الابتسامة وأثرها في عمل الدّاعية
بقلم :رامي أحمد ملحم
الابتسامة خلق الدّعاة والبرّ الهيّن
بسم الله الرّحمن الرّحيم
1/ الابتسامة خلق الدّعاة والبرّ الهيّن:
الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على خيرة الخلق، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين وصحابته الكرام وعلى المهتدين بهديهم إلى يوم الدّين، وبعد.
تُعدّ الابتسامة من أهم سمات الإنسان، بل إنّ غالب علماء التعريفات والمنطق يجعلونها القيد المميّز للإنسان عن غيره من الكائنات، فهم حين يعرّفون الإنسان يقولون: هو الحيوان الضّاحك لذاته. وكما لا يغيب فإن التعريف يقيّد باستعمال أهم المحددات التي يفرّق بها الشيء عن غيره؛ فالضحك إذن من أبرز ما يفرّق به الإنسان عن غيره من الحيوانات. والحيوانان الضاحكان فقط هما الإنسان والهدهد، والأخير يضحك لغيره، والإنسان يضحك لذاته.
وعلاوة على كون الابتسامة خصيصة إنسانية محضة لا يستغني عنها الإنسان، وحاجة اجتماعية، فإنها لغة إنسانية عالميّة، يعقل مدلولاتها البشر مع اختلاف إلسنتهم، وتفاوت ثقافاتهم ومستوياتهم. وهي من أرقى لغات الجسد التي منحها الله تعالى للإنسان، وهي علامة تكريم جلي له على غيره من المخلوقات، وتعدّ من وسائل الاتصال غير اللفظي المؤثّر لدى الكائن البشري، وهي طريق مختصر لكسب القلوب، ومفتاح لهداية الكثيرين، وباب عريض يوصل إلى النفوس ، ووسيلة حية للتعبير عما يجول في الخاطر تجاه الآخر، وهي تعبير صادق عن مشاعر عدّة كالفرح والخجل والغموض والحرج وغيرها، ورونقُ جمال، وإشراقة أمل، تَميّز بها الإنسان عن باقي الكائنات الحية لتضفي على وجهه قمة الراحة وذروة الانشراح ونهاية الانبساط.
والابتسامة نزعة غريزيّة، واستعداد فطري، لا يكتسب بالتجربة، وفيها إعلان الإخاء، وعربون الصفاء، ورسالة الود، وخطاب المحبة. وهي تقع على صخرة الحقد فتذيبها، وتسقط على ركام العداوة فتزيلها. و تحل حبل البغضاء، تطرد وساوس الشحناء، تغسل أدران الضغينة، تمسح جراح القطعية.... ومع أنها تحدث في ومضة إلا أن ذكرها يبقى دهرا، و هي المفتاح الذي يفتح أقسى القلوب، و هي الأداة التي تكبت الغضب و تسرّي عن القلب.
وتعرّف الابتسامة بأنها من أخف الضحك وأحسنه، وهي انفراج الشفتين عن الثنايا[1] مع انبساط الأسارير. والمبتسم كما يؤكد خبراء الأحاسيس الإنسانية يكون له تأثير ايجابي في الآخرين أكثر من الشخص الذي يبدو وجهه جادا دائما؛ لذلك يعتبر المبتسمون أناساً دافئين ودودين، ويقول الأستاذ محمد قطب –حفظه الله-: ( لا يكفي المال وحده لتأليف القلوب ولا تكفي التنظيمات الاقتصادية والأوضاع المادية، لابد أن يشملها ويغلفها ذلك الروح الشفيف، المستمد من روح الله، ألا وهو الحب، الحب الذي يطلق الابتسامة من القلوب فينشرح لها الصدر وتنفرج القسمات فيلقي الإنسان أخاه بوجه طليق). وللجاحظ الأديب فهم لطيف لقوله سبحانه وتعالى: (( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أمَاتَ وَأَحْيَا))[2] ؛ إذ قال : ((وضع الله سبحانه وتعالى الضحك بحذاء الحياة، ووضع البكاء بحذاء الموت، والله لا يضيف إلى نفسه القبيح، ولا يمن على خلقه بالنقص، فكيف لا يكون موقعه من سرور النفس عظيما، ومن مصلحة الطباع كبيرا، وهو في أصل الطباع، وفي أساس التركيب)).
وصدق الشاعر؛ إذ استغرب من المكتئب الذي لا يبتسم؛ فقال:
هشّت لك الدنيا فمالك واجماً
- وتبسَّمَت فعلام لا تتبسم
إن كنتَ مكتئباً لعزٍ قد مضى
- هيهات يرجعه إليك تندُّم
ومن فقه سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه نصح بنيه فقال لهم:
بنيّ إن البر شيء هين
- وجه طليق وكلام لين
وممّا يشير إلى قيمة الابتسامة وهي لازمة السماحة ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله:
يغطى بالسماحة كل عيب
- وكم عيب يغطيه السخاء
وروي عن الإمام ابن عيينة رحمه الله قوله: البشاشة مصيدة المودة. و يقول ديل كارينجي في كتابه كيف تكسب الأصدقاء و تؤثر في الآخرين: (( إن ما يقال أن سر النجاح يكمن في العمل الجاد و الكفاح فلا أؤمن به متى تجرد من الإنسانية اللطيفة المتمثلة بالإبتسامة اللطيفة)). وقرر الصينيون أهمية الابتسامة والطلاقة في التعامل؛ فقالوا في مثلهم المشهور:الرجل بوجه غير باسم لا ينبغي أن يفتح دكانا
وصدق زهير بن أبي سلمى؛ إذ قال:
تراه إذا ما جئته متهللا
- كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ويحذر الشاعر الآخر أن نكون من الذين:
وجوههم من سواد الكبر عابسة
- كأنما أوردوا غصبا إلى النار
ليسوا كقوم إذا لقيتهم عرضا
- مثل النجوم التي يسري بها الساري
ولله در القائل:
إن الصديق يريد بسطك مازحاً
- فإذا رأى منك الملالة يقصر
وترى العدو إذا تيقّن أنه
- يؤذيك بالمزح العنيف يكثر
وأنقل عن الإمام المربّي ابن القيم الجوزية –رحمه الله تعالى- ؛ إذ يقول في أهمية البشاشة (( إن الناس ينفرون من الكثيف ولو بلغ في الدين ما بلغ ، ولله ما يجلب اللطف والظرف من القلوب فليس الثقلاء بخواص الأولياء ، وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إلا من آفة هناك ، وإلا فهذه الطريق تكسو العبد حلاوة ولطافة وظرفا ، فترى الصادق فيها من أحب الناس وألطفهم وقد زالت عنه ثقالة النفس وكدورة الطبع.)).
[1] المعجم الوسيط/ج1/ص59.
[2] سورة النجم، الآيتان رقم 43و44.
الابتسامة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسمته الفذ
الابتسامة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسمته الفذ:
لقد تعددت الروايات التي أكدت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس تبسما وأطلقهم وجهاً وأرقاهم سجيّة وأكثرهم انبساطاً. وما كان عليه الصّلاة والسّلام يتكلف الضحك والانبساط، ولا يصطنع الابتسامة، بل كان يمتلك نفوس أصحابه رضي الله عنهم بابتسامته المشرقة، وضحكته الهادئة اللطيفة، ويستجيب مع طرائفهم ويلاطفهم؛ ليكسب قلوبهم ويفوز بودهم، فيقبلوا على هديه، ويرتضوا نهجه، ويجيبوا دعوته. بل إن الابتسامة كانت خلقاً يكاد لا يفارق النبي عليه الصّلاة والسّلام، يراها كل من قابله عليه السّلام. وما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلّم عابساً قط إلا لمعصية الله تعالى، وهذا يفهم من قول الله تعالى موجهاً نبيه الكريم: (( ولو كنت فضّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك))[1]. ولقد بلغت ضحكتة وابتسامته عليه الصلاة والسلام منتهاها ، حيث اعتنى بها وهو في لحظات الموت ومفارقة أصحابه، ولم يمنعه الوجع أو شدة نزع الروح من تلك السجية العظيمة.
وكان مما قاله المستشرق لين بول عن صفات رسول الله وهو يصف شخص نبي الله عليه الصلاة والسلام: (( إنّ محمداً كان يتصف بكثير من الصفات الحميدة كاللطف والشجاعة ومكارم الأخلاق، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يثار بما تتركه هذه الصفات في نفسه من أثر، ودون أن يكون هذا الحكم صادراً عن غير ميلٍ أو هوى، كيف لا وقد احتمل محمد عداء أهله وعشيرته أعواماً، فلم يهن له عزم، ولا ضعفت له قوّة، وبلغ من نبله أنه لم يكن في حياته البادئ بسحب يده من يد مصافحه، حتى ولو كان المصافح طفلاً، وأنه لم يمر بجماعة يوماً، رجالاً كانوا أو أطفالاً دون أن يقرئهم السلام، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة، وفيه نغمة جميلة كانت تكفي وحدها لتسحر سامعها، وتجذب القلوب إلى صاحبها جذباً))[2]. ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتنة ولا مصيبة إلا نزلت به، فماتت زوجاته وأبناؤه، واتهم في عرضه الشريف، وطلّقت بناته في مكّة، وأصيب في غزواته، وكان يبيت ولا يجد ما يقتات عليه، فما كدرت حياته، وما مسحت السرور من تقاسيم وجهه، فهو يبتسم في الشدة والرخاء.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جافاً غليظاً، ولا عابس الوجه، بل كان عليه السّلام إنساناً مثالياً في صفاته وأفعاله، والمتأمل في الروايات التي جاءت في صفة ضحكه صلى الله عليه وسلم يجد أن غالب ضحكه كان التبسم، كما نقلت ذلك عائشة رضي الله عنها. وفي بعض الأحوال ربما ضحك حتى تبدو نواجذه.
ولقد سجلت صفحات علماء السيرة أرقى الأمثلة الحيّة من واقع معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعيته، ودوام تبسطه لهم، والبشاشة في وجوههم، ودوام الطلاقة عند لقياهم، وأنقل بعض الروايات – تمثيلاً لا استيعاباً- التي تسجل هذا السمت الفذ لخير الخلق عليه الصلاة والسّلام؛ آملاً أن يجد فيها كل مسلم أسمى مثل للاقتداء والأدب.
1. عَنْ جَرِيرٍ بن عبد الله البجلي رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: ((مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي، وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا )) [3]
2. عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: ((كَانَ فِي سَاقَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمُوشَةٌ، وَكَانَ لَا يَضْحَكُ إِلَّا تَبَسُّمًا، وَكُنْتُ إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ قُلْتُ أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ وَلَيْسَ بِأَكْحَلَ)) قَالَ أَبو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ ))[4]
3. عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ يَقُولُ: ((مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )) [5]
4. عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: ((أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَعَمْ كَثِيرًا، كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ أَوِ الْغَدَاةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ )) [6]
5. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ رضي الله عنه قَالَ: ((مَا كَانَ ضَحِكُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا تَبَسُّمًا)) قَالَ أَبو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ[7]
6. عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)) .[8]
7. عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَلْقَ أَخَاهُ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ، وَإِنِ اشْتَرَيْتَ لَحْمًا أَوْ طَبَخْتَ قِدْرًا فَأَكْثِرْ مَرَقَتَهُ، وَاغْرِفْ لِجَارِكَ مِنْهُ))[9] .
8. وقيل لسيدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ . قال : ((نعم، والإيمان والله اثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي)) .
9. وما أجمل أن نتأمل إلى هذه الابتسامة النبوية التي ملكت لبّ فضالة بن عمير الليثي رضي الله عنه، وأسرت فؤاده؛ إذ قال فضالة: (( قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو يطوف بالكعبة ، وكنت أريد قتله ، فلما اقتربت من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال لي : أفضالة ؟ قلت : نعم فضالة يا رسول الله، قال : ماذا كنت تحدث نفسك ؟ قلت: لا شيء ، كنت أذكر الله، قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال لي: استغفر الله ، ثم وضع يده على صدري، فو الله ما رفعها حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه))[10] .
10. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَقَامَ النَّاسُ فَصَاحُوا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَحَطَ الْمَطَرُ، وَاحْمَرَّتِ الشَّجَرُ، وَهَلَكَتِ الْبَهَائِمُ، فَادْعُ اللَّهَ يَسْقِينَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا مَرَّتَيْنِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً مِنْ سَحَابٍ، فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ، وَأَمْطَرَتْ، وَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ، لَمْ تَزَلْ تُمْطِرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، صَاحُوا إِلَيْهِ تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يَحْبِسْهَا عَنَّا، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا،فَكَشَطَتِ الْمَدِينَةُ، فَجَعَلَتْ تَمْطُرُ حَوْلَهَا وَلَا تَمْطُرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةٌ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَإِنَّهَا لَفِي مِثْلِ الْإِكْلِيلِ)) [11] .
11. عَنْ صُهَيْبٍ بن سنان رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ خُبْزٌ وَتَمْرٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( ادْنُ فَكُلْ، فَأَخَذْتُ آكُلُ مِنَ التَّمْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَأْكُلُ تَمْرًا وَبِكَ رَمَدٌ، قَالَ فَقُلْتُ: إِنِّي أَمْضُغُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))[12].
12. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: ((كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِه،ِ ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)) [13].
13. عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: (( بَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ؛ فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ، وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ لَهُ الصَّفَّ، فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ، وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلَاتِهِمْ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، فَأَرْخَى السِّتْرَ وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ))[14].
14. عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه أَنَّ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: (( جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَالِسَةٌ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ تَحْتَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عبد الرحمن بْنَ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ، وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ جِلْبَابِهَا، فَسَمِعَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ قَوْلَهَا وَهُوَ بِالْبَابِ لَمْ يُؤْذَنْ لَه،ُ قَالَتْ فَقَالَ خَالِدٌ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَنْهَى هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا وَاللَّهِ مَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّبَسُّمِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ فَصَارَ سُنَّةً بَعْدُ ))[15] .
15. عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (( خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فِي تِجَارَةٍ إِلَى بُصْرَى قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَامٍ، وَمَعَهُ نُعَيْمَانُ وَسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ، وَكَانَا شَهِدَا بَدْرًا، وَكَانَ نُعَيْمَانُ عَلَى الزَّادِ وَكَانَ سُوَيْبِطُ رَجُلًا مَزَّاحًا، فَقَالَ لِنُعَيْمَانَ: أَطْعِمْنِي، قَالَ: حَتَّى يَجِيءَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: فَلَأُغِيظَنَّكَ، قَالَ : فَمَرُّوا بِقَوْمٍ، فَقَالَ لَهُمْ سُوَيْبِطٌ: تَشْتَرُونَ مِنِّي عَبْدًا لِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّهُ عَبْدٌ لَهُ كَلَامٌ، وَهُوَ قَائِلٌ لَكُمْ إِنِّي حُرٌّ، فَإِنْ كُنْتُمْ إِذَا قَالَ لَكُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَرَكْتُمُوهُ فَلَا تُفْسِدُوا عَلَيَّ عَبْدِي، قَالُوا: لَا بَلْ نَشْتَرِيهِ مِنْكَ، فَاشْتَرَوْهُ مِنْهُ بِعَشْرِ قَلَائِصَ، ثُمَّ أَتَوْهُ فَوَضَعُوا فِي عُنُقِهِ عِمَامَةً أَوْ حَبْلًا، فَقَالَ نُعَيْمَانُ: إِنَّ هَذَا يَسْتَهْزِئُ بِكُمْ وَإِنِّي حُرٌّ لَسْتُ بِعَبْدٍ، فَقَالُوا: قَدْ أَخْبَرَنَا خَبَرَكَ، فَانْطَلَقُوا بِهِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، قَالَ: فَاتَّبَعَ الْقَوْمَ وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْقَلَائِصَ وَأَخَذَ نُعَيْمَانَ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرُوهُ، قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْهُ حَوْلًا)) [16].
16. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ رضي الله عنها قَالَتْ: ((نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّي، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَتَبَسَّمُ، فَقُلْتُ: مَا أَضْحَكَكَ؟ قَالَ: أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا الْبَحْرَ الْأَخْضَرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ نَامَ الثَّانِيَةَ فَفَعَلَ مِثْلَهَا، فَقَالَتْ مِثْلَ قَوْلِهَا فَأَجَابَهَا مِثْلَهَا، فَقَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا، فَمَاتَتْ)) [17].
17. عن سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: ((اسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ، قَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْنَ: نَعَمْ أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ»[18].
18. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ، نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، فَأَتَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَلَا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: بَلَى، قَالَ: تَكُونُ الْأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ، قَالَ: إِدَامُهُمْ بَالَامٌ وَنُونٌ، قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالَ: ثَوْرٌ وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا)) [19]
[1] سورة آل عمران، آية رقم 159.
[2] لمزيد من آراء المستشرقين يراجع عظماؤنا في التاريخ، للدكتور مصطفى السّباعي.
[3] رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، حديث رقم 2809.
[4] رواه الترمذي في كتاب المناقب، حديث رقم3857.
[5] رواه أحمد في مسند الشاميين، حديث رقم 17043..
[6] رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 1074.
[7] رواه الترمذي في كتاب المناقب، حديث رقم 3575.
[8] رواه الترمذي في باب البر والصلة، حديث رقم 1879.
[9] رواه الترمذي في كتاب الأطعمة، حديث رقم 1756..
[10] الإصابة في معرفة الصحابة لابن رجب 8 / 6998 .
[11] رواه البخاري في كتاب الجمعة، حديث رقم 965..
[12] رواه ابن ماجة في كتاب الطب، حديث رقم 3434.
[13] رواه البخاري كتاب فرض الخمس، حديث رقم 2916.
[14] رواه البخاري في كتاب الأذان، حديث رقم 714.
[15] رواه البخاري في كتاب اللباس، حديث رقم 5346.
[16] رواه ابن ماجة في كتاب الأدب، حديث رقم 3709.
[17] رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، حديث رقم 2590.
[18] رواه البخاري في كتاب بدء الخلق، حديث رقم 3051.
[19] رواه البخاري في كتاب الرقاق، حديث رقم 6039.
أنواع الابتسامات
أنواع الابتسامات:
وكما أسلفت الحديث، فإن الابتسامة تعبر عن مشاعر عدة، وبحسب قصد المبتسم يكون نوع الابتسامة، ولا يظن أنها لا تكون إلا للبشاشة والترحاب والود، بل تتنوع مقاصدها بحسب مشاعر الإنسان ووجدانياته. وأهل الفراسة والفطنة يقيمون طرائق الابتسام، ويعتبرونها تحمل أمارات على ما في النفس والضمير، ومن أهم أنواعها:
1. ابتسامة المُغضب : وهي تعبير عن حالة الضيق والأذى المصاحبة للغضب، وغالباً ما يصحابها تقطبات الجبين، و تركيز وحدّة في نظر العينين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتبسمها إذا غضب؛ وكان لا يغضب إلا لله تعالى؛ ومن أمثلتها ما صح عن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلفه وما كان من شأنه في غزوة تبوك، أنه قال : فجئته ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ فلما سلمت عليه تبسم تبسُّم المغضب "[1] .
2. ابتسامة المُتعجِّب : والتعجب يطرأ حين يواجه الإنسان بما لا يعتاد عليه؛ فيستوقفه، وغالباً ما يصاحبه السرور أو التّأمل أو الدهشة، وهذا النوع من التبسم سجّله القرآن الكريم في قصة النملة مع نبي الله سليمان عليه السلام، حينما تعجّب من خطابها لقومها؛ إذ يقول الله تعالى: "فتبسم ضاحكاً من قولها"[2] .
3. ابتسامة السخرية والاستهزاء والشماتة: وأصل السخرية والاستهزاء إظهار الانتقاص من الآخر، أمّا الشماتة فهي الفرح بمكروه يصيب الآخر، وقد يصاحب البسمة صوت أو ضحك وقهقهة، كما حكى الله عزّ وجلّ عن قوم موسى عليه الصلاة والسلام في معرض استهزائهم بآيات الله " فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون "[3] .
