الانقسام.. مرة أخرى
بقلم : معتصم حمادة
يلاحظ أن الحالة الفلسطينية لا تشكو من افتقارها إلى مبادرات مهمة وغنية لوضع حد للانقسام القائم.
وتلتقي هذه المبادرات في العديد، بل في معظم، نقاطها وبنودها، الأمر الذي يتطلب ضغطاً شعبياً لإزاحة العراقيل التي مازالت تعطل على هذه المبادرات أن تشق طريقها
كل التداعيات، في الحالة الفلسطينية، تعيدنا، على اختلاف اتجاهاتها، إلى قضية جوهرية باتت تشكل نقطة الارتكاز في كل تحرك سياسي فلسطيني: ضرورة وضع حد لحالة الانقسام، واستعادة الوحدة الداخلية ضماناً لصون المشروع الوطني الفلسطيني، ولمواصلة المسيرة نحو الأهداف المرسومة للحركة الوطنية الفلسطينية.
ولم يعد مجالاً للشك، القول إن كثيراً من الجهد الوطني الفلسطيني، يبذل في هذه الأيام، إما للحد من التداعيات السلبية للانقسام، وإما لمعالجة النتائج السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية.. بل والنفسية لهذا الانقسام، ولإعادة الثقة إلى صدور المواطنين ونفوسهم، بأن الأمور سوف تعود إلى طبيعتها، وأن المسيرة الوطنية سوف تتعافى، بالضرورة.
كذلك لم يعد مجالاً للشك، في أن الجانب الإسرائيلي، وإلى جانبه الأميركي، وجدا في الانقسام الفلسطيني فرصة للابتزاز والمراوغة، وتحقيق المكاسب على حساب مصالح الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة.
وأن من أهم شروط وضع حد لهذا الموقف الإسرائيلي ـ الأميركي تجاوز حالة الانقسام هذه نحو استعادة الوحدة الداخلية.
الكل يتحدث عن إنهاء حالة الانقسام، والكل يتحدث عن ضرورة استعادة الوحدة الداخلية.
ولكل طرف عروضه واقتراحاته ومشاريعه.
لكن، برأينا، فإن عدداً من هذه المشاريع، والعروض والاقتراحات، وإن كان في ظاهره يدعو لإنهاء الانقسام إلا أنه في حقيقته يدعو إلى استعادة التجربة المريرة التي أدت إلى هذا الانقسام.
فالدعوة إلى الحوار الثنائي، بين فتح و حماس ـ بذريعة أنهما الطرفان المعنيان بالانقسام ـ فيها استعادة لماض قادنا إلى جولات من الحرب الأهلية التي شهد قطاع غزة بشاعتها.
فلقد سبق للحركتين أن دخلتا في حوار ثنائي، ابتدأ غداة التوقيع على وثيقة الوفاق الوطني في 27/6/2006.
وهو حوار، كما تم وصفه، شكل انقلاباً على وثيقة الوفاق الوطني (انقلاب لم يستره تغني الطرفين بهذه الوثيقة.
انقلاب فضحه عدم التزام الطرفين ـ حتى الآن ـ بما جاء في الوثيقة).
فقد استمرأ الطرفان سياسة الاستئثار والتفرد والاستفراد، وإقصاء الآخرين.
وهو حوار ثنائي، كان الهدف منه ـ وفي حسابات الطرفين، كلاً على حدة ـ استمهال الوقت وانتظار الفرصة السانحة للعودة إلى الاستئثار والتفرد.
ولم يتوصل الطرفان إلى التوافق إلا بعد أن عبرا نهراً من الدم الفلسطيني في طريقهما إلى مكة حيث تم ترسيم الصفقة الثنائية وفق مبدأ محاصصة تقوم على التواطؤ الثنائي، ليس فقط ضد باقي أطراف الحالة الفلسطينية، بل وضد الحالة الفلسطينية بكل مكوناتها. وكان هم كل من الطرفين أن يضمن حصته ومصالحه، في عملية تماهٍ مفضوحة ومكشوفة، بين مصالحه الفئوية، والمصالح الوطنية العامة.
