نصر «بلعين»... والقرار الغائب
بقلم : عبد العال الباقوري
هل أتاك حديث بلعين؟
قد تسألني ـ وهذا من حقك: ما بلعين هذه؟
إنها قرية من عشرات ومئات القرى الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، والتي يريد العدو ـ لو استطاع ـ ابتلاعها: أرضاً وسكاناً وتاريخاً.
وقد حققت هذه القرية الصغيرة نصراً محدوداً، كدت أصفه بأنه «نصر صغير»، ثم توقفت لأتساءل ـ وأرجو أن تتساءل معي: هل يجوز وصف النصر ـ أي نصر ـ بأنه «صغير»؟ إن النصر ـ أي نصر ـ تكون قيمته وأهميته المعنوية أكبر من قيمته المادية بكثير.
وفي مدى صراعنا ضد العدو الصهيوني، هناك انتصارات كثيرة من هذا النوع.
يكفي أن نتذكر ـ من تاريخنا القريب معركة رأس العش وإغراق المدمرة إيلات، ومعركة الكرامة. هذه انتصارات لا يجوز وصفها بأنها «صغيرة» إنها ـ في جوهرها ـ كبيرة لو تعلمون.
ولعل هذا ما أدركته صحيفة «معاريف» الإسرائيلية، فتحدثت في الخامس من أيلول (سبتمبر) الجاري بالكلمات التالية: «سكان بلعين ينتصرون على الجيش الإسرائيلي... الدولة خسرت في بلعين» ومع ذلك ليس من الصواب أن نتحدث عن نصر كبير في بلعين، وربما يكون أقرب إلى الدقة أن نتحدث عن «نصر محدود» ولكنه يحمل دلالات مفتوحة غير محدودة، من أهمها أن نستفيد من «نصر بلعين» كي نحقق أكثر من بلعين في الضفة والقدس والجولان ومزارع شبعا.
والإنجاز هنا ليس من الضرورية أن يكون من النمط نفسه الذي حققته بلعين وأهلها المناضلون، الذين حرصوا على أن يستخلصوا أرضهم بأي سلاح متاح وقد نجحوا، عبر معركة امتدت أكثر من عامين، لم يهينوا بها ولم يضعفوا، ولم ييأسوا، ولم يتراجعوا، بل تظاهروا وقاوموا ولم يترددوا في أن يهاجموا العدو بأسلحته مستغلين الفرص التي يتيحها ما تسمى «الديمقراطية الإسرائيلية».
عن طريق لجوئهم إلى «محكمة العدل العليا» في الكيان الصهيوني، ومعتمدين في ذلك على محامين من داخل الكيان الصهيوني نفسه، الذي خطط كي يستولي على أرض هذه القرية الفلسطينية القريبة من رام الله، عن طريق الجدار العنصري.
ولكن أهل القرية وقفوا يناضلون نضالاً سلمياً، إذ شكلوا «اللجنة الشعبية لمقاومة الجدار» ونظمت هذه اللجنة مسيرة أسبوعية، قدمت أشكالاً جديدة ومبتكرة في مواجهة العدو، ومنها تعليق بعض المتظاهرين في مشانق على بوابات الجدار، وسجن آخرين من داخل أقفاص، وبراميل معدنية أمام السياج الشائك وتنظيم مسيرات بالورود والشموع والمعاقين.
وتنقل صحيفة «السفير» اللبنانية في عدد صادر في 31 آب ( أغسطس ) الماضي، عن عضو في اللجنة الشعبية قوله: «اقتحمنا مستوطنة بجانب الجدار، ونمنا في مساكنها، كي نثبت أن أحداً لا يملك الحق في إخراجنا منها و«كل هذه الأفكار» ترهق الجيش الإسرائيلي نفسياً»، خاصة وأن المسيرات الأسبوعية شارك فيها إسرائيليون من معارضي «الجدار» العنصري، كما شارك فيها أجانب من جنسيات مختلفة، مما يكلف العدو الصهيوني حوالي 15 ألف دولار أسبوعياً، ثمناً للقنابل والذخائر التي يستخدمها إلى جانب طعام الجنود وإرهابهم نفسياً، خاصة وأن هناك حوالي عشرة مواقع أخرى تمارس المقاومة بالأساليب التي سلفت الإشارة إليها، وطبعاً للأرقام التي أوردتها «السفير» فإن التكلفة السنوية الإجمالية، تصل إلى حوالي 7 ملايين دولار أميركي: قد يكون المبلغ قليلاً ولا يمثل جزءاً كبيراً من ميزانية العدو العسكرية، ولكن المبلغ ليس في قيمته النقدية، بل يأتي تأثيره على العدو من كونه تكلفة تسببها له قرية صغيرة، اسمها «بلعين».
ولم يقف نضال بلعين عند هذا الحد، بل استكملته اللجنة الشعبية باللجوء إلى محكمة إسرائيلية، أصدرت يوم 4 أيلول ( سبتمبر ) الحالي حكماً بأن «مسار جدار الفصل (عند بلعين) ليس قانونياً ويجب تفكيكه ـ جزء منه على الأقل ـ والنظر في مسار بديل» وأضاف حكم المحكمة أمراً بـ«إعادة النظر في غضون وقت معقول، بمسار بديل يمس بقدر أقل بسكان بلعين. وهذا الحكم يعيد إلى سكان بلعين نصف الأرض التي كانت ستسلب منهم.
وقد تقبل السكان هذا الحكم بفرحة، ورأوه انتصاراً، ولكنهم مصرون على انتزاع باقي أرضهم، وسيواصلون التظاهر أسبوعياً من كل يوم جمعة.ومن المؤكد أن هذا الحكم الجزئي والناقص سيشدد من أزر المقاومين وسيدفعهم إلى المزيد من الإصرار في مواجهة قوات العدو التي سترتخي قبضتها بعد أن رأت أن أساليبها العدوانية لم تحقق هدف الفوز بأرض بلعين كاملة.
وقد جرت في يوم الجمعة (7/9/ 2007 ) مظاهرة النصر التي تحدت وبقوة الغازات المسيلة للدموع والعيارات المطاطية.
ومع ذلك، فقد يدفع حكم المحكمة جنود العدو إلى المزيد من الوحشية والعدوانية في مواجهة المشاركين في مسيرة النصر..
ولكن هذا كله لن يغطي على انتصار بلعين الذي من المؤكد أنه سيتخطى حدود هذه القرية، ويكون زاداً للمقاومين في القرى الأخرى ضد الجدار العنصري الفاصل الذي وصفه تيسير خالد عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بأنه «أخطر مراحل المشروع العدواني التوسعي الذي تتعرض له الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس»، وذلك في بيان له بشأن «نصر بلعين».
وإلى جانب هذا، فإن هذا الحكم القضائي الإسرائيلي يجب أن يعيد إحياء «الرأي الاستشاري» الذي أصدرته «محكمة العدل الدولية» ـ وهي أحد فروع الأمم المتحدة ـ في التاسع من تموز ( يوليو ) 2004 ، واعتبرت فيه «الجدار» غير شرعي ومخالف للقانون الدولي.
وطالبت إسرائيل بوقف بنائه، وطالبت بتعويض جميع المتضررين الفلسطينيين.
كما رأت المحكمة الدولية أن «الجدار» يعيق حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وأن بناءه يعد ضماً فعلياً للأرض ووصفت المستوطنات الإسرائيلية بأنها انتهاك للقانون الدولي.
وفي دورة استثنائية، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة «حكم» محكمة العدل الدولية بأغلبية 144 عضواً، ومعارضة 4 أعضاء فقط، وامتناع 12 عضواُ عن التصويت ـ ومع ذلك، فقد جرى إلى اليوم تجاهل بل «تغييب» هذا «الحكم» التاريخي ـ الذي أقر ـ طبقاً لقواعد القانون الدولي ـ عدم شرعية الاحتلال والأوضاع الناشئة عنه ، ومن ثم يجب إعادة الاعتبار ـ من الجانب الفلسطيني والعربي ـ إلى الرأي الاستشاري للمحكمة الدولية والذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة التي طالبت الأمين العام بإنشاء «سجل للأضرار التي لحقت بجميع الأشخاص الطبيعيين أو الاعتبارين المعنيين» فيما يتعلق بفقرتين من فتوى المحكمة الدولية، كما قررت العودة إلى الانعقاد لتقييم مدى تنفيذ هذا القرار، بهدف إنهاء الحالة غير القانونية الناشئة عن تشييد «الجدار» والنظام المصاحب له في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية».
وفي 30 حزيران ( يونيو ) 2004 ، أصدرت «محكمة العدل العليا» الإسرائيلية قراراً بتغيير مسار الجدار العازل في منطقة القدس...
وهي سابقة لا شك أن المناضلين في بلعين قد اهتدوا بها، بينما تمكنت الدبلوماسية العربية من تغييب فتوى محكمة العدل الدولية، ولم تسع السعي الواجب لتوظيف هذه الفتوى في عمل منسق ومنسق قانونياً ودبلوماسياً فعالاً على المستوى الدولي من أجل إيقاف خطط العدو لاستكمال الجدار العنصري وإزالة ما تمت إقامته منه.
أليس هذا أجدى وأنفع من تقاتل الأخوة الأعداء من فتح و حماس ، وهل أتاح لهما صراعهما أن يسمعا عن «نصر بلعين» وأن يبحثا كيف تتم الاستفادة منه اليوم وغداً، خاصة وأن هذا العنصر البسيط والمهم قبل حوالي شهرين من «الاجتماع الدولي» الذي دعا إليه الرئيس الأميركي الذي صدع أدمغتنا بحديث نشر الديمقراطية في الوطن العربي وبحديث مكافحة «الإرهاب» فهل وصل إلى أسماعه وأسماع إدارته هذا النصر الديمقراطي الذي تم بوسائل وأساليب سلمية تبطل اتهاماته للنضال الوطني الفلسطيني الذي يعتبره «إرهاباً» ثم هل سمع بهذا النصر من دعوا منذ سنوات إلى عدم عسكرة الانتفاضة، ونسوا أن قضيتهم لها شرعية خاصة تتيح لجميع الفلسطينيين استخدام كل سلاح متاح، لأنه مباح شرعاً وقانوناً ودفاعاً عن الشعب والأرض.
هل يمكن أن تطرح بلعين وتجربتها من قاعات مؤتمر بوش؟
وحتى ذلك اليوم وبعده، فإن أهل بلعين قرروا استمرار النضال والمقاومة، فتحية لهم، تحية لوقفتهم المجيدة ونصرهم الجميل الذي يوجب إخراج الرأي الاستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية من الأدراج وإدراجه من جديد على جدول الأعمال الفلسطيني.#
المصدر
- مقال:نصر «بلعين»... والقرار الغائبالمركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات