أمين هويدي مع عبد الناصر
وفي حدود ذلك نحدد العلاقة بين القيادتين في الآتي:
- إعلان الحرب وانتهاؤها وإيقاف القتال أو استئنافه من أعمال القيادة السياسية ومعني ذلك أن توجيه الضربة الأولي قرار سياسي لأنها تعني إعلان الحرب.
- للقيادة السياسية الحق في تحديد أغراض ذات أهمية إستراتيجية خاصة ومن الواجب على القيادة العسكرية وضع ذلك في الاعتبار عند وضع الخطط وتوزيع القوات المشكلة بها في العمليات إذ قد ترى القيادة السياسية في ذلك فائدة سياسية أو يمكن اعتبارها ورقة رابحة في أية مفاوضات تالية .
- للقيادة السياسية حق التعيين والعزل للقيادة العسكرية وهذا أم طبيعي يحدث في كل وقت ومكان لأن القيادة العسكرية إذا حاولت تغيير القيادة السياسية فإن هذا يعتبر خيانة عظمي في حالة فشل المحاولة وقد يعتبر ثورة أو انقلابا في حالة نجاح المحاولة فتنشره وسائل الإعلام في صدر أخبارها تماما كما علمونا في الصحافة " إذ عض كلب رجلا لا يعتبر هذا خبرا صحفيا ولكن إذ عض رجل كلبا يعتبر هذا خبر صحفيا."
- للقيادة العسكرية أن تعترض على كل المهام التي تكلف بها أو على بعضها فإذا أصرت القيادة السياسية على المهمة مع استمرار عدم اقتناع القيادة العسكرية عليها أى على القيادة العسكرية أن تترك موقفها لمن يقبل تنفيذ المهمة.ولكن إذا قبلت القيادة العسكرية القيام بالمهمة فإنها تصبح مسئولة عن نتائجها .
- وزير الحربية مسئولة مسئولية كاملة عما يجرى في القوات المسلحة وهو ممثل القيادة السياسية في قمة الجهاز العسكري وعليه أن يقود جهازه ولا يسمح بحدوث العكس . ولذلك فإن الجمع بين منصبي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة إجراء خاطئ وشاذ إذ يسقط رقابة الدولة الواجبة على وحدتها العسكرية ويجعل وزير الحربية ذا القبعتين دون رقابة على أعماله في واقع الحال أقول هذا بالرغم من أنني كنت صاحب اقتراح الجمع بين المسئوليتين وأنا على وشك تركي لمنصبي كوزير للحربية للظروف الاستثنائية التي كانت سائدة كإجراء مؤقت يتناسب مع موقف معين ولكن استمرار هذا الوضع فيه خطورة أكيدة من "خروج" المؤسسة العسكرية عن إطارها المفروض أن تعمل داخله .
- القيادة العسكرية خاضعة لرقابة الدولة من خلال مناقشة سياستها في المجالس المتخصصة أو في مجلس الوزراء وفي المجالس النيابية بل وفي الصحافة كما يجب أن تخضع مصروفاتها لرقابة الأجهزة المختصة في الدولة شأنها في ذلك شأن الأجهزة الأخرى بغض النظر عن السرية حتى تتأكد الدولة من الإنفاق السليم الصحيح للموارد المتاحة . مع تفرغ القوات المسلحة لواجباتها دون أن يناط بها واجبات أخرى .
- توفر القيادة السياسية المناخ السياسي الملائم لعمل قواتها المسلحة كما توفر لها الإمكانات المالية اللازمة لتوفير المعدات الملائمة وعليها ألا تتدخل في كيفية قيام القوات المسلحة بتنفيذ المهام الملقاة على عائقها ولكن لا يمنع هذا من إبداء النصح وإعطاء المشورة .
- تتم التعيينات في المناصب العسكرية الكبرى بتصديق وموافقة السياسية إذ يتوقف الأمن القومي للبلاد على حسن اختيار هؤلاء الأفراد ..علاقات واضحة متوازنة كما نرى ولكنه وللأسف الشديد لم تكن مرعية عند التعامل ووسط ذلك أمسكت بتلاببينا حرب 1967 والتي انتهت بالنكسة .
النكسة
لن يكون قصدى ولو للحظة واحدة أن أتحدث عن النكسة وما حدث فيها إذ سبق أن ذكرت تفاصيل ذلك في كتابين صدرا لى وهما:كتاب أضواء على أسباب نكسة 1967 وعلى حرب الاستنزاف في كتاب حروب عبد الناص ولكن كل ما نقصده ذكر بعض الحقائق المتعلقة بالموضوع الذي نحن بصدده والتي قادت إلى الليلة العصبية .
الحقيقة الأولي هي أن القرارات السياسية لم تصدر من خلف ظهر القيادة العسكرية وهنا لابد وأن نفرق بين القائد السياسي والقيادة السياسية فالقائد السياسي هو الرئيس الذي يمارس سلطاته بموجب الشرعية القائمة سواء كانت شرعية ثورية أو شرعية دستورية أما القيادة السياسية فهي المجموعة التي تعاونه في إصدار القرار وفي حالتنا كان القائد السياسي هو عبد الناصر وكانت قيادته السياسية ممثلة في مجلس قيادة الثورة ثم في مجلس الرئاسة ثم أخيرا في اللجنة التنفيذية العليا .
وكذلك الحال مع القائد العسكري وهو "عبد الحكيم عامر" والقيادة العسكرية المتمثلة في القادة الكبار في القوات المسلحة .
وكان عبد الحكيم عامر القائد العسكري ممثلا دائما في القيادة السياسية بصفتيه:نائب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة.وكان يعتبر أقوي الأعضاء من حيث تجميع المسئوليات ومن حيث السلطات.ولا يمكن أن يخطر ببال أحد أن "عامر" كان عاجزا في أى وقت من الأوقات عن الاعتراض على ى قرار .
وهنا يلاحظ ملحوظة هامة ففي الوقت الذي كان "عامر" لا يجد أى عقبات في أن يتواجد في القيادة السياسية فإنه كان في نفس الوقت يمنع القيادة السياسية من ن تباشر سلطاتها داخل القيادة العسكرية ويحول بينها وبين ذلك بكل الوسائل ..
والدليل على أن القيادة العسكرية كانت على علم بكل ما يجرى منذ بداية الأزمة أن خطابا بتاريخ 16 / 5/1967 وجه من الفريق محمد فوزي رئيس هيئة أركان الحرب بناء على أوامر من "عامر" إلى الجنرال "ريكي" قائد قوة الطوارئ الدولية إرسال بسحب قواته فورا من نقط المراقبة على الحدود الشرقية علما بأن هذا الموضوع ليس عسكريا بل كان المفروض أن يتولاه وزير الخارجية المصري وفعلا تولي وزير الخارجية الأمر مع يوثانت السكرتير العام للأمم المتحدة الذي أصدر أوامره بسحب القوات يوم 17 /5/ 1967
وهنا يجب أن نلاحظ كيفية صدور الأوامر داخل القيادة العليا للقوات المسلحة دون دراسة أو ترو لدرجة أنه بعد صدور الخطاب الأول إلى الجنرال ريكي بسحب القوات من الحدود الشرقية رأت القيادة إيقاف توجيه الخطاب إلى المرسل إليه ولكن كان الخطاب قد وصل فعلا إلى الجنرال "ريكي" دون النجاح في الحيلولة دون وصوله.ويلاحظ أيضا تجاوز القيادة العسكرية اختصاصاتها إلى مجالات أخرى الأمر الذي كانت قد اعتادت عليه منذ زمن طويل.
يعني كانت القياد العسكرية تعلم وتنفيذ دون أن تعترض أو تناقش !!!والموضوع الأخطر هو موضوع غلق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية. كان الغلق يعتبر من وجهة نظر إسرائيل بمثابة إعلان الحرب إذ أنها كانت قد أعلنت ثلاث حالات تعني من وجهة نظرها إعلان الحرب ضدها اختراق حدودها وغلق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية وتغيير نظام الحكم في الأردن .
هذا الموضوع ناقشته القيادة السياسية بطريقة سليمة داخل اللجنة التنفيذية العليا ووافق عليه جميع أعضاء اللجنة دون استثناء ولما تساءل السيد صدقي سليمان رئيس الوزراء في ذلك الوقت عن تأثير ذلك على رد فعل إسرائيل رد عامر بحدة "لا يمكن لقواتي التي تمركزت هناك أن ترى العلم الإسرائيلي وهو يمر أمامها"
وصدرت أوامر القيادة العسكرية إلى قائد قوات شرم الشيخ بغلق الخليج دون ذكر تفصيلات مبنية على دراسة ... المشير قال يغلق شرم الشيخ ..والقيادة تبلغ قائد شرم الشيخ بغلق الخليج وانتهي الأمر !! تسبب عن هذه الطريقة "الببغائية" في إعطاء الأوامر تخبط فئد شرم الشيخ وتساؤلاته العديدة ووصلته الأوامر التفصيلية بعد ذلك بأيام !!!
الموضوع إذن نوقش في القيادة السياسية وواقفت عليه دون اعتراض أحد من الأعضاء وبحضور وموافقة القائد العسكري الذي اجتمع مع أعضاء قيادته العسكرية وأعطاهم التعليمات بعد أن كانت القوات قد تمركزت في مواقعها.ووافق الجميع وأصدروا التعليمات دون دراسة أو مناقشة لم يعترض أحد ولم يناقش أحد!!
أقول هذا لأن الجميع بعد ذلك ودون استثناء أخذوا "يتفلسفون" ويتساءلون وينتقدون ويناقشون وكانت المصيبة قد وقعت والكارثة قد حلت فحرب الكلام سهل وأيسر من حرب السلاح!!!
الحوادث التي ذكرناها تعني أن القائد العسكري كان على علم بتفاصيل تطور الأزمة السياسية وكان بدوره يطلع أفراد العسكرية على كل ما يجرى ولم يثبت أن أحد أعترض أو ناقش . ومعني ذلك أيضا أن القيادة العسكرية قبلت التصدي للمهمة ووافقت على تطور الأحداث .
لو أنها اعترضت على ما يجرى أو بعض ما يجرى وأصرت القيادة السياسية على السير في طريقها كان على القيادة العسكرية أو من اعترض منها أن يتنحي ويستقيل ويذهب ويخلي محله لمن يرغب في التصدي والقيام بالمهمة ولكن أما وقد وافقوا جميعا على القيام بالمسئولية فإنهم يتحملون نتائجها وتبعتها .
الحقيقية الثانية: هي أن القيادة العسكرية حركت قواتها إلى سيناء وهي تعلم أن صداما أكيدا سيحدث مع إسرائيل. قيل كلام كثير على أن القيادة السياسية كانت تتخذ خطواتها من باب "التهويش" وأنها لم تكن تتوقع أن قتالا سينشب وأن الأزمة مفتعلة كان يراد بها مجرد الضغط السياسي ..
ولنأخذ هذا على أنه حقيقة مسلمة وإن كان الأمر على خلاف ذلك ونناقشه على هذا الأساس القوات المسلحة بغض النظر عن أهداف القيادة السياسية أصبحت في حالة تأهب كامل وتحركت من أماكنها في القاعدة عبر خطوط المواصلات إلى أماكن تمركزها في الخطوط الدفاعية الأمامية وأصبح بينها وبين العدو في بعض المناطق مسافات لا تتجاوز 2-3 كيلو مترات .
ما هي الترتيبات التي اتخذتها القيادة العسكرية لتأمين قواتها ضد أى إجراء مفاجئ يقوم به العدو خاصة بعد أن أصبحت قاب قوسين و أدني منه؟ ما هي الخطط التي أعدتها لمواجهة أى ظروف عير متوقعة ؟
جائز للقيادة السياسية أن تستخدم قواتها المسلحة كعامل ضغط للحصول على مكاسب سياسية ولكن غير جائز أن تقترب القوات المسلحة من مكمن الخطر وهي غير مستعدة أو غير متأهبة خاصة أمام عدو غادر تصل لأخبار المتوالية عن استعداداته وتجهيزاته .
وعلينا أن نستمر في مجاراة هذا الكلام الذي قيل . ما دخل هذا الغرض السياسي في أن القوات المسلحة لم تخض قتالا بالمعني المفهوم؟ فلاهي هاجمت ولا هي دافعت انسحبت بل كل ما فعلته القيادة لعسكرية أنها انهارت وتفككت وأصبحت غير قادرة عل توجيه قوتها الوجهة السليمة في مواجهة الضربة المتوقعة وليس معقولا أن تلعب القيادة السياسية بالقوات المسلحة حتى لو كان غرضها من وراء ذلك فرضا سياسيا؛
لأن اللعب بالقوات المسلحة كان يمكنها أن تمنع قيام الحرب أصلا لأنها أتقنت استعداداتها وسدت الذغرات الموجودة في تنظيماتها وخططت التخطيط المتكامل لردود فعل ناجحة على أفعال العدو المتوقعة ... أقول لو أن القوات المسلحة قامت بواجباتها فعلا قبل بداية الأزمة فإن العدو المتيقظ كان سيشعر بذلك وما أقدم على ما أقدم عليه لأن مجرد الاستعداد الصادق يمنع العدوان .
بعد مناقشة هذا الغرض علينا بعرض الحقائق الآتية التي تثبت أن القوات المسلحة كنت على يقين من قيام العدوان:
- (1) ففي يوم 14/5/ 1967 عقد المشير عامر مؤتمر في قيادة القوات الجوية حضره قادة أفرع القوات المسلح وكبار القادة وأعطى توجيهاته بناء على ما وصله من معلومات تؤكد وجود حشود كثيفة للقوات الإسرائيلية على الحدود السورية وقد تحدد موقفنا أنه إذا وقع عدوان على سوريا فلابد من تدخل القوات المصرية تنفيذا لاتفاقية الدفاع المشترك بين القاهرة ودمشق ثم أعطي توجهاته لحشد قوات في مسرح سيناء تكون قادرة على الدفاع بل على القيام بأعمال هجومية إذا لزم لأمر .
- ولم يعترض أحد من القيادة العسكرية لأنه لو تم اعتراض لحدثت فرملة "لتوالي" الأحداث بعد ذلك.وفي يوم 15/5 أصدر المشير في مؤتمره الذي عقد في مكتب قائد القوات الجوية والدفاع الجوى برفع درجة الاستعداد لوحدات الدفاع الجوى إلى أعلي درجت الاستعداد كما أصدر توجيهاته بالسيطرة نفس اليوم بدأ مركز القيادة المتقدم في العمل وعين الفريق عبد المحسن ومرتجى قائدا للجبهة
- ولم يعترض أحد ولم يذكر أحد أعضاء القيادة العسكرية شيئا عن عدم استعداد القوات المسلحة أو عجز تدريبها كما حدث بعد وقوع المصيبة على رأسنا بل كثرت التصريحات الصحفية عن مستوى الكفاءة القتالية الهائل للقوات .
- وفي يوم 16/5/1967 صدر قرار سحب قوات الطوارئ الدولية وأضاف المشير إلى قراره توجيهات بأن هذا الإجراء قد يكون مبررا لقيام إسرائيل بعمل عسكري خصوصا بعد ظهور تحركات إسرائيلية في اتجاه حدودنا ثم أضاف المشير بعض التفصيلات إلى الأعمال التعرضية التي ستقوم بها قواته عند بدء القتال.
- بل إذا قرأنا الخطاب المرسل إلى الجنرال ريكي والموقع من رئيس الأركان لوجدنا أهي نص على أنه " أصدر أوامره لقواته لتكون مستعدة لأى عمل ضد إسرائيل في نفس اللحظة التي ترتكب فيها أى عمل عدواني ضد أى دولة عربية وطبقا لهذه الأوامر فإن قواتنا تحشد الآن في سيناء وعلى حدودنا الشرقية ".ومن يطلع على يوميات الحرب يجد المزيد وفي هذا ما يكفي .
- (2) ثم تجد ن شمس بدران وزير الحربية في مقابلته يوم 26/5/1967 لالكسى كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي يصور الموقف كالآتي وكما أنقله من نقاط متفرقة من مذكراتي .
- (أ) أود أن أبلغكم والرفاق أننا في غاية القوة وقادرون على الموقف الحالي تماما ولا تخشوا علينا شيئا .
- (ت) الروح المعنوية عالية جدا فالقوات المسلحة لا تنسي عدوان 1956 وقد زار المشير القوات ووجدنا روح الضباط والجنود عالية لدرجة أننا كمن نلجم الحصان .
- (ث)أن قواتنا موزعة في عدة محاور حتى أن إسرائيل اليوم لا تعرف من أين سيأتيها الهجوم ولذلك سحبت قوات كبيرة من الجبهة السورية إلى جبهة سيناء ومركزتها أمامنا وأصبحت حرية الحركة أمامها محدودة جد وواضح من توزيع قوات إسرائيل وبعثرتها أنها في حيرة .
- (ح) قواتنا في شرم الشيخ قادرة على قرار منع الملاحة الإسرائيلية في الخليج وقادرة على حماية نفسها ولها قاعدة إدارية خلفية وقوات جوية قادرة على عمل ستارة جوية في جميع الأوقات وهذه القاعدة الجوية مؤمنة ضد أى هجوم عليها .
- (ح) قطاع غزة حولناه إلى جذر دفاعية قوية بحيث لا يمكن لإسرائيل أن تحتل أى مدينة منه ولقد صممنا أنه إذا حاولت إسرائيل قطع الطريق بين غزة ورفح فإن هذا معناه الحرب ودخول قواتنا إلى داخل إسرائيل .
- (ز) إسرائيل حتى بعد أسبوع من الاستعداد لن يمكنها عمل شئ ضد قواتنا وإلا ستنال ضربة قاصمة وحتى إذا وجهت جميع قواتها إلى جبهتنا وتركت باقي الجبهات خالية فنحن مستعدون لإسرائيل ومن هم وراء إسرائيل فلا يهمنا أمريكا ولا خلاف أمريكا لأننا أصحاب حق صحيح نحن لسنا في قوة الولايات المتحدة ولكن إذا تدخلوا في المعركة فسوف نتصدى لهم إلى آخر قطرة من دمائنا وهذا ليس كلام حماسي ولكنه تقرر فعلا .
- والحديث يصور الحالة التي كانت تعيشها القيادة العسكرية في وقت الأحداث وأحب أن أؤكد بناء على اتصالاتي الشخصية في ذلك الوقت أن جميع من قابلتهم كانوا تحت شعور الزائدة في دحر إسرائيل ولم يكن حديث شمس بدران هذا إلا انعكاسا واقعيا لشعور القيادة دون استثناء .
- (3) في المؤتمرات التي عقدت بعد ذلك كان الموقف يشير إلى تصعيد خطير علاوة على تأكيد القائد السياسي بأن صداما مسلحا أصبح هو الحل الوحيد للأزمة السياسية القائمة أمام إسرائيل . ففي مؤتمر 25 / 5/ 1967 الذي رأسه عبد الناصر نوقش موضوع الضربة الأولي والضربة الثانية واتخذ قرار بعدم قيامنا بالضربة الأولي . وفي مؤتمر 2/6/ 1967 برئاسة عبد الناصر أيضا حدد الرئيس تقديراته في أن إسرائيل سوف تبدأ عملياتها يوم 5/6/ 1967 وأنه ستبدأ عملياتها بضربة جوية وأنها يتحاول حسم الموقف عسكريا في فترة قصيرة .
- (4) ولم يكن هذا تقدير الرئيس وحده بل كان البعض يتفق مع هذا التقدير . ففي مقابلة لى للفريق مذكور أبو العز محافظ أسوان في ذلك الوقت وكنت أنا وزير الدولة في أوائل يونيو 1967 وقبل العدوان أكد لى مدكور انه يتوقع قيام العدو بضربة جوية كاسحة واتفقت معه في ذلك تماما وكان هذا إلى جانب مزايا عديدة يتمتع بها مدكور سبب في أن أرشحه قائدا للقوات الجوية بعد النكسة وقد وفق الرئيس على الترشيح واستلم فعلا عمله الجديد في 11/ 6/ 1967 على ما أذكر .
- (5) والشئ الغريب حقيقة أن القيادة العسكرية ورغما عن كل ذلك لم تواجه الأمر بما يستحقه من اهتمام ولا هي ترجمت هذه التوقعات أو القرارات إلى خطط عسكرية أو إلى تعديلات في الخطط القائمة بدليل أن "المشير" اختار يوم 5/6/1967 بالذات للقيام بزيارة سيناء وتم القضاء على قواته الجوية الجوية وهو مازال في الجو ومعه قائد القوات الجوية وقائد الدفاع الجوى في نفس الوقت ورئيس هيئة العمليات وفي نفس الوقت كان كل أعضاء القيادة العسكرية في القاهرة في منازلهم يتناولون طعام الإفطار وكانت قيادات سيناء كلها في مطار تمادا في انتظار وصول "المشير "!!! يعني لم يكن هناك عضو واحد من أعضاء القيادة العسكرية في موقعه ليدير المعركة وقت الضربة الجوية ....!!!
ولنا أن نتصور مصير قوات بلا أى قيادة !!! وبعد هذا التفريط يجد البعض الشجاعة بعد ذلك ليتحدث عن عيوب وسلبيات خاصة بعد أن تكدوا أن " المشير " قد انتحر وأن " الرئيس " قد مت وبعد " خراب مالطة" كما يقل . فكانوا بذلك كمن سكت دهرا ونطق كفرا .
والشئ الغريب حقيقة أن القيادة العسكرية لم تحاول أن تغير من الأوضاع القائمة مع تغير الأحداث والظروف بالسرعة الرهيبة التي كانت تتطور بها ولا هي حاولت أن تعيد تقدير موقفها في تلك الفترة . 1- فحينما بلغها من سفيرنا بموسكو يوم 13/5/1967 بالحشود الإسرائيلية ضد سوريا , وحينما بلغها ذلك أيضا من رئيس أركان حرب الجيش السوري اندفعت دون روية إلى حشد قواتها في سيناء دون أن تتحقق في ذلك من مصادر المخابرات المختلفة أو بالقيام بطلعات جوية . بل حينما بلغها نفي لهذه الحشود من سوريا نفسها بعد ذلك بواسطة رئيس الأركان المصري الذي قام بزيارة سوريا للتنسيق لم تحول القيادة العسكرية – كل في اختصاصه – تعديل أوضاع قواتها بما يتناسب مع المعلومات الجديدة . 2- في مقابلة شمس بدران وزير الحربية في ذلك الوقت لأليكسي كوسيجين رئيس الوزراء السوفيتي يوم 26/ 5/ 1967 استمع من الأخير المعلومات التالية والتي حصلت عليها المصادر السوفيتية وسوف أنقلها من مذكراتي الخاصة .. أ- وصلت معلومات اليوم من داخل إسرائيل تفيد بنشاط كبير ويقال إنه في نهاية مايو من الممكن أن تبدأ العمليات العسكرية وأنهم يجهزون عملية لتوجيه الضربة ومن المعروف أنه عندما تنشب العمليات لا يهتم أحد بمن الذي بدأها أولا. ب- بعض الدوائر في إسرائيل ترى أن كل تأجيل لحسم الموقف ليس في صالح إسرائيل وهم يحضرون أنفسهم بمساعدة الولايات المتحدة للقيام بالعدوان ت- سوف يشترك في التجهيز العسكري ليس فقط رئيس الأركان الحالي بل موشى ديان وهم يحفرون خنادق في تل أبيب ويقوون الدفاع الجوى والدعاية تغذي المشاعر والناس مندفعون في حماس للدفع عن وطنهم إلى آخر قطرة . ث - وأضاف رئيس الوزراء السوفيتي بأنهم سيلبون احتياجات القاهرة من السلاح ولكن يجب إلا يساعد هذا على قيام الحرب فقيام الحرب ليس من صالح الجمهورية العربية المتحدة ولا من صالح القوى التقدمية ولابد من التصرف العقل وأن يكون الفكر باردا والمهم ألا نعطي الفرصة للاستفزازات أننا نفضل اللقاء على المائدة بدلا من المعركة الحربية . إن تسليح الاتحاد السوفيتي لمصر وسوريا هو لتدعيم السلام من خلال القوة وهدف هذه المساعدة ألا يحدث اشتباك مسلح وتحريك القوات معناه زيادة التوتر ولا يمكن أن نقول إن تحريك القوت يؤدى إلى تخفيف التوتر . وبالرغم من هذه المعلومات الخطيرة لم تحاول القيادة العسكرية التأكد منها أولا ثم تعديل مواقفها مع التغييرات الجديدة إن وجدت ثانيا . 3- بل حينما قررت القيادة السياسية في مؤتمر 25 /5/ 1967 عدم قيامنا بتوجيه الضربة الأولي وأن علينا قبولها من العدو – وهذا من اختصاص ومسئولية وسلطة القيادة السياسية – لم تحاول القيادة العسكرية ترجمة هذا القرار إلى خطة فعلية بتكثيف دفاعاتها وسحب قواتها الجوية الموجودة في الأمام إلى الخلف وزيادة تيقظها واستعدادها ليل نهار.. بل حينما أبلغت القيادة السياسية في مؤتمر 2/6/ 1967 القيادة العسكرية مجتمعة أن الحرب ستحدث يوم 5/6/ 1967 لم يبلغ ذلك إلى القيادات الأصغر ولم يكن هناك رد فعل لإعادة النظر في التخطيط القائم فلكل ظروف ما يلائمها من إجراءات .
قد يبرر البعض هذا الجمود " ببيروقراطية القائد العسكري " ولكن هذا كلام غير مقبول لأنه علينا أن نتساءل: هل قام المختصون مثلا – وهذا واجبهم – بترجمة التطورات السياسية إلى إجراءات عسكرية تتفق معها ؟ عرضت مثل هذه الخطط والترتيبات على القائد العسكري لمناقشتها واتخاذ القرار المناسب في شأنها ؟ هل قامت الأفرع المختصة بإعادة تقديراتها للموقف حسب التطورات السريعة التي كانت تحدث ؟ هل تنبهت إلى الخطر ؟ هل أنذرت بالكارثة التي أوشكت أن تقع ؟ أسئلة لم يحاول أحد ممن كتبوا وأرخوا أن يجيب عليها أو يتصدى لها . القضية الثالثة : هي أن القيادة العسكرية لم تقاتل بالمعني المفهوم للقتال بل وعلاوة على ذلك فإنها تركت الجيش المفترى عليه دون قيادة أو توجيه وتخلت عن مسئولياتها أثناء القتال الفعلي . ويظهر ذلك جليا ليس فقط من الوقع الذي يعرفه الجميع والذي أدى إلى النكسة بل من الكتب والمقالات والأحاديث التي نشرت على لسان بعض أعضاء القيادة العسكرية ليس فقط بعد النكسة ولكن بعد وفاة " المشير " و" الرئيس " على أساس قاعدة " إن الموتي لا يتكلمون ولا ينسبون ..." ونقتطف مما نشر النقاط الآتية : : " فقد أكد جميعهم أنهم كانوا دون مسئوليات سواء في زمن السلم أو الحرب إذ تركز كل شئ في يد " المشير " و" الوزير " وهذه حقيقة مهنية ومخزية خصوصا إذا كانت تتعلق بالرتب الرفيعة في القوات المسلحة , ولكن السؤال الذي يبقي في حاجة إلى إجابة هو : لم قبلوا هذا الوضع الشائن؟ ألم يعلم أحدهم أن هذا القبول فيه لعب بقدر هذه الأمة وتهديد لأمنها القومي ؟ أسئلة لم يجب أحد عليها حتى الآن. تبادل البعض منهم الاتهامات الثقيلة : الجهالة وعدم المعرفة , قيادات غير مناسبة في أماكن حساسة الصراع على الاختصاصات , الإهمال , التقدم بتقارير كاذبة إلى الرئاسات الأعلى , حجب التقارير عن القيادة السياسية .. كل واحد منهم قدم ورقة إدعاءات ضد الآخر . تحشي الجميع التحدث عن تفاصيل الموضوعات العسكرية المتعلقة بالأزمة وإن تعرض لها البعض في اختصار كامل وفي الوقت نفسه أفاضوا في التحدث عن الجوانب السياسية والشخصية وهذه طريقة غير موضوعية وظالمة لبحث موضوع " النكسة " صحيح لابد لبداية الحوار في مثل هذه الموضوعات أن يحدد الإطار السياسي والظروف المحيطة ولا ولكن وأن يلي ذلك مباشرة بحث الموضوع الرئيسي وهو الناحية العسكرية مثل الموضوعات الآتية : الخطط الموضوعة , تنفيذها إلى واقع على مسرح العمليات المنتظر الجداول الزمنية والتوقيتات التي حددت التنفيذ , تقارير النجاح عن مدى تقدم تنفيذ الخطة في كل فترة معقولة ترجمة القرارات السياسية إلى خطط حربية واجب الإدارات والهيئات والقيادات أثناء الأزمة موقف العدو وإجراءاته, ما هي الإجراءات المضادة بناء على التوقعات المختلفة ؟ كيف أديرت العمليات وقت الضربة الجوية المفاجئة ومن الذي كان يدير المعركة ؟ تقدير الموقف الذي تم بعد تحديد خسائر الضربة الأولي ؟ بها العدو بعملياته الهجومية وفي المقابل ما هو تصورنا للمعركة الدفاعية وكيف كان للدفاع أن يتحرك على طول المسرح وعمقه لمواجهة ذلك ؟ البدائل الموجودة والمتغيرات المنتظرة والتطورات المتوقعة ؟ هل كنا قادرين حقا على توجيه الضربة لأولي التي كثر الحديث عنها ؟ كيف ؟ هل كانوا على علم بالعمليات التفصيلية عن الأغراض التي سيتم التعامل معها ؟ هل تدربوا عليها ؟ هل جهزوا الطيارين ودربوهم على ذلك ؟ طيب, وفي حالة نجاح الضربة الأولي كيف كان يمكن استغلالها بواسطة المجهود الأرضي أو البحري؟ وفي حالة فشلها ما هي الخطة البديلة ؟ ثم إلى أين يكون الانسحاب ؟ وكم ليلة سوف يستغرقها ؟ كيف نعطل العدو ؟ كيف نواجه سيطرة الجوية ؟ هل المعابر على القناة تكفي لا تدفق القوات ؟ وبأى كثافة ؟ وكيف تستخدم الطرق للانسحاب بحيث لا يحدث تزاحم ؟... أبدا لم يحدثنا أحد بذلك ولا بجزء منه . والحقيقة أن القيادة العسكرية لم تفعل شيئا من كل ذلك. فكل ما فعلته كان حشدها قواتها في سيناء بكثافة غير معقولة وبسرعة بها حماقة لدرجة أن بعض وحدات الاحتياطي تحركت بالجلاليب !!! ولدرجة أن الكثيرين استدعوا للالتحاق بوحدات غير وحداتهم وأسندت إليهم واجبات غير واجباتهم تبعا لخطة تعبئة فاشلة غير مدروسة ولا تعبر عن الواقع , هذا ما فعلته القيادة ولا شئ غير ذلك.... فالعدو قام بهجومه صباح 5/6/ 1967 قاصما ظهر قواتنا الجوية ثم صدر أمر بالانسحاب في اليوم الثاني أى بعد 24 ساعة فقط من بداية العمليات ثم بعد ذلك تركت القوات إلى مصيرها المحزن ...!بالله عليكم هل حدث شئ أكثر من ذلك ؟!!! فمئات الطائرات , وآلاف الدبابات والعربات المدرعة وقطع المدفعية ذاتية الحركة والهاونات وآلاف الجنود لم يقاتلوا معركة واحدة لأن القيادة العسكرية عجزت وعن جهالة عن استخدام القوات المتاحة. وتراجع الجنود وضباطهم بغير نظام والعدو يحصدهم بنيرانه الأرضية وقنابله من الجو ووصل من حالفه الحظ إلى الشاطئ الغربي للقناة وبعد ذلك لم يكن أمام الكثيرين من هؤلاء إلا استخدام وسائلهم الخاصة للوصول إلى قراهم التي أحضروهم منها ...!! كلمة مختصرة عن الانسحاب ؟ دار حديث كثير عمن أعطى قرار الانسحاب ؟ والذي أ‘رفه عن يقين هو أن " عامر " هو الذي أعطاه وقد تعرضت لذلك بالتفصيل في كتبي التي تحدثت فيها عن الموضوع ولكن ليست هذه هي القضية, القضية الأساسية – في رأيي – هي كيف تم الانسحاب ؟ ما هي الخطط التفصيلية لأداء هذه العملية ؟ ما هي الخطوط المتتالية التي سيتم إليها الانسحاب ؟ كيف تم السيطرة عليه ؟ أين كان المسئولون وقت ذلك ؟ وما الذي فعلوه ليواجهوا الموقف العصيب الذي وضعوا قواتهم فيه ؟ هذه هي القضية وليست أبدا من الذي أصدر القرار أو صدق عليه ؟ سواء كان عبد الناصر قد صدق عليه أم لم يصدق عليه فإن الموضوع الرئيسي يبقي هو : كيف تمت العملية ؟ فهذا هو السؤال . وللدلالة على عدم خوض القيادة العسكرية أى قتال بالمعني المفهوم نورد الإحصائية التالية للخسائر . ففي الوقت الذي بلغت خسائر أفراد القوات الجوية والدفاع الجوى 4% من القوة للطيارين كانت الخسائر في المعدات 85% وبلغت خسائر أفراد القوات البحرية صفر % وخسائرها في المعدات صفر % أيضا . وبلغت خسائر القوات البرية في الأفراد 17 % من القوة بينما كانت خسائرها في المعدات 85% وبلغت خسائر القوات الجوية من القاذفات الثقيلة 100% والقاذفات الخفيفة 100% أيضا ومن المقاتلات القاذفة والمقاتلة 85% وقد دمرت أغلب الطائرات وهي على الأرض ويا ألف خسارة !! واتضح بعد المعركة أن الفرقة المدرعة التي عدد دباباتها 200 دمر منها 12 دبابة فقط واستشهد فيها 60 فردا أما لـ188 دبابة فقد تركت دون أفراد الأمر الذي يوضح أن 6 % فقط من الأفراد هم الذين التزموا بمعداتهم ...!!! ويا ألف خسارة أيضا ...! وكما نرى كان في يد القيادة العسكرية أسلحة كثيرة جيدة ولكن هذه القيادة لم تكن قادرة على استخدامها بكفاءة فالعبرة ليست بالسلاح أو المعدة ولكن العبرة قبل ذلك بمن هم وراء هذا السلاح وقبل ذلك بالعقل الذي يوجهه ويستخدمه أفضل استخدام لتحقيق النصر ولصيانة الأمن القومي للبلاد . وكان من نتيجة ذلك أنه لم يكن هناك قتال بالمعني المفهوم . كان يمكن أن نناقش المبررات التي ذكرها بعض أعضاء هذه القيادة لو أن معركة دارت أو قتالا حدث أو لو أن القيادة العسكرية ناورت وحاورت وصدت وهجمت وانسحبت وتحملت الضربات المضادة ولكن لم يتم شئ من ذلك. فالقيادة العسكرية خذلت بلادها وقواتها وتسببت في نكسة ثورة بكاملها ضاعت مكاسبها وسط حطام النكسة. ظروف أخرى تمهد لليلة العصيبة
يمكن أن يقال إن الخطوة التمهيدية لهذه الليلة العصيبة تمت يوم 11/ 6/ 1967 وفي مكتب " السيد سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات " دخلت عليه ظهرا في مكتبه والانكسار يثقل أكنافنا من هول ما نحن فيه . العدو على الساحل الشرقي للقناة التي تعطلت فيها الملاحة من جديد . وخسرنا سيناء والضفة الغربية وغزة والقدس والجولان والآلاف من الضباط والجنود يواجهون مصيرهم دون أن يتمكن أحد من تقديم المعونة لهم. والجيش أصبح دون سيطرة عليه وبعض جنوده يهيمون في الشوارع بملابسهم الرثة وعيونهم الزائغة , وحينما يتعبون يلقون بأنفسهم في الحدائق بالمئات . والبعض الآخر استقل القطارات أو وسائل النقل الأخرى إلى بلادهم التي أتوا منها والأعزاء الآخرون يقتلون ويؤسرون في سيناء لقد فقدنا كل شئ .
كان هناك كل من اللواء عماد ثابت والعميد أحمد سيد أحمد نصر وهما من خيرة ضباط القوات المسلحة بوجه وعام وضباط المدرعات بوجه خاص . حضرا ومعهما كنز ثمين . إذ أكدوا أنه في إمكانهما حشد أكثر من 150 دبابة في الضفة الغربية للقناة لصد أى محاولة يقوم بها العدو لعبور القناة في طريقة إلى القاهرة .. مائة وخمسون دبابة !!! قوة كبرى بالنسبة لما كنا فيه . وكتب سامي المعلومات في " النوتة " ليبلغها للرئيس . وانصرف الضابطان ليؤديا واجبهما وسألني " سامي " ما رأيك في هذه القوة التي هبطت علينا من السماء ؟! وكان ردى " قوة إيه يا سامي ؟ كان عندنا آلاف من المدرعات فأين هي ؟ لابد من التغيير ولن يحدث أى تصحيح في ظل الظروف القائمة . لابد من أن يترك المشير القوات المسلحة كخطوة أولي لابد منها أن أردنا مواجهة الهزيمة مواجهة جادة ".
وقام سامي من كرسيه ليقبلني ويؤمن على ما قلت . وانصرفت وأنا مثقل بهمومي .
ونقل " سامي " الحوار إلى عبد الناصر ربما في نفس الوقت والساعة . ولن أحاول أن أكرر تفاصيل معروفة كتب فيها الكثير من قبل ولكنني سأحاول ذكر الجديد من الأحداث التي لمستها بنفسي . في تلك الفترة كان المشير قد تورط في عدة أحداث كبيرة .
1- الحدث الأول : وهو الهزيمة النكراء التي منى بها الجيش على يديه . والشئ الغريب حقيقة أن هذه الهزيمة لم تؤثر في المشير بل أجمع كل من شاهدوه في منزله يوم 7,8 /6 /1967 على أنه كان عاديا لا يظهر عليه أن شعور بالندم و الانزعاج وكن من ضمن من زاروه كثير من الساسة والصحفيين ورجال القوات المسلحة وقد أخبرني الأخ شعراوي جمعة – وكان أحد من زاروه في منزله – أن " المشير نزل وكان زى الورد بعد أن كان قد انتهي لتوه من الاستحمام "!!! 2- الحدث الثاني : وهو التمادى في العدوان على الشرعية القائمة فبعد أن قبل الرجل أن يتنحى يوم 8 / 6 /1967 عن قيادة القوات المسلحة إلا أنه عاد فتشبث بمناصبه حتى لا تفسر استقالته تلك على أنها بسبب الهزيمة العسكرية فقد اتخذ المشير هذا الخط بعد النكسة – وهو خط أن السبب في الهزيمة هو سبب سياسي وليس سببا عسكريا – وتمسك به مساعدوه حتى مماته كان مستشاروه قد أقنعوه بأن بعده عن القوات المسلحة في تلك الفترة معناه فتح الأبواب كلها لاتهامات يحسن تجنبها ولذلك فإن الرجل لم يقبل بأى حل من الأحوال أن يكتفي يتولي منصب نائب رئيس الجمهورية بل تمسك بكل قواه بالمنصب الأهم – خاصة في تلك الفترة - وهو منصب نائب رئيس الجمهورية بل تمسك بكل قواه بالمنصب الأهم – خاصة في تلك الفترة – وهو منصب القائد العام للقوات المسلحة وكسبا للظروف غير المتوقعة بدأ الرجل في تحويل منزله بالجيزة إلى قلعة حقيقية نقل إليها الكثير من الأسلحة والعتاد وكثف قوة الحراسة الموضوعة على منزله بقوات من الشرطة العسكرية بل استدعي – وكما سبق القول – 300 رجل من بلدته بالمنيا لمضاعفة الحراسة ولا شك أن هذا التصرف لم يكن حكيما ولا لائقا ولكنه حدث وكان الخطر الأكبر لهذا العصيان على الشرعية هو الانقسامات التي بدأت تحدث في القوات المسلحة بل وتحركت بعض الوحدات بقيادة ضباطها في مظاهرات صاخبة تهتف بحياة المشير .
وبدأ ولاء الضباط يتزعزع وأصبحت القوات المسلحة حقلا خصب للشائعات بل للاستقطاب . وللدلالة على مقدار الفوضى التي خلقها عصيان " المشير " في المحافظة على الأمن أن أحد الضباط – أثناء إلقاء القبض عليه بناء على تعليمات سابقة بالقرب من منزل المشير بالجيزة وكان من ضمن الضباط المعتصمين هناك – استغاث بزملائه في المنزل فأغاثه خمسة أفراد يرتدون الجلالبيب والعمة ومعهم بنادق آلية . وبدأوا في إطلاق النيران على القوة قاصدين القضاء على أفرادها ثم بدأ إطلاق النيران من داخل منزل " المشير من عدة اتجاهات ثم تحركت أربع عربات جيب من حول منزل المشير لمطاردة القوة في شوارع الجيزة وهي تطلق النيران . ثم تحديا لكل التقاليد والقوانين أمر " المشير " يوم" 21 / 7/ 1967 وبعد أن استقر في منزله بالجيزة بعد تركه منزله بمعسكرات الحلمية بنقل الأسلحة التي كانت موجودة في منزل الحلمية إلى محل إقامته الجديد وللدلالة على مقدار خطورة هذا الإجراء نورد إحصائية دقيقة لما كان يراد نقله من أسلحة وعتاد: 100 بندقية آلية 7,62 مم عديم الارتداد 4 مدفع 82مم عديم الارتداد
4مدفع 90مم 4 رشاش متوسط 7,62 7 رشاش خفيف , 21 مسدسا 9مم 165,000 طلقة عيار 62 , 7 معبأة في 103 صناديق 4500 طلقة عيارس2 كاشفة معبأة في 103 صناديق 92300 طلقة عيار 7,62معبأة في 15 صندوق 100 قنبلة يديوية دفاعية شرقية معبأة في 5 صناديق
125 قنبلة يدوية هجومية إيطالي معبأ في 2 صندوق وفي الوقت نفسه بدأ " المشير في توزيع استقالته التي سبق وقدمه إلى الرئيس في أزمة 1962 والخاصة بتعيينات الضباط من الرتب الكبيرة بتصديق المجلس والسابق الإشارة إليها . وللتاريخ نثبت هذه الاستقالة ومن الملاحظ أن المشير لم يقدمها إلا بغرض الاحراج والضغط بدليل أنه لم يطالب بما ورد فيها حينما حلت الأزمة وأيضا أنه لم يعد للمطالبة بما فيها إلا بعد النكسة عام 1967.
نص الرسالة
عزيزي الرئيس جمال عبد الناصر بعد لسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أرى من الواجب وأيضا الوفاة يقتضيني أن أكتب إليك معبرا عن رأى مخلص رغم لأحداث الأخيرة . فبعد عشر سنين من الثورة وبعدد أكثر من عشرين سنة من الصلة بيني وبينك لا يمكنني أن أتركك وأعتزل الحياة العامة دون أن أبوح لك بما في نفسي كعادتي دائما . إنني أعتقد أن الانسجام والتفاهم بين المجموعة التي تشارك في الحكم أمر ضروري وأوجب من ذلك الثقة المتبادلة بين أفراد هذه المجموعة . وقد وجدت في هذه الفترة الأخيرة أن الأسلوب الغالب هو المناورات السياسية ونوع من التكتيك الحزبي فضلا عما لا أعلمه من أساليب الدس السياسي الذي قد أكون مخطئا في تصوره ولو أن الحوادث كلها والمنطق تدل على ذلك والنتيجة التي وصلنا إليها اليوم خير دليل على هذا التصور فقد استطاع هذا الأسلوب أن يتغلب على ما كنت أعتقده مستحيلا وهو تحطيم صداقتنا وما نتج عن ذلك من أحداث لا داعي لسردها فكلها لا تتفق مع المصلحة العامة في شئ . المهم في الموضوع أنني لا أستطيع بأى حال أن أجارى هذا الأسلوب السياسي لأنني لو فعلت ذلك لتنازلت عن أخلاقي وأنا غير مستعد لذلك بعد أن انقضي نصف عمري . الذي أريد أن أحدثك عنه بخصوص نظام الحكم في المستقبل إنني أعتقد أن التنظيم السياسي القادم ليكون مستمرا وناجحا يجب أن يبني على الانتخابات من القاعدة إلى القمة بما في ذلك اللجنة التنفيذية العليا للإتحاد الاشتراكي وإن أتت اللجان العليا بدون انتخابات حقيقية فستكون نقطة ضعف كبرى في التنظيم الديمقراطي للإتحاد ون ما يجب أن نسعى إليه هو تدعيم الروح الديمقراطية بعد عشر سنوات من الثورة والتي لا أتصور بعد كل هذه الفترة وبعد أن صفي الإقطاع ورأس المال المستغل وبعد أن منحتك الجماهير ثقتها دون تحفظ أن يكون هناك ما نخشاه من ممارسة الديمقراطية بالروح التي كتب بها الميثاق وخصوص أن الملكيات الفردية الباقية والقطاع الخاص لا يشكلان أى خطر على نظام الدولة كما أنه ليس هناك ما يمنع إطلاقا ، تنجسم هذه القطاعات مع النظام الاشتراكي كذلك الأمر بالنسبة للصحافة فيجب أن تكون هناك ضمانات تمكن الناس من كتابة آرائهم وكذلك تمكن رؤساء التحرير والمحررين من الكتابة دون حذف أو تحفظ وقد تكون هذه الضمانات عن طريق اللجنة التنفيذية العليا مثلا أو أى نظام آخر يكفل عدم الخوف من الكتابة وتوهم الكاتب أنه سيطارد أو يقطع رزقه وخصوصا أن الآراء التي ستعالج لن تخرج عن مشاكل الناس والمسائل التنفيذية وبعض المناقشات في التطبيق الاشتراكي وفي هذا فائدة كبيرة لأنه سيعبر عن الآراء التي تدور في خلد المواطنين . دعني وأنا أودعك أن أحدثك عن الحكومة ورأيي فيها قبل كل شئ لا يمكن أن تسير ى حكومة في طريقها الطبيعي وهو الحكم السليم إذا كان نظام الحكم في حد ذاته ممسوخا ومشوها فيجب أولا أن نستفيد من تجارب العالم وحكوماته التي عاشت مئات السنين مستقرة منتظمة دون حاجة لتغيرات شاملة كل فترة قصيرة من الزمن . ففي رأيي أن النظام الطبيعي للحكم يكون كالآتي : إما حكومة رئاسية ويرأس الوزارة فيها رئيس الجمهورية ويكون مسئولا أمام البرلمان مسئولية جماعية مع وزرائه . وبدون الدخول في التفاصيل يمكن أن يكون هناك نائبا للرئيس ويجب أن تكون رئيس للدولة ورئيسا للحكومة أو حكومة برلمانية يرأسها رئيس الجمهورية ويكون رئيس الاتحاد الاشتراكي هو رئيس الوزراء أو ربما يكون رئيس الوزراء ليس رئيسا للإتحاد الاشتراكي ولا أريد أن أدخل أيضا في التفاصيل لكن تكون أيضا مسئولية الوزارة جماعية أمام البرلمان كما ورد في الميثاق . على كل أى من هذه الحلول ووجودك في النظام أو على رأسه على الأصح ضرورة وطنية . أنا لا أقول ذلك مجاملة فهناك كثيرون مستعدون للمجاملة أو الموافقة على رأيكم بمجرد إبدائه ولكن أعتقد أن تصرف غير ذلك سيكون بداية لنهاية لا يمكن معرفة مداها . ودعني أيضا قبل أن أودعك أن أقول لك أن اختلاطك الشخصي بالناس ضروري فإنه يعطي الثقة المتبادلة ويعطي إحساسات متبادلة ويعطي أيضا أفكارا متبادلة . وهذا هو الطريق الطبيعي للارتباط بأفراد شعبنا في المستقبل أما انعزالك التام فإنه سيجعل صور البشر عندك أسطرا على الورق أو أسماء مجردة لا معني لها . وهذا في رأيي لا يمثل الواقع فالعقل والعاطفة من مكونات الإنسان ولا نستطيع أن نفصل بينهما كلية لكن يجب الجمع بينهما في الطريق الصحيح وهذا لا يمكن إلا الاتصال الشخصي . وهذا أيضا هو الطريق الوحيد لإظهار شخصيات قيادية نعتز برأيها دون خوف ولكنها في الوقت نفسه تثق بقيادتها وتحترمها وهذا النوع من الناس أنت في أشد الحاجة إليه بل وبلدنا كلها محتاجة إليه نوع جديد لم يتمكن منه حب المنصب ليسكت على الخطأ ولم تأخذ الأضواء نور بصره فيضحي بكل القيم ليعيش فيها . وأنا أودعك أيضا أرجو من الله ألا يحدث مني أو منك ما يجعل ضميرنا يندم على الإقدام عليه ويجعلنا صغارا في أعين أنفسنا .
ويكفي في رأيي ما حققه أهل السوء حتى الآن فقد نجحوا فيما تمنوا وفيما كانوا يعتبرونه مستحيلا .
لا أريد أن أطيل عليك ولكنى أبديت آرائي لك فيما اعتقده بأنه المصلحة العامة وليكن فراقنا بمعروف كما كانت عشرتنا بالمعروف . والله أسأل أن تتم حياتنا بشرف وكرامة كما بدأناها بشرف وكرامة ورغم كل شئ ورغم كل ما اعلم فإني أدعو لك من قلبي بالتوفيق وأتمني لك الخير وأدعو ربي أن يوفقك في خدمة هذه الأمة ولخيرها والسلام . عبد الحكيم عامر القاهرة في 1/12/1962 وثبت بعد ذلك في التحقيقات أن الذي طبعها هي " زوجته السيدة برلتني عبد الحميد " وقد ضبطت آلة الطباعة في قريتها . وكان يتولى توزيع الاستقالة و التي كتبت في عام 1962 بعض ضباط القوات المسلحة داخل الوحدات وبعض أعضاء مجلس الأمة وهم ما أطلق عليهم " مجموعة المنيا والذين فصلهم السيد أنور السادات الذي كان يرأس المجلس من عضوية المجلس وآخرين . بل أخذ المشير يلجأ إلى وسائل ما كان يجب عليه أن يلجأ إليها مهما كانت الظروف فقد سلم السيد عباس رضوان 5000 جنيه ذهب داخل خمسة أكياس لحفظها طرفه وقد تم ضبط الذهب مدفونا في أرض زراعية " بالحوارنية " دخل حقيبة جلدية وقد تبين نقص الأكياس ولكن تم ضبط الباقي منها في " قرية نزلة السمان " ثم وبعد أن توليت رئاسة المخابرات العامة صباح 26 / 8/ 1967 أعترف لى مدير مكتب السيد صلاح نصر الرئيس السابق للجهاز أن السيد صلاح نصر استلم 60,000 جنيه من المصروفات السرية للجهاز دن إيصال وأنه يحاول منذ أيام أن يقنعه بكتابة الإيصال حتى يدعه ملف المستندات إلا أنه رفض وأضاف المسكين " أودعني السجن لأن خزنتي ناقصة " وقد أبلغنا جهات التحقيق وكانت المخابرات الحربية قائمة به وتم العثور على حقيبتين مدفونتين " بالحورنية " أيضا وبفتحهما تبين أن بهما مبلغ 49, 360 جنيها وكذا عدد 40 رشاش قصير , 5 صناديق ذخيرة, 108 طبنجة وقد اعترف السيد عباس رضوان في التحقيق بأنه استلم المبلغ والأسلحة والذخيرة من السيد صلاح نصر لإخفائها في " الحوارنية " ولكنه لم يتمكن من إعطاء التبريرات المقنعة لاختفاء باقي المبلغ وقدره حوالي 11000 جنيه . كان المشير عامر يريد أن يهدم المعبد على كل من فيه فلم يكفه " النكسة " الثقيلة التي أصاب بها الأعمال العظيمة لثورة يوليو والتي أضاعت وغطت على حلاوة انتصاراتها الكثيرة والكبيرة ولكنه تمادي في أعماله تلك وأخذ يتورط في أعمال أخرى خطيرة.
3- مؤامرة قلب نظام الحكم وتخطيطه للاستيلاء على السلطة والشئ الغريب أن جهازي المخابرات العامة والمخابرات الحربية كان على علم بما يدبر وأبلغت إدارة المخابرات الحربية ما لديها من معلومات للجهات المختصة ولكن المخابرات العامة وكان يتولي رئاستها السيد صلاح نص حتى مساء 25/8/ 1967 لم تبلغ ما لديها من معلومات إلى الجهات المسئولة ويعد هذا التصرف إخلالا كاملا بمسئولية وأمانة المسئولين عن ذلك واستمر هذا التكتم حتى توليت رئاسة الجهاز في 26/8/1967 . فبعد أن قدم المشير استقالته – والذي عاد وسحبها مرة أخرى – بذلت محاولات كثيرة من المحيطين به وبموافقته لإعلان العصيان فقد قاموا بجمع عدد كبير من الضباط لعمل مظاهرة للمطالبة بعودة المشير بل قام ضباط حراسة المشير بمظاهرة عسكرية مسلحة بالعربات المدرعة واتجهوا من الحلمية إلى مبني القيادة العامة للقوات المسلحة . وفي نفس الوقت كان يتم اتصال أعوان المشير بقوات الصاعقة الموجودة في أنشاص في ذلك الوقت وكان يتم استدعاء بعض الضباط لمقابلة المشير ليلا في منزله بالجيزة .
وكان المشير يستقبل علاوة على ذلك بعض المدنيين سرا في منزله ولزيادة سرية هذه المقابلات أمر لمشير بفتح ثغرة في السور الذي يفصل بين المنزل " والمشتل المحاور " وأخذت المقابلات تتم في هذا المشتل كل ليلة وأخذ بعض الضباط يزودون المشير بتقارير عن أوضاع وحداتهم ويتلقون منه الأوامر لنشر الشائعات وتوزيع استقالته السابق الإشارة إليها وفي نفس الوقت لوحظ نقل كميات من الأسلحة والذخيرة من معسكر الحلمية إلى منزل المشير بالجيزة كما لوحظ عدد كبير من الأفراد المدنيين يحملون السلام ويقومون بحراسة منزل المشير ويمنعون الاقتراب منه وقام بعض الضباط المقيمين في منزل المشير بتدريبهم على إطلاق النيران وبذلك أصبح منزل المشير والمنطقة المحيطة به منطقة ممنوعة على سلطات الأمن كما لوحظ تردد أعضاء مجلس الأمة من محافظة المنيا وبعض محافظات الوجه القبلي على منزل المشير وكلف البعض منهم بإثارة مناقشات سياسية بقصد إحداث بلبلة سياسية في نفوس أعضاء مجلس الأمة والشعب ووزع على بعضهم صورة من الاستقالة مع تحريضهم على القيام بنشر أبناء مضللة عن أسباب الهزيمة العسكرية .. لكل هذه الشواهد تم وضع المنطقة كلها تحت المراقبة بواسطة الأجهزة المختصة بل تم عمل كافة الترتيبات الدقيقة لمعرفة كل ما يجرى داخل المنزل في كل وقت وتم تجهيز " رسم كروكي " للمنزل من الداخل والخارج ولكل المنطقة المحيطة بالمنزل تحسبا للظروف وبدأت هذه التجهيزات والترتيبات التي يقوم بها المشير تتبلور في مؤامرة حقيقية لقلب نظام الحكم حدد لتنفيذها يوم 27 / 8/ 1967 وكان الغرض منها الاستيلاء بالقوة على القيادة العامة للقوات المسلحة .
كانت الخطة سوف تتم على مرحلتين : أ- المرحلة الأولي وهي الجانب التمهيدي والدعائي داخل أفراد القوات المسلحة لإحداث بلبلة في الأفكار وإثارة الفتن ببث الدعايات المسمومة والمغرضة والسعي إلى نيل تأييد أكبر عدد من ممكن من الضباط لتأييد المخطط وتهيئة الأذهان لتقبل الوضع الجديد. ودعوة الضباط إلى منزل المشير وتقصي أحوال القوات المسلحة وأسرارها منهم وتوزيع استقالة المشير وإقناعهم بأن للمشير قضية عامة هي مطالبته بالديمقراطية وإطلاق الحريات . ب- الشق الثاني ويتمثل في الجانب العسكرى التنفيذي ويعتمد على قوات الصاعقة الموجودة في " أنشاط " والتي كان عليها تأمين وصول المشير إلى القيادة الشرقية في منطقة القناة ثم تنصيبه قائدا عاما للقوات المسلحة ثم يقوم المشير بإعلان مطالبه لرئيس الجمهورية من هناك فإذا لم يستجب له الرئيس تحركت قطاعات من القوات المسلحة لفرض هذه المطالب بالقوة وذلك بمعاونة القوات الجوية لضمان نجاح الخطة... وتم تحديد القوات اللازمة لتنفيذ العملية ودرست الطرق التي سوف تتحرك عليها هذه الوحدات وحددت التوقيتات اللازمة للتنفيذ كما وزعت المهام والواجبات لكل منهم فكان موكولا إلى السيد شمس بدران مثلا تأمين الشرطة العسكرية والفرقة المدرعة والسيد عثمان نصار تأمين منطقة دشهور العسكرية والسيد عباس رضوان تأمين منطقة القاهرة واعتقال بعض المسئولين في الدولة بمعاونة أطقم المخابرات العامة بعد موافقة السيد صلاح نصر وكان على رأس المعتقلين شعراوى جمعة وسامي شرف وأمين هويدى وهؤلاء تم اعتقالهم بعد ذلك أيضا بواسطة السادات . 4- انكشاف زواجه العرفي من السيدة برلتني عبد الحميد ولن أتعرض لتفاصيل هذا الموضوع لأنه أولا يمثل جانبا من حياة المشير الشخصية , ولأنه أمر عادي يجرى في كل الأوقات وفي كل الطبقات .... ولكن كان المشير حريصا كل الحرص على إخفاء هذه العلاقة بالرغم من أن السيدة برلنتي كانت لا ترضي أن يكون زواجها سرا بل كانت تلح في إعلانه وتوثيقه ولكن كان الرجل يخشي تأثير ذلك على حياته الزوحية وعلى حياته العامة . كان يعرف أنه بمجرد زوال سلطاته فإن أمور كثيرة سوف تتكشف وتظهر الأمر الذي بذل جهده في السنوات الماضية لكي يظل سرا مكتوما . وقد حدثني الرئيس جمال أن المشير كان يحضر له دوما ليشير عليه أن يكون له " أبواب خلفي " فكيف يمكن للرئيس أن يعيش هكذا داخل أربع حيطان لا يتمتع بالدنيا ولا يروح عن نفسه وكان المشير يضرب أمثلة بالعديد من رؤساء الدول والشخصيات الكبرى وكيف أن لهم " أبوابا خلفية متعددة " فالمرء دائما يحتاج إلى التفريج عن نفسه فساعة لقلبك وساعة لربك .
كان يخشي مثلا أن ينكشف أنه اشترى منزلا في " ايكنجي مريوط " مركز القسم الشرقي بالعامرية محافظة الصحراء الغربية بحوض برنجي وايكنجي مريوط رقم 3 ضمن القطعة رقم 209 وهو المنزل الذي اشتراه من السيدة انطوانيت جريك واختار إسما له محمد عبد الحكيم على بن على حفيد عامر أثناء إتمام الإجراءات الرسمية . كان هذا المنزل هو الأقرب إليه قلبه للإختلاء بزوجته وبعض الأصدقاء.
كانت هذه العلاقة سرية ماما لا يعرفها إلا القليلون جدا من دائرة المشير الشيقة ومطبخه الداخلي ولا أظن أن أحدا من المسئولين كان يعرف ذلك إلا المرحوم أنور السادات الذي كان يحضر بعض المناسبات بين وقت وآخر . ولنقف عند هذا الحد إلا أننا نريد أن نؤكد مرة أخرى أن الرجل كان لا يريد أن تكشف هذه العلاقة وكان يرغب أن تبقي سرا . إذن كان المشير متورطا في أكثر من اتجاه وكان بذلك مهيئا للقيام بأى إجراء غير محسوب و خطوة يائسة إذ ظل هكذا مطلق الحرية يفعل ما يريد ولذلك فإنه كان من الواجب إيقاف الأمور عند حدها حتى لا تتطور وتتضخم وأن تعود الشرعية مرة أخرى لتمارس سلطاتها لمواجهة الموقف الصعب الذي وجدت فيه البلاد ولو أن هذا كان ينبغي أن يتم منذ وقت طويل قبل أن تصل الأمور إلى هذا الحد ولكن لا فائدة من البكاء على اللبن المسكوب . خطة جونسون صدرت تعليمات الرئيس عبد الناصر إلى كل من شعراوى جمعة – سامي شرف – أمين هويدى بوضع خطة لمواجهة الموقف وتحديد إقامة المشير عامر وكان اقتناع الرئيس باتخاذ هذه الخطورة في حد ذاته عملا إيجابيا حقيقة إذ لم ينجح في إقناعه أحد من زملائه رغما عن تكرار المحاولة وكان هذا يرجع أولا إلى أن الأمور وصلت إلى منتهاها وأن الصراعات على القمة التي كانت موجودة داخل " الحرس القديم " لم يكن لها أثر في " الجماعة المختارة " فكانت حسابات الرئيس هنا أسهل وأيسر . وكانت المأمورية دقيقة وصعبة ولكنها كانت واجبة وكانت المناصب التي يتولونها في ذلك الوقت كالآتي : شعراوي جمعة وزيرا للداخلية أمين هويدي وزيرا للحربية سامي شرف مدير مكتب الرئيس للمعلومات
كانت المأمورية دقيقة لأنها كانت تتعلق " بالمشير " والرجل لم يقدم لأحد منا من الناحية الشخصية سوءا أو ضررا ثم كان الرجل بسلطاته التي ما زالت تترك بصماتها على كل أجهزة الدولة يمثل قوة حقيقية لابد وأن نعمل لها حسابا ثم كان لابد من التصرف بحكمة تامة حتى لا نجعل من التصفية صداما حقيقيا يمكن أن يتسع فيشعل الحرائق في كل شئ .
وكانت المأمورية صعبة لأن الأجهزة الحساسة كلها كانت متعاطفة مع المشير عامر فالمخابرات العامة وعلى رأسها السيد صلاح نصر كانت قد حددت موقفها إلى جواره القوات المسلحة متعاطفة وإن كان البعض قد أظهر جانب الحياد إلا أنه لم يكن ليتردد في اتخاذ موقفه إلى جوار المشير عند أول بادرة نجاح لجهوده في سبيل الاستيلاء على السلطة أما أجهزة وزارة الداخلية فلها حساباتها المعقدة في مثل هذه الأحوال ولا داعي للخوض في تلك الحسابات حتى لا نخرج عن الموضوع . وكانت المأمورية واجبة فالعدو في شرق القناة والبلاد تمر في أخطر مراحلها وكان لابد من ترتيب البيت الداخلي حتى يمكن البدء في مواجهة العدوان . ولذلك فقد قررنا أن نلتزم بالسري المطلقة في اتخاذ إجراءاتنا وكذلك بالسرعة المعقولة لأننا كنا في سباق خطير مع الزمن فلم يكن الجانب الآخر عند بداية وضع الخطة بواسطتنا قد حدد موعد تحركه بعد وكنا بذلك نتحرك في المجهول من ناحي السرية لم يخطر أحد غير ثلاثتنا في المراحل الأولي بهذا الأمر وأى قول غير هذا عار تماما عن الصحة وادعاء باطل تورط فيه البعض حتى يظهر ا،ه كان على علم ببواطن الأمور . واتفقنا أن نطلق الاسم الكودى " جونسون" على العملية كلها خوفا من التورط أثناء حديث أو مكاملة تليفونية كما اتفقنا على أن تكون اجتماعاتنا في " نادى الشمس " بمصر الجديدة وكانت الاجتماعات تتم في وقت متأخر من الليل بعد أن يكون النادى قد أغلق أبوابه حول حمام السباحة وأمامنا لفائف من سندويتشات الفول والطعمية التي كان يحضرها من يكلف بذلك وكنا نصل دائما إلى مكان الاجتماع في مواعيد متقاربة وبطريقة فردية . كان تقديرنا لأول وهلة أنه إذا استدرج " المشير " بحيث يكون منفردا أو معه أقل عدد ممكن من الحراس فإنه في هذه الحالة يمكن وبسهولة تدبير طريقة نتحفظ بها عليه في أى مكان أمين حتى يتم تصفية الجيوب الباقية في منزل الجيزة مثلا.. ولذلك وبعد بحث عدة بدائل استقر الرأي على الآتي :
1- أن أصلح مكان لذلك هو طريق " صلاح سالم " حيث كان المشير يستخدمه ذهابا وإيابا للقيام ببعض الزيارات الخاصة ويمكن تحديد الوقت بالتقريب بمراقبة تحركاته على الطريق عدة مرات . 2- أن أنسب وقت لإتمام العملية هو في طريق عودته إلى الجيزة فالوقت يكون متأخرا في ذلك الحين وتقل حركة المرور ثم يكون المشير في حالة يقظة غير كاملة . 3- أن يتم سد الطريق عند إحدى فتحاته بحيث تضطر عربة المشير إلى التهدئة والانحراف إلى الجانب لآخر من الطريق . 4- في هذه اللحظة يمكن السيطرة على العربة بمن فيها مع التأكد من أن تتم الأمور بسرعة لتفادى أى اشتباك ثم يوضع المشير في مكان أمين مجهز من قبل .
كانت هذه هي الخطة العامة التي وضعنا لها كثيرا من التفاصيل الدقيقة وعرض الموضوع على الرئيس بواسطة سامي شرف ووافق الرئيس على ذلك.
وعقب ذلك بفترة قصيرة استدعانا السيد زكريا محيي الدين استدعاء فرديا لمقابلته في منزله بالدقي وكان يؤكد على كل فرد ألا يخطر أحدا بالمقابلة على أن يترك كل فرد عربته بعيدا عن المنزل وتبادلنا هذه المعلومات رغما عن التنبيه علينا مرارا بعدم إخطار أى فرد باللقاء وصممنا أن نذهب إلى السيد زكريا مجتمعين وفي وقت واحد وبعربة واحدة . وفوجئ الرجل بذلك إلا أنه قابل الموقف بضحكته المعهودة التي قد تعني شيئا أو قد تعني أشياء عديدة أو قد لا تعني شيئا إلا أنه استقبلنا في بشاشته الكريمة ويكرمه المعتاد .
وتناقشنا في الخطة وكان على علم بها كان الرئيس قد أطلعه عليها وأشركه في التنفيذ أو على الأقل في مراجعة تفاصيل ما سوف يتم وخرجنا ونحن جميعا على اتفاق كامل على التنفيذ لم يكن أحد يعلم بالموضوع إلا نحن فقط بعكس ما ورد في روايات عديدة قرأتها وتعجبت منها ولها . ولكن حينما تكررت اللقاءات بدأت عيوب كثيرة تظهرة أمامنا لهذه الخطة .
1- فقد أكتشفنا أنها معقدة غاية التعقيد والخطة يجب أن تكون بسيطة . 2- ثم إنها خطة جامدة أى أنها تتبع توقيتا ومقتل أى خط هو في جمودها وعدم ترك فسحات من الوقت للظروف غير المتوقعة أو الطارئة . 3- ثم إن احتمال عدم الاشتباك ضئيل للغاية ويعتمد على الحظ والاعتماد أكثر من الدقة ليس صحيحا في أى أمر من الأمور . 4- ثم من يضمن عدم كثافة المرور في هذه الساعة التي ستتم فيها العملية وليس لائقا أن تتم عملية مثل هذه مع نائب رئيس جمهورية سابق حتى تصبح حديثا تلوكة الألسن في العاصمة . 5- ثم من يضمن ألا يكون المشير في وعيه الكامل استثناء من الظروف العادية ؟ و وهنا قررنا إلغاء الخطة من أساسها واستبدالها بأخرى تتلافي عيوب الخطة السابقة .
وتوالت الاجتماعات وأغلبها في نفس مكاننا في نادى الشمس بمصر الجديدة وكنا في سباق مع الزمن لعدة أسباب :
1- فمؤتمر القمة العربي سوف يعقد في الخرطوم في 29/8/1967 ولابد أن يحسم الوضع قبل سفر الرئيس إلى الخرطوم وإلا لو استمرت الأوضاع على ما هي عليه فإن تأجيل سفر الرئيس سوف يصبح أمرا حتميا , وكان البديل لهذا الموقف – في حالة عدم إمكانية الحسم – أن يصطحب الرئيس " المشير عامر " 2- كان الجانب الآخر قد ضاعف نشاطه وأصبح ظاهرا أن عملية ما قد أصبحت جاهزة للتنفيذ لموالاة الضغط على السلطة الشرعية وكان لابد لجانب الشرعية أن يضرب ضربته أولا . 3- وكان الموقف في القوات المسلحة يزداد سوءا فحالة القلقلة والتميع كانت سائدة ولا أنسي في هذه المرحلة زيارتي إلى القاعدة الجوية في أنشاص وبرفقتي الفريق عبد المنعم رياض رئيس ركان حرب القوات المسلحة والفريق مدكور أبو العز قائد القوات الجوية كانت الزيارة لن تستغرق أكثر من ساعة نفتش فيها على إنشاء الدشم والدفاعات الأرضية والجوية على القاعدة وحالة المواصلات والخطط الموضوعية وطريقة إصلاح الممرات في حالة ضربها بواسطة العدو وخطط التمويه والخداع واستكمال النقص في الأفراد والأسلحة والمعدات . إلا أن موقف البلبلة السائد بين ضباط القاعدة جعلني ألغي زيارتي للقواعد الجوية الأخرى وصممت على عدم ترك أنشاص إلا والاقتناع سائد بين كل الأفراد وقد كان . 4- كان العدو يركز على انهيار الجبهة الداخلية كوسيلة لإسقاط النظام وكان لابد من رأب التصدع الذي حدث بأسرع ما يمكن حتى تعود الجبهة الداخلية إلى تماسكها وتعود القوات المسلحة إلى وحداتها وانتظامها ويتفرغ الجميع للمسئولية الثقيلة التي توجههم .
إذن كان لابد للخطة أن تكون بسيطة وشاملة وتشمل كل الجيوب التي تشارك في حالة العصيان القائمة : المشير بشخصه على رأس القائمة قلعة منزل المشير بالجيزة جهاز المخابرات العامة بعد أ، أصبح من المؤكد أن رئاسته تلعب دورا خفيا في تغذية وتأييد العصيان . وكانت الخطة في إطارها العام كالآتي :
1- يستدعي المشير إلى منزل الرئيس في منشية البكرى ليلا لأى سبب يراه الرئيس صالحا لهذا الاستدعاء حيث يبلغ بتحديد إقامته . 2- في نفس الوقت تتجه قوة من القوات المسلحة إلى منزل المشير بالجيزة لحصاره والقبض على من فيه على أن يتم ذلك قبل أو ضوء . 3- في اليوم التالي مباشرة يعاد النظام إلى جهاز المخابرات العامة . ووافق الرئيس على الخطة ورأى أن يحضر معه في لقائه بالمشير في منزله كل من السادة زكريا محيي الدين وحسين الشافعي وأنور السادات ولم يكن أحد من الثلاثة يعلم بما سوف يتم إلا السيد زكريا محي الدين فقط ويظهر هذا واضحا من رواية السيد أنور السادات في كتابه البحث عن الذات في الصفحة 248 . فالبرغم من أنه على عادته المعروفة يميل إلى أن يجعل نفسه دائما مركز الأحداث أيام عبد الناصر وهذا غير حقيقي بالمرة إلا أنه قال " بعد ذلك في أغسطس أثناء زيارة تيتو لنا استدعاني عبد الناصر في قصر رأس التين فذهبت إليه ووجدت علامات الحيرة على وجهة وقال : والله أنا عايز أقول لك على موضوع يا أنور أنا مشغول قوى بحكاية عبد الحكيم وأنا تكلمت مع تيتو وحكيت له الحكاية كلها تيتو قال لى ضروري تأخذ إجراء في العملية دى وإلا البلد مجروحة وبعدين أى صراع داخلي وخصوصا إذا كانت فيه القوات المسلحة حيتوسع وينقلب إلى صراع كبير قلت له : يا جمال إنت سمعت منا كنا رأينا في الموضوع ده وفعلا ضروري إنت بالذات تواجه عبد الحكيم باللي بيعمله وتحسم الموضوع نهائيا فقال : فعلا أنا لازم آخذ إجراء كان ذلك في 13 أغسطس ولم يفصح عبد الناصر عن نوع الإجراء الذي سيتخذه كل ما حدث أن الإجراء تأخر إلى يوم 25 أغسطس لماذا تردد رغم خطورة الموقف ؟ هنا مرة أخرى تظهر علامة الاستفهام الكبيرة في كل ما يختص بالعلاقة بين عبد الناصر وعامر ." ثم قال " في هذه الأثناء كان عامر قد جعل من بيته المطل على النيل في الجيزة قلعة بكل معني الكلمة مما جعل عبد الناصر يقرر أخيرا إقامة عامر في بيته بعد أن تسحب منه جميع الأسلحة وبناء عليه أرسل إليه يطلب حضوره للقائه في منزله مساء الجمعة 25 أغسطس وقال لنا : اسمعوا يا جماعة أنا عاوزها جلسة مواجهة وأنتم تكونوا موجودين وأنا وزكريا محيي الدين وحسين الشافعي كنا موجودين في هذه الجلسة " وبعد ذلك أخذ يسرد القصة ويركز على أنه هو الوحيد الذي كان يتكلم في الجلسة وهو الوحيد الذي اصطحب المشير إلى دوره المياه وهو الوحيد الذي بقي معه . وكل هذا لم يحدث لأنني كنت موجودا هناك أرى كل شئ وأسمع كل شئ .
ربما خانته ذاكرته فكثيرا هذه الذاكرة وهو يقص أو يكتب التاريخ والذي كان يؤيده دائما بأشخاص انتقلو إلى رحمة الله ! وصف السادات لعبد الناصر بالتردد هنا ومحاولته إثارة علامات استفهام فيه مبالغة كبيرة لأنه لم يكن يدرى ان الترتيبات كانت تعد قبل 13 أغسطس الذي تحدث عنه بوقت طويل ثم واضح من حديثه أنه كان يجهل كل شئ حتى استدعاء الرئيس يوم 25 أغسطس إلى منزله في المساء . ويلاحظ في قصة السادات أنه أغفل ذكر أسماء الثلاثة الذين قاموا بالعملية لسبب هام جدا سيظهر من سرد الأحداث لأنه يتعلق تماما بأحداث مايو 1971 فكان إسقاط الأسماء الثلاثة عن قصد وعمد ولا نريد أن نسبق الأحداث . وعذرا لهذا الاستطراد قرر الرئيس ايضا أن أتولي رئاسة المخابرات العامة بعد حسم موقف المشير وجماعته علاوة على منصبي كوزير للحربية وقلت للرئيس في ذلك الوقت إنه ليس في مقدور بشر ن يقوم بالمسئوليتين في وقت واحد خاصة في هذا الوقت العصيب فأكد لى الرئيس أن هذا الجمع بين المسئوليتين بصفة مؤقتة حتى ينجلي الموقف . وأصبح كل شئ معدا للتنفيذ
الليلة العصيبة اتصل الرئيس تليفونياا وبنفسه بالمشير يوم 24 /8/1967 ودعاه للإجتماع به في المنزل في منشية البكرى الساعة السابعة مساء يوم 25 / 8/ 1967 ووافق المشير على الفور مرحبا وكان سبب الموافقة المعرفة العميقة التي اكتسبها من تعامله مع عبد الناصر طوال تلك المدة . فهو يعلم أنه في الأزمات السابقة فإن الرئيس كان يعمل دائما على إصلاح الأوضاع وسد الثغرات ألم يسافر له إلى اليمن لمصالحته وقت أن غادر المشير البلاد عقب إحدى الأزمات ليبقي ويبتعد هناك؟ ألم يتصل به في مرسي مطروح عقب أزمة مجلس الرئاسة وتعيينات كبار الضباط وحسم الموقف لصالحه ؟ ألم يعرض عليه منصب نائب رئيس الجمهورية حتى بعد أن أوصلنا إلى النكسة التي نحن فيها ؟ ظن عبد الكيم عامر أن الرئيس سوف يصلح لأمور وتعود الحياة إلى مجراها الطبيعي بل ربما يكون قد ظن أنه سيحدثه في مرافقته إلى مؤتمر الخرطوم يوم 29/8/ 1967 ولكن في رأيي أن موافقة المشير على هذا اللقاء كانت لتخدير الرئيس حتى يكسب وقتا ثمينا لتنفيذ عملية يوم 27/8/1967 باستيلائه على القيادة الشرقية في الإسماعيلية فإن صالحه الرئيس في اللقاء على أساس جمعه بين منصبي نائب رئيس الجمهورية وقيادة القوات المسلحة فهذا خير وبركة . وإن لم يصلا إلى اتفاق لا يكون قد خسر شيئا بل يكون قد اكتسب الوقت لتنفيذ عمليته التي كان قد تم إعدادها وتجهيزها في ذلك الوقت . إلا أن أنصار المشير حينما بلغهم نبأ اللقاء المنتظر انقسموا غلى قسمين : قسم يرى أن يذهب المشير للقاء على أساس أنه فاتحة خير قد تنهي لأزمة القائمة . وقسم آخر أوجس خيفة من اللقاء وعارضة بشدة واستمر حوارهم مدة طويلة . ولم يكن الحوار الدائر خافيا على الرئيس إذ كان ينقل له كافة التفصيلات التي تحدث داخل منزل المشير أول بأول .
وقد فضلنا عدم عدم إلقاء الأوامر النهائية إلا في آخر لحظة ممكنة أى بعد ظهر يوم 25 / 8/ 1967 وفي الساعة الرابعة بعد ظهر ذلك اليوم تم الاتصال بالرئيس لأخذ موافقته النهائية على البدء في التنفيذ فأمر بأن تدور العجلة . وقد اتصلت بالفريق محمد فوزى وكان في منزله يشعر بوعكة خفيفة واتفقت معه على أن نتقابل الساعة السادسة في مكتب السيد سامي شرف وان يحضر معه كلا من اللواء محمد صادق مدير المخابرات الحربية والعميد سعد عبد الكريم مدير الشرطة العسكرية ثم اتصلت مع شعراوى جمعة وسامي شرف واتفقنا على أن نتقابل نحن الثلاثة في مكتب الأخير الساعة الخامسة بعد الظهر . وفي تمام الساعة الخامسة اجتمعنا حسب الاتفاق السابق لنضع اللمسات النهائية للخطة واتفقنا على أن يقوم شعراوى وسامي بالقبض على مرافقي المشير عند وصوله إلى منل الرئيس وبعد دخوله لمقابلة الرئيس مباشرة واتفقنا أيضا أن تكون عربتي وسائقها " الأسطي عثمان " في الانتظار على باب منزل الرئيس الداخلي لنقل المشير فيها إلى منزله بعد الانتهاء من تصفية منزل الجيزة . وفي الساعة السادسة مساء ثم عقد المؤتمر المتفق عليه في مكتب " سامي " وكان الحاضرون " هم: شعراوى جمعة وزير الداخلية أمين هويدي وزير الحربية سامي شرف مدير مكتب الرئيس للمعلومات الفريق محمد فوزى القائد العام للقوات المسلحة اللواء محمد صادق مدير المخابرات الحربية العميد سعد عبد الكريم مدير الشرطة العسكرية . وبدأت بصفتي وزيرا للحربية إعطاء التعليمات والأوامر لتنفيذ الجزء العسكرى الخاص بمحاضرة منزل المشير بالجيزة وتصفية المقاومة وشددت على تجنب أى صدام أو تبادل إطلاق النيران كما أمرت باللجوء إلى الحيلة والصبر واتفقنا أن يكون القائد العام على اتصال مستمر معي طوال تنفيذ العملية كما اتفقنا على ن يبلغني فور الانتهاء من تصفية منزل الجيزة. وقد حضر المشير مبكرا عن الوعد بحوالي ثلث ساعة فقام كل من شعراوى وسامي بتنفيذ الجزء المخصص لهما في العملية وبقيت مع الآخرين حتى أنهيت تعليماتي على عجل وانصرف ثلاثتهم للتنفيذ لم تكن هناك مشكلة في تجهيز القوات لأن قوات الشرطة العسكرية وعربات المخابرات الحربية كانت في حالة استعداد دائم . وعاد شعراوى وسامي بعد أكثر من ثلث ساعة بعد أن أتما المأمورية فتم القبض على سائق عربة المشير كما تم القبض على العقيد محمود طنطاوى أحد أفراد مكتب المشير وهو من خيرة ضباط القوات المسلحة خلقا وعلما ولكن للضرورة أحكامها إذ دفعته الظروف دفعا ليجد نفسه من الصف المناهض للشرعية .. ولما سألت شعراوى وسامي عن سبب طول مدو تنفيذ العملية أخبراني بأن الأخ " محمد أحمد " السكرتير الخاص للرئيس أثار ضجة كبرى إذ بمجرد شعوره بما يحدث استنكر أن يتم ذلك من وراء ظهره ودون إخطاره واعتبر ذلك عدم ثقة من الرئيس بسكرتيره الخاص وقد تمادى " محمد أحمد " في احتجاجاته فاضطرا إلى البقاء معه حتى يهدئا من ثورته .
ثم وضع عربة " المشير " في الجراج الخاص . وأمرت السائق " عثمان " أن يقف بعربتي على الباب الداخلي لمنزل الرئيس . والرجل لا يدرى ماذا يحدث لا في الخارج ولا في الداخل إلا أنه لابد وأن شعر أن شيئا غير عادي يجرى تنفيذه . وفي حوالي التاسعة مساء فضلت أن أدخل منزل الرئيس وبقي " سامي " و" شعراوي" في مكتب الأول واتفقت مع " سامي " أن يحول لى المكالمة التليفونية المنتظرة من " محمد فوزى " بمجرد اتصاله وفعلا دخلت منزل الرئيس ووجدت في " الصالة الخارجية" بعض " ضبط الياورن " وجلست بجوار حجرة الصالون حيث كان اجتماع الرئيس بالمشير لألتقط أنفاسي كان في الداخل خلاف الرئيس والمشير كل من سادة " زكريا محيي الدين " و" حسين الشافعي " و" أنور السادات .. وكان الذي يتكلم هو الرئيس وكان الذي يرد هو " المشير " وقد سمعت الرئيس وهو يقول للمشير " عليك يا عبد الحكيم تقدير الموقف الصعب الذي تمر فيه البلاد . وعليك أن تلزم منزلك في هذه الفترة الحرجة " وسمعت المشير وهو يرد على الرئيس قائلا " يعنى بتحدد إقامتي وبتحطني تحت التحفظ . قطع لسانك " وكرر ذلك أكثر من مرة . كن الحديث يدور هادئا في معظم الأحيان ولكن كانت الأصوات ترتفع في حدة في أحيان أخرى . ولكن لم يكن في مقدورى متابعة ما يجرى لأنه لم يصل إلى أذني إلا بعض الكلمات بين وقت وآخر وكنت منهكا وتعبا بحيث كنت أميل للإسترخاء قليلا قبل ما ينتظرني في اليوم التالي .
وكان المشير – وحتى منتصف الليل – مصرا على موقفه المتعنت . ولا شك أن " تجمع أصدقائه " في الجيزة كان له دخل كبير في إصراره هذا . كان الرجل يلعب على عامل الوقت لعل وعسي أن يلين الرئيس كما كان يحدث في المرات السابقة . وفي هذه الأثناء كان " فوزى " قد اتصل بي مرتين : مرة حينما وصل إلى منزل الجيزة على رأس قواته ليخبرني بإتمام حصاره المنزل ومرة أخرى ليبلغني أن حرائق شوهدت في المنزل والتي ظهر بعد ذلك أنها عبارة عن عملية حرق الأوراق الهامة بواسطة بعض الضباط الموجودين في منزل الجيزة والتي قد تدينهم لو تم القبض عليهم وقد أخبرت الرئيس بذلك وأكدت له أن هذه علامة على حالة الانهيار التي أصبح فيها هؤلاء الضباط. وفي منتصف الليل تقريبا خرج الرئيس من حجرة الصالون ولما وجدني بالخارج اصطحبني معه واضعا ذراعه في ذراعي إلى حجرة المكتب على الجانب الآخر من " الردهة الخارجية" وكان كلانا يدخن بشراهة وخيل لى أن الرئيس يكاد يقضم سيجارته ,. وفور دخوله إلى المكتب طلب عباس رضوان تليفونيا من رقم مباشر من الذاكرة وقال له " يا عباس انت المسئول عن فض الموقف في الجيزة " ولست أدرى هل تم اتفاق الرئيس مع عباس قبل هذا الاتصال أم لا لأن كلام الرئيس لعباس كان موجها لشخص يعرف ما يجرى وبعد ساعة أخرى خرج الرئيس من الصالون للمرة الثانية واتجهت معه إلى المكتب ليعاود الاتصال مع " عباس " وكان حديثه هذه المرة محتدا قاطعا وهو يقول له " إنت يا عباس مسئول عن عدم فض الموقف " وبعد انتهاء المحادثة ذكر الرئيس أن الموقف في نظره يتعقد وأن عباس يتلاعب ورددت على الرئيس " ما زال أمامنا أربع ساعات حتى الفجر وأن حل الموقف هناك في منزل الجيزة وأن المشير سيبقي على عناده طالما بقي منزل الجيزة على أوضاعه " وأمن الرئيس على ذلك وصعد إلى الدور العلوي بمفرده ليستريح بعض الوقت .. وليس صحيحا ما ذكره الرئيس السادات في كتابه " البحث عن الذات " من أن السيدين زكريا محيي الدين وحسين الشافعي صعدا مع الرئيس إلى الدور العلوى وأنه بقي وحده مع المشير في حجرة الصالون . ولكن هي عادة الرئيس السادات في أن ينسب كل شئ إلى ذاته ولو تم ذلك على حساب الحقيقة . ودخلت حجرة الصالون وسلمت على الجميع . كان المشير جالسا على أريكة من الأرائك وحينما رآني قال " أهلا وسهلا بوزير حريتنا . الله ده الموقف مجهز تماما والمسألة محبوكة على الآخر كان أنور السادات هو الوحيد الذي يجلس صامتا والدموع على خديه أما السيد حسين الشافعي فكان يبدو غير مهتم بما يجرى أما السيد زكريا فكانت ملامحه جامدة لا تدل على شئ . وهنا خرج المشير ذاهبا إلى دورة المياه وخرجت معه وكان الرجل ودودا معي يتحدث في ابتسامته الهادئة . كانت أعصابه هادئة ولم يكن منفعلا بالرغم من أنه كان يدرك الموقف الحرج الذي أصبح فيه وفجأة خرج المشير من دوره المياه وفي يده كأس زجاجي به بعض المياه وقال بأعلي صوته وهو يرمي الكأس على طول ذراعه " اطلعوا بلغوا الرئيس أن عبد الحكيم خد سم لينتحر " ودخل في هدوء إلى حجرة الصالون ليجلس على الأريكة ذاتها وهو يبتسم في هدوء و:انه لم يفعل شيئا . وقد انزعجت أشد الانزعاج حينما سمعت بذلك وصعدت إلى الدور العلوى حيث يوجد الرئيس قفزا فوق الدرج واستقبلني الرئيس من أعلي السلم وقلت له " المشير خد سم وانتحر " فقال لى الرئيس " عبد الحكيم أجبن من أن ينتحر . لو كان عاوز ينتحر كان انتحر لما ودانا في داهية " ويبدو أن درجة انزعاجي كانت شديدة لدرجة أن الرئيس كان يحلو له بعد ذلك أن يحكي عن ذلك في مناسبات عديدة وكان يضيف قائلا " تمثيلية عبد الحكيم خالت على أمين " حدث هرج ومرج بين الموجودين أما " الثلاثة الكبار " فكانوا على حلهم لم يتحركوا و ينفعلوا ولكن خيل لى أن عبرات الرئيس السادات زادت كثافة ودخل الدكتور " الصاوى " طبيب الرئاسة مسرعا وفي يده شنطته العتيدة ولما ل يستجب المشير للعلاج الذي كان يريده الدكتور الصاوي تقدم السيد حسين الشافعي " ليعبط " المشير حتى أعطاه الدكتور " الحقن اللازمة " وهدأ كل شئ من جديد . ورأى المشير أن يخرج إلى الحديقة ليشم بعض الهواء وخرجت معه . كان الرجل وفي حركات تمثيلية يكثر من النظر إلى السماء ثم يتنهد ثم يعود لينظر إلى السماء ,هنا دار بيني وبينه الحديث الأتي : أمين : كيف خالد الآن ؟ عامر : أنا كويس والحمد لله. أمين : سيادة المشير . هل يصح هذا الذي يحدث ؟ هل يمكن أن يطور المشير الموقف إلى هذا الحد ؟ أنا لا أكاد أصدق أن الأمور تصل إلى ما تصل إليه الآن .
عامر : يا أمين إنت لا تعرف شيئا .
أمين : كيف لا أعرف ؟ الوقت يمر ولابد من حسم الموقف . عامر : لحساب من يا أمين يحسم الموقف ظ اسكت إنت لا تعرف أى شئ . وساد الصمت بيننا وأخذ يتمشي جيئة وذهابا ودخلنا إلى حجرة الصالون . لم أجد هناك السيد حسين الشافعي وحينما خرجت إلى الصالة الخارجية وجدته جالسا وأمامه طبق من الفاكهة وهو مقبل عليه في إطمئنان ودعاني إلى تناول بعض الفاكهة ولكن لم يكن لى شهية لأى شئ وأنا أري ما أري . وأخيرا قال : أنا رأيي إن المشير يعود إلى منزله والموضوع " مش نافع " الفجر قارب الظهور فماذا سيقول الناس عندما يرون ما يحدث في منزل الجيزة ؟!... وبقينا ندور في حركة مفرغة كان الجميع يلعبون على عامل الوقت وفي حوالي الساعة الخامسة صباحا استدعاني أحد ضباط الياوران إلى التليفون ذاكرا إن " الفريق محمد فوزي على الخط " وأخذت التليفون وكان فوزي على الجانب الآخر من الخط يقول " المأمورية انتهت يا فندم دون أى صدام والمنزل خالي الآن " فقلت له " الحمد لله ومتشكر " ولم أدخل حجرة الصالون ولم أشاهد أحدا بعد ذلك بل غادرت منزل الرئيس وعبرت الشارع إلى مكتب " سامي " حيث وجدته جالسا هو وشعراوي .. ومن خلال النافذة رأينا إحدى العربات تتحرك بعد فترة من الوقت وفيها ثلاثة : المشير عبد الحكيم عامر والسيد زكريا محيي الدين والسيد حسين الشافعي . ولا أدرى ماذا كان يعتمل في صدر المشير ولكنه أصبح الآن شخصا غير الذي وصل أول الليل إلى منزل الرئيس . كان شخصا نزع عنه سلطانه وعاد إلى الشرعية بعد ليلة عصيبة ورغم أنفه . وأترك للفريق فوزي الحديث عن تفاصيل ما قامت به قوته وهي تحاصر منزل الجيزة نقلا من كتابه " حرب الثلاث سنوات 1967 -1970 ".... " بعد أن صدر الأمر توجهت إلى منزل الرئيس بمنشية البكرى وعلمت أن المشير قد حدد له موعد لمقابلة الرئيس عبد الناصر في الساعة 7 مساء نفس اليوم بمنزل الرئيس وأن المشير سيبقي هناك حتى انتهاء مهمتي في تطهير المنزل ...وعندما وصلنا إلى باب المنزل الرئيسي لمنزل المشير وجدته مقفلا بسلسلة حديدية وقفل خلف الباب كان يقف شمس بدران وعثمان نصار وعبد الحليم عبد العال وجلال هريدى وآخرون وجميعهم مسلحون بالرشاشات القصيرة وفي أيديهم وجيوبهم قنابل يدوية وأخطرت شمس بدران فلم يذعن للأمر وفي تلك اللحظة وصل عباس رضوان وهو يقيم بمنزل قريب من منزل المشير ليسأل عليه وعندما علم بعدم وجوده بالمنزل طلب مني الانتظار فترة لحين معرف الموقف داخل منزل المشير واصطحب معه شمس بدران بينما بقي الباقون خلف باب الحديقة الخارجي خلال النقاش صدرت بعض طلقات الرصاص من فوق سطح المنزل للإزعاج ولم يرد عليها أحد من القوة حسب أوامرى كما وصلني بلاغ عن مشاهدة دخان حريق علمت فيما بعد أن مجموعة شمس بدران قامت بحرق وثئق وخرائط سرية تجرمها لو وقعت في يدى . ثم خرج عباش رضوان وشمس من داخل المنزل وفتحا باب الحديقة الخارجي وطلبا مني الدخول مع قائد القوة قائلين : احنا مستعدين لتنفيذ ما تطلبه . وشاهدت ضباط شمس بدران يلقون أسلحتهم والقنابل اليدوية على الأرض . وأصدرت الأمر رقم ( 1) من الميكروفون اليدوي طالبا نزول جنود سريتي الشرطة العسكرية بدون أسلحة وذخيرة أولا حيث كانت لوارئ حمولة 3 طن جاهزة لركوبهم بعد تفتيشهم حيث أخذوا إلى السجن الحربي تلا ذلك صدور الأمر رقم ( 2) وهو يخص نزول الأفراد المدنيين بدون أسلحة أو ذخيرة وانتظرت تنفيذه مثل الأمر الأول ثم أصدرت بقية الأوامر على التوالي كل أمر يأخذ وقته في التنفيذ قبل صدور الأمر الذي يليه وهكذا رحلت الضباط المتقاعدين إلى السجن الحربي وكان آخرهم شمس بدران الذي رحل إلى سجن القلعة . ثم بدأنا في جمع الأسلحة من البدروم والدور الأول والسطوح والجرج ورحلت إلى معسكر عابدين في حملة 13 لورى سعة 3 طن واستغرقت هذه العملية طوال الليل . ثم عينت الحراسة على منزل وعينت اثنين من العمداء للحراسة 24 ساعة على المنزل وتم تركيب تليفون خارج المنزل للإتصال . عند وصول المشير إلى منزله تم تحديد إقامته بين أهله وأولاده تحت الحراسة الشرعية للدولة ".
هذه رواية الفريق فوزي عن مأموريته التي كلف بها في إطار العملية وقد يكون في سرد بعض المعلومات الأخرى والتي تعيها الذاكرة فيه استكمال للصورة فقد أعلن الضباط عند وصول القوة أنهم سوف يقاومون بالقوة واحتلوا أماكن داخل المنزل سبق إعددها لذلك بالاشتراك مع المدنيين المسلحين الموجودين داخل المنزل وقام كل من شمس بدران هريدى بتوجيه الحديث إلى أفراد القوة التي تحاصرهم بغرض استمالتهم إلى جانبهم وعدم تنفيذ الأمر الصادر باعتقالهم . وفي أثناء التفتيش عثر على كميات ضخمة من الأسلحة والذخائر والقنابل اليدوية كما عثر على أ‘داد كثيرة من استقالة المشير عام 1962 وكانت معدة في مظاريف لتوزيعها كم عثر أيضا على بعض ماكينات الكتابة وآلات الطبع .
وفي حوالي الساعة السادسة صباحا يوم 26/ 8/ 1967 وبعد انتهاء الليلة العصيبة اتصل الرئيس تليفونيا بسامي شرف ليطمئن على الأحوال وأخبره بأنه يريد أن يحدثني وفعلا بدأت الحديث مع الرئيس . كان يسأل ليطمئن . وقال " شكرا على ما بذلته . والله كانت ليلة عصيبة . هل أفطرت ؟ " فقلت له " نعم والحمد والحمد لله " ولم نكن قد ذقنا للأكل أو النوم طعما . ثم سأل عن المأمورية الأخرى وهل كل شئ جهز فطمأنته أن كل شئ معد.. كان يقصد ذهابي إلى جهاز المخابرات العامة واستلامي السلطات هناك. جلسنا نعيد ترتيباتنا لهذه المأمورية الثقيلة وكان على أن أبدأ الساعة العاشرة في الذهاب إلى هناك . تولي رئاسة المخابرات العامة أثناء إعدادنا لعملية " جونسون " وقرارنا بأن يدخل جهاز المخابرات ضمن العملية كلفني الرئيس بأن أتولي رئاسة الجهاز بعد تصفية منزل الجيزة وكما سبق ن ذكرت فإنني طلبت من الرئيس أن يكون جمعي للمنصبين – منصب وزير الحربية ورئيس المخابرات العامة – بصفة مؤقتة بالرغم من أنه ظهر من حديث الرئيس أن ذلك لن يتم إلا بعد فترة ليست بالقصيرة . وسبق أن ذكرت أنه في يوم 24 / 8/ 1967 اتفق الرئيس مع المشير لمقابلته في منزله بمنشية البكرى مساء يوم 25 / 8/ 1967 .
وفي اليوم نفسه أى يوم 24/8/1967 اتصلت بالسيد محمود عبد السلام وهو من الضباط السابقين في القوات المسلحة نقلته إلى العمل بجهاز المخابرات العامة منذ واخر الخمسينات حينما نقلت بالجهاز نقلا ن القوات المسلحة والرجل زميل وصديق ويتمتع بمزايا كثيرة جعلتني أتصل به في ذلك اليوم لمقابلتي بالمنزل. وقد حدثته في هذه المقابلة عن أن تغييرات هامة سوف تجرى خلال الساعات القادمة في بعض أجهزة الدولة . وأنني سأتول رئاسة جهاز المخابرات خلال الساعات القليلة القادمة وسوف أكون في الجهاز الساعة العاشرة يوم 26/8/ 1967 وعليه أن يكون في انتظارى لأنه سيعمل معي كمدير لمكتبي منذ لحظة وصولي .
