المنتقدون لفكر المودودي وأصنافهم
مقدمة
لا يتصور في شأن رجل مفكر مجدد مؤسس حركة إسلامية، كالمودودي: له منهجه الأصيل، وطابعه الخاص، واستقلاله الفكري، ودعوته الانقلابية: ألا يكون له نقاد ومعارضون.
وما من رجل عظيم في الماضي والحاضر إلا وقد انقسم الناس في شأنه، ما بين مادح وقادح.
بل ما بين مغال في المحبة والمدح، ومسرف في البغض والقدح، شأن البشر في كثير من القضايا والمواقف، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.
ورضي الله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقد قال: هلك فيّ اثنان: محب غال، ومبغض قال.
قال العلامة ابن عبد البر: كان يقال: يستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه.
قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب أنه هلك فيه فتيان: محب أفرط، ومبغض أفرط.
وقد جاء في الحديث: أنه يهلك فيه رجلان: محب مُطر، ومبغض مفتر.
وهذه صفة أهل النباهة، ومن بلغ في الدين والفضل الغاية.[1]
وصدق الشاعر إذ قال:
ومن في الناس يرضي كل نفس
- وبين هوى النفوس مدى بعيد؟!
العلمانيون والماركسيون عبيد الفكر الغربي:
والمنتقدون للمودودي أصناف:
فمنهم من ينتقده، لأنه يكره دعوته، فهو في الحقيقة لا يكره المودودي، وإنما يكره الإسلام ذاته.
وهذا مثل كثير من عبيد الفكر الغربي، من الماركسيين والعلمانيين وخصوم الإسلام، وكل من لا يحب أن تقوم للإسلام دولة تحكم بشريعة الله، ويبنى مجتمع الإيمان، وتمكن لدين الله في أرض الله، وتربي الناس على منهج الإسلام، دولة لا تريد علوا في الأرض ولا فسادا، من (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) الحج: .
وقد كانت معركة المودودي الأولى مع هؤلاء، الذين يرفضون الإسلام منهاجا للحياة، ممن جعلوا ولاءهم لغير الله ورسوله، والمؤمنين.
وخصومة هؤلاء للمودودي خصومة جذرية جوهرية، ليست خصومة سطحية ولا هامشية، لأنها خصومة عقائدية (أيديولوجية).
خصومة في الأسس والأصول لا في المباني والفروع.
كخصومة مع أدعياء النبوة الجديدة من (القاديانيين) الذين رفضوا ما نطق به القرآن والسنة وأجمعت عليه الأمة، وأصبح معلوما من الدين بالضرورة، وهو أن الله ختم بمحمد الرسل والنبيين جميعا، فلا نبي بعد محمد، ولا كتاب بعد القرآن، ولا شريعة بعد الإسلام.
وقد أفضت خصومته مع هؤلاء إلى أن حكم عليه بالإعدام.
وكذلك خصومته مع العلمانيين الأقحاح من عبيد الغرب، يمينيين كانوا أم يساريين.
ومعارضة أمثال هؤلاء للمودودي تزيده فضلا على فضل، وترفعه درجة فوق درجاته، وتحسب له في سجل مفاخره، وميزان حسناته.
فإنهم بباطلهم لا يعارضون إلا حقا.
وقديما قيل: حسبك نصرا أن خصمك يحارب الله ورسوله!
ومن قبل قال الشاعر:
لقد زادني حبا لنفسي أنني
- بغيض إلى كل امرئ غير طائل
وأني شقي باللئام، ولا ترى
- شقيا بهم إلا كــريم الشمائل!
المتاجرون بالتصوف:
ومن هؤلاء الخصوم: الذين يعيشون ـ أو يتعيشون ـ باسم الإسلام، وهو منهم بريء، من المنحرفين الذين يتاجرون بالتصوف، ويضحكون على عوام المسلمين، ممن قال فيهم الشاعر:
وقالوا: سكرنا بحب الإله ...::... وما أسكر القوم إلا القُصَع!
أدخلوا على الإسلام ما ليس منه، فأفسدوا حقائقه، ولوثوا تعاليمه.
أفسدوا توحيده بالشركيات، وعباداته بالمبتدعات، وأخلاقه بالمداهنات، وبعض هؤلاء الجهلة يفتقرون إلى أن يعلموا الإسلام من جديد، وبعضهم مرتزقة ليس لهم من التصوف إلا اسمه أو رسمه!
لقد كرهوا من المودودي أن يفضح زيفهم، ويكشف دجلهم، ويأخذ أتباعهم منهم لينضموا إلى الركب المستنير بعقل الإسلام، بدل القطيع المسوق بعصا الخرافة والتهويل.
اختلاف التكوين الثقافي:
ومنهم من ينتقده، لأنه لم يفهمه، ولم يدرك أغواره، لاختلاف التكوين الثقافي، واختلاف الاهتمامات، وتوافر سوء الظن، وعدم وجود الثقة، من بعض العلماء المدرسيين الكبار، الذين يعيشون في دائرة غير دائرته، وأفق غير أفقه، ولهموم غير همومه، ولا يواجهون من التيارات ما يواجهه، فهم يبحثون عن زلاته يضخمونها، ويؤاخذونه باللوازم يحاسبونه عليها، وقد رأيت الكثير من مآخذهم قابلا للتأويل، والحمل على محمل صحيح، لو توافر حسن الظن، وهو مطلوب مع المسلم العادي، فكيف مع رجل نصب نفسه للدفاع عن الإسلام والدعوة إليه نظاما كاملا للحياة؟
وبعض هؤلاء المنتقدين للأستاذ ممن ضاقت آفاقهم، من الجامدين أو المقلدين، أو المتعصبين لوجهة نظر واحدة، وإن كان كثير منهم مخلصين.
وهذا أمر يتكرر في كل الأعصار، حتى مع الأئمة الكبار.
ومن هذا ما ذكروه عن إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين: أنه تكلم في الإمام الجليل محمد بن إدريس الشافعي، وزعم أنه ليس بثقة!! ولما نقل هذا القول للإمام أحمد بن حنبل قال: ومن أين يعرف يحيى بن معين الشافعي؟! هو لا يعرف الشافعي، ولا يعرف ما يقول الشافعي! ومن جهل شيئا عاداه!
هذا مع أن يحيى إمام في فنّه، ومن أقرب الناس إلى ابن حنبل.
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر: صدق أحمد بن حنبل رحمه الله: إن ابن معين كان لا يعرف ما يقول الشافعي، وقد حكي عن ابن معين: أنه سئل في مسألة من التيمم، فلم يعرفها![2]
وهذا يبين لنا: أن اختلاف التكوين، واختلاف الهموم: مؤثر في الحكم على الأشخاص، فابن معين ـ ولا شك ـ من أفق غير أفق الشافعي، ومن تيار غير تياره.
ومن هنا لا نعجب مما جاء من خلاف وطعن متبادل، بين مدرسة الحديث والأثر ومدرسة الرأي والنظر، حفلت به كتب الجرح والتعديل، وكتب التراجم والطبقات، وخصوصا من مدرسة الأثر وأهل الحديث في حق مدرسة الرأي وإمامها الأشهر أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه.
ومن قرأ ما نقله أهل الحديث من انتقادات بل طعون واتهامات للإمام أبي حنيفة: لم يصدق أن يكون في المسلمين من يصدر عنه مثل هذه الأقوال، والحمد لله: أنه غير معروفة لدى عوام المسلمين، فقد تجاهلها العقل الإسلامي العام، ودفنها، ولم يلق لها بالا، وظل أبو حنيفة في القمة العالية: مكرما معظما يتبعه مئات الملايين من المسلمين، ويترضون عنه في كل مكان.
قال الحافظ المجتهد أبو عمر بن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضلة):
أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة، وتجاوزوا الحد في ذلك.
والسبب الموجب لذلك عندهم: إدخاله الرأي والقياس على الآثار، واعتبارهما.
وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الأثر بطل القياس والنظر.
وكان رده لما رد من أخبار الآحاد بتأويل محتمل.
وكثر منه تقدمه إليه غيره، وتابعه عليه مثله بمن قال بالرأي.
وجل ما يوجد له من ذلك: ما كان منه اتباعا لأهل بلده، كإبراهيم النخعي، وأصحاب ابن مسعود... الخ.[3]
تحاسد المعاصرين:
ومن نقاد المودودي: من ينتقده حسدا وبغيا، وهو شأن البشر بعضهم مع بعض، فليسوا ملائكة مطهرين.
وهذا يحدث كثيرا من انفعال طارئ، وغضب عارض، فيفقد الإنسان اتزانه في الحكم، ولهذا جاء التحذير من الغضب، وصح: "لا يقضي القاضي وهو غضبان".
ويحدث أحيانا من حسد كامن، ولا سيما من المتعاصرين بعضهم لبعض.
وقد نقل من هذا شيء كثير عن علماء السلف المتعاصرين ـ على فضلهم ـ فكيف بأهل عصرنا؟!
ذكر الحافظ ابن عبد البر في كتاب (العلم) بابا في "حكم قول العلماء بعضهم في بعض" بدأه بالحديث النبوي: "دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".[4]
وثنّى فيه بما جاء عن ابن عباس: استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده، لهم أشد تغايرا من التيوس في زربها!!
وذكر في ذلك أمثلة من قول أهل العلم بعضهم في بعض، يعجب الواحد منا كيفي صدر من أمثالهم! ولكن الكمال لله وحده، والعصمة لرسوله وإنك لعلى خلق عظيم [القلم: 4].
وقد رأينا أنموذجا من ذلك: ما ساقه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) من أقوال بعض كبار رجال الحديث عن الإمام أبي حنيفة، يقشعر لها البدن، وهو ما دعا الشيخ الكوثري أن يكتب كتابا: (تأنيب الخطيب على ما ساقه في حق أبي حنيفة من الأكاذيب).
وقد قرأت في كتاب (السنة) المنسوب لعبد الله بن أحمد بن حنبل: أقوالا عن أبي حنيفة، قفّ لها شعر رأسي، ولم أكد أصدق أن يخرج مثلها من فم عالم! وفيها اتهام للأمة المسلمة أنها راج عليها الباطل، واتبعت من لا علم عنده ولا دين!
وما من إمام من الأئمة إلا وجد من تكلم فيه بطعن أو تجريح، لسبب أو لآخر، قال ابن عبد البر: وما مثل من تكلم في مالك والشافعي ونظرائهما من الأئمة إلا كما قال الأعشى:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
- فلم يضرها، وأوهى قرنَه الوَعِلُ!
أو كما قال الحسين بن حميد:
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه
- أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل!
ولقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول:
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما
- وللناس قالٌ بالظنون وقيل!!
قيل لأبي عاصم النبيل: فلان يتكلم في أبي حنيفة! فقال: هو كما قال نصيب: سلمت، وهل حيّ على الناس يسلم؟!
وقال أبو الأسود الدؤلي:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
- كفالناس أعداء له وخصوم!
وروي أن موسى عليه السلام قال: يا رب، اقطع عني لسان بني إسرائيل! فأوحى الله إليه: يا موسى، لم أقطعها عن نفسي، فكيف أقطعها عنك؟![5]
هذا بعض ما ذكره الحافظ ابن عبد البر من قول العلماء بعضهم في بعض في أزمنة هي خير من زمننا، ومن أناس هم خير من معاصرينا، فكيف بزماننا وأهله، وقد قل فيه الإنصاف، وكثر الميل والاعتساف؟!
الخلاف في الجزئيات:
ومن هؤلاء من ينتقد المودودي لخلافهم له في بعض ما ذهب إليه من آراء واجتهادات، ولكنهم يجعلون خلافه لهم كأنما هو خلاف للإسلام نفسه، أعني أنهم اعتبروا أنفسهم وحدهم ممثلي الإسلام، والمتحدثين الرسميين باسمه، فليس لأحد قول مع قولهم، ولا يقبل فكر يخالف فكرهم.
وغالبا ما نجد أكثر هؤلاء لا يفرقون بين الجزئيات والكليات، فالمخالفة في جزئية أو اثنتين أو ثلاث، توقد عندهم نارا لا يخمد أوارها.
فإذا أوّل المودودي حديثا أو خالف أمرا متوارثا، أو رفض الرأي المشهور في قضية: شهروا في وجهه سيف الاتهام، وأثاروا غبار الشبهات، وأطالوا الألسنة فيه بالذم والغيبة، كما فعل ذلك قوم قبل في مثل الإمامين: أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما، حيث اتهم كل منهما بترك الحديث والأثر، للرأي والنظر.
حتى قال من قال: لو خرج أبو حنيفة على هذه الأمة بالسيف، كان أيسر عليهم مما أظهره فيهم.
يعني من القياس والرأي! واتهم بعضهم مالك بن أنس لما ذهب إليه من اعتبار المصالح المرسلة بأنه خلع ربقة الإسلام، أي تحلل من التقيد بنصوص الشرع الحنيف!! فيا لها من كلمة، ويا له من اتهام!! ومنشأ هذا تعصب المرء لما عنده، وسوء ظنه بما عند غيره.
وهب أن المودودي أخطأ في بعض المسائل الجزئية، أو خانه التعبير الدقيق فيها، على ما يقوله هؤلاء، فهل يعني هذا أن تسقط إمامته، وتجرح عدالته، ويحمل عليه في دينه وفكره؟ وأي عالم سلم من هفوة، وأي جواد خلا من كبوة؟ وإنما المعصوم من عصمه الله، وذلك هو النبي وحده.
وأوضح من ذلك ما اتهم به شيخ الإسلام ابن تيمية من خروج على الإجماع، ومخالفة للصحابة، ومجافاة لأئمة المذاهب، وكلها دعاوى غير صحيحة ولا مقبولة، ولكنه حوكم من أجلها، وامتحن بسببها، ودخل السجن أكثر من مرة، ومات فيه، رضي الله عنه.
خلاف بعض الدعاة الكبار في بعض قضايا الفكر:
وهناك من ينتقدون الأستاذ المودودي، لخلافهم له في الرأي في بعض القضايا والموضوعات، لاختلاف زاوية النظر عنده وعندهم، مع تسليمهم له بالمنزلة والفضل، وصدق النية، وطل والباع، في نقد الحضارة الغربية، والفلسفات المادية، وفي الدعوة إلى الإسلام، وفضح خصومه، وتزييف أفكارهم وتوجهاتهم، وإنما خالفوه في بعض مسائل العلم، أو بعض قضايا الفكر، أو في مناهج العمل الإسلامي العام.
وهذا لا حرج فيه، وسيظل الناس يختلفون في مثله، ولكل وجهة هو موليها، ولكل مجتهد نصيب، والمصيب في اجتهاده مأجور، والمخطئ معذور بل مأجور، وإن كان دون أجر المصيب.
نقد الشيخ أبي الحسن الندوي:
وأحسب من هؤلاء الداعية الإسلامي الكبير السيد أبا الحسن علي الحسني الندوي، الذي انتقد بعض ما كتبه الأستاذ المودودي ولا سيما في كتابه (المصطلحات الأربعة في القرآن).
