مصطفى الزرقا
العلامة مصطفى الزرقاء.. الفقيه المجدد(1322 1420ه- 1904 1999م)
هو مصطفى بن أحمد بن محمد الزرقاء، ولد في مدينة حلب بسورية 1322ه 1904م، وبدأ دراسته في كتاتيب القرآن على يد الشيخ محمد الحجار، حيث تعلم القراءة والكتابة والحساب وتلاوة القرآن الكريم، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية ثم الثانوية "الخسروية" الشرعية، مع الحرص على تلقي العلم من والده، حيث كان يحضر دروسه وخطبه في المسجد، وبعد امتحان البكالوريا التحق بالجامعة السورية، حيث درس الحقوق والآداب في وقت واحد.
وفي سنة 1933م، تخرج في الكليتين بدرجة التفوق، وهو يتكلم الفرنسية جيداً، وعمل محامياً أمام المحاكم الوطنية والمختلطة في حلب.
شيوخه
جده العالم الكبير محمد الزرقاء، ووالده العالم الجليل أحمد الزرقاء، والشيخ محمد الحنفي، والشيخ محمد راغب الطباخ، المؤرخ المشهور والمحدث المعروف.
حياته العملية والعلمية
شارك أقرانه، ومنهم الدكتور معروف الدواليبي، في التصدي للاستعمار الفرنسي، وكان يخطب في المظاهرات الوطنية، والتحق بالكتلة الوطنية، وقادتها: إبراهيم هنانو، وسعد الله الجابري، وإخوانهما.
وقد عُيِّن بجامعة دمشق أستاذاً لتدريس الحقوق المدنية والشريعة الإسلامية سنة 1944م، وكان أساس هذه الحقوق مجلة الأحكام العدلية المستمدة كلياً من الفقه الإسلامي، وقد أصدر في هذه الفترة سلسلته الفقهية في أربعة مجلدات بعنوان: "الفقه الإسلامي في ثوب جديد" الذي يعتبر من المراجع المعتمدة لدى القانونيين والشرعيين والأساتذة الجامعيين، كما أصدر السلسلة الثانية بثلاثة مجلدات بعنوان: "شرح القانون المدني السوري" الذي حلّ محل مجلة الأحكام الملغاة بالقانون المدني عام 1949م.
كما شارك في الحياة النيابية، حيث انتخب نائباً في البرلمان السوري عن مدينة حلب، وشكَّل مع إخوانه النواب الكتلة الإسلامية برئاسة د.مصطفى السباعي. وكذلك تولى حقيبة وزارة الأوقاف والعدل سنة 1956م ثم سنة 1961م.
وكان للزرقاء دوره في مشروع الموسوعة الفقهية بكلية الشريعة بدمشق مع زملائه الدكتور الشيخ مصطفى السباعي، ود.معروف الدواليبي، والأستاذ محمد المبارك، حيث كان التفكير في المشروع عقب مؤتمر أسبوع الفقه الإسلامي الذي عقد في كلية الحقوق بالسوربون بباريس سنة 1951م، وصدرت عنه توصية، وشارك في الموسوعة من مصر: الشيخ الجليل محمد أبوزهرة، والشيخ الفقيه علي الخفيف، وقد تعطل عمل الموسوعة بعد الانفصال بين مصر وسورية سنة 1961م.
وفي سنة 1966م، فكَّرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت في تبني المشروع، ووقع الاختيار على الشيخ مصطفى الزرقاء ليكون خبيراً للموسوعة الفقهية، وباشر العمل لمدة خمس سنوات، ثم توقف بعدها المشروع وغادر الزرقاء الكويت إلى الأردن حيث عمل أستاذاً في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية، كما عمل عضواً بالمجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، التابع لرابطة العالم الإسلامي.
هذا وقد حصل أستاذنا الزرقاء على جائزة الملك فيصل سنة 1404ه للدراسات الإسلامية على كتابه "المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي".
وكانت آخر أعماله: مستشاراً لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار:
نماذج من شعره
القرآن الكريم
قال عن القرآن الكريم:
كتاب من العلم المحيط مداده
به صفحات الكون تتلى وتسمع
فآياته مرآة صدق جلية
يُرى ما مضى فيها وما يتوقع
عظات وأمثال وهدي وحكمة
وشرع جليل نيّر الحكم مبدع
ألا إنه القرآن فاعلم ملاذُنا
فما دونه خير، ولا عنه منزع
به قارعات كالصواعق قوة
ونور رفيق بالعيون "مشعشع"
بلاغ كساه الله ثوب بلاغة
ترد بليغ القوم عياً فيخضع
علاج لبؤس البائسين محقق
وروْح لروح اليائسين مشجع
كفاء لحاجات الحياة جميعها
فللفرد تقويم وللقوم مهيع
شفاء لأدواء النفوس ورحمة
وتكراره أحلى لسمع وأمتع
تراه جديداً كلما جئت سامعاً
كأن المعاني من مثانيه تتبع
معرفتي به
عرفت أستاذنا الزرقاء من خلال ما كان يقوم به من دور في البرلمان السوري، ضمن الكتلة الإسلامية بالمجلس، وباعتباره من أقطاب الحركة الإسلامية في سورية التي كانت تناهض التوجهات العلمانية واليسارية، وتسعى ليكون الإسلام هو الأساس في الدستور.
