بكل شيء علما، وأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وعلينا بعد ذلك أن نكافح لنضع مستقبلنا في الدار الآخرة غير وانين ولا متقاعسين..

المشكلة تكمن في أحاديث أخرى صحيحة السند، غير أن متونها تقفنا أمامها واجمين! لنبحث عن تأويل لها أو مخرج.

خذ مثلا نحديث عائشة رضي الله عنها قالت دعي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الى جنازة غلام من الأنصار، فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا! عصفور من عصافير الجنة، ولم يدرك الشر ولم يعمله! قال: أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله عز وجل خلق للجنة أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم! وخلق للنار أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم»!.

وخذ مثلا حديث سهل بن سعد أن رسول الله قال: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه لمن أهل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار»!!

وخذ مثلا حديث عبد الله بن عمرو قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إن اله خلق خلقه في ظلمة، ألقى عليهم من نوره! فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل! فلذلك أقول: جف القلم على علم الله تعالى!».

وهناك أحاديث كثيرة تدور على هذا المحور، وهو أن الإنسان مسلوب المشيئة، وأنه مقهور بكتاب سابق، وأن سعيه باطل لأنه لا يغير شيئا مما خط عليه في الأزل.

نقول: هل صحيح أن سعي الإنسان باطل؟ فلماذا يقول الله تعالى عن يوم الحساب: «إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى»(123).

ولماذا يقول: «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى. ثم يجزاه الجزاء الأوفى»(124).

إن الله تبارك وتعالى يطلب من الإنسان أن ينصف نفسه من نفسه! وأن يعترف بأنه أخطأ حيث ينبغي أن يصيب، وأساء حيث يستطيع أن يحسن، ولذلك يقول له: «اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا»(125).

فهل يقال له ذلك وهو مجبور مسكين؟ أم يقال له ذلك وهو حر مختار؟

إن ظواهر الجبر في هذه الآثار كلها مرفوضة عند علماء الإسلام، وأمامنا أمران لا ثالث لهما، إما صرف هذه الظواهر الى تأويل قريب مقبول!

وإما اعتبارها آثارا بها علة قادحة تسقطها من درجة الصحة، وإيرادها في مجال التربية والتعليم لا يجوز.

وقد استطعت بشيء من التكلف أن أصرف شبهة الجبر عن آثار شتى! لكني لم أستطع إصلاح عقول تريد أن تسوق الإسلام كله الى أحاديث غير واضحة. تظهر عليها العلل القادحة.

يقول الله سبحانه وتعالى في الأمم التي حكم عليها بالهلاك: «... وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. ثم كان عاقب الذين أساءوا السوآى..»(126).

الله يعاقب مقترفي السيئات بالسوآى، فهذا عدله، ولو شاء عفا، وهذا حقه.

ولكه لا يظلم مثقال ذرة... ومن العجب أن ننسب إليه الجبر ثم نقول لا يسأل عما يفعل! إن الذين يخطئون في الفهم ويجورون في الحكم لا ينبغي أن يسقطوا عوجهم الكفرى على دين الله...

والله ولي التوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

خاتمة

ضعف الوعي القرآني جريمة!

السلسلة الذهبية لا تشفع لمتن متهافت.. الفقيه مع المحدث يضبطان السنة النبوية لا يسأل الرجل: فيم ضرب امرأته؟.

جزيرة المسيخ الدجال!.

لا علاقة للمرأة بإنجاب ذكور ولا إناث.

المنهج الذي هداني الله اليه ـ وله المنة ـ أن أعرف الرجال بالحق، ولا أعرف الحق بالرجال! وأن أنظر بتأمل الى ما قيل ولا أنظر بتهيب الى من قال!.

والوصول الى الحق يحتاج الى الذكاء قدر ما يحتاج الى الاخلاص، ومن ثم منح الله أجرين لمن عرفه! ومنح أجرا واحدا لم اخطأه وهو حريص على بلوغه..

وبعض الناس يظن أن خطأ مجتهد ما قضاء على مكانته، ونسف لشخصيته، هذا جهل كبير! فما أكثر الأخطاء التي وقع فيها مجتهدون من كبار الأئمة...

إن بناءهم العلمي شاهق، والخير الذي انفجر منهم دافق، فلا تهدمهم قذاة، أو تزري بهم كبوة! والدهماء عندنا ميالون الى القول بعصمة الأكابر، ونحن لا نعرف في تاريخنا إلا معصوما واحدا، هو محمد بن عبد الله صاحب الرسالة الخاتمة...

وقد نقدت مرويات جاءت في الصحاح رأيتها تمس الصميم من ديننا! وتفتح ثغرات مخوفة ينفذ منها عدونا، ما قصدت بذلك أن ألمز كبيرا أو أضع من قدره، ولا قصدت بذلك أن أرفع خسيستي «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم» وإنما كان نصحي لله ورسوله ومصلحة الدين الذي شرفت بالانتماء إليه والدفاع عنه..

من ذلك اعتراضي على نقل و رأي لنافع مولى عبد الله بن عمر في أمرين حساسين يتصل أحدهما بالأسرة والآخر بالدعوة أو الدولة، رأيت التابعي الكبير تورط فيهما تورطا مفزعا مسيئا، ولا يجوز السكوت!

كلنا يقرأ قوله تعالى «نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم» والحرث مكان البذر لا غير، لا يقول غير ذلك أحد يعرف لغة الوحي..

بيد أن فهما شاذا أثبته في الصحاح من لا يدققون في المتون رأوا فيه أن الرجل يستطيع أن يتجاوز ذلك من زوجته!.

ونظرت ـ بتجرد ـ الى هذا النقل السيء فرأيته يخزي النساء الحرائر، ويرضي الرجال الشواذ، ويقلب موازين الفطرة، ويفتح بابا جيدا لمرض «الإيدز» فلم أتريث في رفضه، وقلت: لكل جواد كبوة!.

ونافع غفر الله لنا وله، برأيه هذا أو بروايته يخالف دلالات القرآن، وسننا أخرى أثبتها الرواة كما يخالف طبائع الأحياء من أناسي ووحوش ودواب..

ولكن ناسا في عصرنا ما كادوا يقرؤون ما كتبت حتى انبروا لمهاجمتي والنيل مني، وليس هذا بضائري! وإنما لفت نظري أن القضية العلمية لفها ضباب مفتعل، فلم تبحث، ولم يذكر حكم الله فيها حتى لخيل الى أن التجهيل في الحكم مقصود!! والصياح الذي طال حبله هو:

أتعترض على نافع يا... أتشكك في السلسلة الذهبية يا... أتكذب السنة النبوية يا... الخ وتحول الاعتراض الى عواء يسمع صداه من ريب ومن بعيد، فذكرت قول الشاعر:

كريم أصابته ذئاب كثيرة

فلم يدر حتى جئن من كل مذهب!

قلت: لابد من إنصاف الحقيقة العلمية التي كادت تختفي مع هذا العواء، ليعرف الرجال والنساء أن ما حكاه نافع باطل، وإن إفساد الدين لا يستطيعه بعض المتحمسين العميان من عبيد الأسماء.

قلنا: إن الشهوة الجنسية ليست رجسا من عمل الشيطان إنما تمت في نطاقها المرسوم، هذا النطاق هو الزواج، وهو لا يتم عقلا ولا نقلا الا بين رجل وامرأة، أما ما وراء ذلك فدنس مرفوض.

والمجتمعات الوثنية، والملحدة، تمد رقعة الشهوة فلا تقف عند حد، وقد لاحظنا ذلك في الجاهليات القديمة والحديثة على سواء.

نشأت علاقات شاذة لا يبقى بها النوع! وإذا بقي على نحو خبيث شرير كما قال تعالى: «والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه. والذي خبث لا يخرج إلا نكدا..»

وقد كان المشركون العرب يفتنون في إرواء ظمئهم الجنسي، يشبههم في ذلك الأوروبيون والأمريكيون اليوم فهم يتعدون دائرة الحلال المباح الى دائرة أخرى مليئة بالمستنقعات والأوبئة.

وعندما تحدث القرآن الكريم عن قوم لوط ذكر أوصافا محددة، هي الإسراف، والعدوان، والجهالة، والإجرام والإفساد وما يتصل بهذه المعاني المظلمة..

وقد لاحظت أن أكثر ذلك كان في القرآن النازل بمكة قمعا لغرائز السوء، وتذكيرا بمصاير الهالكين «أتأتون الذكران من العامين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم؟ بل أنتم قوم عادون...».

ثم بدت شرائع الأسرة في المدينة المنورة إقامة لمجتمع فاضل طاهر، وشرح القرآن الكريم أن المرأة سكن لزوجها، وتبع يفيض بالود والرحمة، وأن العلاقة بينهما تبلغ حد الامتزاج «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن».

وأن المقصود ليس إنشاء ذرية ما يبقى بها النوع! بل إنشاء ذرية صالحة تزيد بها الحياة كما وكيفا، ومن ثم فلا مكان لشذوذ أو عدوان أو فساد.

ولا يجوز أبدا أن يستضعف الرجل امرأته فيرتكب معها ما لا يليق، فعن عبد الله بن عمرو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: هي اللوطية الصغرى! «يعني الرجل يأتي امرأته في دبرها». وعن عمر بن الخطاب قال رسول الله: «استحيوا فإن الله لا يستحيي من الحق ولا تأتوا النساء في أدبارهن»! وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال: «استحيوا من الله فإن الله لا يستحيي من الحق!! لا يحل مأتاك النساء في حشوشهن» يعني في غير الحرث.

وقد قص علي صديق ثقة أن طالبة مطلقة طلبت منه أن يستمع إليها بعيدا عن الزميلات! قال: كانت بادية الغضب تبلغ حد الهياج، سألته أتستطيع أن تضع في عقد الزواج شرطا يصون كرامتها؟ قال: ما هذا الشرط؟ فتمعر وجهه وتهدج صوتها وقالت نحن بشر! لسنا بهائم.. وخفت حديثها واستحيت من إتمامه، ولكنه عرف أن الزوج الذي طلقه أو طلقته كان شاذا.

في عالم البهائم تكره الأنثى ـ بعد أن تحمل ـ أن يتصل بها ذكر، لأن المقصود تم وهو الحمل!.

