مصطفي صادق الرافعي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٢:٠٠، ٢٧ سبتمبر ٢٠١٢ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات) (←‏نشأته وحياته)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مصطفي صادق الرافعي (1880- 1937)

موقع إخوان ويكي (ويكيبيديا الإخوان المسلمين)

تمهيد

مصطفى صادق الرافعي

لا شك أن فلسفة التجديد والإحياء والبعث ، ليست قاصرة علي علماء الدين فقط ، بل تنسحب إلي كل العلوم ، التجريبية والعلمية والأدبية والشرعية .

ومرادنا بالتجديد هنا بعث وإحياء التراث الذي ينفع الحاضر الممزوج بالمعاصرة ، أي المزج بين الأصالة والمعاصرة ، فهذه هي مهمة المجددين في كل زمان .

والتجديد في الكتابة والأدب من نثر وشعر لا يقل أهمية عن التجديد فقي الدين ، لأن اللغة العربية هي لغة القرآن ، ومن خلالها ومن خلال عرضها والعمل فيها ، وإحياء عيونها وزبدها ودررها ، من خلال ذلك يتم فهم النص الإلهي ، ويمكننا القول أنه إذا كان الإمام البنا قد عُدّ علي رأس المجددين في القرن العشرين ، في عالم الدعوة إلي الله ، فإن معاصره العلامة الأديب مصطفي صادق الرافعي قد عُدّ هو الآخر إمام الأئمة ورأس التجديد في المدرسة الأدبية .

وكما يقول العلامة محمد رجب البيومي في مقال له بعنوان "مصطفي صادق الرافعي مدرة الإسلام ، وعبقري البيان" : تستطيع أن تجد لكل أديب شبيها يماثله في السابقين أو المعاصرين ، ولكنك لا تستطيع أن تجد لمصطفي صادق الرافعي في نثره هذا الشبيه ، إذ كان الرجل نسيج وحده دون خلاف .

إذا طلبت للرافعي الناثر شبيها يحاكيه ، فاترك الإنسان إلي غيره من مظاهر الطبيعة لتجد للرافعي ذلك الشبيه المنشود .

هل رأيت الرعد المجلجل ، الذي يأخذ عليك سمعك وشعورك حين يدوي في الفضاء ؟ هكذا يكون الرافعي ، حين يزأر غاضبا لحرمة تُنتهك ، أو معصية تُذاع .

هل رأيت الزلزال المدمر ، يبعث اللهب ، ويرمي بالشواظ ؟! هكذا يكون الرافعي ، حين يقف أمام أعداء الإسلام ، ليرجمهم بالنقد القاتل ، ويسحقهم بالصاعق المُبيد .

ثم هل رأيت النسيم الهادئ ، يرف علي الروض الزاهر ، فيحمل عبيره الفوَّاح إلي النفوس ، يشرح به الصدور ، ويُمتع به الأحاسيس ؟ هكذا يكون الرافعي ، إذا رقّ في عتاب ، أو عذب في مناجاة ، أو حنّ إلي غائب حبيب . ثم هل رأيت النمير العذب يترقرق به الجدول الصافي ، فنهل منه شرابا لذيذ الرشف ، حلو الوقع من اللهاة والصدر ؟ هكذا يكون الرافعي ، إذا روي حديثا عن السلف الصالح ، يفيض بالعبرة الواعظة ، ويدعو إلي القدوة الحسنة ، عن هدي وإيمان .

هذه هي أشباه الرافعي ، حين تتطلب الشبيه في دنيا النثر والناثرين .

لقد آمن الرافعي برسالته في الحياة كداعية له مذهبه الهادي إلي الصراط المستقيم ، فأصبح مدرة الإسلام ، يكافح ألداءه ، ويناوئ أعداءه ، ويدعو إلي التي هي أقوم .

وإن من أعظم خوارق الرافعي البيانية : أن يتكلم في حادثة تعرفها تمام المعرفة –إذا قرأتها مرات عدة في كتب التاريخ- ثم تطالع ما كتب الرافعي في هذا المجال الذائع ، فلا تجد غير الطريف الجديد ، حتى لكأنك تقرأ عن موضوع لم تسمع به قبل الآن .

أتعرف موضوعا أشهر من موضوع الإسراء والمعراج علي سبيل المثال ، فاستحضر إذن كل ما سمعت وقرأت عنه، ثم اقرأ ما كتبه مصطفي صادق الرافعي في هذا الموضوع :

"لقد حار المفسرون في قوله تعالي ﴿سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير﴾ ، فإن السري في لغة العرب لا يكون إلا ليلا ، والحكمة في ذكر كلمة "الليل" هي الإشارة إلي أن القصة قصة النجم الإنساني العظيم ، الذي تحول من إنسانيته إلي نوره السماوي في هذه المعجزة ، ويتمم هذه العجيبة أن آيات المعراج لم تأت إلا في سورة النجم .

وأنا ما يكاد ينقضي عجبي من قوله تعالي "لنريه من آياتنا" مع أن الألفاظ كما تري مكشوفة واضحة ، يخيل إليك أن ليس وراءها شيء ، ووراءها السر الأكبر ، فإنها بهذه العبارة نص علي إشراف النبي صلي الله عليه وسلم فوق الزمان والمكان ، يري بغير حجاب الحواس ، مما مرجعه إلي قدرة الله لا إلي قدرة نفسه ، بخلاف ما لو كانت العبارة : ليري من آياتنا ، فإن هذا يجعله لنفسه في حدود قوتها وحواسها وزمانها ومكانها ، فيضطرب الكلام ويتطرق إليه الاعتراض ، ولا تكون ثم معجزة وتحويل فعل الرؤية من صيغة كما رأيت ، هو بعينه تحويل الرائي من شكل إلي شكل ، كما ستعرفه وهي معجزة أخري يسجد لها العقل ، فتبارك الله مُنزل هذا الكلام .

وإذا كان النبي نجما إنسانيا في نوره ، فلن يأتي هذا إلا من غلبة روحانيته علي مادته ومتى غلبت روحانيته كانت قواه النفسية مهيأة في الدنيا لمثل حالته في الأخري ، فهو في هذه المعجزة أشبه بالهواء المتحرك فقل لي : أيعترض علي الهواء إذا ارتفع أنه لم يرتفع في طيارة !.

ومن ثم كان الإنسان إذا سما درجة واحدة في ثبات قواه الروحية ، سما بها درجات فوق الدنيا وما فيها ، وسخرت له المعاني التي تسخر غيره من الناس ، ونشأت له نواميس أخلاقية غير النواميس التي تسلط بها الأهواء ، ومتى وُجِد الشيء من الأشياء كانت طبائع وجوده هي نواميسه ، فالنار مثلا ، إذا تضرمت أوجدت الاحتراق فيما يحترق ، فإن وضع فيها ما لا يحترق أبطل نواميسه وغلب عليها .

وهكذا يمضي الرافعي رحمه الله في مثل هذا التحليل الخارق حتى يشغل حديث الإسراء والمعراج سبعة أعمدة طِوال ، تشرق بها صفحات الرسالة ، وكلها كما يقول سعد زغلول في بيان الرافعي : "تنزيل من التنزيل ، أو قبس من نور الذكر الحكيم" .

