دعوة الإصلاح بين أصحاب النظرة المادية والنظرة الربانية (1)
بقلم: جمعة أمين عبد العزيز
كثر الكلام، وزاد الحديث في هذه الأيام عن الإصلاح، وكل اتجاه يدلي بدلوه، والمتأمل في الأحاديث والمبادرات التي تحدثت عن الإصلاح الداخلي، يجدها قد تنوعت مشاربها، واختلفت مصادرها، وتباعدت نظراتها، فمن الناس من يؤكد أن الإصلاح يبدأ بالجانب الاقتصادي، وهم أصحاب النظرة المادية الذين يقولون إذا صلح الاقتصاد عاش الناس في أمن وأمان ورغد من الحياة، فتشبع البطون، وتُكتسى الأجساد، وتطمئن النفوس، وتُمتنع السرقات، وينتهي تهريب الأموال، ويُقضى على تجارة المخدرات، وتصبح الدنيا زينةً ولهوًا وسعادةً، ولو تدبَّر هؤلاء ما يقولون لوجدوا ما يأملون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه.
وأصحاب هذه النظرة لا يأبهون بالجانب الأخلاقي أو العقائد والقيم والسلوك الحميد، إذ انفصل هذا الجانب عن رؤيتهم أو في أحسن الأحوال لو جاء يجيء في آخر ترتيب أولوياتهم، ولا يهمهم أثر العقيدة والتحلي بالأخلاق الفاضلة، فالمهم عندهم العالم الفذ في علمه ولو انحلت أخلاقه، أو الطبيب الحاذق والمستغل لمرضاه، أو المهندس البارع في علمه ولو ارتشى في عمله، أو المدرس المتفوق في مادته ولو كان غير أمين في حصته ومع تلاميذه.
لا يعني هؤلاء أن تنتشر القيم المادية، وأن تسود على القيم الروحية والقلبية، أو أن يجتمع الحلال والحرام في آنٍ واحد، والانحلال والالتزام في مكان واحد، والمسجد والملهى، والحجاب والسفور، والزوجة والعشيقة، والبنوك الربوية والإسلامية، ومن يدعوك إلى الإلحاد في وسائل الإعلام، ومن يدعوك إلى الإيمان، المهم أن يبدأ الإصلاح بالجانب الاقتصادي لتشبع البطون، ولا يهم أن تختلط الأرحام في الفروج.
ولهؤلاء نقول اقرءوا التاريخ وتدبروا سنن الله فيه، وعودوا إلى صفحاته، وتأملوا ما حدث لأصحاب هذه النظرة المادية، فلقد أنبأنا العليم الخبير بأن هناك حضارات سادت بالعلم وملكت الدنيا؛ لكنها بادت بسوء الخلق حين علمت وتطاولت وقالوا ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ (فصلت: من الآية 15) فكانت نهايتها أن أصبحت حصيدًا كأن لم تغن بالأمس، وليست قصة عاد قوم هود منا ببعيد حين غرتهم قوتهم مما هم فيه من شوكة وسلاح، وزادهم غرورًا خيرات الأرض المتدفقة وثمراتها المتكاثرة، فجحدوا بنعمة الله ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ (126) ومَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ (131) واتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وبَنِينَ (133) وجَنَّاتٍ وعُيُونٍ (134) إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)﴾ (الشعراء) ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)﴾ (هود)، وما أكثر ما قصّه القرآن علينا ليبين لنا وبال هذه النظرة، واقرأ إن شئت سورة هود ففيها وضوح الفكرة وتأكيد المعنى.
وأنت لا تجد امرأً سيطرت عليه شهوات الدنيا وماديتها، وأصبح مهمومًا بها دون غيرها، فلا يؤمن بسواها محركًا وباعثًا إلا كانت علاقاته الإنسانية بالناس كيفما كانت، قائمة على أساس المنفعة المادية، فأولياؤه وأصفياؤه هم الذين ينفعونه ماديًّا، فالمودة معهم هي المودة النفعية، والمجاملة معهم هي المجاملة النفعية والإيثار بينهم هو الإيثار النفعي وهكذا.
ولذلك؛ فإن الوشائج المادية حين يكثر وجودها بين الناس على هذه الصورة، وتتغلغل حتى تنفذ إلى بواطن اللاشعور، فإنها سرعان ما تنقلب إلى عداوة، ضارية إذا ما بليت أسبابها أو انفضت بواعثها ودواعيها وبين المودة النفعية والعداوة النفعية، يقوم صراخ أعمى بين الناس، يؤذن بتخريب البناء الاجتماعي وتقويضه، فلا تتحقق سعادة ولا يسود الأمن والأمان، ولك فيما يحدث في الدول الإسكندنافية وأعلى الدول في مستويات المعيشة وأغناها، هي صاحبة أعلى معدل في الانتحار، والقلق النفسي، والأمراض النفسية وصدق الله ﴿فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)﴾ (طـه).
للذين يتعجبون من هذا الكلام؛ لأن مصدره كتاب ربنا الذي يرتب العقول ترتيبًا إسلاميًّا؛ كي تفكر بنظرة ربانية، نقول لهم اسمعوا لواحد تؤمنون بما يقوله لا لشيء، إلا لأنه أمريكي الموطن والنشأة والثقافة؛ إنه "جون فستر دالاس" وزير خارجية أمريكا من عام 1952- 1959م، واجتزأ جزءًا مهمًّا من كتاب (حرب أم سلام) يقول فيه: "إن هناك شيئًا ما يسير بشكل خاطئ في أمتنا، وإلا لما أصبحنا في هذا الحرج وفي هذه الحالة النفسية، لا يجدر بنا أن نأخذ موقفًا دفاعيًّا، وأن يتملكنا الذعر، إن ذلك أمر جديد في تاريخنا، إن الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية، إنما نقصنا هو إيمان صحيح قوي، فبدونه يكون كل ما لدينا قليل، وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، أو دبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، أو العلماء مهما كثرت اختراعاتهم، أو القنابل مهما بلغت قوتها، فمتى شعر الناس بالحاجة إلى الاعتماد على الأشياء المادية؛ فإن النتائج السيئة تصبح أمرًا حتميًّا".
ومن هنا؛ فإن المسلمين يختلفون عن غيرهم في طريقة تفكيرهم للإصلاح، إنهم يطلقون عقولهم وقد تخلصت من كل إصر وقيد لتبدع في حدود مجالها وهي حرة طليقة مؤمنة إيمانًا عميقًا يحمي المبدأ، ويضحي من أجل العقيدة؛ لأنه لا إيمان دون إعمال فكر ولا فكر صحيح دون حرية.
الإيمان بالله يحرر الإنسان فكرًا وشعورًا وإرادةً من كل القيود، ويفرض على الإنسان التفكر بوجدان واعٍ يقظ بما يحيي وجوده، ويعمر حياته ويزكي كيانه، ولذلك فإن إحياء الفكر الإنساني السليم يلزمه ثلاث خصائص أو مقومات متكاملة هي:
1- تقدير مكانة الإنسان ورسالته.
2- المعرفة بطبيعة الإنسان وإمكاناته.
3- تحرير الإنسان من كل أشكال العبودية.
فالإسلام يعتبر الحرية فريضة واجبة؛ لأن عليها يتوقف المصير الذاتي للإنسان كفرد، ويتوقف عليها مصير الأمة في حاضرها ومستقبلها، ولذلك فإن الفكر الإصلاحي مرتبط بالحرية وهي مرتبطة به، فلا صلاح ولا إصلاح إلا بحرية الإنسان.
فلا يمكن للإنسان أن يكون إيجابيًّا مبدعًا مشاركًا في تنمية الوطن، والعمل على علوه وإعلائه، إلا إذا كان هو نفسه حرًّا طليقًا من كل قيد.
حرًّا في اعتقاده، حرًّا في تفكيره، حرًّا في إرادته، حرًّا في اختياره، حرًّا في آرائه، فلا يقيده قانون طوارئ، ولا لجنة أحزاب، ولا قوانين سيئة السمعة، ولا قيود لآراء وأفكار ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: من الآية 29).
ولكي تكون حريته سليمة لا بد أن يكون لها قيود أخلاقية ودينية، توجه العقل إلى التفكير السليم، وأولى هذه القيود صحة الاعتقاد وصدق الاتباع؛ لأن العبودية لله سبحانه وتعالى هي عين الحرية وكمالها التي يتحقق فيها أمران لا يتحققان مع أي عقيدة أخرى، كمال الذل وكمال الحب لرب العالمين، فلا يخضع إلا لله، وهذا كمال الحرية، ومن هنا كان لا بد من ترتيب العقل ترتيبًا إسلاميًّا، ولا يصل العقل إلى نضجه الإسلامي، وسلامة تفكيره إلا إذا تعرَّف على خالقه ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)﴾ (الأعلى)، ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾ (الطلاق)؛ ليتيقن الإنسان من أن الذي يركن إليه وينصاع لأوامره وينفذ منهاجه الذي فيه صلاح الفرد والمجتمع، بل والعالم بأثره؛ حكيم عليم قدير فيسلم قياده له، ولا يملك إلا أن يقول سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فإذا عرفه بنفسه وطبيعتها، ورسالته في الوجود وكيفية صلاحه ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)﴾ (الشمس)؛ عالج شهوات هذه النفس بدواء القرآن فسعد وأسعد.
