خطاب الأستاذ صالح عشماوي في حفل الهجرة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
خطاب الأستاذ صالح عشماوي في حفل الهجرة


الأستاذ صالح عشماوي

يجب أن نعد أنفسنا للعمل ونوطنها على الكفاح، وأن نطرح الخنوع والتواكل ونشق طريقنا بأيدينا وأن نقولها صراحة لمن يريدون أن يغتصبوا حقوقنا: نحن لا زلنا أقوياء أعزاء..

إخواني الأعزاء:

نحمد الله تبارك وتعالى ونصلي ونسلم على رسول الله، إمام الزعماء والمصلحين، وسيد المجاهدين، وقدوة الصابرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، وأحييكم بتحية الإسلام، تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد ها قد من الله علينا باللقاء، وتلاقت الأشباح بعد أن تعانقت على البعد الأرواح وها أنا أرى أمامي وجوهًا مشرقة وضاءة، وجباهًا شامخة منيرة، طال شوقنا إليها وقد حرمنا من رؤيتها زمنًا طويلا، وقد هرعت إلينا من كل حدب وصوب، من مختلف أحياء القاهرة ومن الأقاليم، من الوجهين البحري والقبلي، حتى ضاق هذا السرادق – على سعته – بمن فيه وفاضت جموعكم حتى ملأت من هذا الميدان الحيز الكبير، كل هذا رغم ضيق الوقت لتوجيه الدعوة وعمل الدعاية، فلم يصرح لنا بهذا الحفل إلا في العاشرة من مساء أمس، وها قد مضت خمس ساعات متوالية على هذا الحفل المبارك وأنتم تستمعون إلى الخطباء والشعراء في غير ضجر ولا ملل، ولكن لا عجب فهي العقيدة الراسخة التي جمعت بيننا، ولا حرج على فضل الله، فهو الذي ألف بين قلوبنا فأصبحنا بنعمته إخوانا.. ولا تنتظروا مني أن أشكركم على ما تجشمتم من عناء وما لقيتم من صعاب، فمهما قلت فلن أفيكم حقكم من الشكر، ولن يزن شكري جناح بعوضة مما أعده الله لكم من أجر.

أيها الإخوان:

من جميل صنع الله أن يكون لقاؤنا في مناسبة كريمة هي عيد للمؤمنين، وفي يوم من أيام الله الخالدة الذي سجل فيها القدر صفحة بيضاء كتبت بمداد من ذهب لعباده المجاهدين.

نحن الآن في منتصف الليل، في الساعة الثانية عشرة تمامًا، في هذه اللحظة الفارقة التي نودع فيها عامًا ونستقبل فيها آخر وإني أدعوكم في هذه اللحظة أن نتوجه بكل جوارحنا في خشوع إلى العلي الكبير، وأن نصل قلوبنا بالملأ الأعلى، ولنستعرض الماضي بما فيه فإن وجدنا خيرًا فلنحمد الله، فذلك فضله علينا، وإن وجدنا غير ذلك فلنستغفر الله، فهو الذي يقبل التوبة ويعفو عن السيئات واذكروا أيها الأخوة، أن المؤمن بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع فيه، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه.. ولنسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، ويثبت أقدامنا، ويبارك أخوتنا، وينصر دعوتنا، وأن يجمعنا دائمًا على طاعته وفي ميدان العمل لدعوته، إنه أفضل مسئول وأكرم مأمول.

أيها الإخوان:

نحتفل الليلة بذكرى الهجرة والاحتفال بالهجرة هو في الواقع احتفال بتلك المبادئ الخالدة التي جاءت بها الدعوة المحمدية، هو احتفال بمبدأ الحرية التي سوت بين الراعي والرعية، بين السلطان والسوقة، بين الأبيض والأسود، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.

هو احتفال بمبدأ العدالة الذي جعل من أنصاره محمد صلى الله عليه وسلم القوامين بالقسط، لا يرعون في حدود الله كبيرًا أو صغيرًا، ويقيمون العدل ويحكمون بالقسط أينما كانوا وحيثما حلو، وحسبكم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها".

هو احتفال بإنصاف الفقير وحماية الضعيف وبانتصار الرجولة والتقشف على الخنوثة والترف، هو احتفال بالإصلاح الاجتماعي الذي لا تقوم معه حرب الطبقات ويجعل من البشر جماعة متكافلة غرضها رضاء الله وهدفها الإحسان لعباده.

الاحتفال بالهجرة هو احتفال بهذه المبادئ الخالدة وهو فوق ذلك ومعه احتفال بالتضحية والفداء ، وأما المهاجرون إلا المثل العليا لنكران الذات في سبيل الحق، خرجوا من ديارهم وأهليهم وأموالهم ليجاهدوا في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

ولا أريد أن أسترسل في الحديث عن الهجرة وكيف كانت دعوة للحق والحرية والإخاء، يهتف بها أصدق داعية وأكرم رسول، نشيدًا قدسيًا ووحيًا من السماء، فيضيق الكفار ذرعا بالدعوة وبالداعية، ويبيتون له القتل ويقفون على بابه بالمرصاد، لقد تاقت الذئاب إلى أن تشفي غيظها من الدم الزكي، وظنت أنها تستطيع أن تسكت صوت السماء الذي يتردد في الأرض، ليرد أهلها إلى الصواب، وحسبت أن في قدرتها أن تعطل موكب الحضارة عن السير ولكن خاب سعيها وأبى الله إلا أن ينصر الحق.

ولا أريد أن أتعرض لحادث الهجرة وهل كان فرارًا بالعقيدة محافظة على الرسالة وطلبا للأنصار.

والتماسًا للتربة الخصبة ينمو فيها الإيمان وتزدهر العقيدة، أم كان عملا إيجابيًا يعتبر بداية للتضحية والبذل والفداء، وانسحابًا عسكريًا يراد به اختيار الوقت المناسب للمعركة، وتحديد المكان اللائق بالقتال؟

وها هو التاريخ يحدثنا كيف صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، فسادت العقيدة الصيحة وسعد الناس بحكم كتاب الله، وعاشوا في ظل مبادئ الإسلام سادة أعزة.

ولكن ها هي الإنسانية تنتكس مرة أخرى، وها نحن نعيش كما عاش الوثنيون في مكة، في مجتمع موبوء، ينخر في عظامه الشرك والظلم والفساد والفجور.

لقد عبد الكفار في مكة الأصنام والأوثان، وأصبح الناس في عصرنا عصر الحرية والنور، يعبدون المال ويعبدون المناصب والجاه فتعددت الآلهة أضعاف ما كانت عليه في الجاهلية وإن اختلفت الأشكال وتباينت الأسماء.

أما تبرج النساء في عصرنا، عصر الأصباغ والمساحيق، والشعر المقصوص، والصدر المفضوح والساق المكشوفة، ويطول بي الشرح إن أردت الحصر والإحصاء هذا التبرج لا شك أنه يزري بتبرج الجاهلية الأولى.

أما الخمر فلم تعد شرابًا واحدًا بل تعددت أنواعه وتباينت أشكاله وأما الميسر فلم يعد ذلك الضرب الساذج الذي كان موجودًا في الجاهلية، بل أصبح ميادين للسباق وموائد خضراء تغري اللاعبين واللاعبات ويلتف حولها أصحاب الثروات ليقضوا الليل لا في التسبيح والاستغفار، ولا في التهجد والقيام ولكن في المقامرة بالأموال والأعراض.

أما الظلم والبغي والفساد، فقد تعددت ألوانها فمن هضم لحقوق الضعفاء إلى منع للزكاة وهي حق الفقراء إلى رشوة ومحسوبية، ومضاربات واختلاسات إلى إثراء فاحش ولو على حساب الجنود وأرواح الأبرياء!. سندعو الناس إلى الإسلام الكامل والنظام الشامل، إلى الاعتقاد الشامل، إلى الاعتقاد السليم والخلق الكريم والتشريع الحكيم، إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن الإسلام وحده هو الكفيل بإنقاذ المدنية الفكرية وهداية الإنسانية الحائرة.

سنحدث الناس عن الإسلام ومجده، وعن الجهاد وأجره، وعن التضحية ولذتها، وعن الشهادة ودرجتها، سنكلم الناس عن الروح والمثل العليا، وإن حدثونا عن المادة والإباحية، سنقبل على الناس وإن أعرضوا عنا، وسنشقي لهم وإن سخروا منا، ولكن دعوني أصارحكم أيها الأخوة الأحبة أنه لا سبيل إلى الخلاص إلا بإعداد النفس، وترويضها على الصبر، وتحمل الصعاب، والموت في سبيل العقيدة والمبدأ، وهما أثمن شيء تزهق في سبيله الأنفس وتراق على جوانبه الدماء فنهاجر بأرواحنا لا بأجسادنا ولن نترك هذا الوطن المنكوب، بل سنبقى ونجاهد فيه، حتى نطهر أرضه من الفساد، ودياره من البغي والجور، والتهتك أو نعيش سادة أعزاء.

سنعكف على نفوسنا نطهرها ونزكيها وعلى صلتنا بالله نوثقها وننميها، وعلى دعوتنا نتفقه فيها ونتفهم مراميها، وعلى الروابط التي تجمعنا نغذيها ونقويها، وعلى صفوفنا ننظمها ونعدها ونسويها..

يجب أن نعد أنفسنا للعمل ونوطنها على الكفاح حتى نرفع راية الإسلام عالية خفاقة لا تنال منها الأيام ولا تهزها أحداث الزمان.

يجب أن نطرح الخنوع والتواكل، وأن نشق طريقنا بأنفسنا، فنذلل عقباتنا بأيدينا وأن نقولها صراحة لمن يريدون أن يغتصبوا حقوقنا "نحن لا زلنا أقوياء أعزاء".

أيها الإخوان الأعزاء:

فقد أوذي المؤمنون من قبل فصبروا فإن كنتم قد أوذيتم فاصبروا ولقد تطاول الباطل على الحق، ونالوا من المجاهدين دهرًا طويلا، فإن طالت محنتكم واستطال بلاؤكم فصابروا ولقد هاجر أسلافكم الأولون ليتجمعوا ويرابطوا، فلئن عزت عليكم هجرة الجسد فهاجروا بأرواحكم وتجمعوا ورابطوا وأنكم تريدون النصر والنصر من عند الله، وما عند الله ينال بطاعة لا بمعصية، فاتقوا وتبتلوا.

ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم، ولا أعدكم بشيء فلا أملك لكم من الله نفعًا أو ضرًا ولكنكم إذا أخلصتم النية لله وصدقتم العزيمة فإن وعد الله لا وعدي وعهد الله لا عهدي، أن يمكن لكم في الأرض وينصركم نصرًا عزيزًا (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا).

أيها الإخوان:

ها نحن نودع عامًا ونستقبل آخر، وما زلنا نصبر ونصابر وننتظر ونرابط، عسى الله أن يجعل لكم من بعد الهجرة بدرًا، ومن بعد بدر فتحًا، (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ).

المصدر: المباحث القضائية – العدد (46) – 5المحرم سنة 1970هـ / 17 أكتوبر سنة 1950م.


إقرأ أيضاً