أمامك وحي القلم بأجزائه الثلاثة ، اقرأ فيه ما تناوله الرافعي تحت عناوين "أمراء للبيع" و"الأسد" ، و"قصة زواج" ، وما يجري هذا المجري من حوادث التاريخ ، فإنك تجد ما لا تعهد من موضوعات تعرفها جيدا ، وقد ألممت بها في مظانها الكثيرة ، لأن الرافعي يتلقف الخاطرة الصغيرة ، فيطير بها إلي آفاقه الرحيبة ، فإذا هي مرآته الوضيئة شيء آخر غير الذي نعهد ، بل إذا هي إبداعٌ خارق يدهش له العقل ، وينحني له التحليل ، ثم لا يجد القارئ تعليلا لما يفجؤه من خيال الرافعي ، إلا أن الكاتب مبدع فذ من أئمة المبدعين ، وأن الارتقاء إلي أفقه الأعلي يتطلب جناحا قويا يقدر علي التحليق ، فليس كل قارئ بقادر علي أن يرتقي إلي أفق الرافعي .

وكان الرافعي أعلم بنفسه حين قال متحدثا عن صنعة البيان :

إذا قيل الأدب فاعلم أنه لابد معه من البيان ، لأن النفس تخلق فتصور فتحسن الصورة ، وإنما يكون تماما التركيب في معرضه ، وجمال صورته ، ودقة لمحاته ، إذ ينزل البيان من المعنى الذي يلبسه منزلة النضج من الثمرة الحلوة ، إذا كانت الثمرة وحدها قبل النضج شيئا مسمي أو متميزا بنفسه ، فلن تكن بغير النضج شيئا تاما ولا صحيحا ، وما بد من أن تستوفي عمرها الأخضر الذي هو بيانها وبلاغتها ، وهذه مسألة كيفما تناولتها ، فهي هي حتى تمضيها علي هذا الوجه الذي رأيت في الثمرة ونضجها ، فإذا البيان صناعة الجمال في شيء جماله من فائدته ، وفائدته من جماله ، فإذا خلا من هذه الصناعة التحق بغيره ، وعاد بابا من الاستعمال بعد أن كان بابا من التأثير وصار الفرق بين حاليه كالفرق بين الفاكهة إذ هي باب من النبات ، وبين الفاكهة إذ هي باب من الرحيق ، ولهذا كان الأصل في الأدب البيان والأسلوب في جميع الفكر الإنساني ، لأنه كذلك في طبيعة النفس الإنسانية .

علي أن الرافعي قد ظلم بالنسبة إلي سواه لدى مؤرخي الأدب المعاصر ، حيث تعرض إلي حملات ظالمة شنها عليه أعداؤه الكثيرون ، فقد تواطأ خصومُ الفكرة الإسلامية ، وأذناب الدول الاستعمارية ، وأشياع المجون الإباحي علي النيل منه والحط من أدبه إذ كان حربا عليهم جميعا ، يقف حيالهم في طليعة المناضلين عن دين الله ، وتاريخ العروبة ، ومجد الشرق ، وقوف القائد المدجج بالسلاح ، وينادي البراز مؤيدا بالحجة والعقل ، مصاولا بعزيمة المؤمن وهمة المثابر الشامس ، حتى كُتب له النصر في مواطن كثيرة ، تركت جراح مناوئيه تسيل ، وقلوبهم تنغر ، ثم مات الرجل وأصبح جهاده في ذمة التاريخ ، وأدبه في ميزان النقد ، فهبّت فئاتٌ ناقمة تصمه بما هو منه براء ، تشفيا من دائها القديم .

ويكفي الأديب الرافعي أنه ولج ميدان الأدب الذي انحصر أزمانا علي فئام من المتخلعين والمتظرفين كما يقول أحمد أمين في ضحي الإسلام .


نشأته وحياته

  • وُلِدَ "مصطفى صادق الرافعي" في قرية بهتيم إحدى قرى محافظة القليوبية بمصر في يناير عام 1880م لأبوين سوريَّين؛ حيث يتصل نسب أسرة والده بعمر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهم- في نسب طويل من أهل الفضل والكرامة والفقه في الدين .
  • وقد وفد من آل الرافعي إلى مصر طائفة كبيرة اشتغلوا في القضاء على مذهب الإمام الأعظم "أبي حنيفة النعمان"، حتى آل الأمر إلى أن اجتمع منهم في وقت واحدٍ أربعون قاضيًا في مختلف المحاكم المصرية، وأوشكت وظائف القضاء أن تكون حِكرًا عليهم، وقد تنبه اللورد كرومر لذلك، وأثبتها في بعض تقارير إلى وزارة الخارجية البريطانية .
  • أما والد "الرافعي" الشيخ "عبد الرزاق سعيد الرافعي"، فكان رئيسًا للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم المصرية، وقد استقر به المقام رئيسًا لمحكمة طنطا الشرعية، وهناك كانت إقامته حتى وفاته، وفيها درج "مصطفى صادق" وإخوته لا يعرفون غيرها، ولا يبغون عنها حولاً.
  • أما والدته فهي من أسرة الطوخي، وتُدعى "أسماء"، وأصلها من حلب.. سكن أبوها الشيخ "الطوخي" في مصر قبل أن يتصل نسبهم بآل الرافعي، وهي أسرة اشتهر أفرادها بالاشتغال بالتجارة وضروبها، وإلى هذه الأسرة المورقة الفروع ينتمي "مصطفى صادق"، وفي فنائها درج، وعلى الثقافة السائدة لأسرة أهل العلم نشأ؛ فاستمع من أبيه أول ما استمع إلى تعاليم الدين، وجمع القرآن حفظًا وهو دون العاشرة، فلم يدخل المدرسة إلا بعدما جاوز العاشرة بسنة أو اثنتين، وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية وسنه يومئذٍ 17 عامًا أصابه مرض (التيفود) فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثرًا ووقرًا في أذنيه لم يزل يعاني منه حتى فقد حاسة السمع وهو لم يجاوز الثلاثين بعد، وكانت بوادر هذه العلة هي التي صرفته عن إتمام تعليمه بعد الابتدائية، فانقطع إلى مدرسته التي أنشأها لنفسه وأعد برامجها بنفسه؛ فكان هو المعلم والتلميذ، فأكبَّ على مكتبة والده الحافلة التي تجمع نوادر كتب الفقه والدين والعربية؛ فاستوعبها وراح يطلب المزيد، وكانت علته سببًا باعد بينه وبين مخالطة الناس، فكانت مكتبته هي دنياه التي يعيشها وناسها ناسه، وجوها جوه، وأهلها صحبته وخلانه وسُمّاره، وقد ظل على دأبه في القراءة والاطلاع إلى آخر يوم في عمره، يقرأ كل يوم 8 ساعات لا يكل ولا يمل كأنه في التعليم شادٍ لا يرى أنه وصل إلى غاية .

بدايته وانطلاقه

  • بدأ "الرافعي" حياته الأدبية شاعرًا، وكان لا يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، وأخذ ينشر شعره ومقالاته في المجلات التي كانت تصدر آنذاك، وقد أخرج الجزء الأول من ديوانه سنة 1900م، ثم تلاه الجزآن الثاني والثالث، ومن هنا دخل "الرافعي" إلى مجال الشهرة الأدبية؛ إذ تبنى نشر شعره الشيخ "ناصيف اليازجي" في مجلة (الضياء) سنة 1903م .


ثقافته وتأثره بالتراث

مصطفى صادق الرافعي2.gif

على الرغم من أن "الرافعي" درس اللغة الفرنسية في المدرسة الابتدائية إلا أنها لم تجد عليه إلا قليلاً، بل أخذ "الرافعي" ينمي ثقافته بعصاميته كما ذكرنا سابقًا، وقد وضع كتب التراث أساسًا ومحورًا لها بالإضافة إلى بعض القراءات المترجمة، لكن ظل التراث نبعًا ثريًّا ينهل منه حتى إنه استطاع بفضل الله أن يكتب "تاريخ آداب العرب" من وحي ذاكرته التي جمع فيها شتات قراءاته .

وهذا ما أشار إليه الأستاذ "سعد العريان" في مقدمة كتابه (حياة الرافعي): "وهممت أن أسأل "الرافعي"، ولكني لم أفعل، وهممت أن أعرفه بنفسي فلم أبلغ، ثم عزوت ذلك إلى ذاكرة "الرافعي" وسرعة حفظه فقلت متفرقات قد عرفها في سنين متباعدة فوعتها حافظة واعية، وكان مستحيلاً عليه أن يجمعه، لو لم تُجمع له الذاكرة من ذات نفسه .

وهكذا وصل "الرافعي" بعمق ثقافته في التراث إلى أن يكتب كتابًا من ذاكرته، يقع في ثلاثة مجلدات، وما هو إلا توفيق الله له؛ أعانه على أن يبعث أروع الأدب في هذه الأمة من جديد .

ويتضح هذا من خلال قوله لأحدهم: وما أرى أحدًا يفلح في الكتابة والتأليف إلا إذا حكم على نفسه حكمًا نافذًا بالأشغال الشاقة الأدبية، كما تحكم المحاكم بالأشغال الشاقة البدنية، فاحكم على نفسك بالأشغال الشاقة سنتين أو ثلاثًا في سجن الجاحظ أو أدب أبي العلاء المعرى أو غيرهما .

ومن هنا نلمس كيف كان "الرافعي" حريصًا على أن تكون كتب التراث في مقدمة ثقافة الدارسين للغة والآداب؛ حتى يرتكز الأديب على ركن أصيل وتراث زاخر يحميه من كل الأفكار الوافدة التي قد تعصف به وتجعل منه لسانًا للعجمة، كما حدث مع الكثرة ممن انسلخوا من تراثهم وحاولوا أن ينالوا من هذه اللغة ومن أصالتها، وقد وقف الرافعي لأصحاب هذه الدعوات بالمرصاد، وقامت بينه وبينهم معارك أدبية، خاضها "الرافعي" مدافعًا عن العربية والإسلام دفاع المستميت .


سمات أدب الرافعي

نستطيع أن نبين أهم السمات والملامح التي تميز بها أدب "الرافعي" كما يلي:

أولاً: الأصالة الإسلامية

من أولى السمات وأبرزها وأوضحها في آداب "الرافعي" السمة الإسلامية، وهي تتضح منذ نشأته وحتى مماته .
فبيته الذي نشأ فيه غرس فيه الروح الإسلامية، وظل ناشئًا معها محاطًا بها في كل أطوار حياته، ونرى السمة الإسلامية في نقده وثقافته، وفي إبداعه؛ وهو ما يدل على أنه كان يبغي وجه ربه في كتاباته، ومن هنا علَّق على نشيده "ربنا إياك ندعو" فقال: إني أعلق أملاً كبيرًا على غرس هذه المعاني في نفوس النشء المسلم .
فالرجل لم يكتب لشهرة ولا لمال ولا لمنصب؛ وإنما كان الإسلام هو دافعه وموجهه .

ثانيًا: أصالة المعاني والألفاظ

إن من يقرأ أدب "الرافعي ويتمعن في سمو معانيه ودقة ألفاظه يقول: إن هذا الرجل لم يعشْ في القرن العشرين؛ وإنما عاش معاصرًا للجاحظ وابن المقفع وبديع الزمان، والدليل على ذلك أنه ما وُجد أديب معاصر له قارب أسلوبه أو لغته أو فنه، وكان هذا دافعًا لوجود أعداء كثيرين له، بل لقد عاداه الكثير من أدباء عصره حيًّا وميتًا، ولم يذهب واحد من خصومه معزيًا أهله في وفاته، إلا رجل واحد كتب برقية إلى ولده؛ هو الدكتور طه حسين .

ثالثًا: القوة في الحق

القوة في الحق سمة بارزة في أدب "الرافعي" وفي كتاباته ، فبرغم أن "العقاد" قال عنه يومًا: "إنه ليتفتق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما يتفتق مثله لكاتب من كتاب العربية في صدر أيامها"، إلا أن هذا لم يُغفر للعقاد أن يتناوله "الرافعي" بنقد شديد فيما بعد؛ حرصًا منه على فكرته، كما أننا لم نجد في كتاباته مداهنة لأحد ولا خوفًا من أحد، لقد كان العقاد كاتب الوفد الأول، إلا أن "الرافعي" لم يهبه، وكان "عبد الله عفيفي" شاعر الملك، إلا أنه لم يسلم من قلم "الرافعي"، هذه أبرز سمة في أدب "الرافعي" وهي تكفيه .


النقد عند الرافعي

كانت بدايات النقد عند "الرافعي" بعض المقالات التي كان ينشرها في المجلات والجرائد التي كانت تنتشر في عصره، ومن أشهرها: مقال نشره في الجريدة ، يحمل فيه على الجامعة وأساتذتها ومنهج الأدب فيها .

من أبرز نقده (تحت راية القران) و(على السفود)، وقد انتقد "طه حسين" ومنهجه كتاب (الشعر الجاهلي) في كتابه الأول، بينما انتقد العقاد في كتابه الثاني .

كان "الرافعي" ينتقد المعاني والألفاظ من ناحية مستوى تأليفها والابتكار فيها، وينقد التكرار القبيح في الألفاظ والمعاني ، كما كان ينقد اضطراب القوافي وثقل الألفاظ .

كان "الرافعي" عنيفًا على "طه حسين"، كما كان عنيفًا على "العقاد"، وأُخذ عليه بعض العبارات القاسية التي كتبها للعقاد في كتابه (على السفود)، التي كان من الأولى أن يسمو قلم "الرافعي" عنها وعن الخوض فيها، ولنقترب أكثر من منهجه في النقد ونقول: كانت للرافعي غيرة واعتداد بالنفس عُرفت من خلال نقده اللاذع ، وكان فيه حرص على اللغة من جهة الحرص على الدين ، وكان يؤمن بذلك ، فكان بذلك ناقدًا حاد اللسان يغار على أدبه منها كما يغار على عرضه ، فكان يضرب كل مَن تطاول عليه، ولا يخشى في الله لومه لائم .

فهو يقول في مقدمة كتابه (تحت راية القرآن)- مبينًا منهجه-: "إننا في هذا الكتاب نعمل على إسقاط فكرة خطرة ، وإذ هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه، فقد تكون غدًا فيمن لا نعرفه ونحن نرد على هذا .

"الرافعي" بهذه الكلمات الموجزة قد حدد منهجه في النقد ببساطة ووضوح ، فهل هناك منهج نقدي أرقى من هذا المنهج ؟!

نخلص إلى أن النقد عند "الرافعي" افترض أصالة الفكرة واللغة عن المبدع والسير حسب الأصول النقدية الصحيحة التي تزرع القارئ عند النقد.. والرافعي في كل هذا إنما ينقد من خلال السمة الإسلامية التي تسيطر عليه .


معارك الرافعي الأدبية

لقد عاش "الرافعي" في عصر كثر فيه أدعياء التجديد ونبذ القديم ، بل وقف الرافعي وحده في الميدان مدافعًا، لا يستند إلا على ربه ، وما وهبه من علم ، فكان يبارز الكثير منهم في ساحة الصحف والمجلات والمطبوعات برغم أنه كان يعيش في طنطا بعيدًا عن أضواء الصحافة والمجلات الكثيرة التي كان يسيطر عليها أمثال هؤلاء ، فكان يعتمد على مرتبه البسيط الذي كان يتقاضاه من المحكمة الأهلية ، التي كان يعمل بها؛ لذلك نجده لم ينافق ولم يراءِ في معاركه، لأن ضميره ودينه يفرضان عليه خوض هذه المعارك .

ومن هنا كانت المعارك التي خاضها "الرافعي" مع "طه حسين" و"عباس العقاد"، و"سلامة موسى" و"زكي مبارك" و"عبد الله عفيفي"، وإن كانت معاركه مع العقاد أشهر هذه المعارك، إلا أن معظمها كانت من منطلق إيمانه بمنهجه وطريقته في الإبداع والنقد، والاحتماء بالتراث العربي الأصيل ..

كما أسس الرافعي بتلك المعارك منهجه النقدي من خلال أبرز كتبه، وهي: تحت راية القرآن ، وعلى السفود .

أما أبرز معارك الرافعي العلمية ، التي يتعين الإشارة إليها بشيء من التفصيل بعد أن أهال عليها الزمن تراب النسيان ، بل إن الكثيرين اليوم لا يحيطون بتفاصيلها.. وبخاصة ما كان بينه وبين كل من الأديبين الراحلين الدكتور "طه حسين" والأستاذ "عباس محمود العقاد" على التوالي .

معركة "الرافعي" مع طه حسين

بدأت المعركة حينما أصدر الرافعي كتابه (تاريخ آداب العرب)، وانتقده طه حسين ، الذي كان لا يزال طالب علم في ذلك الحين في عام 1912م بمقال نشره بالجريدة، مبديًا أنه لم يفهم من هذا الكتاب حرفًا واحدًا .
وأسرها الرافعي في نفسه ، وإن كان "طه حسين" قد عاد بعد ذلك عام 1926م فقال عن ذات الكتاب: إن "الرافعي" قد فطن في كتابه لما يمكن أن يكون عليه تأثير القصص وانتحال الشعر عند القدماء ، كما فطن لأشياء أخرى قيمة .
وبدأت المعركة في الاحتدام حينما أصدر الرافعي كتابه (رسائل الأحزان) واستقبله طه حسين بتقديم شديد ، انتهى فيه للقول: إن كل جملة من هذا الكتاب تبعث في نفسي شعورًا مؤلمًا .
ورد عليه الرافعي بجريدة "السياسي " ساخرًا بقوله: "لقد كتبت رسائل الأحزان في ستة وعشرين يومًا، فاكتب أنت مثلها في ستة وعشرين شهرًا، وأنت فارغ لهذا العمل ، وأنا مشغول بأعمال كثيرة لا تدع لي من النشاط ولا من الوقت إلا قليلاً .. هاأنذا أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها .
واشتدت المعركة وزادت عنفًا حينما أصدر الدكتور "طه حسين" كتابه "الشعر الجاهلي"، وأحدث الضجة المعروفة ، وانبرى الرافعي يندد بما جاء بهذا الكتاب وفنده فصلاً فصلاً ، حتى اجتمع له من ذلك كله كتاب أطلق عليه عنوان (تحت راية القرآن)، الذي كان حديث الناس في تلك الفترة سنة 1926م .

معركة الرافعي مع العقاد

نظرات في ديوان العقاد.jpg
بدأت حينما اتهم "العقادُ الرافعي بأنه واضع رسالة الزعيم سعد زغلول في تقريظ كتاب الرافعي إعجاز القرآن بقوله إن قول "سعد زغلول" عن الكتاب : إنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم . ليروج الكتاب بين القراء .. هذه العبارة من اختراع الرافعي وليست من يراع الزعيم سعد زغلول .
ويدافع الرافعي عن هذا الاتهام بقوله للمرحوم محمد سعيد العريان: وهل تظن أن قوة في الأرض تستطيع أن تسخر سعدًا لقبول ما قال، لولا أن هذا اعتقاده .
وأرجع "الرافعي" السبب في اتهام "العقاد" له إلى أن العقاد كان هو كاتب الوفد الأول ، وأن سعدًا كان قد أطلق عليه لقب جبار القلم، ولا يقبل العقاد منافسًا له في حب سعد وإيثاره له.
وقد أخذت المعركة طابعها العنيف حينما شن "العقاد" حملة شعواء عليه في كتابه الديوان سنة 1921م ، وتناول العقاد فيه أدب الرافعي بحملة شعواء جرده فيها من كل ميزة .. وشمر الرافعي عن ساعده على إثرها وتناول العقاد بسلسلة من المقالات تحت عنوان على السفود بأسلوب حاد كان أقرب إلى الهجاء منه إلى النقد الموضوعي الجاد.. والسفود في اللغة هو الحديدة التى يُشوى بها اللحم ، ويسميها العامة السيخ كما يقول الرافعي في شرح العنوان .
وبعد أن هدأت الخصومة بينهما بسنوات نشر المرحوم الزيات صاحب الرسالة رأي الرافعي الحقيقي في العقاد الذي يشتمل على استنكار الرافعي نفسه للأسلوب الناري الذي اتبعه وفاءً إلى التسامح بعد بضعة عشر عامًا من خمود المعركة على حد تعبير الأستاذ كمال النجمي .
فقد قال الزيات للرافعي وهو يحاوره: يا صاحب (تاريخ آداب العرب) .. هل تستطيع أن تجرد نفسك من ملابسات الخصومة وتجمل لنا رأيك الخالص في العقاد ؟
فأجاب الرافعي: "أقول الحق، أمَّا العقاد أحترمه وأكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره، ولعله أعلم الناس بمكاني في الأدب .. وأحترمه لأنه أديب قد استمسك آداة الأدب وباحث قد استكمل عدة البحث فصَّير عمره على القراءة والكتابة فلا ينفك كتاب وقلم .
حينما اطلع "العقاد" في الرسالة على ما تقدم من رأي الرافعي ، وفي أدبه رد على ذلك بعد رحيل "الرافعي" عن عالمنا بثلاث سنوات بقوله: إني كتبت عن الرافعي مرات أن له أسلوبًا جزلاً، وأن له من بلاغة الإنشاء ما يسلكه في الطبقة الأولى من كتاب العربية المنشئين .

المعركة الثالثة

أما المعركة الثالثة في الأهمية فهي تلك التي قال فيها بعضهم: إن كلام العرب في باب (الحكم) أن عبارة (القتل أنفي للقتل) أبلغ من الآية القرآنية: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة: 179)؛ إذ لم ينم "الرافعي" ليلته، بعد أن لفت الأستاذ الكبير "محمود شاكر" برسالة بتوقيع م.م.ش نظره إلى هذا الأمر بقوله: "ففي عنقك أمانة المسلمين جميعًا، لتكتبن في الرد على هذه الكلمة الكافرة لإظهار وجه الإعجاز في الآية الكريمة ، وأين يكون موقع الكلمة الجاهلية منها ؟"
واستطاع الرافعي ببلاغته أنْ يقوض هذا الزعم من أساسه بمقالاته : (كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة)، التي عدَّد فيها وجوه الإعجاز في الآية الكريمة ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ .


إنتاجه الأدبي والفكري

استطاع الرافعي خلال فترة حياته الأدبية التي تربو على خمس وثلاثين سنة إنتاج مجموعة كبيرة ومهمة من الدواوين ، والكتب أصبحت علامات مميزة في تاريخ الأدب العربي .

دواوينه الشعرية

كان الرافعي شاعرًا مطبوعًا مفلقا بدأ قرض الشعر وهو في العشرين ، وطبع الجزء الأول من ديوانه في عام 1903م، وهو بعد لم يتجاوز الثالثة والعشرين، وقد قدّم له بمقدمة بارعة فصّل فيها معنى الشعر وفنونه ومذاهبه وأوليته، وتألق نجم الرافعي الشاعر بعد الجزء الأول واستطاع بغير عناء أن يلفت نظر أدباء عصره ، واستمر على دأبه فأصدر الجزأين الثاني والثالث من ديوانه، وبعد فترة أصدر ديوان النظرات، ولقي "الرافعي" حفاوة بالغة من علماء العربية وأدبائها قلّ نظيرها، حتى كتب إليه الإمام "محمد عبده" قائلاً: "أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفًا يمحق الباطل، وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل .

كتبه النثرية

قلّ اهتمام "الرافعي" بالشعر عما كان في مبتدئه ؛ وذلك لأن القوالب الشعرية تضيق عن شعوره الذي يعبر عن خلجات نفسه وخطرات قلبه ووحي وجدانه ووثبات فكره ، فنزع إلى النثر محاولاً إعادة الجملة القرآنية إلى مكانها مما يكتب الكتاب والنشء والأدباء ، أيقن أن عليه رسالة يؤديها إلى أدباء جيله ، وأن له غاية هو عليها أقدر ، فجعل هدفه الذي يسعى إليه أن يكون لهذا الدين حارسًا يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال ، وينفخ في هذه اللغة روحًا من روحه، يردّها إلى مكانها ، ويرد عنها ، فلا يجترئ عليها مجترئ ، ولا ينال منها نائل ، ولا يتندر بها ساخر إلا انبرى له يبدد أوهامه ويكشف دخيلته ، فكتب مجموعة من الكتب تعبر عن هذه الأغراض عُدت من عيون الأدب في مطلع هذا القرن، وأهمها:
تحت راية القرآن.jpeg
1- تحت راية القرآن: المعركة بين القديم والجديد: وهو كتاب وقفه- كما يقول- على تبيان غلطات المجددين ، الذين يريدون بأغراضهم وأهوائهم أن يبتلوا الناس في دينهم وأخلاقهم ولغتهم ، وهو في الأصل مجموعة مقالات كان ينشرها في الصحف في أعقاب خلافه مع "طه حسين"، الذي احتل رده على كتاب في الشعر الجاهلي معظم صفحات الكتاب .
2- وحي القلم : وهو مجموعة من مقالاته النقدية والإنشائية المستوحاة من الحياة الاجتماعية المعاصرة ، والقصص ، والتاريخ الإسلامي المتناثرة في العديد من المجلات المصرية المشهورة في مطلع القرن الماضي ، مثل: الرسالة، والمؤيد والبلاغ والمقتطف والسياسة وغيرها .
3- تاريخ آداب العرب: وهو كتاب في ثلاثة أجزاء؛ الأول: في أبواب الأدب ، والرواية ، والرواة ، والشواهد الشعرية ، والثاني : في إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ، وأما الثالث : فقد انتقل "الرافعي" إلى رحمة ربه قبل أن يرى النور؛ فتولى تلميذه محمد سعيد العريان إخراجه ، غير أنه ناقص عن المنهج الذي خطه الرافعي له في مقدمة الجزء الأول .
4- حديث القمر: هو ثاني كتبه النثرية ، وقد أنشأه بعد عودته من رحلة إلى لبنان عام 1912م ، عرف فيها شاعرة من شاعرات لبنان (مي زيادة)، وكان بين قلبيهما حديث طويل ، فلما عاد من رحلته أراد أن يقول ، فكان حديث القمر .
5- كتاب المساكين : وهو كتاب قدّم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني ، وهو فصول شتى ليس له وحدة تربطها سوى أنها صور من الآلام الإنسانية الكثيرة الألوان المتعددة الظلال . وقد أسند الكلام فيه إلى الشيخ "علي"، الذي يصفه الرافعي بأنه : "الجبل الباذخ الأشم في هذه الإنسانية التي يتخبطها الفقر بأذاه ، وقد لقي هذا الكتاب احتفالاً كبيرًا من أهل الأدب، حتى قال عنه أحمد زكي باشا : لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير وهيجو كما للفرنسيين هيجو وجوته كما للألمان جوته .
6- رسائل الأحزان : من روائع الرافعي الثلاثة، التي هي نفحات الحب التي تملكت قلبه وإشراقات روحه، وقد كانت لوعة القطيعة ومرارتها أوحت إليه برسائل الأحزان التي يقول فيها: "هي رسائل الأحزان ، لا لأنها من الحزن جاءت ، ولكن لأنها إلى الأحزان انتهت ، ثم لأنها من لسان كان سلمًا يترجم عن قلب كان حربًا ؛ ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة ، وكان كالحياة ماضيًا إلى قبر .
7- السحاب الأحمر : وقد جاء بعد رسائل الأحزان ، وهو يتمحور حول فلسفة البغض ، وطيش القلب ، ولؤم المرأة .
8- أوراق الورد رسائله ورسائلها: وهو طائفة من خواطر النفس المنثورة في فلسفة الحب والجمال، أنشأه الرافعي ليصف حالةً من حالاته ، ويثبت تاريخًا من تاريخه .. كانت رسائل يناجي بها محبوبته في خلوته ، ويتحدث بها إلى نفسه ، أو يبعث بها إلى خيالها في غفوة المنى ، ويترسل بها إلى طيفها في جلوة الأحلام .
9- على السفود : وهو كتاب لم يكتب عليه اسم الرافعي ؛ وإنما رمز إليه بعبارة إمام من أئمة الأدب العربي ، وهو عبارة عن مجموعة مقالات في نقد بعض نتاج العقاد الأدبي .


مكانة الرافعي

حاول الكثيرون ممن لهم مصالح في انسلاخ الأمة العربية من جلدها إهالة التراب على هذا الرجل وعلى أدبه ؛ لأنه آثر الأصالة والإسلام والمروءة، ولأنه لم ينافق في أدبه ولم يداهن ، ولم يبتغ إلا ارتقاء هذا الدين واللغة التي أنزل بها .


قراءة في أسلوب الرافعي وبنيته الثقافية والتركيبية

يقول الدكتور عادل باناعمة: ذكرتُ من قبل أن الرافعي نشأ نشأة علمية أدبية ؛ إذ حفظ القرآن و هو دون العـاشرة ، ثم أخذ عن أبيه علما كثيرا في الفقه و الحديث و الأصول و غيرها من العلوم الدينية .