أما في عالم الإنسان فالصلة أرقى وأزكى لأن التواصل في مهاد الأسرة استدامة للسكن المنشود والود المتبادل.

وأريد أن يعرف المسلمون الحكمة العليا من الزواج فيكون كلا الزوجين امتداد لسعادة الآخر ولا يتم ذلك إلا بالأسلوب المشروع.د

وإني أطلب من الزوجة التي يشذ زوجها أن توبخه وأن تعنه، وقد جعل ابن تيمية ذلك ذريعة الى أن يحكم القاضي بالطلاق..

من أجل هذا كله رفضنا ما رواه نافع غفر الله لنا وله، وإن تصعب له من لا يفقهون.

لقد ابتلي الإسلام بأعداء ينتقصون أطرافه من الخارج، كما ابتلي بأعداء يشوهون حقائقه من الداخل، ولعل العدو الداخلي أنكى من العدو الخارجي..!.

لقد رأيت مرويات كثيرة لا تستحق الحياة، ومع ذلك فقد ضربت حتى زاحمت على الصدارة!.

والعلة في هذه الفوضى غفلة أهل الإيمان، واسترسالهم أحيانا مع الظنون..

إن أكذوبة الغرانيق لم يضعها مستشرقون وإنما وضعها ناس عندنا فقدوا الوعي والتقوى، وأكذوبة أن الرسول عشق بنت عمته زينب بعدما زوجها من زيد بن حارثة!! فرواية بلغت الغاية من الغثاثة والسخف، ومع ذلك وجدت من يرويها..

ومن قديم وعلماء الإسلام النقدة يحمون الحقيقة ويزودون عنها الخرافيين وذوي الأهواء..

وقد رفضت دون تردد ما فهمه البعض من أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد يغير على الناس دون دعوة، ويأخذه على غرة، فلا يدري القتيل لم قتل؟ ولا يدري الجريح لم جرح؟.

الإسلام بطبيعته دين دعوة، يقول لك تعلم وعلم، اقتنع وأقنع غيرك، انقل الحق وأعل مناره حتى يستطيع الآخرون السير على شعاعه «ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير...».

والبلاغ يجب أن يكون مبينا حتى ينتقل الوضوح من صدرك الى صدر سامعك، وتكونوا سواسية في الاستبانة والوعي!.

وهذا ما عنته الآيات «قل: إنما يوحي الي إنما إلهكم إله واحد، فهل أنتم مسلمون، إن تولوا فقل آذنتكم ـ أعلمتكم ـ على سواء،وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون».

وقد كان التوحيد ـ ولا يزال ـ يشق طريقه بصعوبة، وتكمم الأفواه الصياحة به، ويحتدم القتال من أجل حقه في الحياة، وقد أمر المسلمون أن تكون دعوتهم الى الإسلام ـ قبل الاشتباك ـ هي آخر ما يقطع الأعذار!.

لقد كانوا يدعون فقاومهم الفتانون، وهاهم أولاء بل الحرب يدعون ليستجيب لهم من يؤثر الحق والسلام. والتبعة بع هذا على عبدة الأوثان، ولا عدوان إلا على الظالمين، كما قال الرسول الأمين...

فهل صحيح أن الدعوة كانت في صدر الإسلام ثم نسخت؟ كما فهم نافع مولى عبد الله بن عمر؟.

هذا الفهم مخالف للكتاب وللسنة وللواقع التاريخي.

ولنقرأ هذا الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن يربدة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: أغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا.

فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم الى ثلاث خلال، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم الى الإسلام! فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم.

ثم ادعهم الى التحول من دارهم الى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذي يجرى على المؤمنين الى أن قال:

وإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم.. فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم...».

والذي نلفت النظر اليه بدءا ذي بدء أن هذا الحديث قيل في أواخر العهد النبوي! لأن ذكر الجزية ورد فيه، والجزية لم تعرف في الشريعة إلا بعد نزول سورة براءة، وهذه السورة نزلت في آخر السنة التاسعة من الهجرة، أي قبل وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعام تقريبا...

ويعني هذا التحقيق التاريخي أن الدعوة كانت قائمة أول حياة الرسول وآخرها، وأن الزعم بنسخها لا أصل له، وأن نافعا غفر الله له جانبه التوفيق في فهمه!.

بل إن ابن هشام في سيرته كان أولى بالحق عندما ذكر ان بني المصطلق بلتهم الدعوة وأنهم ـ حين بلغتهم ـ قرروا رفضها، وانحازوا جانبا كي يأخذوا أهبتهم للقتال! ثم فوجئوا بالغارة التي أجهضت استعدادهم، وفضت جموعهم..

على أن الأمر كله بحاجة الى ايضاح، فقد كان المسلمون بعد تسعة عشر عاما من بدء الدعوة يعدون خوارج على القانون! كان المشركون يشمئزون من عقيدة التوحيد، ويبطشون بجميع دعاتها لو استطاعوا!.

ومع أن عهد الحديبية منحهم اعترافا بوجودهم المادي والأبي إلا أن هذا لعهد سرعان ما خرجت قريش عليه، وعادت جزيرة العرب سيرتها الأولى في التعصب للوثنية وعبيدهم وحدهم.

