النية والإخلاص
بقلم : الشيخ يوسف القرضاوي
تقديم
تيسير فقه السلوك في ضوء القرآن والسنة
النية والإخلاص
تقديم
من الدستور الإلهي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)
(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين، ألا لله الدين الخالص)
(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء)
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، لا نبغي غيره ربا، ولا نتخذ غيره وليا، ولا نبتغي غيره حكما، ولا نشرك به ولا معه أحدا ولا شيئا، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
وأزكى صلوات الله وتسليماته على سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وحبيبنا محمد، الذي كانت صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين، لا شريك له، كان كله لله، إذا تكلم فلله، وإذا صمت فلله، إذا غضب فلله، وإذا رضي فلله، إذا أحب فلله، وإذا أبغض فلله، إذا أعطى أو منع أو سالم أو حارب فلله، ولا شيء غير الله، وقد علمنا أن ندعو الله فنقول: "اللهم إنا نعوذ بك نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه".
ورضي الله عن أصحابه، الذين أخلصوا دينهم لله، وأخلصهم الله لدينه، فهاجروا لله، وآووا ونصروا لله، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وكان الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم وأموال اقترفوها، وتجارة يخشون كسادها، ومساكن وأوطان يرضونها.. ورضي الله عمن سار على دربهم إلى يوم الدين.
أما بعد ..
فهذه الصحائف التي أقدمها لك ـ أخي المسلم ـ تتحدث عن شعبة أساسية من أرفع شعب الإيمان، وعن مقام من أعظم مقامات الدين، وخلق من أجل أخلاق الربانيين، هو "الإخلاص" الذي لا يقبل الله عملا إلا به، فبغيره لا يكون العمل مرضيا عند الله تعالى، كما قال سليمان عليه السلام: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين).
وإنما يرضي الله العمل الصالح في ذاته إذا تحقق فيه الإخلاص، وانتفى منه الشرك أكبره وأصغره، جليه وخفيه: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا).
ولا يتم الإخلاص إلا بتوافر النية الصادقة، وتجريدها لله، وتخليصها من الشوائب والرغبات الذاتية والدنيوية، ومعنى هذا: أن يفني الإنسان عن حظوظ نفسه، ويتعلق بربه، فيمنحه القوة من الضعف، والأمن من الخوف، والغنى من الفقر.
وأرجو أن تجد أخي المسلم في هذه الصحائف ما يعينك على جهاد نفسك، ومقاومة شهواتها الخفية، وهي أشد خطرا من الشهوات الظاهرة، حتى تخلص لله، وتكون كلك لله: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى، وإلى الله عاقبة الأمور).
اللهم اجعلنا من الذين إذا علموا عملوا، وإذا عملوا أخلصوا، وإذا أخلصوا قبلوا عندك يا رب العالمين.. اللهم آمين.
الفصل الأول - معنى الإخلاص وضرورته للسالكين إلى الله
تمهيد
الإخلاص: عمل من أعمال القلوب، بل هو في مقدمة الأعمال القلبية، لأن قبول الأعمال لا يتم إلا به.
والمقصود بالإخلاص: إرادة وجه الله تعالى بالعمل، وتصفيته من كل شوب ذاتي أو دنيوي، فلا ينبعث للعمل إلا لله تعالى والدار الآخرة، ولا يمازج عمله ما يشوبه من الرغبات العاجلة للنفس، الظاهرة أو الخفية، من إرادة مغنم، أو شهوة، أو منصب، أو مال، أو شهرة، أو منزلة في قلوب الخلق، أو طلب مدحهم، أو الهرب من ذمهم، أو إرضاء لعامة، أو مجاملة لخاصة، أو شفاء لحقد كامن، أو استجابة لحسد خفي، أو لكبر مستكن، أو لغير ذلك من العلل والأهواء والشوائب، التي عقد متفرقاتها هو: إرادة ما سوى الله تعالى بالعمل، كائنا من كان، وكائنا ما كان.
وأساس إخلاص العمل: تجريد "النية" فيه لله تعالى.
والمراد بالنية: انبعاث إرادة الإنسان لتحقيق غرض مطلوب له.
فالغرض الباعث هو: المحرك للإرادة الإنسانية لتندفع للعمل، والأغراض الباعثة كثيرة ومتنوعة، منها، المادي والمعنوي، ومنها: الفردي والاجتماعي، ومنها: الدنيوي والأخروي، ومنها التافه الحقير، والعظيم الخطير، منها ما يتعلق بشهوة البطن والجنس، ومنها ما يتصل بلذة العقل والروح، منها ما هو محظور، ومنها ما هو مباح، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو واجب.
وإنما يحدد هذه البواعث: عقائد الإنسان وقيمه التي يؤمن بها، ومعارفه وأفكاره ومفاهيمه التي كونها بالدراسة أو بالتجربة، أو بتأثير البيئة، وبالتقليد للآخرين.
والمؤمن الحق هو الذي غلب باعث الدين في قلبه باعث الهوى، وانتصرت حوافز الآخرة على حوافز الدنيا، وآثر ما عند الله تعالى على ما عند الناس، فجعل نيته وقوله وعمله لله، وجعل صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين، وهذا هو الإخلاص.
الإخلاص من ثمرات التوحيد الخالص
والإخلاص بهذا المعنى: ثمرة من ثمرات "التوحيد" الكامل لله تبارك وتعالى، الذي هو إفراد الله عز وجل بالعبادة والاستعانة، والذي يعبر عنه قوله سبحانه في فاتحة الكتاب وأم القرآن: (إياك نعبد وإياك نستعين).
والذي يناجي به المسلم ربه في صلواته كل يوم ما لا يقل عن سبع عشرة مرة. وبهذا الإخلاص المتجرد: يتخلص من كل رق، ويتحرر من كل عبودية لغير الله: عبودية الدينار، والدرهم، والمرأة والكأس، والزينة والمظهر، والجاه والمنصب، وسلطان الغريزة والعادة، وكل ألوان العبودية للدنيا التي استسلم لها الناس، ويكون كما أمر الله رسوله: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
ضرورة الإخلاص للسالكين
وقد أجمع الربانيون ـ من رجال التربية الروحية، وأهل الطريق إلى الله ـ على أهمية الإخلاص وضرورته لكل عمل من أعمال الآخرة، وكل سالك للطريق.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي في مقدمة كتاب "النية والإخلاص والصدق" من ربع المنجيات من "الإحياء":
"قد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان، وأنوار القرآن: أن لا وصول إلى السعادة، إلا بالعلم والعبادة، فالناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم، فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، وهو للنفاق كفاء، ومع العصيان سواء، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء، وقد قال الله تعالى في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوبا مغمورا: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا)".
وما قاله الغزالي سبق بنحوه العارف الرباني سهل بن عبد الله التستري، حيث قال: الناس كلهم سكارى إلا العلماء، والعلماء كلهم حيارى، إلا من عمل بعلمه.
وفي لفظ آخر قال: الدنيا جهل وموت، إلا العلم، والعلم كله حجة (أي على صاحبه)، إلا العمل به، والعمل كله هباء، إلا الإخلاص، والإخلاص على خطر عظيم حتى يختم به.
وقال بعضهم: العلم بذر، والعمل زرع، وماؤه الإخلاص.
وقال ابن عطاء الله في "حكمه":
إن الله لا يحب العمل المشترك، ولا القلب المشترك، فالعمل المشترك هو لا يقبله، والقلب المشترك هو لا يقبل عليه.
إن العلم الذي لا يصحبه الإخلاص صورة بلا حياة، وجثة بلا روح، والله تعالى إنما يريد من الأعمال حقائقها لا رسومها وصورها، ولهذا يرد كل عمل مغشوش على صاحبه، كما يرد الصيرفي الناقد العملة المزيفة.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" وأشار بأصبعه إلى قلبه. وقال: "التقوى ههنا" وأشار إلى صدره ثلاث مرات. وقال تعالى في شأن قرابين الهدى والأضاحي التي يقدمها الحجاج والمعتمرون: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم).
الإخلاص مطلوب لصلاح الحياة
وليس تشديد الإسلام في طلب الإخلاص، وتأكيده على تجريد النية لله، وتصحيح الاتجاه إليه وحده: ضربا من التزمت أو العبث، فإن الحياة نفسها لا تستقيم ولا ترتقي إلا بالمخلصين، وأكثر ما يصيب الأمم والجماعات من النكبات والكوارث القاصمة إنما يجره عليها أناس لا يرجون الله والدار الآخرة .. أناس من عبيد الدنيا، وعشاق الثروة، الذين لا يبالون ـ في سبيل دنياهم وشهوات أنفسهم ـ أن يدمروا دنيا الآخرين ودينهم معا، وأن يحولوا الأبنية إلى خرائب، والمنازل إلى مقابر، والحياة إلى موات.
أو أناس من طلاب الزعامة والسلطة، وعبيد الشهرة والجاه، وعشاق المجد الشخصي، والبطولة بغير الحق، إنهم في سبيل الحصول على المجد والسلطان، أو في سبيل الحفاظ على ما أدركوا منه، لا يبالون أن يخربوا ديارا، ويدمروا أمة بل أمما بأسرها، لا لشيء إلا لتصفق لهم الأيدي، وتهتف لهم الحناجر، وتنطلق بإطرائهم الأقلام، وتسبح بحمدهم الجماهير المسكينة المخدوعة، ويدوم لهم الاستمتاع بكراسي الحكم الوثيرة! وشعار كل منهم: أنا أو يخرب العالم من بعدي!!
إن الإسلام لا يرضى للمسلم أن يعيش بوجهين: وجه لله، ووجه لشركائه، ولا أن تنقسم حياته إلى شطرين: شطر لله وشطر للطاغوت، الإسلام يرفض الثنائية المقيتة، والازدواجية البغيضة، التي نشهدها في حياة المسلمين اليوم، فنجد الرجل مسلما في المسجد أو في شهر رمضان، ثم هو في حياته، أو في معاملاته، أو في مواقفه إنسان آخر، إن الإخلاص هو الذي يوحد حياة المسلم، ويجعلها كلها لله، كما يجعله كله لله، فصلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين.
الفصل الثاني - أهمية النية في تحقيق الإخلاص
استحضار النية وتجريدها لله
لا يتحقق الإخلاص في العمل إلا بعنصرين أساسيين:
الأول: استحضار النية فيه، فإنما الأعمال بالنيات، ومن أدى العمل أداء آليا، بغير نية طيبة أو خبيثة، لم يدخل في زمرة المخلصين.
والثاني: تجريدها من الشوائب الذاتية والدنيوية، حتى تخلص لله سبحانه.
أهمية النية في القرآن الكريم
والقرآن يعبر عن هذه النية المشروطة بعبارات مختلفة مثل: إرادة الآخرة، أو إرادة وجه الله، أو ابتغاء وجهه، أو ابتغاء مرضاته.
يقول تعالى: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة).
(ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها).
(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون).
فهؤلاء هم عبيد الدنيا، الذين جعلوا لها كل إرادتهم وسعيهم.
(من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا).
قسمت الآيتان الناس إلى قسمين: مريد العاجلة، وهي الدنيا، بمعنى أنه ليس له هدف سواها، ومصيره ما ذكرت الآية: جهنم، ومريد الآخرة، الذي جعلها هدفه، وسعى لها سعيها، فمصيره ما ذكرت الآية.
الجزاء إذن مرتب على "الإرادة" و"المراد"، فخبرني: ما مرادك وقصدك؟ أخبرك: ما مصيرك وجزاؤك!
وهذا المعنى تكرر في القرآن: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب).
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه).
(وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون).
(وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتى ماله يتزكى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى).
(وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله).
(ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله).. الآية.
(لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما).
وأود أن أنبه هنا: أنه لا تعارض بين إرادة الله تعالى وإرادة الآخرة، بل لا ثنائية، فلا معنى لتعليق من علق على قوله تعالى: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) بقوله: فأين من يريد الله؟ لأن الذين يريدون الآخرة ما أرادوا إلا الله، فإرادة الآخرة تعني: إرادة مثوبته ورضوانه، ورجاء ما عنده سبحانه.
ولا يعاب المخلص بأنه يرجو الجنة ويخاف النار، فقد وصف القرآن الأنبياء والصالحين بالرجاء والخوف، والرغب والرهب، وليس بعد القرآن بيان. والجنة ليست دار النعيم الحسي فحسب، بل هي دار الرضوان الأكبر، والتنعم بالنظر إلى وجه الله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة) فأما الكفار فإنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، وهذا الحجاب هو أقسى العذاب.
أهمية النية في السنة
أما السنة فقد ورد فيها الكثير في فضل النية والإخلاص، أذكر منها بعض ما انتقيته مما ذكره الإمام المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب"، وقد بدأها وبدأ كتابه كله بحديث الثلاثة أصحاب الغار، وهو حديث متفق عليه، وسأذكره بعد، عند الحديث عن ثمرات الإخلاص.
وثنى بحديث أبى أمامة: فيمن سأل عمن غزا يلتمس الأجر والذكر (أي الأجر من الله والذكر عند الناس) وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: "لا شيء له"! ثم قال: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، وابتغى به وجهه" (رواه النسائي بإسناد جيد، وسيأتي بلفظه).
ثم ثلث بحديث عمر المشهور: "إنما الأعمال بالنية ـ وفي رواية: بالنيات ـ وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (رواه البخاري ومسلم، وأبو داود والترمذي والنسائي).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم". قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: "يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم" (رواه البخاري ومسلم وغيرهم).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يبعث الناس على نياتهم" (رواه ابن ماجه بإسناد حسن)، ورواه أيضا من حديث جابر إلا إنه قال: "يحشر الناس".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا، حبسهم العذر" (رواه البخاري، وأبو داود)، ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد، إلا وهم معكم" قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: "حبسهم المرض".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" (رواه مسلم).
وعن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه" قال: "ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر" (أو كلمة نحوها).
"وأحدثكم حديثا فاحفظوه" قال: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالا لعلمت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما، يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء" (رواه أحمد والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها اكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها، إلى سبعمائة" (رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم).
وفي رواية لمسلم قال: عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: "إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها، وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي".
قوله: "من جراي" ـ بفتح الجيم وتشديد الراء ـ : أي من أجلي.
وعن معن بن يزيد رضي الله عنهما قال: كان أبي "يزيد" أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: "لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن" (رواه البخاري).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "قال رجل: لأتصدقن [الليلة] بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد على سارق، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني، فقال: اللهم لك الحمد على سارق وزانية وغني، فأتى (أي في المنام) فقيل له: أما صدقتك على سارق: فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية، فلعلها أنت تستعف من زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر، فينفق مما أعطاه الله" (رواه البخاري ـ واللفظ له ـ ومسلم والنسائي)، وقالا فيه: "أما صدقتك فقد تقبلت" ثم ذكر الحديث.
دلت هذه الأحاديث الوفيرة وغيرها ـ مع ما جاء في كتاب الله ـ على قيمة النية وأهميتها في الدين، وأن روح العمل هي "النية"، ولكن ما هي النية التي رتبت عليها الأحاديث كل هذه النصائح؟.
حقيقة النية
قال الجوهري في الصحاح : النية العزم.
وقال الخطابي: هي قصدك الشيء بقلبك، وتحرى الطلب منك له.
وقال البيضاوي: هي انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض، من جلب نفع، أو دفع ضر، حالا أو مالا.
قال: والشرع خصها بالإرادة المتوجهة نحو الفعل، ابتغاء لوجه الله تعالى، وامتثالا لحكمه.
وقال العراقي في شرح التقريب: اختلف في حقيقة النية، فقيل: هي الطلب، وقيل: الجد في الطلب، ومنه قول ابن مسعود: من ينو الدنيا تعجزه، أي من يجد في طلبها.
وقال الزركشي في قواعده: حقيقة النية ربط القصد بمقصود معين، والمشهور: أنها مطلق القصد إلى الفعل. وقال المارودي: النية قصد الشيء مقترنا بفعله، فإن قصده وتراخى عنه فهو عزم.
النية إرادة جازمة
ولا ريب أن النية التي صحت بها الأحاديث النبوية، التي سقنا عددا منها، وترتب عليها الجزاء ثوابا وعقابا ـ وإن لم يقترن بها عمل ـ إنما تتمثل في الإرادة الجازمة المصممة المتوجهة نحو الفعل، خيرا كان أم شرا، واجبا أو مستحبا، أو محظورا، أو مكروها، أو مباحا، ولهذا تكون أحيانا نية صالحة محمودة، وأحيانا نية سيئة مذمومة، حسب المنوى: أي شيء هو؟ وحسب المحرك الباعث: أهو الدنيا أم الآخرة؟ أهو وجه الله أم وجوده الناس؟
وليست النية إذن مجرد خاطرة تطرأ على القلب لحظة ثم لا تلبث أن تزول، فلا ثبات لها، يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله عفا عن أمتي ما حدثت بها أنفسها، ما لم تعمل به، أو تتكلم به"، وهذا يؤيد ما قاله بعضهم من أن النية ليست مجرد الطلب، بل الجد في الطلب.
وعلى هذا الأساس رأينا في الحديث: الفقير الذي لا مال له، يحصل ـ ببصيرته وصدق نيته ـ أجر الغنى الذي أنفق وتصدق في سبيل الله، قال: "فهما في الأجر سواء".
ورأينا في مقابله: الفقير الذي عاش حياته في الفقر والبؤس، يحصل ـ بغبائه وسوء نيته ـ وزر الغني الذي أنفق ماله في الشهوات ومعصية الله.
كما رأينا الحديث يحكم على المسلمين المقتتلين بأنهما في النار، القاتل بقتله، والمقتول، لأنه كان حريصا على قتل صاحبه، وذلك إذا كان اقتتالهما لأجل الدنيا.
النية محلها القلب
وهذه النية عمل قلبي خالص، وليست من أعمال اللسان، ولذا لم يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا عن تابعيهم بإحسان من سلف الأمة: التلفظ بالنية في العبادات، مثل الصلاة والصيام والغسل والوضوء، ونحوها، وهو ما نرى بعض الناس يجهدون أنفسهم في الإتيان به، مثل قولهم: نويت رفع الحدث الأصغر أو الأكبر، أو نويت صلاة الظهر أو العصر أربع ركعات على لله العظيم، أو نويت الصيام غدا في شهر رمضان.. الخ، وكل هذا لم يأت به قرآن ولا سنة. ولا معنى له، إذ لا يقول الإنسان إذا أراد الذهاب إلى السوق: نويت الذهاب إلى السوق، أو إذا نوى السفر: نويت السفر! ونقل الزركشي عن الغزالي في فتاويه قوله: أمر النية سهل في العبادات، وإنما يتعسر بسبب الجهل بحقيقة النية أو الوسوسة.
الأعمال بمقاصدها
ولأهمية النية في توجيه العمل وتكييفه وتحديد نوعه وقيمته، استنبط العلماء قاعدة فقهية من أرسخ قواعد الفقه، التي عنيت بها كتب القواعد والأشباه والنظائر، وهي: الأمور بمقاصدها، وفرعوا عليها فروعا كثيرة، منها: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني.
ومن فروعها ما عبر عنه الحديث: "إن الله عفا لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
كما استشهد الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ بحديث: "إنما الأعمال بالنيات" على إبطال "الحيل" التي ينسب إلى بعض الفقهاء الإفتاء بجوازها، ومعناها: أن العبرة بالصورة لا بالحقيقة، وبالشكل لا بالجوهر، وباللفظ لا بالمعنى. وهذا ما رفضه المحققون من العلماء، وأقاموا عليه الأدلة الناصعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هدي الصحابة وسلف الأمة.
تنوع جزاء العمل الواحد بتنوع نيته
ومن تأثير النية في الأعمال: أن العمل الواحد يتنوع حكمه الشرعي، وقيمته الأخلاقية، وجزاؤه الأخروي، تبعا لنية صاحبه.
ومن الأمثلة التي ذكرها الحديث لذلك، اقتناء الخيل، فهي لرجل واحد، ولآخر وزر، ولثالث ستر، أو كما سماها حديث آخر: "فرس للرحمن، وفرس للشيطان، وفرس للإنسان" وما ذلك إلا بسبب النية والقصد.
روى الإمام أحمد عن رجل من الأنصار مرفوعا: "الخيل ثلاثة: فرس يرتبطه الرجل في سبيل الله، فثمنه أجر، وركوبه أجر، وعاريته أجر.. وفرس يغالق عليه الرجل ويراهن (فرس القمار)، فثمنه وزر، وركوبه وزر.. وفرس للبطنة، فعسى أن يكون سدادا من الفقر إن شاء الله".
وروى عن ابن مسعود: "الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وفرس للشيطان، وفرس للإنسان، فأما فرس الرحمن، فالذي يرتبط في سبيل الله عز وجل، فعلفه وبوله وروثه ـ وذكر ما شاء الله ـ (يعني في ميزان صاحبه حسنات كما صح في حديث آخر)، وأما فرس الشيطان فالذي يقامر عليه ويراهن، وأما فرس الإنسان، فالفرس يرتبطها الإنسان، يلتمس بطنها (أي نتاجها) فهي ستر من فقر".
وقد جاء هذا التقسيم الثلاثي في الصحيحين من حديث أبي هريرة.
وقال الحافظ السيوطي: قال العلماء: النية تؤثر في الفعل، فيصير بها تارة حراما، وتارة حلالا، وصورته واحدة، كالذبح مثلا، فإنه يحل الحيوان إذا ذبح لأجل الله، ويحرمه إذا ذبح لغير الله، والصورة واحدة.
وقال المحقق ابن القيم في كتاب "الروح": الشيء الواحد تكون صورته واحدة، وهو ينقسم إلى محمود ومذموم، فمن ذلك: التوكل والعجز، والرجاء والتمني، والحب لله والحب في الله، والنصح والتأنيب (التشهير)، والهدية والرشوة، والإخبار بالحال والشكوى، فإن الأول من كل ما ذكر محمود، وقرينه مذموم، والصورة واحدة، ولا فارق بينهما إلا القصد.
النية ومقاصد الشريعة
وفي "إعلام الموقعين" أسهب ابن القيم في بيان أهمية النية والقصد في تحديد قيمة العمل، وأن العملية قد تكون صورتهما واحدة، وهذا قربة صحيحة وهذا معصية باطلة. وذلك بسبب النية والقصد.
"من ذلك: عصر العنب بنية أن يكون خمرا معصية، ملعون فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصره بنية أن يكون خلا أو دبسا جائز وصورة الفعل واحدة.
وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلما حرام باطل لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله فهو طاعة وقربة.
وكذلك عقد النذر المعلق على شرط ينوي به التقرب والطاعة، فيلزمه الوفاء بما نذره، وينوي به الحلف والامتناع فيكون يمينا مكفرة.
وكذلك تعليق الكفر بالشرط ينوي به اليمين، والامتناع فلا يكفر بذلك، وينوي به وقوع الشرط فيكفر عند وجود الشرط وصورة اللفظ واحدة.
وكذلك ألفاظ الطلاق صريحها وكنايتها ينوي بها الطلاق فيكون ما نواه، وينوي به غيره فلا تطلق.
وكذلك قوله "أنت عندي مثل أمي" ينوي به الظهار فتحرم عليه، وينوي به أنها مثلها في الكرامة فلا تحرم عليه.
وذلك من أدى عن غيره واجبا ينوي به الرجوع ملكه، وإن نوى به التبرع لم يرجع.
وهذه كما أنها أحكام الرب تعالى في العقود، فهي أحكامه تعالى في العبادات والمثوبات والعقوبات، فقد اطردت سنته بذلك في شرعه وقدره.
أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من أن يحتاج إلى ذكره، فإن القربات كلها مبناها على النيات، ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقصد، ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل، أو دخل الحمام للتنظيف، أو سبح للتبرد، لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق، فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له، وإنما لامرئ ما نوى.
ولو أمسك عن المفطرات عادة واشتغالا ولم ينو القربة، لم يكن صائما.
ولو دار حول البيت يلتمس شيئا سقط منه لم يكن طائفا.
ولو أعطى الفقير هبة أو هدية ولم ينو الزكاة لم يحسب زكاة.
ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يحصل له.
وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والامتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب، ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته لم يأثم بذلك، وقد يثاب بنيته.
ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية، فبانت زوجته أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام.
ولو أكل طعاما حراما يظنه حلالا لم يأثم به، ولو أكله وهو حلال يظنه حراما وقد أقدم عليه أثم بنيته.
وكذلك لو قتل من يظنه مسلما معصوما فبان كافرا حربيا أثم بنيته، ولو رمى صيدا فأصاب معصوما لم يأثم، ولو رمى معصوما فأخطأه وأصاب صيدا أثم، ولهذا كان القاتل والمقتول من المسلمين في النار لنية كل واحد منهما قتل صاحبه.
فالنية روح العمل ولبه وقوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم، وهما قوله: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
فبين في الجملة الأولى: أن العمل لا يقع إلا بالنية، ولهذا لا يكون عمل إلا بنية.
ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات والإيمان والنذور وسائر العقود والأفعال.
وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا، ولا يعصمه من ذلك صورة البيع.
وأن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا، ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح، لأنه قد نوى ذلك، وإنما لامرئ ما نوى، فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان، والثانية معلومة بالنص.
وعلى هذا فإذا نوى بالعصر حصول الخمر كان له ما نوى، ولذلك استحق اللعنة. وإذا نوى بالفعل التحيل على ما حرمه الله ورسوله، كان له ما نواه، فإنه قصد المحرم وفعل مقدوره في تحصيله، ولا فرق في التحيل على الحرم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له، لا في عقل ولا في شرع، ولهذا لو نهى الطبيب المريض عما يؤذيه وحماه منه فتحيل على تناوله عد متناولا لنفس ما نهي عنه".
أثر النية في المباحات والعاديات
ومن أهم ما تؤثر فيه النية: المباحات والعاديات، فإنها تتحول بالنية إلى عبادات وقربات، فالعمل لكسب الرزق في زراعة أو صناعة أو تجارة أو حرفة أو وظيفة، يغدو عبادة وجهادا في سبيل الله، إذا كان عمله ليعف نفسه عن الحرام، ويغنيها بالحلال.
والأكل والشرب واللبس والتجمل كذلك، إذا كان يستعين بذلك على طاعة الله، وأداء واجبه نحو ربه وأهله وأمته، وإظهارا لنعمة الله عليه، ففي الحديث: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".
وقد مر بنا حديث سعد بن أبي وقاص: أن المؤمن يؤجر في كل عمل يبتغي به وجه الله، حتى في اللقمة يرفعها إلى فم امرأته. وأعجب من ذلك: أن شهوة الجنس إذا قضاها المؤمن في الحلال، كان له فيها أجر ومثوبة عند الله، وفي هذا جاء الحديث الصحيح: "وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر".
النية لا تؤثر في الحرام
وإذا كان هذا هو تأثير النية في كل تلك المجالات، فمن المتفق عليه أنها لا تؤثر في الحرام، فحسن النية، وشرف القصد، لا يحيل الحرام حلالا، ولا ينزع منه صفة الخبث التي هي أساس تحريمه.
فمن أكل الربا، أو اغتصب مالا، أو اكتسبه بأي طريق محظور، بنية أن يبني به مسجدا أو ينشئ دارا لكفالة اليتامى، أو يؤسس مدرسة لتحفيظ القرآن، أو ليتصدق بهذا المال الحرام على الفقراء وأهل الحاجة، أو غير ذلك من وجوه الخير، فإن هذه النية الطيبة لا أثر لها، ولن تخفف عنه وزر الحرام، فقد أكدت الأحاديث الصحيحة: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا".
وفي حديث ابن مسعود: "إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث".
والحرام لا تطهره الصدقة ببعضه، بل لابد من الخروج عنه كله، ثم إن المال الحرام ليس مملوكا لحائزه حتى يجوز له التصدق منه، بل هو مملوك لصاحبه الأصلي، فلا يقبل منه إلا أن يرده إليه أو إلى ورثته.
وبهذا يتبين لنا أن الإسلام يرفض مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، ولا يقبل إلا الوسيلة النظيفة للغاية الشريفة، فلابد من شرف الغاية وطهارة الوسيلة معا.
إخلاص النية أساس القبول
ولابد من استحضار النية من تجريدها من كل الشوائب والرغبات الذاتية والدنيوية، وإخلاصها لله تعالى في كل عمل من أعمال الآخرة، حتى يجوز القبول عند الله.
ذلك أن لكل عمل صالح ركنين لا يقبل عند الله إلا بهما:
أولهما: الإخلاص وتصحيح النية.
وثانيهما: موافقة السنة ومنهاج الشرع.
وبالركن الأول تتحقق صحة الباطن، وبالثاني تتحقق صحة الظاهر، وقد جاء في الركن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، فهذا هو ميزان الباطن.
وجاء في الركن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" أي مردود على صاحبه، وهذا ميزان الظاهر.
وقد جمع الله الركنين في أكثر من آية في كتابه، فقال تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى)، (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن).
وإسلام الوجه لله: إخلاص القصد والعمل له.. والإحسان فيه: أداؤه على الصورة المرضية شرعا، ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.
وقد مر بنا قول الفضيل بن عياض: "إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا وصوابا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة .. ثم قرأ الفضيل قوله تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحد).
ومما روى عن ابن مسعود: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا ينفع قول وعمل إلا بنية، ولا ينفع قول وعمل ونية إلا مما وافق السنة.
وقال ابن عجلان: لا يصلح العمل إلا بثلاث: التقوى لله، والنية الحسنة، والإصابة (يعني: أن يؤدي على وجه الصواب شرعا).
نعلم مما تقدم أن إخلاص النية لا يكفي وحده لقبول العمل، ما لم يكن موافقا لما جاء به الشرع وصحت به السنة، كما أن ورود الشرع بالعمل لا يرقى به إلى درجة القبول ما لم يتحقق فيه الإخلاص، وتجريد النية لله عز وجل، وأي عمل من أعمال الآخرة فقد الإخلاص، فلا قيمة له في ميزان الحق، يقول ابن عطاء الله: الأعمال صور قائمة (كالتماثيل) وروحها وجود سر الإخلاص فيها.
بدون الإخلاص إذن لا يقبل عمل مهما يكن ظاهره الخير والصلاح.
بناء المسجد لغرض فاسد
وأضرب لذلك مثلين:
الأول: هو بناء مسجد.
فلا ريب أن للمسجد مكانته وأثره في الحياة الإسلامية، فهو دار للعبادة، ومدرسة للدعوة، ومنتدى للتعارف، ولهذا حث الإسلام على إنشاء المساجد وعمارتها، والعناية بها، ووعد على ذلك بأجزل المثوبة عند الله، حتى جاء في الحديث: "من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة".
ولكن الحديث النبوي الشريف ينبهنا على أن هذا الثواب لمن بنى مسجدا "يبتغي به وجه الله" لا لكل من بنى مسجدا.. فإذا كان بناء المسجد لغرض فاسد، وقصد سيئ، فإنه يكون وبالا على من أقامه وأسسه، إن النية الخبيثة تنضح على هذا العمل الطيب فتنحرف به، وتحيل خيره شرا، وأجره وزرا.
وفي هذا الأمر جاءت قصة "مسجد الضرار" التي نزل فيها قرآن يتلى، ليبين للناس أن "النوايا الشريرة" تفسد المؤسسات الصالحة، وتذهب بكل ما فيها من خير، ونعني بالمؤسسات الصالحة: التي تتخذ الصلاح عنوانا لها ومظهرا، أو التي يفترض فيها الصلاح والخير والتقوى، قال تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون، لا تقم فيه أبدا، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين).
الجهاد لغرض دنيوي
والمثل الثاني: هو الجهاد.
وهو أفضل عبادة يتطوع بها مسلم ويتقرب إلى ربه بها، ومع هذا لا يقبله الله حتى يخلص من كل الشوائب الدنيوية، مثل مراءاة الناس، أو إظهار الشجاعة، أو الحمية للعشيرة أو الأرض أو نحو ذلك.
وإن المرء قد يلبس لبوس المجاهدين، ويقاتل في صفوفهم، حتى يقتل على أيدي الكفار ثم لا يعد عند الله شهيدا، وما ذلك إلا لأن نيته لم تتجرد لإعلاء كلمة الله، وداخلتها مقاصد وبواعث أخرى. وقد جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري: أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". ومفهوم هذا: أن كل قتال آخر ليس في سبيل الله.
صعوبة تحقيق الإخلاص
ولا تحسبن يا أخي المسلم أن التحقق بالإخلاص أمر يسير، وأنه في متناول اليد لكل من أراد، وأن تحصيله ممكن بأدنى جهد وبلا معاناة ولا مجاهدة، فهذا بعيد عن الحقيقة.
والواقع أن تحقيق الإخلاص ليس بالأمر الهين، كما يظن بعض الذين يتعاملون مع السطوح لا مع الأعماق، ومع القشور لا مع اللباب.
فقد أكد العارفون من سالكي الطريق إلى الله تعالى: صعوبة الإخلاص، ومشقته على أنفس الخلق، إلا على من يسره الله تعالى عليه.
وذلك لأن الإخلاص ـ كما قلنا ـ يتضمن أمرين: استحضار النية، وتحريرها من الشوائب.
أما استحضار النية في العمل، فهو مهم، ولا يكفي أن يؤدي الإنسان العمل "أتوماتيكيا" دون أن تحضره النية وتلونه وتوجهه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات". ويقول: "إنما يبعث الناس على نياتهم".
وروى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع عن عمر: لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له، يعني: من لم يعمل العمل احتسابا لله.
وروى عن ابن مسعود أنه قال: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا ينفع قول وعمل إلا بنية.
وقال يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية، فإنها أبلغ من العمل.
وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئا أشد على من نيتي، لأنها تنقلب علي.
وقال زبيد اليامي: إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء، حتى في الطعام والشراب.
وقال أيضا: انو في كل شيء تريده الخير، حتى خروجك إلى الكناسة.
وقال داود الطائي: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية، وكفاك به وإن لم تنصب.
وقال مطرف بن عبدالله: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية.
وقال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
وقال: إيثار الله عز وجل أفضل من القتل في سبيله.
وقيل لنافع بن جبير: ألا تشهد الجنازة؟ قال: كما أنت حتى أنوي، ففكر هنيهة، ثم قال: امض.
وقال عبدالله بن المبارك: رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية.
وقال الفضيل بن عياض: إنما يريد الله منك نيتك وإرادتك.
وقال بعض السلف: من سره أن يكمل له عمله فليحسن نيته، فإن الله عز وجل يأجر العبد إذا حسنت نيته، حتى باللقمة.
وقال الثوري: كانوا يتعلمون النية للعمل، كما تتعلمون العمل.
وقال بعض العلماء: اطلب النية للعمل قبل العمل، ومادمت تنوي الخير فأنت بخير.
وكان بعض المريدين يطوف على العلماء يقول: من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملا لله تعالى، فإني لا أحب أن يأتي علي ساعة من ليل أو نهار، إلا وأنا عامل من عمال الله. فقيل له: قد وجدت حاجتك، فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت ـ أو تركته ـ فهم بعمله (أي انوه) فإن الهام بعمل الخير كعامله.
وأما تجريد النفس من أهوائها الظاهرة والخفية، وتصفية النية من الشوائب والرغبات الذاتية والدنيوية، فما أشقه على النفس وما أقساه! فإنه انتصار على الأنانية وحب الذات، وحب الدنيا، وفناء النفس عن حظوظها وأغراضها العاجلة، وإنه ـ لو تعلمون ـ عظيم!
ولهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة للنفس، ومراقبة دائمة لمداخل الشيطان إليها، وتنقية لها من عوامل الدغل والرياء، وحب الجاه والظهور، وحب المنافع الشخصية، وهي عوامل غلابة ذات سلطة وتأثير على النفس البشرية، ولهذا سئل أحد الربانيين، وهو سهل بن عبدالله التستري: أي شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب.
وقال غيره: تخليص النيات أشد على العاملين من جميع الأعمال.
وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعز شيء في الدنيا والإخلاص، وكم اجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه ينبت فيه على لون آخر.
بل بالغ بعضهم فقال: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى!!
وقال بعضهم: في إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز!
وذلك لغلبة حظوظ النفس على العاملين، وصعوبة التجرد من أهوائها، ولهذا اشترط القرآن خلوص المنافق من نفاقه، وانضمامه إلى قافلة المؤمنين: أن يخلص دينه لله، قال تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا، إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين)، فلم يكتف منهم بالتوبة، والإصلاح والاعتصام بالله، حتى يخلصوا دينهم لله.
وكان عمر رضي الله عنه يقول: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا.
وكان من دعاء مطرف بن عبدالله: اللهم إني استغفرك مما تبت إليك منه، ثم عدت فيه. واستغفرك مما جعلته لك على نفسي، ثم لم أف لك به. واستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمت!
وقال محمد بن سعيد المروزي: الأمر كله يرجع إلى أصلين: فعل منه تعالى بك، وفعل منك له، والمطلوب منك في فعله: الرضا بما فعل، وفي فعلك: الإخلاص فيما تعمل، فإذا أنت قد سعدت بهذين، وسعدت في الدارين.
ومن الناس من تراه فتظنه يعمل للإسلام بحرارة وصدق، بل ربما ظن هو نفسه كذلك، فإذا فتشت عن قلبه وسبرت حقيقة نواياه، وجدته طالب دنيا في ثوب صاحب دين، يعمل لنفسه، وهو يوهم غيره ـ وربما يوهم نفسه ـ أنه يعمل لربه! إن الله لا يقبل القلب المدخول، ولا يقبل العمل المدخول، إنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه.
أهمية الإخلاص للدعاة والعلماء
ومن هنا كان على كل من يدعو الإسلام، ويعمل لنصرته أن يحلل بواعثه ونواياه بصدق ولا يكذب على نفسه، ولا على ربه، فقد قال الإمام الغزالي بحق بعد أن ذكر فتنة حب الجاه والظهور والشهرة والمحمدة عند الناس:
"وأشد الخلق تعرضا لهذه الفتنة العلماء، فإن الباعث للأكثرين على نشر العلم لذة الاستيلاء والفرح بالاستتباع، والاستبشار بالحمد والثناء، والشيطان يلبس عليهم ذلك، ويقول: غرضكم نشر دين الله، والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترى الواعظ يمن على الله تعالى بنصيحة الخلق، ووعظه للسلاطين، ويفرح بقبول الناس قوله وإقبالهم عليه، وهو يدعي أنه يفرح بما يسر له من نصرة الدين، ولو ظهر من أقرانه من هو أحسن منه وعظا، وانصرف الناس عنه وأقبلوا عليه ساءه ذلك وغمه، ولو كان باعثه الدين لشكر الله تعالى، إذ كفاه الله تعالى هذا المهم بغيره، ثم الشيطان مع ذلك لا يخليه، ويقول: إنما غمك لانقطاع الثواب عنك لا لانصراف وجوه الناس عنك إلى غيرك، إذ لو اتعظوا بقولك لكنت أنت المثاب، واغتمامك لفوات الثواب محمود، ولا يدري المسكين أن انقياده للحق، وتسليمه الأمر أفضل وأجزل ثوابا، وأعود عليه في الآخرة من انفراده.
فمعرفة حقيقة الإخلاص والعمل به بحر عميق، يغرق فيه الجميع، إلا الشاذ النادر والفرد الفذ، وهو المستثنى في قوله تعالى: (إلا عبادك منهم المخلصين). وسننقل كلامه كله فيما بعد.
الفصل الثالث - فضل الإخلاص وخطر الرياء
فضل النية والإخلاص
لا غرو ـ إذا كان هذا شأن النية وأهمية الإخلاص ـ أن تتكاثر النصوص من القرآن والسنة في بيان فضلهما ومنزلتهما في الدين.
وقد أمر الله في كتابه بالإخلاص، وحث عليه في أكثر من سورة، وخصوصا في القرآن المكي، لأنه يتعلق بتجريد التوحيد، وتصحيح العقيدة، واستقامة الوجهة، فقال تعالى لرسوله: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين، ألا لله الدين الخالص).
وقال له: (قل الله أعبد مخلصا له ديني، فاعبدوا ما شئتم من دونه).
وقال له: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
وقال سبحانه: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء).
وقال سبحانه: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا).
وقال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحد).
وقد بينا أن القرآن يذكر النية والإخلاص بصيغ مختلفة، مثل: إرادة الآخرة، وإرادة وجه الله تعالى، أو ابتغاء وجهه وابتغاء مرضاته، وذكرنا من آيات كتاب الله ما يدل عليه.
وأحيانا يعبر عن ذلك بقوله: (في سبيل الله) وخصوصا مع الإنفاق والجهاد والقتال. وقد صح الحديث أن القتال لا يكون في سبيل الله، إلا إذا كان هدفه وغايته: أن تكون كلمة الله هي العليا، ومثل ذلك يقال في الإنفاق والجهاد بكل صوره، فلا يكون ذلك في سبيل الله ما لم يتحرر المقصود به، وهو إعلاء كلمة الله.
وقد بين القرآن الفرق بين غاية المؤمنين وغاية الكافرين في قتالهم، فقال: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت)، فالأولون يقاتلون لإعلاء كلمة الله، وهي كلمة التوحيد والحق والعدل والخير، التي تتمثل في دينه وشرعه، والآخرون يقاتلون، لإعلاء كلمة الطاغوت، وهو كل ما يعبد أو يعظم ويطاع طاعة مطلقة من دون الله، وهي كلمة الشرك والباطل والظلم والشر والطغيان.
وكم أشاد القرآن بالمخلصين الذين لم يريدوا بأعمالهم إلا وجه الله تعالى، يبتغون مرضاته، ولا يركضون وراء رضا الناس وثنائهم.
من هؤلاء: الأبرار الذين يطعمون الطعام لوجه الله، لا يريدون من أحد جزاء ولا شكورا، وهم الذين قال الله فيهم: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا، يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا).
ومن هؤلاء: المنفقون أموالهم في سبيل الله: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل، والله بما تعملون بصير).
ومنهم: الذين أمر الله خاتم رسله، وصفوة خلقه، أن يصبر معهم، ولا تعدو عيناه إلى غيرهم من أصحاب البريق الذي يخطف الأضواء، فقال تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا).
ومنهم: أولو الألباب، الأوفياء بعهد الله، الذين صبروا على طول الطريق، وعلى أذى قطاعه، وكان صبرهم ابتغاء وجه الله، لا طلبا للثناء، ولا مخافة من ذمهم، ولا جريا وراء دنيا، ولهذا مدحهم الله بقوله: (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار).
ليس المهم أن تعمل العمل، إنما المهم أن تبتغي به وجه الله سبحانه، وبذلك تضمن قبوله عند الله، والمثوبة عليه في الآخرة. يقول تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما).
ومن الأحاديث التي تذكر هنا: ما جاء في الترغيب في الحب لله، والبغض لله، والعطاء لله، والمنع لله، فذلك كله بعض مظاهر الإخلاص ومعانيه.
فعن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان".
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر، بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار".
وعن ابن مسعود وابن عباس والبراء مرفوعا: "أوثق عرا الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله".
وفي الحديث القدسي عن عبادة بن الصامت: "قال الله تعالى: حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتناصحين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في، المتحابون في على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء".
ومن ذلك: الأحاديث التي تنوه بالمغمورين الذين لا يتبوؤن المراكز الاجتماعية المرموقة، ولا يتمتعون بصيت ولا شهرة.
كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: "رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره" وفي رواية الحاكم: "رب أشعث أغبر ذي طمرين، لا يؤبه له، تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على الله لأبره".
وحديث سهل بن سعد عند البخاري، قال: "مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: "ما رأيك في هذا"؟ قال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح (أي يزوج)، وإن شفع أن يشفع! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مر رجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما رأيك في هذا"؟ قال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا أحرى إن خطب ألا ينكح، وإن شفع إلا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا".
وحديث ثوبان: أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن من أمتي من لو أتى أحدكم يسأله دينارا لم يعطه إياه، ولو سأله درهما لم يعطه إياه، ولو سأله فلسا لم يعطه إياه، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها".
ومن الآثار في ذلك: ما كتب به عمر بن الخطاب إلى أبي موسى يقول: من خلصت نيته لله، كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس.
وكان مطرف يقول: من صفا صفى له، ومن خلط خلط عليه.
وكان معروف الكرخي يضرب نفسه، ويقول: يا نفس أخلصي تتخلصي!
وكتب بعض الصالحين إلى أخ له: أخلص النية في أعمالك يكفك منها القليل. وقال الجنيد: إن لله عبادا عقلوا، فلما عقلوا عملوا، فلما عملوا أخلصوا، فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع.
التحذير من الرياء
وكما حفلت نصوص الكتاب والسنة بالترغيب في النية والإخلاص والصدق، حفلت كذلك بالترهيب والتحذير من آفة الرياء، وابتغاء وجه الناس ـ لا وجه الله ـ بعمل الآخرة.
كما حذرت ورهبت من أمر آخر، هو: حب الجاه والشهرة والمنزلة ورهبت من أمر آخر، هو: حب الجاه والشهرة والمنزلة في قلوب الخلق.
القرآن يحذر من الرياء والمرائين
إن الرياء من معاصي القلوب الشديدة الخطر على النفس وعلى العمل، وهو من الكبائر الموبقة، ولهذا اشتد الوعيد عليه في القرآن والحديث.
لقد جعله القرآن من أوصاف الكفرة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، أو المنافقين الذين يقولون: آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين. آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.
يقول تعالى: (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا، لا يقدرون على شيء مما كسبوا، والله لا يهدي القوم الكافرين).
وقال في سورة أخرى: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا).
فهذا رياء الكفار الذين لا يؤمنون بالمبدأ ولا بالمعاد، فلا يتصور منهم أن يعملوا لله ولا للدار الآخرة.
وإذا كانت نفقتهم رياء، فإن خروجهم للقتال والغزو رياء كذلك، لا نصيب فيه لله، كما قال تعالى: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله).
وأما المنافقون فقد قال تعالى في شأنهم: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا).
وقال تعالى: (فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون، ويمنعون الماعون) فتوعدهم الله تعالى بالويل، وهو الهلاك والعذاب.
الأحاديث النبوية ترهب من خطر الرياء
وأما الحديث فكثير، أكتفي منه بما انتقيه من كتاب "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري.
فقد ذكر في "الترهيب من الرياء" جملة من الأحاديث، انتقيت منها عشرة، بدأها بالحديث الخطير، الذي رواه مسلم وغيره، ونصه في صحيح مسلم:
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتى به، فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: هو جرئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتى به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأتى به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما علمت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار" (رواه مسلم والنسائي، ورواه الترمذي وحسنه، وابن حبان في صحيحه، وكلاهما بلفظ واحد).
أقول: وفيه أن معاوية لما بلغه هذا الحديث، بكى حتى غشي عليه، فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله. قال الله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار).
وقد يسأل بعض الناس: لماذا هذا العذاب والوعيد الذي يتطاير شرره، وقد فعل الخير؟ والجواب: أن الإسلام يهتم بالباعث على العمل أكثر من العمل نفسه، وقد علم بالفطرة أن التزوير من الإنسان على إنسان مثله من شر الرذائل، وأبشع الجرائم، فإذا كان التزوير من المخلوق على خالقه، فالجريمة أبشع وأشنع، وهذا هو عمل المرائي، يعمل لوجه الناس، وهو يريهم أنه يريد الله، كذبا وزورا، فلا غرو أن يفضحه الله يوم تبلى السرائر، وأن يسحب على وجهه إلى النار! ولذلك قال قتادة: إذا راءى العبد قال الله لملائكته: انظروا إليه كيف يستهزئ بي؟!
وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب" (رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، والحاكم، والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد).
وفي رواية للبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بشر هذه الأمة بالتيسير، والسناء، والرفعة بالدين، والتمكين في البلاد، والنصر، فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب".
وعن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سمع سمع الله به، ومن يراء يراء الله به" (رواه البخاري ومسلم).
"سمع" ـ بتشديد الميم ـ ومعناه: من أظهر عمله للناس رياء أظهر الله ينته الفاسدة في عمله يوم القيامة، وفضحه على رؤوس الأشهاد.
وعن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة" (رواه الطبراني بإسناد حسن).
وعن محمود بن لبيد قال: خرج النبي عليه الصلاة والسلام فقال: "يا أيها الناس، إياكم وشرك السرائر" قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ قال: "يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدا لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر" (رواه ابن خزيمة في صحيحه).
وعن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر رضي الله عنه خرج إلى المسجد فوجد معاذا عند قبر رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: حديث سمعته من رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: "اليسر من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة" (رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي في كتاب الزهد له وغيره، وقال الحاكم: صحيح ولا علة له).
وعن محمود بن لبيد أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء: يقول الله ـ عز وجل ـ إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا: هل تجدون عندهم جزاء"؟! (رواه أحمد بإسناد جيد، وابن أبي الدنيا، والبيهقي في الزهد وغيره).
وعن أبي هريرة أن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: "قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل لي عملا أشرك فيه غيري فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك" (رواه ابن ماجه واللفظ له، وابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي، ورواه ابن ماجه ثقات).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى يوم القيامة بصحف مختمة، فتنصب بين يدي الله تعالى، فيقول تبارك وتعالى: ألقوا هذه، واقبلوا هذه، فتقول الملائكة: وعزتك وجلالك ما رأينا إلا خيرا، فيقول الله عز وجل، إن هذا كان لغير وجهي، وإني لا أقبل إلا ما ابتغي به وجهي" (رواه البزار والطبراني بإسنادين، رواة أحدهما رواة الصحيح، والبيهقي).
وعن أبي علي ـ رجل من بني كاهل ـ قال: خطبنا أبو موسى الأشعري فقال: يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل، فقام إليه عبدالله بن حزن وقيس بن المضارب، فقالا: والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأذون، فقال: بل أخرج مما قلت، خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل" فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخلى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: "قولوا : اللهم إنا نعود بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه" (رواه أحمد والطبراني، ورواته إلى أبي علي محتج بهم في الصحيح، وأبو علي وثقه ابن حبان، ولم أر أحد جرحه. ورواه أبو يعلى بنحوه من حديث حذيفة إلا أنه قال فيه: "يقول كل يوم ثلاث مرات").
وكما حذرت الأحاديث النبوية من آفة الرياء، حذرت من آفة أخرى هي: حب الجاه والشهرة، والحرص على علو المكانة عند المخلوقين.
وقد جاء في بعض الآثار: "حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل".
وربما كان حب الجاه والمنزلة عند بعض الناس أهم بكثير من حب المال، فقد يبذل المال طيب النفس، ليحصل على الجاه والشهرة، وقد ذكر الإمام الغزالي إلى أن الجاه أهم من المال لأوجه ثلاثة ذكرها.
وقد جاء مرفوعا من حديث كعب بن مالك: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه".
والمراد بالشرف في الحديث: المكانة والجاه عند الخلق.
وكل ما مضى من النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، في التحذير من الرياء، وحب المال والجاه والشهرة، يدلنا بكل جلاء على خطر معاصي القلوب، وآفاتها وآثارها المدمرة للأعمال التي ظاهرها الصلاح، ولهذا كانت طاعات القلوب مقدمة على طاعات الجوراح، والإخلاص في مقدمة هذه الطاعات، لأنه شرط قبولها كلها، فما حقيقة هذا الإخلاص؟؟
هذا ما نبينه في الفصل التالي.
الفصل الرابع - حقيقة الإخلاص
تمهيد
اختلفت عبارات أهل السلوك ـ على عادتهم ـ في تحديد ماهية الإخلاص، فكل منهم نظر إلى جانب، أو لفت إلى معنى من معانيه، أو أكد ما ذكره الآخر، وإن كانت العبارة مغايرة.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" :
الإخلاص: إفراد الحق سبحانه في الطاعة بالقصد، وهو: أنه يريد بطاعته التقرب إلى الله سبحانه دون أي شيء آخر، من تصنع لمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرب به إلى الله تعالى، ويصح أن يقال: الإخلاص تصفية الفعل من ملاحظة المخلوقين.
ويصح أن يقال: الإخلاص: التوقي عن ملاحظة الأشخاص.
وقال شيخ القوم الجنيد: الإخلاص: سر بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله.
وقد ورد في ذلك حديث قدسي ذكره القشيري بسنده عن رب العزة قال: "الإخلاص سر من سرى، استودعه قلب من أحببت من عبادي".
وقال أبو عثمان: الإخلاص: نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى فضل الخالق.
وقال حذيفة المرعشي: الإخلاص: أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن.
وسئل بعضهم عن الإخلاص، فقال: ألا تشهد على عملك غير الله عز وجل.
وقال ذو النون: ثلاث من علامات الإخلاص: استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، ونسيان اقتضاء ثواب العمل في الآخرة.
وقال سهل بن عبدالله: لا يعرف الرياء إلا مخلص.
عناصر مهمة في تكوين الإخلاص
وهذه الأقوال تشير إلى عناصر مهمة تتكون منها حقيقة الإخلاص، من هذه العناصر:
أ. أن يهتم المخلص بنظر الخالق لا بنظر المخلوقين، فإنهم لم يغنوا عنه من الله شيئا، وقد قال الفضيل بن عياض: العمل من أجل الناس شرك، وترك العمل من أجل الناس رياء، والإخلاص: أن يعافيك الله منهما.
ب. أن يستوي ظاهر المخلص وباطنه، وعلانيته وسريرته، فلا يكون ظاهره عامرا وباطنه خرابا، ولا تكون علانيته عسلا، وسريرته علقما، وقد قال سرى السقطي: من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله تعالى.
ج. أن يستوي عنده مدح الناس وذمهم، وقد قيل: ما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله، والعكس أيضا صحيح.
د. ألا ينظر إلى إخلاصه، فيعجب بنفسه، فيهلكه عجبه، ولذا أكد العارفون عدم رؤية الأعمال، حتى قال أبو يعقوب السوسي: متى شهدوا في إخلاصهم الخلاص، احتاج إخلاصهم إلى إخلاص!
وقال أبو بكر الدقاق: نقصان كل مخلص في رؤية إخلاصه، فإذا أراد الله تعالى أن يخلص إخلاصه، أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه، فيكون مخلصا لا مخلصا.
وقال أبو عثمان المغربي: الإخلاص ما يكون للنفس فيه حظ بحال، وهذا إخلاص العوام، وأما إخلاص الخواص، فهو ما يجري عليهم لا بهم، فتبدو منهم الطاعات، وهم عنها بمعزل، ولا يقع لهم عليها ولا بها اعتداد، فذلك إخلاص الخواص.
ومعنى هذا: أنهم فنوا عن أنفسهم وعن أعمالهم، وعن إخلاصهم، فلم يروا إلا الله تعالى الذي أخ لصهم لدينه، فأخلصوا له الدين.
هـ. ومن عناصر الإخلاص: نسيان اقتضاء ثواب العمل في الآخرة، لأن المخلص لا يأمن أن يكون عمله مشوبا بحظ للنفس قد يخفى عليه، فلا يحظى عمل بالقبول عند الله تعالى، فقد قال تعالى (إنما يتقبل الله من المتقين).
والأعمال وإن عظمت فإنها لا تكافئ أدنى نعمة من نعم الله تعالى على عبده، على أن التوفيق للعمل إنما هو من الله تعالى، فهو صاحب الفضل أولا وآخرا، فلا يقتضي العمل في ذاته ثوابا في نظر المخلص، بل يرى الثواب إحسانا من الله إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحدكم الجنة عمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته" (متفق عليه عن أبي هريرة).
و. الخوف من تسرب الرياء والهوى إلى النفس، وهو لا يشعر، فإن للشيطان سراديب خفية وملتوية، يدخل بها إلى النفس، وقد يئس من إيقاع المؤمن في المعاصي الظاهرة، فعمله الدائم معه في المعاصي الباطنة، وبها يستطيع أن يضيع عليه عباداته وأعماله التي يرجو بها الله والدار الآخرة.
ولهذا قال سهل: لا يعرف الرياء إلا مخلص، لأنه ـ لخوفه منه ـ يرقبه ويتتبعه، ويعرف أغواره ومداخله، ولا يكذب على نفسه، ويزين لها سوء عمله فتراه حسنا.
ومن أجل هذا صعب الإخلاص، وقل المخلصون، وفيه قال سهل أيضا: أهل "لا إله إلا الله" كثير، ولكن المخلصين منهم قليل! هذه العناصر التي ذكرناها هي مقومات الإخلاص الكامل، والسعيد من توافرت له كلها وقليل ما هم، وعلى قدر حظ المسلم منها يكون حظه من الإخلاص.
تحقيق الغزالي في بيان الإخلاص
وللإمام الغزالي بحث عميق في "إحيائه" في بيان حقيقة الإخلاص، وهو فارس الميدان في هذا المجال، علما وعملا، وهو الذي رأى عمله في التصنيف والتدريس في علوم الفقه والأصول والكلام والرد على الفلاسفة والباطنية وغيرها ـ مما بوأه مقعد الشهرة والإمامة في العالم الإسلامي كله يومئذ ـ رأى ذلك كله عملا من أعمال الدنيا، وشهوات النفس، وطلب المنزلة والجاه في قلوب الخلق، فاعتزل ذلك كله، ليطلب الخلاص من الإخلاص.
ولهذا كان كلامه هنا كلام خبير بأهواء النفس البشرية ومنعطفاتها وتمويهاتها، وبتلبيس إبليس على الإنسان، حتى يحسب أنه يعمل لله، وهو إنما يعمل لذاته.
يقول الغزالي:
"اعلم أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه سمي خالصا ويسمى الفعل المصفى المخلص إخلاصا، قال الله تعالى: (من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين)، فإنما خلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من دم والفرث، ومن كل ما يمكن أن يمتزج به، والإخلاص يضاده الإشراك، فمن ليس مخلصا فهو مشرك، إلا أن الشرك درجات، فالإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية، والشرك منه خفي، ومنه جلي، وكذا الإخلاص، والإخلاص وضده يتواردان على القلب، فمحله القلب وإنما يكون ذلك في القصود والنيات.
"وقد ذكرنا حقيقة النية، وأنها ترجع إلى إجابة البواعث، فمهما كان الباعث واحدا على التجرد سمى الفعل الصادر عنه إخلاصا، بالإضافة إلى المنوى، فمن تصدق وغرضه محض الرياء فهو مخلص، ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص، ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، كما أن الإلحاد عبارة عن الميل، ولكن خصصته العادة بالميل عن الحق، ومن كان باعثه مجرد الرياء فهو معرض للهلاك، ولسنا نتكلم فيه، إذ قد ذكرنا ما يتعلق به في كتاب الرياء من ربع المهلكات.
"وإنما نتكلم الآن فيمن انبعث لقصده التقرب، ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر، إما من الرياء أو من غيره من حظوظ النفس، ومثال ذلك أن يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب، أو يعتق عبده ليتخلص من مؤنته وسوء خلقه، أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر، أو يتخلص من شر يعرض له في بلده، أو ليهرب عن عدو له في منزله، أو يتبرم بأهله وولده، أو بشغل هو فيه، فأراد أن يستريح منه أياما، أو يغزو ليمارس الحرب ويتعلم أسبابه، ويقدر به على تهيئة العساكر وجرها، أو يصلي بالليل وله غرض في دفع التعاس عن نفسه به ليراقب أهله، أو رحله، أو يتعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال، أو ليكون عزيزا بين العشيرة، أو ليكون عقاره أو ماله محروسا بعز العلم عن الأطماع، أو اشتغل بالدرس والوعظ ليتخلص عن كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث، أو تكفل بخدمة العلماء أو الصوفية لتكون حرمته وافرة عندهم وعند الناس، أو لينال به رفقا في الدنيا، أو كتب مصحفا ليجود بالمواظبة على الكتابة خطه، أو حج ماشيا ليخفف عن نفسه الكراء، أو توضأ ليتنظف، أو يتبرد، أو اغتسل لتطيب رائحته، أو روى الحديث ليعرف بعلو الإسناد، أو اعتكف في المسجد ليخف كراء المسكن، أو صام ليخفف عن نفسه التردد في طبخ الطعام، أو ليتفرغ لأشغاله فلا يشغله الأكل عنها، أو تصدق على السائل ليقطع إبرامه في السؤال عن نفسه، أو يعود مريضا ليعاد إذا مرض، أو يشيع جنازة ليشيع جنائز أهله، أو يفعل شيئا من ذلك ليعرف بالخير ويذكر به وينظر إليه بعين الصلاح والوقار، فمهما كان باعثه هو التقرب إلى الله تعالى، ولكن انضاف إليه خطرة من هذه الخطرات حتى صار العمل أخف عليه، بسبب هذه الأمور فقد خرج عمله عن حد الإخلاص، وخرج عن أن يكون خالصا لوجه الله تعالى وتطرق إليه الشرك، وقد قال تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشركة.
"وبالجملة كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب، قل أم كثر إذا تطرق إلى العمل تكدر به صفوه، وزال به إخلاصه، والإنسان مرتبط في حظوظه، منغمس في شهواته، قلما ينفك فعل من أفعاله، وعبادة من عباداته، عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس، فلذلك قيل: من سلم له من عمره لحظة واحدة خالصة لوجه الله نجا، وذلك لعزة الإخلاص، وعسر تنقية القلب من هذه الشوائب، بل الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى، وهذه الحظوظ إن كانت هي الباعثة وحدها فلا يخفى شدة الأمر على صاحبه فيها، وإنما نظرنا فيما إذا كان القصد الأصلي هو التقرب وانضافت إليه هذه الأمور، ثم هذه الشوائب، إما أن تكون في رتبة الموافقة، أو في رتبة المشاركة، أو في رتبة المعاونة كما سبق في النية.
"وبالجملة فأما أن يكون الباعث النفسي مثل الباعث الديني، أو أقوى منه، أو أضعف، ولكل واحد حكم آخر كما سنذكره، وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها، قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصد التقرب فلا يكون فيه باعث سواه، وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتر بالله، مستغرق الهم بالآخرة، بحيث لم يبق لحب الدنيا في قلبه قرار، حتى لا يحب الأكل والشرب أيضا، بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة، فلا يشتهي الطعام لأنه طعام، بل لأنه يقويه على عبادة الله تعالى، ويتمنى أن لو كفى شر الجوع، حتى لا يحتاج إلى الأكل، فلا يبقى في قلبه حظ من الفضول الزائدة على الضرورة، ويكون قدر الضرورة مطلوبا عنده، لأنه ضرورة دينه، فلا يكون له هم إلا الله تعالى، فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب، أو قضى حاجته، كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته، فلو نام مثلا حتى يريح نفسه ليتقوى على العبادة بعده كان نومه عبادة، وكان له درجة المخلصين فيه، ومن ليس كذلك فباب الإخلاص في الأعمال مسدود عليه إلا على الندور، وكما أن من غلب عليه حب الله وحب الآخرة فاكتسبت حركاته الاعتيادية صفة همه وصارت إخلاصا، فالذي يغلب على نفسه الدنيا والعلو والرياسة وبالجملة غير الله، فقد اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة، فلا تسلم له عباداته من صوم وصلاة وغير ذلك إلا نادرا.
"فإذن علاج الإخلاص كسر حظوظ النفس، وقطع الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة، بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيسر الإخلاص، وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها ويظن أنها خالصة لوجه الله، ويكون فيها مغرورا، لأنه لا يرى وجه الآفة فيها، كما حكى عن بعضهم أنه قال: قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت صليتها في المسجد في الصف الأول، لأني تأخرت يوما لعذر فصليت في الصف الثاني، فاعترتني خجلة من الناس حيث رأوني في الصف الثاني، فعرفت أن نظر الناس إلي في الصف الأول كان مسرتي، وسبب استراحة قلبي، من حيث لا أشعر! وهذا دقيق غامض قلما تسلم الأعمال من أمثاله، وقل من يتنبه له إلا من وفقه الله تعالى، والغافلون عنه يرون حسناتهم كلها في الآخرة سيئات وهم المرادون بقوله تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وبدا لهم سيئات ما كسبوا)، وبقوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا). وأشد الخلق تعرضا لهذه الفتنة العلماء، فإن الباعث للأكثرين على نشر العلم لذة الاستيلاء والفرح والاستتباع، والاستبشار بالحمد والثناء، والشيطان يلبس عليهم ذلك، ويقول: غرضكم نشر دين الله، والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترى الواعظ يمن على الله تعالى بنصيحة الخلق، ووعظه للسلاطين، ويفرح بقبول الناس قوله وإقبالهم عليه، وهو يدعي أنه يفرح بما يسر له من نصرة الدين، ولو ظهر من أقرانه من هو أحسن منه وعظا، وانصرف الناس عنه وأقبلوا عليه ساءه ذلك وغمه، ولو كان باعثه الدين لشكر الله تعالى، إذ كفاه الله تعالى هذا المهم بغيره، ثم الشيطان مع ذلك لا يخليه، ويقول: إنما غمك لانقطاع الثواب عنك لا لانصراف وجوه الناس عنك إلى غيرك، إذ لو اتعظوا بقولك لكنت أنت المثاب، واغتمامك لفوات الثواب محمود، ولا يدري المسكين أن انقياده للحق، وتسليمه الأمر أفضل وأجزل ثوابا، وأعود عليه في الآخرة من انفراده. "فمعرفة حقيقة الإخلاص والعمل به بحر عميق، يغرق فيه الجميع، إلا الشاذ النادر والفرد الفذ، وهو المستثنى في قوله تعالى: (إلا عبادك منهم المخلصين)، فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه الدقائق، وإلا التحق باتباع الشياطين وهو لا يشعر".
كلام الغزالي في حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب به
ومما بحثه الغزالي وحققه في كتاب "النية والإخلاص" من "الإحياء": بيان حكم العمل الذي امتزجت به بعض الشوائب الدنيوية، أو الحظوظ النفسية، ولم يخلص كله لله، ولم يكن كله للرياء، وهل يستحق المسلم به بعض الثواب أو لا؟
وكلامه هنا جيد ينبغي أن ينقل أيضا، ففيه نجد عقل الفقيه، وقلب الصوفي معا.
يقول رضي الله عنه:
"اعلم أن العمل إذا لم يكن خالصا لوجه الله تعالى، بل امتزج به شوب من الرياء أو حظوظ النفس، فقد اختلف الناس في أن ذلك هل يقتضي ثوابا، أم يقتضي عقابا، أم لا يقتضي شيئا أصلا، فلا يكون له ولا عليه؟
وأما الذي لم يرد به إلا الرياء فهو عليه قطعا، وهو سبب المقت والعقاب.
وأما الخالص لوجه الله تعالى فهو سبب الثواب.
وإنما النظر في المشوب، وظاهر الأخبار تدل على أنه لا ثواب له، وليس تخلو الأخبار عن تعارض فيه.
والذي ينقدح لنا فيه، والعلم عند الله، أن ينظر إلى قدر قوة الباعث.
فإن كان الباعث الديني مساويا للباعث النفسي تقاوما وتساقطا، وصار العمل لا له ولا عليه.
وإن كان باعث الرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع، وهو مع ذلك مضر ومفض للعقاب، نعم العقاب الذي فيه أخف من عقاب العمل الذي تجرد للرياء، ولم يمتزج به شائبة التقرب.
وإن كان قصد التقرب أغلب بالإضافة إلى الباعث الآخر ـ فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني، وهذا لقوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)، ولقوله تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها). فلا ينبغي أن يضيع قصد الخير، بل إن كان غالبا على قصد الرياء حبط منه القدر الذي يساويه وبقيت الزيادة، وإن كان مغلوبا سقط بسببه شيء من عقوبة القصد الفاسد.
وكشف الغطاء عن هذا: أن الأعمال تأثيرها في القلوب بتأكيد صفاتها، فداعية الرياء من المهلكات، وإنما غذاء هذا المهلك وقوته العمل على وقفه، وداعية الخير من المنجيات، وإنما قوتها بالعمل على وقفها، فإذا اجتمعت الصفتان في القلب فهما متضادتان، فإذا عمل على وفق مقتضى الرياء فقد قوى تلك الصفة، وإذا كان العمل على وفق مقتضى التقرب، فقد قوى أيضا تلك الصفة، وأحدهما مهلك، والآخر منج، فإن كان تقوية هذا بقدر تقوية الآخر فقد تقاوما، فكان كالمستضر بالحرارة إذا تناول ما يضره، ثم تناول من المبردات ما يقاوم قدر قوته، فيكون بعد تناولهما كأنه لم يتناولهما، وإن كان أحدهما غالبا لم يخل الغلب عن أثر، فكما لا يضيع مثقال ذرة من الطعام والشراب والأدوية، ولا ينفك عن أثر في الجسد بحكم سنة الله تعالى، فكذلك لا يضيع مثقال ذرة من الخير والشر، ولا ينفك عن تأثير في إنارة القلب أو تسويده، وفي تقريبه من الله، أو إبعاده، فإذا جاء بما يقربه شبرا مع ما يبعده، فقد عاد إلى ما كان، فلم يكن له ولا عليه، وإن كان الفعل مما يقربه شبرين، والآخر يبعده شبرا واحدا، فضل له لا محالة شبر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتبع السيئة الحسنة تمحها"، فإذا كان الرياء المحض يمحوه الإخلاص المحض عقبيه، فإذا اجتمعا جميعا فلابد وأن يتدافعا بالضرورة.
"ويشهد لهذا إجماع الأمة على أن من خرج حاجا ومعه تجارة، صح حجه، وأثيب عليه، وقد امتزج به حظ من حظوظ النفس، نعم يمكن أن يقال: إنما يثاب على أعمال الحج عند انتهائه إلى مكة، وتجارته غير موقوفة عليه، فهو خالص، وإنما المشترك طول المسافة، ولا ثواب فيه مهما قصد التجارة، ولكن الصواب أن يقال: مهما كان الحج هو المحرك الأصلي، وكان غرض التجارة كالمعين والتابع، فلا ينفك نفس السفر عن ثواب، وما عندي أن الغزاة لا يدركون في أنفسهم تفرقة بين غزو الكفار في جهة تكثر فيها الغنائم، وبين جهة لا غنيمة فيها، ويبعد أن يقال: إدراك هذه التفرقة يحبط بالكلية ثواب جهادهم. بل العدل أن يقال: إذا كان الباعث الأصلي، والمزعج القوي، هو إعلاء كلمة الله تعالى، وإنما الرغبة في الغنيمة على سبيل التبعية، فلا يحبط به الثواب، نعم لا يساوي ثوابه ثواب من لا يلتفت قلبه إلى الغنيمة أصلا، فإن هذا الالتفات نقصان لا محالة.
فإن قلت: فالآيات والأخبار تدل على أن شوب الرياء محبط للثواب، وفي معناه شوب طلب الغنيمة، والتجارة، وسائر الحظوظ، فقد روى طاوس وغيره من التابعين، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يصطنع المعروف، أو قال: يتصدق فيحب أن يحمد ويؤجر، فلم يدر ما يقول له، حتى نزلت: (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)، وقد قصد الأجر والحمد جميعا، وروى معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أدنى الرياء شرك"، وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقال لمن أشرك في عمله: خذ أجرك ممن عملت له".
"وروى عن عبادة، أن الله عز وجل يقول: "أنا أغنى الأغنياء عن الشركة، من عمل لي عملا فأشرك معي غيري ودعت نصيبي لشريكي". وروى أبو موسى أن أعرابيا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى مكانه: من في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تقولون فلان شهيد، ولعله أن يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقا (أي دراهم). وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هاجر يبتغي شيئا من الدنيا فهو له".
"فنقول: هذه الأحاديث لا تناقض ما ذكرناه، بل المراد بها: من لم يرد بذلك إلا الدنيا، كقوله: "من هاجر يبتغي شيئا من الدنيا" وكان ذلك هو الأغلب على همه، وقد ذكرنا أن ذلك عصيان وعدوان، لا لأن طلب الدنيا حرام، ولكن طلبها بأعمال الدين حرام، لما فيه من الرياء وتغيير العبادة عن موضعها، وأما لفظ الشركة حيث ورد فمطلق للتساوي، وقد بينا أنه إذا تساوى القصدان تقاوما، ولم يكن له ولا عليه، فلا ينبغي أن يرجى عليه ثواب.
ثم إن الإنسان عند الشركة أبدا في خطر، فإنه لا يدري أي الأمرين أغلب على قصده، فربما يكون عليه وبالا، ولذلك قال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا). أي لا يرجى اللقاء مع الشركة التي أحسن أحوالها التساقط.
ويجوز أن يقال أيضا: منصب الشهادة لا ينال إلا بالإخلاص في الغزو، وبعيد أن يقال من كانت داعيته الدينية بحيث تزعجه إلى مجرد الغزو، وإن لم يكن غنيمة، وقدر على غزو طائفتين من الكفار، إحداهما غنية، والأخرى فقيرة، فمال إلى جهة الأغنياء لإعلاء كلمة الله والغنيمة، لا ثواب له على غزوه البتة. ونعوذ بالله أن يكون الأمر كذلك، فإن هذا حرج في الدين، ومدخل لليأس على المسلمين، لأن أمثال هذه الشوائب التابعة قط لا ينفك الإنسان عنها إلا على الندور، فيكون تأثير هذا في نقصان الثواب، فأما أن يكون في إحباطه فلا.
نعم.. الإنسان فيه على خطر عظيم، لأنه ربما يظن أن الباعث الأقوى هو قصد التقرب إلى الله، ويكون الأغلب على سره الحظ النفسي، وذلك مما يخفى غاية الخفاء، فلا يحصل الأجر إلا بالإخلاص، والإخلاص قلما يستيقنه العبد من نفسه، وإن بالغ في الاحتياط.
فلذلك ينبغي أن يكون أبدا بعد كمال الاجتهاد مترددا بين الرد والقبول، خائفا أن تكون في عبادته آفة يكون وبالها أكثر من ثوابها، وهكذا كان الخائفون من ذوي البصائر، وهكذا ينبغي أن يكون كل ذي بصيرة، ولذلك قال سفيان رحمه الله: لا أعتد بما ظهر من عملي. وقال عبد العزيز بن أبي رواد: جاورت هذا البيت ستين سنة، وحججت ستين حجة، فما دخلت في شيء من أعمال الله تعالى إلا وحاسبت نفسي، فوجدت نصيب الشيطان أوفى من نصيب الله، ليته لا لي ولا علي.
ومع هذا لا ينبغي أن يترك العمل عند خوف الآفة والرياء، فإن ذلك منتهى بغية الشيطان منه، إذ المقصود أن لا يفوت الإخلاص، ومهما ترك العمل فقد ضيع العمل والإخلاص جميعا. وقد حكى أن بعض الفقراء كان يخدم أبا سعيد الخراز ويخف في أعماله، فتكلم أبو سعيد في الإخلاص يوما يريد إخلاص الحركات، فأخذ الفقير يتفقد قلبه عند كل حركة ويطالبه بالإخلاص، فتعذر عليه قضاء الحوائج، واستضر الشيخ بذلك، فسأله عن أمره، فأخبره بمطالبته نفسه بحقيقة الإخلاص، وأنه يعجز عنها في أكثر أعماله فيتركها، فقال أبو سعيد: لا تفعل، إذ الإخلاص لا يقطع المعاملة، فواظب على العمل، واجتهد في تحصيل الإخلاص، فما قلت لك: اترك العمل، وإنما قلت لك: أخلص العمل، وقد قال الفضيل: ترك العمل بسبب الخلق رياء، وفعله لأجل الخلق شرك".
الفصل الخامس- الطاعة والمعصية بين الكتمان والإظهار
الطاعة بين الكتمان والإظهار
ينبغي على المؤمن السالك الطريق إلى الله تعالى: أن يجتهد في إخفاء طاعاته، وستر أعماله الصالحات عن أعين الخلق وآذانهم ما استطاع، مكتفيا بأن الله تعالى يسمع ويرى، وأن الخلق لا يملكون له ضرا ولا نفعا، وأن رضوان الله تعالى ومثوبته فوق رضا الخلق وثنائهم.
وهذا بالنسبة إلى النوافل والتطوعات، أما الفرائض والأركان، فهذه يجب إظهارها، تعظيما لشعائر الإسلام، وإبرازا لقوة تمسك المسلمين به، ومنعا للتهمة وإساءة الظن بالمسلم أن يظن به تضييع ما فرض الله عليه، وضربا للمثل حتى يقتدي به غيره، ويتشبه به الآخرون، فإن الخير يغري بالخير، والصلاح يدعو إلى الصلاح.
هذا هو الأصل في الفرائض: الإظهار والإعلان، أما الأصل في النوافل فهو الإخفاء والكتمان.
ومع هذا يمكن أن تظهر نوافل الطاعات والصالحات من المسلم من غير قصد لإظهارها مراءاة للناس، وقد يفرح بذلك ويبتهج، فرح الإنسان بكل خير حققه لنفسه.
أ. وهو فرح محمود إذا كان شكرا لله تعالى على نعمة التوفيق للطاعة، وحسن لطفه سبحانه بإخفاء السيئات وإظهار الحسنات، كما قال تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).
ومن أذكار الصالحين: سبحان من أظهر الجميل، وستر القبيح!
ب. وللتفاؤل بأن يفعل الله تعالى معه ذلك في الآخرة كما فعله في الدنيا، أي يستر مساوئه، ويظهر محاسنه، كما في القول المأثور: "ما ستر الله على عبده في الدنيا إلا وستر عليه في الآخرة".
وفي معناه قال الشاعر:
كذلك يحسن فيما بقى!
- لقد أحسن الله فيما مضى
فيكون الفرح الأول فرحا بالقبول في الحال، من غير ملاحظة للاستقبال، والفرح الثاني التفاتا إلى حال المال، وحسن المنال.
ج. وقد يكون فرحه بظهور الطاعة، لأنه سيكون حافزا لغيره، ليقتدي به، ويحذو حذوه، فيكثر الصالحون، ويزداد عدد المطيعين لله تعالى، ويتسع نطاق الخيرات، والأعمال الصالحات، فيتضاعف الأجر عند الله تعالى.
د. وقد يكون فرحه، لأن المطلعين على عمله سيحبونه في الله، ويرضون عنه، ويثنون عليه، وبهذا يثابون على ذلك، ويدخلون في أوثق عرا الإيمان، فقد جاء في الحديث: "أوثق عرا الإيمان: الحب في الله والبغض في الله"، وفي حديث أنس المتفق عليه: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله"… الحديث.
ويعرف صدق هذه الدعوى ـ دعوى فرحه بإثابة الناس لحبهم له في الله، أو في فرحه باقتدائهم به في عمله ـ إذا استوى عنده مدحه ومدح غيره من الصالحين.
هـ. ومما يحمد لأجله إظهار العمل الصالح: ترغيب الآخرين فيه، وسن السنة الحسنة ليقتدى بها فيهتدى، وفي صحيح مسلم من حديث جرير بن عبدالله: "من سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء".
وقد أمر الأنبياء والرسل بالإظهار للطاعات، لأن الله تعالى جعلهم أسوة لأتباعهم، كما قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا).
ومثل الأنبياء: خلفاؤهم وورثتهم من العلماء والدعاة والصلحاء، من كل من يقتدى به.
وقال الحسن: قد علم المسلمون أن السر أحرز العملين، ولكن في الإظهار أيضا قد تكون الفائدة.
فلذا أثنى الله على السر والعلانية، فقال تعالى: (إن تبدو الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم).
وقال: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
وقال علي رضي الله عنه: تصدقت بدرهم في ليل وآخر في النهار، وبدرهم سرا، وآخر علانية، عملا بالآية.
وبهذا يكون قد عبد الله في كل الأوقات، وعلى كل الأحوال، وإن كان الإسرار بالصدقة أفضل، وخصوصا إذا خشي على نفسه الرياء، والفتنة بمحمدة الناس، أو كان في الإسرار رعاية لحرمة الفقير، وحفظ لكرامته، لا سيما إن كان من المستورين المتعففين، الذين وصفهم القرآن بقوله: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا).
وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه عن "السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" ذكر أحد الأصناف، وهو: "رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه".
وهذا هو المقام الأعلى، ولكن إذا أبدى الصدقة، أو أظهر العمل الصالح، لسبب من الأسباب التي ذكرناها من قبل، فلا حرج عليه، والواجب عليه أن يفتش عن دخيلة نفسه، ويحترس من خداعها، فإنها أمارة بالسوء، خداعة غرارة، وليحذر ما استطاع من الرياء، فربما كان هناك رياء في غاية الخفاء، يتسلل إليه، وهو لا يشعر، فيحبط عمله، وهو يحسب أنه يحسن صنعا، وهنا لابد له من الاستعانة بالله جل وعلا، والبراءة من الحول والقوة، واللجوء إلى حول الله سبحانه وقوته، ومن الدعاء المأثور: "اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه".
كتمان الذنوب
وإذا كان الشرع قد جاء بالرخصة في إظهار الطاعات، وخصوصا الفرائض بل والنوافل في بعض الأحيان، لتحقيق أهداف ذكرناها، فإنه لم يشرع إظهار المعاصي والإعلان عنها، بل أمر بإخفائها إن وقعت، وكتمانها عن الغير ما استطاع، لا مراءاة للناس، ولا طلبا لثنائهم، وظهورا بصورة يحبونها، وإن كانت غير صورته الحقيقية.
بل إنما يحمد كتمان الذنوب، وكراهة إطلاع الناس على العيوب، لعدة أسباب:
أولا: لأننا مأمورون إننا إذا ابتلينا بمعاصي الله أن نستتر بستره سبحانه، ولا نفضح أنفسنا، وفي الحديث: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله تعالى".
من أجل هذا يكره ظهور المعصية من غيره، كما يكرهها من نفسه، وفي الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ومفهومه: أن يكره له ما يكره لنفسه.
وثانيا: للتحامي عن هتك ستره، وظهور أمره، خوفا من سقوط وقع المعاصي من النفس، وجرأتها عليها، فإن النفس متى ألفت ظهور الذنوب، زاد انهماكها فيها، واسترسلت في شهواتها بارتكابها، ولم تبال باجتنابها.
وهذا الخوف من هتك الستر في الدنيا يتبعه خوف من الهتك في الآخرة، وهو أشد وأخزى. ولهذا يقول الطيبون: اللهم كما سترت علينا في الدنيا، استر علينا في الآخرة، ولا تفضحنا على رؤوس الأشهاد، يوم العرض عليك.
وثالثا: لئلا يقلده غيره، فيكون سببا في انتشار معاصي الله في الأرض، وتجرئ الناس عليها، فحسبه أن يتورط هو في المعصية، ويسأل الله التوبة والمغفرة، ولكن لا يظهرها فتشيع وتتسع، فإنها تعدى كما يعدى الأجراب السليم، وتؤذي كما يؤذي نافخ الكير جاره، فإذا غرق هو، فهو يكره أن يغرق غيره معه.
ولهذا ينبغي للعاصي أن يخفي معصيته حتى عن أقرب الناس إليه، مثل أهله وولده، وخادمه، حتى لا يتأسوا به.
ورابعا: ليكون في مظنة العفو والمعافاة من الله تعالى، ولا يدخل في زمرة المتبجحين المجاهرين بالسوء، المتفاخرين بما ارتكبوا من موبقات، وما اصطنعوا من مغامرات، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجانة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح، وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه".
وخامسا: ليكون من أهل الحياء، الذين يمنعهم حياؤهم وسلامة طبعهم من إظهار المعصية، وفي الصحيحين عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء. فقال: "دعه، فإن الحياء من الإيمان".
وفيهما عن أبي هريرة: "الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان".
وفيهما عن عمران بن حصين: "الحياء لا يأتي إلا بخير".
وسادسا: ليدخل في زمرة المشهود لهم من الأمة بالخير، والناس شهداء الله في الأرض، وكما قيل: ألسنة الخلق أقلام الحق، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة في جنازة مرت فأثنوا عليها خيرا فقال: "وجبت"، وأخرى أثنوا عليها شرا" فقال: "وجبت"، فقال عمر بن الخطاب: ما وجبت؟ قال: "هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض".
وقال عليه الصلاة والسلام: "ما من مسلم يموت يشهد له أهل أربعة أبيات من جيرانه الأدنين: إنهم لا يعلمون إلا خيرا، إلا قال الله: قد قبلت علمكم فيه، وغفرت له ما لا تعلمون".
وسابعا: لئلا يتسبب في ذم الناس له، فيقعوا في المعصية بسبب هذا الذم، أو بتجاوزهم الحد، حتى يذم بما ليس فيه، أو بأكثر مما فعل، كما هو المعتاد في مثل هذه المواقف، وهو لا يحب أن يعصى الله تعالى بسببه، ويكفيه ما ابتلي به من معصية، وهو لهذا يتألم إذا ذم الناس غيره من العصاة كما يتألم لذم نفسه.
وثامنا: لئلا يتألم بذم الناس إذا اطلعوا على معصيته، فإن الذم مؤلم للقلب، وهذا أمر جبلي فطر عليه الإنسان، كما أن الضرب يؤلم الجوارح بالطبع، وربما صار هذا التألم ـ وخصوصا إذا استمر واشتد ـ مانعا من الخشوع في العبادة، بسبب الانفعال والتوتر الناشئ عن تألمه.
ولا جناح على المسلم أن يبتعد ويهرب من كل ما يؤلم جسده أو قلبه، فليس هذا بحرام.
وإن كان المقام الأعلى أن تزول عنه رؤية الخلق، فيستوي عنده ذامه ومادحه، لعلمه أن الأمر كله بيد الله تعالى، وأنه هو الضار النافع، وأن العباد كلهم مقهورون تحت سلطانه، روى الترمذي من حديث البراء بن عازب وحسنه: أن رجلا قام فقال: يا رسول الله، إن حمدي زين، وإن ذمي شين! فقال عليه الصلاة والسلام "ذاك الله عز وجل".
وتاسعا: لخوفه أن يقصد بسوء أو أذى إذا ظهرت معصيته، وهذا أمر وراء الذم، فإن الذم مكروه من حيث يشعر القلب بنقصانه، وإن كان ممن يؤمن شره، وهنا يخاف شر من يطلع على ذنبه، ولا حرج على المسلم أن يجنب نفسه الأذى بتجنب أسبابه ما استطاع.
حب محبة الناس
ولا جناح على المسلم إذا كان يحب من الناس أن يحبوه ويوادوه، فهذا أمر فطري في الإنسان: أن يحب ويحب.
ومن ناحية أخرى، هو يرجو أن تكون محبة الناس، ولا سيما أهل الخير منهم، دليلا على محبة الله تبارك وتعالى، فهو الذي وضع له القبول في قلوب عباده، وستر قبيحه، وأظهر جميله، وقد قال تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)، فهو يرجو أن يكون منهم، فإن من أحبه تعالى جعله محبوبا في قلوبهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله عبدا نادى جبريل، فقال: إن الله قد أحب فلانا، فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض".
وأرفع من هذا المقام: أن يكون أكبر همه حب الله تعالى، ورضاه سبحانه عنه، ولا يبالي أرضي الخلق عنه أم سخطوا، أحبوا أم كرهوا، على حد قول القائل:
وكل الذي فوق التراب تراب! إذا صح منك الود فالكل هين
وإذا تعلق قلبه بحب بعض الناس فلأنهم أحباب الله تعالى كالذين وصفهم الله تعالى بقوله: (يحبهم ويحبونه). وفي الأدعية المأثورة: "اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك".
الفصل السادس- ضرورة الإخلاص لحملة الدعوة
لماذا كان الإخلاص ضرورة
إن العمل لسيادة الإسلام وعودته لقيادة الحياة بعقيدته وشريعته وأخلاقه وحضارته، إنما هو عبادة وقربة إلى الله عز وجل من ناحية، وجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى. وتجريد النية لله في هذه العبادة وذلك الجهاد: أمر أساسي لقبول العمل ولنجاحه معا، فالنية المدخولة تفسد العمل، وتلوث النفس، وتضعف الصف، وتحبط الأجر. والنية الصالحة، تصلح العمل، وتقوي العزم، وتفسح الطريق، وتعين على إزالة العقبات، قال تعالى: (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) فدل على أهمية الإرادة والنية في إنجاز المهمة المنشودة، فهي سبب توفيق الله تعالى وتأييده.
وقد كتب سالم بن عبدالله إلى عمر بن عبد العزيز ناصحا له، فقال: اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النية، فمن تمت نيته تم عون الله له، ومن نقصت نيته نقص قدره.
ولهذا السر بدأ الإمام البخاري كتابه "الجامع الصحيح" بهذا الحديث الذي عده بعض العلماء ربع الإسلام أو ثلثه: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".
وقد روى أن رجلا هاجر إلى المدينة من أجل امرأة يحبها ويريد أن يتزوجها تسمى أم قيس فنسب إليها وقيل له "مهاجر أم قيس".
إن على المسلم العامل للإسلام أن يفتش في زوايا قلبه عن حقيقة نواياه وبواعثه، فإن كان فيها حظ للدنيا أو للشيطان، جاهد أن ينقي قلبه من دخله، وأن يجرد نيته لله، وأن ينذر نفسه محررا لربه، كما قالت امرأة عمران: (رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني، إنك أنت السميع العليم). وهذه الكلمة من أم مريم: (محررا) توحي بأن سنة الله ألا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا من كل شركة، محررا من كل عبودية لغيره.
إن الحياة لا يسود فيها الحق، وينشر الخير، وتعلو كلمة الإيمان، وتخفق أعلام الفضيلة: بتجار المبادئ، الذين لا يعملون إلا ليغنموا ويستفيدوا في الدنيا، ولا بالمرائين الذين لا يعملون إلا ليراهم الناس، ويسمعوا بهم، ويتحدثوا عنهم، ويشيروا إليهم بالبنان، بل ينتصر الحق والخير والإيمان والفضيلة: بالمخلصين الذين يعتنقون المبادئ مؤثرين مستأثرين مضحين لا مستفيدين، معطين لا آخذين.
المخلصون هم جند الدعوات
إن المخلصين الذين يبتغون بعملهم وجه الله، يسمون فوق المنافع الذاتية والمصالح الشخصية، هم وحدهم جند الدعوات، وحملة الرسالات، وورثة النبوات، وهم الذين ينتصرون بالدعوة، وتنتصر بهم، ولو كانوا فقراء المال، ضعفاء الجاه، مغمورين في الناس، وهم الذين جاء فيهم الحديث الشريف: "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" (رواه مسلم).
وقد روى النسائي وغيره عن سعد بن أبي وقاص ـ هو من هو سبقا في الإسلام وقرابة من رسول الله ـ أنه ظن في نفسه يوما أن له فضلا على من دونه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم".
وهؤلاء الضعفاء المغمورون المخلصون، هم الذين أمر الله رسوله أن يصبر نفسه معهم، ولا يفرط في واحد منهم، ولا تعدو عيناه عنهم، إلى الشخصيات المرموقة في المجتمع، من ذوي المكانة والثراء والجاه، ممن يظن أنهم ينصرون دعوته بجاههم ومنزلتهم في الناس، يقول سبحانه: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا).
إن جندي العقيدة لا يجري وراء المطامع، ولا يخطف بصره بريق الشهرة، ولا يجذب قلبه سطوة الجاه والنفوذ، إن الدنيا ليست أكبر همه ولا مبلغ علمه، إنه ينزلها منزلتها، فلا تزن عنده جناح بعوضة عند الله تعالى، إن أكبر همه أن يتقبله الله في عباده الصالحين، وجنده الصادقين، وحزبه المفلحين. إن وضوح هذا الهدف أمر ضروري للعاملين لنصرة الإسلام، فقد يكون هدفهم إقامة دولة إسلامية، أو حضارة إسلامية، أو مجتمع إسلامي، أو نحو ذلك من الأهداف التي يسعون إليها، ويحرصون على تحقيقها، ولكن هدف الأهداف، وغاية الغايات من وراء ذلك كله، هو: رضوان الله عز وجل وابتغاء ما عنده، ومن أجل ذلك يستمرئون المر، ويسترخصون كل تضحية مادامت في سبيل الله.
خطر الطفيليين - صنفان متمايزان
خطر الطفيليين
وعلى رجال الدعوات أن يحذروا على صفوفهم من الطفيليين الطامحين الطامعين، الذين يتسللون إلى الجماعات المؤمنة تسلل الميكروبات إلى الجسم السليم، ويتسلقون على أكتاف الآخرين، كلامهم كثير، وعملهم قليل، يقلون عند الفزع، ويكثرون عند الطمع، حتى تكشفهم المحن، ويميز الله الخبيث من الطيب.
أجل.. إن شر ما تصاب به الدعوات الربانية، هم أولئك المحتالون، الذين يتخذونها قنطرة إلى مآربهم، وسلما إلى مطامعهم، متظاهرين بالتقوى، متوسلين بالقول المعسول، والحماس المفتعل، والملمس الناعم، وباطنهم خراب، وقلوبهم هواء! هؤلاء هم الذين حذر منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله عز وجل: أبي يغترون أم علي يجترئون؟ فبي حلفت: لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا".
صنفان متمايزان
ولقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى صنفين متمايزين متباينين: صنف يعيش لنفسه وشهواته، عبدا للمال والزينة والأبهة، يسير وراء مصلحته وشهوته أنى سارت، فإن تحققت رضي وأثنى، وإلا ذم وسخط.
وصنف يعيش للحق وحده، مستعدا للجهاد والبذل، غير منتظر منفعة ولا شهرة، حيث وضع، عمل وأنتج، دون ضجيج ولا مباهاة.
في هذين الصنفين جاء الحديث الصحيح: "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطى رضى، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش! طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع".
الفصل السابع
من ثمرات الإخلاص
للإخلاص ثمرات طيبة في النفس والحياة نجملها فيما يلي:
السكينة النفسية
1. فهو يمنح صاحبه سكينة نفسية، وطمأنينة قلبية، تجعله منشرح الصدر، مستريح الفؤاد، فقد اجتمع قلبه على غاية واحدة، هي رضا الله عز وجل، وانحصرت همومه في هم واحد، هو سلوك الطريق الذي يوصل إلى مرضاته، ولا ريب أن وضوح الغاية، واستقامة الطريق إليها: يريح الإنسان من البلبلة والاضطراب بين الاتجاهات، وتنازع الرغبات، وتعدد السبل.
وقد ضرب الله مثلا للمؤمن الموحد بالعبد الذي له سيد واحد، عرف ما يرضيه وما يسخطه، فجعل كل همه في إرضائه، واتباع ما يحبه وللمشرك بالعبد الذي يملكه شركاء متشاكسون، كل واحد يأمره بخلاف ما يأمره به الآخر، وكل يريد منه غير ما يريد صاحبه، فهمه شعاع، وقلبه أوزاع، قال تعالى: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا، الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون).
ومعنى "سلما" له: أي خالصا له لا يشاركه فيه أحد.
وبهذا تحرر الإنسان المؤمن ـ بإخلاصه العبودية لله ـ من تعاسة العبودية لغيره: "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد القطيفة" وسعد بالعبودية لله وحده.
لقد جمع همومه في هم واحد هو رضوان الله تعالى، وجعل نيته وقصده في الآخرة، فهان عليه كل ما يلقى في هذه الدنيا.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من جعل الهموم هما واحدا، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبته الهموم، لم يبال الله في أي أدوية الدنيا هلك".
ومعنى: تشعبته الهموم: توزعته وتقسمت قلبه وإرادته: بين المال والجاه والشهوات وما أكثرها، بخلاف المؤمن الذي ركز كل همه في إرضاء ربه.
ويقول عليه الصلاة والسلام: "من كان الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا، وهي راغمة".
القوة الروحية
2. والإخلاص يمنح المخلص قوة روحية هائلة، مستمدة من سمو الغاية التي أخلص لها نفسه، وحرر لها إرادته، وهو رضا الله ومثوبته.
فإن الطامع في مال أو منصب أو لقب أو زعامة: ضعيف كل الضعف، إذا لاح له بادرة أمل في تحقيق ما يطمع فيه من دنيا، ضعيف أمام الذين يملكون إعطاءه ما يطمح إليه، ضعيف إذا خاف فوات مغنم يرجوه، أما الذي باعها لله، فهو موصول بالقوة التي لا تضعف، والقدرة التي لا تعجز، ولهذا كان في تجرده وإخلاصه أقوى من كل قوة مادية يراها الناس.
وقد صور حديث ـ رواه الترمذي بسند ضعيف ـ مقدار القوة الروحية الهائلة التي يملكها من أخلص قلبه لله، يقول الحديث الذي رواه أنس بن مالك:
"لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال، فألقاها عليها، فاستقرت، فعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا رب، هل في خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد، قالت: يا رب، هل في خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار. قالت: يا رب، هل في خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم، الماء. قالت: يا رب، هل في خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح. قالت: يا رب، هل في خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدق بيمينه، ويخفيها عن شماله".
وهكذا يصور لنا هذا الحديث أن القوة الروحية أعظم من كل القوى المادية، وأن قوة الإيمان والإخلاص تفوق قوة الجبال التي تمسك الأرض أن تميد، وقوة الحديد الذي يقطع الجبال، وقوة النار التي تذيب الحديد، وقوة الماء الذي يطفئ النار، وقوة الريح التي تحرك الماء، أقوى من ذلك كله قلب ابن آدم حين يخلص لله، فيتصدق بيمينه لا تعلم بها شماله. وهو تصوير نبوي بليغ معبر عن اجتهاده في إخفاء صدقته بعدا عن مظنة مراءاة الناس.
وذكر الغزالي في "الإحياء" قصة ترمز إلى هذا المعنى، وهو: ما يمنحه الإخلاص من قوة غير عادية لصاحبه، لا توجد عند غيره.
إنها قصة العابد الذي سمع أن شجرة يعبدها الناس من دون الله، فحمل فأسه، وذهب مصمما على أن يقطعها، ويقطع معها دابر فتنة تقديسها وعبادتها، وفي الطريق قابله إبليس فأراد أن يثنيه فأبى، فتصارعا، فصرع العابد إبليس، وبدا كأنه ريشة في يده، وهنا بدأ إبليس في مفاوضة ماكرة مع العابد: أن يعود ويدع الشجرة، فإن قطعها لا يفيد، فقد يعبدون شجرة أخرى، وتعهد أن يعطيه كل يوم دينارا، يجده تحت وسادته، فينتفع به، وينفق منه على المساكين، ومازال إبليس بالرجل، حتى اقتنع، وسلمه مبلغا مقدما، ثم ظل مدة يتسلم فيها الدينار كل صباح وفق ما اتفقا عليه.
ولكن العابد فوجئ يوما بأنه لم يجد الدينار تحت الوسادة، كما اعتاد، فصبر عدة أيام، لعل صاحبه يفي له بما وعده، بيد أنه لم يفعل، فما كان من العابد إلا أن حمل فأسه، وذهب ليقطع الشجرة من جديد، فقابله إبليس، فتحداه، وتنازعا واصطرعا، فصرع إبليس الرجل هذه المرة، وكان كأنه عصفور بين رجليه!
وهنا سأله العابد: ما الذي جعله يغلبه هذه المرة، بعد أن انتصر على إبليس بجدارة في المرة الأولى؟ هنا قال له إبليس: لقد كان غضبك في المرة الأولى لله، فكان لديك من القوة ما لم يكن لي قبل بها، ولا طاقة لمواجهته، فهزمت أمامك بسرعة. أما هذه المرة فكان غضبك لانقطاع الدينار، فلم يكن عندك من القوة ما كان من قبل، وهزمت أمامي بسرعة البرق.
وهنا ظهر الفرق بين الغضب للدرهم والدينار، والغضب للواحد القهار.
إن المخلص لله لا يلين للوعد، ولا ينحني للوعيد، لا يذله طمع، ولا يثنيه خوف، أسوته في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي عرض عليه الملك والشرف والمال وسائر أعراض الدنيا ليكف عن دعوته، فقال في إصرار وصلابة: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
أما لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم شهوة خفية في مال أو ملك أو سيادة لضعفت مقاومته أمام العروض المغرية، يقدمها له سادة قريش، لكنه عرف غايته فأخلص لها، وعرف ربه فلم يشرك به شيئا.
الاستمرار في العمل
3. ومن آثار الإخلاص: أنه يمد العامل بقوة الاستمرار، فإن الذي يعمل للناس، والذي يعمل لشهوة البطن أو الفرج، يكف إذا لم يجد ما يشبع شهوته، والذي يعمل أملا في شهرة أو منصب، يتراخى ويتثاقل إذا لاح له أن أمله بعيد المنال، والذي يعمل لوجه الرئيس أو الأمير، ينقطع أو يتوانى إذا عزل الرئيس أو مات الأمير.
أما الذي يعمل لله فلا ينقطع ولا ينثني ولا يسترخي أبدا، لأن الذي يعمل له لا يغيب ولا يزول، فوجه الله باق إذا غابت وجوه البشر، أو هلك الخلق كل الخلق: (كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون).
ولهذا قال الصالحون: ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل! وهذا ما صدقه الواقع، وما رأيناه ولمسناه، ولازلنا نراه ونلمسه في كل زمان ومكان.
تحويل المباحات والعاديات إلى عبادات
4. والإخلاص هو "إكسير" الأعمال، الذي إذا وضع على أي عمل ولو كان من المباحات والعادات حوله إلى عبادة وقربة لله تعالى، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: "إنك ما تنفق نفقة تبغي بها وجه الله تعالى إلا أثبت عليها، حتى اللقمة تضعها في في (أي فم) امرأتك".
وقال تعالى في شأن الذين يجاهدون في سبيله: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون).
فجعل جوعهم وعطشهم ومشيهم ونفقتهم مما يسجل لهم في رصيد حسناتهم عند الله عز وجل، مادام ذلك في سبيل الله، ولن تكون هذه الأشياء في سبيل الله إذا أداها المسلم لتكون كلمة الله هي العليا.
وأكثر من ذلك ما جاء في مثوبة من ارتبط فرسا ليجاهد عليها في سبيل الله.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله، وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه، وروثه وبوله، في ميزانه يوم القيامة"… يعني: حسنات!
وذلك أن الوسائل والآلات بحسب المقاصد والغايات، فكل ما يعين على الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته، ونصرة دعوته، من عدة وآلة وتدريب وكسب خبرة ومهارة، فهو قربة إلى الله، فبها الأجر والثواب.
إحراز ثواب العمل وإن لم يتمه أو لم يعمله
5. ومن بركات الإخلاص لله: أن المخلص يستطيع أن يحرز ثواب العمل كاملا وإن لم يقدر على إتمامه بالفعل، لنستمع إلى قول الله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، وكان الله غفورا رحيما).
بل يستطيع المسلم بنيته الخالصة لله أن يدرك ثواب العمل كاملا، وإن لم يؤده ولم يشرع فيه، ولهذا أمثلة كثيرة جاءت بها الأحاديث.
روى البخاري عن أنس بن مالك قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا، حبسهم العذر".
وروى النسائي وابن ماجه عن أبي الدرداء يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى أصبح، كتب له ما نوى، وكان صدقة عليه من ربه".
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه".
وقال أيضا: "من طلب الشهادة صادقا، أعطيها، ولو لم تصبه"، والحديثان يؤكدان وصفا أو شرطا لابد منه، لمن يحصل على "الشهادة" وهو على فراشه، لم يقتل ولم يصب، وهو أن يكون سؤاله للشهادة "بصدق"، أن يطلبها "صادقا"، فما كل من يسأل الشهادة بلسانه، يكون صادقا في أعماقه، فالمدار على السرائر، والله أعلم بها.
وقد يتقرب المخلص إلى ربه بعمل فيخطئ في تأديته، ويضعه في غير موضعه، فتأتي نيته الصالحة شفيعا، فتصحح له خطأه، وتكمل له نقصه.
وفي هذا جاء حديث الصحيحين في الرجل الذي تصدق في ثلاث ليال فصادفت صدقته مرة رجلا سارقا، ومرة امرأة زانية، والثالثة رجلا غنيا، ولكنه حمد الله على كل حال، وأراد الله تعالى أن يثبت قلبه ويشرح صدره، فأتاه في المنام من يقول له: "أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله"، وتقبل الله صدقته ببركة نيته، ولم يضع أثرها في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك جزاء المخلصين.
النصر والكفاية الإلهية
6. ومن ثمرات الإخلاص: أن المخلص مؤيد من الله، مكفي به سبحانه، كما قال تعالى: (أليس الله بكاف عبده).
وعلى قدر إخلاص المرء لربه، وتجرده له، يكون مدد الله تعالى وعونه وكفايته وولايته، إن الإمداد على قدر الاستعداد: إمداد الله بالنصر والتأييد، أو بالتوفيق والتسديد، على حسب ما في القلوب من تجريد النية، وصفاء الطوية، يقول تعالى: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم).
ويقول: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا).
وقد جاء عن عمر رضي الله عنه في رسالته الشهيرة في القضاء قوله: "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله".
قال ابن القيم في شرح هذه الكلمات في "الإعلام": "هذا شقيق كلام النبوة، وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المحدث الملهم، وهاتان الكلمتان من كنوز العلم، ومن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره، وانتفع غاية الانتفاع: فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله، والثانية أصل الشر وفصله، فإن العبد إذا خلصت نيته لله تعالى وكان قصده وهمه وعمله لوجهه سبحانه كان الله معه، فإنه سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق، والله سبحانه لا غالب له، فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء؟ فإن كان الله مع العبد فمن يخاف؟ وإن لم يكن معه فمن يرجو؟ وبمن يثق؟ ومن ينصره من بعده؟
فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولا، وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له فرجا ومخرجا، وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منها، أو في واحد، فمن كان قيامه في باطل لم ينصر، وإن نصر نصرا عارضا فلا عاقبة له، وهو مذموم مخذول. وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله، وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق، أو التوصل إلى غرض دنيوي، كان هو المقصود أولا، والقيام في الحق وسيلة إليه، فهذا لم تضمن له النصرة، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه، فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين، وإن نصر فبحسب ما معه من الحق، فإن الله لا ينصر إلا الحق. وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر، والصبر منصور أبدا، فإن كان صاحبه محقا كان منصورا له العاقبة، وإن كان مبطلا لم يكن له عاقبة، وإذا قام العبد في الحق لله ولكن قام بنفسه وقوته، ولم يقم بالله مستعينا به متوكلا عليه، مفوضا إليه، بريا من الحول والقوة إلا به، فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك. ونكتة المسألة أن تجريد التوحيدين في أمر الله لا يقوم له شيء البتة، وصاحبه مؤيد منصور، ولو توالت عليه زمر الأعداء.
قال الإمام أحمد: حدثنا داود، أنبأنا شعبة، عن واقد بن محمد بن زيد، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: من أسخط الناس برضاء الله عز وجل كفاه الله الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله إلى الناس".
تأييد الله تعالى ومعونته في الشدائد والأزمات
7. ومن ثمرات الإخلاص: أن الله تعالى يمد المخلص بعونه، ويحرسه بعينه التي لا تنام، ولا يتخلى عنه إذا حلت بساحته الخطوب، وأحاطت به الشدائد والكروب، فهو سبحانه يستجيب دعاءه، ويلبي نداءه، ويكشف عنه الغمة.
ومن عجيب ما ذكره القرآن في ذلك: استجابة الله تعالى دعاء المشركين، إذا جرت بهم الفلك في البحر، وهاجت عليهم الريح، وأحاط بهم الموج من كل مكان، فيدعون الله في تلك اللحظات بصدق وإخلاص، فيستجيب لهم، وإن غيروا بعد ذلك وبدلوا، يقول الله تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق).
وإنما أنجاهم واستجاب لهم، لأنهم (دعوا الله مخلصين له الدين) فقد رجعوا في تلك اللحظة إلى الفطرة، وسقطت الآلهة المزيفة، ولم يبق لديهم إلا الله يدعونه بإخلاص ويتجهون إليه.
ومن أبرز الأمثلة والوقائع في أثر الإخلاص في إنقاذ المكروب من كربته: قصة الثلاثة "أصحاب الغار".
فمن رحمة الله تعالى: أن الأرض لا تخلو من المخلصين، فهم للحياة الروحية كالماء والهواء للحياة المادية، وقد عرف التاريخ نماذج رائعة، تجسد الإخلاص في وقائع مضيئة، تضرب المثل، وتبرز الأسوة للناس يحسن هنا أن نذكر بعضا منها، لنتخذ منه عظة وقدوة.
بدأ الحافظ المنذري كتابه "الترغيب والترهيب" بالترغيب في الإخلاص والصدق والنية الصالحة، ثم جعل أول حديث في كتابه حديث "أصحاب الغار".
فمن رحمه الله تعالى: أن الأرض لا تخلو من المخلصين، فهم للحياة الروحية كالماء والهواء للحياة المادية، وقد عرف التاريخ نماذج رائعة، تجسد الإخلاص في وقائع مضيئة، تضرب المثل، وتبرز الأسوة للناس يحسن هنا أن نذكر بعضها منها، لنتخذ منه عظة وقدوة.
بدأ الحافظ المنذري كتابه "الترغيب والترهيب" بالترغيب في الإخلاص والصدق والنية الصالحة، ثم جعل أول حديث في كتابه حديث "أصحاب الغار" الذي قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصتهم، لما فيها من عبرة لأولي الألباب.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب شجر يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي، أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر ـ زاد بعض الرواة: "والصبية يتضاغون عند قدمي" ـ فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيع الخروج منها".
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار، على أن تخلى بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها".
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرتهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال لي: يا عبدالله، أد إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبدالله، لا تستهزئ بي! فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فساقه: فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون" (رواه البخاري ومسلم).
خلاص المجتمعات واستقامة الحياة
ولا يفوتنا أن نذكر بما نبهنا عليه من قبل: أن ثمرة الإخلاص ليست مقصورة على الآخرة، بمعنى أننا لا نطلب الإخلاص لتكون أعمالنا مقبولة عند الله، ونفوز في الآخرة بالجنة، ونزحزح عن الناس فحسب، فهناك فوق هذا: أن الإخلاص مطلوب لكي تستقيم الأمور في هذه الدنيا، ويقوم العدل، ويزول الظلم والظلام، وتتخلص المجتمعات من آثار الفساد.
إنما تفسد الحياة، وتختل موازينها، إذا اختفى الإخلاص، وبرز النفاق، وعلا صوت المنافقين، وراجت بضاعتهم. إن هؤلاء لا يبالون ـ في سبيل شهوات أنفسهم ومصالحهم الآنية المادية الدنيوية العاجلة ـ أن يجعلوا الأقزام عمالقة، والشياطين ملائكة، واللصوص أشرف الناس، وأن يتهموا الشرفاء، ويخونوا الأمناء، ويكذبوا على الأبرياء، وأن يجعلوا السراب ماء، والأصدقاء لآلئ، كما رأينا ذلك في بعض الشعراء قديما، وبعض الصحفيين حديثا.
إن حب الدنيا، وحب مظاهرها الكاذبة، من المال والجاه والمنصب والزعامة والظهور، هو الذي صنع الفراعنة والجبابرة، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، والذي مكن لهؤلاء ومهد لهم الأرض، هم المنافقون الذين يتمسحون بأعقابهم، ويبررون كل تصرفاتهم، ويجعلون كل أقوالهم حكما ودررا، وكل أعمالهم بطولات وغررا.
ولا ينقذ الأمم من الضياع والكساد والفساد إلا المخلصون الذين يقومون لله لا للناس، ويعملون للحق لا للهوى، ويجاهدون لإعلاء كلمة الله، لا لإعلاء كلمة فلان أو علان.
إن الخلاص كل الخلاص، لا يتحقق إلا بالإخلاص.
الفصل الثامن
من بواعث الإخلاص
هناك أمور تعين المسلم السالك طريق الله على إخلاص النية والعمل لله تعالى. إنها بواعث نفسية، ودوافع روحية، وعوامل فكرية، وجوانب عملية، إذا توافرت وتوطدت فهي جديرة أن تؤثر في عقل السالك وضميره، وتدفعه إلى الأمام في طريق المخلصين، وتساعده على تحرير نفسه، وتنقية دواعيه من الشوائب الذاتية والدنيوية.
العلم الراسخ
1. أول هذه المعينات أو البواعث: أن يعلم علما يستقينه في أعماقه بأهمية الإخلاص وضرورته الدينية، وثمراته في الدنيا والآخرة، وأن الله تعالى لا يقبل عملا إلا بإخلاص، مهما تكن صورته، وأنه تعالى مطلع على ما في قلبه، فهو يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه خافية، كما قال إبراهيم عليه السلام: (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء).
ولا يتم ذلك إلا بأن يقرأ ويكرر ما جاء في القرآن والسنة في ذلك، وما جاء في كلام الصالحين، ويستيقن من خطر الرياء، وحب الجاه والشهرة، وحب الدنيا.. وتأكد هذه المعارف في النفس ورسوخها يعينها على أن تتخلص من أهوائها الذاتية، ومن شهواتها الدنيوية.
فإن مقام "الإخلاص" كغيره من المقامات أو الأخلاق الربانية مركب مكون من ثلاثة عناصر:
1. عنصر معرفي إدراكي.
2. وعنصر وجداني انفعالي.
3. وعنصر عملي إرادي.
وهذا ما يعبر عنه الإمام الغزالي في "الإحياء" عادة بأنه معجون مركب من: علم، وحال، وعمل.
ولا ريب أن أول هذه العناصر هو العلم والمعرفة، فالعلم هو الذي يسبق في الوجود، ولا يمكن أن يتوجه الإنسان إلى شيء لا يدركه ولا يعلمه بوجه من الوجوه، إنما يأتي التوجه الوجداني ـ المحبة والرغبة، أو البغض والرهبة ـ نتيجة للمعرفة والإدراك. وكلما قويت المعرفة، ورسخ العلم، حتى وصل إلى درجة اليقين، كان تأثيره في الوجدان أقوى وأعمق، فالمرء يعرف أولا، فيتأثر ثانيا، فيتحرك ثالثا. وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم إنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم).
كان العطف هنا بحرف "الفاء" للدلالة على الترتيب والتعقيب، فهؤلاء الذين أوتوا العلم يعلمون أن القرآن هو الحق من عند الله، فيترتب على هذا العلم الإيمان به، ويترتب على هذا الإيمان: حركة قلوبهم بالإخبات والخشوع لله تعالى.
صحبة أهل الإخلاص
2. ومما يعين على الإخلاص: صحبة أهل الإخلاص ومعايشتهم، والحياة في رحابهم، ليتأسى بهم، ويأخذ عنهم، ويتخلق بأخلاقهم، فإن التأسي بهم صلاح، والتشبه بهم فلاح.
وقد صور النبي صلى الله عليه وسلم أثر الصحبة والمجالسة في الصاحب والمجلس تصويرا بليغا معبرا، فقال: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك (أي يعطيك) وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير أما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة".
ومن رحمة الله بالناس: أن الأرض لا تخلو من هؤلاء، فليجتهد سالك طريق الآخرة في البحث عنهم، والاقتباس منهم، فهم كما جاء في الصحيح: "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".
لقد نوه الحكماء والشعراء والأدباء بالصحبة والأصحاب. وقال في ذلك الشاعر:
عن المرء لا تسأل، وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
لا ريب أن من أعظم البواعث على الإخلاص: صحبة المخلصين، الذين نذروا حياتهم لله، وباعوا أنفسهم وأموالهم لله، هؤلاء الذين يجالسونك في الله، ويحبونك في الله، وتحبهم في الله.. ليسوا من الذين يقبلون عليك، ويلتفون بك، إذا أقبلت عليك الدنيا، ويعرضون عنك إذا أدبرت عنك الدنيا، فهم ذباب طمع، وفراش نار.
هؤلاء الذين أمر الله رسوله الكريم أن يصبر نفسه معهم، ولا تعدو عيناه عنهم، وذلك في قوله سبحانه: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا).
إن الذي يصحب هؤلاء يتأثر بهم، ويأخذ عنهم، ويقتبس منهم فضائلهم، بالأسوة الحسنة، وبالحال المؤثرة، ولهذا قال السلف: "حال رجل في ألف رجل، أبلغ من مقال ألف رجل في رجل". يعنون بحاله: سلوكه وخلقه وعمله.
وقد جاء عن سلمان رضي الله عنه: "مثل الأخوين المؤمنين كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى، وما التقى مؤمنان قط إلى أفاد الله أحدهما من صاحبه خيرا".
المهم ألا تعيش وحدك، ولا تخلد إلى صومعة العزلة، وحياة الرهبنة، فلا رهبانية في الإسلام، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، والخير والرحمة مع الجماعة، والهلاك والضياع مع الانفراد والشذوذ عن الجماعة. ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، والشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، فهي مع القطيع محمية به، محروسة ببركة التجمع، وهي إذا شردت عنه التهمها الذئب منفردة، والشيطان هو ذئب الإنسان. والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، والجماعة قوة على الطاعة، وعون على الحماية من المعصية.
فتعرف على إخوانك في الله، وضع يدك في أيديهم، وتعلم منهم وعلمهم، وتعاون معهم على البر والتقوى، وتواص معهم بالحق والصبر، تعرف عليهم في المساجد، وفي مجالس الخير، وفي حلقات العلم، وفي ميادين الدعوة، ولا تخلو الأرض ـ إن شاء الله ـ منهم. قال تعالى: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) وقال تعالى: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، فأوص غيرك بالحق، وتقبل الوصية من غيرك به، وليس هناك مؤمن أصغر من أن يوصى، ولا أكبر من أن يوصي، وهذا معنى التواصي، الذي يقتضي التفاعل من الجانبين، وقد قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض).
وفي الحديث: "المؤمن مرآة المؤمن".
قراءة سير المخلصين
3. ومما يعين على الإخلاص، ويبعث عليه: قراءة سير المخلصين، والتعرف على حياتهم، للتأثر بهم، والاهتداء بهداهم، فإذا لم يستطع السالك إلى الله أن يجد المخلصين الأحياء ليصاحبهم، فلا أقل من أن يصحب المخلصين الأموات، فإن الأخلاق كالأفكار لا تموت بموت أصحابها.
فهذه القراءة لون من الصحبة والمعايشة، ولكنها صحبة فكرية ونفسية، ومعايشة روحية وإيمانية.
ومن فضل الله تبارك وتعالى: أن في تراثنا كثيرا من "النماذج المخلصة" التي لا يملك من قرأها إلا أن يتأثر بها.
من هذه النماذج نموذج الثلاثة "أصحاب الغار" الذين قص علينا قصتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. حين أطبقت عليهم الصخرة، فلم ينجهم منها إلا أعمال صالحة كانوا قدموها خالصة لوجه الله تعالى، فتوسلوا إلى الله بها، وقال كل واحد منهم: "اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه". ففرج الله عنهم، وأخرجهم من ورطتهم بسبب إخلاصهم. وقد مر بنا هذا النموذج مفصلا فليرجع إليه.
ومن هذه النماذج ما جاء في الحديث الذي رواه النسائي في سننه عن شداد بن الهاد رضي الله عنه: أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به وابتعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه.
فلما كانت غزاته غنم النبي صلى الله عليه وسلم فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: "قسمته لك".
قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا ـ وأشار إلى حلقه ـ بسهم، فأموت، فأدخل الجنة، فقال: "إن تصدق الله يصدقك".
فلبثوا قليلا: ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحمل، قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهو هو"؟ قالوا: نعم، قال: "صدق الله فصدقه".
ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته التي عليه، ثم قدمه فصلى عليه، وكان بما ظهر من صلاته: "اللهم هذا عبدك، خرج مهاجرا في سبيلك، فقتل شهيدا، أنا شهيد على ذلك".
ومن ذلك: ما حفل به التاريخ الإسلامي من روائع البطولات، ووقائع المخلصين الذين نذروا أنفسهم لله، وجعلوا حياتهم كلها لله، وجهادهم كله لله، فلم يشركوا به أحدا.
من هؤلاء: ما كتبه الإمام حسن البنا رضي الله عنه في أحد أحاديث الجمعة في جريدة "الإخوان المسلمون" اليومية عن "صاحب النقب"، وتتلخص قصته في أن المسلمين في إحدى معاركهم وقفوا أمام حصن منيع من حصون عدوهم، وطال حصارهم لهذا الحصن، ثم فكر أحد الجنود في فتح ثغرة أو نقب في جدار الحصن، يتسلل منه، ويفتح الباب للمقاتلين المسلمين.
فعل ذلك الجندي المسلم، ونقب النقب وحده في هدوء وصمت، مما مكن المسلمين من تحقيق النصر المنشود بأقل التضحيات.
المهم أن قائد المعركة بحث عن "صاحب النقب" الذي كان وراء هذا النصر، ولم يتقدم أحد يقول: أنا هو. فخطب في جنوده قائلا: أقسمت بالله على من نقب النقب أو عرف صاحبه إلا دلني عليه.
وبينما القائد في خيمته دخل عليه رجل، وقال له: هل تريد أن تعرف صاحب النقب؟ قال: نعم والله.
قال: أنا أدلك عليه، ولكن له شروطا يطلبها، قال: له كل ما يشترط، فما شروطه رحمك الله؟ قال: ألا تسأله عن اسمه، ولا تعلن عنه في الناس أو إلى الخليفة، ولا تكافئه على عمله، قال: له ذلك، فأين هو؟ قال: أنا هو! فقام القائد وعانقه. فطالبه بالوفاء بالشرط، فلم يملك القائد إلا الاستجابة، وذاب هذا الجندي المجهول في المحيط الكبير، فلم يره أحد بعد ذلك.
فكان القائد يدعو الله أن يحشره مع صاحب النقب، وأن ينصر دينه به وبأمثاله من أهل الإيمان والإخلاص: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين).
المجاهدة للنفس
4. ومن المعينات على الإخلاص: المجاهدة. ونعني بالمجاهدة توجيه الإرادة إلى جهاد النفس الأمارة بالسوء، ومقاومة رغباتها الذاتية والدنيوية، حتى تخلص لله تعالى.
ولا يستطيع أحد أن يسلك طريق القوم، وهو مستسلم لأهواء نفسه، وحبها للجاه والظهور، وطموحها إلى الشهرة والثناء، أو للثروة والمال، أو لغير ذلك من شهوات النفس، وزخارف الدنيا. وإنما يسلك الطريق من اصطحب معه إرادة قوية، وتصميما على المجاهدة، و"الإرادة" هي الأساس، و"المجاهدة" هي المحور.
وإن أخطر شيء على سالك الطريق هو اليأس من الانتصار في هذه المعركة، وإلقاء السلاح اعترافا بالهزيمة النفسية، أو إقرارا بالعجز أو باستحال الوصول.
وقد كان بعض الحكماء يكره من أصحابه وتلاميذه كلمات ثلاثا، هي: لا أقدر، لا أعرف، مستحيل.
فأما من قال له: لا أقدر، فيقول له: حاول.
وأما من قال له: لا أعرف، فيقول له: تعلم.
وأما من قال له: مستحيل، فيقول له: جرب.
ولاشك أن في مجاهدة النفس صعوبة ومعاناة ومشقة، يجدها من يريد طريق الآخرة، وخصوصا في أول الأمر، ولكن بالاجتهاد والمحاولة والتكرار والصبر، والاستعانة بالله تعالى، يسهل الصعب، ويتيسر العسير.
وهذه سنة الله في خلقه: أن من جد وجد، ومن زرع حصد، ومن سار على الدرب وصل، وهذا وعد الله سبحانه لمن جاهد فيه: أن يهديه سبيله وينير له طريقه، كما قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين).
وهذه الآية مكية، أي أنها نزلت قبل أن يشرع الجهاد بالمعنى العسكري، فهي أحق بأن تكون في ألوان الجهاد الأخرى، وفي مقدمتها: جهاد النفس، وهو أول مراتب الجهاد وأولاها.
وفي الحديث الشريف: "المجاهد من جاهد نفسه لله"، أو قال: "في الله عز وجل".
الدعاء والاستعانة بالله
5. ومما يقوي ذلك كله ويشد عضد سالك الطريق إلى الله: أن يستعين بالله تبارك وتعالى على أمره كله، فمنه وحده العون، وبه التوفيق، وإليه يرجع الأمر كله. وقد علمنا الله تعالى أن نقول في صلواتنا أبدا: (إياك نعبد وإياك نستعين). فهذه هي حقيقة التوحيد: إفراد الله عز وجل بالعبادة والاستعانة، فلا عبادة إلا له، ولا استعانة إلا به تبارك وتعالى، وفي الصحيح: "استعن بالله ولا تعجز".
والدعاء سلاح المؤمن، وسبب من الأسباب الروحية التي شرعها الله للإنسان ليحقق مطالبه، ويسد حاجاته.
وعندما تعجز وسائل الإنسان المادية، أو تضعف قدرته، أو تهن إرادته، فليس أمامه إلا باب الله الكريم، يطرقه بالدعاء، ويسأله من فضله، وهو أهل الإجابة، وقد مر بنا الحديث الذي عمله لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه".