الفرق بين المراجعتين لصفحة: «أمين هويدي مع عبد الناصر»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
(أنشأ الصفحة ب'===الفصل السابع:الظروف والعوامل=== التحالف الرهيب بين الاستعمار والرجعية فلسطين ضرورة لأمن [[...')
 
لا ملخص تعديل
سطر ٣: سطر ٣:
التحالف الرهيب بين الاستعمار والرجعية [[فلسطين]] ضرورة لأمن [[مصر]] الاستعمار يحاول التطويق المجتمع المصري يقع تحت ضغطين رئيسيين الخلل في الملكية والخلل في التمثيل النيابي  علاقات غير متوازنة بين طبقات المجتمع الجيش لا يملك السلاح والعتاد الضغوط الخارجية والداخلية النكسة .
التحالف الرهيب بين الاستعمار والرجعية [[فلسطين]] ضرورة لأمن [[مصر]] الاستعمار يحاول التطويق المجتمع المصري يقع تحت ضغطين رئيسيين الخلل في الملكية والخلل في التمثيل النيابي  علاقات غير متوازنة بين طبقات المجتمع الجيش لا يملك السلاح والعتاد الضغوط الخارجية والداخلية النكسة .


تحدثنا حتى الآن عن " مفاتيح شخصية [[عبد الناصر]] " في معرض حديثنا عن " [[عبد الناصر]] واتخاذ القرار " وبذلك نكون قد استكملنا أحد وجهي الموضوع وبقي أن نتحدث عن الظروف التي عاش فيها وقت إصداره لقراراته حتى نجلو الوجه الآخر إذ لا يمكن تقييم أى قرار إلا بوضعه داخل إطار الظروف التي اتخذ لمواجهتها أو التي عاش فيها فأثرت عليه وتأثر  بها.
تحدثنا حتى الآن عن '''"مفاتيح شخصية [[عبد الناصر]]"''' في معرض حديثنا عن '''"[[عبد الناصر]] واتخاذ القرار"''' وبذلك نكون قد استكملنا أحد وجهي الموضوع وبقي أن نتحدث عن الظروف التي عاش فيها وقت إصداره لقراراته حتى نجلو الوجه الآخر إذ لا يمكن تقييم أى قرار إلا بوضعه داخل إطار الظروف التي اتخذ لمواجهتها أو التي عاش فيها فأثرت عليه وتأثر  بها.


فالقرار لم يكن في يوم من الأيام مجرد عملية حسابية صماء ولكنه إجراء معقد أشد التعقيد وتفسير ذلك أن اتخاذ القرار إجراء يمر بمراحل كثيرة متتابعة ومتداخلة أكثرها تحدث في المحيط المعنوي للمشكلة وأقلها يجرى في المحيط المادي لها ..
فالقرار لم يكن في يوم من الأيام مجرد عملية حسابية صماء ولكنه إجراء معقد أشد التعقيد وتفسير ذلك أن اتخاذ القرار إجراء يمر بمراحل كثيرة متتابعة ومتداخلة أكثرها تحدث في المحيط المعنوي للمشكلة وأقلها يجرى في المحيط المادي لها ..


والجانب المادي من السهل تقديره وتحديده بدقة وربما يحتاج إلى عمليات حسابية دقيقة للوصول إلى نتيجة أقرب ما يمكن للصواب ولكن الجانب المعنوي يضيف إلى مشكلة اتخاذ القرار عاملين هامين : الأول منهما يتعلق بالمخاطرة والعامل الثاني هو التكهن والاستنتاج .
والجانب المادي من السهل تقديره وتحديده بدقة وربما يحتاج إلى عمليات حسابية دقيقة للوصول إلى نتيجة أقرب ما يمكن للصواب ولكن الجانب المعنوي يضيف إلى مشكلة اتخاذ القرار عاملين هامين:الأول منهما يتعلق بالمخاطرة والعامل الثاني هو التكهن والاستنتاج .


