سبب تخلف المجتمعات.. رؤية فقهية للشهيد عودة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
سبب تخلف المجتمعات.. رؤية فقهية للشهيد عودة
توفيق الشاوى.jpg

بقلم د. توفيق الشاوي

لما كانت شريعتنا تفرض على المجتمع أصولاً وقيمًا ثابتة خالدة فإن المجتمع ينصلح حاله ويتقدم بقدر ما يلتزم بهذه القيم والمبادئ.

ولكن المجتمعات تنجح أحيانًا وتفشل أحيانًا، وإذا فشلت في الالتزام بهذه المبادئ أو بعضها فإنها تتأخر وتتخلف، وهي المسئولة عن هذا الفشل وهذا التخلف الذي لا يجوز أن يُنسب إلى الأحكام الشرعية التي عجزت أو فشلت في الالتزام بها، وكثيرًا ما حرفها لهم فقهاء السلاطين لتستر فشلها أو فشل حكامها.

وقد ضربنا لذلك مثلاً بمبدأ الشورى الذي قرره القرآن؛ فإنه لم يُطبق بإخلاص إلا خلال ثلاثين عامًا في عهد الخلفاء الراشدين، ولكن مَن جاءوا بعدهم حوَّلوا الخلافة إلى مُلك عضوض استبدادي بقي سائدًا في عهود الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية وما بعدها في كثيرٍ من أقطارنا التي تقاسي حكمًا استبداديَا.

ولم يكن هذا الانحراف شاذًا بل إنه أوجد حوله انحرافات عديدة، أهمها احتكار المستبدين وحاشيتهم من المنتفعين والمنافقين من الشعراء (ورجال الإعلام)، وأمثالهم من الأدباء، وقواد الجيوش والشرطة والعمال.

وقد كان فقيهنا "عبد القادر عودة" صريحًا واضحًا في أن القرآن أدان من يؤمن ببعض الأحكام وينحرف عن البعض الآخر، وأن سبب تخلف المسلمين هو انحرافهم وتقصيرهم.

إن سبب تأخرنا وانحطاطنا هو أننا لم نطبق الشريعة تطبيقًا عادلاً ولا كاملاً في عهودنا المظلمة المتأخرة، وإن حكامنا من الأتراك والمماليك كانوا يُحكمون هواهم في كل ما يهتمون به، ويحكمون الشريعة فيما لا يضرهم ولا ينفعهم، وإذا كان سبب تأخرنا هو إهمال الشريعة وترك أحكامها فلن يجدينا الأخذ بالقوانين شيئًا، بل سيُزيدنا تأخرًا على تأخر وانحطاطًا على انحطاط، وإنما علاجنا المجدي هو القضاء على سبب التأخر والعودة لأحكام الشريعة.

لقد طبق آباؤنا بعض أحكام الشريعة, وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه, فصدقهم الله وعده "إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ" (يونس: من الآية 55)، وأخزاهم في الحياة الدنيا، وجئنا نحن على آثارهم نتبعهم ونؤمن إيمانهم فأخزانا الله كما أخزاهم، وسلط علينا كما سلط عليهم، وجعلنا عبرةً لأولى الألباب، ولن يغير الله ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا وقلوبنا ونؤمن بالكتاب كله، وذلك وعد الله, والله يقول الحق، وقد قال: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد:11).

لقد آمن المسلمون الأوائل وحسُن إيمانهم فمكَّن الله لهم في الأرض، وإن الذي مكَّن لهم على قلتهم وضعفهم قادرٌ على أن يمكن لنا في الأرض إذا آمنَّا وحسُن إيماننا, ذلك وعد الله لعباده في قوله: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا.." (النور:من الآية 55) وذلك وعده لمن اتَّبع كتابه وتمسك بشريعته، حيث يقول جل شأنه: ".. قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (المائدة: من الآية 15، 16).

أولى الحريات التى قررتها شريعتنا حرية العقيدة

جاء الإسلام ليكون خاتم الرسالات السماوية؛ وكانت أولى مميزاته أنه صحَّح كل الانحرافات التى أدخلها أتباع العقائد السابقة على عقيدة التوحيد والتنزيه التي هي جوهر الديانات السماوية، وعابَ على من انتسبوا إلى الديانات السابقة أنهم أفسدوا عقيدةَ التوحيد التي جاء بها الرسل الذين يدعون أتباعهم، وسجَّل عليهم هذا الانحراف بقوله تعالى: "وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ" (التوبة: من الآية30)، وأنَّبهم على ذلك ودعاهم إلى الإسلام الذي هو دين التوحيد والتنزيه الذي دعا له جميع الرسل.

ومع كل ذلك فإن المجتمع الاسلامى التزم بمبدأ "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" الذي قرره القرآن في (سورة البقرة الآية 256)، وألزم رسولنا بذلك بقوله تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس الآية:99).

الشهيد عبد القادر عودة.jpg

الشهيد عبد القادر عودة

وأفاض فقيهنا عبد القادر عودة في بيان ذلك فقال: "كانت الشريعة الإسلامية هى أول شريعةٍ أباحت حريةَ الاعتقاد، وعملت على صيانة هذه الحرية وحمايتها إلى آخر الحدود، فلكل إنسانٍ طبقًا للشريعة الإسلامية أن يعتنق من العقائد ما شاء، وليس لأحدٍ أن يحمله على ترك عقيدته أو اعتناق غيرها أو يمنعه من إظهار عقيدته".

وكانت الشريعة الإسلامية عمليةً حين قررت هذا المبدأ، فلم تكتف بإعلان هذه الحرية وإنما اتخذت لحمايتها طريقتين:

أولاهما: ألزمت الناسَ بأن يحترموا حقَّ الغير في اعتقاد ما يشاء وفي تركه يعمل طبقًا لعقيدته، فليس لأحدٍ أن يُكره آخر على اعتناق عقيدةٍ ما أو ترك أخرى، ومن كان يعارض آخر في اعتقاده فعليه أن يقنعه بالحسنى ويبين له وجه الخطأ فيما يعتقد، فإن قبِل أن يغير عقيدته عن اقتناعٍ فليس عليهما حرج، وإن لم يقبل فلا يجوز إكراهه ولا الضغط عليه، ولا التأثير عليه بما يحمله على تغيير عقيدته وهو غير راضٍ ويكفي صاحب العقيدة الصحيحة أنه أدى واجبه فبين له الخطأ، وأرشد إلى الحق، ولم يقتصر في إرشاد خصمه وهدايته إلى الصراط المستقيم.

ثانيتهما: إلزام صاحب العقيدة نفسه بأن يعمل على حماية عقيدته، وألا يقف موقفًا سلبيًا، فإذا عجز عن حماية نفسه تحتم عليه أن يهاجر من هذا البلد الذي لا تُحترم فيه عقيدته إلى بلدٍ آخر يحترم أهله العقيدة، ويمكن فيه إعلان ما يعتقد، فإن لم يهاجر وهو قادر على الهجرة فقد ظلم نفسه قبل أن يظلمه غيره، وارتكب إثمًا عظيمًا، وحقت عليه كلمة العذاب، أما إذا كان عاجزًا عن الهجرة فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وهذا هو القرآن ينص صراحة على ذلك في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا" (النساء: 97- 99).

وقد بلغت الشريعة الإسلامية غايةَ السمو حينما قررت حرية العقيدة للناس عامة، مسلمين وغير مسلمين، وحينما تكفلت بحماية هذه الحرية لغير المسلمين في بلاد الإسلام، ففي أي بلدٍ إسلامي يستطيع غير المسلم أن يعلن عن دينه ومذهبه وعقيدته، وأن يباشر طقوسه الدينية، وأن يقيم المعابد والمدارس لإقامة دينه ودراسته دون حرج عليه.

فلليهود في البلاد الإسلامية عقائدهم ومعابدهم وهم يتعبدون علنًا وبطريقة رسمية، ولهم مدارسهم التى يعلمون فيها الدين الموسوي، ولهم أن يكتبوا ما يشاءون عن عقيدتهم وأن يقارنوا بينها وبين غيرها من العقائد ويفضلوها عليها في حدود النظام العام والآداب والأخلاق الفاضلة, وكذلك حال المسيحيين مع اختلاف مذاهبهم وتعددها، فلكل أصحاب مذهب كنائسهم ومدارسهم، وهم يباشرون عبادتهم علنًا، ويعلمون عقائدهم في مدارسهم ويكتبون عنها وينشرون ما يكتبون في البلاد الإسلامية.

المصدر

قالب:روابط توفيق الشاوى