ووافق الرجل دون أية تساؤلات أو تردد . فالثقة كاملة بيننا ... واتفقت معه قبل أن ينصرف على عدم تبادل الاتصال في السعات القادمة وحتى وصولي إلى الجهاز في الموعد المتفق عليه وأن حدث تغيير في الموعد لظروف طارئة فإن الاتصال سوف يكون من جانبي . وفي صباح يوم 26/8/1967 وبعد الانتهاء من عملية " جونسون - المرحلة الأولي " تأهبت للذهاب إلى المخابرات العامة وكان من رأي شعراوى وسامي أن تسبقني إلى هناك فصيلة شرطة عسكرية تحسبا لأى مواقف مفاجئة إلا أنني استبعدت هذا الحل في الحال استبعادا كاملا إذ كيف أتولي رئاسة جهاز خدمت فيه من قبل خمس سنوات كاملة وأعرف جميع من فيه تقريبا في ظل حماية من الشرطة العسكرية ؟ هذا غير معقول وغير جائز . واخترت أن أذهب إلى الجهاز وحدى وبعربتي الخاص ودون سائق أو مرافق . وحين مغادرتي مكتب " سامي " اتفقت معه على الاتصال مع " السيد وجيه عبد الله " مدير مكتب السيد صلاح نصر لأخطاره بصدور أوامر الرئيس بتعييني رئيسا للجهاز وبأنني في الطريق إليه . وفعلا كنت على الباب الخارجي الرئيسي للمبني في تمام العاشرة صباحا ولما سألني رئيس مكتب الأمن عن شخصيتي أخبرته بأنني رئيس الجهاز الجديد . وكان " وجيه " قد أعطاهم خبرا بذلك .. فأدوا التحية الواجبة وأخذت المصعد إلى الدور الأول في طريقي إلى مكتب رئيس الجهاز وحدى وكنت أعرف طريقي تماما حيث كنت من مؤسسى هذا الجهاز منذ الخمسينات . كنت أكره هذا المكتب ولا أستريح إليه . فالطريق إليه خافت الضوء . والمكتب نفسه متسع مترامي الأطراف أثاثه قائم ملحق به حجرتان أخريان . كان أشبه بالشقة الخاصة المقبضة ويزيد من كآبة المكتب ضوؤه الخافت حتى بالنهار بحيث كان من الضروري إضاءة الأنوار ليل نهار وعلاوة على ذلك فقد شاهدت فيه بعض الأحداث والتصادمات في فترة خدمتي السابقة كنائب لرئيس الجهاز في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات تركت ترسبات في نفسي والشئ الغريب أن شعورى بالانقباض من هذا المكتب لأزمني طوال فترة رئاستي لهذا الجهاز من 26/8/1967 حتى 25/4/ 1970 وما زلت أذكر كيف شعرت بالراحة العميقة وأنا أخرج من الباب الرئيسي بعد أن سلمت قيادة الجهاز الخلفي بعد ثلاث سنوات بدأتها بدخولي من نفس الباب بتلك الطريقة الغريبة .. وشعرت حينئذ أن حجرا ثقيلا أزيح عن كاهلي ونمت تلك الليلة بطولها لأول مرة منذ زمن بعيد دون أن توقظني أجراس التليفونات العديد بأخبار كلها سيئة مثيرة للأعصاب ومشاكل ثقيلة كان لابد من مواجهتها بقرارات عاجلة وفي الحال . وتأخر محمود عبد السلام ساعة كاملة عن الموعد ... ولكني بدأت في الحال . اتصلت بمنزل السيد صلاح نصر لأسأل عنه إذ كان مريضا أو معتكفا في منزله منذ أيام ولأبلغه أيضا بأنني توليت رئاسة الجهاز , ثم للتحدث إليه بالحديث المعتاد ف يمثل هذه المناسبات الشاذة والثقيلة إلا أن المتحدث عن الخط الآخر وبعد ان غاب فترة من الوقت أعتذر لى بأنه نائم . فرجوته أن يخبره باتصالي وبأن يخبره أيض أن يتصل بي في مكتب رئيس المخابرات العامة إذ صدرت التعليمات برئاستي للجهاز وشددت عليه في ذلك وبعد أن يستيقظ مباشرة . ولكن " صلاح " لم يتصل وهي نفس عادته – رحمه الله – في عدم قدرته على المواجهة ولذلك فإنه كان نادرا ما يرد على الاتصالات التليفونية إلا إذا كانت من أفراد معينين وتبعا لحالة العلاقة بينه وبين المتحدث وليس صحيحا ما كتبه " الأخ صلاح بعد ذلك على صفحات المجلات بأنني اقتحمت جهازه . فليس في قدرة " فرد " وبمفرده أن يقتحم جهازا خطيرا كهذا الجهاز عليه الحراسات المتعددة وإلا كان في هذا التعبير – إن كان يعنيه حقيقة – تقليل من قدرة الجهاز وشأنه ثم ما حيلتي وقد قمت من جانبي بالاتصال مع الرجل لأخطره واستأذنه في مباشرة عملي الجديد إلا أن الرجل فضل ألا يتصل ويرد؟! على أية حال لن أخوض في شئ يخصه إلا بقدر المحفظة على ارتباط الأحداث . فالرجل انتقل إلى رحمه مولاه . وللموتي قدسية يجب احترامها كما أمرنا وتعلمنا . كانت أهم الواجبات التي لابد من تنفيذها في الساعات القادمة هي :
1- التحفظ على بعض المسئولين من تجمعت عنهم معلومات بالإساءة في التصرف للتحقيق معهم .. 2- إعطاء بعض المسئولين إجازات إجبارية حتى يسهل تصحيح المسار . 3- إجراء حركة تعيينات جديدة في الأجهزة الحساسة . 4- استمرار الجهاز في تحمل مسئولياته في الداخل والخارج في الوقت العصيب الذي تمر به البلاد ولملاقاة حالة التقصير الشديد التي كانت تنتابه . 5- عقد اجتماع عاجل مع " كبار " رجال الجهاز للتقليل من حالة القلق الحتمية التي ستسود الجميع نتيجة للإجراءات السابقة وتوضيح الخطوط العامة الرئيسية بالاتجاهات الجديدة لسير الجهاز وعلاقاته بالأجهزة الأخرى .
وحوالي الظهر كان محمود عبد السلام يتولي عمله الجديد كمدير لمكتب رئيس المخابرات العامة وبقي " وجيه عبد الأخرى " كمساعد له وبدأت العجلة تدور وقد كافة العمليات الثقيلة المؤسفة التي كانت الظروف تحتم اتخاذها بالرغم من المشاعر الحزينة التي كانت تسيطر على النفس فتم التحفظ على 11 من الأفراد وأعطي 7 آخرون إجازات إجبارية وأصدرت حركة التعيينات الجديدة والتي شملت تغيير عشر قيادات حساسة وقد تم ذلك كله في ساعة قليلة . وقد أطلق الرئيس على هذه العملية بعد ذلك تعبير " سقوط دولة المخابرات " وبدأت الأعمال تسير ببطء وحذر. وكان هذا وضعا طبيعيا تحت الظروف الضاغطة السائدة وكانت أهم الأحداث التي واجهتنا في الأسابيع القليلة التالية حادثتين أو واقعتين : الواقعة الأولي وهي الخاصة باستلام السيدين صلاح نصر وعباس رضوان مبلغ الستين ألف جنيه وقد سبق الحديث عنها وأحلنا الواقعة إلى مدير المخابرات الحربية الذي كان يتولي التحقيق في قضية " مؤامرة المشير للاستيلاء على القيادة الشرقية " أما الواقعة الثانية فكانت تتعلق " بالسم " الذي أعطاه صلاح نصر من قسم السموم بالمخابرات العامة إلى " المشير " والذي استخدمه في الانتحار وهذا ما سوف نتحدث عنه في الصفحات التالية . ووسط كل هذه التعقيدات قفزت أمامنا قضيتان كبيرتان : القضية الأولي بخصوص تجمع بعض معلومات ابتدائية مذهلة عن انحرافات خطيرة كانت تتم على مدى سنوات طويلة وهي التي عرفت بعد ذلك بقضية " انحراف المخابرات " والقضية الأخرى هي التي عرفت بعد ذلك بقضية " تعذيب المخابرات والتي كان الدكتور عبد المنعم الشرقاوي المجني عليه الوحيد فيها ". بخصوص قضية" انحراف المخابرات " نجد أن القضية أثارت موضوعا حساسا من أعمال المخابرات وهو موضوع " استخدام وسائل السيطرة" في الجهاز وهو أحد الموضوعات التي تعتب من " الأعمال القذرة " للمخابرات في العالم , وهو عمل مشروع إذا استخدم لصالح الدولة أو لتحقيق غرض يخدم أهداف المخابرات أما إذا استخدمت " السيطرة" لتحقيق مصالح فردية فهنا يصبح هذا الاستخدام غير شرعي . وقد أشرت على الرئيس في ذلك الوقت ألا أقوم بنفسي بالتحقيق في هذا الموضوع كما كان يرى . فالمسئوليات الكبيرة في القوات المسلحة وإعدادها , والمخابرات العامة وإدارتها تحول بيني وبين هذا الواجب الإضافي . ثم العلاقات المتوترة بيني وبين " السيد صلاح نصر " من زمن طويل والتي اضطرتني إلى تقديم استقالتي في أوائل الستينات وفشلي في إعادة العلاقات إلى طبيعتها بعد ذلك كل ذلك تجعل قيامي بالتحقيق فيه شبهة الانتقام وهذا أمر لا أرضاه واقتنع الرئيس بهذه المبرراات وظل السؤال قائما ومن يقوم بالتحقيق فيه شبهة الانتقام وهذا أمر لا أرضاه واقتنع الرئيس بهذه المبررات وظل السؤال قائما: ومن يقوم بالتحقيق إذن ؟ ولقد وافقني الرئيس أيضا على ما اقترحته عليه من استبعاد قيم أحد كبار رجال الجهاز بهذا التحقيق ففي هذا حرج ما بعده حرج. وقد اقترحت بعد ذلك على الرئيس أن القائم بالتحقيق الابتدائي شخص يتوفر له حسن العلاقة مع السيد صلاح نصر . واخترت السيد حلمي السعيد رئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة للقيام بهذه المأمورية لصداقته الشديدة مع " صلاح" من جانب ولأنه ليس طرف في الموضوع من جانب آخر .. ووافق الرئيس على ذلك وبدأ السيد حلمي السعيد في التحقيقات المذهلة والتي عرضت بعد ذلك على محكمة الشعب برئاسة السيد حسين الشافعي والتي حكمت على السيد صلاح نصر بالسجن 40 سنة مع الأشغال الشاقة وهو أطول حكم سجن في تاريخ مصر وجاء في نص الحكم " ثبت للمحكمة أن المسئول الأول عن هذا الانحراف هو المتهم صلاح نصر رئيس المخابرات السابق الذي كان يعد – بحكم وضعه وسلطاته – المسئول الأول عن كل عمل تدخل في جهاز المخابرات بوسائل غير مشروعة كما أنه مسئول عن استغلال وظيفته وسلطاته في أغراض شخصية غير مشروعة مما نعكس أثره على سمعة الجهاز وأضر بالأمن القومي للدولة وهو ما يعتبر خروجا على المبادئ التي قامت عليها الثورة فقد تخلي رئيس المخابرات العامة السابق عن أداء واجبة في الحفاظ على الأمن القومي للدولة وانصرف إلى العمل على تحقيق أطماعه وشهواته الخاصة واستغل في ذلك إمكانيات جهاز المخابرات وطبيعة عمله السري لفرض سيطرته على أشخاص معينين لمآرب خاصة لا تمت للصالح العام بصلة . ثم أراد تدعيم مركزه فسعى لى إنشاء هذا الارتباط واضحا من العلاقات الشخصية التي كانت قائمة بينهما مما ممكن المتهم من الاستناد إلى مركز القوة الذي كان يمثله المشير ويعتمد عليه وإخفاء الحقائق عن المسئولين. ومن المؤسف أن تصرفات صلاح نصر الشخصية وانحرافه في سلوكه قد أدت إلى إساءة جهاز المخابرات العامة في نظر الشعب بينما الواقع أن جهاز المخابرات وجد ليحمي الشعب من أعدائه في الداخل والخارج . أما القضية الأخرى وهي عمليت التعذيب فقد فوجئنا بأن جريدة الأهرام تثيرها فيتركيز شديد وبعناوين ضخمة وقد كان االاهتمام بها شديدا لدرجة أن رئيس التحرير نفسه السيد محمد حسنين هيكل علق عليه تعليقا مثيرا . وكان وقت إثارة القضية مقلقا بالنسبة لأى إذ كنت أعاني في تلك الفترة من دفع أفراد الجهاز إلى التفرغ إلى أعمالهم الكبيرة معيدا إليهم الثقة بأنفسهم فالمطلوب منا تحقيقه كان شاقا ومصيريا وكان الجهد مركزا على خلق الصالح للإنتاج السليم . وقد بدأت ألمس نتيجة هذه السياسة بنفسي وتلمسها الأجهزة التي تستفيد من عمل الجهاز إلا أن إثارة هذه القضية فجأة عادت بنا إلى أول الطريق من جديد !! وكنت أعلم تمام العلم أن القضية لا أساس لها من الصحة وإلا كنت أثرتها بنفسي ولا أتستر عليها, وحدثني الرئيس في ضرورة إحالة الموضوع إلى التحقيق بواسطة النيابة العامة وصارحته بما يجول في خطرى وبالظروف المستحيلة التي أشق وسطها طريقي في وزارة الحربية وجهاز المخابرات إلا أن الرئيس أصر على إحال القضية كلها إلى التحقيق . وفعلا حققت النيابة العامة مع المسئولين وأحالت أربعة منهم إلى محكمة الشعب برئاسة السيد حسين الشافعي إلا أن المحكمة أصدرت حكمها ببراءة الجميع مما أسند إليهم وقررت في أسباب الحكم أن الدكتور الشرقاوي لم يتعرض إلى أى نوع من أنواع التعذيب . ولكن كان علينا – لكي يتفرغ الجميع إلى عملهم – بذل جهود مضاعفة إذ من المستحيل على مثل هذه الأجهزة الدقيقة الحساسة أن تعمل في ظل عدم الثقة أو في ظل القلقلة المستمرة . وفي الأيام القليلة التالية لبداية عملي بهذا الجهاز تم الآتي :
1- في اجتماع مع رئيس نيابة أمن الدولة في ذلك الوقت اتفقت معه على ترحيل كافة المتهمين الموضوعين تحت التحفظ في المخابرات العامة على ذمة قضايا خاصة بها وذكرت له أن الجهاز لا يريد هؤلاء فإن كانت النيابة ما زالت تطلبهم لسبب أو آخر فعليها ترحيل هؤلاء إلى أى مكان تره وقد تم ذلك فعلا ولم يتحفظ في الجهاز بعد ذلك ولمدة ثلاث سنوات قضيتها رئيسا له على أى فرد إلا السيد عثمان أحمد عثمان حينما رأت النيابة التحفظ عليه على ذمة إحدى قضايا الجاسوسية ولكن أفرج عنه بعد 24 ساعة من القبض عليه وحينما ظهر للنيابة براءته مما كان منسوبا إليه . 2- أعدنا النظر في كل الموضوعين على قوائم الممنوعين من السفر أو الدخول بواسطة المخابرات العامة ورفعناهم جميعا من القوائم وقد حرصت على مقابلة الجميع أو من يتيسر وجوده منهم بنفس وأفهمتهم الأسباب التي وضعوا في القوائم من أجلها منبها عليهم بتلافي ذلك ولم يوضع فرد واحد بعد ذلك على القوائم بواسطة المخابرات العامة طوال فترة رئاستي لها . 3- أصدرنا التعليمات التفصيلية والسرية لوضع الحدود التي تتم في إطارها " الأعمال القذرة " للمخابرات العامة مثل عمليات " السيطرة وتزوير الجوازات أو الوثائق أو الصور أو تزييف العمل أو السموم والتي قررت إقفال القسم الخاص بها واتبعت هذه التعليمات بمنتهي الدقة . 4- أصدرت التعليمات بعدم قيام الجهاز بأية تحقيقات من أى نوع وأن تحال كافة هذه التحقيقات إلى النيابة لإجرائها ولم يتم تحقيق بواسطة الجهاز إلا في قضية واحدة عرفت بعد ذلك " بقضة كسيماتس " كانت خاصة بالتلاعب في إحدي شركات القطاع العام وعرضت توصيات الجهاز بخصوصها على اللجنة التنفيذية العليا للإتحاد الاشتراكي والتي وافقت على التوصيات والسبب في هذا الإجراء أن اثنين ممن ثبتت مسئوليتهما في القضية كانا شقيقين لعضوين في اللجنة التنفيذية العليا . 5- تم تركيز سلطة الضبطية القضائية في يد رئيس الجهاز ولم تستخدم هذه السلطة إطلاقا طول رئاستي لا بواسطتي ولا بواسطة أى فرد من الأفراد رغم أن هذه السلطة كانت مخولة لنا بواسطة قانون المخابرات العامة والقوانين المعدلة له . 6- وضع نظام دقيق للمصاريف السرية وطريقة المحاسبة لإنفاقها بواسطة الجهات المختلفة دخل الجهاز ولنا هنا وقفة : أ- طلب عبد الناصر – بعد النكسة - من كافة الأجهزة التي تحت يدها مصاريف خاصة أو سرية تقديم حسابات شهرية عن إنفاقها. ب- حينما اعترض حد رؤساء الهيئات داخل جهاز المخابرات العامة على نظام المحاسبة استبدلته بغيره في الحال حتى يكون مثلا لغيره . ت- شكلت لجنة فنية لمراجعة حسابات الجهاز في الظروف المؤسفة لأحداث " 15 مايو 1971 " وكتبت اللجنة في تقريرها عن المراجعة " إن النظم المعمول به في جهاز المخابرات العامة مثل يجب أن يحتذى في كل الأجهزة التي يوجد تحت يدها مثل هذه المصروفات فهو نظام يتميز بالدقة والوضوح " وتظهر أهمية هذا التقرير من ظروف كتابته إذ كنت أتنقل في ذلك الوقت من سجن إلى آخر من سجون الرئيس السادات وكان المطلوب طبعا من اللجنة أن تكيل الاتهامات لمن أصبح وراء القضبان .
ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يتفرغ الجهاز للقيام بأعماله الخطيرة في ظل عودة الثقة إلى أعضائه وفي ظل التعليمات الواضحة التي حددت الاطار السليم لتحركاته مما بدأ ينعكس على أعماله الداخلية والخارجية على حد سواء . ماذا حدث في الأسابيع التالية لليلة العصيبة ؟ وحتى نكمل الصورة لما دث بعد تلك الليلة وما تلاها من تطوران خطيرة وجدتني في حيرة حقيقية عن الطريقة الموضوعية لاتمام ذلك ... فقد شركت بنفسي في بعض هذه الأحداث كما شارك غيري فيها بمقدار جهده وبمقدار مسئوليته عن حدوثها ويمكن ن يكون ذلك المنبع الرئيسي الذي أخذ منه معلوماتي ولكن قد يكون هذا الإجراء غير محيد في نظر البعض . ثم أمامي عشرات المراجع التي كتبها البعض ليعرض الحقيقة واعترف أن هؤلاء قلة وهناك أيضا عشرات المراجع التي كتبها البعض بحثا عن الحقيقة واعترف أن هؤلاء نادرون وبالرغم من ذلك فقد تعد مثل هذه المراجع رافدا آخر يضاف إلى المنبع الأصلي للمشاركين في الأحداث ولكن قد لا يبعث ذلك الطمأنينة الكاملة في نفوس البعض . ثم أمامي بعد ذلك مئات من المراجع والمقالات التي استبعدتها من فورى إذا إنها كتبت لا ذكراا للحقيقة ولا بحثا عنها ولكن كانت الكتابة بقصد تشويهها وإضاعة معالمها لدوافع متباينة . فبعض الكتاب جرى وراء المال ومصادره كثيرة مغرية خاصة وأن هذه المصادر لا تدقق في صحة ما ينشر فكل همها الإثارة كحافز للبيع وجمع الريح في سوق النشر الغريب , والبعض لبس ثوب المؤرخ ولكنه بدلا من أن ينقل من صفحات الواقع أخذ يكتب من الخيال فيخلق قصصا لم تحدث وبدون أوهاما ويحاول أن يقنع القارئ على أنها حقيقة والبعض الآخر – بدافع الحقد والكراهية وتصفية الحساب – حول قلمه إلى فأس وشمر عن ساعده وخذ يضرب ويحطم في جبال الحقيقة الشامخة ولكنه اكتشف بعد فترة أنه لم يخدش إلا السطح وفأسه قد تكسرت في يده والناس يمرون عليه وهم ينظرون إليه في أسف وازدراء ...! أما هذه البدائل الصعبة اخترت مصدرا واحدا يقص علينا الحقيقة . هذا المصدر هو كتيب صغير أسود الغلاف كتبه " المستشار محمد عبد السلام " اسمه " سنوت عصيبة – ذكريات نائب عم " والسبب في هذا الاختيار يرجع إلى عوامل كثيرة موضوعية :
1- فهو صادر أولا عن دار الشروق . وهي دار وهبت نفسها لدوافع معروفة لتشويه صورة عبد الناصر وعهده ولذلك فهي لا يمكن ن تكون دارا تروج لشئ إلا هدم عبد الناصر وأعماله والتشكيك فيه . 2- ثم صدر الكتاب عام 1975 وهي السنة التي شاهدت تصاعد الهجمات على عبد الناصر من قمة الإدارة الحاكمة إلى صحافتها إلى مؤسساتها ومعني ذلك أن ما ينشر وسط هذا المناخ لابد وأن يكون مسايرا له . 3- ثم مؤلف الكتاب مستشار من رجال العدالة . ثم هو نائب عام في فترة الأحداث التي صمنها كتابه ثم ان هو المحققق في تلك الأحداث التي تلت " الليلة العصيبة " ثم يبدو من كتاباته نه لم يكن مقتنعا بالعهد الذي خدم فيه العدالة في أخطر مناصبها فرسم الغلاف نفسه يدل على ذلك إذ يصور " خنجرا " مصوبا إلى كتاب ضخم ربما يرمز إلى الدستور والدماء تسيل بغزارة .. يعني يريد أن يقول أن " العدالة كانت تذبح" ثم وللتدليل أمث على ما نقول نجده يكتب في مقدمة كتابه ويوقع علي ما كتب النص الآتي وهو يوضح للقارئ كيف كان معتذرا عن قبول منصب النائب العام حينما عرض عليه في أغسطس 1963 " كنت أدرك وأفهم المصاعب والمخاطر التي تصادف النائب العام في الظروف العادية فما بالك بالظروف الاستثنائية التي كانت بلادنا تم بها في سنة 1963 وكنت أدرك كذلم أن هذه المصاعب قد تتصاعد إلى درجة الخطر عند التعامل مع حكام لميكن بعضهم قد ني بعد صفته العسكرية وكان من العسير عليهم فهم معني العدالة وقداسها أو إدراك المبدأ , البسيط والصحيح دائما وفي كل الظروف والذي يحصل في العبارة الخالدة : العدل أساس الملك..." إزاء عقيدته تلك فإن قوله في سرد الأحداث لا يمكن أن يتهم بالتحيز لنظام هذه شهادته عنه . 4- ثم نجد أن الرجل تقديرا منه لخطورة الأحداث التي سيتولي تحقيقها بعد الليلة العصيبة يتخذ من الإجراءات التي تجعل " التحقيق مجردا من أى رأى مسبق رغما عن أن التحقيقات وأقوال الشهود والتقارير الطبية والكيماوية وظروف الحال أكدت أن المشير عامر مات منتحرا بتناول مادة سامة هي مادة " الأكونتين " فحرص النائب العام أن يتولي " بنفسه التحقيق " بل وينبه على معاونيه من أعضاء النيابة أن يلتزموا في تحقيقاتهم أقصي ما يطالب به المحقق النزيه من الحيدة وعدم التأثر بفكرة معينة وإفساح المجال لإثبات أى أقوال تبدى مهما تكن خطورتها لتكون بعد ذلك محلا للفحص والاستنباط واستخلاص النتائج الصحيحة منها " ويستطرد قائلا " رايت أن أسأل – انطلاقا من هذه الاعتبارات – الفريق أول محمد فوزي والمرحوم الفريق عبد المنعم رياض وغيرهما من الضباط والأطباء ومن الناحية المضادة سؤال أسرة المشير الذين اتهموا السلطات الحاكمة بقتله وقد رأيت أن أسأل أفراد الأسرة في منزلهم حتى يكون التحقيق بعيدا عن أى مظهر من مظاهر السلطان أو أى مظنة من مظان الإرهاب وطلبت لنفس الاعتبارات من ضباط المباحث العامة وغيرهم من رجال الشرطة الذين صاحبوني في الطريق أن يبقوا بعيدا عن المنزل مسافة تزيد عن المائة متر "... ثم يقول " ولما كان كل من أسرة المشير يبدى استعداده للتوقيع على أقواله بعد تسجيلها فكنت أصر على ألا يوقع إلا بعد أن يطالع ما أ ثبت على لسنه " إذن فالرجل اتخذ كل حيطة يمكن لمحقق أن يتخذها لكي يكون تحقيقه عادلا لا شبهة عليه . فاعتمادن على هذا المصدر إذن لابد وأن يهدئ من الشكوك التي كان يمكن أن تثار لو أننا لجأنا إلى البدائل الأخرى التي سبق ان ذكرها أو هكذا اعتقد . فماذا قال الرجل ف يكتابه من حقائق ؟
الحقيقة الأولي
أستدعي المشير في منزله يوم 25/6/1967 إلى منزل رئيس الجمهورية حيث أفهم أن النية اتجهت إلى تحديد محل إقامته فحاول الانتحار بمادة سامة وأسعف بالعلاج وأعيد إلى منزله وقد أيقن أن حريته قد تتعرض في وقت ما لمزيد من القيود فظلت فكرة الانتحر مسيطرة عليه وهيأ نفسه لتنفيذها إذا ما وصل الأمر إلى تقييد حريته بدرجة تفوق قوة تحمله .
الحقيقة الثانية : في يوم الأربعاء 13 / 9 / 1967 أصدر رئيس الجمهورية أمرا بنقل المشير عامر من منزله إلى استراحة أعدت بالمريوطية في منطقة الهرم ليقيم فيها منفردا تحت الحراسة تمهيدا للتحقيق معه في شأن ما أسند إليه وقد نقل وزي الحربية هذا الأمر إلى الفريق أول محمد فوزي لتنفيذه فقام ومعه الفريق عبد المنعم رياض والعميد سعد عبد الكريم وعدد من الضباط والجنود ووصلوا إلى منزل المشير الساعة الثانية والنصف بعد ظهر اليوم وانضم إليهم قائد الحرس المحل العميد محمد سعيد الماحي . وقابل العميدان سعد والماحي المشير في غرفة الاستقبال وأخطراه بأمر رئيس الجمهورية فأبي تنفيذه . ودخل الفريق رياض ليحاول بنفسه إقناعه ولكنه أصر على الرفض وغافل الحاضرين وتناول بقصد الانتحار مادة الأكونتين السامة ممزوجة بقطعة من لأفيون وورقة من السلوفن للتخفيف من آلام التسمم وعندئذ شوهد بلوك في فمه مادة أدرك الفريق رياض والسيدة نجيبة كريمة المشير على الفور أنها مادة سامة وأنه تناولها بقصد الانتحار ونقل المشير إلى مستشفي القوات المسلحة بالمعادى وكان يلوك أثناء الطريق تلك المادة وقبل بعد إلحاح شددي من الفريق رياض إخراجها ولفظ ما في فمه في الرائد عصمت محمد مصطفي من الشرطة العسكرية والذي كان يرافقه في الربة وكانت عبارة عن ثلاث ورقات سلمها الرائد عصمت إلى المستشفي عند وصوله وقد أجريت له الإسعافات اللازمة هناك واصر الفريق أول فوزى إلى نقله إلى استراحة المريوطية بعد هذه الإسعافات . االحقيقة الثالثة وصل المشير إلى المريوطية الساعة الخامسة والنصف مساء يوم 13/9/1967 وترك هناك تحت رعاية النقيب طبيب مصطفي بيومي حسنين الذي ظل يتردد عليه طول الليل ولاحظ أنه يشكو من سعال وقئ فأعطاع عقاقير مهدئة وبعض الإسعافات وفي الساعة العاشرة صباح يوم 14 / 9/ 1967 تسلم الرائد طبيب إبراهيم البطاطا نوبته في الرعاية الطبية ولاحظ توالي القئ وأصيب المشير بحالة هبوط لم يتمكن بسببها من تناول طعام الغذاء فاضطر الطبيب إلى تغذيته عن طريق الحقن في الوريد بمحلول الجلوكوز وفي السادسة مساء دخل المشير إلى دورة المياه وكان يتقيأ ثم عاد إلى فراشه ولكنه مات في حضور الطبيب الساعة 6,35 مساء .
الحقيقة الرابعة
ولت النيابة التحقيق قبيل منتصف الليل بواسطة النائب العام وفحص الجثة ظاهريا بحضور وكيل وزارة العدل لشئون الطب الشرعي ووكيل عام المصلحة ..ووجد أسفل جدار البطن من الناحية اليسرى قطعة مستطيلة من روق لاصق يخفي شريطا معدنيا يحتوى على ثلاث فجوات بكل منها مسحوق من مادة ثبت من التقرير الطبي الشرعي والتحليل أنها مادة الأكونتين السامة وأن المشير توفي بسبب تناول هذه المادة ممزوجة بالأفيون منذ محاولة نقله من منزله في الساعة 2و30 بعد ظهر الأربعاء 13 / 9/ 1967 .
وتحدث عن تقرير الطب الشرعي الذي أورد أن سم الأكونتين مخبأ وهو ممتزج بالأفيون على جسد المشير وأن ما تناوله مغافلا الحراس في منزله كان من هذه المادة وأن الشريط اللاصق الذي يخفي مادة الأكونتين السامة والمخبأ في وضع دقيق من جسم المشير وقد تكرر نزعه وتثبيته بما يصلح تفسيرا لمحاولة الانتحار كثر من مرة , وأن استمرار أعراض القئ يومي 13 , 14 يحتمل معه أن تكون وفاة المشير قد حدثت نتيجة تسمم من مادة الأكونتين التي تناولها في منزله بالأفيون يوم 13 وهي مدة يمكن أن يكون أثرها فوريا أو يتراخي إلى أكثر من 18 ساعة وأن هناك احتمال أن يكون المشير قد استبطأ مفعول السم فتعجل النهاية وأخذ قدرا آخر منه عندما دخل دورة المياه يوم 14 قبيل وفاته . ثم ربط التقرير بعض ما أثبته فحص أوراق السلوفان التي لفظها المشير في السيارة من احتوائها على أجزاء مفضضة لامعة بها آثار مضغ وبين ما هو ثابت من وجود مسحوق الأوكنتين معبأ في جزء من شريط معدني مفضض لامع ومخبأ على جسم المشير بورق لاصق مستخلصا من ذلك أن المشير تناول في منزله قدر من مادة الأكونتين الموضوعة في الشريط المعدني المفضض مع احتمال أن يكون هذا القدر وحده هو الذي تسبب في حدوث الوفاة واحتمال أن ما عجل بها هو القدر الآخر الذي أخذه في الاستراحة .
الحقيقة الخامسة أما عن مصدر المادة السامة فقد ثبت أن المشير حصل عليها من إدارة المخابرات إذ أن السيد صلاح نصر استلم في 10 / 4/ 1967 ستمائة ملليجرام من مادة الأكونتين السامة معبأة بمقادير متساوية في ست فجوات من المعدة أصلا لوضع حبات الريالتين في الأوراق المعدنية الخاصة واعترف السيد صلاح نصر باستلامه مادة سامة وضعها في مكتبه وظلت فيه بحالتها إلى أن مرض يوم 13 / 7 وانتقل من مكتبه يوم 23/ 7 إلى إحدى لاستراحات حتى أعفي من منصبه يوم 26 / 8/ 1967 دون أن يدرى شيئا عن مصير المادة التي تركها في مكتبه وقد ضبط بإدارة المخابرات العامة باقي المادة ومعها ورقات معدنية من المعدة لوضع حبات الريالتين وثبت من التقرير الشرعي والصور الشمسية أن إحدى هذه الورقات تكمل الورقة المضبوطة على جثمان المشير وبها مادة الأكونتين وبذا تحقق أن المشير حصل على المادة السامة التي انتحر بها من إدارة المخابرات . الحقيقة السادسة نفت أسرة المشير في أقوالها انتحاره إلا أن النائب العام يرد على ذلك بأن هذه الشبهات فوق أنها مردودة بما سبقت الإشارة إليه من أدلة قاطعة بوقوع الحادث انتحارا فإنه لا تعدو أن تكون ظنونا ليس من شأنها أن تؤدي إلى النتيجة التي تصورتها ابنتا المشير إذ الواضح أن أقوالهما صدرت عن عاطفة الأبوة من جهة وبفعل الصدمة التي تعرضتا لها بوفاة والدهما في ظروف أليمة من جهة أخرى . ولا جدال في أن المشير مات منتحرا ولا جدال في أن ابنتيه كانتا على غير حق في تصوير الحادث على أنه فعل عمد. الحقيقة السابعة
وأخيرا يقرر النائب العام أن المشير هو اذلي تناول بنفسه وبمحض إرادته المادة السامة التي أدت إلى موته ولا جدال في أن المشير مات منتحرا .
وفي موضع من الكتاب يقول قولا يختتم به هذه الأحداث . من وقت أن بدأ التحقيق إلى ما بعد انتهائه بزمن طويل وحتى كتابة هذه الذكريات والتساؤل يلاحفني في كل مجلس يضمني مع آخرين ويأتي فيه ذكر الحادث – هل انتحر المشير حقا ؟ وكثيرا ما كان التساؤل يرد في لهجة استنكارية مفعمة بالشك بل كان البعض يؤكد أنه قتل رميا بالرصاص على الرغم من الماديات التي قطعت بأن جسده كان خاليا من أية آثار للمقاومة أو العنف أو الإصابات الظاهرة أو الباطنة وعلى الرغم من أن التحقيقات وأقوال الشهود والتقارير الطبية والكيماوية وظروف الحال أكدت أنه مات منتحرا بتناول مادة سامة هي مادة الأكونتين . الليلة العصيبة في الميزان لا شك أن يومي 25 ,26 أغسطس 1967 من الأيام الخطيرة التي مرت بها ثورة يوليو 1952 فما تم فيهما وما تلاها من أحداث كانت منحنيا حقيقيا في مسار الثورة خاصة وهي تمر بأقسي الاختبارات والتحديات التي واجهتها بعد النكسة إذ أصبحت من جديد في مواجهة أقسي أنواع الاحتلال والضغوط الاستعمارية الكبيرة . فقد تم فيها حسم استمرار خروج القيادة العسكرية على الشرعية وإصرارها على ذلك بحيث أصبحت بروزا لابد من إزالته . ولقد بذلت محاولات كثيرة قبل هذه الأحداث لتقويم ما أعوج من أمور ولكن فشلت كل هذه المحاولات رغما عن أن الذي قام بها هم " رجال الحرس القديم" من رجال مجلس الثورة ولا شك في أن هؤلاء يتحملون مسئولية ليست بالقليلة في عدم حسم الأمور قبل أن تتفاقم بالصورة التي وصلت إليها ومن الشعور بالرهبة الذي حس به البعض منهم – مثل كمال حسين والبغدادي - في رفضهما أن يحلا حل المشي في قيادة القوات المسلحة حينما عرض عليهما الرئيس ذلك. ويبدو أن الأمر لم يكن ينظر إليه إطلاقا في ضوء إنعكاسه على الأمن القومي للبلاد بدليل أن استقالات بعض أعضاء مجلس الثورة كانت لأسباب أخرى غير هذا السبب . ثم الصراع الذي كان يحتم بين هؤلاء – سواء كان صراعا أفقيا أو رأسيا – كان يجعل القائد السياسي دائما في موقف حرج يعيد فيه حساباته دائما وربما لا يصل إلى قرار حاسم وسط الانقسامات الموجودة طول الوقت وقد أخبرني السيد أنور السادات مرارا وفي مناسبات عديدة " الله يساعد المعلم معانا . إحنا وحشين أوى يا أمين " لو أن الجهود ركزت منذ وقت مبكر على حسم موضوع القيادة السياسية مع القيادة العسكرية لما تطورت الأمور إلى الحالة التي وصلت إليها والدليل على ذلك أنه لم يكن من الصعب إقناع " القيادة السياسية " بعد النكسة بضرورة الحسم رغما عن أن الظروف كانت شائكة وخطيرة فحينما كانت الأمور ميسرة سهلة في ظل اختفاء الصراعات في ذلك الوقت كان القرار بالتالي واضحا وقاطعا رغم خطورة الأقدام على حسم الوضع في مثل الظروف التي سبق شرحها وفي وسط الانقسام الذي كان يهدد وحدة القوات المسلحة.
2- ولقد أراد الرئيس عبد الناصر استغلال النجاح الذي تحقق في ليلة 25 و 26 أغسطس وفي يوم 26 أغسطس 1967 بأن يكون وزير الحربية وهو ممثل السلطة السياسية مشرفا حقيقيا على المؤسسة العسكرية لأن في تحقيق ذلك تأكيد لمبدأ خضوع القيادة العسكرية للقيادة السياسية الأمر الذي لا تستقيم الأمور إلا بحدوثه . هذا الموقف جعلني بعد محاولات كثيرة سابقة أتقدم باقتراحي في هذا المجال أحدد فيه الإطار السليم الذي يحقق ذلك.
فكان االاقتراح المقدم مني للرئيس في مذكرة كتابية في أوائل أكتوبر 1967 يحدد الهدف من تنظيم العمل في الأجهزة العليا لوزارة الحربية ليكون الآتي .
أ- تكوين جهاز متناسق يعمل في يسر وسهولة لرفع كفاءة وتجهيز القوات المسلحة في زمن السلم ونجاح قيادتها في وقت الحرب . ب- إيجاد الضمان الكافي للرقابة الفعلية تبعا لما يحدده الدستور على القوات المسلحة ليضمن الشعب دائما أن قواته قادرة على الدفاع عن أمانيه مع أتخاذ الترتيبات اللازمة لضمان السرية . ت- إمكانية تنسيق المجهود المدني اللازم لمواجهة احتياجات المجهود الحربي . ث- إدارة القوات العسكرية المتيسرة واللازمة لمساندة سياستنا الخارجية بأقل التكاليف الممكنة . ج- واستمرت المذكرة تقول " وفي رأيي فإنه لم يكن لدينا وزارة للحربية طوال السنوات الماضية بالمعني الحقيقي التي توجد عليه في سائر الدول مم انعكست آثاره على المراحل الأولية الحالية لإنشاء هذه الوزارة ولابد من الحزم الكامل لإدخال كافة الأجهزة التابعة للوزارة ضمن إطارها لتعمل جميعا تحت رئاسة واحدة مع تحديد الاختصاصات والمسئوليات واسلوب العمل " ووزير الحربية " شأنه شأن أى وزير آخر في أى وزارة أخرى مسئول عن سياسة وزارته مسئولية كاملة حددها الدستور وبقدر هذه المسئولية يجب أن يعطي السلطة الكاملة لتنفيذ سياسة الدولة في هذا القطاع وإلا فإن لأجهزة تصبح مسيرة له حسب ما هو قائم لا أن يكون هو الذي يوجه هذه الأجهزة كما ينبغي أن يكون ولذلك فإن وزير الحربية يعتبر المستشار الأول لرئيس الجمهورية في شئون الدفاع عن البلاد والمتحدث الرسمي باسم الحكومة عن كل ما يتعلق بسياسة البلاد الدفاعية يساعده في ذلك نخبة ممتازة من الأفراد القادرين وبوجه عام فإن مسئولية وزير الدفاع يجب ان تنحصر في التأكد – بصفة مستمرة – كفاءة القوات المسلحة للدفاع عن البلاد وتبعا لسياسة تعبر عن سياسة الدولة كذا فإن من واجباته تعبئة كافة الجهود المتيسرة في الجمهورية لتحقيق ذلك . ولتنفيذ الواجب الأول فإن السياسة العامة للدفاع عن البلاد يجب أن تناقش وترسم داخل " مجلس الدفاع الوطني " ولتحقيق الواجب الثاني فإن الأمر يقتضي إنشاء " مجلس احتياجات الدفاع الوطني " أما القائد لعام للقوت المسلحة فمتروك له قيادة قواته وإعدادها للقتال وأن يكون مسئولا مسئولية مباشرة أمام وزير الدفاع .. ومن الطبيعي فإن تشكيل جهاز قادر لوزير الحربية يقوم بأداء هذه الواجبات أمر يرحض الأفكار التي تناد بتوحيد أجهزة القيادة العامة للقوات المسلحة مع أجهزة الوزارة لأن طبيعة الأعمال في كليهما مختلفة إلى حد كبير في مستواها ونوعها علاوة على أن استمرار الوضع على ما هو عليه سوف ينتهي بالأمور لكي تصبح أجهزة القيادة العامة للقوات المسلحة هي الموجهة للوزير وليس العكس لفقداته مقومات التوجيه بانعدام أجهزة تدرس وتخطط وتقيم "
ولكن الرئيس – لأسباب رآها – لم يحسم الموقف لفترة طويلة الأمر الذي جعلني أكف عن العمل في وزارة الحربية ثلاثة أشهر كاملة حتى يبت في هذه الأمور الخطيرة عارضا في نفس الوقت تركي العمل بالوزارة إذا رأي الرئيس خلاف ذلك – وحسما للموقف المتأزم عرضت توحيد منصبي وزير الحربية والقائد العام بصفة مؤقتة وتم تركي وزارة الحربية على هذا الأساس . ويعتبر هذا الحل استغلالا محدودا للنجاح الذي تحقق في ليلة 25 /26 أغسطس 1967 إذ كان الضامن الوحيد لنجاح هذا الوضع في تلافي العيوب السابقة أن الرئيس أشرف بنفسه على كل تفاصيل القوات المسلحة. ولكن الحل الأمثل هو وجود وزير حربية ممثلا للقيادة السياسية على قمة المؤسسة العسكرية يقع على كتفيه كل من المسئولية البرلمانية والوزارية في توجيه قدرات البلاد المتاحة لخلق قدرة عسكرية رادعة للعدوان أو قادرة على الانتصار في معركة أجبرت على خوضها إن فصل منصب الوزير عن القائد العام أمر تحتمه الدروس القاسية الماضية حتى تتوفر الرقابة السياسية بصفة مستمرة على القوات المسلحة ...
ولذلك فإن استغلال النجاح كن محدودا حتى بعد حسم موضوع خروج القوات المسلحة على الشرعية القائمة في ذلك الوقت وفي تقديرى فإن هذا الموضوع حتى في أيامنا هذه يحتاج إلى معالجة واعية لأن وزير الدفع إذا تولي أيضا القيادة العامة للقوات المسلح يصبح مسئولا أمام نفسه فلا رقابة على تصرفاته أمام أى جهة من الجهات الأمر الذي يصبح فيه أمن البلاد موكولا لتقدير شخصي وهو أمر يبعث على القلق وسط أجواء مشحونة بالعدون تفتت فيه سلطات المنظمات الدولية واصبح اختراق الحدود وضم الأراضي سمة من سمات الصراع الإقليمي 4- ثم كانت تلك الليلة فاصلا – وبحق- بين ما كان يتم قبله وبين ما تم بعدها . وإذ سدت الشرعية بعد القضاء على الوضع الشاذ الذي اكتسبته القيادة العسكرية والذي تعقد بمرور الزمن حتى أمكن القضاء عليه بهذا الجهد والذي كانت المخابرات العامة - بعد أن تورطت في أعمل ليست من مسئوليتها ولا هي داخل العلاقات الطبيعية لعملها – تؤيدها فيه تأييدا مطلقا . وانصرفت الجهود بعد ذلك لتنفيذ سياسة مغايرة في ظل بقاء المبادئ الثابتة للثورة . أ- فانصرفت الجهود إلى إعادة بناء القوات المسلحة تمهيدا لتحرير الأرض . ب- وركزت المخابرات العامة جهودها – بعد إعادة تنظيمها – على تحقيق واجباتها سواء من ناحية الحصول على المعلومات عن العدو أو منع العدو من الحصول على معلومات عنا أو القيام بأعمال إيجابية عديدة مما جعل الرئيس يقول دائم " إن المخابرات تخترق إسرائيل في كل مكان ط ت- صدور بيان 30 مارس . ث- الانتخابات تتم من القاعدة إلى القمة في وحدات الاتحاد الاشتراكي أو الجماعات النقابية و مجلس الأمة . ج- وضع مبادئ جديدة لتصفية الحراسات وهي المبادئ التي جمعت في قانون رفع الحراسات والذي صدر عام 1971 بنصها وقطعنا شوطا طويلا في ذلك بحيث لم يكن هناك إلا 128 حالة موضوعة تحت الحراسة عند وفاة الرئيس . ح- العمل على زيادة الإنتاج في مجالاته المختلفة . إذن فكانت هذه الليلة بمثابة مولد أسلوب جديد يحاول تصحيح الأخطاء التي حدثت في التطبيق من قبل ولكن في ظل نفس المبادئ التي حددها الميثاق .
وكان عبد الناصر في تلك الفترة يحاول دفع بعض الوجوه الجديد إلى مراكز الصدارة والتي أطلق عليها البعض – عن جهالة – لفظ " مركز القوى " بعد حركة مايو 1971 وأنا شخصيا أرحب بإطلاق هذا اللفظ على هؤلاء الأفراد الذين كنت أحدهم ولكن على أساس التفسير الحقيقي لهذا اللفظ والذي كتب عنه في جريدة الأهالي قائلا الرئيس في النظام الديمقراطي يتخذ قراره بعد حوار يجرى بين " مراكز قوي " مؤيد وأخر معارضة كل منها يريد أن يفرض رأيه باستخدام الوسائل المتاحة : المؤسسات الموجودة, لجان تقصي الحقائق استفتاءات الرأي العام , الانتخابات , وسائل الإعلام المختلفةو وبذلك يصبح صاحب القرار هو احد مراكز القوى وليس مركز القوة الوحيد وهناك فارق ضخم بين الوضعين فالدولة دولة الجميع والبلد بلد الجميع وهذه الملكية الجماعية تحتم أن يكون أمنها من مسئولية جميع ساكنيها لن هذا المجموع هو الذي سيتحمل أوزار القرار الخاطئ ونتائجه و وهو الذي سيجني ثمار القرار الصائب وعوائده وسوف تظل الديمقراطية رافعة أعلامها طالما ظل الحوار مستمرا بين مراكز القوى التي يشكل صاحب القرار إحداها أما إذا أما إذا نجح صاحبالقرار فيأنيصبح هومركز القوة الوحيدفإنالحوار سوف يتغير إلى صراع " كان عبدالناصر بعد الليلة العصيبة يريد خلق حوار بين مراكزقوى متعددة هوإحداهاعلى طريقة الديالوج" أما السادات بعد أحداث 15 مايو فكان يريد للحوار أن يتم بواسطة مركز قوة واحد على طريقة "المونولوج" ولا نريد أن ندخل في الأسباب التى دعت إلى تغير شكل وأسلوب الحوار لأن هذا سوف ينقلنا إلى الحديث عن أحداث 15مايو 1971وهوحديث يجعل الإنسان يسير على الشوك إذ أنه حديث عن " الرفاق" يدمي القلب, ويلجم اللسان ....
5- ثم كانت تلكالليلةهي البداية الحقيقية لحركة مايو 1971 والتي قام بها الرئيس السادات .. ولعل في هذا القول جدة ولكنه حقيقة لاشك فيها . فمن تصرفات القدر أن " عامر" سقط من كشف المنافسين ولم يكن السادات أو غيره من المنتظرين يحلم بالرئاسة إطلاقا في حالة بقائه . إنني لا أقصد ولو للحظة واحدة أن السادات خطط لذلك أو عمل له فأنا أتحدث عن القدر وتصرفاته ... ثم استمر القدر في لعبته وإذا بالسيد زكريا محي الدين يتنحى ولم يبق في حلبة السباق إلا السيدان حسين الشافعي وأنور السادات .وسرعان ما وجه القدر ضربته الثالثة والحاسمة حينما قام الرئيس عبد الناصر بتعيين السادات نائب اللرئيس. فأصبح بذلك قاب قوسين أو أدني من " كرسي السلطان "!!! وبهذه المناسبة فإن الأخبار التي كتبها البعض عن نية عبد الناصر في التغيير هي أقرب إلى الأحلام منها إلى الحقيقة فبقدر علمي فإن عبد الناصر وإلى يوم وفاته لم يشر إلى احتمال تغييره للسيد أنور السادات . كان هذا استطردا ضروريا حتى يمكن تفسير ما نقصده فالسيد أنور السادات- بعد وفاة الرئيس –وفي اجتماع فيقصر القبة فجريوم30/9/ 1970 حضره معه كل من شعراوي جمعة وسامي شرف وأمين هويدى ولميكنالرئيسالراحل قد ووري التراب بعد – عرض عليه الاقتراحات الآتية بخصوص نقل السلطة: أ- يرشح سيادته لمنصب رئيس الجمهورية . ب- يعرض الترشيح على اللجنة التنفيذية العليا يوم السبت 3/10/1970 المركزية يوم الاثنين5/10/1970 ت- دعوة مجلس الأمة لإجتماع غير عادى صباح الأربعاء 7/10/1970 ث- يجرى الاستفتاء يوم الخميس 15/10/1970 ج- إذا جاءت نتيجة الاستفتاء بنعم يجتمع مجلس الأمة يوم السبت 17/10/1970ليؤدي الرئيس اليمين الدستورية وفقا لنص المادة 104 من الدستور. ولم يكنالرئيس السادات مصدقا ما يقال وكان ذلك ظاهرا على ملامح وجهه إلا أنه تظاهر بالرفض وهويقول " يا جماعة هذا مش وقته.لنيتم شغل منصب رئيس الجمهوريةإلا بعدإزالة آثارالعدوان ,وسأتولى بالنيابة إلى حينذلك" ولكنه إزاء إعادة العرض عليه مرارا سأل كل واحد منا عن رأيه في حضور الآخرين .فوافق الجميع على حتمية شغل المنصب وعلى أن يشغله السيد أنور السادات وهنا – وحينما وثق من عدم وجود أية اعتراضات – وافق قائلا " وعلى أن يشغله السيد أنور السادات وهنا – وحينما وثق من عدم وجود أية اعتراضات – وافق قائلا"على بركةالله " وأخذ يتمتم بشفتيه كما كان يفعل دائما متظاهرا بأنه يردد ما تيسر من كتاب الله .
ولقد ذكرت ذلك بالتفصيل في فصل" الوداع الأخير " من هذا الكتاب والذي نشر ووزع هنا في القاهرة عام 1980 في حياة السادات وقبل مقتله في حادث المنصة إذ قلت بالنص " ووسطالاستقالات العديدة وسحبها والرجوع عنها – وكنت أقصد إستقالةالسيد محمد حسنين هيكل والدكتور فوزى – والبيانات الحماسية والخطابات التي ترد عليها -وكنت أقصد كما وضحت في الكتاب بيان عزيزصدقي ورد البغدادي عليه – والمذكرات الكتابية وتجاهلها لم تعدم البلاد بعضمن عملوا في صمت والتزام حتى تسير الأمورفي مجراها الطبيعي الدستورى ولا يقلل من ذلك الجهد الذي بذله في تلكالفترة ما قيل عنهم بعد ذلك وهم في السجون أثناء محاكمتهم بتهمة غليظة هي الخيانة العظمي أو الاشتراك فيها " وفي مكان آخر قلت" وفيفجر هذا اليوم كنا مع السيد أنور السادات في قصر القبة حيث كان يمضي الليلة هناك... ثم أكملنا حديثنا بخصوص نقل السلطة وإعمالالدستور وتحديد تواريخ الخطوات اللازمة لذلك " هذا حقيقة ما حدث بالضبط .وليس صحيحا ما قاله الرئيس السادات من أن الرئيسمحمد جعفر النميري كان له دخل في الموضوع لأنه – كما يتضح فيجزء آخر من الكتاب – لم يرد أن يتدخل في هذه الموضوعات وما كان له أنيتدخل والتزم الرجل بهذا الموقف حتى استقل طائرته عائدا إلىالخرطوم.
ولم ينس الرئيس السادات أبدأ هذه الليلة خاصةبعد أن "تولي " بلأسقطها من كل كتاباته بأقواله عن ذاته وهي كثيرة تملأ مجلدات ضخمة.
ولكنه لمينس في نفس الوقت "الليلة العصيبة" فإن الذي قام بها هم الثلاثة " شعراوى جمعة وسامي شرف وأمين هويدى" تحت قيادة عبد الناصر .وخشي الرجل أن تتكرر. وما كان له أن يخاف أويخشي فإن ماتم في تلك الليلة كان في إطار الشرعية ولتثبيت دعائمها .وحينما لم ينس أتخذ جانب الحذر أولا ثم اتخذ طريق الإزاحة بعد أن ثبتت أقدامه وتوطدت .والدليل على أنه لم ينس أبدا هذه الليلة أنه أسقط ذكرأسماء هؤلاء الثلاثة في كتاباته وأحاديثه عن ذاته وهي كثيرة تملأ المجلدات ضخمة كما سبق القول. وهذا لا ينفي أن الرئيس السادات لعب لعبته بمهارة وذكاء في غفلة من الآخرين الذين ألهتهمالشكليات الزائلة . وانغمسوا في منافسات لا معني لها .وأظنهم لا يفيقوا إلا بعد فترةكما علمت وسمعت ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان.وكان الرجل حذرا طول الوقت – وهذا حقه – ولكن لم يكن حذره هذا على أساس ,ولم يكن شكه على حق لأن الجميع كانوا خاضعين مطيعين ولم يكونوا يضمرون شرا.\ لكن الرجل – كما قال – كان قد قرأ كتاب "الأمير لنقولا ميكيا فيلي "واستوعبه وطبق ما جاء فيه وهو يمارس لعبة السلطة التي لا ترحم . فكان لابد – من وجهة نظره - أن يتخلص ممن ساعدوه وكانت هذه عادته ... حتى من ساعدوه في حركة مايو 1971 تخلص منهم أيضا وبسرعة:الزيات بعد أن رفعه إلى درجة نائب رئيس وزراء ,محمد حسنين هيكل مهندس حركة مايو ومصممها الفريق محمد صادق وزير حربيته الذي قال عنه إنه سيبقي في منصبه مدى الحياة, محمد الليثي ناصف الذي سقط من شرفة عالية في لندن وهو يعالج من مرض عضال , ممدوح سالم بوضعه في منصب لا يقبله الكثيرون له ولا يحبه له عارفوه .
فكما سبق وأزاح "جماعة مايو... بفرع جميز – على رأى محمد حسنين هيكل – فإنه أزاح " جماعة التصحيح " بنفسالفرع أو ربما بغيره ولكن بفارق واضح : إذ يبدو أن جماعة مايو كانت تقلقه للدرجة التي كان لابد من محاكمتها فنالت بذلك أوسمة لا تستحقها , أما الآخرون فيبدو أنهم لم يكونواعلى نفس الدرجة من الأهمية فكان من حظهم إجراءات أقل شأنا : ليس هذا رأيي ولكن قد يكون هذا تصوره.
أكررأن الرجل كان يسير على قاعدة التخلص ممن ساعدوه فما ثلاثة ساعدوا ثم اشتركوا في الليلة العصيبة ؟
6- ثم كانت الليلة العصيبة حركة تصحيح جادةلمسارالثورة كانت ضد نائب رئيس الجمهورية وقائد عام القوات المسلحة رفع راية العصيان ضدالشرعية القائمة,ورفض تركه للقوات المسلحة بعد أن دمرها ودمرالبلاد معها ثم نجده وقد اعتصم في منزله تحت حراسة مدنيةوعسكرية وجمع حوله زملاؤه وأعوانه في صورة خارجة عن القانون وكانت هناك قضية . القضية هي أن السلطة الشرعية فقدت قدرتها على فرض قراراتها ولميكن في استطاعتها تنفيذ أوامرها بعد أن وصلتالأوضاع إلى ما وصلت إليه واستشري الوضع إلى أجهزة أخرى مثل المخابرات العامة الأمر الذي كان يمكن معه أن تمتد الفتنة إلى أجهزةأخرى . ولذلك فإن الليلة العصيبة كانت معركةحقيقية بين الشرعية والعصيان..والأمر يزداد خطورة حينما يحدث هذا العصيان والعدو يحتل الأرض فهو بذلك يحول دون المواجهة الحتمية مع العدو الإسرائيلي والطريق لإتمام ذلك طويل بالصعاب ,ولا يمكن مواجهة هذا الموقف مواجهة ناجحة في ظل جبهة داخلية مفتتة منقسمة تعجز الشرعية فيها عن مواجهة الخطر الخارجي .
وكان الأمر بذلك يختلف كلية عما حدث بعد ذل بأربع سنوات فيما سمى بحركة مايو ...ثم بثورة مايو ...!!! كان هناك خلاف في الرأي وليس حالة عصيان , ثم كان الجميع في منازلهم يعدون استقالاتهم وترك الأدوات التي كان يمكن أن يستخدموها في إحداث الانقلاب المزعوم لأن من يريد أن يحدث انقلابا لا ينزع أسلحته أولا ثم يقوم بمعركته ثانيا.وعلاوة على ذلك فإن أحدا لم يعتصم معترضا على قرار صدر من السلطة القائمة. فقد ظل الجميع في منازلهم بعد أن تركوا كل شئ حتى تم القبض عليهم ...وما لثبت حركة القبض والتصفية أن اتسعت لتشمل كل من عمل مع عبد الناصر تقريبا وكان من ضمن هؤلاء أشخاص –مثلي –تركوا السلطة وبما فيها بمحض اختيارهم من شهور ولا يدرون عما يحدث أى شئ .وعقب القبض قدم الجميع إلى محكمة خاصة حيث حوكموا محاكمة تمت في الظلام علما بأن محاكمة من قبض عليهم عام1967 تمت علانية. كان عبد الناصر نفسه هوالذي وضع في قفص الاتهام لتلطخ صورته وتهتز مبادؤه حتى يمكن تنفيذ الخطوات التالية :
ولنا أننتساءل بالأسئلة الآتية عن أحداث أو حركة أو ثورة مايوهذه : ضد من قامت هذه الثورة؟ولصالح من ؟ وبمن ؟ كانت الأحداث مهزلة حقيقية لعب فيها أبطالها والكومبارس معهم أدوراهم بمهارة . انظر مثلا إلى اثنين من أعضاء مجلس الأمة هما مصطفي كامل مراد ومحمد شاهين وهما يرددان في فخر بأنهما عادا إلى منزليهما في تلك الليلة ليتسلحا بمسدساتهما ظ!! حتى لو كانوا يضمرونشيئا فأني لهذا المسدسات أن تقف وتقاوم وحدات كاملة قيل وأشيع أنها أداة للإنقلاب المزعوم ؟!! تمثيلية كبرى لم تكن لتتم إلا في تلك الظروف المؤسفة .
ونقطة أخرى لا بأس من ذكرها . فقد تمت الليلةالعصيبة في ظل المبادئ التيكانت سائدة قبلها والتي ظلت سائدة بعدها وحتى وفاة عبد الناصر كانت الليلة وما تم فيها تقصد وبحق إعادة الشرعية مع ثبات المبادئ التي سجلت في الدستور والميثاق وطبقت فعلا في كافة المجالات ...ولميحدث انحراف عنهما.أما حركة مايو 1971 فإنها كانت تهدف – قبل كل شئ – إلى تغيير المبادئ القائمة بأخرى لم تكن تدور بخلد أحد تحتتغيير بعض الأشخاص بغيرهم ... أشخاص كانوا قد تخلوا عن مقاعدهم فعلا ولكن لم يكونوا هم المستهدفون بقدر ما كانت المبادئ التي خلفها عبد الناصر .يعني وبوضوح كان الغرض الحقيقي من 15 مايو1971 هو الانقضاض على مبادئ ثورة يوليو 1952 نفسها وكان الغرض الظاهرى " فرم " بعض أشخاص تخلوا فعلا عن السلطة والدليل على ذلك – إن كان الأمر ما زال يحتاج إلى دليل – الهجوم الضاري المباشر على عبد الناصر على لسان رئيس الدولة وفي مؤسساته وعلى صفحات صحفه الرسمية وعلى شاشات التليفزيون ومن ميكروفونات الإذاعة ثم تحريم ذكر "الميثاق " بل التهكم على ما ورد فيه من مبادئ عظيمة ثم بعد ذلك تم الانعطاف الخطير والتحول المثير في السياسة الخارجية والداخلية وفي نفس الوقت ظل النظام الجديد أو الثورة المضادة الجديد تردد أناشيد ثورة يوليو وتلعنها ,وتعزف ألحانها المجيدة وتطعنها ,وتتمسح في ذيلها وتنفض عليها كانت الليلة العصيبة هي " ليلة التصحيح " الحقيقية ولكن ما حدث في مايو 1971 كان وبحق انقلابا مضادا على ثورة يوليو بكل المقاييس والمعاني . ثم لم يكن هناك – بعد انتهاء الليلة العصيبة – ضجة إعلامية ولا صخب مفتعل انتهت الليلة دون توزيع المكاسب والأنفال وانصرف كل إلى حال سبيله .ولم يؤرخ لها ولم تصبح علامة شهيرة يقف الجميع عندها أو حتى يذكرها كان يكتفي في ذلك الوقت باحتفال ذكرى الثورة الوحيدة الثورة الأم التي صححت نفسها بنفسها وسارت بعد ذلك في طريقها لا تلوىعلى شئ ذلك لأن إعمالا كثيرة خالدة قامت بها الثورة تلك الليلة كانت أعمالا عظيمة وخطيرة تنتظر الرجال بعدها . ولا يمكن أن يتم العمل الناجح والتطبيل الصاخب في وقت واحد. كانت الثورة الأم غنية بما حققت من انتصارات ولكنها وفي نفس الوقت تئن تحت وطأة ما حدث لها من هزيمة في نفس الوقت .
أما حركة مايو فقد صحبها طبل وزمر,واحتاروا في تسميتها سميت أول الأمر "حركة "!!! ثم بعد ذلك وفي خجل واضح اطلق عليها البعض " ثورة "!!! ولكن ما لبثالجميع أن رفع برقع الحياء تنكرللثورة الأم ويريد أن يحقق انتصارا حتى ولو كان ذلك في معارك وهمية .
وبهذه المناسبة تحضرني قصة سمعتها وأنا سفير لبلادى في العراق في أوائل ا الستينات .
كان عبد الكريم قاسم الذي انفرد بحكم العراق عقب ثورة يوليو1958 يكره عبد الناصر من أعماقه للدرجة التي لم يكن يطيق معها ذكر اسمه على لسانه , كان من ضمن ما يقض مضجعه من أعمال عبد الناصر تأميم قناة السويس وكان لا يشفي غليل الرجل إلا أن يقوم بعمل عظيم ينافس به عبد الناصر ولكن العراق لم يكن به قناة كقناة السويس . فماذا يفعل قاسم ؟ لم يتردد طويلا أمام حل نزل عليه من السماء .وأمر بحفر قناة على المحيط الخارجي لبغداد أسماها " قناة الجيش " وكان يذهب كل يوم ليرى قناته التي حفرها .وكان شعب العراق كله يتندر على الرئيس الحقود بقوله "إنه حفر القناة وسوف يعلن عن تأميمها في إحدى خطبه كما أمم عبد الناصر قناة السويس "...!! ولكن لم ترك عبد الناصر الأمور لتصل إلى ما وصلت إليه ؟
وهو سؤال واجب وصعب. فلابد أنه فرض نفسه علينا جميعا ونحن نستعيد هذه الأحداث وأحب أن أبدأ أولا بنص ما قاله عبد الناصر أمام مجلس الأمة فينوفمبر 1968... قال" حصل أنه اكتشفت انحرافات في جهاز المخابرات وحينما اكتشفت ما سبتهاش .. اللي اشتركوا في هذه الانحرافات اعتقلوا وتعرضوا للتحقيق وقدموا للمحاكمة أمام محكمة الثورة.فيه ناس بيلقوا لوم هذه الانحرافات على النظام أنا بدى أقول أن الانحرافات بتحصل في كثير من أجزاء العالم المهم إننا نلحق نفسنا ونبتر هذه الانحرافات . الانحرافات التي حصلت في هذا الجهاز تعرفوها أو يمكن سمعتم عنها ... أكثرها انحرافات رخيصة ومش ده المجال الحقيقة أني أنا أتكلم فيه .حصلت في كثير من أجزاء العالم أمثلة مشابهة .برضه جات لى جوابات إزاى إنت ما كنتش تعرف وإزاى الريس ما كانش يعرف باللي جارى وبهذه الانحرافات . أنا بأقول النهارده فرصة أني أنا أرد على هذه التساؤلات ويمكن إنتم بينكم وبين بعض أنه تم هذه التساؤلات ... إذا كانت الانحرافات حصلت في المخابرات ...إذا كانت المخابرات هي على المفروض إنها تقول لى على الانحرافات اللي بتحصل في البلد.. ما كنشي ناقص إلا أني أنا أعمل مخابرات على المخابرات وأعمل مخابرات على رقابة جهاز المخابرات وهكذا ..ولا تنتهي .يمكن أنا أقول اللي حصل برضه كان نتيجة الاتجاه نحومراكز القوة والاتجاه نحو خلق مجموعة تستطيع أنها في المستقبل تحكم ونسيت نفسها فانحرفت وما وصلتش قبل ما توصل إلى هدفها اللي هو الحكم وجدت أ،ه سهل الانحراف فانرحفت .. أنا بأقول بصراحة أني أنا كنت أري بعض مظاهر الانحراف قبل 5 يونيو ولكن لم أكن أتصور مداه .. حاولت بكل ما أستطيع,نجحت أحيانا ولم أر الحقيقة كلها في أحيان أخرى ... وأنا فعلا كنت أشفق على البلد من تكتلات القوى ومراكز القوى وكان حديثي دائما أما انتخابات الرئاسة وبعد كدةوعندكم هنا مرة جيت قلت لكم ..هل نعمل حزب أوحزبين أو لا ؟ ووضعت لكم مجموعة من الأسئلة وكان حديثس عن الديمقراطية والمزيد من الديمقراطية الآن ده كان السبيل الوحيد إن احنا نغطي على الانحرافات .هو أنا من تجربتي الماضية الناس بتخاف من إثارة أى شئ إما في مجلس الأمة أو في الصحف ولكن بعد كده مابيهمهاش إن الشخص منحرف والناس تتهامس مبيهمش طالما الموضوع لم ينشر .. لم يفتح في مجلس الأمة أوفي الجرايد خلاص . ولهذا أنا أيضا مرة أتكلمت معاكم هنا على أساس إن إحنا في حاجة إلى مجتمع مفتوح لكن طبعا بتوع المخابرات كانت وسائل الإخفاء كانت مباحة بالنسبة لدولة المخابرات اللي وجدت واللي انحرفت .أنا باعتبار إن هذه الدولة سقطت وإن هذا السقوط مسألة في منتهي الأهمية وأنا أعتبرها من أهم الجوانب السلبية اللي تخلصنا منها في سبيل تطهير الحياة العام في مصر."
وذكر أيضا في إحدى جلسات مباحثاته مع الملك حسين ملك الأردن وهو يعدد أسباب النكسة بعض الأسباب تقتطف منها ما يخص الإجابة على السؤال الذي طرحناه قال " القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية شعرت بثقة في نفسها وفي قدراتها بأكثر من الواقع وصلت أحيانا إلى حد التبجح كما انها اعتمدت في اختياراتها للمراكز الرئيسية على عامل الولاء أكثر من الكفاءة والخبرة العسكرية فمثلا كان واضحا من معارك وممارسات عسكرية سابقة أن قائد الطيران ليس على مستوى الكفاءة المطلوبة لتلك القيادة ورغم ذلك تمسكت به" تم ذكر في احدى جلسات مجلس الوزراء بعد النكسة مباشرة ردا على ما أثاره السيد حسين الشافعي من أن السياسة قبل النكسة اهتمت بموضوع "الأمن " أكثر من اللازم من أنه "لولا ذلك ما استمرت هذه الثورة حتى الآن وسط الظروف الصعبة التي أحاطتها منذ قيامها وحتى الآن " وهي مضمون هذه اللقطات يمكن أن نلخص الآتي كإجابة للسؤال الحساس على لسان الرئيس عبد الناصر إذ يرجع لأسباب إلى الآتي : 1- غيابالديمقراطية والدعوة إلى المجتمع المفتوح . 2- القيود على حرية الصحافة 3- الاختيار تبعا للولاء أكثر من الكفاءة والخبرة العسكرية في تعيينات القوات المسلحة. 4- انحراف أهم جهاز منأجهزة الرقابة وهو الرقابة العامة . 5- الأمن . كل هذه الأسباب يمكن أن تكون كلها أو بعضها سببا في وصول الأمورإلى ما وصلت إليه ولكن بصراحة فإنها لا تجيب إجابة شافية على الموضوع المثار وفي رأيي أن الوضع كله يمكن أن يتم بحق في إطارالتوازن بين الأمن القومي والتأمين الذاتي وقد سبق أن تعرضت إلى هذا الموضوع الحساس في العديد من كتبيومقالاتي إذ أنه من أكثر المواضيع خطورة بالنسبة لأى من نظم الحكم في دول العالم الثالث .
ولابد أولا من تحديد المفاهيم حتى يكون هناك وحدة فكرية ونحن نعالج هذا الموضوع ,فالأمن القومي هو الإجراءات التي تتخذها الدولة في حدود طاقتها للحفاظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل مع مراعاة المتغيرات الدولية وهذا التعريف يتضمن الآتي :-
1- تشمل الإجراءات كافة المجالات في الدولة فمسائل الاقتصاد والدبلوماسية والدفاع والأمن كل لا يتجزأ . 2- أن تكون هذه الإجراءات في طاقة الدولة إذ أن الآمال الطموحة التي تتجاوز الإمكانيات المتاحة تؤدى إلى التهلكة . 3- التخطيط للحاضر والمستقبل القريب والبعيد 4- مراعاة المتغيرات الدولية التي تحتاج إلى إعادة التقييم بين وقت وآخر ومطابقة الإجراءات مع المتغيرات الحاضرة والمنتظرة . أما التأمين فهو الإجراءات التي يتخذها أى نظام من الأنظمة لتركيز وضعه وتثبيته ضد أية محاولات داخلية أو خارجية. ومن الطبيعي فإن أى نظام من أنظمة الحكم يهتم بالموضوعين :الأمن والتامين بالمفهوم الذي شرحناه .ولعل التأمين يكون ذا أسبقية خاصة فيبداية التغيير . إذ أن أى ثورة لابد وأن تمر بما يسمي" بفترة الاختبار" أو" فترةعجم العود" سواء من أعدائها في الداخل أو الخارج فالجهود تركز إما على إسقاطها لصالح الأنظمةالمضادة أو على احتوائها بمحاولة تطويقها ووضع العراقيل في طريقها أو ربما باختراقها حتى في حلقاتها الداخلية .ومن هنا كان اهتمام الثورة بالتأمين عند قيامها ولفترة طويلة تالية.
ولعلنا جميعا نذكرالشهورالأولي بعد قيام الثورة. فالبريطانيون يحتلون قناة السويس وعلى بعدلا يتعدى مائة كيلو متر من العاصمة والولايات المتحدة تعمل جاهدة لإحتواء الثورة قبل أن تتعمق جذورها وتنطلق رياح التغيير الحقيقية مهددة الأنظمة المجاورة التي تسيطر عن طريقها على المنطقة وإسرائيل لم يمض على قيامها سوى أربع سنوات ولكنها تتربص بالنظام الجديد الذي تعلم قطعا قرب تصادمها معه . وفي الداخل وقفت الأحزاب القديمة التي أسقطتها الثورة في صف واحد مع الرجعية وراس المال المستغل والاقطاع تتحرش بالثورة وتتحداها .والطليعة الثورية نفسها خرجت من بين صفوف الجيش لتلتحم من أول دقيقة مع القاعدة الشعبية لتقوض النظام القائم هذه الطليعة التي تتكاثر عليها القوى الضاغطة من أكثرمن اتجاه لا يمكنها أن تقدم شيئا من المكاسب للجماهير التي طال انتظارها فالإمكانيات محدودة والرؤية غير واضحة وتنفيذ الإصلاحات يستغرق وقتا ربما يطول للإفتقار إلى الخبرة .. فمن يدرى - مع كل هذه العوامل المتضافرة – أن ضربة ستوجه في الظلام لتقضي على الثورة وهي ما زالت وليدة تتعثر في سيرها؟ ومن يدرى أن وسيلة هؤلاء المتربصين سوف تكون من الجيش الذي خرجت منه الطلائع الثورية صباح يوم 23 يوليو 1952 ؟ ويزداد الأمر خطورة أمام السلطة القائمة لأنها تعرف أكثر من غيرها وربما لأنها هي المستهدفة وربما لأن الأطراف المضادة تضغط على أعصابها بأخبار ملونة حتى تتعثر الجهود وتتشتت .
وسط هذه الظروف لمتكن الثورة مخطئة حين نظرت إلى تأمين نفسها ولم يكن لها من سند إلا الجيش والتأييد الشعبي . ولكن بينما كان الجيش منظما فإن الجماهير تحتاج إلى تنظيم ولذلك فإنها وضعت عبد الحكيم عامر على رأس الجيش بقصد تأمينه بهدفين :ضمان تأييد الجيش للثورة ومنه اختراقه بواسطة العناصر المضادة ثم تحت ضغط الظروف غير المنظورة يمكن استخدام التصدي لأى خطر داخلي أو خارجي يهدد بقاء الثورة أو استمرارها .
ولكن لماذا عبد الحكيم عامربالذات ؟ كان"عامر"من ضباط الجيش المعروفينتتلمذ عليه كثيرون من الضباط خصوصا هؤلاء الذين يحاولونالالتحاق بكلية أركان الحرب عن طريق إجتياز اختبارات صعبة تحتاج إلى مساعدة .وكان"عامر "على اتصال بالكثيرين الذين كانوا يلجأون إليه لتحقيق ذلك. ثم كان الرجل ولا شك خدوما له علاقاته الإنسانية , متواضعا ,محبوبا ليس فيه تزمت الضباط من ذوى الرتب الرفيعة.ثم كان " عامر " عضوا في مجلس الثورة . ثم – وهذا هو الأهم – كان الرجل صديقا لعبد الناصر وقريبا إلى قلبه وموضع ثقته ثم كان في نفس الوقت على علاقة بالرئيس محمد نجيب الذي تصدر الثورة وقت قيامها ولحين حدوث الانشقاق في صفوفها في حركة مارس 1954 . كانت فيه كل المزايا التي ترشحه للقيام بالواجب المنوط به لتأمين الثورة.
ومما يذكر عن اهتمام عبد الناصر بالتأمين في ذلك الوقت أنه كان يتولي رئاسة أركان الحرب أحد الضباط وهو الفريق محمد إبراهيم. وكان الرجل سريع الغضب , كثير الانفعال,ينفر منه الضباط الصغار بتهجماته التي لا تنقطع وقد أزعجت كراهية الضباط لرئيس أركان الحرب أحد الضباط القريبيين من عبد الناصر فذهب إليه منزعجا وأخبر عبد الناصر بما يقلقه .ولدهشة الزميل نظر إليه عبد الناصر وهو يبتسم ابتسامته الواثقة وقال له في اختصار " طيب وإحنا عاوزينهم يحبوه ليه ؟" والمعني واضح تماما لما ذهب إليه عبد الناصر .
ومما زاد من أهمية التأمين أن بعض التيارات المعاكسة كانت تظهر بين الوقت والآخر في صفوف الضباط وبالرغم من أن هذه التيارات طبيعية لابد من حدوثها في فترات الانتقال إلا أنها كانت تترك آثارها العميقة من الشك والقلق مما كان ينعكس بدوره على زيادة الاهتمام بالتأمين....
ثمزاد من هذه المشاعر القلقة ما تعرضت له الثورة من ضغوط خارجية وصلت إلى قمتها بالعدوان المسلح فاشتبكت الثورة في معارك التحرير في القناة قبل تحقيق اتفاقية الجلاء ثم لم يمر عامان إلا وكانت جيوش ثلاث دول تهاجمها فيما سمي بالعدوان الثلاثي وكان القصد إسقاط النظام الذي أصبح بسبب المتاعب السياسية الاستعمارية في المنطقة ويثير الخوف في إسرائيل . كانت كلاب الصيد تلاحق الثورة وتطلب رأسها. بعد العدوان الثلاثي كان لابد من وقفة .إذكانت خمسة أعوام كاملةقد مرت على قيام الثورةفهي فترة كافية لتحديد المفاهيم وهذا درس هام إذ أن الاستمرار على نفس الأسلوب دون تغييرلابد وأن يسبب التآكل والانحدار .لأن الظروف تغيرت فمصر كانت قد حصلت على استقلالها ,وتحررت إرادتها وعادت إليها قناتها.الثورة بدورها فمصر كانت قد حصلت على استقلالها ,وتحررت إرادتها,وعادت إليها قناتها ,والثورة بدورها عرفت طريقها وازدادت خبرتها ,والتفت جماهير الشعب حولها عن قناعة .ثم إذا كانت الأحوال قد وصلت إلى ما وصلت إليه من تغيير فإن المخاطر الخارجية لابد وأن تتزايد وتتعاظم كل هذه المتغيرات كانت تحتاج إلى وقفة عاقلة كما سبق القول ... وأهم ما يمكن التفكير فيه في تلك الوقفة هو بناء الجيش على أسس سليمة وتحديد موقع الجيش من الثورة ..أى تحديد مركز القيادة العسكرية وعلاقتها بالقيادة السياسية حتى لا تستفحل الأمور وتتعقد وتصبح عسيرة الحل. 1- فكان لابدمنتحديدمفهوم التأمين على أسس متغيرة تماما عما عليه المفهوم من قبل فالتأمين لا يتم عن طريق التساهل في تطبيق المفاهيم المتعارف عليها. فليس معنى التأمين التمادى في تلبية احتياجات الأفراد ومتطلباتهم وليس هو كسب الحب والولاء على حساب الضبط والربط وليس هو تعيين الأفراد مع التغاضي عن خبرتهم وكفاءتهم أبدا ليس هذا هو المفهوم الحقيقي للتأمين ,وأعود فأكرر أنه إن كانت الأمور قد اقتضت في الأيام الأولي للثورة تفسير التأمين بهذه التفسيرات الخاطئة المدمرة فإن استمرار ذلك إلى ما بعد العدوان الثلاثي كان إجراء بعيدا عن الحكمة ..| مفهوم التأمين كما حاولت أن أطبقه وأنا وزير الحربية بعد النكسة كان يحمل اتجاهات أخرى مغايرة..وضع الرجل المناسب في المكان المناسب إبعاد الجيش عن التيارات السياسية المتناقضة, التفرغ للتدريب ورفع مستوى كفاءة الوحدات ,التسليح الجيد , تفرغ الأفراد تفرغا كاملا لواجباتهم الأساسية تلبية مطالب الجيش واحتياجات الأفراد التربية المعنوية,تفهم الظروف السياسية الداخلية والخارجية بعمق كامل ووعي عميق حتى يؤمن الأفراد بقضية يدافعون عنها . 2- ثم كان لابد أن تنقل الثورة إلى مرحلة "الأمن القومي " بعد تطوير مفاهيم " التأمين الذاتي " ومجرد الانتقال إلى بناء عناصر الأمن القوميفيه بالتالي تحقيق للتأمين الذاتي وليس الأمن القومي مرتبطا فقط بتوفير المعدات والأسلحة الجيدة ولكنه – وكما سبق أن شرحنا – أوسع وأشمل من ذلك بكثير. فعلاوة على الاهتمام بنواحي الأمن المتعددة فإن الاهتمام بالرجال الذين يمسكون السلاح والذين يقفون خلف المعدات هو الشئ الحيوى الهام . فالنكسة لم تحدث أبدا كما يقال نتيجة لقلة العتاد والأسلحة , أولعدم وفرة القوات أو لتخفيض الميزانية ,أو لخطئ ارتكبته القيادة السياسية.إنسبب النكسة الرئيسي كان فيعدم صلاحية وأهلية القيادات الموجودة بأفرادها الذين كانوا قد تخلفوا عن التطورات التي تحدث من حولهم والذين تركزت اهتماماتهم فيالنواحي الشخصية وإن كان ذلك علي حساب واجبهم الأساسي إن مجرد التحديد الواضح لمفهوم الأمن القومي كان سيحدد المفاهيم الأخري للجزئيات تحديدا سليما واضحا . إذ أن تحديد مفاهيم الأساسيات هو الأصل في تحديد الفرعيات . 3- كان لابد من تغيير القيادات التي استمرت فترة معقولة في أماكنها فكان هذا التغيير يعني أيضا تغيير المفاهيم السائدة والتي استمرت كما هي رغما عن المتغيرات الكثيرة والخطيرة التي كانت تحدث وإن كان التغيير شيئا أساسيا ومطلوبا باستمرار فإنه أكثر أهمية في القوات المسلحة خاصة في القيادات العليا .فإسرائيل مثلا تحتم تغيير قياداتها كل ثلاث سنوات يمكن أن تمتد إلى أربع . لأن هذا التغيير يجعل الدماء الجديدة تتدفق في قنوات القوات المسلحة .أما أن يمكث عبد الحكيم عامر15 عاما في مكانه ومعه ضباطه الكبار من قادة الأسلحة فأمر لا تعرفه المؤسسات العسكرية .إن هذا يغرس فينفس القائد العسكرى الشعور بأن قيادته أصبحت وقفا عليه ثم تتضخم الأمور أما نظره لكي يصبح مجرد التفكير في التغيير معناه عدوان على شخصه ومساس بحقوقه والأخطر من ذلك فإن هذا الشعور ينتقل بالتالي إلى أفراد قيادته وتصبح القيادة تعيش في ظل هذا التفكير الخاطئ اهتمامها بالبقاء أكثر من اهتمامها بالعطاء .. إن هذه الرغبة في البقاء في حد ذاتها تخل الموازين عند الاختيار .فتخبوموازين الكفاءة والصلاحية أمام اعتبارات الولاء .ومن عادة الكفاءة أن تتوارى أمام الجهالة لأن الغث من الشئ هو الذي يطفو دائما على السطح وكما يقال فإنه " لا يبقي على المداود إلا شر البقر" إن تحديد مدة التغيير وفتراته يجعل القائد يهتم أولا وآخرا بعمل شئ جديد يكون بمثابة بصمات يتركها لمن يخلفوه وهذا في حد ذاته يجعله أكثر اهتماما باختيار القادرين على الإبداع من ذوي الكفاءة والخبرة فالمدة محدودة بزمن معين ,والواجب واضح لابد من تنفيذه وإلا فسيف التغيير موجود جاهز للبتر ,والمنافسة قائمة بين قيادات صالحة دؤوبة كل يريد أن يتميز على غيره ولا يرضي التخلف في السباق الدائر. 4- ثم كان لابد من تحديد العلاقة الواضحة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية وبين القائد السياسي والقائد العسكرى حتى لا يطوف خاطر "الازدواجية " في بعض النفوس .وأقصد بذلك"ازدواجية " الرئاسة" ونحن نعرف أن المركب تغرق لو تولي قيادتها ربانان. هنا ربان واحد للسفينة وكل من يخرج عن طاعته فهو خارج عن الشرعية وهذا أمر خطير لا يجوز السماح به كما كان من الواجب أن تخضع تلك القيادة العسكرية إلى الرقابة والمساءلة بتحديد العلاقة بين الوزير والقائد العام وبين هؤلاء وبين الاطار العامل لدولة فالكل أفراد في الفرقة الموسيقية وهناك" مايسترو " واحد ينظم الإيقاع حتى تكون هناك أنغام متناسقة وقد سبق لنا تحديد العلاقة بين القيادتين ولا داعي للتكرار . 5- وكان لابد من إيقاف عملية استنزاف القيادات الصالحة خارج القوات المسلحة وأحب هنا أن أقرر حقيقة واقعة أن تطعيم القطاع المدني بتلك القيادات كان في أغلب الأحيان تدعيم للقطاع المدني ورفع مستواه في مواقع كثيرة حساسة وهو أمر معمول به في كافة دول العالم. ولكن أن يتم ذلك لدواعي التأمين أو أن يتم ذلك على حساب القدرة القتالية للقوات المسلحة فهذا أمر خطير .وكم من قيادات مرموقة وكفاءات نادرة تركت مواقعها في القوات المسلحة بينما كانت الآمال معلقة عليها والأنظار متجهة لها ....وللتاريخ فإن هؤلاء أدوا خدمات جليلة في مواقعهم الجديدة ما كان يمكن لغيرهم أن يؤديها بعكس ما قيل ويقال. لوأن هذا تم في عام 1956 لكانت الأمور غير الأمور .وهناك سؤال ملح :هل كان من الممكن أن يتم ذلك في سهولة ويسر ؟ والإجابة – دون تردد- بالإيجاب فكان النقاء الثورى ما زال موجودا ,والطاعة ما زالت مقدسة ,والتطلعات كامنة , الحدود معروفة , الخروج على الشرعية مستحيل ,والعلاقات الشخصية سائدة وباقية , ويبقي السؤال قائما : إذا كان كل ذلك متوفرا فلم تحدث الوقفة ؟ ولم لم يحدث التغيير ؟ولم لم يحدث التحديد ؟ أعود فأكرر أن السبب كان يرجع إلى تغليب عامل " التأمين الذاتي" على عامل "الأمن القومي" ثم إلى المفهوم الخاطئ للتأمين .
وإن كانت الوقفة لم تحدث بعد عام1956 وإن كان هناك تبريرات في صالح ذلك فإن هذه التبريرات لا تستقيم أبدا بعد حدوث الانفصال بين إقليمي الجمهورية العربية المتحدة فقد ظهر للجميع عجز المشير عامر عن مواجهة أحداث الانفصال وظهر للجميع أيضا أن تصرفات عامر ورجاله في ممارسة شئون الوحدة هيأت المناخ الصالح للقوي الرجعية والاستعمارية أن تحقق الانفصال وتقضي على أعز أحلام الأمة العربية والتي تجسدت في وحدة الإقليمين . وكلنا نذكر أنعبد الناصر أراد التغيير في ذلك الوقت وبعد عشر سنوات كاملة من بداية الثورة كان التغيير طفيفا وذلك بإعطاء مجلس الرئاسة حق التصديق على التعيينات في المناصب الكبرى في القوات المسلحة ولكن المشير رفض الرئيس تراجع أمام الرفض .
وكان سبب ذلك تغليب "التأمين الذاتي" على عامل " الأمن القومي"
أذكر في تلك الفترة أن المشير حينما اختفي في مرسي مطروح بعيدا عن الأنظار بدأت تجمعات خطيرة في القوات المسلحة تتكتل لمواجهة إحتمال إقدام الرئيس على تغيير المشير وحضر عندى في منزلي أحد الزملاء الأعزاء من كبار رجال القوات المسلحة وطلب منى بحق الزمالة أن أحدد موقفي إلى جانب المشير كباقي زملائه حتى لا يقدم الرئيس على تغييره وكنت في ذلك الوقت نائبا لرئيس المخابراتالعامة. إلا أن نصحته بأن هذا الاستقطاب ضار بالصالح القومي وخارج عن الشرعية وأن من في مقدوره رأب الصدع فليفعل ومن في غير مقدوره أن يفعل ذلك فعليه ألا يزيد من اشتعال الموقف .وقد أطاعني الرجل وطلب مني أن يبقي ذلك سرا بيننا وقد حدث رغما من حساسية الموقع الذي كنت أشغله في ذلك الوقت . وقد أخذ عبد الحكيم عامر من هذه الأزمة درسا لم ينسه . فلقد أقدم صديقه على الحد من سلطات أصبحت حقا له بحكم التقادم وبالرغم من أن الرئيس تراجع بناء على حساباته الخاصة إلا أنه من يضمن عدم تكرار ذلك في المستقبل ؟ ومن هنا تحول " التأمين الذاتي للثورة" إلى " التأمين الذاتي لشخصه " وأصبحت القوات المسلحة منطقة ممنوعة بالنسبة لعبد الناصر وحدث في القوات المسلحة ما حدث حتى وقعت النكسة. في الفترة من 1962 حتى 1967 لم يكن عبد الناصر بقادر على التغيير حتى لو أراد فقد" شرد الحصان الجامح " ولم يكن أحد بقادر على كبح جماحه ... حتى بعد أن هزم هزيمة ما حقه , وحتى بعد أن دمر جيشه ودمر البلاد علاوة على ذلك ظل في موقعه يريد البقاء بل أقدم على خطوة أخطر وذلك بالتفكير في إزاحة القيادة الشرعية لو عصت أوامره أو وقفت أمام أطماعه.
فكانت الليلة العصيبة التي لولاها ما تمكنت قوة في البلاد من زحزحة عبد الحكيم عامر ورجاله وصلاح نصر وجهازه من مواقعهم الخطيرة التي ظلوا يحتلونها أكثر من عشرة أعوام كاملة وظنوا أنها أصبحت وقفا عليهم لا خدمة للوطن ولكن خدمة لأغراضهم الذاتية وأطماعهم الخاصة .
ويبقي سؤال أخير . هل حاول عبد الناصر تلافي السلبيات السابقة بعد الليلة العصيبة ؟ وهل كان راغبا في التغيير ؟ وهذا سؤال آخر حساس سوف نجازف بالرد عليه . لا شك أن عبد الناصر بعد الليلة العصيبة أصبح قادرا وبلا حدود على إحداث التغييرات المرموقة وأصبح ولأول مرة قادرا على ممارسة اختصاصاته كقائد أعلى للقوات المسلحة اسما وفعلا وفتحت الطرق أمامه للتغييرات الكبيرة لتحديد العلاقة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية وكانت الأمور أمامه واضحة تمام الوضوح إذ حينما أخبرني بتعيني وزيرا للحربية سألته سؤالا مباشرا عن الغرض الذي يحدده من تعيين وزير للحربية بغض النظر عن الشخص الذي يشغل المنصب الخطير .... وكانت إجابته واضحة أسعدتني إذ قال بالنص " أريد إدخال القوات المسلحة في الإطار العام للدولة بعد أن كانت بروزا ناتئا فيها " وكان هذا طريقا سليما.ومنذ اللحظة الأولي لعملي بالوزارة وضعت هذا الغرض السليم أمام ناظرى ورأيت من الحكمة تأجيل تحديد الاختصاصات في القيادةالعليا فترة من الزمن حتىتتضح الأمورعند الممارسة الفعلية وحينما حل الوقت لتحديد كل شئ تردد عبد الناصر في تحديد الاختصاصات لفترةطويلة من الزمن وكانت حساباته قد بدأت بخصوص " التأمين " خاصة بعد القضاء على المؤامرة التي كان يقودها المشير . حتى وهو يكلفني بمنصب رئاسة الوزراة في أواخر شهر سبتمبر سألته عما إذا كان الوقت قد حان لتحديد الاختصاصات في القيادة العليا للقوات المسلحة إلا أنه أجل البتفي ذلك لحين عودتي من زيارة موسكو التي سافرت إليها لحضور احتفالات أكتوبر هناكوللتفاوض من أجل اتفاقيات التسليح ثم – وعلى حد قوله –
ليعرفني رجال المكتب السياسي هناك.وحينما رجعتمن رحلتي وجدتأنالأمر يدعوإلى كتابة رغما عن خطورة الأوضاع وحساسيتها وحينئذ امتنعت عن ممارسة عملي كوزير للحربية ولم أدخل الوزارة بعد ذلك – أى من أول نوفمبر 1967 على ما أذكر – وحتى تركي المنصب لأتفرغ لرئاستي لجهاز المخابرات في24 /1/ 1968.
أقدم عبد الناصر في أول الأمر وبحماس ولكنهتردد بعد ذلك . وبالرغم من محاولات كثيرة كريمة من الرئيس فيالعودة عن قراري إلا أنني تمسكت بموقفي فكفي مالا قيناه من غموض العلاقات بين الأجهزة في السابق ولم أرغب في المشاركة بما لا أعتقد في صوابه . وبالرغم من كل ذلك فالرئيس لم يرسلني وراء الشمس ولم يؤذني بل استمع إلى رأيي وكل ما خسرته كان منصبا وكان غيره في الانتظار . ياليت القيادة العسكرية فعلت ذلك في مواقف مشابهة قبل النكسة ,وياليت أعضاءها كانوا قادرين على المناقشة والحوارقبل صدور القرار ...!! أقول ياليت لأن الإنسان ليس في إمكانه الآن إلا أن يتمني .
وإزاء هذا الإصرار من جانبي بدأ الرئيس يبحث عن بديل فعرض على السيد زكريا محيي الدين أن يخلفني في منصب وزير الحربية إلا أنه رفض وقد أخبرني بذلك الرئيس نفسه.ولما سألت السيد زكريا عن السبب الذي من أجله رفض المنصب ذكر ضاحكا " أنا سألت الرئيس ماذا تريد منى في هذه الوزارة ؟ أمين موجود فلماذا تولي المنصب ولماذا يريد تركه الآن ؟ّ" وأصر الرجل على اعتذاره.ولم يكن أمام الرئيس إلا الأخذ بمشورتي بالجمع بين منصبي القائد العام ووزير الحربية على أن يتولاهما قائد واحد ولو بصفة مؤقتة حتى لا تظل المناصب الحساسةشاغرة في الموقف الخطير الذي تمر به البلاد..
ثمكان الرئيس يرغب في التغيير حتى أوائل عام 1970 حينما استدعي السيد حافظ إسماعيل من باريس حيث كان يعمل سفيرا لنا هناك ليخلفني في رئاسة المخابرات .ولقد دهشت حقيقة حينما كلفني الرئيس بالاستمرار في الإشراف على جهاز المخابرات العامة حتى في وجود الرئاسة الجديدة إلا أنني اعتذرت فرئيس الجهاز لابد وأنيتبع الجمهورية مباشرة دون مزيد من الحلقات . إلا أن الرئيس استمرفي تحويل كل موضوعات المخابرات لى حتى وفاته بل في هذا اليوم – أى يوم وفاة الرئيس بل في ساعة الوفاة – كنت في اجتماع مع الشيخ سعد الصباح وزير الداخلية في ذلك الوقت والمسئول عن أعمال المخابرات في الكويت في منزله بالزمالك ومعنا السفير حمد الرجيب سفير الكويت بالقاهرة في ذلك الوقت . وقد علمت بعد ذلك أن السيد حافظ إسماعيل كان قد استدعي ليتولي منصب رئيس أركان حرب الجيش حينما يقترب موعد عبور القناة لتحرير الأرض وكان عليه أن يمضي فترة انتقالية في القاهرة في لتولي منصب وزارة الحربية وقيادةالجيش وقد يكون حافظ أصدق مني في روايته . وكما نرى فإن الرئيس لم يستغل التغيير الذي حدث بعد الليلة العصيبة استغلالا كاملا وتردد كثيرا في الأقدام على خطوات جذرية في هذا الاتجاه . كان المطلوب ضمان بقاء القوات المسلحة ضمن اطار الدولة وشرعيتها وكان المطلوب أيضا حسم العلاقة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية وقد تحقق ذلك بوجود شخص عبد الناصر كضامن وحيد يضمن عدم تطور العلاقة إلى وضعها الشاذ الذي تسبب في النكسة. إن السؤال يبقي حتى كتابة هذه السطور :ما هو الفاصل بين الجانب السياسي والجانب العسكرى في قمة العسكرية ؟ ثم من يراقب هذا الجهاز الحساس في ظل توحيد المسئولية السياسية والعسكرية فييد واحدة ؟ ويزداد الأمر خطورة في غياب جهات قادرة على أن تبحث وتنقب عما يحدث داخل هذه المؤسسة المعقدة الخطيرة ويزداد الأمر خطورة أيضا في انعدام رغبة هذه المؤسسة في عرض موضوعاتها للمناقشة وإصرارها على التستر وراء حجاب كثيف في الغموض والسرية في حين أن موضوعات الدفاع في الدول المتحضرة معروضة للنقاش والجدل .
وأخيرا..!!
كانت الليلة العصيبة من أخطر الليالي التي مرت بها ثورة يوليو المجيدة ..الغالبية العظمي لا تذكرها ولا تعرف عنها شيئا لأن البعض تجاهلها والبعض الآخر تعرض لها بمعلومات ناقصة مبتورة بني عليها فرضيات كثيرة واستنتاجات أكثر تركت على الساحة تساؤلات أكثر مما تركت من إجابات. ولقد التزمت الصدق والصراحة في معالجة الموضوع من البداية حتى النهاية . أما عن الصدق فهو عادة ملازمة لا يمكنني التحرر منها حتى ولو تعلق ما أقوله بشخصي أما عن الصراحة فكان مبعثها عدة عوامل :
1- خطورة العلاقة بين القيادتين السياسية والعسكرية وتأثير عدم وضوحهما على الأمن القومي للبلاد. 2- تقديرنا الشديد لعبد الناصر لا يمنعنا من ذكر سلبيات وقع فيها لأن مبادئ عبد الناصر تدعو دائما إلى النقد والنقد الذاتي . 3- أن الرجل كان يحاول دائما في ظل ظروف صعبة ضاغطة أن يصحح ويغير ولكن ربما كانت حساباته التي أجراها وقت الأزمة تختلف كثيرا عن الحسابات التي يجريها بعد انتهائها.