وقفة في رحاب الشهادة والشهداء
د. توفيق الواعي
الحديث عن الشهداء له رهبة في النفس، ووجل في القلب، وخشية في الضمائر؛ لأنهم أصحاب نفوس سمت فوق الشهوات، وتعالت على حظوظها، وباعت أرواحها لله سبحانه، ووهبت حياتها لأوطانها وديارها فداءً لعزة المسلمين، وحفظًا لأعراضهم ودمائهم.. فهم رجال مبادئ وقيم، لا رجال مناصب وكراسي وأطماع، أرادوا لمبادئهم أن تسود ولأفكارهم أن تعلو وتسمو وتستقر، وتحيا أبد الدهر مرفوعةًَ سامقةًَ.
وحياة المبادئ- كما يقرر العارفون- ترتبط بعطاء أصحابها؛ فهي تعلو بتضحياتهم، وتسري في دنيا الحقيقة بمقدار ما يبذل في سبيلها من نفوس صادقة وجهود مخلصة، ودماء زكية متدفقة؛ ذلك لأن المبادئ والأفكار تبقى جثثًا هامدة حتى يستشهد أصحابها في سبيلها، فتحيا وتعظم وتكون حقيقة ماثلة في واقع الناس، تتعملق وتسود وتقود.
ومن يكتب عن حياة الشهداء يُحِسُّ أنه يسطر أفضل ما دُوِّن، وأنبل ما كُتب، وأعظم ما قرئ، وأجل ما ذكر؛ لأنهم أغلى الناس، وأخلص البشر، وأصدق الخلق، لهم عبق الفردوس، وروائح الجنان، وأريج الحور العين.. نعم؛ لأنهم نودوا إلى الواجب فلبوا، وإلى الجهاد فسارعوا، وإلى التضحية فركضوا إلى الله بغيرِ زادٍ إلا التقى وعمل المعاد، ولم يصابوا بالوهن أو يتلوثوا بالخنوع والكسل رغم ما يحيط بهم من موات، ويخالطهم من ضياع، ويتربص بهم من عدو، ويلاحقهم من أنظمة، ويطاردهم من سلطات عميلة ومنحلة فاسدة، تفتح لهم السجون، وتقضي عليهم بالاغتيال تارة، وإرشاد العدو إلى عوراتهم تارة أخرى.
قاتلوا عدوهم ولا ظهر لهم أو ظهير، ولا سند لهم أو معين، في أرض زرع فيها الجواسيس، كما تزرع الحنطة، وربيت فيها العملاء كما تربي الحيات والثعابين والعقارب.. قاتلوا العدو الصهيوني وليس معهم سلاح، قاتلوه بالأيدي وبالحجارة وبالمدى، وبما يصل إلى أيديهم مما يستخلص من أيدي الأعداء من سلاح، قاتلوا بغير دبابات، ولا مدافع أو رواجم أو سيارات مصفحة، قاتلوهم عاري الصدور، خاوي البطون، وتحت أزيز الطائرات ورواجم الصواريخ، قاتلوهم والبيوت تهدم على رءوسهم، والحصار ينهك قواهم، قاتلوهم وأمة المليار ونصف المليار تنظر إلى ما يفعل باليتامي والأرامل، والعجزة، ولا نكير ولا معين، قاتلوهم ووراء اليهود أعتى دولة، وأقوى الشعوب، والإمدادات تنهمر ليلاً ونهارًا على الصهاينة، وقد مات الضمير العالمي، وسقطت كل أقنعة الزيف والبهتان، ودعاوى حقوق الإنسان، وقد بدت أنياب ذئاب أدعياء الحضارة الكاذبة للعيان وهي ملوثة بدماء الضحايا الأبرياء أو العزل.
وقد توارت كلمات البهتان التي تردد هنا وهناك عن الرقي والسلام والرأفة ببني الإنسان، ولم يمل دعاة الكذب والخداع من وصف المدافعين عن أنفسهم بالإرهاب ومفرداته، وكأن ما يفعل بالأبرياء في فلسطين هو السلام والعدالة وحكم القانون، وكأن "شارون" وزعماء الصهاينة، هم رسل السلام وحماة العدالة وحقوق الإنسان.
وأدعياء الحضارة اليوم لهم جيوب وليس لهم قلوب، ولهم أطماع وليس عندهم أخلاق، ولهم مخالب وليس عندهم رحمة، وعندهم قوة بلا ضمير ولا عقل، فينبغي أن تعرف حقيقتهم بغير دخل أو خداع، وتدرك مراميهم بدون تيهٍ أو سذاجة، ويقدر لكل شيء قدره، ويعد لكل أمر عدته، وصدق الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ (النساء: 71)، ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (المنافقون: 4).
وبعد، أما آن للشعوب أن تصحح المسيرة وتعدل الميزان، وتأخذ زمام المبادرة، وقد كانت قومة الشعوب بعد استشهاد الشيخ "ياسين" دليلاً صارخًا على أنها تملك حسًّا وعقلاً وإرادة، كما كانت قومتها استفتاء على خيار المقاومة وعلى ضرورة الجهاد والكفاح حتى تسترد الأمة كرامتها وعزتها.
كما كان استشهاد الشيخ "ياسين" مثلاً صارخًا على أن هذه الأمة ما زالت قادرة على إخراج الأبطال، وعلى ضرب الأمثلة في الكفاح تحت أقسى الظروف والأحوال، ورغم أزمنة الإفلاس العسكري، والعهر السياسي والنفاق الاجتماعي، ويبقى الإيمان هو الأقوى، فرجل على كرسي متحرك، وبأطراف مشلولة يدوخ أعتى الدول؛ ولكنه كرسي رجل بطل بفكره وإيمانه، ملأ الدنيا بعطائه، وأضاء شعلة الجهاد بصموده:
كرسيُّك المتحركُ اختصرَ المدى وطوى بكَ الآفاق والأزمَانَا
علَّمته معنى الإباءِ فلم يكن مثل الكراسي الرَّاجفاتِ هوانَا
معك استلذ الموت، صار وفاؤه مثلاً وصار إباؤه عنوانَا
أشلاء كرسي البطولة شاهد عدل يدين الغادر الخوانَا
فَشَتَّان بين أشل مقعد يحيي أمة، وبين أحياء بيدهم مقدرات الشعوب، يميتون أممًا، شتان بين من يضحي بنفسه من أجل تحرير المقدسات، وبين من يضحي بها ليثبت كرسيه وعرشه.. إن أفواج الشهداء في هذا العصر قد قطعت الطريق على كل جبان مرتعد الفرائص، ونادت الأمة أن هلموا إلى المجد، فهذا هو الطريق، إنهم يقذفون بأنفسهم على الباطل فإذا هو زاهق، وعلى العدو فإذا هو مرتعد الفرائص ورعديد جبان، وهذا دليل ساطع وعنوان أكيد على أن البطولة جذابة، والشجاعة منادية وأخَّاذة، وشباب الأمة فيهم الخير وعلى محياهم النصر، وستظل دماء الشهداء باعثة ودافعة وعاملة في الأمة، وصدق الله: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 7).
فطوبى لهؤلاء الشهداء بنصر الله- إن شاء الله- وطوبى للأمة بهم، فهم مفاتيح الخير إن شاء الله، والأمة على آثارهم، وطوبى لمن جعله الله مفتاحًا للخير، مغلاقًا للشر، وويل لمن جعله الله مفتاحًا للشر، مغلاقًا للخير، نسأل الله السلامة، والنصر المبين.. آمين.
- ينشر بالاتفاق مع مجلة (المجتمع) الكويتية.
المصدر
- مقال:وقفة في رحاب الشهادة والشهداءإخوان أون لاين