المحطة الثامنة ( في بريطانيا )
·حصلت على بعثة من جامعة اليرموك للدكتوراه في أمريكيا، وراسلت العديد من الجامعات، وحصلت على المطلوب، إلا أن أسباباً لم تتضح كلها في حينها، جعلت رئيس الجامعة لا يوافق على هذه القبولات، فحالت دون الاستفادة من هذه البعثة.
·حصلت على قبول في كلية الطب في جامعة مانشستر في بريطانيا، شريطة الحصول أولاً على دبلوم لمدة عام، وعلى النفقة الخاصة.
·سافرت إلى مانشستر برفقة زوجتي في 15/8/1979 م أي قبل الدراسة بشهر كامل، وقد عرفت الكلية جيداً، ورتبت أمور السكن عند عجوز وحيدة، عمرها ستون عاماً، وقد عانيت قليلاً أثناء البحث عن السكن، بسبب الشروط التي وضعتها للسكن المناسب، إذ لا بد أن يكون بيتاً صغيراً مستقلاً ما أمكن، وعند عجوز لا تشرب الخمر، ولا تقتني كلبا، وكان لي كل ذلك، وبدأت الدراسة قبل البداية الفعلية للكلية.
·كانت الشهادة الأولى هي دبلوم متقدم في علم الفيروسات والمناعة، وهي أصعب شهادة في دراستي على الإطلاق، وقد وفقني الله تبارك وتعالى للحصول على امتياز فيها، حيث كنا سبعة عشر طالباً من أربع عشرة دولة، وقد حدث أثناء وبعد هذا الدبلوم أمور مهمة لا بد من ذكرها:
·أولاً: كان رئيس قسم البكتيريا بروفيسوراً اسمه باتريك كولارد، إنجليزي، يعرف اللغة العربية؛ لأنه خدم في العراق، وفي فلسطين، أيام الانتداب البريطاني، وهو حقاً عالم بالجراثيم، إذ أمضى حياته متفرغاً لذلك، بلا زوجة ولا أولاد.
وكان يعمل في كليتين مختلفتين، واحدة في جامعة لندن والأخرى في جامعة مانشستر، وكانت محاضرته الوحيدة الأسبوعية لنا في وقت صلاة الجمعة تماماً، فيوم الجمعة كغيره من أيام العمل عندهم، وكنت أنا وشاب آخر من سوريا نصلي، لذلك تغيبنا عن صلاة الجمعة أول مرة، ولكن قبل الجمعة الثانية تشاورنا في الأمر، وكان الرأي أن نذهب لمقابلته، وإعلامه بالأمر للضرورة. وعند موعد المقابلة خاف زميلي من ردة فعل سلبية للبروفيسور، وانعكاس ذلك على نتائج الدراسة، فلم يذهب معي.
·فحزمت أمري، وتوكلت على الله، وقرأت ما استذكرت من الأدعية، ودخلت عليه متوضئاً، وقلت لـه: إن المادة التي تدرسها هي مادة شيقة وممتازة - وكان الكتاب المعتمد من تأليفه - وقلت لـه:
إنني درست كتابك كله قبل بداية الدراسة، ولكن عندي مشكلة، وهي تعارض وقت المحاضرة مع صلاة الجمعة، وهي صلاة في غاية الأهمية بالنسبة لنا، نحن المسلمين، لا نستطيع أن نتغيب عنها … كنت أتكلم وأنظر إلى تعابير وجهه، وهو يصغي باهتمام، دون أن ينبس ببنت شفة، وبعد أن أنهيت أجابني باللغة العربية قائلا:
" الذي تُسأل عنه يوم القيامة، أهم من الذي تُسأل عنه يوم الامتحان" ... ولم يزد، فاستأذنته وذهبت للصلاة وذهب هو للمحاضرة … وعندما عُدت سألني الطلاب باستغراب: هل تكلمت شيئاً مع البروفيسور؟ فقلت لهم: نعم.
فما الذي حدث؟! قالوا إنه غيَّر موعد المحاضرة؛ لتصبح يوم الخميس بدلاً من يوم الجمعة، معللاً ذلك بتعارضها مع أمر هام لأحد زملائكم (على حد تعبير البروفيسور نفسه).
·كانت في تلك الفترة قمة الثورة الإيرانية (1979- 1980). فإذا تكلم أحد بما لـه علاقة بالشرق أو بالإسلام أو بالإمام الخميني، كان ينظر لي، وكأنني مندوبٌ للعالم الإسلامي في الغرب... !!
·ومضت الأيام وانتهت هذه السنة الصعبة، وكانت النتيجة أن وفقني الله للحصول على الامتياز، أما زميلي الذي خاف أن يذهب معي لمقابلة البروفسور بخصوص الصلاة فقد أخفق، وفصل من الجامعة.
·كنت أحظى باحترام وتقدير كبيرين من هذا البروفيسور، بعد هذه المقابلة حتى انه كان يَذْكُرني كثيراً بالخير، في غيابي، كما أنه زارني في الأردن في منتصف الثمانينات.
·ثانياً: عندما أنهيت الامتحانات الكتابية، ثم المناقشات الشفوية لدرجة الدبلوم، أُخبرنا أن النتائج ستظهر أمام مكتب مسجل الجامعة، على اللوحة الساعة 12 ظهراً، فذهبنا جميعاً طلاباً وطالبات للانتظار أمام المكتب المذكور، وكانت ساعات صعبة وطويلة جداً في حياتي، وفي الوقت المحدد خرج من يُعلق ورقة النتائج على اللوحة الخاصة، وعندها تدافعنا ليعرف كل نتيجته، ولما لم أجد اسمي بين الناجحين دارت بي الأرض، وكانت لحظات عصيبة جداً، ولم أنتبه إلا على كلمات التهنئة من الطلاب والطالبات، فقلت: على ماذا ؟! فقالوا: "على الامتياز" إذ كانوا قد وضعوا اسمي في مكان خاص لم أنتبه لـه. وعندما رأيته وتأكدت من ذلك، استدرت مسرعاً لأجد مكاناً نظيفاً أسجد فيه لله شكراً على ذلك.
فلم أجد أمامي إلا كوخ الحارس، وهو تقليد عند الإنجليز كوخ وحارس في الأماكن المهمة، فاستأذنته لأدخل الكوخ، فقال: لماذا فأخبرته أنني أريد أن أصلي فيه، وأشكر الله على هذه النعمة - نعمة الامتياز - فعندما عرف الأمر قال: أوه … معنى هذا أنك ستشرب (الخمر) كثيراً هذه الليلة احتفالا بالتفوق ... !! فانظر بربك كيف يفكر المسلم وبما يفكر به الآخرون ... !؟ فالحمد لله على نعمة الإسلام.
المصدر
- تقرير: المحطة الثامنة ( في بريطانيا ) موقع عبدالحميدالقضاة