وهذا نمط من التفكير الفاشي، ونمط من الفساد السياسي، حين لا يرى الحاكم مصلحة الوطن إلا في شخصه، وحين يرى أن انتقاد شخصه هو شكل من أشكال التطاول على الوطن ومصالحه وأمنه القومي.
ولأن الأمر هوهكذا بالضبط، لدى كلا الطرفين، انفجر الاتفاق الثنائي الموقع في مكة جولة دموية من الحرب الأهلية انتهت باستيلاء حماس على القطاع، ومازالت الحرب تدور بين الطرفين: فتح وحماس.
وهي تأخذ أشكالاً مختلفة.
لكنها في نهاية المطاف حرب، اعترف بها الطرفان أم أنكراها. ودليلنا في ذلك أن الطرفين يحرصان على التهدئة مع العدو، ويشهران كل أنواع الأسلحة في المواجهة الدائرة بينهما.
الخطير في بعض الدعوات لإنهاء الانقسام، أنها دعوات ترفض أن تستخلص درساً واحداً مما جرى في قطاع غزة، ويجري الآن في مناطق السلطة، وإلا فما معنى الدعوة للعودة إلى اتفاق المحاصصة الموقع في مكة باعتباره يشكل الأساس الصالح لاستعادة الوحدة الداخلية، خاصة بعد أن أثبتت التجربة أن هذا الاتفاق عجل في الانفجار، وفي الانقسام، لأن كلا الطرفين رأيا فيه ما يبرر لكل منهما للاستيلاء على الحصة الأكبر من السلطة والمكاسب.
لذلك أن تتم الدعوة للحوار على أساس من اتفاق مكة، وفق مبدأ المحاصصة، ما هي إلا محاولة لتكريس الانقسام، تحت غلاف رقيق من الوحدة الداخلية المزيفة، وبحيث يتقاسم الطرفان ـ في ظل حرب باردة ـ وفي اتفاق تواطؤ، مناطق السلطة، مما يفتح الباب لتكريس سلطة الميليشيات، بديلاً لسلطة المؤسسات.
وهكذا تتبخر في الهواء كل الدعوات إلى التغيير والإصلاح ومكافحة الفساد.
وتعشش في أجهزة السلطة مفاهيم «أهل الثقة» بديلاً لـ «أهل الكفاءة» ويتقاسم الطرفان الكعكة، وفق موازين قوى قائمة.
وكلما تغيرات موازين القوى ميدانياً، كلما لجأ أحد الطرفين إلى جولة دموية، ليعيد توزيع الحصص بما يتناسب مع الميزان الجديد للقوى.
وهكذا تبقى الحالة الفلسطينية مشدودة إلى الحرب المفتوحة على مصراعيها، وفي كل الميادين، بين الطرفين؟.
وكل ذلك على حساب المشروع الوطني.
فمن يا ترى سوف يهتم بالصراع مع العدو، بينما الصراع الداخلي يحتدم بين فترة وأخرى؟!
الأنكى من ذلك أن البعض وهو يدعو لاستئناف الحوار ـ الثنائي أو الجماعي لا فرق ـ لاستعادة الوحدة الداخلية وإنهاء حالة الانقسام، تراه في الوقت نفسه يتخذ من الإجراءات والخطوات المؤسساتية، ما يوحي وكأن الانقسام قائم إلى الأبد، وأن لا رجعة عنه، وأن الوحدة الداخلية ما هي إلا مجرد شعار يرفع للاستهلاك الشعبي، ودعدغة عواطف الناس، بينما هي في واقع الحال مجرد سراب.
وهو يعكس حقيقة القرار السياسي لدى هذا البعض ويكشف حقيقة نواياه، ويؤكد لنا أن إزاحة العقبات التي تعطل استئناف الحوار الداخلي بحثاً عن الوحدة مرة أخرى، إنما هي مهمة صعبة ومعقدة تحتاج إلى تضافر كل الجهود، دون استثناء، وممارسة كل أشكال الضغوط الشعبية بمظاهرها وآلياتها الديمقراطية والنقية.
في هذا السياق، يلاحظ أن الحالة الفلسطينية لا تشكو من الافتقار إلى المبادرات لمعالجة الانقسام القائم. وقد طرحت في هذا السياق العديد من المبادرات، أتت من معظم الأطراف الحريصة على المصلحة الوطنية.