ولم يكتف الرافعي بما حصل عن أبيه شفاها ، بل عكف على مكتبته يعب من نهرها المتدفق ما وسعه ذلك ، ثم أدمن النظر كذلك في مكتبة الشيخ القصبي و مكتبة الجامع الأحمدي في طنطا ، وكانت له جولات مع كتب الحديث و الأدب شعرا و نثرا ، حتى لقد حفظ نهج البلاغة و هو دون العشرين ، حفظه في القطار بين طنطا وطلخا ذاهبا إلى وظيفته و آيبا منها . وكان يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة .

بل ذكر العريان أن الرافعي احتاج مرة أن يعبر عن معنى في أسلوب من أسلوبه فتأبى عليه القول ؛ فأخذ يغمغم برهة ، فإذا هو يقرأ لنفسه من ذاكرته بابا من كتاب المخصص لابن سيده !!

وكان إلى ذلك بصيرا بدقائق النحو و خواص التراكيب و فروق اللغات .

ولم تكن تلك الثقافة التراثية هي كل حظ الرافعي ، بل كان له بصر بما جد من علوم إنسانية لدى الغرب ، وقد عرف الفرنسية معرفة حسنة ، وقرأ بها عدة سنوات بعض ما اتفق له من كتب العلم و الأدب .

ومما قاله في معرض رده على سلامة موسى: " كذب سلامة في زعمه أني لا أعرف لغة أجنبية ، فأنا أعرف الفرنسية و أستطيع الترجمة منها ، وحكى البدري عن زينب ابنة الرافعي أن أباها كان يتخذ عصر كل يوم مجلسا يراجع فيه المعْلمة الفرنسية مستعينا بمعاجم فرنسية و عربية ، وذكر أنه وجد بين أوراقه قطعة من صحيفة فرنسية و قد جرى فيها قلم الرافعي بخط فرنسي بادي الجمال و الوضوح .

والناظر إلى ما كان يوصي الرافعي تلميذه أبا رية بقراءته يجزم بسعة اطلاع هذا الأديب و تمكنه من الآداب الغربية ، و لا يقف الأمر عند معرفته أسماء الكتب ، بل نجده إذ يناقش خصومه يعرض للحديث عن آداب اللغات الأوروبية كأنه لم يكن يفوته منها شيء أحضر أو ترجم .

وهكذا نرى أن الرافعي يتكئ في ثقافته على التراث العربي الإسلامي ، و أنه إلى ذلك أحاط خبرا بما لدى الآخرين ، ولكنها الإحاطة التي لا تفضي إلى الذوبان و التبعية ، و إنما هي الإحاطة التي تمنح العقل قوة و طاقة و عافية يعود بها إلى تراثه أوفر ما يكون نشاطا ، و أحد ما يكون بصيرة .

ومن خلال هذه البنية الثقافية نستطيع أن نتلمس المؤثرات في أسلوبه و لغته ، فأول ذلك كتاب الله عز وجل و حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم . و أدل شيء على تأثير لغة الكتاب العزيز والحديث الشريف على لغته ما ذكره كاتب في مجلة أمريكية من أن الرافعي لو ترك ( الجملة القرآنية ) والحديث الشريف و نزع إلى غيرهما لكان ذلك أجدى عليه ولملأ الدهر .

وثاني هذه المؤثرات ما حفظه من تراث العرب ، و بيان فصحائهم ، وقد سبق أن ذكرنا حفظه لنهج البلاغة و فصول من المخصص ، و كثرة قراءته في كتب الجاحظ وابن المقفع و أبي الفرج ، وقد قال ابن خلدون رحمه الله ‍: و على قدر جودة المحفوظ ، وطبقته في جنسه ، و كثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ … ثم تكون جودة الاستعمال من بعده ، ثم إجادة الملكة من بعدهما لأن الطبع إنما ينسج على منوالها .

وثم مؤثر ثالث هو قراءته الواسعة في شتى فنون الثقافة الإسلامية ، ونحن نعلم أن لغة كثير من المصنفين من فقهاء أو محدِّثين أو مؤرخين أو غيرهم لم تكن محل ثقة عند نَقَدة الاستعمال اللغوي ، وحسبك أن الأصمعي قد خطأ سيبويه و أبا عبيدة و الأخفش . وقد ظهرت في كتابة الرافعي أساليب تأثر فيها بلغة هؤلاء المصنفين .

أما رابع المؤثرات فهو ما ولع به الرافعي من النظر في الكتب المترجمة ؛ فقد تسللت إليه بعض عبارات التراجمة ، واستعملها من غير أن يفطن إلى ما وراءها ، على الرغم من شدة حساسيته ، وصارت جملته من أجل ذلك في نظر البعض تشبه الجملة المترجمة أحيانا لفرط تحررها من الأنماط القديمة ، و أحسب أنه تأثر كذلك بما كان يقرؤه من الفرنسية مباشرة .


مذهبه في الكتابة

تحكم مذهب الرافعي في الكتابة أصول نظرية آمن بها و اتخذها نبراسا ، ثم بني عليها فنه و أدبه . ولعلي أشير هنا إلى نصوص من أقواله ترسم لنا ملامح هذه الأصول:

1- إن كلمةً قرأتها لفكتور هوجو كان لها أثر في الأسلوب الأدبي الذي اصطنعته لنفسي ، قال لي الأستاذ فرح أنطون مرة : إن لهوجو تعبيرا جميلا يعجب به الفرنسيون كل الإعجاب وهو قوله يصف السماء ذات صباح : و أصبحت السماء صافية كأنما غسلتها الملائكة بالليل . و أعجبتني بساطة التعبير و سهولة المعنى ؛ فكان ذلك حذوي من بعد في الإنشاء .
2- لعل غموض بعض الفلاسفة و بعض الشعراء هو من دليل الطبيعة على أنهم زائدون في الطبيعة.
3- إن مذاهب العرب واسعة ، و لنا ما لهم من التصرف في الاستعمال إذا لم نخرج عن قاعدتهم ، و قد يزيد الإنسان حرفا لاستقامة الأسلوب ، و إن خالف نقل اللغةِ ، كما يزيد العرب و يحذفون من أمثال ذلك ، وهو كثير في كلامهم ، والقرآن أبلغ شاهد عليـه ، فدعنا من هذا و مثله ، وأعتقد أن مذاهب العرب ليست بالضيق الذي يتصورونه .
4- لا قيمة لكاتب لا يضع في اللغة أوضاعا جديدة . "رسائل الرافعي" .
5- لا نقول : هذه العربية كاملة في مفرداتها ، و لا إنه ليس لنا أن نتصرف فيها تصرف أهلها .
وإن القول بأن هذه فصيحة ، وهذه مولدة قد مضى زمنه ؛ فإنما الباعث عليه قرب عهد الرواة من فصحاء العرب في الصدر الأول ، ثم تقليد علماء اللغة المتأخرين لأولئك الرواة تحقيقا بشروط هذا العلم الذي يحملونه ، إذا كنا في كل كلمة نقول : نص الجوهري ، و ابن مكرم و المجد ، و فلان وفلان ، و نغفل عما وراء ذلك مما تنص عليه طبيعة اللغة من أوزانها و قواعدها ، و طرق الوضع والاستعمال فيها ؛ فما نحن بأهل هذه اللغة ، و لا بالقائمين عليها ، و لا هي لغة عصرنا .
6- إن الخاصية في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها ، و لكـن في تركيب ألفاظـها .
7- الكاتب العلمي تمر اللغة منه في ذاكرة و تخرج كما دخلت عليها طابع واضعيها ، و لكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع و تخرج عليها طابعه هو .
8- ما أرى أحدا يفلح في الكتابة و التأليف إلا إذا حكم على نفسه حكما نافذا بالأشغال الشاقة الأدبية كما تحكم المحاكم بالأشغال الشاقة البدنية .
9- يريدون فوق ذلك أن يطرحوا عنا كَدَّ الصناعة ؛ لتكون خاتمة عجائبنا في هذا الجيل صناعة بلا كدٍّ .

إن هذه النصوص ترسم ملامح المذهب الكتابي الذي يرتضيه الرافعي ، وهو مذهب يقوم على الأصول التالية :

1- بساطة التعبير و وضوح المعنى .
2- التوسعُ في مذاهب العربية ، و عدم الاقتصار على تقليد أساليب الأوائل ، والتجديدُ الدائمُ في ألفاظها و أساليبها ، على أن يكون ذلك وَفق طبيعة اللغة و أوزانها وقواعدها .
3- العناية بالتراكيب أكثر من العناية بالألفاظ ، و مراعاة تناسبها و موسيقاها .
4- تميز الأديب في أسلوبه ، و أن تكون عباراته عليها طابعه هو .
5- الكدّ و الاجتهاد في الكتابة ، و معاودة النظر و التنقيح ، و إنكار مذهب السهولة و الاسترسال فيها .

و كل هذه الملامح ظاهرة فيما كتب الرافعي إلا ما ذكره من بساطة التعبير ووضوح المعنى ، فإن هذا لا يسلَّم له في كل ما جاء به ، فقد كان الرافعي نتيجة لتتبعه دقائق المعاني و إغراقه في المجاز ، وتوليده المعنى من المعنى ، و الفكرة من الفكرة ، يغرق أحيانا في الغموض حتى لا تكاد تدرك مراده و مبتغاه ، وقد تنبه الأدباء لمثل هذا الغموض في أسلوبـه ، و استغله خصومه للطعن عليه والزراية به ، حتى لقد قال طه حسين عن كتابه ( حديث القمر ) : اللهم إني أشهد أني لا أفهم شيئا … ومهما يكن من شيء فإن الذين يريدون أن يروضوا أنفسهم على الطلاسم ، واقتحام الصعاب ، وتجشم العظائم من الأمور يستطيعون أن يجدوا في كتاب الرافــعي ما يريدون ! .

ورأى آخرون من أنصار الرافعي أن هذا الغموض إنما هو من تحريه صفة الشعر و البيان .

ونعَتَه صدّيق شيبوب بروعة الغامض ، و شبهه بالأديب الفرنسي ( موريس باريس ) ، وقال العريان : و من هذا الكتاب ـ يعني حديث القمر ـ كانت أول التهمة للرافعي بالغموض والإبهام واستغلاق المعنى عند فريق من المتأدبين ، و منه كان أول زادي و زاد فريق كبير من القراء الذي نشؤوا على غرار في الأدب لا يعرفه ناشئة المتأدبين اليوم .

على أن الرافعي حين كتب في الرسالة ، وصار له جمهور ، تبسط في أسلوبه ، و مال إلى الوضوح ؛ إذ كان من قبل يكتب لنفسه ، و إرضاء لفنه ، غير عابئ بوضوح المعنى لدى قارئه ، إذا كان هو يراه واضحا في نفسه ، فلما أدرك حق قرائه عليه تخفف من ذلك الغموض ، ومن هنا ظهر الفرق بين كتابه : (وحي القلم) و بين غيره من كتبه .

ويحسن هنا أن ننقل كلمة للزيات حاول بها أن يفسر شِيَةَ الغموض التي تعرو بعض ما كتب الرافعي ، قال رحمه الله ‍: كان يحمل الفكرة في ذهنه أياما يعاودها في خلالها الساعة بعد الساعة بالتقليب و التنقيب و الملاحظة و التأمل ، حتى تتشعب في خياله وتتكاثر في خاطره ، و يكون هو لكثرة النظر والإجالة قد سما في فهمها على الذكاء المألوف ، فإذا أراد أن يعطيها الصورة ويكسوها اللفظ ، جلاها على الوضع الماثل في ذهنه ، وأداها بالإيجاز الغالب على فنه ، فتأتي في بعض المواضع غامضة ملتوية وهو يحسبها واضحة في نفسك وضوحها في نفسه .

توسع الرافعي كثيرا في مذاهب بناء الجملة ، و لو أراد أحد " أن يتتبع ما أجدّ الرافعيُّ على العربية من أساليب القول لأخرج قاموسا من التعبير الجميل يعجز عن أن يجد مثله لكاتب من كتاب العربية الأولين ؛ فمن ذلك قوله : شيطان ليطان و سهلا مهلا على الإتباع ، واختراعه كلمة (أما قبل)[39] ، و إيثاره : آخر أربع مرات في مقابل : رابع مرة ، وإدخاله حرفا على حرف من نحو قوله : في هل ، و استخدامه كلماتٍ ينازعه في فصاحتها غيره مثل : اكتشف ، و الزهور ، والورود ، و تجويزه النسبة إلى الأخلاق ، وذهابه إلى قياسية التضمين . و سوف يظهر لنا من خلال التحليل النحوي للمستويات التركيبية في الجملة الرافعية أن له تراكيب كثيرة يرفضها الأصل النحوي ؛ فمنها ما يتأتى تخريجه بتأويل و نحوه ، و منها ما لا يكاد يستطيع أحد إخراجه من دائرة الخطأ ، وكل ذلك مرده إلى جرأته و توسعه .

و تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الجرأة و هذا الاقتحام مما لا يكاد يخلو منه أديب فذّ خلال تاريخ العربية الطويل ، و أنا أنقل هنا كلمة لابن جني (رحمه الله !) تبسط وجه العذر في ذلك ، و تبين مأتاه ، قال (رحمه الله !) و هو يتحدث عن الضرورات و إقدام الشاعر عليها : " فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها وانخراق الأصول بها ، فاعلم أن ذلك على ما جَشِمَه منه و إن دلَّ من وجه على جوره و تعسفه ، فإنه من وجه آخر مؤذن بصِيالِهِ و تخمُّطه ، وليس بقاطع دليل على ضعف لغته ، و لا قصوره عن اختيار الوجه الناطق بفصاحته ، بل مثَلُه في ذلك عندي مثل مُجْري الجَموح بلا لجام ، ووارد الحرب الضروس حاسرا من غير احتشام ، فهو وإن كان ملوما في عنفه وتهالكه ، فإنه مشهود له بشجاعته وفيض مُنَّتِه ؛ ألا تراه لا يجهل أن لو تَكَفَّر في سلاحه ، أو أَعْصَم بلجامٍ جوادَه ، لكان أقرب إلى النجاة ، وأبعد عن المَلْحاة ، لكنه جشِم ما جشِمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله ، إدلالا بقوة طبعه ، ودلالة على شهامـة نفسـه .

