انطلاقة الإيمان في رمضان

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
انطلاقة الإيمان في رمضان

لفضيلة الدكتور/ يوسف القرضاوي

مجلة الرسالة: عدد رمضان 1423هـ

الإنسان كائن عجيب، خلقه الله مزدوج الطبيعة، فيه عنصر مادي طيني، وعنصر روحي سماوي، فيه الطين والحمأ المسنون، وفيه الروح الذي أودعه الله فيه، وهذا واضح في خلق الإنسان الأول آدم أبي البشر (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) "ص:72،71"، فلم يستحق آدم التكريم وسجود الملائكة بعنصره الطيني، بل بالنفخة الروحية فيه.

وهذا الخلق المزدوج مقصود لخلق الإنسان؛ لأنه مخلوق ليعيش في عالمين: عالم المادة وعالم الروح، وله تعامل مع الأرض وتواصل مع السماء، فهو في حاجة إلى ما يخرج من الأرض ليأكل ويشرب ويلبس ويعيش (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) "الأنبياء:8"، كما أنه في حاجة إلى ما ينزل من السماء من وحي الله، ليرقى في مدارج المعرفة بالله، والإدراك للحق، والمحبة للخير، والتذوق للجمال، وعمل الصالحات؛ ولهذا زود الإنسان بالغرائز التي تعينه على عمارة الأرض والاستمتاع بطيباتها، كما زود بالملكات الروحية التي تسمو به وتصله بالرب الأعلى.

وهذه الغرائز والشهوات المربوطة بالعنصر الطيني في الإنسان، قد تهبط به، وتهبط حتى يغدو كالأنعام أو أضل سبيلاً، وتلك الملكات والأشواق الروحية قد تعلو به وتعلو حتى يلتحق بالملائكة المقربين، وقد يفضل بعضهم بمجاهدته.

ومهمة الدين أنه يعلي الجانب الروحي على الجانب الطيني في الإنسان، فلا تطغى قبضة الطين على نفخة الروح، وليس هذا بالأمر الهين، فإن للطين ضغطه ووطأته على الإنسان، بضروراته وحاجاته ورغباته، والنفس أميل إلى اتباع الشهوات، واستثقال طريق الحق والهدى.

لهذا كان لابد للإنسان من مجاهدة نفسه، بسلاح الصبر وسلاح اليقين، حتى يصل إلى الإمامة في الدين، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) "السجدة:24"، فبالصبر يقاوم الشهوات، وباليقين يقاوم الشبهات، حتى يحصل على الهداية الإلهية التي بتطلع إليها الأبرار من الناس (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) "العنكبوت:69".

ولقد شرع الإسلام وسائل للإنسان لينتصر بها على الجانب الطيني في كيانه في مقدمتها: العبادات الشعائرية، التي اعتبرت من أركان الإسلام من الصلاة والصيام والزكاة والحج، والصيام يعتبر من أعظم ساحات الجهاد الروحي للإنسان في الإسلام، ففيه يمسك الإنسان طوعًا عن الطعام والشراب والشهوات، كشهوة الجنس، ابتغاء وجه الله تعالى، فهو يمتنع بإرادته عن تناول هذه الأشياء التي يشتهيها، ولا يمد يده إليها وهي ميسورة له، فهو يجوع وبجواره طيب الغذاء، ويظمأ وأمامه بارد الماء، يمتنع عن مباشرة زوجه، وهي بجانبه، ولا يتناول السيجارة وعلبتها في جيبه، إنه اختبار حقيقي لمدى إيمان الإنسان، وإرادة الإنسان.

والمؤمن قطعاً ينجح في الامتحان الصعب، ويحقق الاستعلاء الاختياري، الذي يثبت بحق انتصار الإنسان، حين تنتصر فيه الروح على الطين والصلصال والحمأ المسنون، تنتصر أشواق الروح الصاعدة على غرائز الجسم الهابطة، وتنتصر إرادة الإنسان على شهوة الحيوان.

فمن الفوارق الجوهرية بين الإنسان والحيوان: أن الحيوان يفعل ما يشتهي في أي زمان، وفي أي مكان، وعلى أي حال، ليس لديه عقل يمنعه، ولا دين يردعه، ولا ضمير يحجزه، فإذا أراد أن يبول بال في الطريق، أو البيت أو في أي مكان، وإذا أراد أن يأكل وأمامه ما يؤكل لم يزعه وازع عن الأكل، فكل ما يأكله مثله حلال له.

أما الإنسان فهو الذي يتحكم في غرائزه، ويحكم عقله ودينه في أفعاله، حتى يتشبه بالملائكة فيدع الأكل والشرب ومباشرة النساء طوعًا واختيارًا، مبتغيًا مثوبة الله وحده، مترفعًا عن حياة الذين عاشوا خدمًا لأجسادهم وغرائزهم، أسارى لشهواتهم، وهم الذين خاطبهم الشاعر أبو الفتح البستى قديمًا في قصيدته حين قال:

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته

أتطلب الربح مما فيه خسران؟!

أقبل على الروح واستكمل فضائلها

فأنت بالروح لا بالجسم إنسان!

لهذا نسب الله تعالى - في الحديث القدسي - الصيام لذاته المقدسة حين قال:"كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزى به، يدع طعامه من أجلي ويدع شرابه من أجلي، ويدع زوجته من أجلي، ويدع شهوته من أجلي" (1).

من أجل الله وحده، ترك الإنسان لذّاته وشهواته، وصام عنها شهرًا كاملاً من تبين الفجر إلى غروب الشمس، إيمانًا واحتسابًا، فكان هذا الشهر؛ تطهيرًا له من دنس السيئات، التي ربما تورط فيها طوال عامه، وكأن هذا الصيام حمًامُ روحي يغتسل فيه سنوياً من أدران خطاياه، فيخرج منه نظيفًا طاهرًا، وهو ما عبر عنه الحديث النبوي الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (2).

وإذا كانت الصلوات الخمس حمامًا أو مغتسلاً يومياً، يغتسل فيه المسلم كل يوم خمس مرات فإن صيام رمضان مغتسل سنوي، يكمل ما تقوم به الصلوات الخمس من تطهير. يؤكد هذا أن رمضان ليس شهر صيام فقط، بل هو صيام بالنهار، وقيام بالليل، ففيه تمتلئ المساجد بالمصلين الذين يقومون الليل بصلاة التراويح، وفيه جاء الحديث:"ومن قام رمضان إيماناً واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (3) فما أجملها وأرقاها من حياة للإنسان المؤمن، أن يكون بالنهار صائمًا، وبالليل قائماً، وهو يحس بنشوة روحية لا يتذوقها مَن غَلُظَ حِجابه، ولا يعرف قدرها من سُجنَ في رغباته المادية، فَحُرِم تلك السعادة الروحية، التي قال عنها بعض أهلها: نحن نعيش في سعادة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف! ولكن من حسن حظهم أن الملوك والسلاطين لا يعرفون قيمتها، فتركوها لهم، يستمتعون بها وحدهم بلا منازع.

تذكير بنعم الله:

في شهر رمضان يحس المسلم بمقدار نعمة الله عليه في الشبع والري، فإن إلف النعم يفقد المرء الإحساس بقيمتها، ولا تعرف النعم الكثيرة إلا عند فقدها، ولهذا قيل: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، والإنسان إذا أمسك طوال النهار عن الطعام حتى عضه الجوع، وعن الشراب حتى مسه الظمأ، حتى إذا جاء المغرب، فأشبع جوعه، وروى ظمأه، أحس بمقدار هذه النعمة، وقال حامداً الله - تعالى -: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله.

هنا يحس الإنسان بفرحه فطرية، حين صار له ما كان محرماً عليه طوال يومه، وهو ما عبر عنه الرسول الكريم بقوله: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" (4).

وشهر التعاطف:

بالصوم كذلك يشعر الإنسان بآلام الآخرين، وبجوع الجائعين، وحرمان المحرومين، حين يذوق مرارة الجوع، وحرارة العطش، فيعطف عليهم قلبه، وتنبسط إليهم يده؛ ولهذا عرف رمضان بأنه شهر المواساة والبر والخيرات والصدقات، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان أجود ما يكون، فهو أجود بالخير من الريح المرسلة، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما – (5).

ولقد حُكِىَ عن يوسف الصديق - عليه السلام - أنه كان لا يشبع من طعام، وبيده خزائن الأرض في مصر، فلما سئل في ذلك، قال: أخشى إذا شبعت أن أنسى جوع الفقراء! إن رمضان شهر فريد في حياة الفرد المسلم، وفي حياة الأسرة المسلمة، وفي حياة الجماعة الإسلامية، وأنا أسميه "ربيع الحياة الإسلامية" ويتجدد الحياة كلها: تتجدد العقول بالعلم والمعرفة، وتتجدد المجتمع بالترابط والتواصل، وتتجدد العزائم باستباق الخير إذ تكثر حوافزه، وتقل أسباب الشر ودواعيه، وتطرد ملائكة الخير شياطين الشر، وقد عبر عن ذلك الحديث الشريف:" إذا جاء رمضان فتحت أبوب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وصفدت الشياطين (6)، وفي رواية: "ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر" (7).

هذا الاحتفاء السماوي الكبير بمقدم رمضان : تفتيح أبواب الجنان، وتغليق أبواب النيران،وتصفيد كل شيطان: دليل على أن لهذا الشهر منزلة جليلة، وأن له في حياة المسلمين رسالة عظيمة ، وهى ما عبر عنه القرآن الكريم بتهيئة الجماعة المؤمنة للتقوى، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) "البقرة: 183" ومن راقب حياة المسلمين في كل عام قبل قدوم رمضان، وبعد رحيل رمضان يستيقن من هذه الحقيقة الاجتماعية الثابتة بالمشاهدة، وهى توافر الخير وعمل الصالحات في هذا الشهر، وقلة الشر والجرائم فيه، ولهذا يجتهد الوعاظ والخطباء في أواخر الشهر وأن يغروا جماهير الناس باستمرار هذه النيات الصالحة، والعزائم الصادقة على عمل الخير، وخير العمل، وكثيراً ما سمعناهم يقولون في خطبهم ودروسهم: من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، كن ربانًيا، ولا تكن رمضانيًا!

وأنك لتعجب من تأثير هذا الشهر في الناس الذين انقطع حبل الصلة بينهم وبين الله ربهم وخالقهم ورازقهم، فإذا هم يعودون إليه في رمضان،ويعرفون المسجد، وتلاوة القرآن. وبعضهم يصومون هذا الشهر ,إن لم يزاولوا الصلاة.

ولكن.. كيف نستقبله؟

وإنك لترى أثر ذلك في أجهزة الإعلام، فتراها في هذا الشهر العظيم تستحي من تقديم ما لا تستحي منه في سائر الشهور، من أغان وأفلام وتمثيليات ومسلسلات ومسرحيات، بل تُعُد لهذا الشهر برامج خاصة، تغذي الروح، وتنمي الإيمان، وتعلي القيم، وتزكي الأنفس، وتطارد الفحشاء والمنكر والبغي، لو لا ما يشوبها في بعض الأقطار من بدعة راجت سوقها، ما أنزل الله بها من سلطان، وهى ما سموه "فوازير رمضان" التي اشتكى منها العلماء والعقلاء، وقالوا: إن رمضان برئ منها، ولا يجوز أن تنسب إليه بحال من الأحوال.

كذلك نحس أثر هذا الشهر في الحياة الاجتماعية، حيث تزداد الأسرة تماسكاً،ويزداد المجتمع تواصلاً، فيزور الناس يعضهم بعضاً، ويدعو بعضهم بعضاُ على الإفطار، ويحس الفقراء بأنهم في هذا الشهر أحسن حالاً، وأوسع عيشاً من الشهور الأخرى، بسبب موائد الرحمن، التي يقدمها الموسرون للمعوزين من الناس، لينالوا أجر إفطار الصائم، وتنتعش المشروعات الخيرية بما يقدم إليها من مساعدات من أهل الخير، من الزكوات المفروضة التي يُؤثرٍ كثير من المسلمين إخراجها في رمضان، ومن الصدقات المستحبة التي يتسابق الناس إليها في هذا الشهر الكريم.

ألا ما أحوج أمتنا إلى أن تستفيد من هذا في شهر رمضان، فهو موسم المتقين، ومتجر الصالحين، وميدان المتسابقين، ومغتسل التائبين، ولهذا كان السلف إذا جاء رمضان يقولون: مرحباً بالمطهر! فهو فرصة للتطهر من الذنوب والسيئات، كما أنه فرصة للتزود من الصالحات والحسنات. فلنتخذ من رمضان "معسكراً" إيمانياً، لتجنيد الطاقات، وتعبئة الإرادات، وتقوية العزائم، وشحذ الهمم، وإذكاء البواعث، للسعي الدءوب لتحقيق الآمال الكبار،وتحويل الأحلام إلى حقائق، والمثاليات المرتجاة إلى واقع معاش.

ورحم الله أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي الذي قال: لو أنصفك الناس يا رمضان لسموك "مدرسة الثلاثين يوماً".

الهوامش:

(1) رواه ابن خزيمة في صحيحه (1897) عن أبى هريرة.

(2) رواه البخاري (1901)، ومسلم (760)، النسائي (2203)، وأبو داود(1372)، ابن ماجه (1641) عن أبى هريرة.

(3) رواه البخاري (2009)، ومسلم (759)، والترمذي (808)، النسائي (1602)، وأبو داود (1371) عن أبي هريرة.

(4) رواه البخاري (1904)، ومسلم (759)، والنسائي (2215)، وابن ماجه (1638) عن أبي هريرة.

(5) رواه البخاري (3220)، ومسلم (2308)، والنسائي (2095) عن ابن عباس.

(6) رواه البخاري (1898)، ومسلم (1079)، عن أبي هريرة.

(7) رواه الترمذي (682)، وابن ماجه (1642)، وابن خزيمة (1883)، وابن حبان (3435) عن أبي هريرة.

المصدر