ولست هنا في مقام الفصل بين الرجلين الكبيرين، ولكني فقط أسجل هنا ثلاث ملاحظات:
الأولى: ذكرتها للعلامة الندوي حين سعدت بلقائه في الدوحة عاصمة دولة قطر إبّان انعقاد المؤتمر الثالث للسيرة والسنة النبوية، وهي أن الأستاذ الندوي سمى كتابه حين نشره بالعربية (التفسير السياسي للإسلام) فقلت له: إن هذه التسمية فيها شدة وعنف، وقد تُوهِم غير ما قصدت إليه، وكان من إنصاف الشيخ أنه أقر بهذا، وقال: ليتني سمعت هذا قبل نشره، وإنه يخشى أن يستغل هذا في بلاد العرب من ينادون بفصل الدين عن السياسة! أو على حد تعبيرهم بـ (تسييس الدين) وأذكر أن أحد الإخوة في الهند نبهه أيضا إلى هذه الملاحظة.
وأن الكتاب حينما نشر بالأوردية كان له عنوان آخر.
الثانية: أن هناك أناسا أخذوا كلام المودودي، ورتبوا عليه نتائج لم يرتبها المودودي نفسه، وإن كانت قد تلزم من مفهوم كلامه، ولكن المعروف عند المحققين من علماء الأمة: أن لازم المذهب ليس بمذهب، وأن العالم لا يؤاخذ إلا بما التزمه صراحة من الأقوال والأفكار.
فقد يرى العالم الرأي، ويؤمن به، ويدعو إليه، ولا يخطر له لازمه على بال.
فإذا وجدنا بعض الغلاة من منتحلي بدعة (التكفير) وأشياعهم أخذوا كلمات معينة مما كتبه الأستاذ المودودي، مستشهدين لها بما ذهبوا إليه من تطرف في الفكر، وغلو في الدين، وكفروا بها جماهير المسلمين، فالمودودي ليس مسؤولا عن ذلك، لأنه لم يرد بكلامه نفس ما أرادوا، ولم ينته به إلى ما انتهوا إليه من نتائج في الاعتقاد والسلوك.
ولقد أساء الناس قديما وحديثا فهم كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عيه وسلم، ولم يكن هذا عيبا في كلام الله جل شأنه، ولا في كلام رسوله الكريم، بل كان عيبا فيمن ساء فهمه، وانحرف عقله، من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، على نحو ما قال أبو الطيب:
وكم من عائب قولا صحيحا
- كوآفته مـن الـفهم السقيم!
من يك ذا فم مُرّ مـريض
- يجـــد مرًّا به الماء الزلالا!
الثالثة: يتعلق بموقف الإمام المودودي من هذا النقد الموجه إلى كتابه، وهو الموقف اللائق بمثله، أمانة وتواضعا وإنصافا، فقد ذكر الأستاذ الندوي في كلمته المخلصة التي رثى بها المودودي في مجلة (البعث الإسلامي) التي تصدر عن ندوة العلماء بالهند: أن الأستاذ المودودي رحب بنقد الأستاذ الندوي، وشكره عليه، وتمنى لو كتب ملاحظاته على جميع مؤلفاته، فليس في العلم كبير، والمؤمن مرآة أخيه، والمسلمون نصحة بعضهم لبعض.
نقد د. محمد عمارة:
وممن انتقد الأستاذ المودودي في حديثه عن الجاهلية والتكفير: المفكر المصري المسلم الدكتور محمد عمارة الذي يرى أنه غلا في وصف المجتمعات المسلمة المعاصرة، بل ضم إليها التاريخ الإسلامي، والحضارة الإسلامية كلها، فوصفها بالجاهلية، ويرى ذلك ضربا من المجازفة: يقول في بحثه الذي قدمه لندوة اقرأ الأعلامية في رمضان 1424هـ:
"لكن المودودي قد انطلق من دعوى غيبة الحاكمية الإلهية عن المجتمعات الإسلامية والدول الإسلامية – فضلا عن مجتمعات الحضارة الغربية- فذهب من هذا المنطلق إلى الحكم على كل المجتمعات الإسلامية ودولها بالجاهلية – ومن ثم بالكفر- وذلك دون أن يكفر الأفراد أو الأمة.