وهي مبادرات، وإن اختلفت في بعض جوانبها، إلا أنها تقاطعت في معظم بنودها.
فهي حريصة على رفض اللجوء إلى الاقتتال، وعلى تحريم العنف والقوة في حل الخلافات الداخلية، وتحريم سفك الدم الفلسطيني بالسلاح الفلسطيني.
كذلك هي حريصة على وضع حد لحالة الازدواج في الشرعية، مع التأكيد على شرعية المؤسسات المنتخبة، والمشكلة بموجب القانون.
كذلك هي حريصة على وضع حد لمظاهر الانقسام، وترفض استغلال نتائج هذا الانقسام كورقة قوة إلى طاولة الحوار. ولا تعوزها الأفكار لتشكيل حكومة محايدة من شخصيات مستقلة تعيد توحيد المؤسسات وتوفر الاستقرار في مناطق السلطة.
كذلك لا تعوزها الأفكار لإعادة بناء المؤسسات (التي أثبتت فشلها) على أسس ديمقراطية وأكثر تطوراً.
هذا كله يفتح الباب للبحث عن مبادرة توحيدية تضم تحت جناحيها صفاً من القوى غير المتورطة في الانقسام وغير الملوثة بالدم الفلسطيني، لتضغط، مع الحالة الشعبية، لوضع حد لحالة التدهور القائمة.
وإغلاق الطريق أمام التداعيات السلبية وأمام الهجمة السياسية الإسرائيلية الأميركية الهادفة إلى استغلال حالة الانقسام هذه.
كل الأطراف ـ دون استثناء ـ يساورها القلق من دعوة الرئيس بوش إلى اجتماع الخريف، القلق من أن يتم تفريغ الاجتماع من مضمونه، وأن تفوت على التسوية فرصة.
والقلق من أن يستغل الاجتماع للضغط على الجانب الفلسطيني المفاوض لتوريطه في تنازلات والتزامات تنازلية جديدة.
والقلق من أن ينزلق المفاوض الفلسطيني، في لحظة هروب من استحقاق الانقسام، إلى وهم الاستقواء بالعوامل الإقليمية والدولية، والقلق من أن تؤدي نتائج اجتماع الخريف إلى تعميق حالة الانقسام، بحيث توفر ذرائع إضافية لأصحاب النهج الانقسامي والدموي، ليبرروا نهجهم، ويعززوا ذرائعهم في تأكيد ضرورته ـ تأكيداً لوجهة نظرهم القائمة على امتداح الاقتتال والانقسام وتعطيل محاولات استعادة اللحمة الداخلية.
ونعتقد أن الضغط على الجانب الفلسطيني المفاوض لا يكون بالمزيد من الاستعداء، عبر استحداث أطر وابتداع عناوين لا وظيفة لها سوى تعميق الانقسام والتشويش على المحاولات الدؤوبة لتقريب وجهات النظر، والحد من التباعد، والبحث عن معابر نحو التقاء الأطراف كلها على استعادة الوحدة الداخلية.
ومن الخطأ بمكان أن يتم النظر إلى المشهد السياسي «من فوق»، وأن نتناسى المشاهد «تحت».
مشاهد الموظفين المحرومين من مرتباتهم، والعالقين على المعابر، والمحاصرين في القطاع، والعاجزين عن الالتحاق بجامعاتهم، أو السفر للعلاج في الخارج، أو الذين تعطلت معاملهم وورشهم، بعد أن انقطعت عنها المواد الأولية، ومشاهد البطالة والفقر والبؤس، ومشاهد القمع والقلق.
وهذا كله من النتائج المرة، والمرة جداً للانقسام.
وهو ما يعيد التأكيد أن الوحدة الداخلية هي الخطوة الضرورية لمعالجة ما تعانيه الحالة الفلسطينية من مآزق متفاقمة.
والذين يعطلون تحقيق هذه الخطوة، لن يعجز التاريخ عن توفير الكلمات اللازمة ليصفهم بما يليق بهم.
المصدر
- مقال:الانقسام.. مرة أخرىالمركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات