عبد الرحيم محمود
أحاديث ذات شجون
في 1406هـ 1986م، كنت في زيارة لدار الإخوان المسلمين في عمّان، والتقيت الأخ الدكتور محمد أبو فارس، ودارت أحاديث ذات شجون عن أوضاع المسلمين في العالم، وبخاصة في فلسطين، وكيف أن المخلصين من أبناء فلسطين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل الدفاع عنها، والتصدي للإنجليز واليهود على حد سواء، وأنهم كانوا مدركين لمخططات الأعداء في وقت مبكر وبخاصة بعد المؤتمر الصهيوني بسويسرا سنة 1897م برئاسة هرتزل؛ وصدور وعد بلفور سنة 1917م الذي جاء فيه: «.. إن حكومة ملك بريطانيا تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل أقصى جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية».
وفي سنة 1920م وُضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني لتحقيق هذا الهدف، وعيّن أول رئيس لحكومة الانتداب اليهودي الصهيوني (هربرت صموئيل). وقادة العرب كانوا في شغل عن فلسطين وأهلها.
وفيما نحن نتحدث عن المجاهدين من أهل فلسطين جرّنا الحديث إلى ذكر الشاعر المجاهد عبد الرحيم محمود، الذي كنت أحد تلامذته في المرحلة الابتدائية بمدرسة المقام بالبصرة، حيث كان مدرساً فيها آنذاك عام 1940م، فقال لي د. أبو فارس: إن الشاعر عبد الرحيم محمود كان ذا وعي شديد، وبصر ثاقب بالقضية الفلسطينية، وأنشد بيتين من قصيدة ألقاها أمام الأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود (الملك فيما بعد) الذي كان يزور فلسطين والقدس عام 1935م جاء فيها:
- ضمت على الشكوى المريرة أضلعه
المسجد الأقصى أجئتَ تزوره
- أم جئت من قبل الضياع تودّعه
مولده ونشأته وسيرته
وُلد شاعرنا الشهيد في بلدة «عنبتا» بقضاء طولكرم بفلسطين عام 1913م، وبعد حصوله على الثانوية عمل مدرساً بمدرسة النجاح بنابلس، ثم انخرط في كتائب الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م تحت قيادة البطل عبد الرحيم الحاج محمد الذي قاوم الإنجليز واليهود حتى لقي ربه شهيداً عام 1939م؛
فلاحقت القوات البريطانية رجاله فخرج عبد الرحيم محمود إلى العراق حيث عمل في مدرسة المقام بالبصرة، وكنت من طلاب الصف الرابع الابتدائي فيها في ذلك الوقت، مع مالك المنديل، ومحمد الشعيبي وعبد العزيز الذكير وغيرهم؛
وباعتباره المدرس المشرف على نظام الطابور الصباحي، فقد كان يقدّم الطلاب لإلقاء الخطب والقصائد الحماسية من نظمه أو نظم غيره، وكلها تحثّ على الثورة على الاستعمار البريطاني، وتحرير أوطان العروبة والإسلام من سيطرة النفوذ الأجنبي، وكان يكره الإنجليز واليهود كرهاً شديداً؛
فلا تخلو قصائده وكلماته، ودروسه العربية وأمثلته النحوية، من غمزهم والسخرية منهم وإيغار القلوب ضدّهم، وكثيراً ما كان يقدّمني في طابور الصباح لإلقاء كلمة أو إنشاد قصيدة، وكنت أستعين بابن عمي سعود عبد العزيز العقيل الذي كان يقرض الشعر وهو طالب في المرحلة الثانوية، فألقي بعض قصائده بطابور الصباح ومنها:
في كل يوم لنا نصر به ظفر
لسنا نذل إذا أعداؤنا اعتصبت ولا نهاب إذا أعداؤنا كثروا
بل سيفنا لاعب فيهم كما لعبت أيدي السباع بسرب كله بقر
والإنكليز وحوش البر ضاربة
لكنما العرب أهل الحلم إن قدروا
فيعجب بها الشاعر عبد الرحيم محمود، ويطلب إعادتها لإثارة حماسة الطلبة، ويضيف عليها من شعره ما يلهب المشاعر ويؤجج النفوس لبغض الإنجليز واليهود.
يقول د. جابر قميحة عن الشاعر عبد الرحيم محمود: "عرفته شعراً قبل أن أعرفه شاعراً، فكنا نحن في الابتدائية نتغنى بتلك الكلمات الرنانة القارعة":
- وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق
- وإما ممات يغيظ العدا
ونفس الشريف لها غايتان
- ورود المنايا ونيل المنى
وما لعيش لا عشت إن لم أكن
- مهوب الجناب حرام الحمى
لعمرك إني أرى مصرعي
- ولكن أغز إليه الخطى
أرى مقتلي دون حقي السليب
- ودون بلادي هو المبتغى
لعمرك هذا ممات الرجال
- فمن لام موتًا شريفًا فذا
وكنت أتساءل: كيف (ممات) يغيظ العدا؟ ثم تمر الأيام وأكتشف المعنى الخالد في مثل هذا (الممات) الذي يغيظ الأعداء ويسوؤهم ويزلزل أركانهم، ويقوض بنيانهم» انتهى.
وللشاعر المجاهد عبد الرحيم محمود ديوان شعر طبع بعد استشهاده بإشراف د. كامل السوافيري عدة طبعات سرعان ما نفد من الأسواق لإقبال الناس عليها، ومن شعره قصيدة يقول فيها:
لذويه إلا بالحرابْ
- والصرخة النكراء تجـ
ـدي لا التلطّف والعتابْ
ويقول في أخرى:
وأقم على الأشلاء صرحك إنما
- من فوقه تبنى العلا وتقامُ
واغصب حقوقك قط لا تستجدها
- إن الألى سلبوا الحقوق لئامُ
جهاده في العراق وفلسطين
وحين أَعلنت ثورة رشيد عالي الكيلاني الحرب على الإنجليز في العراق عام 1941م، غادر أستاذنا عبد الرحيم محمود المدرسة وانضم إلى صفوف العراقيين الثائرين ضد الإنجليز الذين سلّموا فلسطين لليهود، فلما فشلت الثورة عاد إلى وطنه فلسطين مدرساً بمدرسة النجاح مرة أخرى.
ولقد ترك غيابه عن مدرستنا فراغاً كبيراً جداً، وتأثر الطلاب على فراقه غاية التأثر، فقد كان محبوباً من الطلاب والأساتذة لصراحته وصدقه وإخلاصه وتدينه وصلاحه وتقواه وشجاعته وغيرته ومروءته.
وبعد قرار تقسيم فلسطين سنة 1947م واندلاع الجهاد مجدداً في فلسطين سنة 1948م ترك أستاذنا مدرسة النجاح وانضم إلى ركب المجاهدين، وتولى قيادة سرية من سرايا فوج حطين، ودخل في معارك مع القوات الغازية، وبخاصة في منطقة بني عامر.
استشهاده
وفي «معركة الشجرة» يوم 13/7/1948م وهي آخر معركة يخوضها البطل المجاهد أصابته شظية من شظايا القنابل اليهودية في عنقه فخر صريعاً مضرجاً بدمه، ولم يمكن إسعافه لتدحرج السيارة التي تحمله أسفل الوادي، فنال الشهادة ولم يبلغ من العمر سوى خمسة وثلاثين عاماً.
لقد ترك أستاذنا القائد الشهيد عبد الرحيم محمود تاريخاً مسطراً بالدماء، وشعراً يفيض بالحماسة، وسيرة عطرة مليئة بالوفاء والإخلاص لأرض الإسراء والمعراج، الأرض المباركة المقدسة التي دنستها أقدام يهود إخوان القردة والخنازير.
نماذج من شعره
ولنستمع إليه وهو يقول:
- فأبو الطيب لا يخشى العوالي
إن تقاعستُ عن الحرب فإني
- مجرم يقعد عن شأو المعالي
غايتي ألقى المنايا عاجلاً
- في مجال العلم أو ساح النضالِ
فابسمي يا أم عبد إنه
- زف للحور وولى وهو عالي
ويقول في أخرى:
وما العيش لا عشت إن لم أكن
- مخوف الجناب حرام الحمى
إذا قلت أصغى لي العالمون
- ودوى مقالي بين الورى
ونفس الأبي لها غايتان
- ورود المنايا ونيل المنى
لعمرك إني أرى مصرعي
- ولكن أغذُّ إليه الخطا
أرى مقتلي دون حقي السليب
- ودون بلادي هو المبتغى
ويقول محذراً شعبه من تقليد الأمور لذوي النفوس الضعيفة:
- تُنكَب بنكبتكَ الشعوبْ
قلّدت أمركَ من بهم
- لا يرجِعُ الحق الغصيبْ
لهفي عليك ألا ترى
- يا شعب حولكَ ما يريبْ؟
كتبوا عنه
وقد كُتبت عنه أطروحة جامعية بعنوان «الشاعر عبد الرحيم محمود» كتبها نافع عبدالله سنة 1979م. كما كَتبَ عنه وليد صادق جرار كتاباً بعنوان (شاعران من جبل النار) سنة 1985م.
وكتب عنه رشيد جبر الأسعد (الشاعر عبد الرحيم محمود بطل معركة الشجرة) سنة 1985م وكتب عنه د. جابر قميحة (الشاعر عبد الرحيم محمود) وكتب عنه حسني جرار في (أدباء من جبل النار) وغيرهم كثير من الكتَّاب والأدباء والدارسين الذين يعرفون قدره وجهاده.
هذا هو شاعرنا ومعلمنا القائد المجاهد والبطل الشهيد عبد الرحيم محمود، المثل الحيّ للشعب الفلسطيني الصابر وتلك بعض مواقفه: عزة نفس، واستعلاء على الزخارف، وإيمان قوي، وشجاعة نادرة، وإقدام جسور، لا يعرف المساومة، ولا يخضع للطغيان، ولا يستجيب للمغريات، ولا يبيع نفسه لقوى الشرق أو الغرب، ولا يستسلم للضغوط ولا تخدعه مواثيق اليهود ولا عهودهم، لأنهم هم المفسدون في الأرض، وقتلة الأنبياء، وكل من والاهم أو عاهدهم، هو منهم وعبد من عبيدهم.
إن الذين باعوا نفوسهم بثمن بخس لليهود، وفرَّطوا في الأرض والعرض وولغوا بدماء الأبطال من شباب فلسطين، وشايعوا اليهود في حرب المجاهدين، لن يرحمهم التاريخ، ولن تسكت عنهم الشعوب، وسيأتي القصاص منهم على أيدي حفدة الأبطال المجاهدين، أمثال عز الدين القسام، وعبد الرحيم حاج محمد، وعبد القادر الحسيني، وعبد الرحيم محمود وإخوانهم الشهداء الأبرار: {ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً} (الإسراء:51).
فهل يذكر الطيب عبد الرحيم سيرة أبيه البطل ويسير على دربه؟ وهل يذكر فيصل عبد القادر الحسيني سيرة أبيه البطل ويسير على نهجه(1)؟ وهل يعود الحق إلى نصابه، ويكون ورثة هؤلاء الأسود رجالاً يجددون سيرة الآباء الصناديد والأبطال المغاوير، والشهداء المؤمنين، الذين رووا بدمائهم ثرى الأرض المباركة ودافعوا عن الأقصى، قِبلة المسلمين الأولى، وثالث المساجد التي تشدّ إليها الرحال.
أملنا بالله جدُّ كبير في الجيل الجديد من أبناء فلسطين الذين آمنوا بأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة وأن المسلمين هم ورثة الأرض وأن لا بقاء لليهود والصليبيين وأعوانهم في ديار المسلمين إذا نحن صدقنا مع الله وأخلصنا النّية له وأخذنا بالأسباب فالنصر آت بإذن الله والله غالب على أمره.