الانتدابات سلاح الحكومة لكسر إرادة القضاة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الانتدابات سلاح الحكومة لكسر إرادة القضاة


بقلم:القاضي محمود رضا الخضيري

نائب رئيس محكمة النقض ورئيس نادي القضاة بالإسكندرية


يعجب بعض الناس من مطالبة أغلبية القضاة بمنع الانتدابات خاصة الخارجية منها ورفع السن بغير الضمانات التي يضعونها لذلك وهي عدم شغل المناصب الإدارية والجلوس على المنصة للفصل في القضايا المتأخرة ونقل الخبرات لشباب القضاة ، والحقيقة أن سبب مطالبة هذه الأغلبية بإلغاء الانتدابات الخارجية وتحديد مدد الانتدابات داخل وزارة العدل وعدم رفع السن بغير ضمانات هو أن الحكومة بتدخلها فيها جعلت هذه الميزات ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب ، وأي شيء في الدنيا ممكن أن يكون ميزة أو عيباً حسب طريقة استعماله وغرض من يستعمله ، فإن استعمال الشيء لما خصص من أجله وبحسن نية بغرض النفع العام يجعل منه ميزة أما استعماله في غير ما خصص له ولغير النفع العام يقلبه من ميزة إلى مخبثة وهذا بالضبط ما يحدث بالنسبة لميزة الانتدابات ورفع سن التقاعد لرجال القضاء .

الانتدابات إنما شرعت لكي يسهم رجال القانون بخبراتهم في إبداء الاستشارات القانونية لمن يحتاجها في المؤسسات والشركات والجهات الحكومية ، ولما كانت مهمة القاضي الأساسية هي الحكم بين الناس وليس إبداء الرأي فيما يواجههم من مشاكل ولذلك فإن رجال القضاء يجب أن يكونوا أبعد الناس عن هذه الانتدابات خاصة وأن هذه المشاكل التي تواجه هذه الجهات مصير الكثير منها العرض على القضاء سواء العادي أم الإداري ولا يعقل أن يكون للقاضي رأي أبداه في مسألة ثم يجلس للفصل فيها بعد ذلك فيه كقاض وهو ما يحظره القانون ، من هنا كان مطلبنا بإلغاء هذه الانتدابات تماماً ، ولا أستطيع أن أتصور أن رجل القضاء الذي اعتاد الجلوس على المنصة أو في مكتبه عزيزاً موقراً يستدعي أي شخصية في الدولة للمثول أمامه عند الحاجة ، لا أستطيع أن أتخيله وهو جالس في مكتبه في الشركة أو المؤسسة أو الجهة الحكومية ويحضر إليه الفرّاش طالباً منه سرعة إجابة طلب رئيس المؤسسة أو الشركة أو الجهة الحكومية فيقوم مسرعاً ليعدل هندامه حتى يكون مناسباً للقاء الرئيس الذي لا أعرف ما إذا كان سيسمح له بالجلوس أثناء الحديث أم يحدثه وهو واقف أمامه منصتاً ثم يصرفه ، ولا ننسى التجديد السنوي للندب الذي يدفع رجل القضاء ثمنه غالياً من كرامته حيث أنه هو الذي يطلب ذلك ويلح في الطلب والرجاء حتى يستجاب له و إلا تعرض لإلغاء الانتداب فإذا عرفنا أن الانتدابات الخارجية للشركات والمؤسسات والجهات الحكومية تأتي عن طريق المعارف والوساطات عرفنا مدى الخطر الذي يكمن فيها بتربية جيل من رجال القضاء الخانع الذي لا يستطيع أن يقول لا عندما تكون هذه لزامة للحفاظ على كرامته وعزته وشرفه القضائي ، من هنا كانت محاربة النادي لهذا الندب حفاظاً على كرامة وعزة واستقلال القضاء وكان في نفس الوقت حرص الحكومة على الاحتفاظ بها لتربية جيل من القضاة تستطيع أن تستعملهم كما تشاء في كل أمر تريده سواء على المنصة أو خارجها وهذا سر ما نلاحظه من تدهور في مستوى العدالة وعدم اطمئنان الناس لبعض أحكام القضاء .

والغريب أن الحكومة التي ترفع صوتها للمطالبة بمد السن حرصاً على إنجاز المتأخر من القضايا هي ذاتها التي تشجع الانتدابات وتصر عليها رغم ما يترتب عليها من تعطيل الفصل في القضايا لانشغال القضاة بالعمل الخارجي وعدم التفرغ للفصل في القضايا .

الانتدابات خارج القضاء كارثة على استقلاله وتفرقة في المعاملة المالية بين الزملاء في المهنة الواحدة بغير سبب مبرر أما داخل القضاء فهي ممكنة بضوابط معينة وشروط لابد من توافرها ولأماكن بالذات مثل التفتيش القضائي ومركز الدراسات والتشريع بشرط ألا يترتب عليها أي ميزات مادية ، أما غير ذلك فعمل إداري لا يحتاج لأكثر من موظف عادي وسيكون أقدر من رجل القضاء على أدائه وعندما كنت في الماضي أذهب إلى وزارة العدل وأرى زملائي تتكدس الملفات أمامهم ولا يقومون بأي عمل قانوني أشعر بالحسرة على هذا الجهد الضائع والفراغ القاتل الذي يقضي على الخبرة التي سبق للزميل أن اكتسابها من عمله على المنصة التي هي في أشد الحاجة إليه .

أتحدى وزارة العدل أن تعلن عن أسماء رجال القضاء المنتدبين خارج الوزارة والأعمال المسندة إليهم ومدى جهدهم في العمل القضائي والمبالغ التي يتقاضاها كل منهم من هذا الندب ليعرف الناس كيف أن الحكومة لا تريد خيراً بالقضاء عندما تصر على وجود هذا الندب وأنها إنما تفعل ذلك من أجل مصلحتها غير المشروعة في التأثير على إرادة القضاء وهو نفس ما تقوم به بإصرارها على رفع السن دون ضوابط .

لقد جربت الحكومة سلاح الردع واستعمال القوة مع القضاة سنة 1969 ولم يفلح وخرجت الحكومة من المعركة مجللة بالعار والخزي وعاد القضاة أقوى مما كانوا عليه وهي الآن تجرب سلاح الإغراء لعله يجدي ويكون أكثر فاعلية وتأثيراً وأقل في جلب المشاكل لها ، ونأمل من الله أن يفشل هذا السلاح أيضاً مثل سابقه وأن يخرج القضاة من هذه المعركة التي يراد منها كسر إرادتهم والقضاء على مقاومتهم أكثر عزماً وإرادة وقوة وما ذلك على الله بعزيز .