مذبحة المنشية (3)
بقلم: د محمد عباس
قدمة
يا إخوتي في الله.. أنتم لا تتخيلون مدى رعبي إذ أمحص واقعة تاريخية لأنشرها أو لأهملها.. أفعل ذلك برعب.. مدركا أن خطئي قد يودي بي إلى النار.. ولكي أقرب الأمر لكم يا أيها الجيل الحبيب البائس المعذب المسكين.. فإنني أذكركم بذلك الفيلم السينمائي المسمى: " الطريق إلى إيلات" لقد نسيت أسماء أبطاله لكنني أذكر تلك الواقعة التي كان الضابط يعدل المفجر ويطرق عليه كي يتواءم مع فتحته في الطوربيد.. وكانت كل حركة تحمل الخطر الهائل للانفجار المميت الذي يمكن أن يقضي على الضابط الفدائي في لحظة واحدة..
يا قراء: أنا أحس بنفس الإحساس و أنا أتناول أي واقعة تاريخية.. أخشى أن أخطئ الحساب.. أن أسئ فهما فأسئ قولا.. أن ينفجر فيّ لغم التفسير الخاطئ للمعلومة التاريخية.. أو أن يضلني الهوى.. فلا أظفر حتى بتمزق جسدي إلى أشلاء وبموت يريحني.. و إنما هي النار.. فكلما تمزقت أشلاء تجمعت – بقدرة الله – كي أتمزق من جديد.. يكاد يجمدني الرعب من أن أخطئ أو ينزلق بي الهوى فأكون من الذين يصليهم الله نارا وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب..
يا قراء : ليس لي من الأمر شيء .. بيد أني رأيت باطلا مصدقا وحقا مكذبا فخشيت أن أقابل الله ولم أكشف للناس ذلك..
ووالله الذي لا إله إلا هو.. إنني لأتمني أن يأتيني أحد القراء ببينة تبرئ جمال عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل و أصحابهما.. لأنني حين أدينهما إنما أدين في نفس الوقت بعض نفسي.. وحين أحكم عليهما الحكم القاسي الذي أحكمه الآن عليهم.. إنما أبتر بعض نفسي وبعض تاريخي.. و إن أنس لا أنسى تلك المرات والمرات والمرات التي كنت ألجأ فيها إلى شريط تسجيل خطاب عبد الناصر في المنشية.. كي أثبت لمن حولي أن الحادث حقيقي.. كان انفعاله يلهب مشاعري.. وكانت شجاعته تخلب لبي..
نفس الشريط عندما أسمعه الآن أدرك كم الرجل بارعا في التمثيل وكم كان كاذبا..نفس الدليل وعكس النتيجة.. فكيف لا أخشى مكر ربي..كان المطلوب تماما أن أقع في الخديعة وقد وقعت.. وكان المطلوب يا أمة أن تقعوا جميعا في ذات الخديعة .. ولقد وقعتم..نفس الدليل..فعندما أسمع الشريط أن أدرك أن جمال عبد الناصر.. الضابط المقاتل المحترف ذا الخبرة الطويلة في ميادين القتال – وهي خبرة لم تحظ للأسى بنصر واحد -.. هذا الضابط سيكون رد فعله الطبيعي والتلقائي والبديهي والفطري هو أن ينبطح على الأرض فور سماعه صوت إطلاق الرصاص.. خبرة حياته كلها تدفعه لذلك التصرف.. رد فعل انعكاسي لا ينتظر تدخل العقل.. تماما كما تضغط مكابح السيارة بعنف عندما تكاد تدهم طفلا.. أنت ساعتها لا تفكر.. بل إن قدمك تنتفض على الفور لتقوم بالضغط على المكبح كما تتحرك يديك على المقود لتبعد الكارثة..
كل هذا يتم دون تفكير..المنطقي.. نعم هو المنطقي الوحيد..الأمر ليس أمر شجاعة ولا رباطة جأش.. الأمر أمر رجل دولة.. مسئول عن دولة وعن أمة وعن مصائر .. والأمر ليس مجرد مؤامرة لاغتيال رجل الدولة.. بل قد يتهدد الخطر الدولة كلها.. واستقلالها ومصيرها.. والمفروض أنه لا يعرف من وراء تلك المؤامرة.. ولا حجمها.. ولا حجمها ولا تشعبها ولا امتدادها.. فقد يكون مع هذا الذي يطلق الرصاص مائة شريك وقد يكون هناك آلاف يعاونونه في الخارج.. مسئولية رجل الدولة الحقيقي تدفعه للانبطاح على الفور.. ثم لمغادرة المكان بأقصى سرعة.. فما يدريه أن المكان ملغم و أن إطلاق الرصاص هو الإشارة الأولى و أن المكان كله سينسف بعد ذلك نسفا.. ومسئولية رجل الدولة تدفعه للتوجه بأقصى سرعة إلى أقرب مقر لقيادة عسكرية أو سياسية يستطيع فيها التحكم فيما يحدث والسيطرة عليه.. ألا يمكن أن يكون الأمر مقدمة لغزو؟.. من أين تسنى لجمال عبد الناصر أن يدرك أن المكلف باغتياله شخص واحد؟.. لماذا لم يفترض أنهم عشرات فإذا فشل أحدهم كرر الآخر المحاولة..
لم يكن الأمر أمر شجاعة إذن..بل كان أمر واحد يدرك.. ويثق.. ويعلم علم اليقين أن هناك شخص واحد تحت السيطرة هو الذي سيطلق الرصاص " الفشنك".. و أنه لا خطورة البتة.. وأن المطلوب هو استجلاب مشاعر التعاطف والحب من الجماهير بخطبة حماسية طويلة..و أثناء ذلك كسر القلم الحبر في جيب عبد الناصر..والجيب على اليسار..ثم أن الصدفة العجيبة اقتضت أن يكون لون الحبر في القلم : أحمر!!.. يا عجائب الصدف..كانت هذه " الفشرة – وعذرا لاستعمال الكلمة التي لم أجد ما يعبر عن المعنى أكثر منها" أوسع بكثير من قدرة أي تفكير نصف عاقل على تصديقها..لكننا.. وهذا هو الأعجب حقا فهو أننا كأمة حمقاء قد صدقنا..
تمخضت قرون التدهور والانحلال والتيه لتسفر الأمة عن أخس ما فيها..وتكونت عصابة.. نعم عصابة من العسكر وبعض الشيوخ وجل الصحافيين وبعض الكتاب والمفكرين كل منها راح يزين الباطل ويدعو له.. وبدأ تأليه الحاكم.. حين تتحول رؤاه إلى عقيدة غير قابلة للنقاش..في الدنيا نحاول دائما فرز الأحداث إلى حق لا شك فيه.. و إلى شك لا يقين فيه.. و إلى كذب لا حقيقة فيه..
فأما الحق الذي لا شك فيه فإنه بعد أن يمحصه العقل و يبلغ ذروته فإنه يتحول إلى عقيدة.. والعقيدة هي أمر انعقد القلب عليه فلم يعد يحتاج إلى مزيد من تفكير أو بحث أو نقاش.. انعقد ولن ينفك.. وذلك موجود على مستوى الدين.. وموجود بصورة أدنى على مستوي الحقائق اليقينية.. إن خمسة مضروبة في خمسة تساوي خمسة وعشرين.. وهي تساوي ذلك بدون أي تفكير جديد وبدون أن تستعيد أدلتك المنطقية وعلومك الرياضية .. ذلك أنك غير مستعد من البداية للدخول في نقاش سفسطائي مع من ينكر ذلك..
بعد ذلك تأتي درجات من المتشابهات تحتمل النقاش والبحث والحوار والأدلة.. وعن طريق ذلك فقط قد تقترب هذه الوقائع من الحقيقة والصواب أو من الكذب والضلال..كان حادث المنشية بافتراض أقصى درجات حسن الظن من ذلك النوع الأخير..لكن ذلك لم يحدث..فقد أراده الطاغوت عقيدة .. يكفر من لا يؤمن بها ويعاقب العقاب الشديد..تماما كما فعل اليهود بالهولوكوست..فلو أنهم على يقين من أنهم على صواب لما اهتموا كل هذا الاهتمام بسن كل هذه القوانين لاعتبار من ينكر الهولوكوست مجرما يستحق العقاب..نفس الوضع حتى الآن – بعد أكثر من خمسين عاما – من حادث المنشية.. فالأمر ليس مطروحا للنقاش.. إما أن تؤمن فتستحق المدح والتقريظ و إما أن تكفر فتنطلق عليك الكلاب المسعورة.. والإيمان والكفر هنا ليسا بالله و إنما بحادث المنشية..لقد كانت هذه الواقعة وحدها - تحويل الحادثة إلى عقيدة – كفيلة بإثارة الشك كله في الأمر كله منذ البداية..
الإخوان المسلمون على مذبح المناورة
لقد آن الأوان لكي نسمع رأيا آخر في حادث المنشية..رأي شيوعي.. ينقله إلينا طارق المهدوي في كتابه: الإخوان المسلمون على مذبح المناورة..والقارئ يعلم رأيي في الشيوعيين..
لكنني في نفس الوقت أحتفل بهذا الشهادة كثيرا لأسباب عديدة.. فأكثر كذب الشيوعيين في التفسير والتحليل لا في الوقائع.. كما أن الشيوعيين منذ عهد عبد الناصر حتى الآن هم المسيطرون على وسائل الإعلام القريبون من كواليس اتخاذ القرار ومخازن الأسرار..ثم أن ضرب الإخوان كان قضية من أهم قضاياهم وفي جزء منها كانت لصالحهم لذلك من الطبيعي أن نجد أخبارها عندهم..
ثم أن هناك سبب أخير..ذلك أنني عندما أريد أن أقيم الحجة على داعرة لن أبحث عن شاهد في رحاب مسجد.. بل سأبحث عن قواد يكشف سرها..
والآن لنبدأ مطالعة شهادة إسماعيل المهداوي:
... ".. كان مجلسه قيادة الثورة قد استشار أحد خبراء الدعاية الأمريكيين في كيفية تحويل جمال عبد الناصر إلى زعيم قومي محبوب فاقترح عليهم هذا الخبير أن يدبروا محاولة فاشلة لاغتيال عبد الناصر على أن يظهر بصورة قوية أثناء تنفيذ هذه المحاولة الوهمية هذا لأن الشعب المصري عاطفي بطبعه وبالتالي فإن هذا الحادث سوف يدفع الجماهير إلى الشعور بأن رئيسهم يتعرض لخطر شديد وبأنه قد واجه الخطر بشجاعة وصلابة مما يدفعهم إلى الإعجاب به ويؤهله للحكم العاطفي ويزيد من شعبيته، واشتركت المخابرات المركزية الأمريكية في الترتيب لهذه العملية عن طريق فؤاد جلال وكيل جمعية الفلاح فأرسلت لعبد الناصر قميصا واقيا من الرصاص استلمه مدير مكتبه آنذاك عبد الرحمن مخيون. كما كان جمال عبد الناصر قد نجح في احتواء بعض العناصر المؤثرة داخل جماعة الإخوان المسلمين مثل أحمد حسن الباقوري وصالح عشماوي وعبد الرحمن السندي وأتباعهم ورغم أن قيادة الجماعة قامت بفصلهم من صفوفها عندما أدركت ارتباطهم بعبد الناصر إلا أنه قد ظل لكل منهم رجال وأتباع داخل صفوف الجماعة يدينون له بالولاء الشخصي و من بين هؤلاء الرجال كان المحامي هنداوي دوير أحد أتباع عبد الرحمن السندي يتولى رئاسة منطقة إمبابة في الجهاز العسكري الخاص حتى أن هذه العلاقة الخاصة بين دوير والسندي قد تسببت في تعامل قيادات الجهاز العسكري الخاص مع دوير بدرجة عالية من الحذر وصلت إلى أن رئيسه المباشر في الجهاز " إبراهيم الطيب " كان يرفض إخطاره بالأماكن التي يقيم فيها رغم أهمية ذلك في الاتصالات التنظيمية وقد قام عبد الرحمن السندي بتسليم هنداوي دوير إلى أحد ضباط البوليس وهو صلاح دسوقي ليقوم بتوجيهه حسب تعليمات السلطة العسكرية وفي يوم 25/ 10/ 1954 قام دسوقي باصطحاب هنداوي دوير في زيارة سرية إلى منزل جمال عبد الناصر حيث دبروا معا عملية الاغتيال الوهمية واستلم دوير مسدسا وخمس عشرة طلقة مزيفة (فشنك) لتنفيذ العملية حيث قام بدوره بتسليمها إلى مرؤوسه في الجهاز العسكري الخاص محمود عبد اللطيف الذي كان من أمهر رماة المسدس في جماعة الإخوان المسلمين على اعتبار أنها طلقات حقيقية وأمره بأن يقوم باغتيال جمال عبد الناصر أثناء إلقائه خطابا سياسيا بمناسبة إتمام توقيع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا في ميدان المنشية بالإسكندرية يوم 26/ 1954/10 مستغلا في ذلك ضعف شخصية محمود عبد اللطيف وطاعته العمياء لأوامر رؤسائه، ورغم وجود مئات الإخوان في الجهاز العسكري الخاص بالإسكندرية إلا أن محمود عبد اللطيف قد سافر من إمبابة بالقاهرة لاغتيال عبد الناصر في منشية الإسكندرية!!
وفي اليوم المحدد لإلقاء الخطاب وهو يوم 26/ 1954/10 قام رجال الأمن بطرد الجماهير التي كانت تنتظر عبد الناصر وبإخلاء السرادق المعد للخطاب تماما ثم أعادوا حشوه من جديد بعشرة آلاف مواطن تم جلبهم خصيصا من مديرية التحرير في سيارات نقل كبيرة لتمرير المسرحية ورغم عدم السماح لجماهير الإسكندرية بدخول السرادق الممتلئ برجال مديرية التحرير إلا - أن سلطات الأمن قد سمحت لمحمود عبد اللطيف بالدخول بل وبالجلوس على " مقعد متقدم في مواجهة رئيس مجلس قيادة الثورة!! ومن الجهة المقابلة فقد قام عبد الرحمن مخيون بإلباس جمال عبد الناصر القميص الواقي من الرصاص الذي كان قد تلقاه من المخابرات الأمريكية وقد ألبسه إياه في مبنى البورصة بالإسكندرية.
وأثناء قيام عبد الناصر بإلقاء خطابه أطلق محمود عبد اللطيف تسع طلقات في صدره إلا أن عبد الناصر لم يصب بأية إصابة ولو سطحية وفي نفس ، الوقت قام صلاح دسوقي بإطلاق عدة رصاصات دقيقة التصويب على ميرغني حمزة وأحمد بدر وعلى جوانب المنصة وجدران السرادق حتى يبدو للجماهير أن الذي أطلق على قائد الثورة هو رصاص حقيقي لأن هناك إصابات حقيقية وخدوشا وآثار إطلاق حقيقية، وبمجرد أن بدأ عبد اللطيف يطلق رصاصه الزائف حتى رفع عبد الناصر هامته مواجها الرصاص بصدره وهو يقول " أيها الأخوة... إخواني المواطنين فليبق كل منكم في مكانه... إنني حي ولم أمت وإذا مت فإن كلأ منكم هو جمال عبد الناصر... لقد زرعت فيكم القوة " والكرامة ولن تسقط الراية أبدا)).
وبعد أن أفرغ محمود عبد اللطيف مسدسه ألقى به على الأرض كما ألقى دسوقي بمسدسه أيضا على الأرض، وضبط المواطنون مسدس عبد اللطيف! وسلموه إلى السلطات كما ضبط أحدهم وهو نوبي يدعي آدم مسدس دسوقي " وسلمه بدوره إلى السلطات وإزاء إعلان التحليل المعملي في الطب الشرعي بأن ! مسدس عبد اللطيف كان محشوا بالرصاص الزائف فقد اضطرت سلطات الأمن إلى الكشف عن مسدس دسوقي بدعوى أنه المسدس الذي استخدمه عبد اللطيف وبررت سبب هذا التضارب وهذا التأخير في الإعلان عن أداة الجريمة بأن المواطن الذي عثر على المسدس قد أبى إلا أن يقوم بتسليمه شخصيا إلى جمال عبد الناصر ولما كان لا يملك قيمة السفر من الإسكندرية حيث وقع الحادث للقاهرة حيث يقيم عبد الناصر فقد أضطر إلى السفر مشيا على الأقدام حتى سلمه يدا بيد إلى قائد الثورة مما تسبب تأخير الكشف عن أداة الجريمة الحقيقية!!! وقد تسلق عبد الناصر أكتاف هذا الحادث المسرحي ليس فقط ليكسب ود وعطف الجماهير ولكن أيضا للإطاحة بالجميع بدءا بالإخوان المسلمين ومرورا بمحمد نجيب وانتهاء ببقايا المؤسسات والهيئات الديمقراطية فبعد هذا الحادث مباشرة أعلن على صفحات جريدة الجمهورية في 30/10/ 1954حتمية استمرار الثورة إلى الأمام وحتمية المضي قدما في إجراءاتها وأنه كان بوده أن تستمر في سيرها الأبيض إلا أنه مضطر لأن يجعلها تسير في اتجاه دموي أحمر!! واستلهمت سلطات الأمن وهيئة التحرير هذا الإعلان فانقضت على مقار ومؤسسات ومنازل الإخوان المسلمين تحرق وتهدم وتدمر وتعتقل (...) وهكذا فقد تعرض الإخوان المسلمون لأوسع حملات الاعتقال والتعذيب والتنكيل حيث أودع عشرات الألوف منهم ومن أقاربهم وأصدقائهم في السجون والمعتقلات وكان على رأسهم حسن الهضيبي ومكتب الإرشاد، أما هنداوي دوير الذي يعتبر الحلقة الرئيسية في مسرحية المنشية فقد سلم نفسه في اليوم التالي على الحادث مباشرة وذلك كما قال هو ذاته عند محاكمته بغرض إعانة السلطات على ضبط المتهمين والأسلحة دون أن يطلب أي ثمن مقابل ذلك!!
وأودع دوير السجن مع بقية إخوانه الذين أكدوا جميعا على أن إدارة السجن ومصلحة السجون كانت تعامله معاملة خاصة وممتازة في الوقت الذي كان إخوانه فيه معلقين كالذبائح في عنابر التعذيب!! وفي 2/11/1954 تم تشكيل محكمة الشعب العسكرية للنظر في القضية رقم 1 لعام 1954 المتهم فيها محمود عبد اللطيف بمحاولة اغتيال رئيس مجلس قيادة الثورة جمال عبد الناصر وكانت هيئة المحكمة تتكون من جمال سالم رئيسا وأنور السادات وحسين الشافعي عضوين كما كانت هيئة الإدعاء والنيابة العسكرية تتكون من زكريا محي الدين رئيسا ومحمد التابعي وإبراهيم سامي وسيد جاد وعبد الرحمن صالح ومصطفى الهلباوي وعلي نور الدين أعضاء ولم تكن محكمة الشعب تحاكم الإخوان المسلمينبقدر ما كانت تحكم عليهم فهي الخصم والحكم وهي الإدعاء والدفاع وهي الشهود والجمهور بل وهي القانون والدستور لا يردعها أي رادع عن انتزاع الإدانة ضد الإخوان بأية صورة من الصور، واعتمدت هذه المحكمة بشكل رئيسي على عنصرين اثنين هما الانهيار العضوي الذي أصاب الإخوان بسبب التعذيب الوحشي والانهيار النفسي الذي أصابهم بسبب خيانة دوير للعهد وللإخوة التي هي من وحي السماء!! وكما كان هنداوي دوير مدللا من قبل سلطات الأمن والداخلية فقد كان مدللا أيضا من قبل سلطات الإدعاء والمحكمة وذلك في مقابل خدماته الجليلة التي قدمها للعدالة أو بالأدق للمؤامرة حيث استمر يسرد عشرات التفصيلات الدقيقة والوهمية عن الجهاز العسكري الخاص وجماعة الإخوان المسلمين بل وعن رئيس الجمهورية محمد نجيب أيضا!! وفي أكاذيبه المكشوفة ورط هنداوي دوير مرؤوسه محمود عبد اللطيف حيت اتهمه بأنه كان متحمسا بشكل شخصي لارتكاب الحادث وأنه هو الذي اقترح أن يقوم بتنفيذه في الإسكندرية رغم محاولات دوير لصرفه عن ذلك واعتمدت المحكمة كلامه رغم قوة الحجة التي أوردها ببساطة " سباك " إمبابة محمود عبد اللطيف في تكذيبه للمحامي دوير عندما قال بأن مثل هذه الأمور لا تخضع للاعتبارات الشخصية وإنما هي أوامر واضحة من رئيس إلى مرؤوسه لم يكن أمام عبد اللطيف سوى أن يطيعها أو يعرض نفسه للفصل من الجماعة بما يحمله ذلك من احتمالات!!
كما ورط دوير رئيسيه في الجهاز العسكري الخاص إبراهيم الطيب المسؤول عن الجهاز في القاهرة ويوسف طلعت المشرف العام على الجهاز وذلك بادعائه أن إبراهيم الطيب هو الذي أخطره نقلا عن يوسف طلعت بأن الجهاز قد قرر الاتجاه نحو الإرهاب وأن عليهم أن يوجهوا ضربتهم باغتيال جمال عبد الناصر ثم التخلص بعد ذلك من كل أعضاء مجلس قيادة الثورة ورغم أن دوير قد رفض هذا الاتجاه إلا أن الطيب أمره بتنفيذ التكليف ومنحه المسدس المستخدم في الحادث وطلب منه أن يوفد محمود عبد اللطيف للقيام بهذه المهمة واعتمدت المحكمة أيضا كلامه رغم تكذيب الطيب وطلعت معا هذه الادعاءات في الوقت الذي لم يبخلا فيه على المحكمة بالمعلومات التفصيلية التي لديهما عن تنظيم الجماعة والجهاز الخاص ولم يكتف دوير بتوريط هؤلاء الثلاثة بل ورط المرشد العام حسن الهضيبي أيضا عندما ادعى أن قرار الجهاز العسكري الخاص باغتيال عبد الناصر كان قد صدر بعلم وموافقة ومباركة حسن الهضيبي ورغم تكذيب الهضيبي و طلعت والطيب لهذا الإدعاء إلا أن المحكمة اعتمدت عليه في سير القضية والتي تحولت من قضية شروع في قتل المتهم فيها هو محمود عبد اللطيف بشخصه إلى قضية قلب نظام الحكم بالقوة والمتهم قيهما هي جماعة الإخوان المسلمين وبالتالي فقد أصبح حسن الهضيبي هو المتهم الأول بصفته رئيس الجماعة كما ضمت قائمة الاتهام كل قادة وكوادر الجماعة.
ولما كان مجلس قيادة الثورة يريد أن يحقق أكبر مكاسب ممكنة من وراء هذا الحادث ولما كان قد ضمن إحكام قبضته على جماعة الإخوان المسلمين فقد دفع بهنداوي دوير إلى توريط اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية قي هذه القضية الأمر الذي لم يتأخر عنه دوير حيث ادعى أن محمد نجيب كان على اتصال بحسن الهضيبي وأن الطرفين قد وضعا معا خطة لقلب نظام الحكم تبدأ بقيام الإخوان بعدة عمليات إرهابية وباغتيال عبد الناصر وأعضاء مجلس الثورة وبإثارة الاضطرابات والقلاقل الجماهيرية ثم يقوم محمد نجيب بتهدئة الجماهير بإعلان تصفية مجلس قيادة الثورة وتشكيل حكومة جديدة ثم يعلن الإخوان مبايعتهم لمحمد نجيب رئيسا للجمهورية ومبايعتهم لحكومته ويبدأ نجيب في الاتجاه بالبلاد نحو الوجهة الإسلامية التي يريدها الإخوان وأكد دوير أنه قد حضر بنفسه أحد الاتصالات التليفونية التي كانت تتم بين نجيب والهضيبي! ورغم زيف هذا الإدعاء ورغم عدم مواجهة نجيب به أمام المحكمة إلا أن مجلس قيادة الثورة تلقفه على الفور وأعلن بموجبه عزل محمد نجيب من رئاسة الجمهورية وإعادة اعتقاله في المرج حيث ظل هناك حتى وفاته عام 1984.
وفي 1954/12/4 أعلنت محكمة الشعب حكمها الأول بحق قيادات الإخوان المسلمين وقد تضمن إعدام حسن الهضيبي وعبد القادر عودة ومحمد فرغلي ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب ومحمود عبد اللطيف، وتضمن أيضا إعدام العميل هنداوي دوير لإسدال الستار نهائيا على مسرحية المنشية كما تضمن هذا الحكم الأشغال الشاقة المؤبدة بحق خميس حميدة وكمال خليفة وعبد العزيز عطية وحسين كمال الدين وصالح أبو رقيق ومنير الدلة وحامد أبو النصر والأشغال الشاقة خمسة عشر عاما بحق عمر التلمساني وسيد قطب وأحمد شريت وحسن دوح..، وتوالت الأحكام بحق 1125 وبينها خمسون حكما بالإعدام والمئات بالأشغال الشاقة المؤبدة والباقية بالأشغال الشاقة المحددة المدة وأودع ألوف الإخوان في المعتقلات بدون أحكام أو محاكمات أو حتى تهم محددة. وبعد النطق بالأحكام رفض عبد الناصر تصديق أحكام الإعدام وطلب تخفيفها إلى الأشغال الشاقة المؤبدة لأن كل أغراضهم من وراء هذه القضية (المسرحية) كانت قد تحققت ولن يغير في الأمر شيئا أن ينفذ الإعدام في قيادات الإخوان أو يلغى ولكن جمال سالم اعترض على ذلك بشدة وصلت إلى حد إشهار مسدسه في وجه عبد الناصر بدعوى أنه أصدر أحكام الإعدام بمعرفة مجلس قيادة الثورة وأن اعتراض عبد الناصر عليها سوف يظهر جمال سالم وكأنه أصدر هذه الأحكام من تلقاء نفسه وبالتالي سوف يجعله عرضة للاغتيال فتراجع عبد الناصر وأقر تنفيذ أحكام الإعدام باستثناء حسن الهضيبي الذي استبدل الحكم بإعدامه بالأشغال الشاقة المؤبدة، وذلك حتى لا يتحول بنظر الجماهير إلى شهيد فتتعاطف مع قضيته كما حدث بعد اغتيال حسن البنا.
وفي 9/12/54 تم تنفيذ أحكام الإعدام .. ولما جاء دور هنداوي دوير صاح بأعلى صوته أن الاتفاق لم ينص على هذه النهاية وأنه يريد أن يقول كل شيء إذ لا يمكن أن تأتي هذه التمثيلية على رأسه، ولكن أحدا لم يسمعه ومن سمعه لم يستجب لأنه كما كان متوقعا فإن السلطة لا يمكن أن تفي بعهدها مع من خان عهد إخوانه و وضع رقابهم في حبل المشنقة وبعد إسدال الستار بإعدام هنداوي دوير شرع شركاؤه في تحصيل مكاسبهم على النحو التالي:
عبد الرحمن السندي تولى وظيفة كبيرة في شركة شل للبترول ومنحه جمال عبد الناصر فيلا فخمة مزودة بكل وسائل الراحة في مدينة الإسماعيلية السياحية.
- أحمد حسن الباقوري استمر وزيرا للأوقاف حتى عام 1959 ثم أصبح رئيسا لجامعة الأزهر حتى عام 1969 وتحول من حامل مبدأ إلى حامل حقيبة يد تحوي صكوك غفران إسلامية لكافة ممارسات عبد الناصر ومن بعده السادات ثم مبارك واستمر يتنقل بين أروقة وردهات الحكم المختلفة كرئيس لمعهد الدراسات الإسلامية ولجمعية الشبان المسامين وكعضو في مجمع البحوث الإسلامية وفي مجمع اللغة العربية وفي مجلس الشورى وفي المجلس الأعلى للصحافة وغيرها.
- صلاح دسوقي ما لبث أن أصبح نائب وزير الداخلية ثم محافظ القاهرة ثم سفيرا وبعد ذلك تفرغ لإدارة عدة مشروعات اقتصادية كبرى في مقدمتها قيامه بملكية ورئاسة مجلس إدارة شركة سيناء للفنادق.
- أما جمال عبد الناصر فقد كان المستفيد الأكبر من حادث المنشية حيث أزاح من طريقه الإخوان المسلمين]] وأطاح بمحمد نجيب ووجه الضربة القاضية للديمقراطية كما تغيرت مشاعر الجماهير نحوه تغييرا جذريا بعد هذا الحادث وحظي بتعاطف وتأييد شعبي جارف استطاع بموجبه أن ينفرد بحكم البلاد حتى سبتمبر 1970.
انتهت الشهادة الشيوعية..وبعد قراءاتي المستفيضة فإنني أظنها أقرب الشهادات لما حدث فعلا..أقرب للصواب حتى من شهادات قادة الإخوان المسلمين ومنها شهادة الشيخ يوسف القرضاوي..
والأمر لا يعود إلى قصور في شهادات الإخوان.. بل في سمة لا يملكون التحول عنها.. لأنها جزء من العقيدة.. فهم لا يستطيعون إلقاء التهم جزافا ولا الاتهام بالشبهة ولا الإدانة دون بينة.. وكل هذه الصفات تأتي بثمرتها القصوى في مجتمع إسلامي.. ومن هذا المنطلق سنفاجأ بالدكتور القرضاوي يدافع عن هنداوي دوير كأخ مسلم ليس لديه بينة على إدانته فمن واجبه إذن الدفاع عنه..في بيت الدعارة تكون شهادة القواد هي المعتبرة..وفي تجنيد الفنانات تكون شهادة صفوت الشريف هي ما يؤخذ به.. وفي الدفاع عن حقوق الشواذ لا يوجد من نسمع له أفضل من فاروق حسني..وعلى هذا المنوال.. وبذات الاستدلال تأتي أهمية شهادة الشيوعيين على حادث المنشية..
سوف أقرأ معكم في فصل تال – وقلبي يبكي – استجوابا قام به الجلاد صلاح الدسوقي للشهيد سيد قطب.. ورأي الشهيد بنور الله كيف أن الحادث مدبر وملفق.. واستشاط الجلاد غضبا وراح يوبخ الشهيد ويؤنبه لأنه يظن أن الحادث مفتعل للإيقاع بالإخوان..
شهادة للكاتب جلال أحمد أمين
أريد أن أنقل لكم بعضا من رسائل القراء التي أدمت قلبي.. خاصة رسالة القارئ أحمد صبحي.. لكنني قبلها أنقل لكم شهادة للكاتب جلال أحمد أمين.. وهو كاتب علماني إلا أنه منصف وموضوعي وذكي حتى أنني أقول لأصحابي ساخرا " لا ينقصه إلا نطق الشهادتين كي يصبح كاتبا مسلما"..
فإلي شهادته التي نشرتها مجلة أخبار الأدب العدد 1423 وهي شهادة تبدأ بصرخة:
جلال أمين في اتحاد الكتاب: ثورة يوليو صناعة أمريكية!!: هذه الأعوام سواء في تاريخ مصر أو العالم تمثل بحق ما أسميه بالعصر الأمريكي، هذا العصر قسمته إلي مرحلتين، لكن يبدو أنني مضطر للقول أننا قد نكون مقبلين علي مرحلة ثالثة وسوف أتحدث عن المغزي التاريخي لثورة يوليو، باختصار موقع أحداث الثورة في سياق التاريخ المصري والعالمي أو ما أسميه بالعصر الأمريكي'!
بعد ذلك واصل جلال أمين قائلا:
خلال الأربع أو الخمس سنوات السابقة علي الثورة كان المصريون يشعرون بأن شيئا ما سيحدث.. كل شيء كان يشير إلي ذلك.. ملك فاسد.. أخبار عن قصصه مع النساء وموائد قمار، هزيمة 48، حكومات تتغير بلا سبب مقنع.. كل منها أكثر فسادا من الأخري. تفاوت في الدخل. تزايد سكاني. احتكار شريحة معينة من هؤلاء السكان لجميع الامتيازات.
هذا يفسر الفرح العظيم بالثورة. نعم اعتبرناها أمرا طبيعيا ونتاجا للصورة السابقة،الذي كان غريبا فقط بالنسبة لنا هو أن من قام بالثورة ضباط. قلنا: وماذا يضير في ذلك. هم أبناؤنا في النهاية ويملكون مشاعرنا ذاتها ثم من كان سيتجرأ ويفعل ما قاموا به؟! وعلي هذا قبلنا المبادئ الستة التي قررتها الثورة. وهنا لابد أن ألفت النظر إلي أن كل مبدأ كان يمكن أن يفسر وقتها عدة تفسيرات..
في السياسة الداخلية كان السؤال: الجيش قام بالثورة.. تري هل سيعود إلي ثكناته أم سيظل في الحكم؟ في السياسة الخارجية: تخلصنا من الاستعمار لكن هل هذا معناه أننا سنصبح دولة حرة أم تابعين لأمريكا أم لروسيا؟
في موقفنا من إسرائيل: هل نعقد صلحا معها أم نحارب علي الفور أم نبني جيشا ونحارب؟ في التنمية: هل سنركز علي الزراعة أم الصناعة؟ هل نعتمد علي النفس أم الغير؟ هل ستكون الصناعة خفيفة أم ثقيلة؟!
بعد ذلك طرح جلال أمين هذا التساؤل: ما الذي حدد الاختيار في كل ما سبق؟ أجاب علي سؤاله بنفسه: الذي حدده في رأيي ظرف العالم.. لم يكن الاختيار بيد الجيش، نعم كانت دائرة الاختيار أضيق بكثير.. العالم وقتها كان يشهد مولد العصر الأمريكي وكل الذي فعلته الثورة يتمشي مع متطلبات هذا العصر.
قصة مذهلة!
قبل أن يبدي الحاضرون نوعا من الدهشة أو التساؤل قال جلال أمين:
- سأضرب أمثلة لأدلل علي ما أقول.
أكمل: هناك قصة ثابتة ومعروفة وحينما سمعتها للمرة الأولي أذهلتني وأربكتني، وهي أنه لم يتم الإعلان عن سقوط الملك إلا بعد توقيع السفير الأمريكي علي البيان الذي أعده الضباط!
القصة الأخرى أن رجال الثورة حينما وجدوا رئيس الوزراء علي ماهر يتلكأ في تنفيذ خطوات الإصلاح الزراعي قرروا إقالته، يصف أحمد حمروش مجلسا لهم كانوا يتناقشون فيه عن أهمية وجود رئيس وزارة جديد كالتالي: سليمان حافظ نائب رئيس مجلس الدولة يقول لهم. أقترح أن يكون رئيس الوزراء الجديد السنهوري، فإذا بعلي صبري حلقة الوصل بين الثورة وأمريكا وقتها يهمس في أذن جمال سالم بشيء ما(!) وبناء علي هذا الهمس يعتدل جمال سالم في جلسته ويقول: السنهوري علي العين والرأس لكن نخشي من عدم موافقة الأمريكيين عليه، 'بلاش' أحسن لأنهم يتهمونه بأنه يساري!
وواصل الدكتور جلال سرده لعدد من الأمثلة التي يوضح بها إلي أي حد لم يكن الاختيار واردا وإنما كان كل شيء يتم وفقا لما تريده أمريكا:
حتي التغيير عن طريق انقلاب عسكري شكل أمريكي، الإصلاح الزراعي الذي تبنته الثورة كان السبيل المفضل لأمريكا لأنها تظن أنه السبيل الوحيد لمنع انتشار الشيوعية!
أتساءل الآن أيضا: مساعدة مصر لثورة الجزائر هل كان اختيارا مصريا؟! تبنيها للقومية العربية هل كان اختيارا بالفعل؟!
ايزنهاور أشار إلي فراغ موجود في الشرق الأوسط فرد عليه عبد الناصر بأننا سنسده بالقومية العربية..
يحق لي أن أتساءل هنا: هل هذا كان يناسب المصلحة الأمريكية لصد انتشار النفوذ الشيوعي؟! أسارع بالقول أن التساؤل ليس معناه أن ما قامت به مصر من تبن للقومية العربية خاطئ، لكن علينا أن نعترف لأنفسنا أن ذلك كان يصب في مصلحة أمريكا!
اعتمدنا دائما في الإصلاح الاقتصادي علي المعونة الأمريكية مع أن الشعب المصري بالحماس الذي كان موجودا كان يمكن أن يتخلي عن ذلك!
حتي مفهوم التنمية ربطناه بمتوسط الدخل وهو مفهوم أمريكي تماما فضفاض لا يتعارض مع شراء أسلحة.
المفهوم الصحيح للتنمية: إشباع الحاجات الأساسية للناس.. هذا المفهوم لا يسمح بالرفاهية التي يسمح بها الأول!! هل يتصور أحد أنه بعد خمسين عاما وصلت الأمية إلي خمسين بالمائة مع الإشارة إلي أن كوبا قد محت الأمية تماما خلال عامين. وكلها أمور كما أقول تتمشي مع العصر الأمريكي!
مرحلتان
فصٌّل جلال أمين بعد ذلك التغيرات العالمية التي حدثت خلال مرحلتي العصر الأمريكي.. وهي تغيرات فرضت نفسها علي الحالة السياسية المصرية..
1. في الخمسينيات والستينيات (المرحلة الأولي) لم تكن أمريكا قد تسلمت ميراث العالم بشكل حقيقي وابتداء من السبعينيات (المرحلة الثانية) كان هذا قد تم.
2. في (المرحلة الأولي) كان نمو الاقتصاد الغربي والأمريكي نموا غير مسبوق في تاريخ البشرية.. وابتداء من المرحلة الثانية تباطأ هذا النمو بشكل ملحوظ.
3. في الأولي كانت اليابان وأوروبا تعيد بناء اقتصادها، وفي الثانية بدأت تغزو الاقتصاد الأمريكي في عقر داره.
4. في الأولي انتشر نفوذ الاتحاد السوفيتي وفي الثانية لم يعد يشكل خطرا من أي نوع.
5. في الأولي كانت إسرائيل توطد أقدامها في فلسطين والثانية كانت تسعي بكل الطرق إلي توسيع كيانها.. أريد أن أخلص إلي أن أمريكا في المرحلة الثانية كانت تريد اقتصادا أكثر انفتاحا علي الغرب حيث لم تعد أسواقها كافية لاستيعاب منتجاتها.. وفتح الاقتصاد كان يتطلب طرد روسيا من المنطقة، نظاما أكثر سهولة في التعامل مع إسرائيل، القضاء علي القومية العربية، تفكيكا لسلطة الدولة.. باختصار كانت أمريكا تريد دولة رخوة!
تحدث جلال أمين بعد ذلك عما أسماه بالمرحلة الثالثة. أكد أنها بدأت مع سقوط الاتحاد السوفيتي. ثم بدأ في تقريب أبعاد هذه الرحلة إلي الأذهان:
العدو القديم 'الاتحاد السوفيتي' و'الاشتراكية' انتهي وكان علي أمريكا البحث عن عدو جديد! لماذا؟ حتي يستمر انتاجها للأسلحة، وحتي تروض الرأي العام الأمريكي، إنها تريد دائما أن تضعه في حالة خوف دائم، يقولون له: هناك من يتربص بك، من يحسدك، هذا هو السبب في تقبل الشعب الأمريكي للقهر المفروض دائما عليه من سلطته.
ما حدث في العالم أيضا خلال هذه المرحلة أن قوة إسرائيل قد نمت بينما أصاب العرب نوع من الإرهاق الشديد.. كذلك تنامي التهديد الاقتصادي لأمريكا خاصة بعد صعود قوي جديدة في الشرق الأقصي وقيام الاتحاد الأوروبي ولهذا كان علي أمريكا أن تتعامل مع المنافس الجديد..
هذه الأحداث كانت تتطلب تغييرات في العالم العربي والإسلامي أكثر من أي منطقة أخري لأنه ليس أنسب لأمريكا وإسرائيل من تسمية العدو الجديد بـ'الإرهاب الإسلامي' الأمر الذي يعطي مبررا لإسرائيل أن تفعل ما تريد والعرب في حالة كما ذكرت من الإرهاق والتعب. الغرب يتهمهم بأنهم مجرمون فيكون ردهم: والله جايز.. والله محتمل!!
علق ساخرا: 'وصلنا إلي حد أن نقبل أي إهانة يمكن توجيهها إلينا'. واصل: كانت نتيجة هذا أن الضربات التي تلقاها العرب خلال عشر سنوات لم يكن لها مثيل! لقد نشر جلال أمين مقالا مشابها يؤكد فيه السيطرة الأمريكية على ثورة يوليو في عدد مجلة الهلال التذكاري بمناسبة مرور نصف قرن على ثورة يوليو..
لكنني أتساءل : هل لاحظ القارئ حديث جلال أمين عن قانون الإصلاح الزراعي.. و أنه كان طريقة أمريكية..
طعنة الخيانة
لقد ظللت أعواما لا أريد أن أصدق جلال كشك في انتقاداته العنيفة واتهاماته الأعنف لمحمد حسنين هيكل.. وكان أحد هذه الاتهامات هو الاختلافات بين نصوص كتبه ما بين الطبعة العربية والطبعة الإنجليزية.. كنت دائما أدافع عن هيكل.. وكنت أقول لنفسي أن خصائص كل لغة تستلزم نوعا من الاختلاف في الأسلوب.. لكن واقعة محددة طعنت قلبي..
واقعة واضحة صريحة مريرة فاجعة تنال مباشرة من مصداقية هيكل الذي كنت أظن أنني فهمته فهو لا يكذب أبدا كما أنه لا يقول الحقيقة كاملة أبدا.. كنت مقتنعا بذلك.. وكنت أظن أنه مفيد على أي حال كمصدر للمعلومات وكمحلل بارع.. ولم أكن قد أمسكت به متلبسا بالتزوير .. وحتى عندما دبج جلال كشك آلاف الصفحات.. وحتي بعد كتابات مايلز كوبلاند ومصطفى أمين ظل رأيي في هيكل كما هو..
كنت دائما أنصف هيكل على حساب جلال كشك.. بل كنت أتهم مصداقية جلال كشك عندما يكتب عن الطبعات الأجنبية لمؤلفات محمد حسنين هيكل..
لكن الميزان بدأ يميل لصالح جلال كشك.. وفي واقعة محددة ولنقرأ في كتابه: ثورة يوليو الأمريكية – الطبعة الثالثة- المكتبة الثقافية ص 95 و 96:
.. ونمضي في المقارنة بين ما قيل للغربيين المتنورين، وما أعدته مؤسسة تزييف التاريخ لقرائها بالعربية.. فنقارن بين صفحتي 49 الطبعة العربية و صفحة 8 من الطبعة الإنجليزية ( من كتاب ملفات السويس) فنفاجأ بأن الأستاذ قد أتحفنا بنص رسالة الوزير الأمريكي المفوض في مصر عن اللقاء بين فاروق وروزفلت، وترجمها مشكورا هو أو مكتب سكرتيرته السابقة، المتآمرة على " الزعيم " بواقع التسجيلات.. ومنح الخطاب رقم 11 في قائمة الوثائق التي ازدان بها الكتاب العربي وطرب لها الأميون-. ومن أجل استرداد المصداقية التي ضاعت! إلا أننا نكتشف أنه حتى في الوثائق، فإن الأخ الأكبر لا يتورع عن تنقيح التاريخ، بما لا يخدش حياء قرائه القاصرين.. ففي الوثيقة العربية سقط عمدا أهم ما قاله الرئيس الأمريكي للملك فاروق. الأمر الذي لم يكن بوسعه حذفه من الطبعة الإنجليزية.. أو من يدري لعله فعل وأضافه الناشر الإنجليزي لتعزيز المصداقية إياها!.. والنص المخفي هو:
واقترح الرئيس الأمريكي على ملك غير متجاوب، اقترح روزفلت تقسيم الملكيات الكبيرة في (مصر وتسليمها للفلاحين لزراعتها ) (وقد بلغ الحرص على دقة النص أن كلمة : فلاحين! كتبت هكذا: fellahin .. لتحديد الطبقة المقصودة بالتوزيع .. لماذا ضن " هيكل على البؤساء من قرائه العرب بهذا النص البالغ الخطورة؟!.. رغم التطويل المتعمد في الطبعة العربية والاختصار في الإنجليزية.. لماذا؟
الجواب معروف: لأنه يعزز حجة القائلين بأن الإصلاح الزراعي هو أصلا، مطلب أمريكي قديم منذ 13 فبراير 1945) أي قبل الثورة بسبع سنين. وها نحن في أول لقاء بين رئيس أمريكي وملك مصر، لا يجد الرئيسي الأمريكي ما يقترحه على " ملك غير متجاوب " بل مهتم أكثر بالشكوى من معاملة الإنجليز، لا يجد الأمريكي ما يطلبه إلا الإصلاح الزراعي.. ولكن لأن هذه الحقيقة تعزز حجج خصوم الناصرية فقد استحقت أن تنسخ وفي أول ملزمة.. ولكن هيهات فقد بقي حكمها! بل ونصها الأفرنجي!
وعندما يكتب التاريخ بهدف إخفاء تهمة، فهو لا يكون تاريخا، بل شعوذة وتزويرا في مستندات رسمية..
هرعت إلى نسخة ملفات السويس عندي ولم أجد الجملة ..
وظل الميزان يميل لصالح جلال كشك أعواما و أعواما.. ولكن ظلت هذه الواقعة تضيع في زحام مشاغلي وعدم تيسر طبعة إنجليزية.. حتى لجأت أخيرا إلى صديقي الأستاذ محمد طاهر وهو يقيم بالخارج فتفضل بإرسال صورة لصفحة 8 بالنص الإنجليزي..
وشعرت بطعنة الخيانة..
هيكل إذن درج على إخفاء ما يتعلق بعلاقة ثورة 23 يوليو بالمخابرات الأمريكية..
وكان نص الصفحة كالآتي:
Cutting the Lions Tail
populous and potentially the most powerful of the emerging Arab nations And Ethiopia, together with the British at their base in Aden, controlled the strategically vital straits between the Red Sea and the Indian Ocean.
At noon on 13 February 1945, Roosevelt received Farouk on board USS Quincy, anchored in the Great Bitter Lake. To an unresponsive monarch, more interested in complaining about the iniquities of Killearn, he suggested that it might be a good idea to break up the large landed estates in his country and hand them over for cultivation by the fellahin .
At noon the following day he received the King of Saudi Arabia. They considred the question of homeless Jews in Europe, the King insisting on the impossibility of cooperation between Arabs and jews, in Palestine or anywhere else, and the President promising that he would do nothing to assist the Jews against the Arabs and that he would make no move hostile to the Arab people.
