دروس من الإسراء والمعراج!!
رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين.. سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فإنَّ شهر رجب المبارك يهلُّ علينا دائمًا فينشر في الأجواء عبقَ الذكرى العطرة، ذكرى الإسراء و المعراج، وهي إحدى النفحات التي يكرم بها الله أمةَ الإسلام، وهي الآن في مسيس الحاجة إلى أن تتعرض لها وتتدبر فيها، وتستمد منها الدروس والعبر، وتفيق من غفلتها، وتنهض من كبوتها، ومن هذه الدروس:
طلاقة القدرة الإلهية
فقد أسرى المليكُ المقتدر بعبده- صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام بمكة المكرمة حتى سدرة المنتهى، وأراه من آياته الكبرى، ثم رجَع به إلى مكانه.. كل هذا في بعض ليلة، فيا لها من قدرة طليقة هائلة تتلاشي أمامها حواجز الزمان والمكان، ولا يحدها حدٌّ ولا يعجزها شيءٌ مهما كان ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82)، فما أحوجَنا إلى أن نعمِّق في قلوبنا الإيمانَ بهذه القدرة الطليقة، إذًا لازددنا ثقةً بالله- عز وجل- ويقينًا فيه، وأملاً في انقشاع غمم هذا الواقع المرير الذي نحياه..!!
مكانة النبي- صلى الله عليه وسلم
لقد أظهرت رحلةُ الإسراء والمعراج فضلَ الرسول- صلى الله عليه وسلم- على أهل السماوات والأرض جميعًا، وأكدت مكانته بينهم، فمَن مِن البشر اختصه الله تعالى بمثل هذه الكرامة؟!
ثم انظروا إلى هذا المشهد النادر العجيب؛ حيث اجتمع خيرة الخلق من النبيين والمرسلين في المسجد الأقصى- بقدرة الله تعالى- ووقفوا جميعًا في أدبهم صامتين ينتظرون مَن يقدِّمه الأمين جبريل- بأمر الله- لإمامتهم، فإذا هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولِمَ لا وهو صاحب الرسالة الخاتمة الشاملة الكاملة والقرآن العظيم المصدِّق لما بين يديه من الكتاب والمهيمِن عليه.
وإذا ظهر بهذا الموقف فضلُه كذلك على الأرض، فقد ظهر بعد قليلٍ فضلُه كذلك على أهل السماء، حين وقف سيد الملائكة جبريل عند موضعٍ ما مِن مرتقاه مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائلاً: ﴿وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ (الصافَّات: 164).
ثم يرقَى رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- فوق ذلك ليحلَّ في القدس الأعلى حيث الأنوار والتجليات والفيوضات التي لا يحيط بها عقل بشر ولا يعلم كنهَها إلا الله تعالى، فهذا رسولكم يا أمة الإسلام ففاخِروا الدنيا به، واملأوا قلوبَكم بحبه، وجدِّدوا العزمَ على حسن التأسي به وتمام الطاعة له، وأنتم- معشر الإخوان - استشعِروا من أعماقِكم معنى ما جاء في شعاركم وهتافكم (والرسول قدوتنا) و(الرسول زعيمنا).
مكانة الصلاة
لقد اتسمت رحلة الإسراء والمعراج بطابع الإعجاز، وغلب عليها قصد التشريف لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا كان فيها مِن تشريعٍ فهو إذًا تشريعٌ له تميزُه وخصوصيتُه، وهذا ما كان في شأن الصلاة التي انفردت دون سائر التشريع بفرضها بعد استدعاء صاحب الرسالة- صلى الله عليه وسلم- إلى حضرة القدس الأعلى ليرجع بها إلى أمته هديةً غاليةً تعيد دائمًا تلك الذكرى العظيمة- ذكرى المعراج- حيث تعرج الأرواح فيها إلى ذي الملكوت والجبروت عز وجل.
وهكذا اكتسبت الصلاة خصائصَها المعروفة، فهي إحدى قواعد الإسلام وأسسه، بل هي عموده، وهي الفارقة بين المسلم وغيره، وهي آخر ما وصَّى به رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- أمتَه، فالصلاةَ الصلاةَ يا مسلمون، اقدروها قدرها، وحافظوا عليها، وأقيموها بحقها في أول وقتها، وأنتم أيها الإخوان تذكروا دائمًا الكلمات الخمسة التي تجمع مظاهر دعوتكم (البساطة والتلاوة والصلاة والجندية والخلُق) وتذكَّروا كذلك وصية الإمام المؤسس- رحمه الله تعالى-: قُمْ إلى الصلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف.
مكانة الخلق
لقد أراد الله تعالى بهذه الرحلة المباركة أن يُريَ حبيبَه ومصطفاه- صلى الله عليه وسلم- من آياته الكبرى، فتُرى ما هي تلك الآيات؟! إنها آياتُ الكون العظيم العجيب، ومعها آياتٌ لا تقل عنها عظمةً وعجبًا.. تصور تجسيد ما ينبغي وما لا ينبغي من القيم والأخلاق، ومن ثَمَّ ندرك أهمية الأخلاق في ديننا الحنيف؛ حتى كأنَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد اقتصرت مهمته وانحصرت رسالته في إطارها وذلك قوله- صلى الله عليه وسلم-: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقد تربَّع- صلى الله عليه وسلم- على القمة في باب الخُلُق حتى نال هذه الشهادة الكبرى من ربه- عز وجل-: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4)، فالأخلاقَ الأخلاقَ يا قومنا، ما أشدَّ حاجتِنا إلى بنائها والتشبث بها:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
- فإن هُمو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وأنتم أيها الإخوان كونوا دائمًا قدوةً خلقيةً وسلوكيةً لغيركم، وكونوا شامات وعلامات بين الناس التزامًا بهذه المظاهر الخمسة المذكورة، وبأهداف تربية الفرد على منهجكم والتي منها أن يكون (متين الخلق).
