مـعالم في الطريق
بقلم / الأستاذ سيد قطب
مقدمة
تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية .. لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها .. فهذا عَرَضٌ للمرض وليس هو المرض .. ولكن سبب إفلاسها في عالم " القيم " التي يمكن أن تنمو الحياة الإنسانية في ظلالها نموًا سليمًا وتترقى ترقيًا صحيحًا .
وهذا واضح كل الوضوح في العالم الغربي ، الذي لم يعد لديه ما يعطيه للبشرية من " القيم " ، بل الذي لم يعد لديه ما يُقنع ضميره باستحقاقه للوجود ، بعدما انتهت الديمقراطية فيه إلى ما يشبه الإفلاس ، حيث بدأت تستعير- ببطء - وتقتبس من أنظمة المعسكر الشرقي وبخاصة في الأنظمة الاقتصادية ! تحت إسم الاشتراكية !
كذلك الحال في المعسكر الشرقي نفسه .. فالنظريات الجماعية وفي مقدمتها الماركسية التي اجتذبت في أول عهدها عددًا كبيرًا في الشرق - وفي الغرب نفسه - باعتبارها مذهبًا يحمل طابع العقيدة ، قد تراجعت هي الأخرى تراجعًا واضحًا من ناحية " الفكرة " حتى لتكاد تنحصر الآن في " الدولة " وأنظمتها ، التي تبعد بعدًا كبيرًا عن أصول المذهب .. وهي على العموم تناهض طبيعة الفطرة البشرية ومقتضياتها ، ولا تنمو إلا في بيئة محطمة ! أو بيئة قد ألفت النظام الدكتاتوري فترات طويلة !
وحتى في مثل هذه البيئات قد بدأ يظهر فشلها المادي الاقتصادي - وهو الجانب الذي تقوم عليه وتتبجح به - فروسيا - التي تمثل قمة الأنظمة الجماعية - تتناقص غلاتها بعد أن كانت فائضة حنى في عهود القياصرة ، وتستورد القمح والمواد الغذائية ، وتبيع ما لديها من الذهب لتحصل على الطعام بسبب فشل المزارع الجماعية وفشل النظام الذي يصادم الفطرة البشرية .
ولابد من قيادة للبشرية جديدة !
إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال .. لا لأن الحضارة الغربية قد أفلست ماديًا أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية .. ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره لأنه لم يعد يملك رصيدا من "القيم" لا يسمح له بالقيادة .
لابد من قيادة تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية ، عن طريق العبقرية الأوروبية في الإبداع المادي ، وتزود البشرية بقيم جديدة جدَّة كاملة - بالقياس إلى ما عرفته البشرية – وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي في الوقت ذاته.
والإسلام - وحده - هو الذي يملك تلك القيم ، وهذا المنهج .
لقد أدَّت النهضة العلمية دورها .. هذا هو الدور الذي بدأت مطالعه مع عصر النهضة في القرن السادس عثر الميلادي ، ووصلت إلى ذروتها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر .. ولم تعد تملك رصيدًا جديدًا .
كذلك أدَّت " الوطنية " و " القومية " التي برزت في تلك الفترة ، والتجمعات الإقليمية عامة دورها خلال هذه الفرون . . ولم تعد تملك هي الأخرى رصيدًا جديدًا .
ثم فشلت الأنظمة الفردية والأنظمة الجماعية في نهاية المطاف .
ولقد جاء دور " الإسلام " ودور " الأمة " في أشد الساعات حرجًا وحيرة واضطرابًا .. جاء دور الإسلام الذي لا يتنكَّر للإبداع المادي في الأرض ، لأنه يعدُّه من وظيفة الإنسان الأولى منذ أن عهد الله إليه بالخلافة في الأرض ، ويعتبره - تحت شروط خاصة - عبادة لله ، وتحقيقًا لغاية الوجود الإنساني .
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30]
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي } [الذاريات: 56]
وجاء دور " الأمة المسلمة " لتحقق ما أراده الله بإخراجها للناس : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110]
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة: 143]
ولكن الإسلام لا يملك أن يؤدي دوره إلا أن يتمثل في مجتمع ، أي أن يتمثل في أمة .. فالبشرية لا تستمع - وبخاصة في هذا الزمان - إلى عقيدة مجردة ، لا ترى مصداقها الواقعي في حياة مشهودة . . و " وجود " الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة .. فالأمة المسلمة ليست " أرضًا " كان يعيش فيها الإسلام .
وليست " قومًا " كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي .. إنما " الأمة المسلمة " جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي . . . وهذه الأمة - بهذه المواصفات ! قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر- الأرض جميعًا .
ولابد من " إعادة " وجود هذه " الأمة " لكي يؤدي الإسلام دوره المرتقب في قيادة البشرية مرة أخرى . لابد من " بعث " لتلك الأمة التي واراها ركام الأجيال وركام التصورات ، وركام الأوضاع ، وركام الأنظمة ، التي لا صلة لها بالإسلام ، ولا بالمنهج الإسلامي . . وإن كانت ما تزال تزعم أنها قائمة فيما يسمى " العالم الإسلامي " !!!
وأنا أعرف أن المسافة بين محاولة " البعث " وبين تسلم " القيادة " مسافة شاسعة . . فقد غابت الأمة المسلمة عن " الوجود " وعن " الشهود " دهرًا طويلاً .
وقد تولت قيادة البشرية أفكار أخرى وأمم أخرى ، وتصورات أخرى وأوضاع أخرى فترة طويلة .
وقد أبدعت العبقرية الأوروبية هذه الفترة رصيدًا ضخمًا من " العلم " و " الثقافة " و " الأنظمة " و " الإنتاج المادي " .. وهو رصيد ضخم تقف البشرية على قمته ، ولا نفرِّط فيه ولا فيمن يمثله بسهولة ! وبخاصة أن ما يسمى " العالم الإسلامي " يكاد يكون عاطلاً من كل هذه الزينة !
ولكن لابد - مع هذه الاعتبارات كلها - من " البعث الإسلامي " مهما تكن المسافة شاسعة بين محاولة البعث وبين تسلم القيادة .
فمحاولة البعث الإسلامي هي الخطوة الأولى التي لا يمكن تخطيها !
ولكي نكون على بينة من الأمر ، ينبغي أن ندرك - على وجه التحديد - مؤهلات هذه الأمة للقيادة البشرية ، كي لا نخطىء عناصرها في محاولة البعث الأولى .
إن هذه الأمة لا تملك الآن - وليس مطلوبًا منها - أن تقدم للبشرية تفوقًا خارقًا في الإبداع المادي ، يحنى لها الرقاب ، ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية . . فالعبقرية الأوروبية قد سبقته في هذا المضمار سبقًا واسعًا.
وليس من المنتظر - خلال عدة قرون على الأقل - التفوق المادي عليها ! (لا أتفق)
فلابد إذن من مؤهل آخر ! المؤهل الذي تفتقده هذه الحضارة !
إن هذا لا يعني أن نهمل الإبداع المادي .
فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا .
ولكن لا بوصفه " المؤهل " الذي نتقدم به لقيادة البشرية في المرحلة الراهنة .
إنما بوصفه ضرورة ذاتية لوجودنا .
كذلك بوصفه واجبًا يفرضه علينا " التصور الإسلامي " الذي ينوط بالإنسان خلافة الأرض ، ويجعلها - تحت شروط خاصة - عبادة لله ، وتحقيقًا لغاية الوجود الإنساني .
لابد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية - غير الإبداع المادي - ولن يكون هذا المؤهل سوى " العقيدة " و " المنهج " الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنجاج العبقرية المادية ، تحت إشراف تصور آخر يلبِّي حاجة الفطرة كما يلبيّها الإبداع المادي ، وأن تتمثل العقيدة والمنهج في تجمع إنساني .
أي في مجتمع مسلم .
إنْ العالم يعيش اليوم كله في " جاهلية " من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها.
جاهلية لا تخفف منها شيئًا هذه التيسيرات المادية الهائلة ، وهذا الإبداع المادي الفائق !
هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية . . وهي الحاكمية . . إنها تسند الحاكمية إلى البشر ، فتجعل بعضهم لبعض أربابا ، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى ، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم ، والشرائع والقوانين ، والأنظمة والأوضاع ، بمعزل عن منهج الله للحياة ، وفيما لم يأذن به الله .. فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداء على عباده . . وما مهانة " الإنسان " عامة في الأنظمة الجماعية ، وما ظلم " الأفراد " والشعوب بسيطرة رأس المال والاستعمار في النظم " الرأسمالية " إلا أثرًا من آثار الاعتداء على سلطان الله ، وإنكار الكراهة التي قررها الله للإنسان ! وفي هذا يتفرد المنهج الإسلامي .. فالناس في كل نظام غير النظام الإسلامي ، يعبد بعضهم بعضًا – في صورة من الصور - وفي المنهج الإسلامي وحده يتحرر الناس جميعًا من عبادة بعضهم البعض ، بعبادة الله وحده ، والتلقي من الله وحده ، والخضوع لله وحده .
وهذا هو مفترق الطريق .. وهذا كذلك هو التصور الجديد الذي نملك إعطاءه للبشرية- هو وسائر ما يترتب عليه من آثار عميقة في الحياة البشرية الواقعية - وهذا هو الرصيد الذي لا تملكه البشرية ، لأنه ليس من " منتجات " الحضارة الغربية ، وليس من منتجات العبقرية الأوروبية ! شرقية كانت أو غربية .
إننا - دون شك - نملك شيئا جديدًا جدَّة كاملة .
شيئاً لا تعرفه البشرية . ولا تملك هي أن " تنتجه " !
ولكن هذا الجديد ، لابد أن يتمثل -كما قلنا - في واقع عملي .
لابد أن تعيش به أمة .. وهذا يقتضي عملية " بعث " في الرقعة الإسلامية هذا البعث الذي يتبعه - على مسافة ما بعيدة أو قريبة - تسلم قيادة البشرية .
فكيف تبدأ عملية البعث الإسلامي ؟
إنه لابد من طليعة تعزم هذه العزمة ، وتمضي في الطريق .
تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعًا .
تمضي وهي تزاول نوعا من العزلة من جانب ، ونوعًا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة . .
ولابد لهذه الطليعة التي تعزم هذه العزمة من " معالم في الطريق " معالم تعرف منها طبيعة دورها ، وحقيقة وظيفتها ، وصلب غايتها .
ونقطة البدء في الرحلة الطويلة .. كما تعرف منها طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الأطناب في الأرض جميعًا . . أين تلتقي مع الناس وأين تفترق ؟ ما خصائصها هي وما خصائص الجاهلية من حولها ؟ كيف تخاطب أهل هذه الجاهلية بلغة الإسلام وفيم تخاطبها ؟ ثم تعرف من أين تتلقى – في هذا كله – وكيف تتلقى ؟
هذه المعالم لابد أن تقام من المصدر الأول لهذه العقيدة . . القرآن . . ومن توجيهاته الأساسية ، ومن التصور الذي أنشأه في نفوس الصفوة المختارة ، التي صنع الله بها في الأرض ما شاء أن يصنع ، والتي حولت خط سير التاريخ مرة إلى حيث شاء الله أن يسير .
لهذه الطليعة المرجوة المرتقبة كتبت " معالم في الطريق " .
منها أربعة فصول مستخرجة من كتاب " في ظلال القرآن " مع تعديلات وإضافات مناسبة لموضوع كتاب المعالم ( ) .
ومنها ثمانية فصول - غير هذه التقدمة - مكتوبة في فترات حسبما أوحت به اللفتات المتوالية إلى المنهج الرباني المتمثل في القرآن الكريم .. وكلها بجمعها - على تفرقها - أنها معالم فى الطريق ، كما هو الشأن في معالم كل طريق ! وهي في مجموعها تمثل المجموعة الأولى من هذه " المعالم " والتي أرجو أن تتبعها مجموعة أخرى أو مجموعات ، كلما هداني الله إلى معالم هذا الطريق !
وبالله التوفيق .
جيل قرآني فريد
هنالك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان .
وأن يقفوا أمامها طويلاً .
ذلك أنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها .
لقد خرَّجت هذه الدعوة جيلاً من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلاً مميزًا في تاريخ الإسلام كله وفى تاريخ البشرية جميعه .
ثم لم - تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى .
نعم وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ .
ولكن لم يحدث قط أن تجمَّع مثل ذلك العدد الضخم ، في مكان واحد ، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة .
هذه ظاهرة واضحة واقعة ، ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه ، طويلاً لعلنا نهتدي إلى سرِّه .
إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا ، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه العملي ، وسيرته الكريمة ، كلها بين أبدينا كذلك ، كما كانت بين أبدي ذلك الجبل الأول ، الذي لم يتكرر في التاريخ .. ولم يغب إلا شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل هذا هو السر ؟ لو كان وجود شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتميًّا لقيام هذه الدعوة ، وإيتائها ثمراتها ، ما جعلها الله دعوة للناس كافة ، وما جعلها آخر رسالة ، وما وكّل إليها أمر الناس في هذه الأرض ، إلى آخر الزمان . .
ولكن الله - سبحانه - تكفل بحفظ الذكر ، و علم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبمكن أن تؤتي ثمارها .
فاختاره إلى جواره بعد ثلاثة وعشرين عامًا من الرسالة ، وأبقى هذا الذين من بعده إلى آخر الزمان . . وإذن فإن غيبة شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها .
فلنبحث إذن وراء سبب آخر. لننظر في النبع الذي كان يستقي منه هذا الجيل الأول ، فلعل شيئا قد تغير فيه .
ولننظر في المنهج الذي تخرجوا عليه ، فلعل شيئا قد تغير فيه كذلك .
كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو القرآن .
القرآن وحده فما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه إلا أثرًا من آثار ذلك النبع .
فعندما سُئلت عائشة رضي الله عنها - عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : (( كان خُلقه القرآن )) أخرجه النسائي .
كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ، ويتكيفون به ، ويتخرجون عليه ، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة ، ولا ثقافة ، ولا علم ، ولا مؤلفات ، ولا دراسات . . كلا ! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه ، أو على امتداده .
هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها ، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم .
وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك .
وحضارات أخرى قاصية ودانية : حضارة الهند وحضارة الصين إلخ .
وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها ، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة. . فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده .. في فترة تكونه .. وإنما كان ذلك عن (( تصميم )) مرسوم ، ونهج مقصود .
يدل على هذا القصد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى في يد عمر بن الخطاب - رض الله عنه - صحيفة من التوراة .
وقوله : (( إنه والله لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني )) رواه الحافظ أبو يعلى عن حماد عن الشعبي جابر .
وإذن فقد كان هناك قصد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل .. في فترة التكون الأولى . . على كتاب الله وحده ، لتخلص نفوسهم له وحده .
ويستقيم عودهم على منهجه وحده .
ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب - رض الله عنه -يستقي من نبع آخر.
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد صنع جيل خالص القلب .
- خالص العقل .
- خالص التصور .
- خالص الشعور .
- خالص التكوين من أى مؤثر آخر غير المنهج الإلهي ، الذي يتضمنه القرآن الكريم .
ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده .
- فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد .. ثم ما الذي حدث ، اختلطت الينابيع .
صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم ، وأساطير الفرس وتصوراتهم.
وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى ، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات .
واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكرم ، وعلم الكلام ، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا .
وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل ، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدًا .
وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملاً أساسيا من عوامل ذلك الاختلاف البيِّن بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد.
هناك عامل أساسي آخر غير اختلاف طبيعة النبع .
ذلك هو اختلاف منهج التلقي عما كان عليه في ذلك الجيل الفريد ..
إنهم - في الجيل الأول - لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع ، ولا بقصد التشوق والمتاع.
لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته .
إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها ، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته ، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه ، كما يتلقى الجندي في الميدان (( الأمر اليومي )) لا ليعمل به فور تلقيه ! ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة ، لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
هذا الشعور . . شعور التلقي للتنفيذ .. كان يفتح لهم من القرآن آفاقًا من المتاع وآفاقًا من المعرفة ، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع ، وكان ييسر لهم العمل ، ويخفف عنهم ثقل التكاليف ، ويخلط القرآن بذواتهم ، ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي ، وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف ، إنّما تتحول آثارًا وأحداثًا تحوِّل خط سير الحياة .
إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن بُقبل عليه بهذه الروح : روح المعرفة المنشئة للعمل .
إنه لم يجئ ليكون كتاب متاع عقلي ،ولا كتاب أدب وفن .
ولا كتاب قصة وتاريخ - وإن كان هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهاح حياة .
منهاجًا إلهيًّا خالصًا . وكان الله سبحانه يأخذهم بهذا المنهج مفرقًا يتلو بعضه بعضًا :
{ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء :106]
لم ينزل هذا القرآن جملة ، إنما نزل وفق الحاجات المتجددة ، ووفق النمو المطَّرِد في الأفكار والتصورات ، والنمو المُطَّرِد في المجتمع والحياة ، ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية - وكانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة والحادثة المعينة تحدث الناس عما في نفوسهم ، وتصور لهم ما هم فيه من الأمر ، وترسم لهم منهج العمل في الموقف ، وتصحح لهم أخطاء الشعور والسلوك ، وتربطهم في هذا كله بالله ربهم ، وتعرِّفُه لهم بصفاته المؤثرة في الكون ، فيحسون حينئذ أنهم يعيشون مع الملأ الأعلى ، تحت عين الله ، في رحاب القدرة .
ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم ، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم .
إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول .
ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرَّج الأجيال التي تليه .
وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملاً أساسيًا كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد .
هناك عامل ثالث جدير بالانتباه والتسجيل .
لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية .
كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ هذا جديدًا ، منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية .
وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف ، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام ! وبهذا الإحساس كان يتلقى هدي الإسلام الجديد ، فإذا غلبته نفسه مرة ، وإذا اجتذبته عاداته مرة ، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة . . شعر في الحال بالإثم والخطيئة ، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه ، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهدي القرآني .
كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماض المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية ، فهو قد انفصل نهائيًا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيا ببيئته الإسلامية .
حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي ، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر .
وكان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية ، وعُرْفُها وتصورها وعاداتها وروابطها ، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود .
وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد ، بقيادته الجديدة ، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته بل تبعيته .
وكان هذا مفرق الطريق ، وكان بدء السير في الطريق الجديد ، السير الطليق مع التخفف من كل ضغط للتقاليد التي يتواضع عليها المجتمع الجاهلي ، ومن كل التصورات والقيم السائدة فيه .
ولم يكن هناك إلا ما يلقاه المسلم من أذى وفتنة ، ولكنه هو في ذات نفسه قد عزم وانتهى الجاهلي عليه ولم يعد لضغط التصور الجاهلي ، ولا لتقاليد المجتمع من سبيل .
نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم .
كل ما حولنا جاهلية . . تصورات الناس وعقائدهم ، عاداتهم وتقاليدهم ، موارد ثقافتهم ، فنونهم وآدابهم ، شرائعهم وقوانينهم .
حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ، ومراجع إسلامية ، وفلسفة إسلامية ، وتفكيرا إسلاميًا . . هو كذلك من صنع هذه الجاهلية !!
لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا ، ولا يتضح في عقولنا ، ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة .
فلا بد إذن - في منهج الحركة الإسلامية - أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها .
لا بد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال ، النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشبه شائبة .
نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق ، وجود الله سبحانه .. ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة ، وقيمنا وأخلاقنا ، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة .
ولا بد أن نرجع إليه - حين نرجع - بشعور التلقي للتنفيذ والعمل لا بشعور الدراسة والمتاع . نرجع إليه لنعرف ماذا يطلب منا أن نكون ، لنكون .
وفي الطريق سنلتقي بالجمال الفني في القرآن وبالقصص وبمشاهد القيامة في القرآن .. وبالمنطق الوجداني في القرآن .. وبسائر ما يطلبه أصحاب الدراسة والمتاع .
ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن يكون هو هدفنا الأول .
إن هدفنا الأول أن نعرف : ماذا يريد منا القرآن أن نعمل ؟ ما هو التصور الكلي الذي يريد منا أن نتصور ؟ كيف يريد القرآن أن يكون شعورنا بالله ؟ كيف يريد أن تكون أخلاقنا وأوضاعنا ونظامنا الواقعي في الحياة ؟
ثم لا بد لا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية . . في خاصة نفوسنا . . ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له ، فهو بهذه الصفة .. صفة الجاهلية . . غير قابل لأن نصطلح معه .
إن مهمتنا أن نغير من أنفسنا أولاً لنغير هذا المجتمع أخيرًا .
إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع .
مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه .
هذا الواقع الذي يصطدم اصطدامًا أساسيًا بالمنهج الإسلامي ، وبالتصور الإسلامي ، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش .
إن أولى الخطوات إلى طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته ، وألا نعدِّل في قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق .
كلا ! إننا وإياه على مفرق الطريق ، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق!
وسنلقى في هذا عنتًا ومشقة ، وستفرض علينا تضحيات باهظة ، ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي ، ونصره على منهج الجاهلية .
وإنه لمن الخير أن ندرك دائمًا طبيعة منهجنا ، وطبيعة موقفنا ، وطبيعة الطريق الذي لا بد أن نسلكه للخروج من الجاهلية كما خرج ذلك الجيل المميز الفريد . .
طبيعة المنهج القرآني
ظل القران المكي ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عاماً كاملة، يحدَثه فيها عن قضية واحدة.
قضية واحدة لا تتغير، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر. ذلك الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة، حتى لكأنما يطرقها للمرة الأولى.
لقد كان يعالج القضية الأولى، والقضية الكبرى، والقضية الأساسية، في هذا الدين الجديد.. قضية العقيدة.. ممثلة في قاعدتها الرئيسية.. الألوهية والعبودية، وما بينهما من علاقة.
لقد كان بخاطب بهذه الحقيقة (الإنسان).. الإنسان بما انه إنسان.. وفي هذا المجال يستوي الإنسان العربي في ذلك الزمان والإنسان العربي في كل زمان، كما يستوي الإنسان العربي وكل إنسان.
في ذلك الزمان وفي كل زمان!
إنها قضية (الإنسان) التي لا تتغير.
لأنها قضية وجود في هذا الكون وقضية مصيره. قضية علاقته بهذا الكون وبهؤلاء الأحياء.
وقضية علاقته بخالق هذا الكون وخالق هذه الأحياء.
وهي قضية لا تتغير ، لأنها قضية الوجود والإنسان.
لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله.. كان يقول له: من هو؟ ومن أين جاء؟ ولماذا جاء؟ والى أين يذهب في نهاية المطاف؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول؟ ومن ذا الذي يذهب به؟ وما مصيره هناك؟ وكان يقول له: ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه، والذي يحس أن وراءه غيباً يستشرفه ولا يراه؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار؟ من ذا يدبره؟ ومن ذا يحوره؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه؟.. وكان يقول له كذلك: كيف يتعامل مع خالق هذا الكون، ومع الكون أيضاً، كما يبين له: كيف يتعامل العباد مع العباد؟
وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود (الإنسان).
وستظل هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده على توالي الأزمان.
وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاماً كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى، القضية التي ليس وراءها شيء في حياة الإنسان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات.
ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة، إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان، وأنها استقرت استقراراً مكيناً ثابتاً في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان، التي قدر الله أن يقوم هذا الدين عليها، وان تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين.
وأصحاب الدعوة إلى دين الله، والى إقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة، خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة، ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاماً لتقرير هذه العقيدة، ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها.
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى لها الدعوة منذ اليوم الأول للرسالة، وان يبدأ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أولى خطواته في الدعوة بدعوة الناس أن يشهدوا: أن لا اله إلا الله، وان يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق، ويعبدهم له دون سواه.
ولم تكن هذه -في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب- هي ايسر السبل إلى قلوب العرب! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى (إله) ومعنى: (لا إله إلا الله).
كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا.. وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وأفراد الله-سبحانه- بها، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، وردَه كله إلى الله.. السلطان على الضمائر، والسلطان على الشعائر، والسلطان على واقعيات الحياة، والسلطان في المال ، والسلطان في القضاء،والسلطان في الأرواح والأبدان.. كانوا يعلمون أن(لا اله إلا الله) ثورة على السلطان الأرضي الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب، وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله.. ولم يكن يغيب عن العرب-وهم يعرفون لغتهم جيداً ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة-(لا اله إلا الله)- ماذا تعني هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم، ومن استقبلوا هذه الدعوة-او هذه الثورة- ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها هذه الحرب التي يعرفها الخاص والعام..
فَلِمَ كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة؟ ولم اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل هذا العناء؟
لقد بُعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بهذا الدين،واخصب بلاد العرب وأغناها ليست في يد العرب، إنما هي في أيدي غيرهم من الأجناس!
بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم،يحكمها أمراء عرب من قبل الروم، وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس، يحكمها أمراء عرب من قبل الفرس، وليست في أيدي العرب إلا الحجاز تهامة ونجد، وما إليها من الصحاري القاحلة التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك!
وربما قيل انه في كان استطاعة محمد -صلى الله عليه وسلم-وهو الصادق الأمين الذي حكَمه أشراف قريش من قبل في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه،منذ خمسة عشر عاماً قبل الرسالة، والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسباً.. انه كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب التي أكلتها الثارات ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة.. الرومان في الشمال والفرس في الجنوب.. وإعلاء راية العربية والعروبة، وإنشاء وحدة قومية في كل أرجاء الجزيرة.
وربما قيل:انه لو دعا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة، بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاماً في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة! وربما قيل: أن محمداً-صلى الله عليه وسلم- كان خليقاً- بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة، وبعد أن يولَوه فيهم القيادة والسيادة، وبعد استجماع السلطان في يديه، والمجد فوق مفرقيه-أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعث بها، في تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبَدهم لسلطانه البشرى! ولكن الله-سبحانه- وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله- صلى الله عليه وسلم- هذا التوجيه! إنما وجهه إلى أن يصدع بـ (لا اله إلا الله) ، وان يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء !
لماذا ؟ أن الله-سبحانه- لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه.
إنما هو-سبحانه- يعلم أن هذا ليس هو الطريق،ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني او طاغوت فارسي، إلى يد طاغوت عربي. فالطاغوت كله طاغوت! إن الأرض لله، ويجب أن تخلص لله.
ولا تخلص لله إلا أن ترفع كلمة (لا اله إلا الله).
وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني او فارسي، إلى طاغوت عربي. فالطاغوت كله طاغوت! أن الناس عبيد لله وحده، ولا يكونون عبيداً لله إلا أن ترتفع راية(لا اله إلا الله)-لا اله إلا الله كما يدركها العربي العارف بمدلولات لغته،: لا حاكمية إلا الله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على احد، لان السلطان كله لله، ولان( الجنسية) التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله.
وهذا هو الطريق..
وبعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بهذا الدين، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا ًللثروة والعدالة.
قلة قليلة تملك المال والتجارة، وتتعامل بالربا فتتضاعف تجارتها ومالها. وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع. والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة، وجماهير كثيرة ضائعة من المال والمجد جميعاً!
وربما قيل: أنه كان في استطاعة محمد-صلى الله عليه وسلم- أن يرفعها راية اجتماعية، وان يثيرها حرباً على طبقة الأشراف، وان يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع، ورد أموال الأغنياء على الفقراء! وربما قيل: انه لو دعا يومها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-هذه الدعوة، لانقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة مع الدعوة الجديدة في وجه طغيان المال والشرف والجاه، والقلة القليلة مع هذه الموروثات ، بدلا من أن يقف المجتمع كله صفاً في وجه (لا اله إلا الله) التي لم يرتفع إلى افقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس!
وربما قيل: أن محمداً-صلى الله عليه وسلم-كان خليقاً بعد أن تستجيب له الكثرة، وتوليه قيادها، فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها، ان يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبَدهم لسلطانه البشرى!
لكن الله-سبحانه- وهو العليم الحكيم، لم يوجهه هذا التوجيه..
لقد كان الله-سبحانه- يعلم أن هذا ليس هو الطريق.. كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لابد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل، يرد الأمر كله لله، ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة التوزيع، ومن تكافل الجميع، ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه سواء انه ينفذ نظاماً شرعه الله، ويرجوا على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء.
فلا تمتلئ قلوب بالطمع ولا تمتلئ قلوب بالحقد، ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح، كما يقع في الأوضاع التي تقوم على غير(لا اله إلا الله).
وبُعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى- إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية.
كان التظالم فاشيا في المجتمع، تعبر عنه حكمة الشاعر(زهير بن أبي سلمى):
و من لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدَّم، ومن لا يظلم الناس يُظلمِ
ويعبر عن القول المتعارف في الجاهلية:(انصر أخاك ظالماً او مظلوماً).
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية، ومن مفاخره كذلك يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته.. كالذي يقول طرفة بن العبد:
فلولا ثلاث هن من عيشـة الفتى وجدَك لم احفل متى قــام عوَّدي
فمنهن سبقى العاذلات بشــربة كـميت متى ما تعل بالماء تزبــد
وما زال تشاربي الخـمور ولذتي وبذلـي وإنفاقي طريقــي وتالدي
إلى أن تحامتنى العشـيرة كلهـا وأفردت إفـراد البعـير المعبًّــد
وكانت الدعارة- في صور شتى- من معالم هذا المجتمع- شأنه شأن كل مجتمع جاهلي قديم او حديث- كالتي روته عائشة رضي الله عنها :
(أن النكاح في الجاهلية كان على أربع أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم.. يخطب الرجل إلى الرجل وليَته او ابنته، فيصدقها ثم ينكحها.. والنكاح الأخر كان الرجل يقول لامرأته- إذا طهرت من طمثها- : أرسلي إلى فلان فاستبعضي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها ابدً حتى يتبين حملها من ذلك الذي تستضع منه، فإذا تبين حملها أصابها الرجل إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.. ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها.
فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل.. والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع من جاءها .. وهن البغايا.. كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم الحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه، ودعى ابنه لا يمتنع عن ذلك)( ).
وربما قيل: انه كان قي استطاعة محمد-صلى الله عليه وسلم- أن يعلنها دعوة إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس.
وربما قيل: انه-صلى الله عليه وسلم- كان واجداً وقتها- كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة- نفوساً طيبة يؤذيها هذا الدنس.
وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير.
وربما قال قائل: انه لو صنع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذلك لاستجابت له- في أول الأمر- جمهرة صالحة، تتطهر أخلاقها، وتزكوا أرواحها، فتصبح اقرب إلى قبول العقيدة وحملها، بدلاً من أن تثير دعوة(لا اله إلا الله) المعارضة القوية منذ أول الطريق.
ولكن الله- سبحانه- كان يعلم أن ليس هذا هو الطريق!
كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم على أساس من عقيدة، تضع الموازين، وتقرر القيم، كما تقرر السلطة التي تستند إليها هذه الموازين والقيم، والجزاء الذي تملكه هذه السلطة، وتوقعه على الملتزمين والمخالفين.
وانه قبل تقرير هذه العقيدة، وتحديد هذه السلطة تظل القيم كلها متأرجحة وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك، بلا ضابط، وبلا سلطان، وبلا جزاء!
فلما تقررت العقيدة-بعد الشاق- وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة.. لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده.. لما تحرر الناس من سلطان العبيد ومن سلطان الشهوات سواء.. لما تقررت في القلوب(لا اله إلا الله).. صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون.. تطهرت الأرض من(الرومان والفرس).. لا ليتقرر فيها سلطان(العرب). ولكن ليتقرر فيها سلطان(الله).. لقد تطهرت من سلطان(الطاغوت) كله.. رومانياً، وفارسياً، وعربياً، على السواء.
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته.
وقام(النظام الإسلامي)، يعدل بعدل الله، ويزن بميزان الله، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده، ويسميها راية (الإسلام).
لا يقرن إليها اسماً أخر، ويكتب عليها : (لا اله إلا الله)!
وتطهرت النفوس والأخلاق، وزكت القلوب والأرواح، دون أن يحتاج الأمر حتى للحدود والتعازير التي شرعها الله- إلا في الندرة النادرة- لان الرقابة قامت هناك في الضمائر، ولان الطمع في رضا الله وثوابه، والحياة والخوف من غضبه وعقابه، قد قاما مقام الرقابة ومكان العقوبات.
وارتفعت البشرية في نظامها، وفي اخلاقها، وفي حياتها كلها، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط، والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام.
ولقد تم هذا كله لان الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وإحكام، كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك.
وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعداً واحداً، لا يدخل فيه الغلب والسلطان.. ولا حتى بهذا الدين على أيديهم.. وعداً واحداً لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا.. وعداً واحداً هو الجنة.
هذا كل وعدوه على الجهاد المضني، والابتلاء الشاق، والمضي في الدعوة، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان في كل زمان وفي كل مكان، وهو: ( لا إله إلا الله)!
فلما أن ابتلاهم الله فصبروا، ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم، ولما أن علم الله منهم انهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض- كائناً ما كان هذا الجزاء، ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم- ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجد ولا قوم، ولا اعتزاز بوطن ولا ارض، ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت.. لما أن علم الله منهم ذلك كله، علم انهم قد اصبحوا- إذن- أمناء على هذه الأمانة الكبرى.. أمناء على العقيدة، التي يتفرد فيها الله- سبحانه- بالحاكمية في القلوب والضمائر، وفي السلوك والشعائر، وفي الأرواح والأموال، وفي الأوضاع والأحوال.. وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها، وعلى عدل الله يقيمونه، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لانفسهم، ولا لعشيرتهم، ولا لقومهم، ولا لجنسهم.
إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله، ولدينه وشريعته، لأنهم يعلمون انه من الله، هو الذي آتاهم إياه.
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء.
وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها.. راية لا اله إلا الله.. ولا ترفع معها سواها. وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره، المبارك الميسر في حقيقته.
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية، او دعوة اجتماعية، او دعوة أخلاقية.. او رفعت أي شعار جانب شعارها الواحد: (لا اله إلا الله).
ذلك شأن القرآن المكي كله في تقرير: (لا اله إلا الله) في القلوب والعقول، واختيار هذا الطريق-على مشقته في الظاهر- وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى، والإصرار على هذا الطريق.
فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها، دون التطرق الى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والشرائع التي تنظم المعاملات فيها، فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمام أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية.
إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بها.. فهو دين يقوم كله على القاعدة الألوهية الواحدة.. كل تعظيماته وكل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير.. وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة، الوارفة المديدة الظلال، المتشابكة الأغصان، الضاربة في الهواء.. لابد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة، وفي مساحات واسعة، تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء.. فكذلك هذا الدين.. إن نظامه يتناول الحياة كلها، ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها ، وينظم حياة الإنسان- لا في الحياة الدنيا وحدها كذلك في الدار الآخرة، ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها، ولا في المعاملات المادية الظاهرة وحدها ولكن كذلك في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا- فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية، ولابد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضاً..
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته، يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده، ويجعل بناء العقيدة وتمكينها، وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعب النفس كلها.. ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة، وضماناً من ضمانات الاحتمال، والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء والضارب من جذورها في الأعماق.
ومتى استقرت عقيدة: (لا إله إلا الله) في أعماقها الغائرة البعيدة، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه (لا إله إلا الله)، وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة، واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام، حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته.
فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان.. وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس- فيما بعد- تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها، ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له..وهكذا أبطلت الخمر، وابطل الربا، وابطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهلية كلها.. أبطلت بآيات من القرآن، او كلمات من الرسول-صلى الله عليه وسلم- بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها، ونظمها وأوضاعها، وجندها وسلطاتها، ودعايتها واعلامها، فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات، بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات !
وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم. إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد.. جاء ليحكم الحياة في واقعها، ويواجه هذا الواقع ليقضى فيه بأمره.. يقره، او يعدله، او يغيره من أساسه.. ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلاً، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده.. انه ليس(نظرية) تتعامل مع(الفروض) !.. انه(منهج)، يتعامل مع (الواقع) !.. فلابد اولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة: أن لا اله إلا الله، وان الحاكمية ليست إلا لله ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون الله، ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة..
وحين يقوم هذا المجتمع فعلاً، تكون له حياة واقعية، تحتاج إلى تنظيم والى تشريع.. وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع لقوم مستسلمين أصلاً للنظم والشرائع، رافضين أصلاً لغيرها من النظم والشرائع..
ولابد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من سلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع حتى يكون للنظام هيبته، ويكون للشريعة جديتها.. فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من واقعية تقتضي الأنظمة والشرائع من فورها..
والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم. وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة الله.. ومن ثم لم ينزل الله في هذه الفترة تنظيمات وشرائع، وإنما نزَل لهم عقيدة، وخلقاً منبثقاً من هذه العقيدة بعد استقرارها في الأعماق البعيدة.. فلما أن صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان، تنزلت عليهم الشرائع، وتقرر لهم النظام الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية، والذي تكفل له الدولة بسلطاتها الجدية النفاذ.
ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة، ليختزنوها جاهزة حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة! أن هذه ليست طبيعة هذا الدين!.. انه اشد واقعية من هذا واكثر جدية!.. انه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولاً.. إنما يواجه الواقع حين يكون واقع مجتمع مسلم مستسلم لشريعة الله رافض لشريعة سواه بحجمه وشكله وملابساته وظروفه، ليشرع له، وفق حجمه وشكله وملابساته وظروفه.
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ نظريات وان يصوغ قوالب نظام، وان يصوغ تشريعات للحياة.. بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلاً تحكيم شريعة الله وحدها، ورفض كل شريعة سواها، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه.. الذين يريدون من الإسلام هذا، لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة.. كما يريد له الله..
انهم يريدون منه ان يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه نظريات بشرية، ومناهج بشرية، ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم، رغبات إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة.. يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب نظريات وفروض، تواجه مستقبلاً غير موجود.. والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده.. عقيدة تملأ القلب، وتفرض سلطانها على الضمير، عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلا لله، وألا يتلقوا الشرائع إلا منه دون سواه.. وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم، ويصبح لهم السلطان الفعلي في مجتمعهم، تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية، وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك.
هذا ما يريده الله لهذا الدين.. ولن يكون إلا ما يريده الله، مهما كانت رغبات الناس!
كذلك ينبغي ان يكون مفهوماً لأصحاب الدعوة الإسلامية انهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة- حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون!- يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو(أولا) إقرار عقيدة(لا اله إلا الله)- بعدلها الحقيقي، وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم، إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم..
ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام، كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة.. هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاماً كاملة .. فإذا دخل في هذا الدين - بمفهومه هذا الأصيل-عصبة من الناس .. فهذه العصبة هي التي يطلق عليها اسم (المجتمع المسلم) .. المجتمع الذي يصلح لمزاولة النظام الإسلامي في حياته الاجتماعية، لأنه قرر بينه وبين نفسه أن تقوم حياته كلها على هذا الأساس، وألا يحكم في حياته كلها إلا الله.
وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه، كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية، في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي .. فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي .. فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي الواقعي العملي الجاد.
ولقد يخيل لبعض المخلصين المتعجلين، ممن لا يتدبرون طبيعة هذا الدين، وطبيعة منهجه الرباني القويم، المؤسس على حكمة العليم الحكيم وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة .. نقول: لقد يخيل لبعض هؤلاء أن عرض أسس النظام الإسلامي - بل التشريعات الإسلامية كذلك- على الناس، مما ييسر لهم طريق الدعوة، ويحبب الناس في هذا الدين!
وهذا وَهْمٌ تنشئه العجلة! وَهْمٌ كالذي كان يمكن أن يقترحه المقترحون: أن تقوم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولها تحت راية قومية، أو راية اجتماعية، أو راية أخلاقية، تيسيراً للطريق! إن القلوب يجب أن تخلص أولاً لله، وتعلن عبوديتها له وحده، بقبول شرعه وحده، ورفض كل شرع آخر غيره.. من ناحية المبدأ .. قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه!
إن الرغبة يجب أن تنبثق من إخلاص العبودية لله، والتحرر من سلطان سواه، لا من أن النظام المعروض عليها .. في ذاته .. خير مما لديها من الأنظمة في كذا وكذا على وجه التفصيل.
إن نظام الله خير في ذاته، لأنه من شرع الله .. ولن يكون شرع العبيد يوماً كشرع الله .. ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة. إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع الله وحده أيَّاً كان، هو ذاته الإسلام، وليس للإسلام مدلول سواه، فمن رغب في الإسلام ابتداء فقد فصل في القضية، ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته .. فهذه إحدى بديهيات الإيمان!
وبعد، فلا بد أن نقول كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عاماً .. إنه لم يعرضها في صورة (نظرية) ولا في صورة (لاهوت)! ولم يعرضها في سورة جدل كلامي كالذي زاوله ما يسمى (علم التوحيد)!
كلا! لقد كان القرآن الكريم يخاطب فطرة (الإنسان) بما في وجوده هو وبما في الوجود حوله من دلائل وإيحاءات .. كان يستنقذ فطرته من الركام، ويخلص أجهزة الاستقبال الفطرية مما ران عليها وعطل وظائفها، ويفتح منافذ الفطرة، لتتلقى الموحيات المؤثرة وتستجيب لها.
هذا بصفة عامة 00 وبصفة خاصة كان القرآن يخوض بهذه العقيدة معركة حية واقعية .. كان يخوض بها معركة مع الركام المعطل للفطرة في نفوس آدمية حاضرة واقعة .. ومن ثم لم يكن شكل (النظرية) هو الشكل الذي يناسب هذا الواقع الخاص.
إنما هو شكل المواجهة الحية للعقابيل والسدود والحواجز والمعوِّقات النفسية والواقعية في النفوس الحاضرة الحية .. ولم يكن الجدل الذهني - القائم على المنطق الشكلي- الذي سار عليه في العصور المتأخرة علم التوحيد، هو الشكل المناسب كذلك .. فلقد كان القرآن يواجه (واقعاً) بشريّاً كاملاً بكل ملابساته الحية، ويخاطب الكينونة البشرية بجملتها في خضم هذا الواقع.. وكذلك لم يكن (اللاهوت) هو الشكل المناسب. فإن العقيدة الإسلامية، ولو أنها عقيدة، إلا أنها تمثل منهج حياة واقعية للتطبيق العملي، ولا تقبع في الزاوية الضيقة التي تقبع فيها الأبحاث اللاهوتية النظرية!
كان القرآن، وهو يبني العقيدة في ضمائر الجماعة المسلمة، يخوض بهذه الجماعة المسلمة معركة ضخمة مع الجاهلية من حولها، كما يخوض بها معركة ضخمة مع رواسب الجاهلية في ضميرها هي وأخلاقها وواقعها 00 ومن هذه الملابسات ظهر بناء العقيدة لا في صورة (نظرية) وفي صورة (لاهوت)، ولا في صورة (جدل كلامي) .. ولكن في صورة تجمع عضوي حيوي وتكوين تنظيمي مباشر للحياة، ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها، وكان نمو الجماعة المسلمة في تصورها الاعتقادي، وفي سلوكها الواقعي وفق هذا التصور، وفي دربتها على مواجهة الجاهلية كمنظمة محاربة لها.. كان هذا النمو ذاته ممثلاً تماماً لنمو البناء العقيدي، وترجمة حية له .. وهذا هو منهج الإسلام الذي يمثل طبيعته كذلك.
وإنه لمن الضروري لأصحاب الدعوة الإسلامية أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في الحركة على هذا النحو الذي بيّنّاه.
ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالبت في العهد المكي على هذا النحو، لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركة الإسلامية، والبناء الواقعي للجماعة المسلمة. لم تكن مرحلة تلقِّي (النظرية) ودراستها! ولكنها كانت مرحلة البناء القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معاً .. وهكذا ينبغي أن تكون كلما أريد إعادة هذا البناء مرة أخرى.
هكذا ينبغي أن تطول مرحلة بناء العقيدة، وأن تتم خطوات البناء على مهل، وفي عمق وتثبت .. ثم هكذا ينبغي ألا تكون مرحلة دراسة نظرية للعقيدة، ولكن مرحلة ترجمة لهذه العقيدة -أولاً بأول- في صورة حية، متمثلة في ضمائر متكيفة بهذه العقيدة ومتمثلة في بناء جماعي وتجمع حركي، يعبر نموه من داخله ومن خارجه عن نمو العقيدة ذاتها، ومتمثلة في حركة واقعية تواجه الجاهلية، وتخوض معها المعركة في الضمير وفي الواقع كذلك، لتتمثل العقيدة حية، وتنمو نمواً حياً في خضم المعركة.
وخطأ أي خطأ - بالقياس إلى الإسلام- أن تتبلور العقيدة في صورة (نظرية) مجردة للدراسة الذهنية.. المعرفية الثقافية .. بل خطر أي خطر كذلك.
إن القرآن لم يقض ثلاثة عشر عاماً كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الأولى .. كلا! فلو أراد الله لأنزل هذا القرآن جملة واحدة، ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشرة عاماً، أو أكثر أو أقل، حتى يستوعبوا (النظرية الإسلامية).
ولكن الله -سبحانه- كان يريد أمراً آخر، كان يريد منهجاً معيناً متفرداً، كان يريد بناء جماعة وبناء حركة وبناء عقيدة في وقت واحد.. كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة، وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة .. كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الحركي الفعلي، وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو الصورة المجسمة للعقيدة.. وكان الله -سبحانه- يعلم أن بناء النفوس والجماعات لا يتم بين يوم وليلة، فلم يكن هنالك بد أن يستغرق بناء العقيدة المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة.. حتى إذا نضج التكوين العقيدي كانت الجماعة هي المظهر الواقعي لهذا النضوج.
هذه هي طبيعة هذا الدين -كما تستخلص من منهج القرآن المكي- ولا بد أن نعرف طبيعته هذه، وألا نحاول تغييرها تلبية لرغبات معجلة مهزومة أمام أشكال النظريات البشرية! فهو بهذه الطبيعة صنع الأمة المسلمة أول مرة، وبها يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد فيها أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود كما أخرجها الله أول مرة.
يجب أن ندرك خطأ المحاولة وخطرها معاً، في تحويل العقيدة الإسلامية الحية التي تحب أن تتمثل في واقع نَامٍ حي متحرك، وفي تجمع عضوي حركي .. تحويلها عن طبيعتها هذه إلى (نظرية) للدراسة والمعرفة الثقافية، لمجرد أننا نريد أن نواجه النظريات البشرية الهزيلة بـ (نظرية إسلامية). إن العقيدة الإسلامية تحب أن تتمثل في نفوس حية، وفي تنظيم واقعي، وفي تجمع عضوي، وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها، كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس أصحابها - بوصفهم كانوا من أهل الجاهلية قبل أن تدخل العقيدة في نفوسهم، وتنتزعها من الوسط الجاهلي-وهي في صورتها هذه تشغل من القلوب والعقول -ومن الحياة أيضاً- مساحة أضخم وأوسع وأشمل مما تشغله (النظرية).
وتشمل -فيما تشمل- مساحة النظرية ومادتها، ولكنها لا تقتصر عليها.
إن التصور الإٍسلامي للألوهية، وللوجود الكوني، وللحياة، وللإنسان .. تصور شامل كامل. ولكنه كذلك تصور واقعي إيجابي.
وهو يكره -بطبيعته- أن يتمثل في مجرد تصور ذهني معرفي، لأن هذا يخالف طبيعته وغايته. ويجب أن يتمثل في أناسى، وفي تنظيم حي، وفي حركة واقعية .. وطريقته في التكوين أن ينمو من خلال الأناسى والتنظيم الحي والحركة الواقعية، حتى يكتمل نظرياً في نفس الوقت الذي يكتمل فيه واقعياً- ولا ينفصل في صورة (النظرية) بل يظل ممثلاً في صورة (الواقع) الحركي..
وكل نمو نظري يسبق النمو الحركي الواقعي، ولا يتمثل من خلاله، هو خطأ وخطر كذلك، بالقياس إلى طبيعة هذا الدين وغايته، وطريقة تركيبه الذاتي. والله -سبحانه- يقول:
{وقرآناً فَرَقناه لتقراه على الناس على مُكْثٍ ونزلناه تنزيلاً} .. [الإسراء: 106] فالفرق مقصود.
والمكث مقصود كذلك، ليتم البناء التكويني، المؤلف من عقيدة في صورة (منظمة حية) لا في صورة (نظرية)!
يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيّداً أنه -كما إنه في ذاته دين رباني- فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك.
متواف مع طبيعته، وإنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل.
ويجب أن يعرفوا كذلك أن هذا الدين -كما إنه جاء ليغير التصور الاعتقادي، ومن ثم يغير الواقع الحيوي- فكذلك هو قد جاء ليغير المنهج الذي يبنى به التصور الاعتقادي، ويغير به الواقع الحيوي .. جاء ليبني عقيدة وهو يبني أمة .. ثم لينشئ منهج تفكير خاصاً به، بنفس الدرجة التي ينشئ بها تصوراً اعتقادياً وواقعاً حيوياً.
ولا انفصال بين منهج تفكيره الخاص، وتصوره الاعتقادي الخاص، وبنائه الحيوي الخاص.. فكلها حزمة واحدة..
فإذا نحن عرفنا منهجه في العمل على النحو الذي بيناه، فلنعرف أن هذا المنهج أصيل، وليس منهج مرحلة ولا بيئة ولا ظروف خاصة بنشأة الجماعة المسلمة الأولى، إنما هو المنهج الذي لا يقوم بناء هذا الدين -في أي وقت- إلا به.
إنه لم تكن وظيفة الإسلام أن يغير عقيدة الناس وواقعهم فحسب، ولكن كانت وظيفته كذلك أن يغير منهج تفكيرهم، وتناولهم للتصور وللواقع، ذلك أنه منهج رباني مخالف في طبيعته كلها لمناهج البشر القاصرة الهزيلة.
ونحن لا نملك أن نصل إلى التصور الرباني وإلى الحياة الربانية، إلا عن طريق منهج تفكير رباني كذلك، المنهج الذي أراد الله أن يقيم منهج تفكير الناس على أساسه، ليصح تصورهم الاعتقادي وتكوينهم الحيوي.
نحن، حين نريد من الإسلام أن يجعل من نفسه (نظرية) للدراسة، نخرج به عن طبيعة منهج التكوين الرباني، وعن طبيعة منهج التفكير الرباني كذلك، ونخضع الإسٍلام لمناهج التفكير البشرية! وكأنما نريد لنرتقي بمنهج الله في التصور والحركة ليوازي مناهج العبيد!
والأمر من هذه الناحية يكون خطيراً، والهزيمة تكون قاتلة.
إن وظيفة المنهج الرباني أن يعطينا -نحن أصحاب الدعوة الإسلامية- منهجاً خاصاً للتفكير، نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهلية السائدة في الأرض، والتي تضغط على عقولنا، وتترسب في ثقافتنا .
فإذا نحن أردنا أن نتناول هذا لدين بمنهج تفكير غريب عن طبيعته، من مناهج التفكير الجاهلية الغالبة، كنا قد أبطلنا وظيفته التي جاء ليؤديها للبشرية، وحرمنا أنفسنا فرصة الخلاص من ضغط المنهج الجاهلي السائد في عصرنا، وفرصة الخلاص من رواسبه في عقولنا وتكويننا.
والأمر من هذه الناحية يكون خطيراً كذلك، والخسارة تكون قاتلة.
إن منهج التفكير والحركة في بناء الإسلام، لا يقل قيمة ولا ضرورة عن منهج التصور الاعتقادي والنظام الحيوي، ولا ينفصل عنه كذلك.
ومهما يخطر لنا أن نقدم هذا التصور وهذا النظام في صورة تعبيرية، فيجب ألا يغيب عن بالنا أن هذا لا ينشئ (الإٍسلام) في الأرض في صورة حركة واقعية، بل يجب ألا يغيب عن بالنا أنه لن يفيد من تقديمنا الإسلام في هذه الصورة إلا المشتغلون فعلاً بحركة إسلامية واقعية، وأن قصارى ما يفيده هؤلاء أنفسهم من تقديم الإسلام لهم في هذه الصورة هو أن يتفاعلوا معها بالقدر الذي وصلوا هم إليه فعلاً في أثناء الحركة.
ومرة أخرى أكرر أن التصور الاعتقادي يجب أن يتمثل من فوره في تجمع حركي، وأن يكون التجمع الحركي في الوقت ذاته تمثيلاً صحيحاً وترجمة حقيقة للتصور الاعتقادي.
ومرة أخرى أكرر كذلك أن هذا هو المنهج الطبيعي للإسلام الرباني، وأنه منهج أعلى وأقوم، وأشد فاعلية، وأكثر انطباقاً على الفطرة البشرية من منهج صياغة النظريات كاملة مستقلة وتقديمها في الصورة الذهنية الباردة للناس، قبل أني كون هؤلاء الناس مشتغلين فعلاً بحركة واقعية، وقبل أن يكونوا هم أنفسهم ترجمة حية، تنمو خطوة خطوة لتمثيل ذلك المفهوم النظري.
وإذا صح هذا في الأصل النظري فهو أصح بطبيعة الحال فيما يختص بتقديم أسس النظام الذي يتمثل فيه التصور الإسلامي، أو تقديم التشريعات المفصلة لهذا النظام.
إن الجاهلية التي حولنا -كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية، فتجعلهم يتعجلون خطوات المنهج الإسلامي -هي كذلك تتعمد أحياناً أن تحرجهم.
فتسألهم: أين تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ودراسات ومن فقه مقنن على الأصول الحديثة! كأن الذي ينقص الناس في هذا الزمان لإقامة شريعة الإسلام في الأرض هو مجرد الأحكام الفقهية والبحوث الفقهية الإسلامية.
وكأنما هم مستسلمون لحاكمية الله راضون بأن تحكمهم شريعته، ولكنهم فقط لا يجدون من (المجتهدين) فقهاً مقنناً بالطريقة الحديثة! .. وهي سخرية هازلة يجب أن يرتفع عليها كل ذي قلب يحس لهذا الدين بحرمة !
إن الجاهلية لا تريد بهذا الإحراج إلا أن تجد لنفسها تعلة في نبذ شريعة الله، واستبقاء عبودية البشر للبشر.. وإلاَّ أن تصرف العصبة المسلمة عن منهجها الرباني، فتجعلنا تتجاوز مرحلة بناء العقيدة في صورة حركية، وأن تحول منهج أصحاب الدعوة الإسلامية عن طبيعته التي تتبلور فيها النظرية من خلال الحركة، وتتحدد ملامح النظام من خلال الممارسة، وتسن فيها التشريعات في مواجهة الحياة الإسلامية الواقعية بمشكلاتها الحقيقية.
ومن واجب أصحاب الدعوة الإسلامية ألا يستجيبوا للمناورة! من واجبهم أن يرفضوا إملاء منهج غريب على حركتهم وعلى دينهم! من واجبهم ألا يستخفهم الذين لا يوقنون!
ومن واجبهم أن يكشفوا مناورة الإحراج، وأن يستعلوا عليها، وأن يرفضوا السخرية الهازلة في ما يسمى (تطوير الفقه الإسلامي) في مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله ورفضه لكل شريعة سواها.
من واجبهم أن يرفضوا هذه التلهية عن العمل الجاد .. التلهية باستنبات البذور في الهواء .. وأن يرفضوا هذه الخدعة الخبيثة!
ومن واجبهم أن يتحركوا وفق منهج هذا الدين في الحركة. فهذا من أسرار قوته.
وهذا هو مصدر قوتهم كذلك.
إن (المنهج) في الإسلام يساوي (الحقيقة).
ولا انفصام بينهما. وكل منهج غريب لا يمكن أن يحقق الإسلام في النهاية.
والمناهج الغريبة يمكن أن تحقق أنظمتها البشرية. ولكنها لا يمكن أن تحقق منهجنا.
فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كل حركة إسلامية.. {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم }..
نَشأَة المُجتَمع المُسْلِم وَخَصَائِصُه
إن الدعوة الإسلامية - على يد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- إنما تمثل الحلقة الأخيرة من سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام .. وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمراً واحداً: هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق، وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق .. ولم يكن الناس -فيما عدا أفراداً معدودة في فترات قصيرة- ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود الله البتة، إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق، أو يشركون مع الله آلهة أخرى: إما في صورة الاعتقاد والعبادة، وإما في صورة الحاكمية والاتباع، وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين الله، الذي كانوا يعرفونه على يد كل رسول، ثم ينكرونه إذا كال عليهم الأمد، ويرتدُّون إلى الجاهلية التي أخرجهم منها، ويعودون إلى الشرك بالله مرة أخرى.
إما في الاعتقاد والعبادة، وإما في الاتباع والحاكمية.
وإما فيها جميعاً..
هذه طبيعة الدعوة إلى الله على مدار التاريخ البشري. إنها تستهدف(الإسلام).. إسلام العباد لرب العباد، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، بإخراجهم من سلطان العباد في حاكميتهم وشرائعها وقيمهم وتقاليدهم، إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شؤون الحياة.. وفي هذا جاء الإسلام على يد محمد صلى الله عليه وسلم، كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله.. جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس، فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده، فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله.
بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم.
فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم، وصحتهم ومرضهم، وحياتهم وموتهم، كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها،وهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه.
ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم، فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن من شؤون هذه الحياة، تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري، وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني.
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر، والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني، والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري.. هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحدة، والتي واجهها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدعوته.. هذه الجاهلية لم تكن ممثلة في (نظرية) مجردة.
بل ربما أحياناً لم تكن لها (نظرية) على الإطلاق! إنما كانت متمثلة دائما في تجمع حركي.
متمثلة في مجتمع، خاضع لقيادة هذا المجتمع، وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته.
هو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي، الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك ـ بإرادة واعية او غير واعية ـ للمحافظة على وجوده، والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في اية صورة من صور التهديد.
ومن اجل أن الجاهلية لا تتمثل في (نظرية) مجردة، ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو، فان محاولة إلغاء هذه الجاهلية، ورد الناس إلى الله مرة أخرى، لا يجوز-ولا يجدي شيئاً- أن تتمثل في(نظرية)مجردة.
فإنها حينئذ لا تكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاً والمتمثلة في تجمع حركي عضوي، فضلاً على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة إلغاء وجود قائم بالفعل لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته.
بل لابد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية، وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك المجتمع الجاهلي القائم فعلاً.
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام- على مدار التاريخ البشري- هي قاعدة: "شهادة أن لا اله إلا الله" أي أفراد الله- سبحانه- بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية.. إفراده بها اعتقادً في الضمير، وعبادة في الشعائر، وشريعة في واقع الحياة.
فشهادة أن لا اله إلا الله،لا توجد فعلاً، ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً او غير مسلم.
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية.. أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله، لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها، ولا في أي جانب من جوانبها، من عند انفسهم، بل لابد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه.. وهو رسول الله.
وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول: " شهادة أن محمد رسول الله".
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها.. وهي تنشئ منهجاً كاملاً للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها، يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية في داخل دار الإسلام وخارجها، في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى.
ولكن الإسلام- كما قلنا- لم يكن يملك أن يتمثل في (نظرية) مجردة، يعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة، ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً.
فان وجودهم على هذا النحو- مهما كثر عددهم- لا يمكن ان يؤدي إلى "وجود فعلي" للإسلام، لان الأفراد (المسلمين نظرياً) الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرون حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوي.. سيتحركون- طوعاً او كرهاً، بوعي او بغير وعي- لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده، وسيدافعون عن كيانه، وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه، لان الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا.. أي أن الأفراد (المسلمين نظرياً) سيظلون يقومون (فعلا) بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون (نظرياً) لازالته، وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا بها ويقوى، وذلك بدلاً من أن تكون حركاتهم في اتجاه تقويض هذا لا مجتمع الجاهلي لاقامة المجتمع الإسلامي!
ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام (أي العقيدة) في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى.. لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي، منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه، وان يكون محور التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله- صلى الله عيه وسلم- ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته- وان يخلع كل من يشهد أن لا اله إلا الله وان محمداً رسول الله ولاءه من التجمع الحركي الجاهلي - أي التجمع الذي جاء منه- ومن قيادة ذلك التجمع- في أية صورة كانت، سواء كانت في صورة قيادة دينية من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم، او في صورة قيادة سياسة واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش - وان يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد، وفي قيادته المسلمة.
ولم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الاسلام، ولنطقه بشهادة أن لا اله إلا الله وان محمد رسول الله، لان وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا.
لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم، لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون، له وجود ذاتي مستقل، يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً- كأعضاء الكائن الحي- على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه، وفي الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه، ويعملون هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي، تنظم حركتهم وتنسقها، وتوجههم لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الاسلامي، ولمكافحة ومقومة وإزالة الوجود الوجود الآخر الجاهلي.
وهكذا وجد الإسلام.. هكذا وجد متمثلا في قاعدة نظرية مجملة -ولكنها شاملة- يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي، مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجهة لهذا المجتمع.. ولم يوجد قط في صورة (نظرية) مجردة عن هذا الوجود الفعلي.. وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة اخرى، ولا سبيل لإعادة إنشائه في المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية.
وبعد: فان الإسلام -هو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج، ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي، ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة -إنما كان يستهدف إبراز(إنسانية الإنسان) وتقويتها وتمكينها، وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الانساني، وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه واحكامه..
إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية- بل الكائنات المادية- في صفات توهم أصحاب (الجهالة العلمية!) مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان، ومرة بأنه مادة كسائر المواد! ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه (الصفات) مع الحيوان ومع المادة له "خصائص" تميزه وتفرده، وتجعل منه كائناً فريداً، كما اضطر أصحاب (الجهالة العلمية!) أخيراً أن يعترفوا والحقائق الواقعية تلوي أعناقهم ليَا، فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة!
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية، ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة الحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز (خصائص الإنسان) في هذا التجمع وتنميتها واعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان.
كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج ان اصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وان صبت في هذه البوتقة وتمازجت، وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد قصيرة، وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة، على بحد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان.
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي وال روماني والإغريقي والإندونيسي والإفريقي..إلى آخر الأقوام والأجناس.
وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما (عربية) إنما كانت دائماً (إسلامية)، ولم تكن يوماً(قومية) إنما كانت دائماً (عقيدية).
ولقد اجتمعوا كلهم على قدوم المساواة وبآصرة الحب، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة.
فبذلوا جميعهم أقصى كفاياتهم، وابرزوا اعمق خصائص أجناسهم، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق، وهذا ما لم يجتمع قط لأرى تجمع آخر على مدار التاريخ!..
لقد كان اشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً.
