وحدة المسلمين.. الطريق إلى النهضة
بقلم:الإستاذ محمد مهدي عاكف
رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين- سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد- المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.. وبعد،،
فقد تطرقنا في رسالة الأسبوع الماضي إلى قضية تحرير الأوطان التي هي فريضة شرعية يأثم المسلمون بتركها، وقد يسأل سائل: وكيف السبيل لتحرير الأوطان وتحقيق الفريضة الشرعية؟، ونقول إن وحدة المسلمين أول شروط التحرير وألزمها، فإن الاختلاف والتفرق من أكبر المصائب التي اُبتليت بها الأمة الإسلامية فأوهنت عزمها وأطاحت براياتها وجعلتها نهبة لكل منتهب.
وقد جعل الإسلام التوحدَ على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباع منهج الإسلام، وترك النزاع أحد أسباب النصر، قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال:45،46)
وإن من خصائص هذه الأمة أنها أمة واحدة ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ (المؤمنون:52) "إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا..." الحديث، أخرجه مسلم.
ويقول الإمام الشهيدحسن البنا رحمه الله: "إن الإسلام جعل الأخوة معنى من معاني الإيمان بل هي أكمل معانيه، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية10)، "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" و"مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا".
لقد كان من أهم ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وطئت قدماه المدينة هو مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار حتى يكونوا لُحمةً واحدة، وبناءً صلبا قويًا قادرًا على الصمود ومواجهة التحديات، وللانطلاق نحو بلوغ الأهداف والغايات ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر:8 ،9).
ويوم أن حاول بعضُ نفرٍ من يهود أن يوقعوا فتنةً بين الأوس والخزرج، خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم لساعته، فوأد الفتنة في مهدها وأعاد السكينة والطمأنينة إلى القلوب، وفي ذلك نزل قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ* وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران:100-103).
ويوم واجه المسلمون العالم كله صفًا واحدًا وقلبًا واحدًا في ظل هذه الأخوة الصادقة الحقة لم تلبث أمامهم ممالك الروابط الإدارية، أو السياسية المجردة ساعةً من نهار، وانهزم أمامهم- بغير نظام- الروم والفرس على السواء، وكوَّنوا إمبراطورية ضخمة تمتد من المحيط إلى المحيط، ذات علم وحضارة وقوة وإشراق.
ويوم غفلوا عن سر قوتهم ولم يأخذوا بهدي كتابهم، ودبَّ إليهم داءُ الأمم من قبلهم من تغليب المصالح المادية الزائلة على الأخوة الإيمانية الباقية تمزقت هذه الإمبراطورية، ولعبت بها المطامع الخارجية والداخلية وانتهى أمرها إلى الانهيار والوقوع في أسر خصومها من غير المسلمين الذين احتلوا أرضها وملكوا أمرها وتقاسموها فيما بينهم.
وكانت الدسيسة الكبرى التي اقتحمت على المسلمين عقولهم وقلوبهم أولاً، ثم أراضيهم وبلادهم ثانيًا، هي تأثرهم بالعنصرية والشعوبية واعتداد كل أمة منهم بجنسها وتناسي ما جاء به الإسلام من القضاء على عصبية الجاهلية والتفاخر بالأجناس والألوان والأنساب.
أي وحدة نقصد؟
وقد يتبادر إلى أذهان البعض معنًى واحد للوحدة بين المسلمين وهو تحقيق الوحدة السياسية واجتماع المسلمين في دولة واحدة على نظام حكم واحد، وهو أمر يرونه مستحيلاً، ونقول لأولئك المثبطين: إن ما ترونه مستحيلاً أمرٌ وارد التحقيق، فضلاً عن كونه واجبًا شرعيًا، وقد رأينا كيف تجمعت شعوب أوربا ضمن منظومة الاتحاد الأوربي بعد قرون من العداوة والاقتتال، ونرى كيف تسعى الولايات المتحدة لأن تأطر العالم أطرًا ضمن ما يُسمى بالنظام العالمي الجديد الخاضع للسيطرة السياسية والثقافية والاقتصادية الأمريكية.
ونحن نرى أن الوحدة السياسية بين المسلمين تأتي في مرحلةٍ تالية بعد مراحل تمهيدية تسبقها، وبعد أن يحقق المسلمون فيما بينهم معاني وحدة العقيدة والمنهج والرسالة، ويعودوا إلى ما فرضه الإسلام على أبنائه حين جعل الوحدة معنى من معانى الإيمان. والمطلوب أن يدرك المسلمون أهمية ذلك جيدًا، وأن يتمسكوا به، وأن يعملوا على تحقيقه، وأن يطالبوا حكوماتهم بتحقيقه، ثم بعد ذلك تأتي الوحدة السياسية والإدارية والاقتصادية وغيرها، وستكون ساعتئذ نوعًا من تحصيل الحاصل الذي لا خلاف عليه.
لقد نادى الإخوان المسلمون بضرورة تحقيق الوحدة بين المسلمين وقت أن كان هذا النداء يناقض تيار الفكرة السائدة في العالم قبل أكثر من نصف قرن، فكرة التعصب للأجناس والألوان، وارتفاع شأن الدولة القومية، فكيف وقد أخذت اليوم الحواجز بين الدول والشعوب في الذوبان حتى كاد العالم أن يصبح قرية واحدة صغيرة، وبعد أن عادت الشعوب تتنازل طواعيةً عن استقلالية دولها في سبيل الاندماج في كيانات كبيرة قوية؟
ولا تعني الوحدة بين المسلمين إنكارَ الفوارق الناشئة جراء اختلاف البيئات والثقافات والتأثيرات الإقليمية، إذ ستظل لكل شعبٍ قوميته الخاصة به، ولكننا نعيد القول بأن الوحدة المنشودة أولاً هي وحدة العقيدة والمنهج والرسالة، وهذه لا خلاف عليها بين المسلمين، فهي مرتبطة ب الإسلام، الدين الخالص الكامل الذي ارتضاه الله عز وجل للمسلمين ولا يقبل منهم سواه ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران:85).
بل إنالإخوان المسلمين ينادون بالوحدة العالمية التي تشمل العالم كله؛ لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه، ومعنى قوله تبارك وتعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:107).
إن على المسلمين أن يتخذوا من إيمانهم وتسليمهم بأركان الإسلام الخمسة والمُجمع عليها، والتي لا يتم الدين إلا بالإقرار بها- منطلقًا لتحقيق الوحدة بينهم، وعلى العلماء واجب مهم وحيوي في التأكيد على معاني الوحدة وارتباطها بالإيمان وتذكير الشعوب الإسلامية بقضاياها المشتركة، ومصيرها الواحد حتى تتولد الرغبة الشعبية المستجيبة لأمر الله تعالى، ولما افترضه الإسلام على أبنائه، وليعلم الجميع أن وحدة المسلمين هي طريقهم إلى تحقيق النهضة الشاملة المطلوبة، ومواجهة التحديات وإحباط مخططات الأعداء، حتى يتسنى للأمة الإسلامية أن تقوم برسالتها بين العالمين ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ (آل عمران: من الآية110)، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية143)،