إن العرض الذي وضعناه تحت أعين المشركين وهو «لكم دينكم ولي دين» استبعد وتنوسى وأمسى المسلمون أحوج أهل الأرض للدفاع عن أنسهم وإقامة دولة تحمي عقائدهم وشرائعهم، وترغم الوثنية على احترام الحرية الدينية...

وأقول: ما أشبه الليلة بالبارحة إنه محظور علينا أن نحيا بالإسلام كما نريد.

ولأترك هذا الشجن لأذكر أثرا آخر يعرف منه القراء خلق رسول الله، ومبلغ حرصه على حقن الدماء، ورفضه الشريف لقصة «الغارة بلا إنذار» التي توهمها بعض الرواة!.

روى أبو داود عن الحارث بن مسلم عن أبيه قال: بعثنا رسول الله في سرية، فلما بلغنا المغار ـ مكان المعركة ـ استحثثت فرسي، فسبقت أصحابي، فتلقاني أهل الحي بالرنين! فقلت لهم: قولوا لا إله إلا الله تحرزوا، فقالوها! فلامني أصحابي وقالوا حرمتنا الغنيمة(*******)...

فلما قدمنا على رسول الله أخبروه بالذي صنعت فدعاني، فحسن لي ما صنعت! ثم قال لي: أما إن الله تعالى قد كتب لك بكل إنسان منهم كذا وكذا من الأجر...

وقال: أما إني سأكتب لك بالوصاة بعدي، ففعل، وختم عليه، ودفعه إلي!!».

إن محمدا ـ عليه الصلاة واسلام ـ أشرف من أن يأخذ الناس على غرة، وعلى الذين يقرؤون الأحايث أن يتفقهوا، وأن يدرسوا الملابسات والتواريخ والأحوال، وقد قلت وما زلت أقول لا سنة بلا فقه...

إننا مع تدبر القرآن نعرف أسلوب الدعوة في العرض والإقناع، ومع دراسة التاريخ نعرف أن الوثنيين كابروا الحق لآخر رمق، وأن الوثنية الى آخر قادتها مسيلمة احتقرت البرهان! واعتسعت الطريق، فلم يكن من السيف بد، ولسنا نحن الذين نختل الدنيا أو نستبيح الناس.

فقهاء السيرة والتاريخ والأخلاق يعلمون أن الدعوة الى الإسلام فريضة لا يقدر أحد على الغائها، وأن هذه الدعوة عامة لا يحدها زمان ولا مكان وأنها ـ تتأكد ـ وقبل نشوب الحرب خاصة ـ.

وقد شرحنا في كتبنا الأخرى أسباب القتال، وأنها كما تكون دفاعا عن الحقائق والحقوق تكون تأمينا لمسار الدعوة من الفتانين والمعونين..

أي أني أعرض ما عندي على الناس بأدب وتلطف، فإذا قال لي أحد: أنصرف عني، لا أحب أن أسمعك، ولست لك عدوا ولا صديقا، أذهب إلى غيري ولا شأن لي بما تصنع معه أو بما يصنع معك.!

فإنني والحالة هذه أتركه غير مفكر في إلحاق اذى به، منفذا قوله تعالى: «فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا».

هل الرومان الذين احتلوا مصر والشام وساقوا جيوشهم الى الحجاز من هذا القبيل؟ لا، إنهم دخلوا بلادنا غزاة وأقاموا بها معتدين.

وكانوا بأقوالهم وأعمالهم وأحوالهم مصادر طغيان وفتنة، وما بد من تحرير الأرض منهم وإعادتهم من حيث جاءوا.

وترك الشعوب بعد ذلك حرة تعتنق الإسلام إذا شاءت أو تتركه مع المشاركة في أعباء الدفاع العسكري عن الأرض التي كانت مستعمرة ثم حررها الإسلام.

هل الفرس أحسن حالا من الرومان؟ كلا إن كسرى أصدر أمرا بالقبض على محمد بعد ما مزق رسالته، وكان حبذه يحتلون العراق، وموقفه حاسم في رفضه الدعوة والدعاة، فما يجوز تركه! تلك هي هي الأسباب الأولى للفتوح.

وقد حرص الخلفاء والأمراء وقادة الجند ألا يشتبكوا في حرب إلا بعد دعوة متأنية واضحة مفصلة، وهت هذه الوقائع من «حياة الصحابة» التي يجهلها للأسف بعض أدعياء السلفية، ممن صدقوا أن الرسول يأخذ الناس على غرة! أو أن الدعوة كانت ثم ألغيت، كما توهم نافع مولى ابن عمر..

جاء في كتاب «حياة الصحابة» تحت عنوان، دعوة الصحابة الى الله ورسوله في القتال على عهد أبي بكر، ووصية أبي بكر الأمراء بذلك.

أخرج البيهقي (ج9 ص85) وابن عساكر عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر رضي الله عنه لما بعث الجنود الى الشام أمر يزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، ولما ركبوا مشى أبو بكر مع أمراء جنوده يودعهم حتى بلغ ثنية الودع فقالوا: يا خليفة رسول الله! تمشي ونحن ركبان، فقال: إني احتسبت خطاي هذه في سبيل الله.

ثم جعل يوصيهم، فقال: أوصيكم بتقوى الله، أغزوا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله فإن الله ناصر دينه، ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تجنبوا، ولا تفسدوا في الأرض، ولا تعصوا ما تؤمرون.

فإذا لقيتم العدو من المشركين ـ إن شاء الله ـ فادعوهم الى ثلاث، فإن هم أجابوكم فأقبلوا منهم وكفوا عنهم.

ادعوهم الى الإسلام فإن هم أجابوكم فأقبلوا منهم وكفوا عنهم.

ثم ادعوهم الى التحول من دارهم الى دار المهاجرين، فإن هم فعلوا فأخبروهم أن لهم مثل ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين.

وإن هم دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم على دار المهاجرين فأخبروهم أنهم كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذي فرض على المؤمنين وليس لم في الفىء والغنائم شيء حتى يجاهدوا مع المسلمين.

فإن هم أبوا أن يدخلوا في الإسلام فادعوهم الى الجزية، فإن هم فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم وإن هم أبوا فاستعينوا بالله عليهم فقاتلوا إن شاء الله.

ولا تحرقن نخلا ولا تحرقنا ولا تعقروا الهيمة ولا شجرة ثمر ولا تهدموا بيعة ولا تقتلوا الوالدان ولا الشيوخ ولا النساء، وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما حسبوا أنسهم له.

وفي عهد عمر بن الخطاب أننا فتح فارس جاءت هذه القصة تحت عنوان: دعوة سلمان الفارسي يوم القصر الأبيض ثلاثة أيام.

وأخرج أبو نعيم في الحلية (ج1 ص189) عن أبي التبختري أن جيشا من جيوش المسلمين كان أميرهم سلمان الفارسي رضي الله عنه فحاصروا قصرا من قصور فارس فقالوا: يا أبا عب الله! ألا ننهد إليهم؟ قال: دعوني لأدعوهم كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم.

فقال لهم: أنا رجل منكم فارسي، أترون العرب تطيعني فإن اسلمتم فلكم مثل الذي لنا وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه واعطيتمونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون. قال: ورطن إليهم بالفارسية وأنتم غير محمودين.

وإن أبيتم نابذناكم على سواء، فقالوا: ما نحن بالذي نؤمن! وما نحن بالذي نعطي الجزية! ولكن نقاتلكم!.

قالوا: يا أبا عبد الله ! ألا ننهد إليهم؟ قال: لا، فدعاهم ثلاثة أيام الى مثل هذا. ثم قال: انهدوا إليهم فنهدوا إليهم. قال: ففتحوا ذلك الحصن.

وأخرجه أيضا أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك كما في نصب الراية (جـ3 ص378) بمعناه. ويه: فلما كان في اليوم الرابع أمر الناس فغدوا إليها ففتحوها. وأخرجه ابن أبي شيبة كما في الكنز (جـ2 ص298). وأخرجه أيضا ابن جرير (جـ4 ص173) عن ابي التبختري قال: كان رائد المسلمين سلمان الفارسي، وكان السلمون قد جعلوه داعية أهل فارس. قال عطية: وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهر سبر وأمروه يوم القصر الأبيض فدعاهم ثلاثا ـ فذكر الحديث في دعوة سلمان رضي الله عنه بمعناه.

هذا، والروايات في الدعوة الى الإسلام قبل القتال مستفيضة أيام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأيام الصحابة رضي الله عنهم.

وغفلة نافع غفر الله لنا وله عن هذه الحقيقة لعلها كبوة الجواد.

والملام كله على من يتعصبون لخطئه، ويخاصمون الصواب بعد ما تبين...

ولا أدري لحساب من؟ ينشر بعض الجاهلين أن سيد الدعاة يأخذ الناس على غرة من غير دعوة ولا بلاغ، وأن الدعوة كانت في مرحلة موقوتة ثم اختفت؟؟

ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه..!

الكلمات الصادقة المضيئة تنبع من سرائر هادية زاكية، وهي تلتمس أول ما تلتمس في تراث الأنبياء، ولم يبق موضع الثقة من هذا التراث الغالي إلا ما خلفه لنا محمد عليه الصلاة والسلام في كتابه وسنته..

أما هذا القرآن فقد أعيي الإنس والجن أن يجيئوا بمثله، ومنذ نزل الى يوم الناس هذا إلى أن تبدل الأرض غير الأرض والسموات، وهو محفوظ بحفظ الله لا ترقى إليه ريبة، ولا يتوهم في تحريف، ولا يستغني طلاب الحق عن آياته البينات...

وأما السنة فأوجز ما يقال فيها أنها «تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم» وقد أوتي محمد جوامع الكلم، وانسابت هداياته من ينبوع جياش بالرشد حافل بالخير، وسبحان من أبدع محمدا!! إنه الإنسان الفذ الذي صان الإيمان مادة ومعنى، وعاش به سيرة ودعوة، وأقام على دعائمه مجتمعا ودولة، وأنشأ باسمه حضارة ترنو إليها المشارق والمغارب، ويرهب باسها المعتدون والفوضويون..

