حتى لا تتكرر مأساة نهر البارد

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حتى لا تتكرر مأساة نهر البارد

بقلم : معتصم حمادة

إن منع تكرار تجربة نهر البارد، لا يقتصر على الإجراءات الأمنية والقضائية بل إن الأمر يحتاج إلى سياسات تنموية، وإعادة النظر بالعديد من القوانين والإجراءات، وهذا كله يملي واجبات على القوى والفصائل الفلسطينية، وم.ت.ف. والدولة اللبنانية، ووكالة الغوث، والدول المانحة

انتهت معركة مخيم نهر البارد، لكن ملف المخيم لم يغلق بل انفتحت في سياقه مجموعة أخرى من الملفات، من بينها إعادة إعمار المخيم، وعودة أبنائه النازحين إليه، والصيغة التي سيرسو عليها وضع المخيم في المرحلة القادمة، في ظل التصريحات المختلفة، من أطراف لبنانية وفلسطينية، رسمية وغير رسمية.

على الصعيد اللبناني ارتفعت أصوات تطالب بفتح التحقيقات في ملابسات اندلاع المعارك في المخيم وجواره، وهي في معظمها محكومة بالسجالات المحلية ذات العلاقة بالاستحقاق الدستوري، متمثلاً بانتخاب رئيس جديد للبلاد. لكنها قلة، هي تلك الأصوات، التي ارتفعت تطالب ليس بالتحقيق الأمني، بل بالتعرف على الأسباب السياسية والاجتماعية والثقافية التي وفرت المناخ لولادة «فتح الإسلام»، والتي وفرت المناخ لبيئة سياسية، لبنانية ـ فلسطينية، غذت هذه الظاهرة، ومدتها بعوامل الحياة، إلى أن تغولت في سلوكها، وجرت الحالتين اللبنانية (الجيش وقوى الأمن) والفلسطينية (مخيم نهر البارد وسكانه) إلى معركة دموية معها، جرّت على الجميع، ما جرّته من ويلات وكوارث وضحايا بشرية وخسائر مادية ومعنوية.

فالمخيمات، في لبنان، كما هو معروف، لم تكن يوماً من الأيام ذات بيئة مذهبية أو طائفية صحيح أن التدين الشعبي، كان ولا يزال، ظاهرة اجتماعية فلسطينية واضحة المعالم، لكن الصحيح أيضاً، أن فصائل العمل الوطني الفلسطيني، على اتجاهاتها السياسية والفكرية المختلفة، من وطنية وقومية ويسارية وغيرها، لم تعمل على استغلال الدين في السياسة، ولا استغلال السياسة في الدين، بل بقيت تقيم فصلاً بين هذا وذاك.

وحتى في عز الصراعات المذهبية في لبنان، في الأيام السوداء من حروبه الداخلية، ورغم محاولات البعض الزج بالحالة الفلسطينية في هذه الصراعات، بدعوى أنها حالة تنتمي، مذهبياً إلى فئة دون غيرها، بقيت القوى السياسية الفلسطينية، وبقيت مجموع الحالة الشعبية الفلسطينية، تقاوم هذه المحاولات، وترفض الانجرار إليها، مؤكدة على أن القضية الفلسطينية قضية وطنية، وعلى أن الشعب الفلسطيني، يرفض الانقسامات الطائفية والمذهبية، ويقيم مواقفه من الأطراف على خلفية سياسية، وفقاً لمفاهيم قومية واجتماعية، هي أقرب إلى العلمانية وهي في جوهرها مفاهيم ذات سمة ديمقراطية.

نقول علمانية وفي البال أن ثمة من يحاول أن يشوه مفهوم العلمانية، ليزوره ويقدم العلمانية على أنها إلحاد، علماً أن العلمانية لا تعني محاربة الدين ولا تعني الإلحاد، بل تعني فصل الدين عن السياسة والسياسة عن الدين، وذلك حرصاً على الدين من جهة، حتى لا يصبح قبضة بيد السياسيين، يستغلونها في مآرب وأهداف فئوية ضيقة، وحرصاً على السياسة من جهة أخرى حتى لا تتحول إلى عمل انتهازي، يقوم على المناورات والصفقات والتواطؤ والتدليس.

الحصار الذي تعرضت له المخيمات، منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، والتضييقات التي تعرضت لها الحالة الفلسطينية في لبنان بشكل عام، على يد إجراءات أمنية، وقرارات وقوانين رسمية، حولت المخيمات إلى مناطق محاصرة، تعيش البطالة والفقر والحياة البائسة، في ظل إهمال متعمد، من الدولة، وتقصير من وكالة الغوث، وسوء إدارة من مؤسسات م.ت.ف. والقائمين عليها والمتفردين في قراراتها وموازناتها المالية.

ولا بد من الاعتراف أن فصائل العمل الوطني، رغم الانقسام الذي أصابها، حرصت بكل اتجاهاتها على معالجة مجمل هذه المشاكل مع الحكومات اللبنانية المتعاقبة، بالحوار والنقاش والمذكرات، لأنها لم تكن تملك سوى هذا الحل، دفع الحكومة اللبنانية إلى تخفيف الحصارات، بل وفكها من حول الحالة الفلسطينية ومن حول المخيمات، والاعتراف بالحقوق المدنية والاجتماعية للفلسطينيين، باعتبارهم بشراً يستحقون الحياة الكريمة، والتوقف عن استغلال فزاعة التوطين، لتبرير سياسة التمييز العنصري التي لجأت لها الحكومات اللبنانية في تعاملها مع الحالة الشعبية الفلسطينية.

تهميش م.ت.ف. وحشرها في مشاريع سياسية أثبتت فشلها، وتهميش مؤسساتها الاجتماعية، والعبث بموازناتها المالية، وعدم تسخيرها في خدمة الصالح العام في مشاريع تنموية تعزز الحالة الاجتماعية في المخيمات، وكذلك فرض الحصار على قواها السياسية، وشن حملات التشويه على البرنامج المرحلي، وإعادة الاعتبار الجزئي للشعارات اللفظية والسياسات العدمية، كلها عوامل ساهمت في خلخلة الحالة السياسية في المخيمات تقاطعت مع أوضاع اجتماعية شديدة التعقيد، لم تنجح الأوضاع القائمة في توفير حلول لها، في ظل انقسام في المرجعية السياسية، وتنافس في المواقف السياسية لم ينعكس تنافساً، إيجابياًَ ـ للأسف ـ في توفير الخدمات والتقديمات الاجتماعية لسد النقص وإغلاق الثغرات وتعزيز الحالة الوطنية المعرضة للرياح التي بدأت تهب عليها من الجوار، في جلباب، وعمه، ولحية، ودعوات للعودة إلى المسجد (وكأن الشعب الفلسطيني غادر المسجد) والعودة إلى الدين (وكأن الشعب الفلسطيني تخلى عن دينه) والعودة إلى الله (وكأن الشعب الفلسطيني فقد صلته بربه(!)) ما يجب التأكيد عليه هنا هو أن هذه الرياح هبت على المخيمات الفلسطينية من خارجها، أي من محيطها اللبناني، مستغلة حالة البؤس والشقاء الاجتماعي الذي تعيشه هذه المخيمات.

وإن كنا، معنيين هنا، بقراءة الأسباب التي سهلت على هذه الرياح اختراق المخيمات والتغلغل في صفوفها فإن الواجب يملي على القوى والجهات اللبنانية المعنية، والمسؤولة وطنياً أن تتعرف على الأسباب اللبنانية التي سمحت لرياح الأصولية الدينية باتجاهاتها السياسية المختلفة، بمن فيها تلك القريبة من «القاعدة» أن تتغلغل إلى صفوف شرائح من اللبنانيين، وكيف نجحوا في مد جسورهم نحو المخيمات.

وما كشفت عنه العديد من الكتابات والتحقيقات الصحفية (الصحفية نعم وليس الأمنية) وما كشفت عنه كتابات اتجاهات أصولية وسلفية، يؤكد كيف تغلغلت هذه الاتجاهات في المخيمات.

وبعد أن كانت الفصائل ترسل البعثات من الشباب الفلسطيني إلى الدول الصديقة ليتخرجوا أطباء ومهندسين وصيادلة وممرضين وخبراء في علم الفلسفة والاجتماع وصحفيين وباحثين واقتصاديين صارت بعثات الشباب الفلسطيني بتجنيد من الجمعيات والمجموعات الدينية اللبنانية، ترسل إلى المعاهد الدينية ليتخرج منها المشايخ، على يمين دار الفتوى اللبنانية، ويعودوا إلى مخيماتهم لينشروا الوعي السلفي الأصولي، وبعضهم لينشروا الوعي التكفيري، الذي بتأثير الحالة الفلسطينية، والسياسات الأميركية الغبية، والعداء الغربي المصطنع للإسلام (في الأساس للتيارات العنيفة ذات الشعارات الإسلامية) وتفاعلات عديدة أخرى، رأى في العنف المسلح (ضد من؟) وسيلة لتحقيق أهدافه الملتبسة.

لذلك ليست صدفة أن تنقلب أوضاع أحد الفصائل الفلسطينية ليحمل أعضاؤه اسماً جديداً هو«فتح الإسلام» وأن يقدم نفسه باعتباره رأس حربة جيش السنة في لبنان (!)

أي خارج إطار أية أجندة فلسطينية، وأن تكشف الأحداث المتلاحقة عن صلات كانت تربطه بمجموعات دينية سلفية وغيرها، لبنانية وفلسطينية، كانت هي صلة الوصل بينه وبين الأجهزة الأمنية اللبنانية، في حالات التوتر الأمني وحالات الصدامات المسلحة. ولذلك، أيضاً، ليست صدفة أن يتجمع تحت أداء هذه المجموعات المسلحة، شبان من جنسيات عربية إسلامية مختلفة، باعتبار أنها جماعات تنتمي إلى فئة دينية معينة وليس إلى جنسية بحد ذاتها.

إن معالجة هذه الظواهر، في البارد، في الفترة القادمة، وفي باقي المخيمات، في الوقت الراهن ومستقبلاً، يجب ألا تقتصر على الإجراءات الأمنية والقانونية والقضائية فنحن لا نستطيع أن نطالب القضاء بألا يمارس الدور المطلوب منه، ولا أن نطلب من رجل الأمن أن يتخلى عن واجباته كما نص عليها القانون.

لكن من واجبنا أن ننظر إلى الشق السياسي والاجتماعي من الموضوع بتعمق، وببصيرة نافذة وبمسؤولية جدية، وأن نقول للحكومات اللبنانية إن معالجة هذه الظواهر لا يكون إلا بخطط تنموية، تتصدى للأمية، والفقر، والبطالة، والمرض وغير ذلك من الآفات الاجتماعية المختلفة، والتي هي في الأسباب من تداعيات التخلف الاقتصادي الاجتماعي ونتائجه المباشرة كما أن من واجبنا أن نقول لفصائل العمل الوطني الفلسطيني باتجاهاتها المختلفة، إن معالجة الانقسام في المرجعية الفلسطينية هي الخطوة الأولى نحو تصحيح الوضع في المخيمات, وأن من ينتظر توحيد المرجعية الفلسطينية بين رام الله و غزة ، ليوحد المرجعية الفلسطينية في لبنان، إنما يتجاهل خصوصية الحالة الفلسطينية فيلبنان وملحاحية أوضاعها الاجتماعية والسياسية، ويعفي نفسه من المسؤولية الوطنية، ويتحمل مسؤولية أي انحدار إضافي قد يصيب الحالة الفلسطينية في لبنان في الأيام القادمة.

ووحدة المرجعية الفلسطينية من شأنها أن تغلق الأبواب أمام التسريبات والتسللات، والمناورات واللعب على الهوامش، وأن تعيد تقديم الحالة الفلسطينية إلى السلطة اللبنانية وإلى كل التيارات السياسية والاجتماعية الأخرى بقالب جديد، وموقف موحد، وأن تصون الحالة الفلسطينية من الاختراقات الأمنية والسياسية، وأن تمنع تجنيد الحالة الفلسطينية (كما جرى تجنيد مخيم نهر البارد المنكوب رغم عنه) في أجندة غير فلسطينية. من جانبها تتحمل م.ت.ف.

(عبر لجنتها التنفيذية) مسؤولية مميزة وتاريخية إزاء الوضع الفلسطيني في لبنان، إن من حيث الموازنات التي يجب أن ترصد لمشاريع التنمية الاجتماعية في مخيماته، أو من حيث الرعاية لمختلف أوجه الحياة، الصحية والاجتماعية، والاقتصادية، وغيرها. وإذا كانت حكومة فياض قد «اكتشفت» ضرورة امتلاك خطة تنمية اجتماعية في الضفة الفلسطينية لمنع تكرار ما حصل في قطاع غزة، فإن مثل هذا الاكتشاف كان يجب التوصل إليه في مخيمات لبنان منذ زمن طويل، أي منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.

وعلى الدولة اللبنانية يقع عبء كبير عليها أن تعيد النظر إلى المخيمات، وأن تكف عن اعتبارها مجرد بقع جغرافية تضم مسلحين وخارجين على القانون.

المخيمات تجمعات سكنية مجتمعية فيها تفاعلات سياسية وثقافية واجتماعية مختلفة. فيها بشر يحتاجون الأكل والشراب، والمأوى، وحبة الدواء،

ومقعداً دراسياً، وثوباَ يرتدون، وحياة كريمة تتوفر لهم بكل مناحيها المختلفة. الدولة معنية بكل هذا عبر إعادة صياغة قوانينها الجائرة، وسياستها القائمة على التمييز العنصري, المخيمات التي تدار ذاتياً ليست متمردة على السيادة اللبنانية ولا على القانون اللبناني.

الدولة تدرك ذلك، وعليها برأينا أن تكف عن هذه الإدعاءات وهذا يتطلب فيما يتطلب، رؤية أخرى إلى مستقبل الإدارة لمخيم نهر البارد، تحترم رغبة سكانه في تنظيم أوضاعهم ضمن إدارة ذاتية خاصة بهم، تراعي خصوصيتهم الفلسطينية، تحت سقف القانون اللبناني وسيادته.

أما الدول المانحة فهي معنية مثل سواها بتعزيز دعمها لوكالة الأونروا كي تنهض هي الأخرى بأعباء الإغاثة الملقاة على عاتقها.

إن دروس مخيم نهر البارد، غنية، ومعقدة، وعلى الجميع استخلاص ما يتوجب عليه استخلاصه من هذه الدروس، وإلا فإن التضحيات التي بذلت لخلاصه سوف يضيع معظمها هباء. #

المصدر