ثم كانت لقاءاتي به في أثناء الموسم الثقافي في الكويت، حيث تشرفت بتقديمه في المحاضرات والندوات، ومرافقته في الجولات والزيارات.
وحين وفقنا الله سنة 1966م للنهوض بمشروع موسوعة الفقه الإسلامي بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، كان اختيار الأستاذ الزرقاء ليكون خبير الموسوعة الفقهية، يضع برنامج العمل فيها، ويختار الأعضاء العاملين من الفقهاء في إدارتها، ويرسم الخطط العملية لاستكتاب علماء الأمة الإسلامية، للإسهام في كتابة البحوث التمهيدية لموضوعاتها. وبالفعل تمّ ذلك بفضل الله، ثم بالجهود المشكورة التي بذلها أستاذنا الفاضل، فصدرت تلك البحوث التمهيدية، وكانت أولها عن الأطعمة والأشربة والحوالة وغيرها.
وبقي معنا في الوزارة أكثر من خمس سنوات، كنت فيها قريباً، بحكم طبيعة العمل، فضلاً عن التزاور فيما بيننا، في منزله أو في منزلي، حيث يحضر الندوة الأسبوعية يوم الجمعة، ويشارك فيها ويجيب عن أسئلة الحضور واستفساراتهم، وحين ترك الوزارة، بعد توقف المشروع فترة من الزمن، غادرنا إلى الجامعة الأردنية بعمان، فكنت ألتقي به في منزله بعمان، مع مجموعة من تلامذته ومحبيه.
وبعد التحاقي للعمل برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، أميناً عاماً مساعداً، كنت أسعد بمشاركته في جلسات المجمع الفقهي، وأستمتع بحواراته ومناقشاته مع أعضاء المجمع، وأعجب باجتهاداته للقضايا المعاصرة التي جدت في حياة الناس، وطرحه للحلول المقترحة على ضوء هدي الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة والقياس على الأشباه والنظائر، والحرص على التيسير على الناس في الفتيا.
وقد استمرت الصلة به حتى بعد تقاعدي من العمل بالرابطة، فقد كنت ألتقي به في الرياض، حيث يسكن كلانا فيها، ويعمل هو مستشاراً بشركة الراجحي للاستثمار.
قالوا عنه:
يقول عنه د.يوسف القرضاوي:
"عرفت العلامة الشيخ مصطفى الزرقاء أول ما عرفته في صورة له في مجلة (الشهاب) المصرية التي أصدرها في أواخر حياته الإمام حسن البنا رحمه الله وكان فيها مقال للزرقاء بعنوان: (العقل العلمي والعقل العامي) كما كتب مقالاً في عدد آخر من أعداد المجلة عن العصبية المذهبية، وقد وجدت فيما كتبه الشيخ الزرقاء حينئذ وأنا طالب في المرحلة الثانوية أفكاراً علمية، وروحاً تجديدية، مع بلاغة وبيان مشرق.
وبعد ذلك قرأت للشيخ الزرقاء بعض مقالات في مجلة "المسلمون" التي كان يصدرها الداعية المعروف د.سعيد رمضان مثل مقاله "العبادة: جوهرها وآفاقها" كما قرأت للفقيه الضليع الشهيد عبدالقادر عودة، صاحب كتاب "التشريع الجنائي الإسلامي" تعريفاً بكتاب الشيخ الزرقاء "الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد" أثنى فيه ثناءً عاطراً على الكتاب، مما شوقني إليه، وشدني للاطلاع عليه، وعندما أتيح لي الاطلاع على عمل الزرقاء، وجدته جديراً بما قال عنه الأستاذ عبدالقادر عودة رحمة الله عليهما، وكان أول لقاء لي مع الشيخ الزرقاء في مصر في عهد الوحدة مع سورية، عرفني به الدكتور محمد البهي المدير العام للثقافة الإسلامية بالأزهر حينئذ، وكنت أعمل معه في ذلك الوقت، وكان الشيخ الزرقاء يشارك مع رفقائه الثلاثة في وضع مناهج كلية الشريعة وكلية أصول الدين في الأزهر، وأعني بهم: شيخ الدعاة الدكتور مصطفى السباعي، والمفكر المربي الأستاذ محمد المبارك، والمفكر السياسي الدكتور محمد معروف الدواليبي، وكان كتابي "الحلال والحرام في الإسلام" قد ظهر في طبعته الأولى سنة 1959م، وكنت أرسلت إليه نسخة هدية مني فقرأه وسُرَّ به، وأثنى عليه، وقال كلمته الشهيرة: "إن اقتناء هذا الكتاب واجب على كل أسرة مسلمة".