سنة التداول
لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج إيذانًا بتحول القيادة الروحية من أمة بني إسرائيل إلى هذه الأمة الوسط الشاهدة على الأمم، وقد تسلَّم قائدها وقدوتها- صلى الله عليه وسلم- الراية في عقر دارها وفي رمز مسجدها (المسجد الأقصى)؛ بإمامته- صلى الله عليه وسلم- للأنبياء جميعًا فيه.
ولا عجب فإنَّ بني إسرائيل كانوا أولى الناس باستشعار فضل ربهم عليهم، فكان الواجب عليهم أن يخلصوا توحيده وعبادته وطاعته فكانوا على النقيض تمامًا من ذلك؛ حيث عبدوا العجلَ وقالوا على الله تعالى قولاً عظيمًا وعاثوا في الأرض فسادًا، ألم ندرك- أيها الأحباب- مغزى قوله تعالى بعد آية الإسراء مباشرةً ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً(2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا(3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا(4)﴾ (الإسراء)، وعلى ذلك فمقومات القيادة الروحية تكون في التمسك بأهداب التوحيد وبمظاهر الصلاح (للذات)، والحرص على الإصلاح (للغير)، فكونوا يا أمةَ الإسلام هكذا حتى تظلوا أهلاً للخيرية، وإلا لذهبت عنكم، فسنن الله غلابة ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾ (فاطر: من الآية 43).
مكانة الأقصى
لم يشأ الله تعالى أن يعرج بنبيه- صلى الله عليه وسلم- من حيث هو ولكن شاء أن يُسري به إلى المسجد الأقصى المبارك ليلفت أنظار المسلمين إليه في مرحلة مبكرة من عمر الدعوة؛ لعلمه- تعالى- أنه سيكون محور صراع طويل مرير، وساحة مواجهة بين الحق والباطل، وليفوز المسجد الأقصى بهذه الألقاب الدالة على شرفه قداسته فهو: (ثاني المسجدين، ومنتهى الإسراء، ومبتدئ المعراج) ثم نال مزيدًا من الفضل فكان القبلة الأولى وظلَّ لستة عشر شهرًا تتجه إليه وجوه المسلمين وقلوبهم وصلاتهم ودعواتهم، وكان أحد المساجد الثلاثة التي لا تُشدُّ الرحال إلا إليها.
هذا هو أقصاكم أيها المسلمون، وبحمد الله فإنَّ مكانته هذه لا تكاد تخفى على أحد من المسلمين، ومن ثَمَّ ظلت الأجيال تلو الأجيال تحمل أمانة الدفاع عن المسجد المبارك، والذود عن حياضه، والحيلولة بينه وبين أعدائه، وتخليصه من أيدي المغتصبين، فكان التحرير الأول في خلافة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وظلت الأمة تعض على المسجد الأقصى بالنواجذ إلى أنَّ أصابها من الضعف ما أصابها، فوقع المسجد أسيرًا في أيدي الصليبيين، ثَمَّ كان التحرير على يد صلاح الدين الأيوبي ومعه ثُلةٌّ من المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
وما أن سقطت الخلافة الإسلامية وضاعت هيبة المسلمين في العالم حتى طمع الأعداء مرةً أخرى في المسجد الأقصى المبارك، فجاءت سلسلة الهزائم التي مُنيت بها أمتنا في عام 1948م ثمَّ عام 1967م حيث عاد الأقصى أسيرًا في أيدي الصهاينة.
ورغم ما أصاب أمتنا من ضعفٍ وتخاذلٍ وهوان وتفكك إلا أنَّ ثُلَةً مباركة ظهرت في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس تذود عنالمسجد الأقصى وما حوله من الأراضي المباركة، فبذلوا أرواحهم ومُهجهم وقدَّموا الشهداء تلو الشهداء، وبذلوا الدماء والأموال رخيصة في سبيل الله فكانت قافلة الشهداء التي سطَّرت بطولات نادرة وتضحيات غالية أداءً للأمانة وقيامًا بالواجب.
وبقيت بعد هذه التضحيات وتلك البطولات واجباتٌ عظيمة ومسئولياتٌ ثقيلة تقع على عاتق أمة قاربت المليار ونصف المليار، يوجب عليها دينها كما توجب عليها حقائق التاريخ ومقتضيات الواقع دورًا لا بديلَ عن أدائه، ولا مفرَّ من القيام بأعبائه وحمل تبعاته، فلنقدم التضحيات تلو التضحيات من أجل هذا المسجد المبارك وتلك الأراضي المباركة، وليس أمامنا من بديلٍ سوى أن نحمل الأمانة كما حملتها أجيال سبقت، ورجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم مَن ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.