والثقافة الإسلامية قامت على الكتاب والسنة معا، وقد يئست الشياطين من تحريف الكتاب، فحاولت النيل من السنة ولكن العلماء النقدة صدوا هذا الهجوم، ومضوا بقافلة الإسلام منيعة الجانب على حين طاشت رسالات، وحالت رسوم..!

ول نزال ـ بفضل الله ـ نحرس الإسلام، ولن تخلو الأرض من قائم له بحجة...

ولا أعرف أحدا من علماء الإسلام هون من مكانة السنة النبوية، ولا أجاز أن يقول رسول الله كلمة ويمضي هو على خلافها، بل ذلك طريق الكفر..

وما قد يقع بين العلماء من شجار في القضايا الفرعية أساسه: أقال رسول الله هذا الحديث أم لا..؟

قد تقول: فقد رسا علم المصطلح، وأتضحت منه أسس القبول والرد بشتى المرويات.

ونقول: صدقت وذلك ما نريد تطبيقه لا غير!..

إننا نلتزم بما وضع أئمتنا الأولون، ولا نفكر في البعد عنه، كل ما لفتنا النظر اليه أن الشذوذ والعلل في متون الأحاديث يتدخل فهيما الفقهاء الى جانب الحفاظ، وقد تدخلوا فعلا في الماضي، وجد في عصرنا ما يستدعي المزيد من البحث والاستقصاء..

وأعرف أن البعض يوجس خيفة من هذا القول ولكن تجاربي في ميدان الدعوة تجعلني أزيد الأمر تفصيلا.

في أيام الهزائم الإسلامية التي نعانيها، والتي ألصقت بالإسلام ما شاء أعداؤه من نقائص، سمعت خطيبا يروي هذا الحديث: «لا يسأل الرجل: فيم ضرب امرأته؟»

قلت له: إن ديننا متهم بأنه ضد حقوق الإنسان، وضد كرامة المرأة خاصة! فما حملك على إيراد حيث يفيد أن الرجل يضرب امرأته كيف يشاء لا يسأل عما يفعل! وأنت تعلم أن هذا المعنى مرفوض في الكتاب والسنة جميعا؟.

قال: إنني رويت حديثا صحيحا، قلت له: ألا تحفظ حديث مسلم في صحيحه «لتؤدين الحقوق الى أهلها يوم القيامة حتى يفاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» أفتكون الزوجة المضروبة أهون على الله من نعجة منطوحة ظلما؟.

قال: النساء منذ حواء الى اليوم يستحققن الحذر والتأديب، وقد جاء في الحديث: «لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر»! فقلت له: ما خانت حواء آدم، ولا أغرته بالأكل من الشجرة، هذا من أكاذيب التوراة!.

والقرآن صريح وحاكم في أن آدم هو الذي عصى ربه! ولكنكم دون مستوى القرآن الكريم، وتنقلون من المرويات ما يقف عقبة أمام سيرة الدعوة الإسلامية!.

لماذا لا يسأل الرجل: فيم ضرب امرأته؟ أنربي بناتنا ليذهبن الى فحل يلطمهن أو يؤذيهن دون مساءلة في الدنيا والآخرة؟.

بأي منطق تتكلمون؟ «إن الله لا يظلم مثقال ذرة» «من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا».

ذاك في الآخرة، ومن حق المرأة في الدنيا أن تشكو ما نزل بها الى اهلها، أو الحكم الذي يمثلها أو القاضي الذي يجب أن يسائل زوجها!.

ولها بعدئذ ان تطلب الخلع او تطلب التطليق للضرر..

إنك أيها المتحدث باسم الإسلام تفتن الناس عنه بهذه الأحاديث.

وهاكم موقفا آخر من واعظ يحب الحكايات ويستنصت الناس بما تحوي من عجائب!.

قال: إن الدجال موجود الآن في إحدى الجزر ببحر الشام أو بحر اليمن، مشدود الوثاق، وقد رآه تميم الداري بعد ما غرقت السفينة التي كان يركبها هو وصحبه، وتحادثوا معه، وهو موشك على الخروج!.

وقد حدثت بذلك فاطمة بنت قيس في سياق طويل!

قال لي طالب يسمع الدرس: هل يمكن أن نذهب في رحلة الى هذه الجزيرة لنرى الدجال؟ قلت له: وماذا تفعل برؤيته؟ الدجالون كثيرون، وإذا تحصنت بالحق نجوت منهم ومن كبيرهم عندما يخرج!.

قال: ألم يزر أحد هذه الجزيرة بعد تميم الذاري؟ فآثرت السكوت، وصرفت الطالب عن الموضوع بلباقة..

إن أساطيل الرومان والعرب والترك والصليبيين تجوب البحرين الأبيض والأحمر من بضعة عشر قرنا ولم تر هذه الجزيرة.

وفي عصرنا هذا طرق كل شبر في البر والبحر، والتقطت صور لأعماق المحيطات عن طريق الأقمار الصناعية! فأين تقع هذه الجزيرة؟.

وأخيرا تذكرت كلمة عمر بن الخطاب وهو يرد حديث فاطمة بنت قيس في نفقة المطلقة ثلاثا، قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لحديث امرأة لان ندري حفظت أم نسيت؟.. قلت: ونحن لا نعرض كتاب ربنا وسنة نبينا للتكذيب من أجل حديث السيدة نفسها، في قضية أخرى!.

يجب أن تسير قافلة الكتاب والسنة دون عائق!.

وثم أمر أخير، لقد ثبت على وجه اليقين أن الجنين يتكون من حيوان منوي وحيد يخترق ببيضة ـ بويضة ـ المرأة، هذا الحيوان الفذ يسبق مئات الملايين من أمثاله تسبح في الماء الدافق.

وعندما يصل تبدأ المرحلة الأولى من الحياة الإنسانية.

وهو الذي تنشأ عنه الذكورة والأنوثة، ليس لماء المرأة دخل في هذا بل قال العلماء، إن البلبل الذي يرطب الرحم عند الوقاع لا يسمى ماء إلا مجازا ولا دخل له في التكوين.

وقد التقطت صور للحيوان المنوي الذي ينشئ الذكورة، وللآخر الذي ينشئ الأنوثة، كما أمكن في الأنابيب الجمع بين الحيوان المنوي والبيضة.

والمعروف أن القرآن الكريم سبق إلى تقرير هذه الحقيقة في قوله تعالى: «وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى»

واليقين الثابت بالعلم وبالوحي لا يجوز أن يتقدم عليه ظن علمي يرويه حديث آحاد، يزعم فيه الراوي أن الأنوثة تنشأ من علو ماء الأنثى على ماء الرجل!!.

إن حديث الآحاد يتأخر حتما أمام النص القرآني والحقيقة العلمية والواقع التاريخي، أو يتأخر كما يقول المالكيون أمام عمل أهل المدينة، وأمام القياس القطعي كما يقول الأحناف.

ذاك ما هديت إليه، فان كان حقا فمن الله، وإن كان خطأ فمني واستغفر الله أولا وآخرا.

الهوامش والمصدر

(1) البقرة: 114.

(2) الحشر10.

(3) آل عمران:31.

(4) الأنام:164.

(5)،(6)، (7). المائدة: 45 ـ 48 ـ 50.

(8) الأعراف: 204.

(9) البقرة: 97.

(10) النحل: 102.

(11) الشعراء: 192 ـ 196.

(12) التكوير: 19 ـ 21.

(13) النجم: 4 ـ 10.

(14) الأنعام: 103.

(15) الشورى: 51.

(16) لقمان: 34.

(17) المائدة 67.

(18) فاطر: 22.

(19). (20). (21) البقرة: 254. 3. 277.

(22) اجب ربك. استعد للموت ـ متن الثور: ظهره ـ مه: استفهام معناه ثم ماذا يكون؟ حياة أم موت؟ ـ رمية حجر: قدر ما يبلغه. ـ الكثيب: كوم الرمال.

(23) البقرة: 138.

(24) النور: 30.

(25) النور: 33.

(26) النور: 31.

(27) النور: 31.

(28) نص الحديث كما أخرجه عبد الله بن حميد عن ثابت عن أنس «إن امرأة كانت تحتل رجل فمرض أبوها فأتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله إن أبي مريض، وزوجي يأبى أن يأذن لي أن أمرضه! فقال لها النبي: أطيعي زوجك! فمات أبوها، فاستأذنت زوجها أن تصلي عليه فأبى زوجها أن يأذن لها في الصلاة! فسألت النبي فقال لها: أطيعي زوجك! فأطاعت زوجها ولم تصل على أبيها.. فقال لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قد غفر الله لأبيك بطواعيتك لزوجك..!!

والحديث المذكور لا يعرفه رواة الصحاح، وهو يقطع ما أمر به أن يوصل! ويرخص الوفاء بحق الوالدين، وهدفه ألا تخرج المرأة من البيت أبدا، وهو هف ينكره الإسلام، وفي الحديث الصحيح: «إن الله أذن لكن أن تخرجن في حوائجكن»..

(29) الأحزاب: 33.

(30) البقرة: 229.

(31) البقرة: 241.

(32) النساء: 35.

(33) آل عمران: 195.

(34) النحل: 97.

(35) النساء: 34.

(36) النمل 23.

(37) النمل: 33.

(38) النمل: 30 ـ 318

(39) النمل: 44

(40) القمر: 29 ـ 32.

(41) قال الأحنف: إن القرآن أسند عقد الزواج إلى المرأة وقال: «حتى تنكح زوجا غيره» (البقرة 230) وقال: «فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف» (البقرة 234) فعقدها المباشر صحيح، وإذا اعترض الولي تولى القضاء الحكم في النزاع. وردوا حديث «أيما امرأة انكحت نفسها فنكاحها باطل باطل باطل» لأنه يخالف ظاهر القرآن.

رفض أحد القراء مذهب أبي حنيفة، وقال: إن لفظة «تنكح زوجا غيره» حقيقة في الموطأ وحده!! وهذا اعتراض فاحش مدهش.

هل النكاح المنشود يقع عن زنى أو عن زواج؟ لا أظن عاقلا يزعم أن الزنى يحلل المرة لزوجها الأول، فلم يبق إلا أن كلمة «تنكح» حقيقة في العقد والوطء معا، ولكن التعصب المذهبي يجر أصحابه الى الغرائب!!.

(42) البقرة: 282.

(43) وأجاز الأحناف توكيلها بالخصومة «المحاماة».

(44)، (45) البقرة: 29، 275.

(45) الأنعام: 119.

(47) لقمان: 6.

(48) التوبة: 34.

(49) سيدة من أصل يهودي عاشت في بيئة نصرانية بالولايات المتحدة الأمريكية ثم أسلمت.

(50) يونس: 59 ـ 60.

(51) في كتاب ـ الإسلام في النظرية والتطبيق ـ للسيدة مريم جميلة.

(52) العبارات من تلخيص للدكتور «عبد اللطيف عبادة».

(53) البقرة: 168.

(54) البقر: 172.

(55) النور: 61.

(56) النحل: 80.

(57) الأعراف: 74.

(58) السجدة: 26.

(59) إبراهيم: 45.

(60) النحل: 97.

(61) الإسرء: 64.

(62) إبراهيم: 22.

(63) سبأ: 20 ـ 21.

(64) البقرة: 275.

(65) آل عمران: 36.

(66) إرجع الى كتابنا فقه السيرة، وقد شغب عليه بعض القاصرين.

(67) النجم: 28.

(68) المؤمنون: 97 ـ 98.

(69) الهمز الدفع الى العصيان، والنفخ الى الكبر، والنفث الى القلق.

(70) الإنسان: 7.

(71) الحج: 29.

(72) الأنعام: 145.

(73) البقرة: 223.

(74) الأنفال: 58.

(75) الأنبياء: 109.

(76) التوبة: 129.

(77) البقرة: 129.

«ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.. إنك أنت العزيز الحكيم».

(78) البقرة: 151 ـ 12.

«كما أسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا اليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. فاذكروني أذكركم وأشكروا لي ولا تكفرون».

(79) آل عمران: 164.

«لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين».

(80) الجمعة: 2، 3، 4.

«هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم».

(81) الحج: 39.

(82) الأعراف: 32.

(83) النساء: 105.

(84) النحل: 44.

(85) الأعراف: 43.

(86) الإسراء: 58.

(87) الكهف: 59.

(88) القلم: 42 ـ 43.

(89) (90) أغلب الأئمة كان يمنح الفارس ثلاثة أسهم، واحدا له، واثنين لفرسه! أما أبو حنيفة فاستنكر أن يكون للفرس ـ وهو حيوان ـ ضعف سهم الراجل!.

(91) الأنفال: 41.

(92) الحج: 70.

(93) سبأ: 3.

(94) الأنعام: 59.

(95) الملك: 13، 14.

(96) الحديد: 22.

(97) التوبة: 51.

(98) الملك: 2.

(99) الأنعام: 104.

(100) الكهف: 29.

(101) استصحب هذا المثل عند قراءة أحاديث القدر!.

(102) الأعراف: 172.

(103) الروم: 43، 44

(104) فصلت: 27، 28.

(105) ق: 24 ـ 29.

(106) الأعراف: 186.

(107) مريم: 75، 76.

(108) الأنعام: 149.

(109) السجدة: 13.

(110) الحج8 ـ 10.

(111) فصلت: 30.

(112) المؤمنون: 99 ـ 100.

(113) المؤمنون: 101 ـ 104.

(114) المؤمنون: 105.

(115) المؤمنون: 106 ـ 107.

(116) المؤمنون: 108 ـ 110.

(117) المؤمنون: 111.

(118) التحريم: 7.

(119) الأعراف: 43.

(120) فاطر: 15.

(121) إشارة الى قوله تعالى: «ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والأنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها..» الأعراف: 179.

(122) الأعراف: 179.

(123) طه: 15.

(124) النجم: 39 ـ 41.

(125) الإسراء: 14.

(126) الروم: 9 ـ 10.

(*) يصدر قريبا عن المعهد العالي للفكر الإسلامي.

(**) سبأ 13.

(***) البقرة 29.

(****) لقمان: 6، 7.

(*****) هذا العنوان من وضع مخرج الكتاب استفادة من جوهر الموضوع، ولالوم عليه..

(******) يرى البعض أن الحارث ضعيف ـ فهو متهم بالتشيع ـ وبعد البحث تأكدت أنه ثقة. الحارث الأعور من الرواة الذين ثار حولهم لغط لأنه متهم بالتشيع وقد أشاع الأعمش عنه هذه التهمة ويبدو أن ذلك. لصلة تشده الى بني أمية، وقد قرأت عنه أخيرا بحثا للمشايخ الغماريين المشتغلين بعلم الجرح والتعديل، ولهم مؤلفات حديثيه كثيرة، وعرفت أن الحارث من الثقات، وقد يكون أحسن حالا من بعض رواة الصحاح!.

ومتن الحديث الذي أثبتناه تبدو عليه أنوار النبوة.. ولا يضره طعن الطاعنين…

(***) طلاب الغنيمة لا يخلو منهم عصر وفيهم نزل قوله تعالى: «إذ ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا».

المصدر : محمد الغزالي ـ السنة النبوية بين أهل الفقه .. وأهل الحديث ـ دار الشروق ـ الطبعة الحادية عشر