ومن ذلك الوقت من أربعين سنة والمودة بيني وبين شيخنا موصولة، وكلما ظهر لي شيء من الإنتاج العلمي، هشّ له، ورحّب به، وحثّ طلابه على قراءته، مثل "فقه الزكاة" وغيره من الكتب.
لقد كان الزرقاء جبلاً من جبال العلم، وبحراً من بحور الفقه، ولساناً من ألسنة الصدق، وقبساً من مشكاة النبوة، وستظل الأجيال تنتفع بعلمه الغزير وعمله الكبير".
ويقول الأستاذ عصام العطار:
"ما تزال جراحاتنا تنزف لفقد الطنطاوي... واليوم نفقد أيضاً علامتنا الكبير مصطفى الزرقاء تغمده الله بالرحمة والرضوان، كان الطنطاوي والزرقاء أخوين وفيين، وصديقين حميمين، جمعهما على خدمة الإسلام والمسلمين عمر مديد على كل صعيد، وكان كل منهما يحمل لأخيه وصديقه أصدق المحبة والتقدير، وكانت معرفتي وعلاقتي بالأستاذ الزرقاء من خلال لقاءاتنا بإخواننا: الدكتور مصطفى السباعي، والأستاذ علي الطنطاوي، والأستاذ محمد المبارك، والأستاذ عمر بهاء الأميري، رحمهم الله جميعاً.
وكان الأستاذ الزرقاء فقيهاً كبيراً مجدداً، اجتمعت له أداة الفقه والتجديد على أفضل وجه، وكان ضليعاً في الشريعة والفقه، أخذه عن والده، ودرسه في المدرسة الخسروية في حلب، ثم درس الحقوق والآداب في دمشق، فاجتمع له في وقت واحد، المعرفة بالشريعة والقانون واللغة والأدب، وكان يعرف اللغة الفرنسية، مما مكنه من الاطلاع على المراجع القانونية الأجنبية المعتبرة، واقتبس ما رآه مناسباً من الأساليب الحديثة في البحث الفقهي وترتيبه، ومن التعرف إلى بعض الأحكام الجديدة التي نظمتها التشريعات للأوضاع الحقوقية، والاقتصادية الحديثة، كشركات المساهمة، وعقود التأمين، وقد أعانه هذا كله على أن يعرض الفقه الإسلامي في ثوب قشيب، وأسلوب جديد يساير ذوق العصر ولغته.
لقد كان رحمه الله آية في صدقه ووفائه ودأبه ومثابرته وإرادته وهمته وحرصه على أداء واجبه على أفضل وجه، قبل ساعتين من وفاته كان عنده زائرون وناس يستفتونه وهو يجيبهم بكل صبر ورحابة صدر، ثم انطفأ هذا السراج المنير، وسكت هذا اللسان البليغ، وتوقف هذا القلب الكبير، ومات مصطفى أحمد الزرقاء، وإنا لله وإنا إليه راجعون".
أهم مؤلفاته
1 الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد.
2 شرح القانون المدني السوري.
3 أحكام الفقه.
4 في الحديث النبوي.
5 الاستصلاح والمصالح المرسلة في الفقه الإسلامي.
6 الفعل الضار والضمان فيه.
7 عقد البيع في الفقه الإسلامي.
8 نظام التأمين والرأي الشرعي فيه.
9 الفقه الإسلامي ومدارسه.
10 عظمة محمد مجمع العظات البشرية.
11 عقد الاستصناع وأثره في نشاط البنوك الإسلامية.
12 باب تمهيدي لقانون مدني إسلامي.
13 صياغة شرعية لنظرية التعسف في استعمال الحق.
14 فتاوى مصطفى الزرقاء.
هذا، بالإضافة إلى عدد كبير من البحوث والمقالات المنشورة في عدد من المجلات والصحف العربية والإسلامية، وهي تحتاج إلى طالب مجد من طلاب الدراسات العليا، ليقوم بجمعها، وإصدارها في كتب.
وفاته
انتقل إلى رحمة الله مساء يوم السبت 19-3-1420ه الموافق 3-7-1999م في بيته بمدينة الرياض عن عمر يناهز 95 (خمسة وتسعين عاماً) قضاها في رحاب العلم الشرعي، والفقه الإسلامي، والدعوة إلى الله، ودفن في مقبرة العود بالرياض، وشارك في تشييعه كبار القوم وطلبة العلم، وكنت مع بعض أبنائي.
رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع الصديقين والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
مجلة المجتمع 25/03/2006 بقلم: المستشار عبدالله العقيل