4. ابتسامة الملاطفة والترحاب والانبساط: وهي المقصودة من حديثنا، والتي هي سمت رسول الله عليه السّلام مع جميع من يلقاه. ومن هذا النوع ما رواه جَرِيرٍ بن عبد الله البجلي رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: ((مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي، وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا )) [4] . وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يسر بالكلام الطيب والفكاهة الصادقة العفوية، ويبش لصاحبها وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ، قَالَ: بَلَى وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ وَاللَّهِ لَا تَجِدُهُ إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم))[5]
5. ابتسامة التفاؤل والأمل والبشارة : وكلها معانٍ ترتبط بالفرح والسرور، وغالباً ما يصاحبها الابتسام، وصحّ عن أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها قالت : ((نام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم، فقلت : ما أضحكك؟ قال: أناسٌ من أمتي عرضوا عليّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة, قالت : فادعوا الله أن يجعلني منهم فدعا لها ... "[6] . وكضحك المؤمنين ذوي الوجوه المسفرة الضاحكة المستبشرة استبشارا ورضا بنعيم الله وجزيل عطائه، كما ورد في قوله تعالى: (( وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة))[7].
6. ابتسامة النصر والفوز: وهي تعبير طبيعي في هذا الموقف عن الفرح والسرور، والنصر والفوز يلازمه السرور بالبداهة، وأعظمه حين يجد المؤمن ما وعده الله حقًّا وصدقاً سواء كان في الدنيا أو الآخرة، وهو ضحك لا يستشعره غير من أعمل عقله وأتعب نفسه في استقصاء الحق والمثابرة والمصابرة عليه، وذكر هذا النوع من الضحك والتبسم في قوله تعالى: ((فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون))[8]
[1] رواه البخاري في كتاب المغازي، حديث رقم 4066.
[2] سورة النمل، آية رقم: 19.
[3] سورة الزخرف، آية رقم: 47.
[4] رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، حديث رقم 2809.
[5] رواه البخاري في كتاب المزارعة، حديث رقم 2177.
[6] رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، حديث رقم 2590.
[7] سورة عبس، الآيتان 38 و39.
[8] سورة المطففين، آية رقم 34.
فوائد الابتسامة
فوائد الابتسامة:
للابتسامة فوائد متعددة، تتجاوز الأثر المباشر المحمود في نفوس الآخرين إلى منافع ذاتية وصحيّة، ويمكن أن أسجل أهم فوائدها بما يلي:
1. أنها باب من أبواب الخير والصدقة؛ فهماً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَة،ٌ وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)) [1].
2. أنها سبب في كسب مودة الناس ومحبتهم واستقطابهم والقرب إلى نفوسهم وامتلاك عواطفهم ودعوتهم إلى طاعة الله تعالى؛ لقول الله عزّ وجلّ: (( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك))[2]، وبالابتسامة زرع لمثلها على وجوه الناس؛ لقوله عليه الصّلاة والسلام: " لن تسعوا الناس بأموالكم ، فليسعهم منكم بسط الوجه "[3]. ولما روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ رضي الله عنه أَنَّهُ وَصَفَ حُسْنَ الْخُلُقِ فَقَالَ هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ وَكَفُّ الْأَذَى))[4]0
3. وهي تدخل في باب أحب الأعمال إلى الله، وفي ذلك حسن عبادة الله تعالى وكسب رضاه عز وجل ؛ وذاك لأنّها تكشف الكرب وتزيل الهم والغم وتجلي حزن النفس وكدرها عن الناس؛ وصدق رسولنا الكريم عليه الصّلاة والسّلام؛ إذ يقول: "وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة"[5].
4. تبعث على الاطمئنان بين المسلمين، وتشيع معاني الأخوة والود بينهم، وتصفي القلوب من الغل والحسد وتجدد في النفس النشاط، وتظهر صورة المسلم كنموذج للإنسان الراقي.
5. أنها مظهر من مظاهر حسن الخلق التي يدعوا إليها الإسلام، تصديقاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَلْقَ أَخَاهُ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ وَإِنِ اشْتَرَيْتَ لَحْمًا أَوْ طَبَخْتَ قِدْرًا فَأَكْثِرْ مَرَقَتَهُ وَاغْرِفْ لِجَارِكَ مِنْهُ )) [6]. ولما روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ رضي الله عنه أَنَّهُ وَصَفَ حُسْنَ الْخُلُقِ فَقَالَ هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ وَكَفُّ الْأَذَى))[7]
6. فيها تأسٍّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الخلق وأعظمهم خُلُقا وأكثرهم وأجملهم ابتسامة. وذكرت سابقاً بعض الأحاديث التي تشير إلى هذا المعنى. ونحن مأمورون بالاقتداء به عليه السلام في حاله؛ وصدق الله عز وجل القائل: (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً))[8].
7. وللإبتسامة أثر على الحال الجسمانية والعقلية على الإنسان، وهذا يتعلق بعلم الجيلوتولوجي، أي دراسة السلوك المتعلق بالحال المزاجية والضحك. واكتشف هذا الحقل الجديد من الدراسات أن التبسّم يفيد الصحة. ويشير مدير معهد البيولوجيا البشرية وعلم تطور الإنسان في جامعة «فري» في برلين، كارستن نيميتس، إلى أن «أكثر من مائة عضلة تشارك ‘’في إطلاق الضحكة’’ من عضلات الوجه إلى عضلات الجهاز التنفسي». ويقول نيميتس إن «الضحكة النابعة من القلب تحرك الجسم بأكمله: فالرأس يتحرك والجسم ينثني. ويسمي المختصون هذه الحال ‘’التعميم’’». ويوضح المحاضر في معهد مارش للعلاج النفسي في ولاية براندنبورغ، ميشائيل تيتسه، أن التنفس يكون أكثر عمقاً أثناء الضحك عن المعتاد، ما يؤثر بدوره على الجسم بأكمله «فمزيد من الأكسجين يتدفق عبر خلايا الجسم وتتوسع الشعب الهوائية، فيما تجري عملية التغيرات الكيماوية داخل الخلية على خير ما يرام وتتمدد العضلات وينبه القلب والدورة الدموية». وفضلاً عن ذلك، فالضحك يعجل بالشفاء. حيث يعوق مخ الإنسان الضاحك عملية إفراز هرمونات التوتر مثل الأدرنيالين والكورتيزون. و ليس هذا فحسب فعندما يضحك الإنسان فإنه يتم إفراز مزيد من مادة السيروتونين، التي يطلق عليها في بعض الأحيان «هرمون السعادة». وكما تشير بعض الدراسات في الولايات المتحدة إلى أن الضحك يقوي جهاز المناعة في جسم الإنسان. كما يبدو أنه ينشط الغدد اللمفاوية التي تهاجم الخلايا السرطانية، فضلاً عن بروتين جاما - انترفيرون المضاد للفيروسات التي تهاجم الخلايا، والذي يساعد في القضاء على الأورام.
[1] رواه الترمذي في كتاب البر والصلة، حديث رقم 1879.
[2] سورة آل عمران، آية رقم 159.
[3] رواه الحاكم.
[4] رواه الترمذي، في كتاب البر والصّلة، حديث رقم 1928.
[5] رواه الطبراني في الكبير.
[6] رواه الترمذي في كتاب الأطعمة، حديث رقم 1756.
[7] رواه الترمذي، في كتاب البر والصّلة، حديث رقم 1928.
[8] سورة الأحزاب، آية رقم 21.
أهمية الابتسامة في عمل الداعية
أهمية الابتسامة في عمل الداعية:
إنّ كل تصرف من تصرفات الداعية يترجم إلى انطباعات ووجدانيّات في نفس المدعو. والتبسّم في وجه المدعو من التصرّفات، و سيحمل المدعو على ترجمته إلى معانٍ كثيرة يجدها في نفسه، منها : أنا أحبك، أنا أحترمك، أنا أقدّرك ومهتم بأمرك، و وأرجو لك الخير، ومسرور برؤيتك،... وغيرها الكثير مما تحمله الابتسامة من معانٍ جيّاشة معبّرة. بل إن الداعية بحركة صغيرة صادقة نقيّة من شفتيه يقطع مسافة عظيمة إلى قلب المدعو من غير كثير نقاش أو طول إقناع و مماحكة، فالابتسامة تغني من يقبلها دون أن تفقر من يعطيها.
وتبين غالب الدراسات العلميّة أن لغة الجسد هي الجزء الأهم من أي رسالة تنتقل إلى الشخص الآخر، وإن ما بين 50% - 80% من المعلومات بين الناس يمكن أن تنقل بهذه الطريقة، وأن الرسالة غير الشفوية مع أنها تبدو بسيطة إلا أنها غنية جداً, ومعقدة في طبيعتها. ويمكن القول إن الابتسامة هي واحدة من أهم العناصر في لغة الجسد التي نمتلكها، فالابتسامة الصادرة من القلب هي ما تنفرد به الكائنات البشرية عن غيرها من الكائنات. فالابتسامة سلاح قوي وفعال يستخدمه الإنسان منذ طفولته للاقتراب والتودد للآخرين, فالطفل يتعلمها بعد ولادته بستة أسابيع.
كما يؤكد خبراء الأحاسيس الإنسانية أن الشخص الذي يبتسم كثيراً يكون له تأثير إيجابي في الآخرين أكثر من الشخص الذي يبدو وجهه جاداً دائماً لذلك يعد المبتسمون أناساً دافئين ودودين.
وهناك طائفة كبيرة من المشاعر والأحاسيس تعبر عنها الابتسامة بشكلٍ إرادي ولا إراديّ, فالإنسان يبتسم عندما يكون مبتهجاً أو يائساً أو حرجاً أو خجلاً أو لتغطية عدم الراحة أو لإرضاء شخص أقوى اجتماعياً. ولذلك فإن للابتسامة مُسميات حسب نوع المشاعر التي تعبر عنها من ابتسامة الابتهاج العريضة إلى الابتسامة الخجلى، إلى الابتسامة الغامضة، ومن الابتسامة الاجتماعية المهذبة إلى الابتسامة الزائفة.
ولأن للابتسامة أنواع، فإن الإنسان المتلقي يعرف أكثر من غيره معنى الابتسامة المقصودة والموجهة إليه، ويستشعر العواطف والأحاسيس والمعاني التي تنطوي عليها هذه الابتسامة. وتعتمد الابتسامات بأنواعها على عضلات الوجه، فجميعها تستخدم عضلات الوجه استخداماً مختلفاً، ويستطيع الإنسان توظيف خبرته الإدراكية في التمييز بين أنواع الابتسامات ومغزاها الشعوري.
وتعد الابتسامة الصادقة الحقيقية هي الأداة الصحيحة التي تعبر عن الابتهاج العفوي والسرور وصدق المشاعر, وفيها ترفع عضلة وجنات الوجه الرئيسية زاويتي الفم، بينما يرتفع الخد بفعل عضلة أخرى ويجذب البشرة حول محجر العين إلى الداخل, وبقدر ما تكون العاطفة أقوى يتحدد أكثر فعل هذه العضلة. وهذه الابتسامة تكون قصيرة، ذلك أن أكثر الابتسامات إخلاصا والصادرة من القلب نادراً ما تلبث ظاهرة أكثر من أربع ثوان، وقد تدوم نحو ثلثي الثانية.
إنها حركة بسيطة و لكنها تعني للمدعو الشيء الكثير، فهي بذرة صغيرة ترمى في نفسية المدعو تنمو و تكبر و تؤتي أكلها بإذن الله تعالى. والابتسامة التي تحدث في لحظة يبقى ذكرها دهرا، و هي المفتاح الذي يفتح أقسى القلوب، و هي العصا السحرية التي تكبت الغضب و تسري عن القلب. وما كان العبوس و الغلظة من الدين في شيء، خاصة في مقام الدعوة إلى الله تعالى، و لا يلتفتنّ إلى بعض من جعلوا من العبوس أصلا من أصول الشخصية، وعدوه من الوقار، وليس هذا وقاراً؛ أن من يفعل هذا الفعل لن يكون أكثر وقارا من رسول الله صلى الله عليه و سلم، الذي قال في وصفه سيدنا أبو الدرداء رضي الله عنه في الحديث الذي ترويه أم الدرداء رضي الله عنها عنه، أنها كانت تَقُولُ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا حَدَّثَ حَدِيثًا تَبَسَّمَ فَقُلْتُ لَا يَقُولُ النَّاسُ إِنَّكَ أَيْ أَحْمَقُ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ أَوْ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا إِلَّا تَبَسَّمَ)) [1]، و في حديث آخر عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه قال: " ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه و سلم"[2] . ويقول دايل كارنيجي في كتابه كيف تكسب الأصدقاء و تؤثر في الآخرين :((إن ما يقال أن سر النجاح يكمن في العمل الجاد و الكفاح فلا أؤمن به متى تجرد من الإنسانية اللطيفة المتمثلة في البسمة اللطيفة)). وصدق المثل الصيني الذي يدلل على مكانة الابتسامة في الكسب والاستقطاب؛ إذ يقول:الرجل بوجه غير باسم لا ينبغي أن يفتح دكانا.
ومن أدق ما يؤكد أثر الابتسامة وأهميتها في الدعوة والتأثير، أن الإسلام ومع تحريمه موالاة الكافر ومودته واتخاذه صديقا وخليلا، وإكرامه وإظهار الحفاوة والبشر له، أنّه طلب التلطف واللين معه عند دعوته للإسلام، ويدخل في ذلك التبسم في وجه. وذكر هذا المعنى عدد من أهل العلم، فقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في ابتداء الكفار بالتحية : "و قالت طائفة - أي من العلماء - : يجوز الابتداء لمصلحة راجحة من حاجة تكون إليه ، أو خوف من أذاه ، أو لقرابة بينهما ، أو لسبب يقتضي ذلك[3] . وجاء في الموسوعة الفقهية : " ذهب الحنفية إلى أن السلام على أهل الذمة مكروه لما فيه من تعظيمهم , ولا بأس أن يسلم على الذمي إن كانت له عنده حاجة ; لأن السلام حينئذ لأجل . الحاجة لا لتعظيمه , ويجوز أن يقول : السلام على من اتبع الهدى ... ويحرم عند الشافعية بداءة الذمي بالسلام , وله أن يحييه بغير السلام بأن يقول : هداك الله أو أنعم الله صباحك إن كانت له عنده حاجة , وإلا فلا يبتدئه بشيء من الإكرام أصلا ; لأن ذلك بسط له وإيناس وإظهار ود . وقد قال الله تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) [4]" . . وقال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله تعالى-: ((أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم وإيمانهم فهذا لا بأس به ، لأنه من باب التأليف على الإسلام ولكن إذا يئس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملهم به . وهذا مفصل في كتب أهل العلم ولاسيما كتاب " أحكام أهل الذمة " لابن القيم رحمه الله(( " [5]. والخلاصة أن التبسط للكافر ، والتبسم له ، يجوز لغرض دعوته للإسلام.
[1] رواه أحمد في مسند الأنصار، حديث رقم 20739.
[2] رواه الترمذي في كتاب المناقب، حديث رقم 3574.
