القدوة العليا
بقلم: الشيخ سعيد حوى

... في الفصل الأول رأينا أن لرسول الله - r -
من الصفات الأساسية للرسل الحظ الأعلى.(1) وسنرى في هذا الفصل أن جوانب شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام متعددة تعدداً يجعله منفرداً عن الرسل بميزات ، إن شاركوه في بعضها فلم يشاركوه في الكل . فشخصية الرسول تمثلت فيها كل جوانب الحياة ، وما كل رسول كان له مثل هذا .
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان أباً وما كل رسول كان أباً ، وكان زوجاً وما كل رسول تزوج ، وكان رئيس دولة ومؤسسها وما كل رسول أقام دولة ، وكان القائد الأعلى لجيش الإسلام والمحارب الفذ وما كل رسول حارب . وبعث للإنسانية عامة فشرع لها بأمر الله ما يلزمها في كل جوانب حياتها العقدية والعبادية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية ، ولم يبعث رسول قط إلى الإنسانية عامة غيره وكان المستشار والقاضي والمربي والمعلم والمهذب والعابد والزاهد والصابر والرحيم ... إلى آخر صفاته – عليه الصلاة والسلام – التي استوعبت كل جوانب الحياة ، فكان بذلك بين الرسل الرسول المفرد العلم الممتاز {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}(2)
وإنما كان ذلك لأن الله جلت حكمته جعل الإسلام المنزل على محمد - r - نظاماً شاملاً لجوانب حياة البشر كلها ، وجعل حياة رسوله نموذجاً لدينه كله في كل جوانبه ، حتى تقوم الحجة على الناس مرتين ، مرة بالبيان النظري ومرة بالبيان العملي ، وشيء آخر هو أن البشر فيهم الأب والابن والزوج . وفيهم السياسي والاقتصادي ورجل الشورى ، وفيهم المحارب والمسالم ، وفيهم المبتلى والمعافى ، وفيهم الراعي والرعية ، وفيهم العامل والتاجر ، فالحياة البشرية متعددة الجوانب , وكل إنسان يعيش حياة تختلف في بعض جوانبها أو تتفق مع الآخرين ، وقد فرض الله على البشر على اختلاف مستوياتهم ، أن يكون الرسول قدوتهم في كل شيء ، فما لم تكن شخصية الرسول متعددة الجوانب والمواقف هذا التعدد ، لا يكون قدوة لكل البشر في كل شيء .
... وقد يعجب إنسان أن تكون حياة رسول الله - r - من الخصب بحيث تستوعب كل جوانب حياة البشر . فتكون قدوة لهم في هذا كله ، ولكنه الواقع الذي تشهد له كل الدراسات النظرية والعلمية
... فمثلاً من الناحية النظرية : ادرس مواقف الصبر عنده فإنك تجدها وقد استوعبت كل موقف يحتاج الناس به الصبر . لقد أقام الله رسوله مقام المخرج من وطنه ، ومقام من مات له أولاد وأولاد وأولاد ، ومن ماتت له زوجة وعم وأبناء عم بعضهم قتلى . ومقام من فشل أصحابه في معركة كان يديرها هو ، ومقام من أوذي واستهزئ به ، ومقام من شمت فيه ومن اتهم في عرض أ؛ب الخلق إليه ، ومقام من مرض وجرح ، ومقام من جاع وعطش وخاف وغير ذلك من المقامات التي يعتبرها الناس مصائب بحيث لا تصيب الإنسان مصيبةً إلا ويرى رسول الله - r - قد أصيب بمثلها ، وكان له موقف مثالي منها ، فيقف مثله إن كان مؤمناً.
... ومن الناحية العملية : فإن تاريخ الأمة الإسلامية ما خلا في عصر من عصوره ، من ملايين من أفراد هذه الأمة مختلفي المدارك ، ومختلفي المستويات . ومختلفي الاختصاصات ومختلفي المشارب ، منهم الغني والفقير والقائدة والرئيس والعالم والعابد وغيرهم وغيرهم ، كل منهم متمسك بحبل الاقتداء برسول الله في الصغيرة والكبيرة . حتى أنك لتجد النماذج المتباينة من هؤلاء وكل منهم يقيم الدليل على أن سلوكه هو سلوك رسول الله فيما يسير عليه ، وكل ذلك في الواقع ناتج عن الخصب في حياة الرسول التي استوعبت أحوال البشر جميعاً .
... والرسول عليه الصلاة والسلام في كل موقف من هذه المواقف ، وفي كل حال من الأحوال ، وفي كل جانب من الجوانب ، كان المثل الأعلى للبشر والقدوة العليا لهم .
إذ إليه يرجع الكمال في كل شيء ، ومنه يعرف الكمال في كل شيء ، وهذا هو الجانب الذي سنعرض له في هذا الفصل ليتضح لنا أنه لا كمال لأي إنسان مهما كان في أي حالة . إلا باتباعه والاقتداء به والتأسي به ، وإن الله لم يعط من الكمال لإنسان ما أعطاه محمداً ، ولم يجتمع في إنسان من الكمالات ما اجتمع في شخصه العظيم ، وذلك آية لله على أن هذا الإنسان رسوله ؛ إذ ما كان ليجتمع لإنسان منبت عن الله وكمالاته ، وإحاطة علمه وتوفيقه .
... وطبعاً نحن لا نستطيع – وخاصة في مثل هذا الفصل القصير المخصص لهذا البحث – أن نحيط بجوانب شخصية الرسول – عليه الصلاة والسلام – مع الإشارة إلى الكمال عنده في كلٍّ . فذلك شيء يستنفد جهد الباحثين الكثير ولا يحاط به . وإنما سنكتب هنا أربع فقرات فقط وباختصار . حول أربعة جوانب من حياته عليه الصلاة والسلام ونرى فيها ما قدمناه واضحاً وهو مقصود هذا الفصل .
... هذه الفقرات هي :
... الفقرة الأولى : الأخلاقي الأول
... الفقرة الثانية : رجل الأسرة الأول أباً وزوجاً
... الفقرة الثالثة : المعلم والمربي الأول
... الفقرة الرابعة : رجل الدولة الأول سياسيّاً وعسكريّاً .
... واخترنا هذه الجوانب لأن المعروف عند الناس أن كمال الإنسان في جانب من هذه الجوانب يكون على حساب تفريطه في بقية الجوانب ، وكلامنا في غير المقتدين بالرسل من أتباعهم ، فاجتماع الكمال لرسول الله - r - في هذه الجوانب كلها دليل على صحة ما قلناه . ولتبدأ باستعراض الفقرة الأولى .
1- الأخلاقي الأول
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(3)
... إن أبرز سمة في شخصية الرسول - r - المتعددة الجوانب أخلاقياته التي لا مثيل لها ، فلو أجمعت أنك جمعت كل خلق عظيم في العالم ، وكل تصرف أخلاقي سليم تصرفه في يوم من الأيام إنسان ، فإن ما تجده في حياة رسول الله - r - يربو على هذا كله مجتمعاً . مع انعدام التصرفات غير الأخلاقية في حياته عليه الصلاة والسلام ، مما لا تستطيع معه أن تجد في حياته كلها تصرفاً يمكن أن ترى أعظم منه . وكان أصحابه – رضي الله عنهم – يعرفون منه هذا ، ويتصرفون على أساسه معه ، فكثيراً ما كانوا يوقفون ناساً مواقف سنّ الأنبياء السابقون فيها سنناً فكان يفعل ما فعلوا ، ويعرف الصحابة ماذا سيفعل ، إذ أنهم يعرفون عنه أنه لا يرضى أن يكون أحد أرقى منه تصرفاً أو مسلكاً .
... في الطريق إلى فتح مكة لقي الرسول - r - أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أمية ، وهما ابن عمه وابن عمته ، وكانا من أشد الناس إيذاء له بمكة ، فأعرض عنهما فأشار علي بن أبي طالب على ابن عمه قائلاً : " ائته من قبل وجهه وقل له ما قال إخوة يوسف : {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}(4) فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه جواباً ، ففعل ذلك أبو سفيان ، فقال له رسول الله - r - : {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(5) .
... فانظر ذلك الذي لا يرضى أن يسبقه أحد في موقف من مواقف مكارم الأخلاق . إن أخلاق الرسول - r - هي ميزة شخصيته الكبرى ، حتى أنه ليحدد مهمة رسالته بقوله : " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق "(1) والواقع أنك لا تستطيع أن تأخذ صورة كاملة عن أخلاق الرسول - r - ، إلا إذا فهمت القرآن والسنة ، وكل ما له علاقة بسيرة رسول الله - r - .
إذ أخلاقه كما وصفته سيدتنا عائشة رضي الله عنها ا– هي القرآن ، إذ قالت : " كان خلقه القرآن "(2) .
... وقد رأيت بشكل عملي في بحث الأمانة من الفصل الأول أن كل آية من القرآن كان - r - المظهر العملي لها ، إذ استعرضنا هناك عدداً من الآيات والأمثلة التطبيقية على ذلك .
... إلا أننا نريد بهذا البحث أن نأتيك ببعض أمهات الأخلاق ومظاهرها عند رسول الله - r - بالشكل الذي لا يرقى إليه أحد سابقاً أو لاحقاً .
... ونختار من هذه الأخلاق أخلاق الصبر والرحمة والحلم والكرم والتواضع . فهذه من أمهات الأخلاق التي تحمد إذا كانت في محلها ، وسنرى أن رسول الله - r - يضع كل شيء في محله فإذا كان العفو غير محمود فلا عفو ، وإذا كانت الرحمة غير محمودة فلا رحمة ، وهكذا ، فرسول الله - r - هو الميزان الذي توزن بتصرفاته أخلاق البشر ويتحدد بهذه التصرفات حدود كل خلق فلا يطغى خلق على خلق .
(1) للرجوع الي الفصول الأولى محمد رسول الله : الصادق الأمين + الأمين
التزامه الكامل - صلى الله عليه وسلم - بتطبيق ما يدعو إليه + الرسول وتبليغه الكامل للدعوة + عقله العظيم وفطانته عليه الصلاة والسلام
(2) البقرة : 253 .
(3) القلم : 4 .
(4) يوسف : 91 .
(5) يوسف : 92 .
الفصل التالي محمد .. مثال في الصبر
المصدر
- مقال:القدوة العليا موقع : برهانكم