فقد جمعت بالفعل أجناسا متعددة، ولغات متعددة، وألوانا متعددة، وامزجة متعددة ولكن هذا كله لم يقم على (آصرة إنسانية) ولم يتمثل في عليا كالعقيدة، لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية.
وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني ـ بصفة عامة ـ وعبودية سائر الأجناس الأخرى. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي.
ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى.. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاََ.. ولكنه كان كالمجتمع الروماني الذي هو وريثه! تجمعاً قومياً استغلاليا، يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية.. ومثله الإمبراطوريات الأوروبية كلها: الإمبراطورية الإسبانية والبرتغالية في وقت ما، والإمبراطورية الفرنسية.. كلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر.
يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون، ولكنها لم تقمه على قاعدة(إنسانية) عامة، إنما إقامته على القاعدة (الطبقية).
فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم.. هذا تجمع على قاعدة طبقة (الأشراف) وذلك تجمع على قاعدة طبقة (الصعاليك) " البروليتريا" ، والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني.. فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن (مطالب الأساسية) للإنسان هي "الطعام والمسكن والجنس" -وهي مطالب الحيوان الأولية- باعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!!
لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني.
وما يزال متفرداً.. والذين يعدلون عنه إلى أي منهج اخر، يقوم على أي قاعدة أخرى من القوم او الجنس او الأرض او الطبقة.. إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقاً! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله.
ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق.. وهم الذين يقول الله سبحانه في أمثالهم: { قل: هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً.
الذين ضلَ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً؟ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً.
ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً } [ الكهف: 103-106 ] وصدق الله العظيم..
الجهاد في سبيل الله
لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في " زاد المعاد " في الفصل الذي عقده باسم " فصل في ترتيب هديه مع الكفار والمنافقين من حين عث إلى حين لقي الله عز وجل " : ( أول ما أوحى به تبارك وتعالى ، أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، فنبأه بقوله : { اقرأ } .
وأرسله بـ : { يا أيها المدثر } .
ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم انذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم انذر العالمين .
فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية .
ويؤمر بالكف والصبر والصفح .
ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال .
ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله .
ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله . . ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة . . فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأمر أن يقاتل من نقض عهده . . ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها : فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد ، أو يدخلوا في الإسلام.
وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم . . وجعل أهل العهد في ذلك أقسام : قسما أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم.
وقسما لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم . وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر ، فإذا انسلخت قاتلهم . . فقتل الناقض لعهده ، وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم .
وضرب على أهل الذمة الجزية . . فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة . . ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا قسمين : محاربين وأهل ذمة.
والمحاربون له خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ، وخائف محارب . . وأما سيرته مع المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ، ويكل سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهى أن يصلي عليهم ، وأن يقوم على قبورهم ، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم . . فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين ) . .
ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين ، جديرة بالوقوف أمامها طويلا ، ولكننا لا نملك هنا إلا أن نشير إليها إشارات مجملة :
السمة الأولى : هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين . . فهو حركة تواجه واقعا بشريا . . وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي . . إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية ، تقوم عليها أنظمة واقعية عملية ، تسندها سلطات ذات قوة مادية . . ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه . . تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات ، وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها ، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات ، وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل . . إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي ، كما إنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد.
وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من عبودية العباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيء .
والسمة الثانية : في منهج هذا الدين : هي الواقعية الحركية . . فهو حركة ذات مراحل ، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية ، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها . . فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة .
كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة . . والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ، ولا يراعون هذه السمة فيه ، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج ، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها . . الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً ، ويحملون النصوص ما لا تحمله من المبادئ والقواعد النهائية .
ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً ، يمثل القواعد النهائية في هذا الدين ، ويقولون - وهم مهزومون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - : أن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع ! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً ، وتعبيد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته ، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة . . بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة ، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة ، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها .
والسمة الثالثة : هي أن هذه الحركة الدائبة ، والوسائل المتجددة ، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة ، ولا عن أهدافه المرسومة ، فهو - منذ اليوم الأول - سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين ، أو يخاطب قريشاً ، أو يخاطب العرب أجمعين ، أو يخاطب العالمين ، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة ، ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد هو إخلاص العبودية لله ، والخروج من العبودية للعباد ، لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين . . ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد في خطة مرسومة ، ذات مراحل محددة ، لكل مرحلة وسائلها المتجددة ، على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة .
والسمة الرابعة : هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى - على النحو في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن " زاد المعاد " - وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه ، أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي ، أو قوة مادية ، وأن تخلي بينه وبين كل فرد ، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته ، ولكن لا يقاومه ولا يحاربه ! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه !
والمهزومون روحياً وعقلياً ممن يكتبون عن " الجهاد في الإسلام " ليدفعوا عن الإسلام هذا " الاتهام " يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة ، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه ، والتي تعبَّد الناس للناس ، وتمنعهم من العبودية لله . . وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما . . ومن أجل هذا التخليط ، وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة ! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم : " الحرب الدفاعية " . . والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم ، ولا بواعثها ، ولا تكييفها كذلك . . إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة " الإسلام " ذاته ودوره في هذه الأرض ، وأهدافه العليا التي قررها الله ، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة ، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات .
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعاليمن . . ! إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها : الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور . . أو بتعبير آخر مرادف : الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور . . ذلك أن الحكم الذي مردّ الأمر فيه إلى البشر ، ومصدر السلطات فيه هم البشر ، هو تأليه للبشر ، يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله . إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان المغتصب ورده إلى الله ، وطرد المغتصبين له ، الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم ، فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مكان العبيد . . إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض ، أو بالتعبير القرآني الكريم :
{ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } [ الزخرف : 84 ] .
{ إن الحكم إلا لله . . أمر ألا تعبدوا إلا إياه . . ذلك الدين القيم . . } [ يوسف : 40 ] .
{ قل : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم . . ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنَّا مسلمون . . } [ آل عمران :64 ] .
ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال دين - كما كان الأمر في سلطان الكنيسة . ولا رجال ينطقون باسم الآلهة . كما كان الحال فيما يعرف باسم " الثيوقراطية " او الحكم الإلهي المقدس !! - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة . وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة .
وقيام مملكة الله في الأرض ، وإزالة مملكة البشر ، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده . . وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية . . كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان ، لأن المتسلطين على رقاب العباد ، والمغتصبين لسلطان الله في الأرض ، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان ، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض ! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال !
إن هذا الإعلان العام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله ، بإعلان إلوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ، لم يكن إعلانا نظريا فلسفيا سلبيا . . إنما كان إعلانا حركيا واقعيا إيجابيا . . إعلانا يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله ، ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك . . ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل " الحركة " إلى جانب شكل " البيان " . . ذلك ليواجه " الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه .
والواقع الإنساني ، أمس واليوم وغدا ، يواجه هذا الدين - بوصفه إعلانا لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله - بعقبات اعتقادية تصورية ، وعقبات مادية واقعية . . وعقبات سياسية اجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية ، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة . . وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد .
وإذا كان " البيان " يواجه العقائد والتصورات ، فإن " الحركة تواجه العقبات المادية الأخرى - وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية والتصورية والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة - وهما معا - البيان والحركة - يواجهان " الواقع البشري " بجملته . بوسائل مكافئة لكل مكوناته . . وهما معا لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض . . " الإنسان " كله في " الأرض " كلها . . وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى !
إن هذا الدين ليس إعلانا لتحرير الإنسان العربي ! وليس رسالة خاصة بالعرب ! . . إن موضوعه هو " الإنسان " . . نوع " الإنسان " . . ومجاله هو " الأرض " . . كل " الأرض " .
إن الله - سبحانه - ليس ربا للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم . . إن الله هو " رب العالمين " . . وهذا الدين يريد أن يرد " العالمين " إلى ربهم ، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره .
والعبودية الكبرى - في نظر الإسلام - هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر . . وهذه هي " العبادة " التي يقرر أنها لا تكون إلا لله ، وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين .
ولقد نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن " الاتباع " في الشريعة والحكم هو " العبادة " التي صار بها اليهود والنصارى " مشركين " مخالفين لما أمروا به من " عبادة " الله وحده . .
أخرج الترمذي - عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فر إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم منٌ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - على أخته فأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقه - أي " عدي " - صليب من فضة ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية . . { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } ( ). . قال : فقلت : أنهم لم يعبدوهم . فقال : ( بلى ! إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم ) .
وتفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول الله سبحانه .
نص قاطع على أن الأتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين ، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أربابا لبعض . . الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه ، ويعلن تحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية لغير الله . .
ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في " الأرض " لإزالة " الواقع " المخالف لذلك الإعلان العام . . بالبيان وبالحركة مجتمعين . . وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبٌد الناس لغير الله . . - أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه - والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى " البيان " واعتناق " العقيدة " بحرية لا يتعرض لها السلطان .
ثم لكي يقيم نظاما اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي - بعد إزالة القوة المسيطرة - سواء كانت سياسية بحتة ، أو متلبسة بالعنصرية ، أو الطبقية داخل العنصر الواحد !
إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته . . ولكن الإسلام ليس مجرد " عقيدة "
. إن الإسلام كما قلنا إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد .
فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان . . ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحرارا - بالفعل - في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم - بعد رفع الضغط السياسي عنهم ، وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم - ولكن هذه التجربة ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم ، وأن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيدا للعباد ! وأن يتخذوا بعضهم بعضا أربابا من دون الله ! . . إن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده.
وذلك بتلقي الشرائع منه وحده .
ثم ليعتنق كل فرد - في ظل هذا النظام العام - ما يعتنقه من عقيدة ! وبهذا يكون " الدين " كله لله.
أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله . . إن مدلول " الدين " أشمل من مشمول " العقيدة " .
إن الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة ، وهو في الإسلام يعتمد على ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة . . وفي الإسلام يمكن أن تخضع جماعات متنوعة لمنهجه العام الذي يقوم على أساس العبودية لله وحده ولو لم يعتنق بعض هذه الجماعات عقيدة الإسلام .
والذي يدرك طبيعة هذا الدين - على النحو المتقدم - يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف - إلى جانب الجهاد بالبيان - ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية - بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح " الحرب الدفاعية " كما يريد المنهزمون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام - إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير " الإنسان " في " الأرض " وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة .
وإذا لم يكن بد أن نسمي حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية ، فلا بد أن نغير مفهوم كلمة " دفاع " ونعتبره " دفاعا عن الإنسان " ذاته .
ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره . . هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات ، كما تتمثل في الأنظمة السياسية ، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية ، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام ، والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان !
وبهذا التوسع في مفهوم كلمة " الدفاع " نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي في " الأرض " بالجهاد ، ونواجه طبيعة الإسلام ذاتها ، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، وتقرير ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين .
وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض ، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان .. أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية ، ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على " الوطن الإسلامي " - وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب - فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين ، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض .
كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر ، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي .
ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض ؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد ، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من أنظمة الدولة السياسية ، وأنظمة المجتمع العنصرية الطبقية ، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية ، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك ؟!
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير " الإنسان " . . نوع " الإنسان " في " الأرض " . . كل " الأرض " ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان ! . . إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد . . فهنا { لا إكراه في الدين } . . أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية ، فلا بد من إزالتها بالقوة ، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله ، وهو طليق من هذه الأغلال !
إن الجهاد ضروري للدعوة ، إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلانا جادا يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه ، ولا يكفي بالبيان الفلسفي النظري ! سواء كان الوطن الإسلامي - وبالتعبير الإسلامي الصحيح : دار الإسلام - آمنا أم مهددا من جيرانه .
فالإسلام حين يسعى إلى السلم ، لا يقصد تلك السلم الرخيصة ، وهي مجرد أن يؤمن الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية .
إنما هو يريد السلم التي يكون فيها الدين كله لله .
أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله ، والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله .
والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام - بأمر من الله - لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأواسطها . . ولقد انتهت هذه المراحل كما يقول الإمام ابن القيم : (فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة . . ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا قسمين : محاربين وأهل ذمة .
والمحاربون له خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن " وهم أهل الذمة كما يفهم من الجملة السابقة " وخائف محارب ) . .
وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه ، لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام هجوم المستشرقين الماكر ! ولقد كف الله المسلمين عن القتال في مكة ، وفي أول العهد بالهجرة إلى المدينة . . وقيل للمسلمين : { كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } . . ثم أذن لهم فيه فقيل لهم : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } . . ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقيل لهم : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } . . ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة ، فقيل لهم : { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } . . وقيل لهم : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم بالآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } . فكان القتال - كما يقول الإمام ابن القيم - ( محرما ، ثم مأذونا به ، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال ، ثم مأمورا به لجميع المشركين ) . .
إن جدية النصوص القرآنية الواردة في الجهاد ، وجدية الأحاديث النبوية التي تحض عليه ، وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام ، وعلى مدى طويل من تاريخه . . إن هذه الجدية الواضحة تمنع أن يجول في النفس ذلك التفسير الذي يحاوله المنهزمون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي !
ومن ذا الذي يسمع قول الله سبحانه في هذا الشان وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي ، ثم يظنه شأنا عارضا مقيدا بملابسات تذهب وتجئ ، ويقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود ؟!
لقد بين الله للمؤمنين في أول ما نزل من الآيات التي أذن لهم فيها بالقتال أن الشأن الدائم الأصيل في طبيعة هذه الحياة الدنيا أن يدفع الناس بعضهم ببعض ، لدفع الفساد عن الأرض : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا } [ الحج : 39-40]
وإذن فهو الشأن الدائم لا الحالة العارضة .
الشأن الدائم أن لا يتعايش الحق والباطل في هذه الأرض .
وأنه متى قام الإسلام بإعلانه العام لإقامة ربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، رماه المغتصبون لسلطان الله في الأرض ولم يسالموه قط ، وانطلق هو كذلك يدمر عليهم ليخرج الناس من سلطانهم ويدفع عن " الإنسان "في " الأرض " ذلك السلطان الغاصب . . حالة دائمة لا يقف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله لله .
إن الكف عن القتال في مكة لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة . كذلك كان الأمر أول العهد بالهجرة .
والذي بعث الجماعة المسلمة في المدينة بعد الفترة الأولى لم يكن مجرد تأمين المدينة . . هذا هدف أولي لا بد منه ، ولكنه ليس الهدف الأخير . . إنه هدف يضمن وسيلة الانطلاق ، ويؤمن قاعدة الانطلاق . .
الانطلاق لتحرير " الإنسان " ولإزالة العقبات التي تمنع " الإنسان " ذاته من الانطلاق !
وكف أيدي المسلمين في مكة عن الجهاد بالسيف مفهوم . لأنه كان مكفولا للدعوة في مكة حرية البلاغ .. كان صاحبها - عليه الصلاة والسلام - يملك بحماية سيوف بني هاشم ، ان يصدع بالدعوة ، ويخاطب بها الآذان والعقول والقلوب ، ويواجه بها الأفراد . . لم تكن هناك سلطة سياسية منظمة تمنعه من إبلاغ الدعوة ، أو تمنع الأفراد من سماعه ! فلا ضرورة - في هذه المرحلة - لاستخدام القوة ، وذلك إلى أسباب أخرى لعلها كانت قائمة في هذه المرحلة ، وقد لخصتها في ظلال القرآن عند تفسير قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم : كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . . } [ الآية 77 من سورة النساء ] ولا بأس في إثبات بعض التلخيص هنا :
" ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ، في بيئة معينة ، لقوم معينين ، وسط ظروف معينة ، ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات ، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم على شخصه أو على من يلوذون به ، ليخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته ، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محور الحياة في نظره ودافع الحركة في حياته .
وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ، فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج ، فيتم الاعتدال في طبيعته وحركته ، وتربيته عل أن يتبع مجتمعا منظما له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره به - مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي ، لإنشاء " المجتمع المسلم " الخاضع لقيادة موجهة ، المترقي المتحضر ، غير الهمجي أو القبلي ! "
" وربما كان ذلك أيضا ، لأن الدعوة السليمة كانت اشد أثرا وأنفذ ، في مثل بيئة قريش ، ذات العنجهية والشرف ، والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه المرحلة - إلى زيادة العناد ، وإلى نشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة التي أثارت حروب داحس والغبراء ، وحرب البسوس ، أعواما طويلة ، تفانت فيها قبائل برمتها ، وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام ، فلا تهدأ بعد ذلك ابدا ، ويتحول الإسلام من دعوة ودين إلى ثارات وذحول تنسى معها وجهته الأساسية ، وهو مبدئه ، فلا تذكر ابدا !"
" وربما كان ذلك أيضا ، اجتنابا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت ، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة ، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم ، إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد يعذبونه ويفتنونه " ويؤدبونه "! ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت . . ثم يقال : هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في الموسم .
في أواسط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمدا يفرق بين الوالد وولده ، فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي . . في كل بيت وفي كل محلة ؟ "
" وربما كان ذلك أيضا لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ، ويعذبونهم ، هم بأنفسهم سيكونون جند الإسلام المخلص ، بل من قادته . . ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء ؟! "
" وربما كان ذلك أيضا ، لأن النخوة العربية ، في بيئة قبلية ، من عاداتها أن تثور للمظلوم الذي يتحمل الأذى ، ولا يتراجع ! وبخاصة إذا كان واقعا على كرام الناس فيهم . . وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة ، ورأى في ذلك عارا على العرب ! وعرض عليه جواره وحمايته . . وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب ، بعد ما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة . . بينما في بيئة أخرى من بيئات " الحضارة " القديمة التي مردت على الذل ، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة ، وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي ! " " وربما كان ذلك أيضا ، لقلة عدد المسلمين حينذاك ، وانحصارهم في مكة ، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة أو بلغت أخبارها متناثرة ، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها ، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف ، ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك ، وتنمحي الجماعة المسلمة ، ولم يقم في الأرض للإسلام نظام ، ولا وجد له كيان واقعي ، وهو دين جاء ليكون منهاج حياة ، وليكون نظاما واقعيا عمليا للحياة "
" . . . الخ " . . .
فأما في المدينة - في أول العهد بالهجرة - فقد كانت المعاهدة التي عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود من أهلها ومن بقي على الشرك من العرب فيها وفيما حولها ، ملابسة طبيعية تقتضيها المرحلة كذلك . .
أولا : لأن هناك مجالا للتبليغ والبيان ، لا تقف له سلطة سياسية تمنعه وتحول بين الناس وبينه ، فقد اعترف الجميع بالدولة المسلمة الجديدة ، وبقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تصريف شؤونها السياسية ، فنصت المعاهدة على ألا يعقد أحد منهم صلحا ولا يثير حربا ، ولا ينشئ علاقة خارجية إلا بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان واضحا أن السلطة الحقيقة في المدينة في يد القيادة المسلمة ، فالمجال أمام الدعوة مفتوح ، والتخلية بين الناس وحرية الاعتقاد قائمة .
ثانيا : إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد التفرغ في هذه المرحلة لقريش ، التي تقوم معارضتها لهذا الدين حجر عثرة في وجه القبائل الأخرى الواقعة في حالة انتظار لما ينتهي إليه الأمر بين قريش وبعض بنيها ! لذلك بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإرسال " السرايا " وكان أول لواء عقده لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة .
ثم توالت هذه السرايا ، على رأس تسعة اشهر ، ثم على راس ثلاثة عشر شهرا ، ثم على رأس ستة عشر شهرا ، ثم كانت سرية عبد الله بن جحش في رجب على راس سبعة عشر شهرا ، وهي أول غزاة وقع فيها قتل وقتال ، وكان ذلك في الشهر الحرام ، والتي نزلت فيها آيات البقرة : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا . . } [ البقرة:217] .
ثم كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان من هذه السنة . . وهي التي نزلت فيها سورة الأنفال .
ورؤية الموقف من خلال ملابسات الواقع ، لا تدع مجالا للقول بأن " الدفاع " بمفهومه الضيق كان هو قاعدة الحركة الإسلامية ، كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر !
إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي ، إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقية ، في وقت لم يعد للمسلمين شوكة ، بل لم يعد للمسلمين إسلام ! - إلا من عصم الله ممن يصرون على تحقيق إعلان الإسلام العام بتحرير " الإنسان "في " الأرض " من كل سلطان إلا من سلطان الله ، ليكون الدين كله لله - فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام !
والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية :
{ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه اجرا عظيما * وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وأجعل لنا من لدنك وليا وأجعل لنا من لدنك نصيرا * الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا } . [ النساء : 74-76 ]
{ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وغن يعودوا فقد مضت سنة الأولين * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير } [ الأنفال: 38-40 ]
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون * وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وأمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . . } [ التوبة: 29-32 ] .
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض ، وتحقيق منهجه في حياة الناس ، ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين ، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس ، والناس عبيد لله وحده ، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه ! وهذا يكفي . . مع تقرير مبدأ : { لا إكراه في الدين } . . أي لا إكراه على اعتناق العقيدة ، بعد الخروج من سلطان العبيد ، والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله ، أو أن الدين كله لله ، بهذا الاعتبار .
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض ، بإخراج الناس من العبودية للعبادة إلى العبودية لله وحده بلا شريك . . وهذه وحدها تكفي . . لقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين ، فلميسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول : خرجنا ندافع عن وطننا المهدد ! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين ! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة !
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر ، وحذيفة والمغيرة بن شعبة جميعا لرستم قائد جيش الق\فرس في القادسية ، وهو يسالهم واحد بعد واحد في ثلاثة ايام متوالية ، قبل المعركة : ما الذي جاء بكم ؟ فيكون الجواب : (( الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . . فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه ، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه ، وتركناه وأرضه ، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر )) .
إن هناك مبررا ذاتيا في طبيعة هذا الدين ذاته ، وفي اعلانه العام وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه ، في مراحل محددة ، بوسائل متجددة . . وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء - ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها - إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية . . لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة ومؤقتة !
وإنه ليكفي لأن يخرج المسلم مجاهدا بنفسه وماله . . " في سبيل الله " . . في سبيل هذه القيم التي لا ينال هو من ورائها مغنم ذاتي ، أو يخرجه لها مغنم ذاتي . .
إن المسلم قبل أن ينطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان . . مع هواه وشهوته . . مع مطامعه ورغباته . . مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه . . مع كل شارة غير شارة الإسلام . . ومع كل دافع إلا العبودية لله وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان الله . .
والذين يبحثون عن مبررات للجهاد الإسلامي في حماية " الوطن الإسلامي " يغضون من شأن " المنهج " ويعتبرونه أقل من " الوطن " وهذه ليست نظرة الإسلام إلى هذه الاعتبارات ، إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس الإسلامي ، فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحس الإسلامي ، أما الأرض - بذاتها - فلا اعتبار لها ولا وزن ! وكل قيمة للأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج الله وسلطانه فيها ، وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج و " دار الإسلام " ونقطة الانطلاق لتحرير " الإنسان " .
وحقيقة إن حماية " دار الإسلام " حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج . . ولكنها ليست الهدف النهائي ، وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي ، إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها ، ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها وإلى النوع الإنساني بجملته ، فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين والأرض هي مجاله الكبير !
وكما اسلفنا فإن الانطلاق بالمذهب الإلهي تقوم من في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة ، ونظام المجتمع ، وأوضاع البيئة . . وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة ، كي يخلو له وجه الأفراد من الناس ، يخاطب ضمائرهم وافكارهم ، بعد أن يحررها من الأغلال المادية ، ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار .
يجب ألا تخدعنا أو تفزعنا حملات المستشرقين على مبدأ " الجهاد " وألا يثقل على عاتقنا ضغط الواقع وثقله في ميزان القوى العالمية ، فنروح نبحث للجهاد الإسلامي عن مبررات أدبية خارجة عن طبيعة هذا الدين ، في ملابسات دفاعية وقتية ، كان الجهاد سينطلق في طريقه سواء وجدت أم لم توجد !
ويجب ونحن نستعرض الواقع التاريخي ألا نغفل عن الاعتبارات الذاتية في طبيعة هذا الدين وإعلانه العام ومنهجه الواقعي ، وألا نخلط بينها وبين المقتضيات الدفاعية الوقتية . .
حقا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له ، لأن مجرد وجوده في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله ، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية ، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لاحد من البشر بالحاكمية ، لأن الحاكمية فيه لله وحده . . إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لابد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله - القائمة على قاعدة العبودية للعباد - أن تحاول سحقه ، دفاعا عن وجودها ذاته ، ولابد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه ..
هذه ملابسة لابد منها ، تولد مع ميلاد الإسلام ذاته ، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضا ، ولا خيار له في خوضها ، وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلا . . .
هذا كله حق . . ووفق هذه النظرة يكون لابد للإسلام أن يدافع عن وجوده ، ولابد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضا . .
ولكن هناك حقيقة أخرى اشد اصالة من هذه الحقيقة . . إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء . . لإنقاذ " الإنسان " في " الأرض " من العبودية لغير الله ، ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية ، ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية ، تاركا " الإنسان " . . نوع الإنسان . . في " الأرض " . . كل الأرض . . للشر والفساد والعبودية لغير الله .
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام ، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية ، ورضى أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام ! ولكن الإسلام لا يهادنها ، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية ، ضمانا لفتح ابوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها .
هذه طبيعة هذا الدين ، وهذه وضيفته ، يحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير اله في الناس أجمعين !
وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة ، وتصوره قابعا داخل حدود إقليمية أو عنصرية لا يحركه إلا خوف الاعتداء ! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق !
إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر ان هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية ، وليس منهج إنسان ، ولا مذهب شيعة من الناس ، ولا نظام جنس من الأجناس ! . . ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة . . حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية وعبودية العباد . . إنه لا يمكن ان يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي !
والمسافة قد لا تبدو كبيرة عند مفرق الطريق بين تصور ان الإسلام كان مضطرا لخوض معركة لا اختيار له فيها ، وبحكم وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الأخرى التي لابد أن تهاجمه ، وتصور أنه هو بذاته لابد أن يتحرك ابتداء ، فيدخل في هذه المعركة . .
المسافة عن مفرق الطريق قد لا تبدو كبيرة ، فهو في كلتا الحالتين سيدخل المعركة حتما ، ولكنها في نهاية الطريق تبدو هائلة شاسعة ، تغير المشاعر والمفهومات الإسلامية تغييرا كبيرا . . خطيرا .
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجا إلهيا ، جاء ليقرر ألوهية الله في الأرض وعبودية البشر جميعا لإله واحد ، ويصب هذا التقرير في قالب واقعي ، هو المجتمع الإنساني الذي يتحرر فيه الناس من العبودية للعبادة ، بالعبودية لرب العباد ، فلا تحكمهم إلا شريعة الله ، التي يتمثل فيها سلطان الله ، أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته . . فمن حقه إذن أن يزيل العقبات كلها من طريقه ، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي ، او اوضاع الناس الاجتماعية . . إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو ، واعتباره نظاما محليا في وطن بعينه فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية !
هذا تصور . . وذاك تصور . . ولو ان الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد . . ولكن التصور الكلي لبواعث هذا الجهاد واهدافه ونتائجه ، يختلف اختلافا بعيدا ، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخطة والاتجاه .
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء ، فالإسلام ليس نحلة قوم ، ولا نظام وطن ، ولكنه منهج إله ، ونظام عالم . . ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الانظمة والأوضاع التي تغل من حرية " الإنسان " في الاختيار ، وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته ، إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة ، المفسدة للفطرة ، المقيدة لحرية الاختيار .
من حق الإسلام ان يُخرج " الناس "من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . . ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعالمين ، وتحرير الناس أجمعين . . وعبادة الله وحده لا تتحقق - في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي - إلا في ظل النظام الإسلامي ، فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم ، حاكمهم ومحكومهم ، اسودهم وابيضهم ، قاصيهم ودانيهم ، فقيرهم وغنيهم ، تشريعا واحدا يخضع له الجميع على السواء . . أما في سائر الأنظمة ، فيعبد الناس العباد ، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد ، وهو من خصائص الألوهية ، فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصا وعملا ، سواء ادعاها قولا أم لم يعلن هذا الادعاء ، وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية ، سواء سماها باسمها أم لم يسمها !
والإسلام ليس مجرد عقيدة ، حتى يقنع بإبلاغ عقيدته بوسيلة البيان ، إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس ، والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو ، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام ، وهذا - كما قلنا من قبل - معنى ان يكون الدين كله لله ، فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته ، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقم على عبودية العباد للعبادة !
إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر وتحت ضغط الاستشراق الماكر ، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة ، لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة ، والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيدا أن هذه ليست هي الحقيقة ، لكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة . . ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام بنفي هذا الاتهام ، فيلجاون إلى تلمس المبررات الدفاعية ! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته ، وحقه في " تحرير الإنسان " ابتداء .
وقد غشى على افكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة " الدين " . . وإنه مجرد " عقيدة " في الضمير ، لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة ، ومن ثم يكون الجهاد للدين ، جهادا لفرض العقيدة على الضمير !
لكن الأمر ليس كذلك في الإسلام ، فالإسلام منهج للحياة البشرية ، وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية ! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام ، أما العقيدة فأمر موكول إلى حرية الاقتناع في ظل النظام العام ، بعد رفع جميع المؤثرات . . ومن ثم يختلف الأمر من أساسه ، وتصبح له صورة جديدة كاملة .
وحيثما وجد التجمع الإسلامي ، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي ، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام ، مع ترك مسالة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان ، فإذا كف الله ايدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد ، فهذه مسألة خطة لا مسالة مبدأ ، مسألة مقتضيات الحركة لا مسألة عقيدة . . وعلى هذا الاساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة ، في المراحل التاريخية المتجددة ، ولا نخلط بين دلالتها المرحلية ، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل .
لا إله إلا الله منهج حياة
العبودية لله وحده هي شطر الركن الأول في العقيدة الإسلامية المتمثل في شهادة : أن لا إله إلا الله . والتلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كيفية هذه العبودية - هو شطرها الثاني ، المتمثل في شهادة أن محمدا رسول الله .
والقلب المؤمن المسلم هو الذي تتمثل فيه هذه العبودية بشطريها ، لأن كل ما بعدها من مقومات الإيمان ، وأركان الإسلام ، إنما هو مقتضى لها .
فالإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وكذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج ، ثم الحدود والتعازير والحل والحرمة والمعاملات والتشريعات والتوجيهات الإسلامية . . . إنما تقوم كلها على قاعدة العبودية لله وحده ، كما أن المرجع فيها كلها هو ما بلغه لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه .
والمجتمع المسلم هو الذي تتمثل فيه تلك القاعدة ومقتضايتها جميعا لأنه بغير تمثل تلك القاعدة ومقتضايتها فيه لا يكون مسلما .
ومن ثم تصبح شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله قاعدة لمنهج كامل تقوم عليه حياة الأمة المسلمة بحذافيرها ، فلا تقوم هذه الحياة قبل أن تقوم هذه القاعدة ، كما أنها لا تكون إسلامية إذا قامت على غير هذه القاعدة ، أو قامت على قاعدة أخرى معها ، أو عدة قواعد أجنبية عنها :
{ إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم } [ يوسف : 40]
{ ومن يطع الرسول فقد أطاع الله } [ النساء : 80 ]
هذا التقرير الموجز المطلق الحاسم يفيدنا في تحديد كلمة الفصل في قضايا أساسية في حقيقة هذا الدين . وفي حركته الواقعية كذلك :
إنه يفيدنا أولا في تحديد " طبيعة المجتمع المسلم " .
ويفيدنا ثانيا في تحديد " منهج المجتمع المسلم " .
ويفيدنا ثالثا في تحديد " منهج الإسلام في مواجهة المجتمعات الجاهلية " .
ويفيدنا رابعا في تحديد " منهج الإسلام في مواجهة واقع الحياة البشرية " .
وهي قضايا أساسية بالغة الخطورة في منهج الحركة الإسلامية قديما وحديثا .
إن السمة الأولى المميزة لطبيعة " المجتمع المسلم " هي أن هذا المجتمع يقوم على قاعدة العبودية لله وحده في أمره كله . . هذه العبودية التي تمثلها وتكيفها شهادة لا إله إلا الله . .وأن محمدا رسول الله .
وتتمثل هذه العبودية في التصور الاعتقادي ، كما تتمثل في الشعائر التعبدية . كما تتمثل في الشرائع القانونية سواء .
فليس عبدا لله من لا يعتقد بوحدانية الله سبحانه :
{ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السموات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون ؟ } .. [ النحل : 51-52]
ليس عبدا لله وحده من يتقدم بالشعائر التعبدية لأحد غير الله - معه أو من دونه - :
{ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } [ الأنعام : 162 - 163]
ليس عبدا لله وحده من يتلقى الشرائع القانونية من أحد سوى الله ، عن الطريق الذي بلغنا الله به ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم :
{ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21]
{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7]
هذا هو المجتمع المسلم .
المجتمع الذي تتمثل فيه العبودية لله وحده في معتقدات أفراده وتصوراتهم ، كما تتمثل في شعائرهم وعباداتهم ، كما تتمثل في نظامهم الجماعي وتشريعاتهم . . وأيما جانب من هذه الجوانب تخلف عن الوجود فقد تخلف الإسلام فقد تخلف الإسلام نفسه عن الوجود ، لتخلف ركنه الأول ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
ولقد قلنا إن العبودية لله تتمثل في " التصور الاعتقادي " . . فيحسن أن نقول ما هو التصور الاعتقادي الإسلامي . . إنه التصور الذي ينشأ في الإدراك البشري من تلقيه لحقائق العقيدة من مصدرها الرباني .
والذي يتكيف به الإنسان في إدراكه لحقيقة ربه .
ولحقيقة الكون الذي يعيش فيه - غيبه وشهوده - ولحقيقة الحياة التي ينتسب إليها - غيبها وشهودها - ولحقيقة نفسه . . أي لحقيقة الإنسان ذاته . . ثم يكيف على أساسه تعامله مع هذه الحقائق جميعا.
تعامله مع ربه تعاملا تتمثل فيه عبوديته لله وحده ، وتعامله مع الكون ونواميسه ومع الأحياء وعوالمها ، ومع أفراد النوع البشري وتشكيلاته تعاملا يستمد أصوله من دين الله - كما بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم - تحقيقا لعبوديته لله وحده في هذا التعامل . . وهو بهذه الصورة يشمل نشاط الحياة كله .
فإذا تقرر أن هذا هو " المجتمع المسلم " ، فكيف ينشأ هذا المجتمع ؟ ما منهج هذه النشأة ؟ إن هذا المجتمع لا يقوم حتى تنشا جماعة من الناس تقرر أن عبوديتها الكاملة لله وحده ، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله . . لا تدين بالعبودية لغير الله في الاعتقاد والتصور ، ولا تدين لغير الله في العبادات والشعائر . . ولا تدين بالعبودية لغير الله في النظام والشرائع . . ثم تأخذ بالفعل في تنظيم حياتها كلها على أساس هذه العبودية الخالصة . . وتنقي شعائرها من التوجه بها لأحد غير الله - معه أو دونه - وتنقي شرائعها من التلقي عن أحد غير الله - معه أو من دونه - .
عندئذ - وعندئذ فقط - تكون هذه الجماعة مسلمة ، ويكون هذا المجتمع الذي أقامته مسلما كذلك . . فأما قبل أن يقرر ناس من الناس إخلاص عبوديتهم لله - على النحو الذي تقدم - فإنهم لا يكونون مسلمين . . وأما قبل أن ينظموا حياتهم على هذا الأساس فلا يكون مجتمعهم مسلما . . ذلك أن القاعدة الأولى التي يقوم عليها الإسلام ، والتي يقوم عليها المجتمع المسلم - وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - لم تقم بشطريها . .
وإذن فإنه قبل التفكير في إقامة نظام مجتمع إسلامي ، وإقامة مجتمع مسلم على أساس هذا النظام . . ينبغي أن يتجه الاهتمام أولا إلى تخليص ضمائر الأفراد من العبودية لغير الله - في أي صورة من صورها التي أسلفنا - وأن يجتمع الأفراد الذين تخلص ضمائرهم من العبودية لغير الله في جماعة مسلمة . . وهذه الجماعة التي خلصت ضمائر أفرادها من العبودية لغير الله .
اعتقادا وعبادة وشريعة .
هي التي ينشأ منها المجتمع المسلم ، وينظم إليها من يريد أن يعيش في هذا المجتمع بعقيدته وعبادته وشريعته التي تتمثل فيها العبودية لله وحده . . أو بتعبير آخر تتمثل فيها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله .
وهكذا كانت نشأة الجماعة المسلمة الأولى التي أقامت المجتمع المسلم الأول . . وهكذا تكون نشأة كل جماعة مسلمة ، وهكذا يقوم كل مجتمع مسلم .
إن المجتمع المسلم إنما ينشأ من انتقال أفراد ومجموعات من الناس من العبودية لغير الله - معه ـو من دونه - إلى العبودية لله وحده بلا شريك له ، ثم من تقرير هذه المجموعات أنى تقيم نظام حياتها على أساس هذه العبودية . . وعندئذ يتم ميلاد جديد لمجتمع جديد ، مشتق من المجتمع الجاهلي القديم ، ومواجه له بعقيدة جديدة ، ونظام للحياة جديد ، يقوم على أساس هذه العقيدة ، وتتمثل فيه قاعدة الإسلام الأولى بشطريه . . شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . .
وقد ينضم المجتمع الجاهلي القديم بكامله إلى المجتمع الإسلامي الجديد وقد لا ينضم ، كما أنه قد يهادن المجتمع الإسلامي او يحاربه . وإن كانت السنة قد جرت بأن يشن المجتمع الجاهلي حربا لا هوادة فيها .
سواء على طلائع هذا المجتمع في مرحلة نشوئه - وهو أفراد أو مجموعات - أو على هذا المجتمع نفسه بعد قيامه فعلا - وهو ما حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية منذ نوح عليه السلام إلى محمد عليه الصلاة والسلام ، بغير استثناء .
وطبيعي أن المجتمع المسلم الجديد لا ينشأ ، ولا يتقرر وجوده إلا إذا بلغ درجة من القوة يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي القديم ، قوة الاعتقاد والتصور ، وقوة الخلق والبناء النفسي ، وقوة التنظيم والبناء الجماعي ، وسائر أنواع القوة التي يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي ويتغلب عليه ، أو على الأقل يصمد له !
ولكن ما هو المجتمع الجاهلي ؟ وما هو منهج الإسلام في مواجهته ؟
إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم ! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا : إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده . . متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي ، وفي الشعائر التعبدية ، وفي الشرائع القانونية . .
وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار " المجتمع الجاهلي " جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلا!
تدخل فيه المجتمعات الشيوعية . . أولا : بإلحادها في الله - سبحانه- وبإنكار وجوده أصلا ، ورجع الفاعلية في هذا الوجود إلى " المادة " أو " الطبيعة " ، ورجع الفاعلية في حياة الإنسان وتاريخه إلى " الاقتصاد " أو " أدوات الإنتاج " ، وثانيا " بإقامة نظام العبودية فيه للحزب - على فرض أن القيادة الجماعية في هذا النظام حقيقة واقعة ! - لا لله سبحانه ! .
ثم ما يترتب على ذلك التصور وهذا النظام من إهدار لخصائص " الإنسان " وذلك باعتبار أن " المطالب الأساسية " له هي فقط مطالب الحيوان ، وهي " الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ! وحرمانه من حاجات روحه " الإنساني " المتميز عن الحيوان ، وفي أولها : العقيدة في الله ، وحرية اختيارها ، وحرية التعبير عنها ، وكذلك حرية التعبير عن " فرديته " وهي من أخص خصائص " إنسانيته " .
هذه الفردية التي تتجلى في الملكية الفردية ، وفي اختيار نوع العمل والتخصص ، وفي التعبير الفني عن " الذات " إلى آخر ما يميز " الإنسان " عن " الحيوان " أو عن " الآلة " إذ أن التصور الشيوعي والنظام الشيوعي سواء ، كثيرا ما يهبط بالإنسان من مرتبة الحيوان إلى مرتبة الآلة !
وتدخل فيه المجتمعات الوثنية - وهي ما تزال قائمة في الهند واليابان والفلبين وأفريقية - تدخل فيه ، أولا : بتصورها الاعتقادي القائم على تأليه غير الله - معه أو من دونه - ، وتدخل فيه ثانيا : بتقديم الشعائر التعبدية لشتى الآلهة والمعبودات التي تعتقد بألوهيتها . . كذلك تدخل فيه بإقامة أنظمة وشرائع ، المرجع فيها لغير الله وشريعته . . سواء استمدت هذه الأنظمة والشرائع من المعابد والكهنة والسدنة والسحرة والشيوخ ، أو استمدتها من هيئات مدنية " علمانية " تملك سلطة التشريع دون الرجوع إلى شريعة الله . . أي أن لها الحاكمية العليا باسم " الشعب " أو باسم " الحزب " أو باسم كائن من كان . . ذلك ان الحاكمية العليا لا تكون إلا لله سبحانه ، ولا تزاول إلا بالطريقة التي بلغها عنه رسله .
وتدخل فيه المجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعا . . تدخل فيه هذه المجتمعات أولا : بتصورها الاعتقادي المحرف ، الذي لا يفرد الله - سبحانه - بالألوهية بل يجعل له شركاء في صورة من صور الشرك ، سواء بالنبوة أو بالتثليث ، أو بتصور الله سبحانه على غير حقيقته ، وتصور علاقة خلقه به على غير حقيقتها :
{ وقالت اليهود : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله . .ذلك قولهم بأفواههم ، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل . .قاتلهم الله أنى يؤفكون } [ التوبة : 30 ]
{ لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة . .وما من إله إلا إله واحد ، وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } [ المائدة : 64 ]
{ وقالت اليهود : يد الله مغلولة . .غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا . .بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } [ المائدة : 64 ]
{ وقالت اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه . قل فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ بل أنتم بشر ممن خلق } [ المائدة : 18 ]
وتدخل فيه كذلك بشعائرها التعبدية ومراسمها وطقوسها المنبثقة من التصورات الاعتقادية المنحرفة الضالة . . ثم تدخل فيه بأنظمتها وشرائعها ، وهي كلها لا تقوم على العبودية لله وحده .
بالإقرار له وحده بحق الحاكمية ، واستداد السلطان من شرعه ، بل تقيم هيئات من البشر ، لها حق الحاكمية العليا التي لا تكون إلا لله سبحانه . . وقديما وصمهم الله بالشرك لأنهم جعلوا هذا الحق للأحبار والرهبان ، يشرعون لهم من عند أنفسهم فيقبلون منهم ما يشرعونه :
{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } [ التوبة : 31 ]
وهم لم يكونوا يعتقدون في ألوهية الأحبار والرهبان . . ولم يكونوا يتقدمون لهم بالشعائر التعبدية ، وإنما كانوا فقط يعترفون لهم بحق الحاكمية ، فيقبلون منهم ما يشرعونه لهم .
بما لم يأذن به الله ، فأولى أن يوصموا اليوم بالشرك والكفر ، وقد جعلوا ذلك لناس منهم ليسوا أحبارا ولا رهبانا . . وكلهم سواء . .
وأخير يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها " مسلمة " !.
وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله ، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضا ، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظامها ، وشرائعها وقيمها ، وموازينها ، وعاداتها وتقاليدها . . وكل مقومات حياتها تقريبا !. والله سبحانه يقول عن الحاكمين :
{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة : 44]
ويقول عن المحكومين :
{ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } . . . إلى قوله . . . { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } [ النساء :60-65 ]
كما إنه - سبحانه - قد وصف اليهود والنصارى من قبل بالشرك والكفر والحيدة عن عبادة الله وحده ، واتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دونه ، لمجرد أن جعلوا للأحبار والرهبان ما يجعله الذين يقولون عن أنفسهم أنهم " مسلمون " لناس منهم ! واعتبر الله سبحانه ذلك من اليهود والنصارى شركا كاتخاذهم عيسى ابن مريم ربا يؤلهونه ويعبدونه سواء . فهذه كتلك خروج من العبودية لله وحده ، فهي خروج من دين الله ، ومن شهادة أن لا إله إلا الله .
وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحة " علمانيته " وعدم علاقته بالدين اصلا ، وبعضها يعلن أنه " يحترم الدين " ولكنه يخرج الذين من نظامه الاجتماعي اصلا ، ويقول : إنه ينكر " الغيبية " ويقيم نظامه على " العلمية " باعتبار أن العلمية تناقض الغيبية ! وهو زعم جاهل لا يقول به إلا الجهال ( ) ، وبعضها يجعل الحاكمية الفعلية لغير الله ويشرع ما يشاء ثم يقول عما يشرعه من عند نفسه : هذه شريعة الله ! . . وكلها سواء في أنها لا تقوم على العبودية لله وحده . .
وإذا تعين هذا ، فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد في عبارة واحدة : إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره .
إن الإسلام لا ينظر إلى العنوانات واللافتات والشارات التي تحملها هذه المجتمعات على اختلافها . . إنها كلها تلتقي في حقيقة واحدة . . وهي أن الحياة فيها لا تقوم على العبودية الكاملة لله وحده .
وهي من ثم تلتقي - مع ساء المجتمعات الأخرى - في صفة واحدة . . صفة " الجاهلية " . .
وهذا يقودنا إلى القضية الخطيرة وهي منهج الإسلام في مواجهة الواقع البشري كله . . اليوم وغدا وإلى آخر الزمان . . وهنا ينفعنا ما قررناه في الفقرة الأولى عن " طبيعة المجتمع المسلم " ، وقيامه على العبودية لله وحده في أمره كله .
إن تحديد هذه الطبيعة يجيب إجابة حاسمة في هذا السؤال :
- ما الأصل الذي ترجع إليه الحياة البشرية وتقوم عليه ؟ أهو دين الله ومنهجه للحياة ؟ أم هم الواقع البشري أيا كان ؟
إن الإسلام يجيب على هذا السؤال إجابة حاسمة لا يتلعثم فيها ولا يتردد لحظة . . إن الأصل الذي يجب أن ترجع إليه الحياة البشرية بجملتها هو دين الله ومنهجه للحياة . . إن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله التي هي ركن الإسلام الأول ، لا تقوم ولا تؤدى إلا أن يكون هذا هو الأصل . . وأن العبودية لله وحده مع التلقي وكيفية هذه العبودية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تتحقق إلا أن يعترف بهذا الأصل ، ثم يتابع اتباعا كاملا بلا تلعثم ولا تردد :
{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر: 7 ]
ثم إن الإسلام يسأل :{ أأنتم أعلم أم الله }
ويجيب :
{ والله يعلم وأنتم لا تعلمون } . . { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } . .
والذي يعلم - والذي يخلق ويرزق كذلك - هو الذي يحكم . . ودينه الذي هو منهجه للحياة ، هو الأصل الذي ترجع إليه الحياة . . أما واقع البشر ونظرياتهم ومذاهبهم فهي تفسد وتنحرف ، وتقوم على علم البشر الذين لا يعلمون ، والذين لم يؤتوا من العلم إلا قليلا !
ودين الله ليس غامضا ، ومنهجه للحياة ليس مائعا . . فهو محدد بشطر الشهادة الثاني : محمد رسول الله ، فهو محصور فيما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم من النصوص في الأصول . . فإن كان هناك نص فالنص هو الحكم ، ولا اجتهاد مع النص .
وإن لم يكن هناك نص فهنا يجئ دور الاجتهاد - وفق أصوله المقررة في منهج الله ذاته لا وفق الأهواء والرغبات - :
{ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [ النساء : 59 ]
والأصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة ومعروفة وليست غامضة ولا مائعة . . فليس لأحد أن يقول لشرع لم يشرعه الله : هذا شرع الله ، إلا أن تكون الحاكمية لله معلنة ، وأن يكون مصدر السلطات هو الله سبحانه لا " الشعب " ولا " الحزب " ولا أي من البشر ، وأن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله لمعرفة ما يريده الله ، ولا يكون هذا لكل من يريد أن يدعي سلطانا باسم الله .
كذلك الذي عرفته أوربا ذات يوم باسم " الثيوقراطية " أو " الحكم المقدس " فليش شيء من هذا في الإسلام .
وما يملك أحد أن ينطق باسم الله إلا رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنما هناك نصوص معينة هي التي تحدد ما شرع الله . .
إن كلمة " الدين للواقع " يساء فهمها ، ويساء استخدامها كذلك . نعم إن هذا الدين للواقع . ولكن أي واقع !
.. إنه الواقع الذي ينشئه هذا الدين نفسه ، وفق منهجه ، منطبقا على الفطرة البشرية في سوائها ، ومحققا للحاجات الإنسانية الحقيقية في شمولها . هذه الحاجات التي يقررها الذي خلق ، والذي يعلم من خلق :
{ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ]
والدين لا يواجه الواقع ليقره ويبحث له عن سند منه ، وعن حكم شرعي يعلقه عليه كاللافتة المستعارة ! إنما يواجه الواقع ليزنه بميزانه ، فيقر منه ما يقر ، ويلغي ما يلغي ، وينشئ واقعا غيره إن كان لا يرتضيه ، وواقعه الذي ينشئه هو الواقع . وهذا هو المعنى بأن الإسلام " دين للواقع " . . أو ما يجب أن تعنيه في مفهومها الصحيح !
ولعله يثار هنا سؤال :
" إليست مصلحة البشر هي التي يجب أن تصوغ واقعهم ؟! " .
ومرة أخرى نرجع إلى السؤال الذي يطرحه الإسلام ويجيب عليه "
{ أأنتم أعلم أم الله } ؟
{ والله يعلم وأنتم لا تعلمون } !
إن مصلحة البشر متضمنة في شرع الله ، كما أنزله الله ، وكما بلغه عنه رسول الله . . فإذا بدا للبشر ذات يوم أن مصلحتهم في مخالفة ما شرع الله لهم ، فهم أولا : " واهمون " فيما بدا لهم .
{ إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى } [ النجم :23-25 ]
وهم . . ثانيا : " كافرون " . . فما يدعي أحد أن المصلحة فيما يراه هو مخالفا لما شرع الله ، ثم يبقى لحظة واحدة على هذا الدين .
ومن أهل هذا الدين ! .
شَريعَةٌ كــونية
إن الإسلام حين يقيم بناءه الإعتقادي في الضمير والواقع على أساس العبودية الكاملة لله وحده ، ويجعل هذه العبودية متمثلة في الاعتقاد والعبادة والشريعة على السواء ، باعتبار أن هذه العبودية الكاملة لله وحده - في صورتها هذه - هي المدلول العملي لشهادة أن لا إله إلا الله . . وأن التلقي في كيفية هذه العبودية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده هو المدلول العملي كذلك لشهادة أن محمداً رسول الله . . .
إن الإسلام حين يقيم بناءه كله على هذا الأساس ، بحيث تمثل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله منهج الحياة في الإسلام ، وتصور ملامح هذا المنهج ، وتقرر خصائصه . . إن الإسلام حين يقيم بناءه على هذا النحو الفريد الذي يفرقه عن جميع الأنظمة الأُخرى التي عرفتها البشرية . . إنما يرجع إلى أصل أشمل في تقريره عن الوجود كله ، لا عن الوجود الإنساني وحده ، وإلى منهج للوجود كله لا منهج للحياة الإنسانية وحدها .
إن التصور الإسلامي يقوم على أساس أن هذا الوجود كله من خلق الله ، اتجهت إرادة الله إلى كونه فكان ، وأودعه الله - سبحانه - قوانينه التي يتحرك بها ، والتي تتناسق بها حركة أجزائه فيما بينها ، كما تتناسق بها حركته الكلية سواء .
{ إنما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له : كُن فَيكون } [ النحل : 40 ] .
{وخلق كل شيءٍ فقدره تقديراً } . . [ الفرقان : 2 ] .
إن وراء هذا الوجود الكوني مشيئة تدبره ، وقدراً يحركه ، وناموساً ينسقه . هذا الناموس ينسق بين مفردات هذا الوجود كلها ، وينظم حركاتها جميعاً ، فلا تصطدم ، ولا تختل ، ولا تتعارض ، ولا تتوقف عن الحركة المنتظمة المستمرة - إلى ما شـاء الله - كما إن هذا الوجود خاضع مستسلم للمشيئة التي تدبره ، والقدر الذي يحركه ، والناموس الذي ينسقه ، بحيث لا يخطر له في لحظة واحدة أن يتمرد على المشيئة ، أو أن يتنكر للقدر ، أو أن يخالف الناموس وهو لهذا كله صالح لا يدركه العطب والفساد إلا أن يشاء الله :
{ إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره .
إلا له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين } . . [ الأعراف : 54 ] .
والإنسان من هذا الوجود الكوني ، والقوانين التي تحكم فطرته ليست بمعزل عن ذلك الناموس الذي يحكم الوجود كله . . لقد خلقه الله - كما خلق هذا الوجود - وهو في تكوينه المادي من طين هذه الأرض ، وما وهبه الله من خصائص زائدة على مادة الطين جعلت منه إنساناً ، إنما رزقه الله إياه مقدراً تقديراً ، وهو خاضع من ناحية كيانه الجسمي للناموس الطبيعي الذي سنَّه الله له - رضى أم أبي - يعطى وجوده وخلقه ابتداء بمشيئة الله لا بمشيئته هو ولا بمشيئة أبيه وأمه - فما يلتقيان ولكنهما لا يملكان أن يعطيا جنين وجوده - وهو يُولَد وفق الناموس الذي وضعه الله لمدة الحمل وظروف الولادة .
وهو يتنفس هذا الهواء الذي أوجده الله بمقاديره هذه ، ويتنفسه بالقدر وبالكيفية التي أرادها الله له .
وهو يحس ويتألم ، ويجوع ويعطش ، يأكل ويشرب ، ويمثل الطعام والشراب . . وبالجملة يعيش . . وفق ناموس الله ، عن غير إرادة منه ولا اختيار ، شأنه في هذا شأن هذا الوجود الكوني وكل ما فيه وكل من فيه ، في الخضوع المطلق لمشيئة الله وقدره وناموسه . . .
والله الذي خلق هذا الوجود وخلق الإنسان ، والذي أخضع الإنسان لنواميسه التي أخضع لها الوجود الكوني . . هو - سبحانه - الذي سن للإنسان " شريعة " لتنظيم حياته الإرادية تنظيماً متناسقاً مع حياته الطبيعية .
فالشريعة - على هذا الأساس - إن هي إلا قطاع من الناموس الإلهي العام الذي يحكم فطرة الإنسان ، وفطرة الوجود العام ، وينسقها كلها جملة واحدة .
وما من كلمة من كلمات الله ، ولا أمر ولا نهي ، ولا وعد ولا وعيد ، ولا تشريع ولا توجيه . . . إلا هي شطر من الناموس العام .
وصادقة في ذاتها صدق القوانين التي نسميها القوانين الطبيعية - أي القوانين الإلهية الكونية - التي نراها تتحقق في كل لحظة ، بحكم ما في طبيعتها من حق أزلي أودعه الله فيها ، وهي تتحقق بقدر الله .
و " الشريعة " التي سنّها الله لتنظيم حياة البشر هي - من ثم - شريعة كونية . بمعنى أنها متصلة بناموس الكون العام ، ومتناسقة معه . . ومن ثم فإن الالتزام بها ناشئ من ضرورة تحقيق التناسق بين الحياة والإنسان ، وحركة الكون الذي يعيش فيه . . بل من ضرورة تحقيق التناسق بين القوانين التي تحكم فطرة البشر المضمرة والقوانين التي تحكم حياتهم الظاهرة . وضرورة الالتئام بين الشخصية المضمرة والشخصية الظاهرة للإنسان . .
ولما كان البشر لا يملكون أن يدركوا جميع السنن الكونية ، ولا أن يحيطوا بأطراف الناموس العام - ولا حتى بهذا الذي يحكم فطرتهم ذاتها ويخضعهم له - رضوا أم أبوا - فإنهم - من ثم - لا يملكون أن يشرعوا لحياة البشر نظاماً يتحقق به التناسق المطلق بين حياة الناس وحركة الكون ، ولا حتى التناسق بين فطرتهم المضمرة وحياتهم الظاهرة .
إنما يملك هذا خالق الكون وخالق البشر ، ومدبر أمره وأمرهم ، وفق الناموس الواحد الذي أختاره وارتضاه .
وكذلك يصبح العمل بشريعة الله واجباً لتحقيق ذلك التناسق . . وذلك فوق وجوبه لتحقق الإسلام اعتقاداً .
فلا وجود للإسلام في حياة فرد أ وحياة جماعة ، إلا بإخلاص العبودية لله وحده ، وبالتلقي في كيفية هذه العبودية عن رسول الله وحده ، تحقيقاً لمدلول ركن الإسلام الأول : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
وفي تحقيق التناسق المطلق بين حياة البشر وناموس الكون كل الخير للبشر ، كما فيه الصيانة للحياة من الفساد . . إنهم - في هذه الحالة وحدها - يعيشون في سلام من أنفسهم . . فأما السلام مع الكون فينشأ من تطابق حركتهم مع حركة الكون ، وتطابق اتجاههم مع اتجاهه . . وأما السلام مع أنفسهم فينشأ من توافق حركتهم مع دوافع فطرتهم الصحيحة ، فلا تقوم المعركة بين المرء وفطرته ، لأن شريعة الله تنسق بين الحركة الظاهرة والفطرة المضمرة ، في يسر وهدوء . . وينشأ عن هذا التنسيق تنسيق آخر في ارتباط الناس ونشاطهم العام ، لأنهم جميعاً يسلكون حينئذ وفق منهج موحد ، هو طرف من الناموس الكوني العام .
كذلك يتحقق الخير للبشرية عن طريق إهتدائها وتعرفها في يسر إلى أسرار هذا الكون ، والطاقات المكنونة فيه والكنوز المذخورة في أطوائه ـ واستخدام هذا كله وفق شريعة الله ، لتحقيق الخير البشري العام ، بلا تعارض ولا اصطدام . ومقابل شريعة الله هو أهواء البشر :
{ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن } . . . [ المؤمنون : 71 ] .
ومن ثمّ توحد النظرة الإسلامية بين الحق الذي يقوم عليه هذا الدين ، والحق الذي تقوم عليه السموات والأرض .
ويصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، يحاسب الله به ويجازي من يتعدونه . . فهو حق واحد لا يتعدد ، وهو الناموس الكوني العام الذي أراده الله لهذا الوجود في جميع الأحوال ، والذي يخضع له ويؤخذ به كل ما في الوجود من عوالم وأشياء وأحياء .
{ ولقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم ، أفلا تعقلون ! وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين ، فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون . لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون .
قالوا : ياويلنا إنا كنا ظالمين ! فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين . وما خلقتنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين .
لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا . . . إن كنا فاعلين . . بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، ولكم الويل مما تصفون .
وله من في السموات والأرض ، ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون } . . . [ الأنبياء : 10 - 20 ] .
وفطرة الإنسان تدرك هذا الحق في أعماقها .
فطبيعة تكوينه وطبيعة هذا الكون كله من حوله توحي إلى فطرته بأن هذا الوجود قائم على الحق ، وأن الحق أصيل فيه ، وأنه ثابت على الناموس ، لا يضطرب ، ولا تتفرق به السبل ، ولا تختلف دورته . ولا يصطدم بعضه ببعض ، ولا يسير وفق المصادفة العابرة والفلتة الشاردة .
ولا وفق الهوى المتقلب والرغبة الجامحة ! إنما يمضي في نظامه الدقيق المحكم المقدر تقديراً . . ومن ثم يقع الشقاق - أول ما يقع - بين الإنسان وفطرته عندما يحيد عن الحق الكامن في أعماقها ، تحت تأثير هواه ، وذلك عندما يتخذ شريعة لحياته مستمدة من هذا الهوى لا من شريعة الله ، وعندما لا يستسلم لله استسلام هذا الوجود الكوني الخاضع لمولاه !
ومثل هذا الشقاق يقع بين الأفراد والجماعات والأمم والأجيال ، كما يقم بين البشر والكون من حولهم ، فتنقلب قواه وذخائره وسائل تدمير وأسباب شقاء ، بدلاً من أن تكون وسائل عمران وأسباب سعادة لبني الإنسان .
وإذن فإن الهدف الظاهر من قيام شريعة الله في الأرض ليس مجرد العمل للآخرة .
فالدنيا والآخرة معاً مرحلتان متكاملتان ، وشريعة الله هي التي تنسق بين المرحلتين في حياة هذا الإنسان .
تنسق الحياة كلها مع الناموس الإلهي العام .
والتناسق مع الناموس لا يؤجْل سعادة الناس إلى الآخرة ، بل يجعلها واقعة ومتحققة في المرحلة الأولى كذلك ، ثم تتم وتبلغ كمالها في الدار الآخرة .
هذا هو أساس التصور الإسلامي للوجود كله ، وللوجود الإنساني في ظل ذلك الوجود العام ، وهو تصور يختلف في طبيعته اختلافاً جوهرياً عن كل تصور آخر عرفته البشرية ، ومن ثم تقوم عليه التزامات لا تقوم على أي تصور آخر في جميع الأنظمة والنظريات . .
إن الالتزام بشريعة الله - في هذا التصور - هو مقتضى الارتباط التام بين حياة البشر وحياة الكون ، وبين الناموس الذي يحكم فطرة البشر ويحكم هذا الكون ، ثم ضرورة المطابقة بين هذا الناموس العام والشريعة التي تنظم حياة بني الإنسان ، وتتحقق بالتزامها عبودية البشر لله وحده ، كما أن عبودية هذا الكون لله وحده لا يدّعيها لنفسه إنسان .
وإلى ضرورة هذا التطابق والتناسق يشير الحوار الذي جرى بين إبراهيم - عليه السلام ، أبي هذه الأمة المسلمة - وبين " نمرود " المتجبر المدعي بحق السلطان على العباد في الأرض ، والذي لم يستطع - مع ذلك - أن يدعي بحق السلطان على الأفلاك والأجرام في الكون ، وبهت أمام إبراهيم عليه السلام .
وهو يقول له : إن الذي يملك السلطان في الكون هو وحده الذي ينبغي أن يكون له السلطان في حياة البشر ، ولم يحر جواباً على هذا البرهان :
{ ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه - أن آتاه الله الملك - إذ قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت .
قال : أنا أُحي وأُميت ! قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب . . فبهت الذي كفر . .والله لا يهدي القوم الظالمين } . . [ البقرة : 258 ] . وصدق الله العظيم :
{ أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وطرهاً وإليه يرجعون ؟! } . . [ آل عمران : 83 ] .
الإسلام هو الحضارة
الإسلام لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات . . . مجتمع إسلامي ، ومجتمع جاهلي . .
" المجتمع الإسلامي " هو المجتمع الذي يطبق فيه الإسلام . . عقيدة وعبادة ، وشريعة ونظاماً ، وخلقاً وسلوكاً . . و " المجتمع الجاهلي " هو المجتمع الذي لا يطبق فيه الإسلام ، ولا تحكمه عقيدته وتصوراته ، وقيمه وموازينه ، ونظامه وشرائعه ، وخلقه وسلوكه . .
ليس المجتمع الإسلامي هو الذي يضم ناساً ممن يسمون أنفسهم " مسلمين " ، بينما شريعة الإسلام ليست هي قانون هذا المجتمع ، وإن صلى وصام وحج البيت الحرام ! وليس المجتمع الإسلامي هو الذي يبتدع لنفسه إسلاماً من عند نفسه - غير ما قرره الله سبحانه ، وفصله رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويسميه مثلاً " الإسلام المتطور " !
و " المجتمع الجاهلي " قد يتمثل في صور شتى - كلها جاهلية - :
قد يتمثل في صورة مجتمع ينكر وجود الله تعالى ، ويفسر التاريخ تفسيراً مادياً جدلياً ، ويطبق ما يسميه " الاشتراكية العالمية " نظاماً .
وقد يتمثل في مجتمع لا ينكر وجود الله تعالى ، ولكن يجعل له ملكوت السماوات ، ويعزله عن ملكوت الأرض ، فلا يطبق شريعته في نظام الحياة ، ولا يحكم قيمه التي جعلها هو قيماً ثابتة في حياة البشر ، ويبيح للناس أن يعبدوا الله في البيع والكنائس والمساجد ، ولكنه يحرم عليهم أن يطالبوا بتحكيم شريعة الله في حياتهم ، وهو بذلك ينكر أو يعطل ألوهية الله في الأرض ، التي ينص عليها قوله تعالى : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } . . [ الزخرف : 84 ] .
ومن ثم لا يكون هذا المجتمع في دين الله الذي يحدده قوله :
{ إن الحكم إلا لله ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه . . ذلك الدين القيم } . . [ يوسف : 40 ] .
وبذلك يكون مجتمعاً جاهلياً ، ولو أقر بوجود الله سبحانه ولو ترك الناس يقدمون الشعائر لله ، في البيع والكنائس والمساجد .
" المجتمع الإسلامي " - بصفته تلك - هو وحده " المجتمع المتحضر " ، والمجتمعات الجاهلية - بكل صورها المتعددة - مجتمعات متخلفة ! ولا بد من إيضاح لهذه الحقيقة الكبيرة .
لقد كنت قد أعلنتُ مرة عن كتاب لي تحت الطبع بعنوان : " نحو مجتمع إسلامي متحضر " . . ثم عدت في الإعلان التالي عنه فحذفت كلمة " متحضر " مكتفياً بأن يكون عنوان البحث - كما هو موضوعه - " نحو مجتمع إسلامي " . .
ولفت هذا التعديل نظر كاتب جزائري ( يكتبه بالفرنسية ) ففسره على أنه ناشئ من " عملية دفاع نفسية داخلية عن الإسلام " وأسف لأن هذه العملية - غير الواقعية - تحرمني مواجهة " المشكلة " على حقيقتها !
أنا أعذر هذا الكاتب . . لقد كنت مثله من قبل . . كنت أفكر على النحو الذي يفكر هو عليه الآن . . عندما فكرت في الكتابة عن هذا الموضوع لأول مرة ! . . وكانت المشكلة عندي - كما هي عنده اليوم - هي مشكلة : " تعريف الحضارة " !
لم اكن قد تخلصت بعد من ضغط الرواسب الثقافية في تكويني العقلي والنفسي ، وهي رواسب آتية من مصادر أجنبية . . غريبة على حسي الإسلامي . . وعلى الرغم من اتجاهي الإسلامي الواضح في ذلك الحين ، إلا أن هذه الرواسب كانت تغبش تصوري وتطمسه ! كان تصور " الحضارة " - كما هو الفكر الأوربي - يخايل لي ، ويغبش تصوري ، ويحرمني الرؤية الواضحة الأصلية .
ثم انجلت الصورة . . " المجتمع المسلم " هو " المجتمع المتحضر " . فكلمة " المتحضر " إذن لغو ، لا يضيف شيئاً جديداً . . على العكس تنقل هذه الكلمة إلى حس القارئ تلك الظلال الأجنبية الغربية التي كانت تغبش تصوري ، وتحرمني الرؤية الواضحة الأصلية !
الاختلاف إذن هو على " تعريف الحضارة " . . ولا بد من إيضاح إذن لهذه الحقيقة !
حين تكون الحاكمية العليا في مجتمع لله وحده - متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية - تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحرراً كاملاً من العبودية للبشر . . وتكون هذه هي " الحضارة الإنسانية " لأن حضارة الإنسان تقتضي قاعدة أساسية من التحرر الحقيقي الكامل للإنسان ، ومن الكرامة المطلقة لكل فرد في المجتمع .
ولا حرية - في الحقيقة - ولا كرامة للإنسان - ممثلاً في كل فرد من أفراده - في مجتمع بعضه أرباب يشرعون وبعضه عبيد يطيعون !
ولا بد أن نبادر فنبين أن التشريع لا ينحصر فقط في الأحكام القانونية - كما هو المفهوم الضيق في الأذهان اليوم لكلمة الشريعة - فالتصورات والمناهج ، والقيم والموازين ، والعادات والتقاليد . . كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه .
وحين يصنع الناس - بعضهم لبعض - هذه الضغوط ، ويخضع لها البعض الآخر منهم في مجتمع ، لا يكون هذا المجتمع متحرراً ، إنما هو مجتمع بعضه أرباب وبعضه عبيد - كما أسلفنا - وهو - من ثم - مجتمع متخلف . . أو بالمصطلح الإسلامي . . " مجتمع جاهلي " !
والمجتمع الإسلامي هو وحده المجتمع الذي يهيمن عليه إله واحد ، ويخرج فيه الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده .
وبذلك يتحررون التحرر الحقيقي الكامل ، الذي ترتكز إليه حضارة الإنسان ، وتتمثل فيه كرامته كما قدرها الله له ، وهو يعلن خلافته في الأرض عنه ، ويعلن كذلك تكريمه في الملأ الأعلى . .
وحين تكون آصرة التجمع الأساسية في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكرة ومنهج الحياة ، ويكون هذا كله صادراً من إله واحد ، تتمثل السيادة العليا للبشر ، وليس صادراً من أرباب أرضية تتمثل فيها عبودية البشر للبشر . . يكون ذلك التجمع ممثلاً لأعلى ما في " الإنسان " من خصائص . . حصائص الروح والفكر . . فأما حين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي الجنس واللون والقوم والأرض . . . وما إلى ذلك من الروابط ، فظاهر أن الجنس واللون والقوم والأرض لا تمثل الخصائص العليا للإنسان . . فالإنسان يبقى إنساناً بعد الجنس واللون والقوم والأرض ، ولكنه لا يبقى إنساناً بعد الروح والفكر ! ثم هو يملك - بمحض إرادته الحرة - أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته ، ولكنه لا يملك أن يغير لونه ولا جنسه ، كما إنه لا يملك أن يحدد مولده في قوم ولا في أرض . . فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة واختيارهم الذاتي هو المجتمع المتحضر . . اما المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر خارج عن إرادتهم الإنسانية فهو المجتمع المتخلف . . أو بالمصطلح الإسلامي . . هو " المجتمع الجاهلي " !
والمجتمع الإسلامي وحده هو المجتمع الذي تمثل فيه العقيدة رابطة التجمع الأساسية ، والذي تعتبر فيه العقيدة هي الجنسية التي تجمع بين الأسود والأبيض والأحمر والأصفر والعربي والرومي والفارسي والحبشي وسائر أجناس الأرض في أمة واححدة ، ربها الله ، وعبوديتها له وحده ، والكرم فيها هو الأتقى ، والكل فيها أنداد يلتقون على أمر شرعه الله لهم ، ولم يشرعه أحد من العباد !
وحين تكون " إنسانية " الإنسان هي القيمة العليا في مجتمع ، وتكون الخصائص " الإنسانية " فيه هي موضع التكريم والاعتبار ، يكون هذا المجتمع متحضراً . . فأما حين تكون " المادة " - في أية صورة - هي القيمة العليا . . سواء في صورة " النظرية " كما في التفسير الماركسي للتاريخ ! او في صور " الإنتاج الفكري " كما في أمريكا وأوربا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي قيمة عليا تهدر في سبيلها القيم والخصائص والإنسانية . . فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً متخلفاً . . أو بالمصطلح الإسلامي مجتمعاً جاهلياً !
إن المجتمع المتحضر .. الإسلامي . . لا يحتقر المادة ، لا في صورة النظرية ( باعتبارها هي التي يتألف منها هذا الكون الذي نعيش فيه ونتأثر فيه ونؤثر فيه أيضاً ) ولا في صور " الإنتاج المادي " . فالإنتاج المادي من مقومات الخلافة في الأرض عن الله ، ولكنه فقط لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص " الإنسان " ومقوماته ! . . وتهدر من أجلها حرية الفرد وكرامته .
وتهدر فيها قاعدة " الأُسرة " ومقوماتها ، وتهدر فيها أخلاق المجتمع وحرماته . . إلى آخر ما تهدره المجتمعات الجاهلية من القيم العليا والفضائل والحرمات لتحقق الوفرة في الإنتاج المادي !
وحين تكون " القيم الإنسانية " و " الأخلاق الإنسانية " التي تقوم عليها ، هي السائدة في مجتمع ، يكون هذا المجتمع متحضراً .
والقيم الإنسانية والأخلاق الإنسانية ليست مسألة غامضة مائعة وليست كذلك قيماً " متطورة " متغيرة متبدلة ، لا تستقر على حال ولا ترجع إلى أصل ، كما يزعم التفسير المادي للتاريخ ، وكا تزعم " الاشتراكية العلمية " !
إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان خصائص الإنسان التي يتفرد بها دون الحيوان ، والتي يغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويعزوه عن الحيوان ، وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه وتغلب الجوانب التي يشترك فيها مع الحيوان .
وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم " وثابت " لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها " التطوريون " ! " والإشتراكيون العلميون " !
عندئذ لا يكون اصطلاح البيئة وعرفها هو الذي يحدد القيم الأخلاقية ، إنما يكون وراء اختلاف البيئة ميزان ثابت . . عندئذ لا يكون هناك قيم وأخلاق " زراعية " وأخرى " صناعية " ! ولا قيم وأخلاق " رأسمالية " وأخرى " اشتراكية " ، ولا قيم وأخلاق " برجوازية " وأخرى " صعلوكية " ! ولا تكون هناك التغيرات السطحية والشكلية . . إنما تكون هناك - من وراء ذلك كله - قيم وأخلاق " إنسانية " وقيم وأخلاق " حيوانية " - إذا صح هذا التعبير ! - أو بالمصطلح الإسلامي : قيم وأخلاق " إسلامية " وقيم وأخلاق " جاهلية " .
إن الإسلام يقرر قيمه وأخلاقه هذه " الإنسانية " - أي التي تنمى في الإنسان الجوانب التي تفرقه وتميزه عن الحيوان - ويمضي غي إنشائها وتثبيتها وصيانتها في كل المجتمعات التي يهيمن عليها سواء كانت هذه المجتمعات في طور الزراعة أم في طور الصناعة ، وسواء كانت مجتمعات بدوية تعيش على الرعى أو مجتمعات حضرية مستقرة ، وسواء كانت هذه المجتمعات فقيرة أو غنية . . إنه يرتقى صعداً بالخصائص الإنسانية ، ويحرسها من انكسة إلى الحيوانية . . لأن الخط الصاعد في القيم والاعتبارات يمضي من الدرك الحيواني إلى المرتفع الإنساني . . فإذا انتكس هذا الخط - مع حضارة المادة - فلن يكون ذلك حضارة ! إنما هو " التخلف " أو هو " الجاهلية " !
وحين تكون " الأسرة " هي قاعدة المجتمع . وتقوم هذه الأسرة على أساس " التخصص " بين الزوجين في العمل .
وتكون رعاية الجيل الناشئ هي أهم وظائف الأسرة . . يكون هذا المجتمع متحضراً . . ذلك أن الأسرة على هذا النحو - في ظل المنهج الإسلامي - تكون هي البيئة التي تنشأ وتنمى فيها الأخلاق والقيم " الإنسانية " التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة ، ممثلة في الجيل الناشى ، والتي يستحيل أن تنشأ في وحدة أخرى غير وحدة الأسرة ، فأما حين تكون العلاقات الجنسية ( الحرة كما يسمونها ) والنسل ( غير الشرعي ) هي قاعدة المجتمع . . حين تقوم العلاقات بين الجنسين على أساس الهوى والنزوة والانفعال ، لا على أساس الواجب والتخصص الوظيفي في الأسرة . . حين تصبح وظيفة المرأة هي الزينة والغواية والفتنة . . وحين تتخلى المرأة عن وظيفتها الأساسية في رعاية الجيل الجديد ، وتؤثر هي - أو يؤثر لها المجتمع - أن تكون مضيفة في فندق أو سفينة او طائرة ! . . حين تنفق طاقتها في " الإنتاج المادي " و " صناعة الأدوات " ولا تنفقها في " صناعة الإنسانية " ! لأن الإنتاج المادي يومئذ أغلى وأعز وأكرم من " الإنتاج الإنساني " ، عندئذ يكون هنا هو " التخلف الحضاري " بالقياس الإنساني . . أو تكون هي " الجاهلية " بالمصطلح الإسلامي !
وقضية الأسرة والعلاقات بين الجنسين قضية حاسمة في تحديد صفة المجتمع . . متخلف أم متحضر ، جاهلي أم إسلامي ! . . والمجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية في هذه العلاقة لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة ، مهما تبلغ من التفوق الصناعي والاقتصادي والعلمي ! إن هذا المقياس لا يخطئ في قياس مدى التقدم " الإنساني " . .
وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفموم " الأخلاقي " ؛ بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز " الإنساني " عن الطابع " الحيواني " ! ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية - ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة - رذيلة أخلاقية . . إن المفهوم الأخلاقي يكاد ينحصر في المعاملات الاقتصادية - والسياسية أحياناً في حدود " مصلحة الدولة " - ففضيحة كريستين كيلر وبروفيمو الوزير الإنجليزي - مثلاً - لم تكن في عرف المجتمع الإنجليزي فضيحة بسبب جانبها الجنسي . . إنما كانت فضيحة لأن كرستين كيلر كانت صديقة كذلك للملحق البحري الروسي .
ومن هنا يكون هناك خطر على أسرار الدولة في علاقة الوزير بهذه الفتاة ! وكذلك لأنه افتضح كذبه على البرلمان الإنجليزي ! والفضائح المماثلة في مجلس الشيوخ الأمريكي ، وفضائح الجواسيس والموظفين الإنجليز والأمريكان الذين هربوا إلى روسيا .
إنها ليست فضائح بسبب شذوذهم الجنسي ! ولكن بسبب الخطر على أسرار الدولة !
والكتاب والصحفيون والروائيون في المجتمعات الجاهلية هنا وهناك يقولونها صريحة للفتيات والزوجات : إن الاتصالات ( الحرة ) ليست رذائل أخلاقية .
الرذيلة الأخلاقية أن يخدع الفتى رفيقته أو تخذع الفتاة رفيقها ولا تخلص له الود ، بل الرذيلة أن تحافظ الزوجة على عفتها إذا كانت شهوة الحب لزوجها قد خمدت ! والفضيلة أن تبحث لها عن صديق تعطيه جسدها بأمانة ! . . عشرات من القصص هذا محورها ! ومئات التوجيهات الإخبارية والرسوم الكايكاتورية والنكت والفاكاهات هذه إيحاءاتها . . مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة . . غير متحضرة . . من وجهة نظر " الإنسان " وبمقياس خط التقدم " الإنساني " . .
إن خط التقدم الإنساني يسير في اتجاه " الضبط " للنزوات الحيوانية ، وحصرها في نطاق " الأسرة " على أساس " الواجب " لتؤدى بذلك " وظيفة إنسانية " ليست اللذة غايتها ، وإنما هي إعداد جيل إنساني يخلف الجيل الحاضر في ميراث الحضارة " الإنسانية " التي يميزها بروز الخصائص الإنسانية . . ولا يمكن إعداد جيل يترقى في خصائص الإنسان ، ويبتعد عن خصائص الحيوان ، إلا في محضن أسرة محوطة بضمانات الأمن والاستقرار العاطفي ، وقائمة على أساس الواجب الذي لا يتأرجح مع الانفعالات الطارئة .
وفي المجتمع الذي تنشئ تلك التوجيهات والإيحاءات الخبيثة المسمومة ، والذي ينحسر فيه المفهوم الأخلاقي ، فيتخلى عن كل آداب الجنس ، لا يمكن أن يقوم ذلك المحضن الإنساني . .
من اجل ذلك كله تكون القيم والأخلاق والإيحاءات والضمانات الإسلامية هي اللائقة بالإنسان . ويكون " الإسلام هو الحضارة " ويكون المجتمع الإسلامي هو المجتمع المتحضر . . بذلك المقياس الثابت الذي لا يتميع أو لا " يتطور " .
وأخيراً فإنه حين يقوم " الإنسان " بالخلافة عن "الله " في أرضه على وجهها الصحيح : بأن يخلص عبوديته لله ويخلص من العبودية لغيره ، وأن يحقق منهج الله وحده ويرفض الاعتراف بشرعية منهج غيره ، وأن يحكم شريعة الله وحدها في حياته كلها وينكر تحكيم شريعة سواها ، وأن يعيش بالقيم والأخلاق التي قررها الله له ويسقط القيم والأخلاق المدعاة .
ثم بأن يتعرف بعد ذلك كله إلى النواميس الكونية التي أودعها الله في هذا الكون المادي ، ويستخدمها في ترقية الحياة ، وفي استنباط خامات الأرض وأرزاقها وأقواتها التي أودعها الله إياها ، وجعل تلك النواميس الكونية أختامها ، ومنح الإنسان القدرة على فض هذه الأختام بالقدر الذي يلزم له في الخلافة . . أي حين ينهض بالخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه ، ويصبح وهو يفجر ينابيع الرزق ، ويصنع المادة الخامة ، ويقيم الصناعات المتنوعة ، ويستخدم ما تتيحه له كل الخبرات الفنية التي حصل عليها الإنسان في تاريخه كله .. حين يصبح وهو يصنع هذا كله " ربانياً " يقوم بالخلافة عن الله على هذا النحو - عبادة الله .
يومئذ يكون هذا الإنسان كامل الحضارة ، ويكون هذا المجتمع قد بلغ قمة الحضارة . . فأما الإبداع المادي - وحده - فلا يسمى في الإسلام حضارة . . فقد يكون وتكون معه الجاهلية . . وقد ذكر الله من هذا الإبداع المادي في معرض وضع الجاهلية نماذج :
{ أتبنون بكل ريع آية تعبثون ؟ وتتخذون مصانع تخلدون ! وإذا بطشتم بطشتم جبارين ، فاتقوا الله وأطيعون ، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون .
أمدكم بأنعام وبنين ، وجنات وعيون ، إني اخاف عليكم عذاب يوم عظيم } . [ الشعراء : 128 - 135 ] .
{ أتتركون فيما ها هنا آمنين ؟ في جنات وعيون ، وزروع ونخل طلعها هضيم ، وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين ؟ فاتقوا الله وأطيعون ، ولا تطيعوا أمر المسرفين ، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون } . [ الشعراء : 146 - 152 ] .
{ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون . فقطع دابر الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين } . . . [ الأنعام : 44 - 45 ] . { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس } . [ يونس : 24 ] .
ولكن الإسلام - كما أسلفنا - لا يحتقر المادة ، ولا يحتقرالإبداع المادي ، إنما هو يجعل هذا اللون من التقدم - في ظل منهج الله - نعمة من نعم الله على عباده ، يبشرهم به جزاء على طاعته : { فقلت : استغفروا ربكم ، إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } . . . [ نوح : 10 - 12 ] . { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } . . . [ الأعراف : 96 ] .
المهم هو القاعدة التي يقوم عليها التقدم الصناعي ، والقيم التي تسود المجتمع ، والتي يتألف من مجموعها الحضارة " الإنسانية " . .
وبعد . . فإن قاعدة انطلاق المجتمع الإسلامي ، وطبيعة تكوينه العضوي ، تجعلان منه مجتمعاً فريداً لا تنطبق عليه أية من النظريات التي تفسر قيام المجتمعات الجاهلية وطبيعة تكوينها العضوي . . المجتمع الإسلامي وليد الحركة ، والحركة فيه مستمرة ، وهي التي تعين أقدار الأشخاص فيه وقيمهم ، ومن ثم تحدد وظائفهم فيه ومراكزهم .
والحركة التي يتولد عنها هذا المجتمع ابتداء حركة آتية من خارج النطاق الأرضي ، ومن خارج المحيط البشري . . إنها تمثل في عقيدة آتية من الله للبشر ، تنشئ لهم تصوراً خاصاً للوجود والحياة والتاريخ والقيم والغايات ، وتحدد لهم منهجاً للعمل يترجم هذا التصور . . الدفعة الأولى التي تطلق الحركة ليست منبثقة من نفوس الناس ولا من مادة الكون . . إنها - كما قلنا - آتية لهم من خارج النطاق الأرضي ، ومن خارج المحيط البشري . . وهذا هو المميز الأول لطبيعة المجتمع الإسلامي وتركيبه . إنه ينطلق من عنصر خارج عن محيط الإنسان وعن محيط الكون المادي .
وبهذا العنصر القدري الغيبي الذي لم يكن أحد من البشر يتوقعه أو يحسب حسابه ، ودون أن يكون للإنسان يد فيه - في ابتداء الأمر - تبدأ أولى خطوات الحركة في قيام المجتمع الإسلامي ، ويبدأ معها عمل " الإنسان " أيضاً . إنسان مؤمن بهذه العقيدة الآتية له من ذلك المصدر الغيبي ، الجارية بقدر الله وحده .
وحين يؤمن هذا الإنسان الواحد بهذه العقيدة يبدأ وجود المجتمع الإسلامي ( حكماً ) . . إن الإنسان الواحد لن يتلقى هذه العقيدة وينطوي على نفسه . . إنه سينطلق بها . . هذه طبيعتها . . طبيعة الحركة الحية . . إن القوة العليا التي دفعت بها إلى هذا القلب تعلم أنها ستتجاوزه حتماً ! . . إن الدفعة الحية التي وصلت بها هذه العقيدة إلى هذا القلب ستمضي في طريقها قدماً .
وحين يبلغ المؤمنون بهذه العقيدة ثلاثة نفر ، فإن هذه العقيدة ذاتها تقول لهم : أنتم الآن مجتمع ، مجتمع إسلامي مستقل ، منفصل عن المجتمع الجاهلي الذي لا يدين لهذه العقيدة ، ولا تسود فيه قيمتها الأساسية - القيم التي أسلفنا الإشارة إليها - وهنا يكون المجتمع الإسلامي قد وجد ( فعلاً ) ! والثلاثة يصبحون عشرة ، والعشرة يصبحون مائة ، والمائة ألفاً ، والألف يصبحون إثني عشر ألفاً . . ويبرز ويتقرر وجود المجتمع الإسلامي !
وفي الطريق تكون المعركة قد قامت بين المجتمع الوليد الذي انفصل بعقيدته وتصوره ، وانفصل بقيمه واعتباراته ، وانفصل بوجوده وكونيته ، عن المجتمع الجاهلي - الذي أخذ منه أفراده - وتكون الحركة من نقطة الانطلاق إلى نقطة الوجود البارز المستقل قد ميزت كل فرد من أفراد هذا المجتمع ، وأعطته وزنه ومكانه في هذا المجتمع - حسب الميزان والاعتبار الإسلامي - ويكن وزنه هذا متعرفاً له به من المجمتع دون أن يزكي نفسه أو يعلن عنه بل إن عقيدته وقيمه السائدة في نفسه وفي مجتمعه لتضغط عليه يومئذ ليوراي نفسه عن الأنظار المتطلعة إليه في البيئة !
ولكن " الحركة " التي هي طابع العقيدة الإسلامية ، وطابع هذا المجتمع الذي انبثق منها ، لا تدع أحداً يتوارى ! إن كل فرد من أفراد هذا المجتمع لا بد أن يتحرك ! الحركة في عقيدته ، والحركة في دمه ، والحركة في مجتمعه ، وفي تكوين هذا المجتمع العضوي . . إن الجاهلية من حوله ، وبقية من رواسبها في نفسه وفي نفوس من حوله ، المعركة مستمرة ، والجهاد ماض إلى يوم القيامة .
على إيقاعات الحركة ، وفي أثناء الحركة ، يتحدد وضع كل فرد في هذا المجتمع ، وتحدد وظيفته ، ويتم التكوين العضوي لهذا المجتمع بالتناسق بين مجموعة أفراده ومجموعة وظائفه .
هذه النشأة ، وهذا التكوين ، خاصيتان من خصائص المجتمع الإسلامي تميزانه ، تميزان وجوده وتركيبه ، وتميزان طابعه وشكله ، وتميزان نظامه والإجراءات التنفيذية لهذا النظام أيضاً ، وتجعلان هذه الملامح كلها مستقلة ، ولا تعالج بمفهومات اجتماعبية أجنبية عنها ، ولا تدرس وفق منهج غريب عن طبيعتها ، ولا تنفذ بإجراءات مستمدة من نظام آخر !
إن المجتمع الإسلامي - كما يبدو من تعرفينا المستقل للحضارة - ليس مجرد صورة تاريخية ، يبحث عنها في ذكريات الماضي ، إنما هو طلبة الحاضر وأمل المستقبل .
إنه هدف يمكن أن تستشرفه البشرية كلها اليوم وغذاً ، لترتفع به من وهدة الجاهلية التي تتردى فيها ، سواء في هذه الجاهلية الأمم المتقدمة صناعياً واقتصادياً والأمم المتخلفة أيضاً.
إن تلك القيم التي أشرنا إليها إجمالاً هي قيم الإنسان ، لم تبلغها الإنسانية إلا في فترة " الحضارة الإسلامية " .
( ويجب أن ننبه إلى ما نعنيه بمصطلح " الحضارة الإسلامية " . . إنها الحضارة التي توافرت فيها تلك القيم ، وليست هي كل تقدم صناعي أو اقتصادي أو علمي مع تخلف القيم عنها ) .
وهذه القيم ليست " مثالية خيالية " إنما هي قيم واقعية عملية ، يمكن تحقيقها بالجهد البشري - في ظل المفهومات الإسلامية الصحيحة - ، يمكن تحقيقها في كل بيئة بغض النظر عن نوع الحياة السائدة فيها ، وعن تقدمها الصناعي والاقتصادي والعلمي . . فهي لا تعارض - بل تشجع بالمنطق والعقيدي ذاته - التقدم في كافة حقوق الخلافة ، ولكنها في الوقت ذاته لا تقف مكتوفة اليدين في البلاد التي لم تتقدم في هذه الحقول بعد .
إن الحضارة يمكن أن تقوم في كل مكان وفي كل بيئة . . تقوم بهذه القيم .
أما أشكالها المادية التي تتخذها فلا حد لها ، لأنها في كل بيئة تستخدم المقدرات الموجودة بها فعلاً وتنميها .
المجتمع الإسلامي إذن - من ناحية شكله وحجمه ونوع الحياة السائدة فيه - ليس صورة تاريخية ثابتة ، لكن وجوده وحضارته يرتكنان إلى قيم تاريخية ثابتة . . وحين نقول : " تاريخية " لا نعني إلا أن هذه القيم قد عرفت في تاريخ معين . . وإلا فهي ليست من صنع التاريخ ، ولا علاقة لها بالزمن في طبيعتها . . إنها حقيقة جاءت إلى البشرية من مصدر رباني . . من وراء الواقع البشري .
ومن وراء الوجود المادي أيضاً .
والحضارة الإسلامية يمكن أن تتخذ أشكالاً متنوعة في تركيبها المادي والتشكيلي ، ولكن الأصول والقيم التي تقوم عليها ثابتة ، لأنها هي مقومات هذه الحضارة : ( العبودية لله وحده . .والتجمع على آصرة العقيدة فيه . .واستعلاء إنسانية الإنسان على المادة . .وسيادة القيم الإنسانية التي تنمي إنسانية الإنسان لا حيوانيته . . وحرمة الأسرة . .والخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه . . وتحكيم منهج الله وشريعته وحدها في شؤون هذه الخلافة ) . .
إن " أشكال " الحضارة الإسلامية التي تقوم على هذه الأسس الثابتة ، تتأثر بدرجة التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي ، لأنها تستخدم الموجود منها فعلاً في كل بيئة . . ومن ثم لا بد أن تختلف أشكالها . . لا بد أن تختلف لتضمن المرونة الكافية لدخول كافة البيئات والمستويات في الإطار الإسلامي ، والتكليف بالقيم والمقومات الإسلامية . . وهذه المرونة - في الأشكال الخارجية للحضارة - ليست مفروضة على العقيدة الإسلامية التي تنبثق منها تلك الحضارة إنما هي من طبيعتها . ولكن المرونة ليست هي التمييع . . والفرق بينهما بينهما بعيد جداً .
لقد كان الإسلام ينشئ الحضارة في اواسط أفريقية بين العراة . . لأنه بمجرد وجوده هناك تكتسي الأجسام العارية ويدخل الناس في حضارة اللباس التي يتضمنها التوجيه الإسلامي المباشر ، ويبدأ الناس في الخروج كذلك من الخمول البليد إلى نشاط العمل الموجه لاستغلال كنوز الكون المادي ، ويخرجون كذلك من طور القبيلة - أو العشيرة - إلى طور الأمة ، وينتقلون من عبادة الطوطم المنعزلة إلى عبادة رب العالمين . . فما هي الحضارة إن لم تكن هي هذا ؟ . . إنها حضارة هذه البيئة ، التي تعتمد على إمكانياتها القائمة فعلاً . . فأما حين يدخل الإسلام في بيئة أخرى فإنه ينشئ - بقيمه الثابتة - شكلاً آخر من أشكال الحضارة يستخدم فيه موجودات هذه البيئة وإمكانياتها الفعلية وينميها .
وهكذا لا يتوقف قيام الحضارة - بطريقة الإسلام ومنهجه - على درجة معينة من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي .
وإن كانت الحضارة حين تقوم تستخدم هذا التقدم - عند وجوده - وتدفعه إلى الأمام دفعاً ، وترفع أهدافه . كما إنها تنشئه إنشاءً حين لا يكون ، وتكفل نموه واطراده . . ولكنها تظل في كل حال قائمة على أصولها المستقلة .
ويبقى للمجتمع الإسلامي طابعه الخاص ، وتركيبه العضوي ، الناشئان عن نقطة انطلاقه الأولى ، التي يتميز بها من كل مجتمعات الجاهلية . . { صبغة الله من أحسن من الله صبغة } . . . [ البقرة : 138 ] .
التصور الإسلامي والثقافة
العبودية المطلقة لله وحده هي الشطر الأول لركن الإسلام الأول، فهي المدلول المطابق لشهادة أن لا اله إلا الله، والتلقي في كيفية هذه العبودية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الشطر الثاني لهذا الركن، فهو المدلول المطابق لشهادة أن محمداً رسول الله -كما جاء في هذا الفصل: "لا اله إلا الله منهج حياة".. والعبودية المطلقة لله وحده تتمثل في اتخاذ الله وحده إلهاً.. عقيدة وعبادة وشريعة.. فلا يعتقد المسلم أن "الألوهية" تكون لأحد غير الله- سبحانه- ولا يعتقد أن "العبادة" تكون لغيره من خلقه، ولا يعتقد أن "الحاكمية" تكون لأحد من عباده.. كما جاء في ذلك الفصل أيضاً.
ولقد أوضحنا هناك مدلول العبودية والاعتقاد والشعائر والحاكمية، وفي هذا الفصل نوضح مدلول"الحاكمية " وعلاقته "بالثقافة".
إن مدلول "الحاكمية" في التصور الإسلامي لا ينحصر في تلقي الشرائع القانونية من الله وحده. والتحاكم إليها وحدها .
والحكم بها دون سواها .. أن مدلول "الشريعة" في الإسلام لا ينحصر في التشريعات القانونية، ولا حتى في أصول الحكم ونظامه وأوضاعه.
إن هذا المدلول الضيق لا يمثل مدلول" الشريعة" والتصور الإسلامي!
إن شريعة الله تعني ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية.. وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد، وأصول الحكم، وأصول الأخلاق، وأصول السلوك، وأصول المعرفة أيضاً.
يتمثل في الاعتقاد والتصور -بكل مقومات هذا التصور- تصور حقيقة الألوهية، وحقيقة الكون، وغيبه وشهوده، وحقيقة الحياة، غيبها وشهودها، وحقيقة الإنسان، والارتباطات بين هذه الحقائق كلها، وتعامل الإنسان معها.
ويتمثل في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والأصول التي تقوم عليها، لتتمثل فيها العبودية الكاملة لله وحده.
ويتمثل في التشريعات القانونية، التي تنظم هذه الأوضاع .
وهو ما يطلق عليه اسم " الشريعة" غالباً بمعناها الضيق الذي لا يمثل حقيقة مدلولها في التصور الإسلامي .
ويتمثل في قواعد الأخلاق والسلوك، في القيم والموازين التي تسود المجتمع، ويقوم بها الأشخاص والأشياء والأحداث في الحياة الاجتماعية.
ثم.. يتمثل في " المعرفة" بكل جوانبها، وفي أصول النشاط الفكري والفني جملة. وفي هذا كله لابد من التلقي عن الله، كالتلقي في الأحكام الشرعية- بمدلولها الضيق المتداول- سواء بسواء..
والأمر في " الحاكمية" -في مدلولها المختص بالحكم والقانون-قد يكون الان مفهوماً بعد الذي سقناه بشأنه من تقريرات.
والأمر في قواعد الأخلاق والسلوك، وفي القيم والموازين التي تسود المجتمع، قد يكون مفهوماً كذلك إلى حد ما! إذ أن القيم والموازين وقواعد الأخلاق والسلوك التي تسود في مجتمع ما ترجع مباشرة إلى التصور الاعتقادي السائد في هذا المجتمع، وتتلقى من ذات المصدر الذي تتلقى منه حقائق العقيدة التي يتكيف بها ذلك التصور.
أما الأمر الذي قد يكون غريباً- حتى على قراء مثل هذه البحوث الإسلامية!- فهو الرجوع في شأن النشاط الفكري والفني إلى التصور الإسلامي والى مصدره الرباني.
وفي النشاط الفني صدر كتاب كامل يتضمن بيان هذه القضية باعتبار ان النشاط الفني كله، وهو تعبير إنساني عن تصورات الإنسان وانفعالاته واستجاباته، وعن صور الوجود والحياة في نفس إنسانية.. وهذه كلها يحكمها -بل ينشئها- في النفس المسلمة تصورها الإسلامي بشموله لكل جوانب الكون والنفس والحياة، وعلاقتها ببارئ الكون والنفس والحياة! وبتصورها خاصة لحقيقة هذا الإنسان، ومركزه في الكون، وغاية وجوده، ووظيفته، وقيم حياته..وكلها متضمنة في التصور الاسلامي، الذي ليس هو مجرد تصور فكري.
إنما هو تصور اعتقادي حي موح مؤثر فعال دافع مسيطر على كل انبعاث في الكيان الإنساني.
فأما قضية النشاط الفكري، وضرورة رد هذا النشاط إلى التصور الإسلامي ومصدره الرباني، تحقيقاً للعبودية الكاملة لله وحده، فهذه هي القضية التي تقتضي منا بياناً كاملاً لأنها قد تكون بالقياس إلى قرَاء هذا البيان -حتى المسلمين منهم الذين يرون حتمية رد الحاكمية والتشريع لله وحده- غريبة او غير مطروقة!
إن المسلم لا يملك أن يتلقى في أمر يختص بحقائق العقيدة، او التصور العام للوجود، او يختص باعبادة، او يختص بالخلق والسلوك، والقيم الموازين، او يختص بالمبادئ والأصول في النظام السياسي، او الاجتماعي، او الاقتصادي، او يختص بتفسير بواعث النشاط الإنساني و بحركة التاريخ الإنساني.. إلا من ذلك المصدر الرباني، ولا يتلق في هذا كله إلا عن مسلم يثق في دينه وتقواه، ومزاولته لعقيدته في واقع الحياة.
ولكن المسلم يملك أن يتلقى في العلوم البحتة، كالكيمياء، والطبيعة، والأحياء، والفلك، والطب، والصناعة، والزراعة، وطرق الإدارة - من الناحية الفنية الإدارية البحتة - وطرق العمل الفنية، وطرق الحرب والقتال - من الجانب الفني- إلى آخر ما يشبه هذا النشاط.. يملك أن يتلقى في هذا كله عن المسلم وغير المسلم.. وان كان الأصل في المجتمع المسلم حين يقوم، ان يسعى لتوفير هذه الكفايات في هذه الحقول كلها، باعتبارها فروض كفاية، يجب أن يتخصص فيها أفراد منه.
وإلا أثم المجتمع كله إذا لم يوفر هذه الكفايات، ولم يوفر لها الجو الذي تتكون فيه وتعيش وتعمل وتنتج.. ولكن الى ان يتحقق هذا فان للفرد المسلم أن يتلقى في هذه العلوم البحتة وتطبيقاتها العملية من المسلم وغير المسلم، وان ينتفع فيها بجهد المسلم وغير المسلم، وان يشغل فيها المسلم وغير المسلم.. لأنها من الأمور الداخلة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انتم اعلم بأمور دنياكم".. وهي لا تتعلق بتكوين تصور المسلم عن الحياة والكون والآنيان، وغاية وجوده، وحقيقة وظيفته، ونوع ارتباطاته بالوجود من حوله، بخالق الوجود كله، ولا تتعلق بالمبادئ والشرائع والأنظمة والأوضاع التي تنظم حياته أفراداً وجماعات، ولا تتعلق بالأخلاق والآداب والتقاليد والعادات والقيم والموازين التي تسود مجتمعه وتؤلف ملامح هذا المجتمع.. ومن ثم فلا خطر فيها من زيغ عقيدته، او ارتداده إلى الجاهلية!
فأما ما يتعلق بتفسير النشاط الإنساني كله أفراداً او مجتمعات، وهو التعلق بالنظرة إلى"نفس" الإنسان والى"حركة تاريخه" وما يختص بتفسير نشأة هذا الكون، ونشأة الحياة، ونشأة هذا الإنسان ذاته- من ناحية ما وراء الطبيعة - (وهو ما لا تتعلق به العلوم البحتة من كيمياء وطبيعة وفلك وطب.. الخ) فالشان فيه، شان الشرائع القانونية والمبادئ والأصول التي تنظم حياته ونشاطه، مرتبط بالعقيدة ارتباطاً مباشراً، فلا يجوز للمسلم أن يتلقى فيه إلا عن مسلم، يثق في دينه وتقواه، ويعلم عنه انه يتلقى في هذا كله عن الله.. والمهم أن يرتبط هذا في حس المسلم بعقيدته، وان يعلم أن هذا مقتضى عبوديته لله وحده، او مقتضى شهادته: أن لا إله إلا الله، وان محمداً رسول الله.
انه قد يَطَّلِع على كل آثار النشاط الجاهلي. ولكن لا لِيًكِّون منه تصوره ومعرفته في هذه الشؤون كلها، إنما ليعرف كيف تنحرف الجاهلية! وليعرف كيف يصحح ويقوَم هذه الانحرافات البشرية، بردها إلى أصولها الصحيحة في مقومات التصور الإسلامي، وحقائق العقيدة الإسلامية.
إن اتجاهات "الفلسفة" بجملتها، واتجاهات "تفسير التاريخ الإنساني" بجملتها، واتجاهات "علم النفس" بجملتها -عدا الملاحظات والمشاهدات دون التفسيرات العمة لها- ومباحث "الأخلاق" بجملتها، واتجاهات " التفسيرات والمذاهب الاجتماعية" بجملتها - فيما عدا المشاهدات والإحصائيات والمعلومات المباشرة، لا النتائج العامة المستخلصة منها ولا التوجيهات الكلية الناشئة عنها -.. إن هذه الاتجاهات كلها في الفكر الجاهلي - أي غير الإسلامي- قديماً وحديثاً، متأثرة تأثراً مباشراً بتصورات اعتقادية جاهلية، وقائمة على هذه التصورات، ومعظمها -ان لم يكن كلها- يتضمن في أصوله المنهجية عداءً ظاهراً او خفياً للتصور الديني جملة، وللتصور الإسلامي على وجه خاص!
والأمر في هذه الألوان من النشاط الفكري -والعلمي!- ليس كالأمر في علوم الكيمياء والطبيعة والفلك والأحياء والطب، وما إليها - ما دامت هذه في حدود التجربة الواقعية وتسجيل النتائج الواقعية، دون أن تجاوز هذه الحدود إلى التفسير الفلسفي في صورة من صوره، وذلك كتجاوز الداروينية مثلاً لمجال إثبات المشاهدات وترتيبها في علم الأحياء، إلى مجال القول -بغير دليل وبغير حاجة للقول كذلك إلا الرغبة والهوى- انه لا ضرورة لافتراض وجود قوة خارجة عن العالم الطبيعي لتفسير نشأة الحياة وتطورها.
إن لدى المسلم الكفاية من بيان ربه الصادق عن تلك الشؤون، وفي المستوى الذي تبدو فيه محاولات البشر في هذه المجالات هزيلة ومضحكة.. فضلاً عن أن الأمر يتعلق تعلقاً مباشراً بالعقيدة، وبالعبودية الكاملة لله وحده.
إن حكاية أن "الثقافة تراث إنساني" لا وطن له ولا جنس ولا دين.. هي حكاية صحيحة عندما تتعلق بالعلوم البحتة وتطبيقاتها العلمية - دون أن تجاوز هذه المنطقة إلى التفسيرات الفلسفية "الميتافيزيقية" لنتائج هذه العلوم، ولا إلى الفن والأدب والتعبيرات الشعورية جميعاً.
ولكنها فيما وراء ذلك إحدى مصايد اليهود العالمية، التي يهمها تمييع الحواجز كلها - بما في ذلك، بل في أول ذلك حواجز العقيدة والتصور- لكي ينفذ اليهود إلى جسم العالم كله، وهو مسترخ مخدر، يزاول اليهود فيه نشاطهم الشيطاني، وفي أوله نشاطهم الربوي، الذي ينتهي إلى جعل حصيلة كد البشرية كلها، تؤول إلى أصحاب المؤسسات المالية الربوية من اليهود!
ولكن الإسلام يعتبر أن هناك - فيما وراء العلوم البحتة وتطبيقاتها العملية- نوعين اثنين من الثقافة: الثقافة الإسلامية القائمة على قواعد التصور الإسلامي، والثقافة الجاهلية القائمة على مناهج شتى ترجع كلها إلى قاعدة واحدة.. قاعدة إقامة الفكر البشري إلهاً لا يرجع إلى الله في ميزانه.
والثقافة الإسلامية شاملة لكل حقول النشاط الفكري الواقعي الإنساني، وفيها من القواعد والناهج والخصائص ما يكفل نمو هذا النشاط وحيويته دائماً.
ويكفي أن نعلم أن الاتجاه التجريبي، الذي قامت عليه الحضارة الصناعية الأوروبية الحاضرة، لم ينشأ في اوروبا، وانما نشأ في الجامعات الإسلامية في الأندلس والمشرق، مستمداً أصوله من التصور الإسلامي وتوجيهاته، إلى الكون وطبيعته الواقعية، ومدخراته وأقواته.. ثم استقلت النهضة العلمية في أوروبا بهذا المنهج، واستمرت تنميه وترقيه، بينما ركد وترك نهائياً في العالم الإسلامي بسبب بعد هذا العالم تدريجياً عن الإسلام، بفعل عوامل بعضها يتمثل في الهجوم عليه من العالم الصليبي والصهيوني… ثم قطعت أوروبا ما بين المنهج الذي اقتبسته وبين أصوله الاعتقادية الاسلامية، وشردت به نهائياً بعيداً عن الله، في أثناء شرودها عن الكنيسة، التي كانت تستطيل على الناس -بغياً وعدواً باسم الله !
وكذلك أصبح نتاج الفكر الأوروبي بجملته -شأنه شأن إنتاج الفكر الجاهلي في جميع الأزمان في جميع البقاع- شيئاً آخر، ذا طبيعة مختلفة من أساسها عن مقومات التصور الإسلامي.
ومعادية في الوقت ذاته عداء أصيلاً للتصور الإسلامي.. ووجب على المسلم أن يرجع إلى مقومات تصوره وحدها، وألا يأخذ إلا من المصدر الرباني إن استطاع بنفسه، وإلا فلا يأخذ إلا عن مسلم تقي، يعلم عن دينه وتقواه ما يطمئنه إلى الأخذ عنه.
إن حكاية فصل " العلم" عن "صاحب العلم" لا يعرفها الإسلام فيما يختص بكل العلوم المتعلقة بمفهومات العقيدة المؤثرة في نظرة الإنسان إلى الوجود والحياة والنشاط الإنساني، والأوضاع، والقيم، والأخلاق، والعادات، وسائر ما يتعلق بنفس الإنسان ونشاطه من هذه النواحي.
إن الإسلام يتسامح في أن يتلقى المسلم عن غير المسلم، او عن غير التقي من المسلمين، في علم الكيمياء البحتة، او الطبيعة، او الفلك، او الطب، او الصناعة، او الزراعة، او الأعمال الإدارية والكتابية.. وأمثالها.
وذلك في الحالات التي لا يجد فيها مسلماً تقياً يأخذ عنه في هذا كله، كما هو واقع من يسمون أنفسهم المسلمين اليوم، الناشئ من بعدهم عن دينهم ومنهجهم وعن التصور الإسلامي لمقتضيات الخلافة في الأرض -بإذن الله- وما يلزم لهذه الخلافة من هذه العلوم والخبرات والمهارات المختلفة.. ولكنه لا يتسامح في أن يتلقى أصول عقيدته، ولا مقومات تصوره، ولا تفسير قرآنه وحديثه وسيرة نبيه، ولا منهج تاريخه وتفسير نشاطه، ولا مذهب مجتمعه، ولا نظام حكمه، ولا منهج سياسته، ولا موجبات فنه وأدبه وتعبيره… الخ، من مصادر غير إسلامية، ولا أن يتلقى عن غير مسلم يثق في دينه وتقواه في شيء من هذا كله.
إن الذي يكتب هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة. كان عمله الأول فيها هو القراءة والاطلاع في معظم حقول المعرفة الإنسانية.. ما هو من تخصصه وما هو من هواياته.. ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره.
فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيلا ًضئيلاً إلى جانب ذلك الرصيد الضخم -وما كان يمكن أن يكون إلا كذلك- وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره.
فإنما عرف الجاهلية على حقيقتها، وعلى انحرافها، وعلى ضآلتها وعلى قزامتها… وعلى جعجعتها وانتفاشها، وعلى غرورها وأدائها كذلك!!! وعلم علم اليقين انه لا يمكن أن يجمع المسلم بين هذين المصدرين في التلقي!!!
ومع ذلك فليس الذي سبق في هذه الفقرة رأياً لي أبديه.. إن الأمر اكبر من أن يفتى فيه بالرأي.. انه اثقل في ميزان الله من أن يعتمد المسلم فيه على رأيه، إنما هو قول الله-سبحانه- وقول نبيه صلى الله عليه وسلم.. نحكمه في هذا الشان، ونرجع فيه إلى الله والرسول ، كما يرجع الذين آمنوا إلى الله والرسول فيما يختلفون فيه.
يقول الله-سبحانه- عن الهدف النهائي لليهود والنصارى في شأن المسلمين بصفة عامة:
{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً، حسداً من عند أنفسهم، من بعد ما تبين لهم الحق، فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره، إن الله على كل شيء قدير}… [البقرة: 109]
{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.
قل: إن هدى الله هو الهدى.
ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم، ما لك من الله من ولي ولا نصير}… [ البقرة: 120]
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين}… [آل عمران: 100]
ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الحافظ أبو يعلى عن حماد عن الشعبي عن جابر -رضي الله عنهم:
"لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فانهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق، وانه والله لو كان موسى حياً ما حل له أن يتبعني"
وحين يتحدد الهدف النهائي لليهود والنصارى في شأن المسلمين على ذلك النحو القاطع الذي يقرره الله سبحانه، يكون من البلاهة الظن لحظة بأنهم يصدرون عن نية طيبة في أي مبحث من المباحث المتعلقة بالعقيدة الإسلامية، او التاريخ الاسلامي، او التوجيه في نظام المجتمع المسلم، او في سياسته او في اقتصاده، او يقصدون إلى خير، او إلى هدى، او إلى نور… والذين يظنون ذلك فيما عند هؤلاء الناس -بعد تقرير الله سبحانه- إنما هم الغافلون!
كذلك يتحدد من قول الله سبحانه: {قل: إن هدى الله هو الهدى} .. المصدر الوحيد الذي يجب على المسلم الرجوع إليه في هذه الشؤون، فليس وراء هدى الله إلا الضلال، وليس في غيره هدى، كما تفيد صيغة القصر الواردة في النص: "قل: إن هدى الله هو الهدى"… ولا سبيل إلى الشك في مدلول هذا النص، ولا إلى تأويله كذلك!
كذلك يرد الأمر القاطع بالإعراض عمن يتولى عن ذكر الله، ويقصر اهتمامه على شؤون الحياة الدنيا، وينص على أن مثل هذا لا يعلم إلا ظناً، والمسلم منهي عن اتباع الظن، وانه لا يعلم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، فهو لا يعلم علماً صحيحاً.
{ فاعرض عمن تولى عن ذكرنا، ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم، ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله، وهو اعلم بمن اهتدى }. [ النجم: 29-30]
{ يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون }.. [ الروم:7]
والذي يغفل عن ذكر الله، ولا يريد إلا الحياة الدنيا -وهو شأن جميع "العلماء!" اليوم- لا يعلم إلا هذا الظاهر، وليس هذا هو " العلم" الذي يثق المسلم في صاحبه فيتلقى عنه في كل شأنه، إنما يجوز أن يتلقى عنه في حدود علمه المادي البحت، ولا يتلقى منه تفسيراً ولا تأويلاً عاماً للحياة، او النفس، او متعلقاتها التصويرية.. كما انه ليس هو العلم الذي تشير إليه الآيات القرآنية وتثني عليه، كقوله تعلى:"هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟" كما يفهم الذين ينتزعون النصوص القرآنية من سياقها ليشهدوا بها في غير مواضعها؟ فهذا السؤال التقريري وارد في آية هذا نصها الكامل : { أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه؟ قل: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ إنما يتذكر أولو الألباب }.. [ الزمر: 9]
فهذا القانت آناء الليل ، ساجداً وقائماً، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.. هو هذا الذي يعلم.. وهذا هو العلم.. الذي تشير إليه الآية ، العلم الذي يهدي إلى الله وتقواه.. لا العلم الذي يفسد الفطر فتلحد في الله!
إن العلم ليس مقصوراً على علم العقيدة والفرائض الدينية والشرائع.. فالعلم يشتمل على كل شيء، ويتعلق بالقوانين الطبيعية.. وتسخيرها في خلافة الأرض تعلقه بالعقيدة والفرائض والشرائع.. لكن العلم الذي ينقطع عن قاعدته الإيمانية ليس هو العلم الذي يعنيه القرآن ويثني على أهله.. إن هناك ارتباطاً بين القاعدة الإيمانية وعلم الفلك، وعلم الأحياء، وعلم الطبيعة، وعلم الكيمياء، وعلم طبقات الأرض..وسائر العلوم المتعلقة بالنواميس الكونية، والقوانين الحيوية.
إنها كلها تؤدي إلى الله، حين لا يستخدمها الهوى المنحرف للابتعاد عن الله.. كما اتجه المنهج الأوروبي في النهضة العلمية-مع الأسف- بسبب تلك الملابسات النكدة التي قامت في التاريخ الأوروبي خاصة، بين المشتغلين بالعلم وبين الكنيسة الغاشمة! ثم ترك آثاره العميقة في مناهج الفكر الأوروبي كلها، وفي طبيعة التفكير الاوروبي، وترك تلك الرواسب المسممة بالعداء لأصل التصور الديني جملة -لا لأصل التصور الكنيسي وحده ولا للكنيسة وحدها- في كل ما أنتجه الفكر الأوروبي، في كل حقل من حقول المعرفة، سواء كانت فلسفة ميتافيزيقية، او كانت بحوثاً علمية بحتة لا علاقة لها -في الظاهر- بالموضوع الديني!
وإذا تقرر أن مناهج الفكر الغربي، ونتاج هذا الفكر في كل حقول المعرفة، يقوم ابتداء على أساس تلك الرواسب المسممة بالعداء لأصل التصور الديني جملة، فان تلك المناهج وهذا النتاج اشد عداءً للتصور الإسلامي خاصة، لأنه يعتمد هذا العداء بصفة خاصة، ويتحرى في حالات كثيرة -في خطة متعمدة- تمييع العقيدة والتصور والمفهومات الاسلامية، ثم تحطيم الأسس التي يقوم عليها تميز المجتمع المسلم في كل مقوماته.
ومن ثم يكون من الغفلة المزرية الاعتماد على مناهج الفكر الغربي، وعلى نتاجه كذلك، في الدراسات الإسلامية.. ومن ثم تجب الحيطة كذلك في أثناء دراسة العلوم البحتة -التي لابد لنا في موقفنا الحاضر من تلقيها من مصادرها الغربية- من آية ظلال فلسفية تتعلق بها، لان هذه الظلال معادية في أساسها للتصور الديني جملة، وللتصور الإسلامي بصفة خاصة.
وأي قدر منها يكفي لتسميم الينبوع الإسلامي الصافي…
جنسية المسلم عقيدته
جاء الإسلام إلى هذه البشرية بتصور جديد لحقيقة الروابط والوشائج ، يوم جاءها بتصور جديد لحقيقة القيم والاعتبارات ، ولحقيقة الجهة التي تتلقى منها هذه القيم وهذه الاعتبارات .
جاء الإسلام ليرد الإنسان إلى ربه ، وليجعل هذه السلطة هي السلطة الوحيدة التي يتلقى منها موازينه وقيمه ، كما تلقى منها وجوده وحياته ، والتي يرجع إليها بروابطه ووشائجه ، كما أنه من إرادتها صدر وإليها يعود .
جاء ليقرر أن هناك وشيجة واحدة تربط الناس في الله فإذا انبتّت هذه الوشيجة فلا صلة ولا مودة : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } [المجادلة :22]
وأن هناك حزبا واحدا لله لا يتعدد ، واحزابا أخرى كلها للشيطان وللطاغوت : { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا } [النساء : 76]
وأن هناك طريقا واحدا يصل إلى الله وكل طريق آخر لا يؤدي إليه : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [الأنعام : 153]
وأن هناك نظاما واحدا هو النظام الإسلامي وما عداه من النظم فهو جاهلية : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن احسن من الله حكما لقوم يؤمنون } [المائدة : 50]
وأن هناك شريعة واحدة هي شريعة الله وما عداها فهو باطل : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } [ الجاثية : 18]
وأن هناك حقا واحدا لا يتعدد ، وما عداه فهو الضلال : { فماذا بعد الحق إلا الضلال فأني تصرفون } [يونس : 32]
وان هناك دارا واحدة هي دار الإسلام ، تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة ، فتهيمن عليها شريعة الله ، وتقام فيها حدوده ، ويتولى المسلمون فيها بعضهم بعضا ، وما عداها فهو دار حرب ، علاقة المسلم بها إما القتال ، وإما المهادنة على عهد أمان ، ولكنها ليست دار إسلام ، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين :
{ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم اولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } [الأنفال : 72-75]
بهذه النصاعة الكاملة ، وبهذا الجزم القاطع جاء الإسلام . . جاء يرفع الإنسان ويخلصه من وشائج الأرض والطين ، ومن وشائج اللحم والدم - وهي من وشائج الأرض والطين - فلا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله ، فتقوم الروابط بينه وبين سكانه على اساس الارتباط في الله ، ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضوا في " الأمة المسلمة " في " دار الإسلام " ، ولا قرابة للمسلم إلا تلك التي تنبثق من العقيدة في الله ، فتصل الوشيجة بينه وبين أهله في الله . . .
ليست قرابة المسلم أباه وأمه وأخاه وزوجه وعشيرته ، ما لم تنعقد الآصرة الأولى في الخالق ، فتتصل من ثم بالرحم :
{ يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } [النساء : 1]
ولا يمنع هذا من مصاحبة الوالدين بالمعروف مع اختلاف العقيدة ما لم يقفا في الصف المعادي للجبهة المسلمة ، فعندئذ لا صلة ولا مصاحبة ، وعبد الله بن عبد الله بن أبي يعطينا المثل في جلاء : روى ابن جرير بسنده عن ابن زياد ، قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد الله بن ابي ، قال : (( ألا ترى ما يقول أبوك ؟ )) قال : ما يقول أبي ؟ بأبي أنت وأمي ، قال : (( يقول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الاذل )) ، فقال : فقد صدق والله يا رسول الله ، أنت والله الأعز وهو الاذل ، أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله وأن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد ابر بوالده مني ، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لآتيهما به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا )) . . فلما قدما المدينة قام عبد الله بن عبد الله بن أبي على بابها بالسيف لأبيه ، قال : أنت القائل " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل ؟ أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله لا يأويك ظلها ولا تأويه أبدا إلا بإذن من الله ورسوله ، فقال : يا للخزرج ! ابني يمنعني بيتي ! يا للخزرج ابني يمنعني بيتي ! فقال : والله لا يأويه إلا بإذن منه ، فاجتمع إليه رجال فكلموه ، فقال : والله لا يدخلن إلا بإذن من الله ورسوله ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فقال : (( اذهبوا إليه فقولوا له : خله ومسكنه )) ، فأتوه ، فقال : أما وقد جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فنعم . . . فإذا انعقدت آصرة العقيدة فالمؤمنون كلهم إخوة ، ولو لم يجمعهم نسب ولا صهر : { إنما المؤمنون إخوة } . . على سبيل القصر والتوكيد :
{ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } [الأنفال : 72]
وهي ولاية تتجاوز الجيل الواحد إلى الأجيال المتعاقبة ، وتربط أول هذه الأمة بآخرها ، وآخرها بأولها ، برباط الحب والمودة والولاء والتعاطف المكين :
{ والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } [الحشر : 9-10]
ويضرب الله الامثال للمسلمين بالرهط الكريم من الأنبياء الذين سبقوهم في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان :
{ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من اهلي وغن وعدك الحق وانت احكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من اهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني اعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني اعوذ بك ان أسألك ما ليس لي به علم وألا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } [هود : 45-47]
{ وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُهُ بكلمات قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } [البقرة : 124]
{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا امنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فامتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } [البقرة : 126]
ويعتزل إبراهيم أباه وأهله حين يرى منهم الإصرار على الضلال : { واعتزلكم وما تعبدون من دون الله وادعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا } [مريم : 48]
ويحكي الله عن إبراهيم وقومه ما فيه اسوة وقدوة : { قد كانت لكم اسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تؤمنوا بالله وحده } [الممتحنة : 4]
والفتية اصحاب الكهف يعتزلون أهلهم وقومهم وأرضهم ليخلصوا لله بدينهم ، ويفروا إلى ربهم بعقيدتهم ، حين عز عليهم أن يجدوا لها مكانا في الوطن والأهل والعشيرة .
{ إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم غذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا } [الكهف : 13-16]
وامرأة نوح وامرأة لوط يفرق بينهما وبين زوجيهما حين تفترق العقيدة :
{ وضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين } [التحريم : 10]
وامرأة فرعون على الضفة الأخرى :
{ وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين } [التحريم : 11]
وهكذا تتعدد الأمثال في جميع الوشائج والروابط . . وشيجة الابوة في قصة نوح ، ووشيجة البنوة والوطن في قصة إبراهيم ، ووشيجة الأهل والعشيرة والوطن جميعا في قصة اصحاب الكهف ، ورابطة الزوجية في قصص امرأتي نوح ولوط وامرأة فرعون . . .
وهكذا يمضي الموكب الكريم في تصوره لحقيقة الروابط والوشائج . . حتى تجيء الأمة الوسط ، فتجد هذا الرصيد من الأمثال والنماذج والتجارب ، فتمضي على النهج الرباني للأمة المؤمنة ، وتفترق العشيرة الواحدة ، ويفترق البيت الواحد ، حين تفترق العقيدة ، وحيث تنبت الوشيجة الأولى ، ويقول الله سبحانه في صفة المؤمنين قوله الكريم :
{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا اباءهم او اخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وايدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } [المجادلة : 22]
وحين انبتّت وشيجة القرابة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين عمه أبي لهب وابن عمه عمروا بن هشام " ابو جهل " وحين قاتل المهاجرون أهلهم وأقرباءهم وقتلوهم يوم بدر . . حينئذ اتصلت وشيجة العقيدة بين المهاجرين والأنصار ، فإذا هم أهل وإخوة ، واتصلت الوشيجة بين المسلمين العرب وإخوانهم : صهيب الرومي ، وبلال الحبشي ، وسلمان الفارسي ، وتوارت عصبية القبيلة ، وعصبية الجنس ، وعصبية الأرض ، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( دعوها فإنها منتنة )) . . وقال لهم : (( ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية )) . . فانتهى أمر هذا النتن . . نتن عصبية النسب . . وماتت هذه النعرة . . نعرة الجنس ، واختفت تلك اللوثة . . لوثة القوم ، واستروح البشر أرج الآفاق العليا ، بعيدا عن نتن اللحم والدم ، ولوثة الطين والأرض . . منذ ذلك اليوم لم يعد وطن المسلم هو الأرض ، إنما عاد وطنه هو " دار الإسلام " الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها شريعة الله وحدها ، الدار التي يأوي إليها ويدافع عنها ، ويستشهد لحمايتها ومد رقعتها . . وهي " دار الإسلام " لكل من يدين بالإسلام عقيدة ويرتضي شريعته شريعة ، وكذلك لكل من يرتضي شريعة الإسلام نظاما - ولو لم يكن مسلما - كاصحاب الديانات الكتابية الذين يعيشون في " دار الإسلام " . . والأرض التي لا يهيمن فيها الإسلام ولا تحكم فيها شريعته هي " دار الحرب " بالقياس إلى المسلم ، وإلى الذمي المعاهد كذلك . . يحاربها المسلم ولو كان فيها مولده ، وفيها قرابته من النسب وصهره ، وفيها أمواله ومنافعه .
وكذلك حارب محمد صلى الله عليه وسلم مكة وهي مسقط رأسه ، وفيها عشيرته وأهله ، وفيها داره ودور صحابته وأموالهم التي تركوها ، فلم تصبح دار إسلام له ولأمته إلا حين دانت للإسلام وطبقت فيها شريعته.
هذا هو الإسلام . . هذا هو وحده . . فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان ، ولا ميلادا في أرض عليها لافتة إسلامية وعنوان إسلامي ! ولا وراثة مولد في بيت ابواه مسلمان . { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } [النساء : 65]
هذا هو وحده الإسلام ، وهذه وحدها دار الإسلام . . لا الأرض ولا الجنس ولا النسب والا الصهر ولا القبلية ولا العشيرة .
لقد أطلق الإسلام البشر من اللصوق بالطين لبيتطلعوا إلى السماء ، وأطلقهم من قيد الدم . . قيد البهيمة . . ليرتفعوا في عليين .
وطن المسلم الذي يحن إليه ويدافع عنه ليس قطعة أرض ، وجنسية المسلم التي يعرف بها ليست جنسية حكم ، وعشيرة المسلم التي يأوي إليها ويدفع عنها ليست قرابة دم ، وراية المسلم التي يعتز بها ويستشهد تحتها ليست راية قوم ، وانتصار المسلم الذي يهفوا إليه ويشكر الله عليه ليس غلبة جيش ، إنما هو كما قال الله عنه :
{ إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } [سورة النصر ]
إنه النصر تحت راية العقيدة دون سائر الرايات ، والجهاد لنصرة دين الله وشريعته لا لأي هدف من الأهداف ، والذياد عن " دار الإسلام " بشروطها تلك لا أية دار ، والتجرد بعد هذا كله لله ، لا لمغنم ولا لسمعة ولا حمية لأرض أو قوم ، أو ذود عن أهل أو ولد إلا لحمايتهم من الفتنة عن دين الله : عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) . . .
وفي هذا وحده تكون الشهادة لا في اية حرب لأي هدف غير هذا الهدف الواحد . . لله . .
وكل ارض تحارب المسلم في عقيدته ، وتصده عن دينه ، وتعطل عمل شريعته ، فهي " دار حرب " ولو كان فيها أهله وعشيرته وقومه وماله وتجارته . . وكل أرض تقوم فيها عقيدته وتعمل فيها شريعته ، فهي " دار إسلام " ولو لم يكن فيها أهل ولا عشيرة ولا قوم ولا تجارة .
الوطن : دار تحكمها عقيدة ومنهاج حياة وشريعة من الله . . هذا هو معنى الوطن اللائق بـ " الإنسان " . والجنسية : عقيدة ومنهاج حياة ، وهذه هي الآصرة اللائقة بالآدميين .
إن عصبية العشيرة والقبيلة والقوم والجنس واللون والارض ، عصبية صغيرة متخلفة . . عصبية جاهلية عرفتها البشرية في فترات انحطاطها الروحي ، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم " منتنة " بهاذ الوصف الذي يفوح منه التقزز والاشمئزاز .
ولما ادعى اليهود أنهم شعب الله المختار بجنسهم وقومهم ردّ الله عليهم هذه الدعوى ، ورد ميزان القيم إلى الإيمان وحده على توالي الأجيال ، وتغاير الأقوام والأجناس والأوطان :
{ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قولوا امنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما امنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم * صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون } [البقرة : 135-138]
فأما شعب الله المختار فهو الأمة المسلمة التي تستظل براية الله على اختلاف ما بينها من الأجناس والأقوام والألوان والأوطان : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } [آل عمران : 110]
الأمة التي يكون فيها أبو بكر العربي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وإخوانهم الكرام ، والتي تتوالي أجيالها على هذا النسق الرائع . . الجنسية فيها العقيدة ، والوطن فيها هو دار الإسلام ، والحاكم فيها هو الله ، والدستور فيها هو القرآن .
هذا التصور الرفيع للدار وللجنسية وللقرابة هو الذي ينبغي ان يسيطر على قلوب اصحاب الدعوة إلى الله ، والذي ينبغي أن يكون من الوضوح بحيث لا تختلط به أوشاب الجاهلية الدخيلة ، ولا تتسرب إليه صور الشرك الخفية : الشرك بالأرض ، والشرك بالجنس ، والشرك بالقوم ، والشرك بالنسب ، والشرك بالمنافع الصغيرة القريبة ، تلك التي يجمعها الله سبحانه في آية واحدة فيضعها في كفة ويضع الإيمان ومقتضياته في كفة أخرى ، ويدع للناس الخيار :
{ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } [التوبة : 24]
كذلك لا ينبغي أن تقوم في نفوس أصحاب الدعوة إلى الله تلك الشكوك السطحية في حقيقة الجاهلية وحقيقة الإسلام ، وفي صفة دار الحرب ودار الإسلام . . فمن هنا يؤتى الكثير منهم في تصوراته ويقينه . . إنه لا إسلام في أرض لا يحكمها الإسلام ولا تقوم فيها شريعته ، ولا دار إسلام إلا التي يهيمن عليها الإسلام بمنهجه وقانونه ، وليس وراء الإيمان إلا الكفر ، وليس دون الإسلام إلا الجاهلية . . وليس بعد الحق إلا الضلال . . .
نقلـــةٌ بعيـــدة
هناك حقيقة أولية، ينبغي أن تكون واضحة في نفوسنا تماماً ونحن نقدم الإسلام للناس: الذين يؤمنون به والذين لا يؤمنون به على السواء .. هذه الحقيقة تنبثق من طبيعة الإٍسلام ذاته، وتنبع من تاريخه.
إن الإسلام تصور مستقل للوجود والحياة، تصور كامل ذو خصائص متميزة، ومن ثَمَّ ينبثق منه منهج ذاتي مستقل للحياة كلها، بكل مقوماتها وارتباطاتها، ويقوم عليه نظام ذو خصائص معينة.
هذا التصور يخالف مخالفة أساسية سائر التصورات الجاهلية قديماً وحديثاً.
وقد يلتقي مع هذه التصورات في جزئيات عرضية جانبية، ولكن الأصول التي تنبثق منها هذه الجزئيات مختلفة عن سائر ما عرفته البشرية من نظائرها.
ووظيفة الإسلام الأولى هي أن ينشئ حياة إنسانية توافق هذا التصور، وتمثله في صورة واقعية، وأن يقيم في الأرض نظاماً يتبع المنهج الرباني الذي اختاره الله، وهو يخرج هذه الأمة المسلمة لتمثله وتقوم عليه، وهو -سبحانه- يقول:
{ كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }... [آل عمران: 110]
ويقول في صفة هذه الأمة:
{ الذين إن مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر }... [الحج: 41]
وليست وظيفة الإسلام إذن أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض، ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان .. لم تكن هذه وظيفته يوم جاء، ولن تكون هذه وظيفته اليوم ولا في المستقبل.. فالجاهلية هي الجاهلية هي الانحراف عن العبودية لله وحده وعن المنهج الإلهي في الحياة، واستنباط النظم والشرائع والقوانين والعادات والتقاليد والقيم والموازين من مصدر آخر غير المصدر الإلهي .. الإسلام وهو الإسلام، ووظيفته هي نقل الناس من الجاهلية إلى الإسلام! الجاهلية هي عبودية الناس للناس: بتشريع بعض الناس للناس ما لم يأذن به الله، كائنة ما كانت الصورة التي يتم بها هذا التشريع…!
والإسلام هو عبودية الناس لله وحده بتلقيهم منه وحده تصوراتهم وعقائدهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم والتحرر من عبودية العبيد! هذه الحقيقة المنبثقة من طبيعة الإسلام، وطبيعة دوره في الأرض، هي التي يجب أن نقدم بها الإسلام للناس: الذين يؤمنون به والذين لا يؤمنون به على السواء!
إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية.
لا من ناحية التصور، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور .. فإما إسلام وإما جاهلية.
وليس هنالك وضع آخر نصفه إسلام ونصفه جاهلية، يقبله الإسلام ويرضاه .. فنظرة الإسلام واضحة في الحق واحد لا يتعدد، وأن ما عدا هذا الحق فهو الضلال.
وهما غير قابلين للتلبس والامتزاج.
وأنه إما حكم الله وإما حكم الجاهلية، وإما شريعة الله، وإما الهوى.. والآيات القرآنية في هذا المعنى متواترة كثيرة:
{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك }.. [المائدة: 49]
{ فلذلك فادع، واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم }. [الشورى: 15]
{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتَّبعون أهواءهم. ومن أضل ممن ابتع هواه بغير هُدى من الله؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمي }.. [القصص: 50]
{ ثم جعلنا على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، إنه لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين }.. [الجاثية: 18-19]
{ أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون }.. [المائدة: 50]
فهما أمران لا ثالث لهما.
إما الاستجابة لله والرسول، وإما اتباع الهوى.
إما حكم الجاهلية.
إما الحكم بما أنزل الله كله وإما الفتنة عما أنزل الله.. وليس بعد هذا التوكيد الصريح الجازم من الله سبحانه مجال للجدال أو للمحال ..
وظيفة الإسلام إذن هي إقصاء الجاهلية من قيادة البشرية، وتولى هذه القيادة على منهجه الخاص، المستقل الملامح، الأًيل الخصائص.. يريد بهذه القيادة الرشيدة الخير للبشرية واليسر.
الخير الذي ينشأ من رد البشرية إلى خالقها، واليسر الذي ينشأ من التنسيق بين حركة البشرية، وتولى هذه القيادة منهجه الخاص، المستقل، ترتفع إلى المستوى الكريم الذي أراده الله لها، وتخلص من حكم الهوى.
أو كما قال ربعي بن عام حين سأله رستم قائد الفرس: ما الذي جاء بكم؟ فكان جوابه: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
لم يجئ الإسلام إذن ليربت على شهوات الناس الممثلة في تصوراتهم وأنظمتهم وأوضاعهم وعاداتهم وتقاليدهم 000 سواء منها ما عصر مجيء الإسلام، أو ما تخوض البشرية فيه الآن، في الشرق أو في الغرب سواء 00 إنما جاء هذا كله إلغاءً، وينسخه نسخاً، ويقيم الحياة البشرية على أسسه الخاصة.
جاء لينشئ الحياة إنشاءً. لينشئ حياة تنبثق منه انبثاقاً، وترتبط بمحوره ارتباطاً.
وقد تشابه جزئيات منه جزئيات في الحياة التي يعيشها الناس في الجاهلية.
ولكنها ليست هي، وليست منها.
إنما هي مجرد مصادفة هذا التشابه الظاهري الجانبي في الفروع.
أما أصل الشجرة فهو مختلف تماماً.
تلك شجرة تطلعها حكمة الله، وهذه شجرة تطلعها أهواء البشر:
{ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً }.. [الأعراف: 58]
وهذه الجاهلية خبثت قديماً وخبثت حديثاً .. يختلف خبثها في مظهره وشكله، ولكنه واحد في مغرسه وأصله.. إنه هوى البشر الجهال المغرضين، الذين لا يملكون التخلص من جهلهم وغرضهم، ومصلحة أفراد منهم أو طبقات أو أمم أو أجناس يغلبونها على العدل والحق والخير.
حتى تجئ شريعة الله فتنسخ هذا كله، وتشرِّع للناس جميعاً تشريعاً لا يشوبه جهل البشر، ولا يلِّوثه هواهم، ولا تميل به مصلحة فريق منهم.
ولأن هذا هو الفارق الأًيل بين طبيعة منهج الله ومناهج الناس، فإنه يستحيل الالتقاء بينهما في نظام واحد، ويستحيل التوفيق بينهما في وضع واحد.
ويستحيل تلفيق منهج نصفه من هنا ونصفه من هناك. وكما أن الله لا يغفر أن يشرك به.
فكذلك هو لا يقبل منهجاً مع منهجه .. هذه كتلك سواء بسواء. لأن هذه هي تلك على وجه اليقين.
هذه الحقيقة ينبغي أن تكون من القوة والوضوح في نفوسنا ونحن نقدم الإسلام للناس بحيث لا نتلجلج في الإدلاء بها ولا نتلعثم، ولا ندع الناس في شك منها، ولا نتركهم حتى يستيقنوا أن الإسلام حين يفيئون إليه سيدّل حياتهم تبديلاً .. سيبدل تصوراتهم عن الحياة كلها.
كما سيبدل أوضاعهم كذلك. سيبدلها ليعطيهم خيراً منها بما لا يقاس .
سيبدلها ليرفع تصوراتهم ويرفع أوضاعهم، ويجعلهم أقرب إلى المستوى الكريم اللائق بحياة الإنسان.
ولن يبقى لهم شيئاً من أوضاع الجاهلية الهابطة التي هم فيها، اللهم إلا الجزيئات التي يتصادف أن يكون لها من جزئيات النظام الإسلامي شبيه.
وحتى هذه لن تكون هي بعينها، لأنها ستكون مشدودة إلى أصل كبير يختلف اختلافاً بيناً عن الأصل الذي هم مشدودون إليه الآن: أصل الجاهلية النكد الخبيث! وهو في الوقت ذاته لن يسلبهم شيئاً من المعرفة "العلمية البحتة" بل سيدفعها قوية إلى الأمام..
يجب ألاّ ندع الناس حتى يدركوا أن الإسلام ليس هو أي مذهب من المذاهب الاجتماعية الوضعية، كما أنه ليس أي نظام من أنظمة الحكم الوضعية .. بشتى أسمائها وشياتها وراياتها جميعاً .. وإنما هو الإسلام فقط! الإسلام بشخصيته المستقلة وتصوره المستقل، وأوضاعه المستقلة.
الإسلام الذي يحقق للبشرية خيراً مما تحلم به كله من وراء هذه الأوضاع.
الإٍسلام الرفيع النظيف المتناسق الجميل الصادر مباشرة من الله العلي الكبير.
وحين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام، في ثقة وقوة، وفي عطف كذلك ورحمة.. ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق وأن ما عليه الناس هو الباطل.
وعطف الذي يرى شقوة البشر، وهو يعرف كيف يسعدهم.
ورحمة الذي يرى ضلال الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى !
لن نتدسس إليهم بالإسلام تدسساً. ولن نربت على شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة.. سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة .. هذه الجاهلية التي أنتم فيها نجس والله يريد أن يطهركم .. هذه الأوضاع التي أنتم فهيا خبث، والله يريد أن يطيِّبكم .. هذه الحياة التي تحيونها دون، والله يريد أن يرفعكم .. هذا الذي أنتم فيه شقوة وبؤس ونكد، والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعدكم.. والإسلام سيغير تصوراتكم وأوضاعكم وقيمكم، وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكون معها هذه الحياة التي تعيشونها، وإلى أوضاع أخرى تحتقرون معها أوضاعكم في مشارق الأرض ومغاربها، وإلى قيم أخرى تشمئزون معها من قيمكم السائدة في الأرض جميعاً .. وإذا كنتم أنتم -لشقوتكم- لم تروا صورة واقعية للحياة الإسلامية، لأن أعداءكم -أعداء هذا الدين- يتكتلون للحيلولة دون قيام هذه الحياة، ودون تجسد هذه الصورة، فنحن قد رأيناها -والحمد لله ممثلة في ضمائرنا من خلال قرآننا وشريعتنا وتاريخنا وتصورنا المبدع للمستقبل الذي لا نشك في مجيئه!
هكذا ينبغي أن نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام.
لأن هذه هي الحقيقة، ولأن هذه هي الصورة التي خاطب الإسلام الناس بها أول مرة. سواء في الجزيرة العربية أم في فارس أم في الروم. أم في أي مكان خاطب الناس فيه.
نظر إليهم من عل، لأن هذه هي الحقيقة. وخاطبهم بلغة الحب والعطف لأنه حقيقة كذلك في طبيعته. وفاصلهم مفاصلة كاملة لا غموض فيها ولا تردد لأن هذه هي طريقته .. ولم يقل لهم أبداً: إنه لن يمس حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم وقيمهم إلا بتعديلات طفيفة! أو أنه يشبه نظمهم وأوضاعهم التي ألفوها .. كما يقول بعضنا اليوم للناس وهو يقدم إليهم الإسلام .. مرة تحت عنوان: "ديمقراطية الإسلام"! ومرة تحت عنوان "اشتراكية الإسلام"! ومرة بأن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والقانونية القائمة في عالمهم لا تحتاج من الإسلام إلا لتعديلات طفيفة !!! إلى آخر هذا التدسس الناعم والتربيت على الشهوات!
كلا.
إن الأمر مختلف جداً.
والانتقال من هذه الجاهلية التي تعم وجه الأرض إلى الإسلام نقلة واسعة بعدية، وصورة الحياة الإسلامية مغايرة تماماً لصور الحياة الجاهلية قديماً وحديثاً.
وهذه الشقوة التي تعانيها البشرية لن يرفعها عنها تغييرات طفيفة في جزئيات النظم والأوضاع.
ولن ينجى البشر منها إلا تلك النقلة الواسعة البعيدة، النقلة من مناهج الخلق إلى منهج الخالق، ومن نظم البشر إلى نظام رب البشر، ومن أحكام العبيد إلى حكم رب العبيد.
هذه حقيقة. وحقيقة مثلها أن نجهر بها ونصدع، وألا ندع الناس في شك منها ولا لبس.
وقد يكره الناس هذا في أول الأمر، وقد يجفلون منه ويشفقون.
ولكن الناس كذلك كرهوا مثل هذا وأشفقوا منه في أول العهد بالدعوة إلى الإسلام.
أجفلوا وآذاهم أن يحقر محمد -صلى الله عليه وسلم- تصوراتهم، ويعيب آلهتهم، وينكر أوضاعهم، ويعتزل عاداتهم وتقاليدهم، ويتخذ لنفسه وللقلة المؤمنة معه أوضاعاً وقيماً وتقاليد غير أوضاع الجاهلية وقيمها وتقاليدها.
ثم ماذا؟ ثم فاؤوا إلى الحق الذي لم يعجبهم أول مرة، والذي أجفلوا منه: {كأنهم حمر مستنفرة فرّت من قسورة}.. [المدثر: 50-51]
والذي حاربوه ودافعوه بكل ما يملكون من قوة وحيلة، والذي عذبوا أهله عذاباً شديداً وهم ضعاف في مكة، ثم قاتلوهم قتالاً عنيداً وهم أقوياء في المدينة..
ولم تكن الدعوة في أول عهدها في وضع أقوى ولا أفضل منها الآن .. كانت مجهولة مستنكرة من الجاهلية، وكانت محصورة في شعاب مكة، مطاردة من أصحاب الجاه والسلطان فيها، وكانت غريبة في زمانها في العالم كله.
وكانت تحف بها امبراطوريات ضخمة عاتية تنكر كل مبادئها وأهدافها.
ولكنهها مع هذا كله كانت قوية، كما هي اليوم قوية، وكما هي غداً قوية.. إن عناصر القوة الحقيقية كامنة في طبيعة هذه العقيدة ذاتها، ومن ثَمَّ فهي تملك أن تعمل في أسوأ الظروف وأشدها حرجاً.
إنها تكمن في الحق البسيط الوضاح الذي نقوم عليه.
وفي تناسقها مع الفطرة التي لا تملك أن تقاوم سلطانها طويلاً، وفي قدرتها على قيادة البشرية صعداً في طريق التقدم، في أية مرحلة كانت البشرية من التأخر أو التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والعقلي.. فلا تخرم حرفاً واحداً من أصولها، ولا تربت على شهوات الجاهلية، ولا تتدسس إليها تدسساً.
إنما تصدع بالحق صدعاً مع إشعار الناس بأنها خير ورحمة وبركة..
والله الذي خلق البشر يعلم طبيعة تكوينهم ومداخل قلوبهم ويعلم كيف تستجيب حين تصدع بالحق صدعاً. في صراحة وقوة. بلا تلعثم ولا وصوصة!
إن النفس البشرية فيها الاستعداد للانتقال الكامل من حياة إلى حياة. وذلك قد يكون أيسر عليها من التعديلات الجزئية في أحيان كثيرة.. والانتقال الكامل من نظام حياة إلى نظام آخر أعلى منه وأكمل وأنظف، انتقال له ما يبرره في منطق الننفس .. ولكن ما الذي يبرر الانتقال من نظام الجاهلية إلى نظام الإسلام، إذا كان النظام الإسلامي لا يزيد إلا تغييراً طفيفاً هنا، وتعديلاً طفيفاً هناك؟ إن البقاء على النظام المألوف أقرب إلى المنطق.
لأنه على الأقل نظام قائم، قابل للإصلاح والتعديل، فلا ضرورة لطرحه، والانتقال إلى نظام غير قائم ولا مطبق، مادام أنه شبيه به في معظم خصائصه!
كذلك نجد بعض الذين يتحدثون عن الإسلام يقدمونه للناس كأنه منهم يحاولون هم دفع التهمة عنه! ومن بين ما يدفعون به أن الأنظمة الحاضرة تفعل كذا وكذا مما تعيب على الإسلام مثله، وأن الإسلام لم يصنع شيئاً -في هذه الأمور- إلا ما تصنعه "الحضارات" الحديثة بعد ألف وأربعمئة عام!
وهان ذلك دفاعاً! وساء ذلك دفاعاً!
إن الإسلام لا يتخذ المبررات له من النظم الجاهلية والتصرفات النكدة التي نبعث منها. وهذه "الحضارات" التي تبهر الكثيرين وتهزم أرواحهم ليست سوى نظم جاهلية في صميمها.
وهي نظم معيبة مهلهلة هابطة حين تقاس إلى الإسلام .. ولا عبرة بأن حال أهلها بخير من حال السكان في ما يسمى الوطن الإسلامي أو "العالم الإسلامي"! فهؤلاء صاروا إلى هذا البؤس بتركهم للإسلام لا لأنهم مسلمون .. وحجة الإسلام التي يدلي بها للناس: إنه خير منها بما لا يقاس، وإنه جاء ليغيّرها لا ليقرّها، وليرفع البشرية عن وهدتها لا ليبارك تمرغها في هذا الوحل الذي يبدو في ثوب "الحضارة"..
فلا تبلغ بنا الهزيمة أن نتلمس للإسلام مشابهات في بعض الأنظمة القائمة، وفي بعض المذاهب القائمة، وفي بعض الأفكار القائمة.
فنحن نرفض هذه الأنظمة في الشرق أو في الغرب سواء .. إننا نرفضها كلها لأنها منحطة ومتخلفة بالقياس إلى ما يريد الإسلام أن يبلغ بالبشرية إليه.
وحين نخاطب الناس بهذه الحقيقة، ونقدم لهم القاعدة العقيدة للتصور الإسلامي الشامل، يكون لديهم في أعماق فطرتهم ما يبرر الانتقال من تصور إلى تصور، ومن وضع إلى وضع. ولكننا لا نخاطبهم بحجة مقنعة حين نقول لهم: تعالوا من نظام قائم فعلاً إلى نظام آخر غير مطبق، لا يغير في نظامكم القائم إلا قليلاً.
وحجته إليكم أنكم تفعلون في هذا الأمر وذاك مثلما يفعل هو، ولا يكلفكم إلا تغيير القليل من عاداتكم وأوضاعكم وشهواتكم، وسيبقى لكم كل ما تحرصون عليه منها ولا يمسه مساً خفيفاً !!
هذا الذي يبدو سهلاً في ظاهرة، ليس مغربياً في طبيعته، فضلاً على أنه ليس هو الحقيقة .. فالحقيقة أن الإسلام يبدل التصورات والمشاعر، كما يبدل النظم والأوضاع، كما يبدل الشرائع والقوانين تبديلاً أساسياً لا يمت بصلة إلى قاعدة الحياة الجاهلية، التي تحياها البشرية .. ويكفي أن ينقلهم جملة وتفصيلاً من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ..
{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}..
{ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}..
والمسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان، مسألة شرك وتوحيد، مسألة جاهلية وإسلام.
وهذا ما ينبغي أن يكون واضحاً .. إن الناس ليسوا ملمين -كما يدّعون- وهم يحيون حياة الجاهلية.
وإذا كان فيهم من يحب أن يخدع نفسه أو يخدع الآخرين، فيعتقد أن الإسلام يمكن أن يستقيم مع هذه الجاهلية فله ذلك. ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئاً .. ليس هذا إسلاماً، وليس هؤلاء مسلمين. والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهلين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد.
ونحن لا ندعو الناس إلى الإسلام لننال منهم أجراً.
ولا نريد علوّاً في الأرض ولا فساداً.
ولا نريد شيئاً خاصاً لأنفسنا إطلاقاً، وحسابنا وأجرنا ليس على الناس.
إنما نحن ندعو الناس إلى الإسلام لأننا نحبهم ونريد لهم الخير .. مهما آذونا .. لأن هذه هي طبيعة الداعية إلى الإسلام، وهذه هي دوافعه .. ومن ثَمَّ يجب أن يعلموا منا حقيقة الإسلام، وحقيقة التكاليف التي سيطلبها إليهم، في مقابل الخير العميق الذي يحمله لهم.
كما يجب أن يعرفوا رأينا في حقيقة ما هم عليه من الجاهلية .. إنها الجاهلة وليست في شيء من الإسلام، إنها "الهوى" ما دام أنها ليست هي "الشريعة". إنها "الضلال" ما دام أنها ليست هي الحق.. فماذا بعد الحق إلا الضلال!
وليس في إسلامنا ما نخجل منه، وما نضطر للدفاع عنه، وليس فيه ما نتدسس به للناس تدسساً، أو ما نتلعثم في الجهر به على حقيقته .. إن الهزيمة الروحية أمام الغرب وأمام الشرق وأمام أوضاع الجاهلية هنا وهناك هي التي تجعل بعض الناس .. "المسلمين" .. يتلمس للإسلام موافقات جزئية من النظم البشرية، أو يتلمس من أعمال "الحضارة" الجاهلية ما يسند به أعمال الإسلام وقضاءه في بعض الأمور..
إنه إذا كان هناك من يحتاج للدفاع والتبرير والاعتذار فليس هو الذي يقدم الإسلام للناس.
وإنما هو ذاك الذي يحيا في هذه الجاهلية المهلهلة المليئة بالمتناقضات وبالنقائض والعيوب، ويريد أن يتلمس المبررات للجاهلية.
وهؤلاء هم الذين يهاجمون الإسلام ويلجئون بعض محبيه الذين يجهلون حقيقته إلى الدفاع عنه، كأنه متهم مضطر للدفاع عن نفسه في قفص الاتهام!
بعض هؤلاء كانوا يواجهوننا -نحن القلائل المنتسبين إلى الإسلام- في أمريكا في السنوات التي قضيتها هناك -وكان بعضنا يتخذ موقف الدفاع والتبرير .. وكنت على العكس أتخذ موقف المهاجم للجاهلية الغربية .. سواء في معتقداتها الدينية المهلهلة.
أو في أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية المؤذية .. هذه التصورات عن الأقانيم وعن الخطيئة وعن الفداء، وهي لا تستقيم في عقل ولا ضمير .. وهذه الرأسمالية باحتكارها ورباها وما فهيا من بشاعة كالحة .. وهذه الفردية الآُثرة التي ينعدم معها التكافل إلا تحت مطارق القانون .. وهذا التصور المادي التافه الجاف للحياة .. وحرية البهائم التي يسمونها "حرية الاختلاط" .. وسوق الرقيق التي يسمونها "حرية المرأة" .. والسخف والحرج والتكلف المضاد لواقع الحياة في نظم الزواج والطلاق، والتفريق العنصري الحادّ الخبيث .. ثم .. ما في الإسلام من منطق وسمو وإنسانية وبشاشة، وتطلع إلى آفاق تطلع البشرية دونها ولا تبلغها. ومن مواجهة الواقع في الوقت ذاته ومعالجته معالجة تقوم على قواعد الفطرة الإنسانية السليمة.
وكانت هذه حقائق نواجهها في واقع الحياة الغربية .. وهي حقائق كانت تخجل أصاحبها حين تعرض في ضوء الإسلام.. ولكن ناساً -يدّعون الإسلام- ينهزمون أمام ذلك النتن الذي تعيش فيه الجاهلية، حتى ليتلمسون للإسلام مشابهات في هذا الركاب المضطرب البائس في الغرب.
وفي تلك الشناعة المادية البشعة في الشرق أيضاً!
ولست في حاجة بعد هذا إلى أن أقول: إننا نحن الذين نقدم الإسلام للناس، ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شئ من أوضاعها، ولا في شئ من تقاليدها. مهما يشتد ضغطها علينا.
إن وظيفتنا الأولى هي إحلال التصورات الإسلامية والتقاليد الإسلامية في مكان هذه الجاهلية. ولن يتحقق هذا بمجاراة الجاهلية والسير معها خطوات في أول الطريق، كما قد يخيل إلى البعض منا .. إن هذا معناه إعلان الهزيمة منذ أول الطريق..
إن ضغط التصورات الاجتماعية السائدة، والتقاليد الاجتماعية الشائعة، ضغط ساحق عنيف، وبخاصة في دنيا المرأة.. ولكن لا بد مما ليس منه بد.
لابد أن نثبت أولاً، ولابد أن نستعلي ثانياً، ولابد أن نُرى الجاهلية حقيقة الدرك الذي هي فيه بالقياس إلى الآفاق العليا المشرفة للحياة الإسلامية التي نريدها.
ولن يكون هذا بأن نجاري الجاهلية في بعض الخطوات، كما أنه لن يكون بأن نقاطع الآن وننزوي عنها وننعزل .. كلا، إنما هي المخالطة مع التميز، والأخذ والعطاء مع الترفع، والصدع بالحق في مودة، والاستعلاء بالإيمان في تواضع. والامتلاء بعد هذا كله بالحقيقة الواقعة.
وهي أننا نعيش في وسط جاهلية، وأننا أهدى طريقاً من هذه الجاهلية، وإنها نقلة بعيدة واسعة، هذه النقلة من الجاهلية إلى الإسلام، وإنها هوة فاصلة لا يقام فوقها معبر للالتقاء في منتصف الطريق، ولكن لينتقل عليه أهل الجاهلية إلى الإسلام، سواء كانوا ممن يعيشون فيما يسمى الوطن الإسلامي، ويزعمون أنهم مسلمون، أو كانوا يعيشون في غير الوطن "الإسلامي"، وليخرجوا من الظلمات إلى النور، ولينجوا من هذه الشقوة التي هم فيها، وينعموا بالخير الذي ذقناه نحن الذين عرفنا الإسلام وحاولنا أن نعيش به .. وإلا فلنقل ما أمر الله سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله: { لكم دينكم ولي دين } 000 [الكافرون: 6]
استعلاء الإيمان
{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران : 6]
أول ما يتبادر إلى الذهن من هذا التوجيه أنه ينصب على حالة الجهاد الممثلة في القتال . . ولكن حقيقة هذا التوجيه ومداه أكبر وأبعد من هذه الحالة المفردة ، بكل ملابساتها الكثيرة .
إنه يمثل الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوره وتقديره للأشياء والأحداث والقيم والأشخاص سواء .
إنه يمثل حالة الاستعلاء التي يجب أن تستقر عليها نفس المؤمن إزاء كل شيء ، وكل وضع ، وكل قيمة ، وكل أحد ، الاستعلاء بالإيمان وقيمه على جميع القيم المنبثقة من أصل غير أصل الإيمان . الاستعلاء على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان .
وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من أصل الإيمان .
وعلى تقاليد الأرض التي لم يصغها الإيمان ، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان ، وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان .
الاستعلاء . . مع ضعف القوة ، وقلة العدد ، وفقر المال ، كالاستعلاء مع القوة والكثرة والغنى على السواء .
الاستعلاء الذي لا يتهاوى أمام قوة باغية ، ولا عرف اجتماعي ولا تشريع باطل ، ولا وضع مقبول عند الناس ولا سند له من الإيمان .
وليست حالة التماسك والثبات في الجهاد إلا حالة واحدة من حالات الاستعلاء التي يشملها هذا التوجيه الإلهي العظيم .
والاستعلاء بالإيمان ليس مجرد عزمة مفردة ، ولا نخوة دافعة ، ولا حماسة فائرة ، إنما هو الاستعلاء القائم على الحق الثابت المركوز في طبيعة الوجود .
الحق الباقي وراء منطق القوة ، وتصور البيئة ، واصطلاح المجتمع ، وتعارف الناس ، لأنه موصول بالله الحي الذي لا يموت .
إن للمجتمع منطقه السائد وعرفه العام وضغطه الساحق ووزنه الثقيل . . على من ليس يحتمي منه بركن ركين ، وعلى من يواجهه بلا سند متين . . . وللتصورات السائدة والأفكار الشائعة إيحاؤهما الذي يصعب التخلص منه بغير الاستقرار على حقيقة تصغر في ظلها تلك التصورات والأفكار ، والاستمداد من مصدر أعلى وأكبر وأقوى .
والذي يقف في وجه المجتمع ، ومنطقه السائد ، وعرفه العام ، وقيمه واعتباراته ، وأفكاره وتصوراته ، وانحرافاته ونزواته . . يشعر بالغربة كما يشعر بالوهن ، ما لم يكن يستند إلى سند أقوى من الناس ، وأثبت من الأرض ، وأكرم من الحياة .
والله لا يترك المؤمن وحيدا يواجه الضغط ، وينوء به الثقل ، ويهدها الوهن والحزن ، ومن ثم يجيء هذا التوجيه :
{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [ آل عمران : 139]
يجيء هذا التوجيه .
ليواجه الوهن كما يواجه الحزن .
هما الشعوران المباشران اللذان يساوران النفس في هذا المقام . . يواجههما بالاستعلاء لا بمجرد الصبر والثبات ، والاستعلاء الذي ينظر من عل إلى القوة الطاغية ، والقيم السائدة ، والتصورات الشائعة ، والاعتبارات والأوضاع والتقاليد والعادات ، والجماهير المتجمعة على الضلال .
إن المؤمن هو الأعلى . . الأعلى سندا ومصدرا . . فما تكون الأرض كلها ؟ وما يكون الناس ؟ وما تكون القيم السائدة في الأرض ؟ والاعتبارات الشائعة عند الناس ؟ وهو من الله يتلقى ، وإلى الله يرجع ، وعلى منهجه يسير ؟
وهو الأعلى إدراكا وتصورا لحقيقة الوجود . . فالإيمان بالله الواحد في هذه الصورة التي جاء بها الإسلام هو أكمل صورة للمعرفة بالحقيقة الكبرى .
وحين تقاس هذه الصورة إلى ذلك الركام من التصورات والعقائد والمذاهب ، سواء ما جاءت به الفلسفات الكبرى قديما ، وما انتهت إليه العقائد الوثنية والكتابية المحرفة ، وما اعتفسته المذاهب المادية الكالحة . . حين تقاس هذه الصورة المشرقة الواضحة الجميلة المتناسقة ، إلى ذلك الركام وهذه التعسفات ، تتجلى عظمة العقيدة الإسلامية كما لم تتجلى قط .
وما من شك ان الذين يعرفون هذه المعرفة هم الأعلون على كل من هناك ( ) .
وهو الأعلى تصورا للقيم والموازين التي توزن بها الحياة والأحداث والأشياء والأشخاص . فالعقيدة المنبثقة عن المعرفة بالله ، بصفاته كما جاء بها الإسلام ، ومن المعرفة بحقائق القيم في الوجود الكبير لا في ميدان الأرض الصغير .
هذه العقيدة من شانها أن تمنح المؤمن تصورا للقيم أعلى وأضبط من تلك الموازين المختلفة في أيدي البشر ، الذين لا يدركون إلا ما تحت أقدامهم .
ولا يثبتون على ميزان واحد في الجيل الواحد .
بل في الأمة الواحدة .
بل في النفس الواحدة من حين إلى حين . وهو الأعلى ضميرا وشعورا ، وخلقا وسلوكا . . فإن عقيدته في الله ذي الأسماء الحسنى والصفات المثلى ، هي بذاتها موحية بالرفعة والنظافة والطهارة والعفة والتقوى ، والعمل الصالح والخلافة الراشدة .
فضلا على إيحاء العقيدة عن الجزاء في الآخرة .
الجزاء الذي تهون أمامه متاعب الدنيا وآلامها جميعا . ويطمئن إليه ضمير المؤمن .
ولو خرج من الدنيا بغير نصيب .
وهو الأعلى شريعة ونظاما .
وحين يراجع المؤمن كل ما عرفته البشرية قديما وحديثا ، ويقيسه إلى شريعته ونظامه ، فسيراه كله أشبه شيء بمحاولات الأطفال وخبط العميان ، إلى جانب الشريعة الناضجة والنظام الكامل .
وسينظر إلى البشرية الضالة من عل في عطف وإشفاق على بؤسها وشقوتها ، ولا يجد في نفسه إلا الاستعلاء على الشقوة والضلال .
وهكذا كان المسلمون الأوائل يقفون أمام المظاهر الجوفاء ، والقوى المنتفخة ، والاعتبارات التي كانت تتعبد الناس في الجاهلية . . والجاهلية ليست فترة من الزمان ، وإنما هي حالة من الحالات تتكرر كلما انحرف المجتمع عن نهج الإسلام ، في الماضي والحاضر والمستقبل على السواء . .
وهكذا وقف المغيرة ابن شعبة أمام صور الجاهلية وأوضاعها وقيمها وتصوراتها في معسكر رستم قائد الفرس المشهور :
(( عن أبي عثمان النهدي قال : لما جاء المغيرة إلى القنطرة ، فعبرها إلى أهل فارس أجلسوه ، واستأذنوا رستم في إجازته ، ولم يغيروا من شارتهم تقوية لتهاونهم ، فأقبل المغيرة ابن شعبة والقوم في زيهم ، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب ، وبسطهم على غلوة - والغلوة مسافة رمية سهم وتقدر بثلاثمائة أو أربعمائة خطوة - لا يصل إلى صاحبهم حتى يمشي على غلوة ، وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى يجلس على سريره ووسادته ، فوثبوا عليه فترتروه وأنزاوه ومغثوه ، فقال : كانت تبلغنا عنكم الأحلام ، ولا أرى قوما اسفه منكم ، انا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضا ، إلا أن يكون محاربا لصاحبه ، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى .
وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني ان بعضكم أرباب بعض ، وان هذا الأمر لا يستقيم فيكم ، فلا تصنعه ، ولم آتكم ولكن دعوتموني .
اليوم علمت ان أمركم مضمحل ، وأنكم مغلوبون ، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول )) .
كذلك وقف ربعي بن عامر مع رستم هذا وحاشيته قبل وقعة القادسية :
(( أرسل سعد بن أبي وقاص قبل القادسية ربعي بن عامر رسولا إلى رستم ، قائد الجيوش الفارسية وأميرهم ، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير وأظهر اليواقيت واللآلىء الثمينة العظيمة ، وعليه تاجه ، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب ، ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة .
ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد .
وأقبل وعليه سلاحه وبيضته على رأسه . فقالوا له : ضع سلاحك .
فقال : اني لم آتكم ، وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت . فقال رستم : ائذنوا له .
فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق لخرق عامتها .
فقال رستم : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام )) .
وتتبدل الأحوال ويقف المسلم موقف المغلوب المجرد من القوة المادية ، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى . وينظر إلى غالبه من عل ما دام مؤمنا .
ويستيقن أنها فترة وتمضي ، وإن للإيمان كرة لا مفر منها .
وهبها كانت القاضية فإنه لا يحني لها رأسا . إن الناس كلهم يموتون أما هو فيستشهد .
وهو يغادر هذه الأرض إلى الجنة ، وغالبه يغادرها إلى النار . وشتان شتان . وهو يسمع نداء ربه الكريم :
{ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد * لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار } … [ آل عمران : 196-198]
وتسود المجتمع عقائد وتصورات وقيم وأوضاع كلها مغاير لعقيدته وتصوره وقيمه وموازينه ، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى ، وبأن هؤلاء كلهم في الموقف الدون . وينظر إليهم من عل في كرامة واعتزاز ، وفي رحمة كذلك وعطف ، ورغبة في هدايتهم إلى الخير الذي معه ، ورفعهم إلى الأفق الذي يعيش فيه .
ويضج الباطل ويصخب ، ويرفع صوته وينفش ريشه ، وتحيط به الهالات المصطنعة التي تغشي على الأبصار والبصائر ، فلا ترى ما وراء الهالات من قبح شائه دميم ، وفجر كالح لئيم . . وينظر المؤمن من عل إلى الباطل المنتفش ، وإلى الجموع المخدوعة ، فلا يهن ولا يحزن ، ولا ينقص إصراره على الحق الذي معه ، وثباته على المنهج الذي يتبعه ، ولا تضعف رغبته كذلك في هداية الضالين والمخدوعين .
ويغرق المجتمع في شهواته الهابطة ، ويمضي مع نزواته الخليعة ويلصق بالوحل والطين ، حاسبا انه يستمتع وينطلق من الأغلال والقيود .
وتعز في مثل هذا المجتمع كل متعة بريئة وكل طيبة حلال ، ولا يبقى إلا المشروع الآسن ، وإلا الوحل والطين . . وينظر المؤمن من عل إلى الغارقين في الوحل اللاصقين بالطين . . وهو مفرد وحيد ، فلا يهن ولا يحزن ، ولا تراوده نفسه أن يخلع رداءه النظيف الطاهر ، وينغمس في الحمأة ، وهو الأعلى بمتعة الإيمان ولذة اليقين .
ويقف المؤمن قابضا على دينه كالقابض على الجمر في المجتمع الشارد عن الدين ، وعن الفضيلة ، وعن القيم العليا ، وعن الاهتمامات النبيلة ، وعن كل ما هو طاهر نظيف جميل . . ويقف الآخرون هازئين بوقفته ، ساخرين من تصوراته ، ضاحكين من قيمه . . فما يهن المؤمن وهو ينظر من عل إلى الساخرين والهازئين والضاحكين ، وهو يقول كما قال واحد من الرهط الكرام الذين سبقوه في موكب الإيمان العريق الوضئ ، في الطريق اللاحب الطويل . . نوح عليه السلام . .
{ إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } … [ هود : 38]
وهو يرى نهاية الموكب الوضئ . ونهاية القافلة البائسة في قوله تعالى :
{ الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون . . وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . . وإذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين . . فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . . على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ! } … [ المطففين : 29-36 ]
وقديما قص القرآن الكريم قول الكافرين للمؤمنين :
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا : أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ؟} .. [ مريم : 73]
أي الفريقين ؟ الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ أم الفقراء الذين يلتفون حوله ؟ أي الفريقين ؟ النضر بن الحارث وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة وأبو سفيان بن حرب ؟ أم بلال وعمار وصهيب وخباب ؟ أفلوا كان ما يدعو إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - خيرا أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر ، الذين لا سلطان لهم في قريش ولا خطر ، وهم يجتمعون في بيت متواضع كذار الأرقم ، ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب الندوة الفخمة الضخمة ، والمجد والجاه والسلطان ؟! إنه منطق الأرض ، منطق المحجوبين عن الآفاق العليا في كل زمان ومكان .
وإنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء عاطلة من عوامل الإغراء ، لا قربى من حاكم ، ولا اعتزاز بسلطان ، ولا هتاف بلذة ، ولا دغدغة لغريزة ، وإنما هو الجهد والمشقة والجهاد والاستشهاد . . ليقبل عليها من يقبل ، وهو على يقين من نفسه أنه يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس ، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات ، ولينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع ، ومن يشتهي الزينة والابهة ، ومن يطلب المال والمتاع ، ومن يقيم لاعتبارات الناس وزنا حين تخف في ميزان الله .
إن المؤمن لا يستمد قيمه وتصوراته وموازينه من الناس حتى يأسى على تقدير الناس ، إنما يستمدها من رب الناس وهو حسبه وكافيه . .
إنه لا يستمدها من شهوات الخلق حتى يتأرجح مع شهوات الخلق ، وإنما يستمدها من ميزان الحق الثابت الذي لا يتأرجح ولا يميل . . إنه لا يتلقاها من هذا العالم الفاني المحدود ، وإنما تنبثق في ضميره من ينابيع الوجود . . فأنى يجد في نفسه وهنا أو يجد في قلبه حزنا .
وهو موصول برب الناس وميزان الحق وينابيع الوجود ؟
إنه على الحق . . فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ وليكن للضلال سلطانه ، وليكن له هيله وهيلمانه ، ولتكن معه جموعه وجماهيره . . إن هذا لا يغير من الحق شيئا ، إنه على الحق وليس بعد الحق إلا الضلال ، ولن يختار مؤمن الضلال على الحق - وهو مؤمن - ولم يعدل بالحق الضلال كائنة ما كانت الملابسات والأحوال ..
{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب * ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد }. [ آل عمران : 8-9]
هذا هو الطريق
{ والسماء ذات البروج * واليوم المشهود * وشاهد ومشهود * قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد * الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شئ شهيد * إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير * إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد * وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد . . . }
إن قصة أصحاب الأخدود - كما وردت في سورة البروج - حقيقة بأن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل .
فالقرآن بإيرادها في هذا الأسلوب مع مقدمتها والتعقيبات عليها ، والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها . . كان يخط بها خطوطاً عميقة في تصور طبيعة الدعوة إلى الله ، ودور البشر فيها ، واحتمالاتها المتوقعة في مجالها الواسع - وهو أوسع رقعة من الأرض ، وأبعد مدى من الحياة - وكان يرسم للمؤمنين معالم الطريق ، ويعدُّ نفوسهم لتلقي أي من هذه الاحتمالات التي يجري بها القدر المرسوم ، وفق الحكمة المكنونة في غيب الله المستور .
إنها قصة فئة آمنت بربها ، واستعلنت حقيقة إيمانها .
ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق " الإنسان " في حرية الاعتقاد بالحق والإيمان بالله العزيز الحميد ، وبكرامة الإنسان عند الله عن أن يكون لعبة يتسلى بها الطغاة بآلام تعذيبها ، ويتلهون بمنظرها في أثناء التعذيب بالحريق .
وقد ارتفع الإيمان بهذه القلوب على الفتنة ، وانتصرت فيها العقيدة على الحياة ، فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة ، ولم تفتن عن دينها ، وهي تحرق بالنار حتى تموت .
لقد تحررت هذه القلوب من عبوديتها للحياة ، فلم يستذلها حب البقاء وهي تعاين الموت بهذه الطريقة البشعة ، وانطلقت من قيود الأرض وجواذبها جميعاً ، وارتفعت على ذواتها بانتصار العقيدة على الحياة فيها .
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخّيرة الرفيقة الكريمة هناك جبلات جاحدة شريرة مجرمة لئيمة ، وجلس أصحاب هذه الجبلات على النار ، يشهدون كيف يتعذب المؤمنون ويتألمون ، جلسوا يتلهون بمنظر الحياة تأكلها النار ، والأناسي الكرام يتحولون وقوداً وتراباً .
وكلما ألقي فتى أو فتاة ، صبية أو عجوز ، طفل أو شيخ ، من المؤمنين الخيرين الكرام في النار ، ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوس الطغاة ، وعربد السعار المجنون بالدماء والأشلاء !
هذا هو الحادث البشع الذي انتكست فيه جبلات الطغاة وارتكست في هذه الحمأة ، فراحت تلتذ مشهد التعذيب المروع العنيف ، بهذه الخساسة التي لم يرتكس فيها وحش قط ، فالوحش يفترس ليقتات ، لا ليلتذ آلام الفريسة في لؤم وخسة !
وهو ذاته الحادث الذي ارتفعت فيه أرواح المؤمنين وتحررت وانطلقت إلى ذلك الأوج السامي الرفيع ، الذي تشرف به البشرية في جميع الأجيال والعصور .
في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان ، وإن هذا الإيمان الذي بلغ الذروة العالية ، في نفوس الفئة الخيرة الكريمة الثابتة المستعلية . . لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان ! ولا تذكر الروايات التي وردت في هذا الحادث ، كما لا تذكر النصوص القرآنية ، أن الله قد أخذ أولئك الطغاة في الأرض بجريمتهم البشعة ، كما أخذ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط أو كما أخذ فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر .
ففي حساب الأرض تبدوا هذه الخاتمة اسيفة أليمة !
أفهكذا ينتهي الأمر ، وتذهب الفئة المؤمنة التي ارتفعت إلى ذروة الإيمان ؟ تذهب مع آلامها الفاجعة في الأخدود ؟ بينما تذهب الفئة الباغية ، التي ارتكست إلى هذه الحمأة ، ناجية ؟
حساب الأرض يحيك في الصدر شئ أمام هذه الخاتمة الأسيفة !
ولكن القرآن يعلَّم المؤمنين شيئاً آخر ، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى ، ويبصرهم بطبيعة القيم التي يزنون بها ، وبمجال المعركة التي يخوضونها .
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ، ومن متاع وحرمان . . ليست هي الغاية القيمة الكبرى في الميزان . . وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة ، والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة ، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة .
إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة ، وإن السلعة الرائجة في سوق الله سلعة الإيمان ، وإن النصر في أرفع صورة هو انتصار الروح على المادة ، وانتصار العقيدة على الألم ، وانتصار الإيمان على الفتنة . . وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم ، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة ، وانتصرت على الفتنة انتصاراً يشرف الجنس البشري كله في جميع الأعصار . . وهذا هو الانتصار ..
إن الناس جميعاً يموتون ، وتختلف الأسباب ، ولكن الناس جميعاً لا ينتصرون هذا الانتصار ، ولا يرتفعون هذا الارتفاع ، ولا يتحررون هذا التحرر ، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق . . إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت ، وتنفرد دون الناس في المجد ، المجد في الملأ الأعلى ، وفي دنيا الناس أيضاً .
إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال !
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم ، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم ؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر ؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير ، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد ؟
إنه معنى كريم جداً ، ومعنى كبير جداً ، هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض ، ربحوه هم يجدون مس النار ، فتحرق أجسادهم الفانية ، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار !
ثم إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها ، وليس الحياة الدنيا وحدها ، وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال .
إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها ، ويزنها بميزان غير ميزان الأرض في جيل من أجيالها ، وغير ميزان الأرض في أجيالها جميعاً .
والملأ الأعلى يضم من الأرواح الكريمة أضعاف أضعاف ما تضم الأرض من الناس . . وما من شك أن ثناء الملأ الأعلى وتكريمه أكبر وأرجح في أي ميزان من رأي أهل الأرض وتقديرهم على الإطلاق !
وبعد ذلك كله هناك الآخرة ، وهي المجال الأصيل الذي يلحق به مجال الأرض ، ولا ينفصل عنه ، لا في الحقيقة الواقعة ، ولا في حس المؤمن بهذه الحقيقة .
فالمعركة إذن لم تنته ، وخاتمتها الحقيقية لم تجيء بعد ، والحكم عليها بالجزء الذي عرض منها على الأرض حكم غير صحيح ، لأنه حكم على الشطر الصغير منها والشطر الزهيد .
النظرة الأولى : هي النظرة القصيرة الضيقة المجال التي تعنّ للإنسان العجول .
والنظرة الثانية : الشاملة البعيدة المدى هي التي يروض القرآن المؤمنين عليها ، لأنها تمثل الحقيقة التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح .
ومن ثم وعد الله للمؤمنين جزاء على الإيمان والطاعة ، والصبر على الابتلاء ، والانتصار على فتن الحياة . . هو طمأنينة القلب :
{ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله * ألا بذكر الله تطمئن القلوب } ... [ الرعد : 28 ] . وهو الرضوان والود من الرحمن :
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً } [ مريم : 96 ] .
وهو الذكر في الملأ الأعلى :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم .
فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم .
فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع .
فيقول : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بين الحمد " . . . [ أخرجه الترمذي ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه .
فإن اقترب إلى شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، وإن اقترب إليّ ذرعاً اقتربت منه باعاً ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " . [ أخرجه الشيخان ] .
وهو اشتغال الملأ الأعلى بأمر المؤمنين في الأرض :
{ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم . . . } [ غافر : 7 ] .
وهو الحياة عند الله للشهداء :
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وان الله لا يضيع أجر المؤمنين . . . } [ آل عمران : 169 - 171 ] .
كما كان وعده المتكرر بأخذ المكذبين والطغاة والمجرمين في الآخرة والإملاء لهم في الأرض والإمهال إلى حين . . وان كان أحياناً قد أخذ بعضهم في الدنيا . . ولكن التركيز كله على الآخرة في الجزء الأخير :
{ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . . . } [ آل عمران : 169 - 197 ] .
{ ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص في الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء . . } [ إبراهيم : 42 - 43 ] .
{ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون * يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون . . } [ المعارج : 42 - 43 ] .
وهكذا اتصلت حياة الناس بحياة الملأ الأعلى ، واتصلت الدنيا بالآخرة ، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر ، والحق والباطل ، والإيمان والطغيان .
ولم تعد الحياة الدنيا هي خاتمة المطاف ، ولا موعد الفصل في هذا الصراع . . كما أن الحياة الدنيا وكل ما يتعلق بها من لذائد وآلام ومتاع وحرمان ، لم تعد هي القيمة العليا في الميزان .
انفسح المجال في المكان ، وانفسح المجال في الزمان ، وانفسح المجال في القيم والموازين ، واتسعت آفاق النفس المؤمنة ، وكبرت اهتماماتها ، فصغرت الأرض وما عليها ، والحياة الدنيا وما يتعلق بها ، وكبر المؤمن بمقدار ما رأى وما عرف من الآفاق والحيوات ، وكانت قصة أصحاب الأخدود في القمة في إنشاء هذا التصور الإيماني الواسع الشامل الكبير الكريم .
هناك إشعاع آخر تطلقه قصة أصحاب الأخدود وسورة البروج حول طبيعة الدعوة إلى الله ، وموقف الداعية أمام كل احتمال .
لقد شهد تاريخ الدعوة إلى الله نماذج منوعة من نهايات في الأرض مختلفة للدعوات . .
شهد مصارع قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وقوم لوط ، ونجاة الفئة القلية العدد ، مجرد النجاة.
ولم يذكر القرآن للناجين دوراً بعد ذلك في الأرض والحياة .
وهذه النماذج تقرر أن الله سبحانه وتعالى يريد أحياناً أن يعجَّل للمكذبين الطغاة بقسط من العذاب في الدنيا ، أما الجزاء الأوفى فهو مرصود لهم هناك .
وشهد تاريخ الدعوة مصرع فرعون وجنوده ، ونجاة موسى وقومه ، مع التمكين للقوم في الأرض فترة كانوا فيها أصلح ما كانوا في تاريخهم ، وإن لم يرتقوا قط إلى الاستقامة الكاملة ، وإلى إقامة دين الله في الأرض منهجاً للحياة شاملاً . . وهذا نموذج غير النماذج الأولى .
وشهد تاريخ الدعوة كذلك مصرع المشركين الذين استعصوا على الهدى والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وانتصار المؤمنين انتصاراً كاملاً . مع انتصار العقيدة في نفوسهم انتصاراً عجيباً . وتم للمرة الوحيدة في تاريخ البشرية أن أقيم منهج الله مهيمناً على الحياة في صورة لم تعرفها البشرية قط ، من قبل ولا من بعد .
وشهد - كما رأينا - نموذج أصحاب الأخدود . .
وشهد نماذج أخرى أقل ظهوراً في سجل التاريخ الإيماني في القديم والحديث .
وما يزال يشهد نماذج تتراوح بين هذه النهايات التي حفظها على مدار القرون .
ولم يكن بدّ من النموذج الذي يمثله حادث الأخدود ، إلى جانب النماذج الأخرى ، القريب منها والبعيد .. لم يكن بد من هذا النموذج الذي لا ينجو فيه المؤمنون ، ولا يؤخذ الكافرون ! ذلك ليستقر في حس المؤمن - أصحاب دعوة الله - أنهم قد يدعون إلى النهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله ، وأن ليس لهم من الأمر شيء ، إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى الله !
إن عليهم أن يؤدوا واجبهم ، ثم يذهبوا ، وواجبهم أن يختاروا الله ، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة ، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة وأن يصدقوا الله في العمل والنية . ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم ، كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء .
وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان ، أو إلى غيرها مما يعلمه هو ويراه .
إنهم أجراء عند الله ، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا عملوا وقبضوا الأجر المعلوم ! وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير ! وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينة في القلب ، ورفعة في الشعور ، وجمالاً في التصور ، وانطلاقاً من الأوهاق والجواذب ، وتحرراً من الخوف والقلق ، في كل حال من الأحوال .
وهم يقبضون الدفعة الثانية في الملأ الأعلى وذكراً وكرامة ، وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة .
ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حساباً يسيراً ونعيماً كبيراً .
ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعاً ، رضوان الله ، وانهم مختارون ليكونوا أداة لقدره وستاراً لقدرته ، يفعل بهم في الأرض ما يشاء .
وهكذا انتهت التربية القرآنية بالفئة المختارة من المسلمين في الصدر الأول إلى هذا التطور ، الذي أطلقهم من أمر ذواتهم وشخوصهم .
فاخرجوا أنفسهم من الأمر البتة ، وعملوا أجراء عند صاحب الأمر ورضوا خيرة الله على أي وضع وعلى أي حال .
وكانت التربية النبوية تتمشى مع التوجيهات القرآنية ، وتوجه القلوب والأنظار إلى الجنة ، وإلى الصبر على الدور المختار حتى يأذن الله بما يشاء في الدنيا والآخرة سواء .
كان - صلى الله عليه وسلم - يرى عماراً وأمه وأباه - رضي الله عنهم - يعذبون العذاب الشديد في مكة ، فما يزيد على أن يقول : " صيراً آل ياسر ، موعدكم الجنة " . .
وعن خباب بن الارتّ - رضي الله عنه - قال : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد برده في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لما ؟ أو تدعو لنا ؟ فقال : " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يبعده ذلك عن دينه ، والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت ، فلا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " . . [ أخرجه البخاري ] .
إن لله حكمة وراء كل وضع ووراء كل حال ، ومدبر هذا الكون كله ، المطلع على أوله وآخره ، المنسق لأحداثه وروابطه ، هو الذي يعرف الحكمة المكونة في غيبه المستور ، الحكمة التي تتفق مع مشيئته في خط السير الطويل .
وفي بعض الأحيان يكشف لنا - بعد أجيال وقرون - عن حكمة حادث لم يكن معاصروه يدركون حكمته ، ولعلهم كانوا يسألون لماذا ؟ لماذا يا رب يقع هذا ؟ وهذا السؤال نفسه هو الجهل الذي يتوقاه المؤمن ، لأنه يعرف ابتداء أن هناك حكمة وراء كل قدر ، ولأن سعة المجال في تصوره ، وبعد المدى في الزمان والمكان والقيم والموازين تغنيه عن التفكير ابتداء في مثل هذا السؤال ، فيسير مع دورة القدر في استسلام واطمئنان . .
لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة ، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء ، وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض ، ولا تنظر إلا إلى الآخرة ، ولا ترجو إلا رضوان الله ، قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية حتى الموت . بلا جزاء في هذه الأرض قريب ، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة ، وغلبة الإسلام وظهور المسلمين ، بل لو كانوا هذا الجزاء هو هلاك الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الأولين !
حتى إذا وجدت هذه القلوب ، التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطى بلا مقابل - أي مقابل - وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للفصل بين الحق والباطل .
حتى إذا وجدت هذه القلوب ، وعلم الله منها صدق نيّتها على ما بايعت وعاهدت ، آتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه ، لا لنفسها ، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ، ولم تتطلع إلى شئ من الغنم في الأرض تعطاه ، وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه .
وكل الآيات التي ذكر فيها النصر ، وذكر فيها المغانم ، وذكر فيها أخذ المشركين في الأرض بأيدي المؤمنين نزلت في المدينة . . بعد ذلك . . وبعد أن أصبحت هذه الأمور خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه .
وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية ، تقرره في صورة عملية محددة تراها الأجيال . . فلم يكن جزاء التعب والنصب والتضحية والآلام ، إنما كان قدراً من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !
وهذه اللفتة جديرة بأن يتدبرها الدعاة إلى الله ، في كل أرض وفي كل جيل ، فهي كفيلة بأن تريهم معالم الطريق واضحة بلا غبش ، وأن تثبت خطى الذين يريدون أن يقطعوا الطريق إلى نهايته ، كيفما كانت هذه النهاية .
ثم يكون قدر الله بدعوته وبهم ما يكون ، فلا يلتفتون في أثناء الطريق الدامي المفروش بالجماجم والأشلاء ، وبالعرق والدماء ، إلى نصر أو غلبة ، أو فصل بين الحق والباطل في هذه الأرض . . ولكن إذا كان الله يريد أن يصنع بهم شيئاً من هذا لدعوته ولدينه فسيتم ما يريده الله . . لا جزاء على الآلام والتضحيات . . لا ، فالأرض ليست دار جزاء . . وإنما تحقيقاً لقدر الله في أمر دعوته ومنهجه على أيدي ناس من عباده يختارهم ليمضي بهم من الأمر ما يشاء ، وحسبهم هذا الاختيار الكريم ، الذي تهون إلى جانبه وتصغر هذه الحياة ، وكل ما يقع في رحلة الأرض من سراء أو ضراء
هنالك حقيقة أخرى يشير إليها أحد التعقيبات القرآنية على قصة الأخدود في قوله تعالى : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } . .
حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل .
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئاً آخر على الإطلاق . وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان ، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة . .
إنها ليست معركة سياسية ولا معركة اقتصادية ، ولا معركة عنصرية . . ولو كانت شيئاً من هذا لسهل وقفها ، وسهل حل إشكالها ، ولكنها في صميمها معركة عقيدة - إما كفر وإما إيمان . . إما جاهلية وإما إسلام !
ولقد كان كبار المشركين يعرضون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المال والحكم والمتاع في مقابل شيء واحد ؛ أن يدع معركة العقدية وأن يدهن في هذا الأمر ! ولو أجابهم - حاشاه - إلى شيء مما أراده ما بقيت بينهم وبينه معركة على الإطلاق !
إنها قضية عقيدة ومعركة عقيدة . . وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدواً لهم . فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة " إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد " ويخلصوا له وحده الطاعة والخضوع !
وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة ، راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية ، كي يموَّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة ، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة .
فمن واجب المؤمنين ألا يُخدعوا ، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيت ، وأن الذي يغير راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها ، النصر في أية صورة من الصور ، سواء جاء في صورة الانطلاق الروحي كما وقع للمؤمنين في حادث الأخدود ، أو في صورة الهيمنة - الناشئة من الانطلاق الروحي - كما حدث للجيل الأول من المسلمين .
ونحن نشهد نموذجاً من تمويه الراية في محاولة الصليبية العالمية اليوم أن تخدعنا عن حقيقة المعركة ، وأن تزور التاريخ ، فتزعم لنا أن الحروب الصليبية كانت ستاراً للاستعمار . . كلا . . إنما كان الاستعمار الذي جاء متأخراً هو الستار للروح الصليبية التي لم تعد قادرة على السفور كما كانت في القرون الوسطى ! والتي تحطمت على صخرة العقيدة بقيادة مسلمين من شتى العناصر ، وفيهم صلاح الدين الكردي ، وتوران شاه المملوكي ، العناصر التي نسيت قوميتها وذكرت عقيدتها فانتصرت تحت راية العقيدة !
{ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } .
وصدق الله العظيم ، وكذب المموهون الخادعون !