[3] "زاد المعاد" (2/424).
[4] "الموسوعة الفقهية" (25/168).
[5] مجموع فتاوى ابن عثيمين 3/31
كيف تكون الابتسامة؟
كيف تكون الابتسامة؟
ناقش العلماء صفة الابتسامة غالباً في ثلاثة مواضع: الأول، في تفصيلهم لأحكام الصلاة، والثاني: في صفة ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، والثالث، في الإشارة إلى رياضة القلوب. واستخلاصاً لما ذكر في المواضع الثلاثة، فالضحك إما أن يكون تبسماً أو قهقهة. والأصل فيه أنه إن كان تبسماً جاز باتفاق العلماء، بل كان من فعله صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عنه الترمذي من حديث عبدالله بن الحارث رضي الله عنه أنه قال: «ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسماً»[1]. وقال صلى الله عليه وسلم - كما أخرجه الترمذي -: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة»[2]. وأما ضحك القهقهة فقد كرهه الفقهاء ونهوا عن كثرته، فقد روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا وَقَالَ اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ ))[3] وقال ثابت البناني- رحمه الله-: ضحك المؤمن من غفلته - يعني عن أمر الآخرة - ولولا غفلته ما ضحك. وقد عرفت الموسوعة (التبسم): بأنه ما عرى عن الصوت، وهو مبادئ الضحك، وتبدو فيه الأسنان فقط، وأما القهقهة فأشارت في تعريفها إلى قول الجرجاني عنها: ما يكون مسموعاً للضاحك ولجيرانه.[4]
[1] سبق تخريجه.
[2] سبق تخريجه.
[3] رواه الترمذي في كتاب الزهد، حديث رقم 2227.
[4] بتصرف عن الموسوعة الفقهيّة.
موانع التبسّم
موانع التبسّم:
إن من أهم موانع الابتسامة عند البعض، ما يلي:
1. الظن أن ذلك من الجدية والوقار: فالبعض يظن أن عدم الابتسام هو جزء من الجدية التي لابد منها في شخصية الإنسان، وهي من كمال الدين ، وهذا ظن ليس في محله؛ حيث إن الناس جُبلوا على الميل والمحبة لمن يبش في وجوههم ، وأما ما يتعلق بالجدية؛ فإنه لا يوجد أكثر من جدية الرسول – صلى الله عليه وسلم - وعن سماك بن حرب قال : قَالَ قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ كَثِيرًا كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ أَوِ الْغَدَاةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ *)[1]. ولم يكن هذا التبسم لينقص من مكانته – صلى الله عليه وسلم – وإنما هو اللطف الذي ما خالط شيئاً إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه. وهذا الأعمش الإمام المشهور ، اشتهر بين العلماء بمزحه وطرفته، ومع ذلك لم تضره تلك الصفة في دينه، حتى قال عنه الإمام يحي بن سعيد القطان- رحمه الله-: " كان من النساك، وهو علاّمة الإسلام " وقال وكيع رحمه الله عنه : " اختلفت إليه قريباً من سنتين ما رأيته يقضي ركعة وكان قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى " .
2. الخوف من قسوة القلب: إذ امتلأت كتب علوم التربية والتصوف بالنهي عن الضحك والحث على قلة الكلام ودوام الصمت، وهذا أنشأ خلطاً عند البعض بين الإكثار من الضحك والذي أخبر به الرسول صلى الله عليه أنه سبيل لموت القلب، وبين أهمية وضرورة الابتسام والضحك المعتدل؛ لتقويم النفس وإزالة الهم وكسب الآخرين ..، وهو سمت النبي عليه السلام. وأنبّه إلى شطحات بعض الزهاد من قليلي الفقه كقولهم: ( ما ضحك فلان قط ) أو ( ما رأي فلان إلا مهموماً ) فهذا خلاف الفطرة والسنة النبوية. وما جاء في نص الحديث الذي رواه ابن ماجه ( لا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب )[2] فلم ينه عن الضحك إنما نهى عن كثرته. وعلمنا الإمام النووي –رحمه الله- ما هي ضوابط الضحك والمزاح فقال: " المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه ، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله".
3. ظروف النشأة والتربية المبكّرة وأثر البيئة: لها دور كبير في حياة الإنسان ، ومجموع خبرات الإنسان تسهم في تشكيل نمطه السلوكي؛ إذ البعض يعيش ضمن بيئة لا ترعى تشجيع الابتسامة والتبسط في الطبع؛ فمن يولد بين أبوين غضوبين تقل الابتسامة على شفتيه، فلا تراه مبتسماً أبداً ، وهذا تبعاً للظروف البيئية التي تحيطه. فعلى كل من يعاني من هذا السبب الاهتمام بتربية نفسه، وتوفير بيئة مؤثرة تعيد الابتسامة والتوازن للإنسان.
4. طبيعة الإنسان العصبية: وتعامله الصعب كلها عوامل تدفع الإنسان إلى قلة التبسم. والإفراط في العصبية قد يعود إلى اختلال نفسي أو عقلي.
[1] رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 1074.
[2] رواه ابن ماجة بإسناد صحيح.