The two leaders then went on to discuss the British and the French. `We like the English, said the President, `but we also know the English and how they insist on doing good themselves. You and I want freedom and prosperity for our people and their neighbours after the war The English also work and sacrifice to bring freedom and prosperity to the world, but on the condition that it be brought by them and marked "made in Britain".' lbn Saud smiled, and nodded assent.
Later the King said that he had never heard the English so accurately described. `The contrast between, the President and Mr Churchill is `very great,' he told the American Minister in Jeddah `Mr Churchill speaks deviously, evades understanding, changes the stabject to avoid commitment. C.ordng me repeatedly to bring him back to the point. The President seeks understanding in conversation; his effort is to make two minds meet; to dispel darkness and shed light on the issue.' On his return Roosevelt told Congress that he had `learned more about the whole problem, the Moslem problem, the Jewish problem, by talking with ibn Saud for five minutes than could have learned in the exchange of two or three dozen letters.' An era of postwar harmony between America and the Arabs seemed to be about to open.
Two months later Roosevelt was dead.
لعبة الأمم
عندما قرأت كتاب لعبة الأمم لمؤلفه مايلز كوبلاند في بداية السبعينيات سخرت منه كثيرا.. كان يوحي أنه الرجل الذي صنع الملوك والرؤساء،و أعاد شاه إيران إلى العرش، وجاء بحسني الزعيم، والحناوي، والشيشكلي، وجمال عبد الناصر إلى السلطة.
كنت أقرأ كتاب الرجل كما أقرأ كتابات كتابنا المهرجين..
كان الرجل يقص كيف بدأت علاقة الثورة بالمخابرات الأمريكية قبل قيامها بشهور.. وكيف استمرت بعد قيامها حيث فضل قادتها العلاقة مع المخابرات عن العلاقة الطبيعية عن طريق السلك الدبلوماسي.. ويقلب الرجل كثيرا من الحقائق المستقرة في أذهاننا.. وكيف اتفقت مصلحة عبد الناصر معهم في ضرب التيار الإسلامي..
حديث كوبلاند عن هيكل أسوأ بكثير من ذلك..
ولقد تجاهلت ذلك كله..
لكنني فوجئت بالدكتور مصطفى خليل في حوار له في برنامج شاهد على العصر – قناة الجزيرة – بتاريخ 8/9/1421هـ الموافق 4/12/2000م.
يسأله أحمد منصور:
- هل تعتقد إن اللي ذكره كوبلاند -وأنت كنت وزيراً ونائباً لرئيس الوزراء في عهد عبد الناصر
- إن ما ذكره كوبلاند صحيح كله؟
ويجيب د. مصطفى خليل:
أعتقد إنه قال: الحقيقة في جزء كبير من الكتاب بتاعه..
يا إلهي..
قال الحقيقة في جزء كبير..
لو أن عشر ما قاله صحيح لكانت الكارثة كاملة.. والخيانة كذلك..
ناصية كاذبة خاطئة
قبيل هجمة التتار الجدد علينا أفتى الأستاذ محمد حسنين هيكل بأن أمريكا ليس لديها غرض معين من مجيئها إلى هذه المنطقة سوى إستعراض قوتها فحسب ، وأن اختيار المنطقة نفسه مجرد صدفة.. لكن نيلسون مانديلا هاجمها بضراوة مقررا أنها إنما جاءت لتستخدم قوتها فى إرهاب العالم وإخافته بغرض الاستحواذ على ثروات المنطقة .
تقول مجلة فلسطين في عددها بتاريخ السبت 27 أيلول 2003
ومما لا شك فيه أن تاريخ المخابرات الأمريكية في مصر قديم.. قدم يقظة هذا الشعب.. ولكن النشاط المكثف للمخابرات الأمريكية بدأ منذ فجر ثورة يوليو 1952م .. وسجل المخابرات الأمريكية في مصر طويل.. ومرير مليء بالأحداث والأرقام بدءا من «كيرميت روزفلت» ومرورا بـ«ويليام ليكلاند» المسؤول السياسي في السفارة الأمريكية آنذاك ثم «ستيفن مد» أحد البارزين من المسؤولين عن عمليات المنطقة العربية والذي سبق له في عام 1949 أن كلف بمهمة الإعداد لانقلاب حسني الزعيم في سوريا.. ومن بعده أسماء أخرى كثيرة مثل «الجنرال كابل» و«جيمس انجلبر جر» و«باول لينيا رجر» وقد كان الأول متخصصا في الأنظمة العسكرية للدول النامية واحد رجال العلوم السياسية في وزارة الخارجية الأمريكية، واستطاع أن يعقد علاقات طيبة مع عدد من كبار الصحفيين المصريين من بينهم محمد حسنين هيكل ومصطفى أمين.
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه..
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه..
" الثورة .. ليست كذلك"..
"و هيكل.. ليس كذلك"..
وتلك الصورة المثالية الحالمة ليست كذلك..
والبطولة والإبهار والمجد والزعامة و الإلهام والفكر والحكمة والقداسة والعصمة والصواب المطلق ونفي الآخر وادعاء أن الآخر كان شيطانا رجيما ... كل ذلك لم يكن كذلك..
نعم.. برنامج صناعة النجم غير الحقيقة وألبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق..
كل ذلك.. لم يكن كذلك ..
والصدق كان غائبا..
والكذب كان سائدا..
وقهروا الأمة على أن يكون الكذب عقيدة لا تحتمل سؤالا واحدا..
نعم..
لم يكن الأمر سوء حظ ولا سوء تقدير ولا اختلافات رؤى..
بل كانت – من البداية - ناصية كاذبة..
كان مشايخ من الأزهر يفتون بعبادة الشيطان..
وكان حمدي قنديل – لن ينسي الأمريكان ولا الشيطان هذا الصنيع له أبدا – يذهب إلى السجن الحربي ليسجل مبايعة الإخوان لعبد الناصر.. كانوا تحت وطأة التعذيب يعدون أنهم سيبايعون.. لكنهم كانوا يتراجعون أمام الميكروفون فيرفضوا التسجيل.. وكان المذيع الكبير الشهير الإنسان القومي المهذب "الشيك" ينادي الزبانية قائلا: " شيلوا القرف ده " وهو يقصد أن يأخذوهم ليعطوهم جرعة أخرى من التعذيب تقنعهم بالتسجيل معه
لا بطولة ولا رومانسية ولا إبهار ولا حتي مأساة..
إنما إجرام..
وناصية كاذبة خاطئة..
كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى {6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى {7} إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى {8} أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى {9} عَبْدًا إِذَا صَلَّى {10} أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى {11} أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى {12} أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى {13} أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى {14} كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ {15} نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ( العلق).