هل سيظل الإخوان يتلقون الضربات ويتجرعون المحن أو يتذوقونها دون رد أو مقاومة؟
بقلم: الأستاذ مصطفى مشهور
ولعله من المفيد أيضًا قبل الرد على هذا التساؤل أن نرجع إلى سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لنجد فيها الإجابة الواضحة، فقد تعرَّض عليه الصلاة والسلام هو والمسلمون معه إلى الإيذاء والتعذيب الشديدَيْن من المشركين في مكةَ، وكان يمرُّ على آل ياسر، وهم يعذبون ويقول لهم: "صبرًا آل ياسر فإنَّ موعدكم الجنة"، وقد صبروا حتى استشهد ياسر وزوجته سمية- رضي الله عنهما- تحت التعذيب.
ولم يأمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- أحدًا من المسلمين برد العدوان والإيذاء بالقوة في ذلك الوقت؛ لأن أي محاولة من ذلك القبيل لم تكن لتوقف العدوان، بل من شأنها أن تصعده وتصل به إلى البطش الشديد الذي يقضي على المسلمين، وهم لا زالوا قلة.
وتروي لنا السيرة أنه لما اشتدَّ الإيذاء على بعض المسلمين قال أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تستنصر لنا؟.. فظهر الغضب في وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: "إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه، فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه".. ثم بشَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمام هذا الأمر فقال: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون".
كان في إمكانه صلى الله عليه وسلم أن يأمر بعض المسلمين بقتل أئمة الكفر كأبي جهل أو أبي لهب أو بتحطيم الأصنام أو بعضها، ولكنه لم يفعل لما سبق أن ذكرنا، ولم يعتبر ذلك موقفًا سلبيًّا منه؛ لكنه الحكمة ومصلحة الدعوة اقتضت ذلك، فليس الهم والقصد إيقاف الإيذاء الذي يقع على المسلمين، ولكن القصد هو تبليغ دعوة الله وتكوين القواعد والدعائم التي سيقوم عليها صرح الدعوة والدولة الإسلامية.
كما أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعلم أن الإيذاء والابتلاء ليس أمرًا طارئًا غريبًا على طريق الدعوة يلزم التخلص منه وإيقافه في الحال، ولكنه سنة الله في الدعوات لحكمةٍ ساميةٍ هي التمحيص والصقل وزيادة الإيمان؛ لأن أمانات النصر ثقيلة ولا يقوى على تحملها وحسن أدائها إلا هذه النوعيات الممحصة بحيث لا تفتنها دنيا ولا تثنيها شدة.
ثم إننا نجد بمتابعتنا للسيرة بعد الهجرة، وعند بدء تكوُّن قاعدة انطلاق المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُفكِّر في مواجهة المشركين بالقوة، فعند خروجه إلى بدر خرج لقافلةِ التجارة وليس للحرب، ولكنَّ الله تعالى أراد أن تكون ذات الشوكة بعلمه وتقديره، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقف تحت العريش يدعو ربه ملحًّا في الدعاء حتى سقط البرد من على كتفيه ويقول: "اللهم إن تهلك هذه العصبة فلن تُعبد في الأرض".
ومعنى ذلك أنه ما زال بتقديره البشري مشفقًا على مجموعة المؤمنين أن يُقضى عليهم في تلك الحرب وهم قلة فتتوقف مسيرة الدعوة، لكن كان في تقدير الله النصر للمؤمنين والهزيمة النكراء لأعداء الله، وكانت بدر فاصلة بين فترة الإيذاء والاستضعاف وفترة النصر والتمكين.
هكذا نرى أن البدء في رد عدوان أعداء الله لا بد له من توفر ظروف وملابسات تجعله مناسبًا، وأن أي محاولة قبل ذلك لا تؤمن عواقبها، وتكون في غير صالح الدعوة التي هي القصد وليس أشخاص المعتدى عليهم.
ونقول أيضًا لعل في موقف الإخوان في بعض أجزاء العالم الإسلامي رد واضح لهذا التساؤل، وأنه لا يمكن أن يظلوا هكذا يتلقون الضربات دون رد أو مقاومة، فليطمئن المتحمسون، ولا يتسرع المتعجلون فالأمور تجرى بالمقادير: ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)﴾ (يوسف).
هل هو خطأ القيادة؟
وفي جو المحن ومع طول أمدها يتهيأ الجو لتساؤلٍ آخر، وربما يُثيره البعض كتشكيكٍ وهو: هل هذه المحن والضربات نتيجة أخطاء وقعت فيها القيادة؟ وهل من الممكن تفاديها؟
ونعود أيضًا إلى السيرة لنجد فيها الإجابة فنجد أن ما تعرَّض له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصحابته من إيذاء وتعذيب لم يكن نتيجة أخطاء وقعوا فيها، ولكنه الموقف الطبيعي لأعداء الله من دعوة الله والدعاة إلى الله، إنهم يحسون فيها الخطر على باطلهم وعلى سلطانهم القائم على البغي والظلم، ويعلمون أن في قيام دعوة الحق وانتصارها قضاء على باطلهم وهزيمة لهم، فهم لذلك يحاربونها ويحاولون القضاء عليها قبل أن تقضي عليهم؛ لكنهم يفشلون في ذلك لأنها دعوة الله ونور الله، ولن يطفئ نور الله بشر.. ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)﴾ (الصف).
القيادة اجتهدت وسعيها للخير:
ولكن أعداء الله حينما يحاربون دعوة الله لا بد، وأن يقدموا لجمهور الناس أو للرأي العام مبررًا زائفًا يستندون إليه في حربهم واعتدائهم، فيلصقون التهم الباطلة بالدعاة إلى الله، كما قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كاذب وساحر وكاهن وشاعر ومجنون، وأنه بدعوته وبدينه يفرق بين المرء وأهله إلى غير ذلك.
وكما سبقهم فرعون والملأ حوله باتهام موسى وقومه بالإفساد في الأرض، وكما حدث في عصرنا هذا بأن اتهم أعداء الله الإخوان والدعاة إلى الله بالتطرف والإرهاب والتستر وراء الدين للتسلق إلى الحكم.
وكما افتعلوا الأحداث كمبررٍ لضربهم كتمثيلية محاولة قتل عبد الناصر في الإسكندرية، إلى غير ذلك من أساليب التضليل والتشكيك والتشويه، ولكن نور الحق أقوى وأسطع من أن تحجبه هذه التهم الباطلة، كما يحلو لبعض من تقصر همتهم عن مواصلة المسيرة نتيجة لهذه الضربات والمحن أن يعودوا باللائمة على القيادة، وأنها التي تسببت في هذه المحن نتيجة أخطاء وقعت فيها، وهذا غير الواقع، وكما أنه لم يكن في استطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفادى وقوع الإيذاء والتعذيب عليه وعلى المسلمين معه إلا إذا تنازل عن كثيرٍ مما يدعو إليه مما يُثير الأعداء ويقلقهم، وخاصةً الدعوة إلى إلهٍ واحدٍ وترك هذه الأصنام، وما كان له صلى الله عليه وسلم أن يتنازل عن شيء من ذلك والله يدعوه: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)﴾ (الزخرف).
وبالتالي لم يتوقف اعتداء أعداء الله وإيذاؤهم له وللمسلمين حتى تحقق النصر، ولا نعني بذلك أن الإخوان وقيادتهم معصومون من الخطأ، ولكن يجب أن نُفرِّق بين أخطاء جزئية أو فردية لا تخلو منها جماعة أو حركة حتى الجماعة الأولى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن نرجع المحن في أصلها إلى أخطاء من القيادة، أو أنه كان من الممكن تفادي المحن بتفادي الأخطاء، فهذا التصور هو عين الخطأ.