وأما الملمح الثاني و هو العناية بالتراكيب أكثر من العناية بالألفاظ ، فهو بَيِّنٌ كذلك في كل ما كتب . و قد كان الرافعي رحمه الله يعتدُّ الكتابة هندسة كهندسة البناء سواء بسواء ؛ فكما أن الفرق بين منزل حسن و آخر قبيح إنما هو في تناسب أجزائه ، وتلاؤم أطرافه ، و حسن تخطيطه ، فكذلك الفرق بين كلام حسن و كلام قبيح ، فالألفاظ هي الألفاظ و إنما الشأن في نسقها و إلف بعضها لبعض ، ووقوعِ كلٍّ موقعَه اللائق به . وتأمل قوله : " ههنا خوان في مطعم كمطعم الحاتي مثلا عليه الشواء و الملح والفلفل والكواميخ أصنافا مصنفة ، و آخر في وليمة عرس في قصر وعليه ألوانه وأزهـاره ، ومن فوقه الأشعة ، ومن حوله الأشعة الأخرى من كل مضيئة في القلب بنور وجهها الجميل ، أفترى السهولة كل السهولة إلا في الأول ؟ و هل التعقيد كل التعقيد إلا في الثاني ؟ ولكن أي تعقيد هو ؟ إنه تعقيد فني ليس إلا ؛ ولذلك كانت له عناية واحتفال بموسيقية القول ، حتى ليقف عند بعض الجمل من إنشائه برهة طويلة يحرك بها لسانه حتى يبلغ بها سمعه الباطن ، ثم لا يجد لها موقعا من نفسه فيردها وما بها من عيب ليبدل بها جملة تكون أكثر رنينا و موسيقى .

وتميُّزُ أسلوب الرافعي ، ومباينته لكل أسلوب سواه ، و دلالته على صاحبه ، مما اجتمعت عليه الكلمة ، و لا أعلم أديبا معاصرا حاز من هذه الفضيلة ما حازه الرافعي ؛ فقد كان في الكتّاب طريقة وحده .

وكان يكتب في الصحف مرارا بدون توقيع فينمُّ أسلوبه عليه ، حصل ذلك في مقالات على السفود وغيرها .

وأما تعبه في الكتابة و كدّه فيها فقد بلغ فيه الغاية ، و عرف ذلك عنه ، و دفع ذلك طه حسين إلى أن يقول عن كتاب (رسائل الأحزان) : " إن كل جملة من جمل الكتاب تبعث في نفسك شعورا قويا أن الكاتب يلدها ولادة ، و هو في هذه الولادة يقاسي ما تقاسيه الأم من آلام الوضع .

كان الرافعي رحمه الله يجهد جهده في الكتابة ، و يحمل من همها ما يحمل وكان لا يرحم نفسه إذا حملها على شيء ، و ربما اقتضاه المقال الواحد أن يقرأ مئات الصفحات كما حدث عند كتابته مقالة (البلاغة النبوية) ، فهو لم يتهيأ لكتابتها حتى قرأ صحيح البخاري كله قراءة دارس ، و أنفق في ذلك بضعة عشر يوما ثم كتب الفصل بعد ذلك في ثلاثة أيام . وقل مثل ذلك فيما كتبه عن شوقي و حافظ فهو لم يقدم على ذلك حتى قرأ ديوانيهما قراءة متذوِّقٍ متأمِّلٍ ، وحسبي أن أشير هنا إلى نُتَفٍ من أقواله يصف فيها ما عاناه من نصب في تأليف كتابه أوراق الورد :

1- لأني شديد التعب في هذا الكتاب ، و الكتابة فيه عسرة جدا .
2- أوراق الورد انتهى ، و سأبدأ في التنقيح و التبييض و هو عمل شاق ، و الله المعـين ، و هذا الكتاب تعبت فيه كثيرا .
3- وقد تعبت فيه أشد التعب .
4- لا بد أن أوراق الورد كان طاحونة للأعصاب .
5- كل هذا التخريب العصبي جاء من أوراق الورد و من النزلة الملعونة .

لقد كان الرافعي يأخذ الكتابة مأخذ الجد ، و ما كان يرضى فيها بالسهولة التي تفضي إلى سقوط المبنى و المعنى ، و لم يرض قط أن يشعوذ على قرائه بكلام غير محرر ليملأ به فراغا من صحيفة .

وأما المجاز و إكثاره منه ، فحسبك شاهدا عليه أن تقـرأ كتبه الثلاثة : حديث القمر ورسائل الأحزان والسحاب الأحمر ؛ فإنك لن تعدم فيها فنونا من المجاز متداخلةً آخذا بعضها بحجز بعض ، يُسْلِمُك الواحد منها إلى الآخر . وربما أفضى به التوسع في المجاز ومخاطرته فيه ومداخلة بعضه في بعض إلى درجة من الغموض و التعقيد .


كيف كان يكتب ؟!

ما هي الطقوس التي كان يتبعها الرافعي و هو يمارس الكتابة ، وقد عقد صفيُّه العريانُ فصلا ممتعا كشف فيه عن طريقته رحمه الله ، و خلاصتها : أنه كان يُعمل ذهنُه أبدا في البحث عن موضوعاته ، يستخرجها مما يراه أو يقرؤه ، و من ثم كان يحمل دائما في جيبه ورقات يضمّنها خواطره و أفكاره و عناوين موضوعاته . فإذا اختار موضوعه ترك فكره يعمل فيه ، حتى إذا اجتمع له ما يرضاه أخذ في ترتيب معانيه ، وتنسيق أفكاره ، و حذف فضولها ، و حينئذ يشرع في الصياغة .

وأول ما يعنيه من ذلك بدء الموضوع و خاتمته ، فإذا جاءه من ذلك ما يرضاه ، أخذ أُهْبَتَه للإملاء ، و استعد لذلك بقراءة يسيرة في كتاب لإمام من أئمة البيان كالجاحظ وابن المقفع و نحوهما ، ثم يشرع في إملائه ، وكان إبان ذلك يغلق شرفته ، و لا يأذن بصوت ولا ضوضاء حتى يفرغ مما هو فيه بعد ساعات أربع أو تزيد ، يتخذ خلالها فنجانة أو اثنتين من الشاي و القهوة ، وربما أشعل دخينة أو دخينتين .

فإذا فرغ من إملائه عمد إلى الشرفة يستنشق هواءها ، ثم أوى إلى فراشه ، ثم يكون أول عمله في الصباح بعد صلاة الفجر أن يعود إلى مقاله فيقرؤه و يصححه .


ألبوم صور لبعض مؤلفات الرافعي

ديوان الرافعي.jpg
وحي القلم.jpeg
نظرات في ديوان العقاد.jpg
كتاب المساكين.jpeg
رسائل الأحزان.jpg
حديث القمر.jpg
تحت راية القرآن.jpeg
تاريخ ادب العرب.gif
أوراق الورد.jpg
إعجاز القرآن.Jpg


المراجع

1- النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين ،محمد رجب البيومي، ط/ بيروت .

2- الأعلام للزركلي ، ط/ بيروت .

3- مصطفي صادق الرافعي فارس تحت راية القرآن ، محمد رجب البيومي ، القاهرة .

4- حياة الرافعي ، محمد سعيد العريان ، القاهرة د.ت .

5- رسائل الرافعي .

6- وحي القلم ، الرافعي ، ط/ مكتبة مصر د.ت .

7- تاريخ آداب العرب ، الرافعي .

8- ضحي الإسلام ، أحمد أمين ، ط/ الهيئة المصرية العامة للكتاب .

9- فقه اللغة وسر العربية، لأبي منصور الثعالبي ، ط/ الهيئة العامة للكتاب .

10- تحت راية القرآن ، الرافعي ، ط/ مكتبة مصر د.ت .

11- موقع "ملتقي أهل الحديث" .

12- موقع "أدباء العرب" .

13- مركز الجزيرة للدراسات .