وإذا عرفه بالكون وما فيه وكشف له سننه وقوانينه، وأمره بعمارته، كما أمره أن يسعى في الأرض، ويمشي في مناكبها، ويتفكر وينظر ويتأمل ويتدبر ويستنبط من التجارب، ويضع من الوسائل ما يصلح به تجارته وزراعته وصناعته، وبيته وأسرته ومجتمعه؛ فيصبح آمنًا في سربه ولو ملك قوت يومه؛ لأنه آمن بقول ربه ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾ (الملك).
إننا نؤكد أن هذه الأمة الإسلامية إنما سادت قرونًا طويلة، واتسعت وانتشر ملكها من وسط آسيا شرقًا إلى المحيط الأطلسى غربًا، تملك الثروات حتى إن حاكمها خاطب السحابة يومًا، قائلاً لها "أمطري أنَّى شئتِ فسوف يأتيني خراجك"، مع عدل يقام ومساواة بين الأبيض والأسود والأعجمي والعربي والسيد والمسود، والمرأة والرجل، وحرية في الاعتقاد لمن حبسوا أنفسهم في صوامعهم فكنائسهم مصانة، وعقائدهم محمية، وشرائعهم معمول بها بينهم "لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين".
نقول: انتصرت هذه الأمة، وأصبح رجالها في أحسن الأحوال تشرئب له الأعناق وتتمنى محاكاتها الأمم، كل ذلك بقوة إيمانها، ومتانة وحدتها، واجتماع أرواحها، ومحبتها البالغة التي تغلغلت في شغاف قلوبها في سبيل ربها، هذا الحب الذي جمع بين القلوب، ووحَّد بين المشاعر حتى جعل القبائل المتناثرة قلبًا واحدًا ورجلاً واحدًا، يحكمهم دستور واحد، حقَّق لهم الأمن والأمان والعيش الرغد.
ومن هنا نقول إنه لا إصلاح للمجتمع إلا بصلاح الفرد، نبدأ كما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أولاً: الإصلاح الفردي، والذي تم في مكة، واستمر بعدها وإن شئت فسمه صلاح الفرد.
ثانيًا: الإصلاح الجماعي بما نزل من تشريعات ربانية في المدينة؛ وذلك فإن الإخوان المسلمين أكدوا في مبادرتهم للإصلاح على بناء الإنسان أولاً وذلك:
1- بالتأكيد على احترام ثوابت الأمة المتمثلة في الإيمان بالله وكتبه ورسله وشرعه.
2- تربية النشء نظريًّا وعمليًّا على مبادئ الإيمان والأخلاق الفاضلة.
3- إطلاق حرية الدعوة لشرح مبادئ الإسلام وطبيعته وخصائصه وشموله لكل جوانب الحياة.
4- حث الناس على الالتزام بالعبادات والتمسك بالأخلاق الفاضلة والمعاملات الكريمة بكل الوسائل.
5- تنقية أجهزة الإعلام من كل ما يتعارض مع أحكام الإسلام ومقتضيات الخلق الكريم.
6- ثم يأتي بعد ذلك الإصلاح بشتى أنواعه السياسي، والاقتصادي، والتعليمي، والقضائي، والاجتماعي والأسرة... إلخ.
ولهذا ينبغي علينا أن نؤكد المقومات التي ندعو إليها؛ لنبدأ الإصلاح الحقيقي الذي يعيد لنا حضارتنا وهويتنا ألا وهي:
1) العبودية لله وحده.
2) التجمع على آصرة العقيدة فيه.
3) استعلاء إنسانية الإنسان على المادة والمحافظة على كرامته.
4) سيادة القيم الربانية التي تحمي إنسانية الإنسان لا حيوانيته.
5) حرمة الأسرة باعتبارها لبنة المجتمع.
6) الخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه.
7) تحكيم منهج الله وشريعته وحدها في شئون هذه الخلافة وعمارة الكون بهذا المنهج.
وبذلك لا تكون الدنيا أكبر هم الإنسان ولا مبلغ علمه، بل يعمر الدنيا حتى ولو قامت القيامة وفي يده فسيلة فليغرسها؛ لكن لنحصد ثمرة غرسه ليس في الدنيا فحسب، ولكن حين يلقى ربه ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾ (الزلزلة) فيسعد في الدنيا والآخرة.
- المصدر: إخوان أون لين