بل ذهبت به المجازفة إلى الحكم بسيادة الجاهلية في التاريخ الإسلامي – والحضارة الإسلامية منذ السنوات الأخيرة لخلافة الراشد الثالث عثمان بن عفان (47هـ - 35هـ / 577 –656م)!..
لقد كتب عن جاهلية الغرب، فقال عن عصرها: (إنه عصر الجاهلية المحضة.. الجديدة.. والمعاصرة ..والمتحضرة)[6].
وكتب عن ارتداد حضارتنا الإسلامية وثقافة أمتنا الإسلامية، والنظام الاجتماعي الإسلامي إلى الجاهلية منذ عهد عثمان بن عفان، فقال: (إن الغايات التي حققها النبي، ، قد سار على نهجه فيها أبوبكر الصديق (52ق هـ - 13هـ / 573-634م) وعمر الفاروق ( 40 ق هـ -23 هـ / 584 – 644م) .. ثم انتقل الأمر بعدهما إلى سيدنا عثمان رضي الله عنه، وبقي على ما أقامه عليه النبي إلى عدة من السنين في صدر ذلك العهد.. ولكن الخليفة الثالث كان لا يتصف بتلك الخصائص التي أوتيها العظيمان اللذان سبقاه.. فلقد كان ينقصه بعض تلك الصفات اللازمة للحكم والأمر، التي كانت على أتمها في أبي بكر وعمر.. فوجدت الجاهلية سبيلها إلى النظام الإجتماعي الإسلامي، وإن تيارها الجارف، وإن حاول عثمان صده ببذل نفسه ومهجته، إلا أنه لم ينكفئ.
ثم خلفه علي (23 ق هـ - 40 هـ/ 600 – 661م) كرم الله وجهه، واستفرغ جهده لمنع هذه الفتنة، وصيانة السلطة السياسية في الإسلام من تمكن الجاهلية منها، ولكنه لم يستطع أن يدفع هذا الإنقلاب الرجعي المركوس حتى ببذل نفسه، فانتهى بذلك عهد الخلافة على منهاج النبوة، وحل محلها الملك العضوض Tyrant Kingdom وبدأ الحكم والسلطة يقومان على قواعد الجاهلية بدلا من قواعد الإسلام)[7].
ويمضي المودودي فيقول عن هذه الردة إلى الجاهلية: (فكان من الطبيعي أن يصحب ذلك كله رواج فلسفة الجاهلية وآدابها وفنونها، فتدون العلوم والمعارف على طرازها[8].. فالحضارة التي أزدهرت في قرطبة وبغداد ودلهي والقاهرة لا دخل للإسلام فيها ولا صلة .. وتاريخها ليس إسلاميا، بل الأجدر أن يكتب في سجل الجرائم بمداد من أسود..)[9].
[1] جامع بيان العلم وفضلة (2/150).
[2] انظر: جامع بيان العلم وفضلة (2/150).
[3] جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/148) طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت.
[4] رواه أحمد والترمذي والضياء عن الزبير، كما في صحيح الجامع الصغير وزيادته ( ) ولم يحكم عليه الألباني بشيء، وضعفه الشيخ شاكر في تخريج المسند (1412).
[5] جامع بيان العلم وفضلة (2/162،161).
[6] الحكومة الإسلامية وموجز تاريخ تحديد الدين وإحيائه ترجمة محمد كاظم سباق، طبعة بيروت 1975م.
[7] موجز تاريخ تجديد الدين .
[8] المصدر السابق.
[9] نفسه.
المصدر
- مقال:المنتقدون لفكر المودودي وأصنافهم موقع : القرضاوي