ديمقراطية التعذيب ومدنية الثعالب
بقلم: د/ توفيق الواعي
الآن هل يفهم المخدوعون مكر الثعالب وبشاعة الاحتلال، الذي ملأ الدنيا حديثًا عن الحريات، وعن وجوب إشاعة الديمقراطيات والمحافظة على حقوق الإنسان؟!
الآن هل يفهم تلامذة الثقافة الاستعمارية أن كهنة هذه الثقافات الدخيلة استعماريون وموغولون في الوحشية، ولا يعرفون إلا مصالحهم، ويدوسون على الشعوب وعلى الكرامات وعلى الإنسانية وعلى كل ما هو جميل؟!
الآن الدنيا كلها تشهد أعمال القتل للأطفال والشيوخ والنساء والعجَزة، وترى طبيعة هؤلاء الذين جاءوا ليرفعوا الظلم والجور، ويحققوا العدالة وسيادة القانون.. فإذا يهم ينظرون بأم أعينهم إلى صور الهدم والقصف للأبرياء والحصار والاعتقالات التي بلغت مبلغًا لم تبلغه الحروب العظمى في التاريخ في ظرف سنة واحدة، وإذا بهم يحاولون إخفاء ما تقشعر منه الأبدان، ويحاكمون من يتكلم أو يشاهد أو ينقل أعمالهم البشعة وأفعالهم الكارثية..!!
ورغم ذلك تتسرب الممارسات الوحشية التي ترتعد منها الأبدان وتخجل منها الضمائر ويندى لها الجبين، وهم الذين زعموا أنهم رسل السلام والحضارة والإنسانية، وأنبياء الرحمة والعدالة والمدنية، وما جاءوا إلا لإنقاذه والحرية وتحرير الشعوب وزرع الديمقراطية، فإذا بهم ذئاب وثعالب، ما جاءوا إلا لنهش لحوم البشر وافتراس أجسادهم، وامتصاص دمائهم، ونهب خيراتهم، وتخريب ديارهم، وهدم آثارهم، وطمس حضارتهم، متذرعين بكل ما يخدع، ومموهين بكل ما يرائي ويداهن ويصانع، كذبًا وزورًا وبهتانًا، وباطلاً وإفكًا وافتراءً، يذكرنا هذا بتحايل الثعلب يومًا على الديك ليأكله، متخفيًا في ثياب الأتقياء الواعظين، وقد صوَّر "شوقي" هذا في قوله:
بَرزَ الثعلبُ يومًا في شِعَار الواعِظينَا
فمشَى في الأرضِ يهدِي ويسبُّ الماكِرينَا
ويقول: الحمدُ لله إله العالمِينَا
يا عبادَ الله تُوبوا فهو كهفُ التَّائبينَا
وازهدوا في الطَّير إنَّ العيشَ عيشُ الزَّاهِدينَا
واطلبوا الدِّيكَ يؤذِّن لصَلاةِ الصُّبحِ فينا
فأتى الديكَ رسولٌ من إمامِ النَّاسكينَا
فأجَابَ الديكُ: عُذرًا يا أضلَّ المهتدِينَا
بلِّغ الثعلبَ عني عن جُدودي الصَّالِحينَا
عن ذوي التِّيجانِ ممَّن دَخَلَ البطنَ اللَّعينَا
أنَّهم قالوا- وخيرُ القولِ قولُ العارفينا-:
مخطئٌ من ظنَّ يومًا أن للثَّعلبِ دِينَا
وأظن أن الديك الحصيف قد فهم ما لم يفهمه دجاجنا المسكين المخدوع، وفَقِه الدَّرس والعِبَر عن الأجداد، ووعى حِيَل الاستعمار وألاعيبه، ومكره وخداعه، وعرف طبعه ودخيلة نفسه، أما نحن فيا للحسرة والندامة، والخجل والبلاهة!! نظن أن الثعالب والذئاب هُداةٌ واعظون، وأئمةٌ ناسكون، وضياءٌ للسائرين.
ولعلنا نفيق بعدما سمعناه ورأيناه وضجَّ العالم به من حولنا، وأعلنته الصحف ونشرته الإذاعات والقنوات الفضائية؛ بل وأقر الفاعلون بفعلتهم وشهد به شهود من أهلها.. لعلنا نتحرك ونعي، ولعلنا نفيق بعد اعترافات الطيار الأمريكي الذي فرَّ من العراق من هول ما رأى، ثم قال قولته المشهورة: "أشعر بالأسى لأنني أمريكي".. "لأن جنودنا استخدموا كل الأساليب غير الإنسانية لإذلال الأسرى.. لقد فعلنا كل شيء لتعذيب الأسرى، كنا نشاهد يوميًّا القتلى من التعذيب، وصعب عليَّ كثيرًا أن أتحدث عن أعمال التعذيب التي كنا نمارسها ضد الأسرى العراقيين".. "استخدمنا كل الأساليب التي تُشعر الأسير بالذل والهوان، فمثلاً كنا نستخدم أسلوب الصعق بالكهرباء، والكيِّ والتعليق، وكل ما لا يخطر على البال، كنا نضع كيسًا قماشيًا في رأس الأسير ونستخدم الأغلال البلاستيكية التي تسبب حروقًا وجروحًا عظيمة في رسغ اليد.. إلخ.
وبمعنى آخر فإن بلدي أمريكا تنفِّذ وتطبق كل الأساليب لزيادة تعذيب وآلام الأسرى".. "وقارنت ذلك مع تعامل العراقيين مع الأسرى الأمريكيين؛ حيث كانوا يقدمون الشاي لهم والطعام، بينما نحن لا نقدم لهم حتى الماء، ونقوم بنقلهم في شاحنات كالمواشي مقيدين وفي أسوأ الأحوال والظروف، وحين وصولهم كنا نرميهم من الشاحنات على الأرض، ونبصق في وجوههم ونبول عليهم، وكنا نتعاطَى المخدرات حتى لا نتأثَّر بهذه الأعمال التي نقوم بها؛ ولكن لا أستطيع أن أنسى نظرات المسلمين العراقيين لنا، لاسيما عندما كانوا يرون الجنود الأمريكيين في غرف نومهم مع زوجاتهم، لقد كان هذا يحول العراقيين إلى أسود مجروحة".. "عندما كنا نعيش هذه التجارب كنا نردد مثلاً يقول "لا تمسك ذيل النمر، وإذا أمسكته لا تتركه"؛ ولذلك كنا نفكر دائمًا ماذا سيفعل العراقيون بنا بعد أن نتركهم؟! أقول لكم بكل صراحة، وأنا أرتجف الآن: إن الفلسطينيين مُحِقون عندما يتحولون إلى قنابل بشرية..
وإنني أقول اليوم بأعلى صوتي: إنني أشعر بالعار لأنني أمريكي، نعم .. نعم بكل راحة ضمير اليوم أقول: لست فخورًا بأنني أمريكي.. سأقول ذلك في كل مكان مهما كان الثمن".
ونحن نقول بعد ذلك، وبعد أن نُشرت صور الأسرى عرايا وهم يعذَّبون بالكهرباء وبالسجائر في الأماكن الحساسة من أجسادهم، وبعد هذا الامتهان المنقطع النظير نقول: هذه طبيعة المستعمرين دائمًا، وزاد عليها طبيعة "الكاوبوي" الأمريكي المتعجرف الفظِّ، طبيعة وزارة العدل الأمريكية التي انتقدت المدافعين عن الحريات في جوانتنامو، وقررت أنهم لا يتمتعون بأي حقوق، طبيعة السياسة الأمريكية التي تساند الكيان الصهيوني وهو يقتل كل يوم بالعشرات، ويهدم البيوت ويحاصر شعبًا بأكمله، ويجعله يموت جوعًا وخوفًا وقهْرًا، ويفعل ما يشاء بأمر رئيس أمريكا!!
وبعد: فهل نفهم بعد هذا كله ما نحن فيه وما ينتظرنا جميعًا؟ وهل نفهم اسطوانات الخداع التي تغنِّى كل يوم في أسماعنا عن الديمقراطية وأعداء الديمقراطية الإرهابيين، وعن محاربة الإرهاب المزعوم..؟! أظن أننا نعرف كل شيء؛ ولكنه العجز وأشياء أخرى لابد أن تتداركها الشعوب إذا أرادت أن تعِزَّ وتعلو ويكون لها كرامة.. نسأل الله تعالى ذلك.
المصدر
- مقال:ديمقراطية التعذيب ومدنية الثعالبإخوان أون لاين