والمخاطرة لازمة من لوازم القار ولابد من التفريق بينهما وبين المقامرة فللمخاطرة أسسها وقواعدها  التي ربما تصيب وربما تخطئ أما المقامرة فهي مجرد ضربة حظ تتعلق بالقدر ولا تبني على أساس من العقل والتدبر.
والمخاطرة لازمة من لوازم القار ولابد من التفريق بينهما وبين المقامرة فللمخاطرة أسسها وقواعدها  التي ربما تصيب وربما تخطئ أما المقامرة فهي مجرد ضربة حظ تتعلق بالقدر ولا تبني على أساس من العقل والتدبر.


أما التكهن فيحتاج غلى معرفة والعلم والمعلومات إلى جنب القدرة على الخيال والتصور فيكون بذلك قادرا على اختراق الضباب الذي يغلف المواقف نتيجة للإرادات المتصارعة التي لا يمكن تحديد اتجاهاتها تحديدا قاطعا والمعلومات المتضاربة التي تختلط فيها الحقيقة بالزيف ويمتزج فيها الوضوح بالغموض .
أما التكهن فيحتاج غلى معرفة والعلم والمعلومات إلى جنب القدرة على الخيال والتصور فيكون بذلك قادرا على اختراق الضباب الذي يغلف المواقف نتيجة للإرادات المتصارعة التي لا يمكن تحديد اتجاهاتها تحديدا قاطعا والمعلومات المتضاربة التي تختلط فيها الحقيقة بالزيف ويمتزج فيها الوضوح بالغموض .


ولنضرب مثلا واحدا نقرب به ما نقول إلى  الأذهان .فإذا كن الجانب المضاد مثلا لديه 4 دبابات فالجانب المادي لمواجهة ذلك يبني على أساس أن التعامل سيكون فعلا مع الدبابات الأربع ولكن الجانب المعنوي يمكن أن يجعل التعامل مع دبابتين وربما ثماني !!  
ولنضرب مثلا واحدا نقرب به ما نقول إلى  الأذهان .فإذا كن الجانب المضاد مثلا لديه 4 دبابات فالجانب المادي لمواجهة ذلك يبني على أساس أن التعامل سيكون فعلا مع الدبابات الأربع ولكن الجانب المعنوي يمكن أن يجعل التعامل مع دبابتين وربما ثماني !!  


إذ سوف يدخل في العملية الحسابية عوامل أخرى غير ملموسة  مثل جودة الدبابة من الناحية الفنية , مدى المدفع , القدرة على المناورة, السرعة , درجة الرؤية المتيسرة في الضبابا أو الليل نتيجة لاستخدام الأشعة تحت الحمراء مثلا درجة تدريب الأفراد , مهارة القيادة الروح المعنوية , الإيمان بالغرض , القدرة على التصرف أمام المواقف المفاجئة ... الخ ... هذه العوامل غير محسوسة ولكنها تؤثر تماما عند اتخاذ القرار .  
إذ سوف يدخل في العملية الحسابية عوامل أخرى غير ملموسة  مثل جودة الدبابة من الناحية الفنية مدى المدفع ،القدرة على المناورة،السرعة ،درجة الرؤية المتيسرة في الضبابا أو الليل نتيجة لاستخدام الأشعة تحت الحمراء مثلا درجة تدريب الأفراد ،مهارة القيادة الروح المعنوية ،الإيمان بالغرض ،القدرة على التصرف أمام المواقف المفاجئة ... الخ ... هذه العوامل غير محسوسة ولكنها تؤثر تماما عند اتخاذ القرار .  


إذ لو أن صاحب القرار تناساها  فإنه سيتعامل في واقع الحال مع ظروف أخرى لم يضعها في حسبانه ويصبح قراره بذلك لا يتعامل مع واقع ويكون أقرب إلى  السهم الطائش لا يصيب هدفا ولا يحقق غرضا .
إذ لو أن صاحب القرار تناساها  فإنه سيتعامل في واقع الحال مع ظروف أخرى لم يضعها في حسبانه ويصبح قراره بذلك لا يتعامل مع واقع ويكون أقرب إلى  السهم الطائش لا يصيب هدفا ولا يحقق غرضا.وبعد هذه المقدمة السريعة يمكن أن نتحدث عن الظروف التي عاش  فيها [[عبد الناصر]] وهو يتخذ قراراته ..


وبعد هذه المقدمة السريعة يمكن أن نتحدث عن الظروف التي عاش  فيها [[عبد الناصر]] وهو يتخذ قراراته ..
كان المناخ الذي ولدت فيه [[ثورة 23 يوليو 1952|ثورة يوليو]] تموز [[1952]] يتميز بالتحالف الرهيب بين الرجعية والاستعمار واستمر الرجل إلى آخر يوم في حياته يخوض معركة ضارية ضد ذلك الحلف الذي شكل قوة ضاغطة مستمرة أثرت إلى قراراته وأجبرته على أن يخوض معركة تلو الأخرى دون أن تترك فرصة  لالتقاط الأنفاس ...


كان المناخ الذي ولدت فيه [[ثورة 23 يوليو 1952|ثورة يوليو]] – تموز [[1952]] يتميز بالتحالف الرهيب بين الرجعية والاستعمار واستمر الرجل إلى آخر يوم في حياته يخوض معركة ضارية ضد ذلك الحلف الذي شكل قوة ضاغطة مستمرة أثرت إلى قراراته وأجبرته على أن يخوض معركة تلو الأخرى دون أن تترك فرصة  لالتقاط الأنفاس ...
ويقول بعض '''"السذج"''' إنه كان على '''"[[عبد الناصر]]"''' تجنب المواجهة ومفاداتها ...ولا أظن أن الرجل كان يطلب غير ذلك إذ لم يكن يريد حريا ولا كان يسعي إلى قتال .. بل حاول جهده أن يتفاهم بالحسني دون جدوى وأمضي السنوات الأولي للثورة في محاولاته تلك فكان يخرج من طريق مغلق إلى طريق مسدود دون أن يجد صدى لمحاولاته تلك.


ويقول بعض " السذج" إنه كان على " [[عبد الناصر]]" تجنب المواجهة ومفاداتها ...
كان البديل لذلك  '''"الاحتواء"''' والدخول في '''"مناطق النفوذ"''' وهذا أمر لم يقبله .وهنا اختلطت شخصيته '''"لثورية"''' بالظروف الضاغطة وتفاعلت معها ورفضتها وأصبح من المحتم عليه أن يتحرك ليكسر الطوق قبل أن يطبق عليه إذ أن أخطر ما يصيب الثورة هو حالة الجمود التي تدفع إليه أو حالة الاستسلام التي تجر إلى الوقوع في حبائلها .


  ولا أظن أن الرجل كان يطلب غير ذلك إذ لم يكن يريد حريا ولا كان يسعي إلى قتال .. بل حاول جهده أن يتفاهم بالحسني دون جدوى وأمضي السنوات الأولي للثورة في محاولاته تلك فكان يخرج من طريق مغلق إلى طريق مسدود دون أن يجد صدى لمحاولاته تلك.
تلوم [[عبد الناصر]] على محاولاته تلك وربما تجاوزت اللوم إلى حدالاتهام . ولكنها لم تحاول ولو مرة وحدة أن تتحدث عن محاولات الرجعية والاستعمار مع الثورة وقئدها من يوم أن ولدت حتى تصيدتها في [[يونيو]] حزيران [[1967]] ولم تحاول ولو مرة واحدة أن تقترح البديل الذي كان على [[عبد الناصر]] إتباعه والسير فيه .
 
ثم وجد '''"[[عبد الناصر]]"''' ضمن ما وجد من '''" مخلفات"''' مشكلة [[فلسطين]] فالأنظمة العربية قبل [[ثورة 23 يوليو 1952|ثورة يوليو]] تموز [[1952]] هي المسئولة عن خلق إسرائيل '''"الدولة"''' بعد أن فشلت في مقاومة إسرائيل '''"الفكرة والحلم "''' .
 
ف[[عبد الناصر]] لم يكن مسئولا عن خلق المشكلة بل كانت المشكلة إحدى الأسباب التي دفعته إلى الثورة . وعلى أى حال فلن نستطرد أكثر من ذلك إذ لسنا في موقف نحدد فيه المسؤوليات ثم لم تعد هناك فائدة من البكاء على اللبن المسكوب .
 
وكن المؤمل أن يتعلم حكام العرب كم درس [[1948]] ويحاولوا ولو لمرة واحدة أن يتحدوا أمام الخطر الداهم الذي  أصبح جاثما وسط الدار ولكن الكثيرين منهم رأوا ن الثورة أخطر عليهم وأكثر تهديدا لبقائهم فقاموا يحاربونها بكل ما وهبهم الله من قوة وثروة .
 
ويقول '''"السذج" و"المغرضون"''' الذين يقيمون الأحداث الآن إنه كان على [[عبد الناصر]] أن يترك [[فلسطين]] في ذمة التاريخ لنتفرغ لأحوالنا ومشاكلنا وإنه كان على الرجل أن يقفل عليه حدوده وبذلك يتفادى الصدم مع إسرائيل ويجنب [[مصر]] تلك الحروب التي خاضتها .
 
ولكن... هل تحرشت [[مصر]] بإسرائيل حينما قامت بغارتها الوحشية في غزة وأتبعتها بغاراتها في مناطق عديدة بعد ذلك ؟ هل تحرشت [[مصر]] بإسرائيل حينما انضمت الأخيرة إلى بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على [[مصر]]  عام [[1956]] ؟
 
لا نقول ذلك لتدبير حروب [[عبد الناصر]] فهي حروب عادلة لا تحتاج إلى تبرير إذ خاضها لكي يدفع العدوان أو هكذا كان يحاول ويتمني ذلك لأن أبسط قواعد الأمن القومي تشير إلى أن '''"[[فلسطين]]"''' هي من ضرورات '''"الأمن المصري"''' منذ عصور الفراعنة ووجود دولة معادية هناك فيه تهديد قاتل '''"لأمن [[مصر]]"'''
 
إذن فسلامة [[فلسطين]] من ضروريات الأمن المصري إذا صح هذا التعبير إذ لا يوجد ما يسمي '''"بالأمن المصري"''' المنفرد عن '''"الأمن العربي"''' فلا أمن ل[[مصر]] دون العرب ولا أمن للعرب دون [[مصر]] .
 
وكان الاستعمار يربض في كل مكان من أركان العالم العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي لتنفيذ إستراتيجية '''"التطويق"''' على طريق إقامة القواعد العسكرية على الساحة كلها .. قاعدة قناة [[السويس]] عدن منطقة الخليج ،الظهران ،الحبانية ،الشعبية ،هويلس ،بنزرت ،[[الجزائر]] [[المغرب]] ... كانت القواعد كالإخطبوط الذي يخنق كل حركة وطنية.
 
واعتبر [[عبد الناصر]] العربي عن حق أن معركة استقلال [[مصر]] هي جزء من معركة الاستقلال العربي فالمعركة واحدة متصلة إذ أن الأمن واحد والمستقبل واحد والعدو واحد والمصير واحد هكذا تقول لنا الخريطة وهكذا يقول لنا الواقع
 
'''وهكذا يقول لنا الدين:'''
 
:"إن القدر لا يهزل وليست هناك أحداث من صنع الصدفة ولا وجود  يصنعه الهباء .. ولن نستطيع أن ننظر إلى خريطة العالم نظرة بلهاء لا ندرك بها مكاننا على هذه الخريطة ودورنا يحكم هذا المكان ... أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا أن هذه الدائرة منا ونحن منها  امتزج تاريخنا بتاريخها وارتبطت مصالحنا حقيقة وفعلا لا مجرد كلام "
 
واستمر [[عبد الناصر]] يتحدث في '''" فلسفة الثورة"''' عن الدائرة الأفريقية والدائرة الإسلامية حديثا أخذا في  الاعتبار مركز [[مصر]] على خريطة العالم ولست أدرى  كيف يمكن لبلد من البلدان كتب عليه أن يكون في هذا  الموقع الحيوي أن يقفل على نفسه؟
 
كيف يمكن ل[[مصر]] أن تقفل عيونها حى لا ترى ما حولها ؟ أو تجمد أحاسيسها حتى لا تحس الأخطار  التي تحدق بها ؟ بل لو  أننا سلمنا جدلا أن [[مصر]] أقفلت عيونها وسدت آذانها وجمدت أحاسيسها فهل هذا يحول بين المتربصين وبين أن يقرعوا الأبواب ويقتحموا النوافذ؟
 
ولو سلمنا جدلا أنه بإمكاننا أن ننتقص من قدرنا ومكاننا فكيف  نضمن أن غيرنا سيشاركنا هذا التقييم في سبيل سعيه لتحقيق أمنه ومصالحه ؟ أننا جزء من منطقة نعيش فيها .. والمنطقة جزء من عالم متسع  تدور فيه  الأحداث وتتصارع فيه الإرادات والسياسية أخذ وعطاء ولذلك نجد ن الرجل أعطي ف سخاء لثورة  [[الجزائر]] وللمغرب ولليمن الشمالي والجنوبي العربي؛
 
فأزليت القواعد وتحررت الإرادات ولذلك ضرب [[عبد الناصر]] عام [[1956]] لأن '''"القضاء على ثورة [[الجزائر]] لن يتم إلا عن طريق [[القاهرة]]"''' وعادوا فوجهوا إليه الطعنة النجلاء عام [[1967]] لأن '''"القضاء على الثورة العربية لن يتم إلا عن طريق [[القاهرة]] أيضا"'''.
 
وبالرغم من ذلك فإن البعض يوجه إليه اللوم  الثقيل بعد أن مات وكأن ما لاقاه من عداوة ومقاومة قبل أن يموت لم يكن فيه الكفاية ...فمن قاومه قبل أن يموت ومن شرحه بعد أن مات كلاهما كان يطلب منه أن يريح ويستريح .
 
ولكن كان هذا مستحيلا إذ لو توفرت له الرغبة فإن ما كان من الممكن أن تتوفر له القدرة لأن العدوان يدق الأبواب وينساب من النوافذ ويتسرب من الفجوات فلا هو يدع النائم في نومه ولا هو يدع المتيقظ يهنأ بتيقظه . فهو في حركة دائمة ونحن دائما أهدافه التي يسعي إلى السيطرة عليها لابتلاعها  لعلها تسد شيئا من أطماعه .
 
'''وكان المجتمع المصري يقع تحت ضغطين رئيسيين:'''
 
:الضغط الأول كان يتمثل في أنه مجتمع بطئ النمو والضغط الثاني كان يتمثل في أن المجتمع كان يعيش في حالة خلل مخزن وتناقص خطير في العلاقات التي كانت تنظم حركة المجتمع .
 
:ومن ناحية الضغط الأول وهو بطئ نمو المجتمع فإنه طبقا للإحصائيات العلمية الدقيقة كان المجتمع قد وصل إلى حالة ركود تكاد تكون تامة خلال أربعين سنة ما بين عام 1913 إلى عام 1953 ففي تلك الفترة كان معدل النمو لا يزيد في المتوسط عن واحد ونصف بالمائة سنويا وهي نسبة نمو كانت الزيادة في عدد السكان تستوعبها .
 
:أما من  ناحية الضغط الثاني فكان يتمثل في التفاوت الخطير بين الطبقات فكان واحد ونصف بالمائة من السكان يحصلون على نصف الدخل القومي علاوة على أن الملكية من الأراضي الزراعية  كانت قد تركزت في يد القلة المالكة التي كانت تتحكم في الأغلبية من الإجراء ثم كانت ثروات [[مصر]] ليست ملكا لأبنائها فكل المرافق الحيوية كانت في أيدى الشركات الأجنبية مثل قناة السويس والسكك الحديدية وخطوط الترام ومرافق الكهرباء والمياه والبنوك والصناعات ومساحات كبيرة من الأراضي الزراعية ..
 
وكان العلاج تحت ضغط تلك الظروف ليس مجرد استرداد الثروات إلى ملاكها الحقيقيين عن طريق التمصير والتأميم وإنما كان إلى جانب ذلك إضافة وتوسيع بدأها مجلس الإنتاج بعد شهور من قيام الثورة ثم أشرف عليها بعد وزارة الصناعة التي أنشئت منذ عام [[1956]] والتي قمت تحت ظروف الحصار الاقتصادي الذي أعقب حرب [[السويس]] بوضع خطة ثلاث سنوات للصناعة مهدت لخطة التنمية الشاملة بعد ذلك؛
 
والتي بلغ فيها معدل النمو زيادة سنوية قدرها ستة ونصف بالمائة وأثناءها دخلت [[مصر]] مرحلة الصناعة الثقيلة رغم تعقيداتها وبطء مردوده بهدف الاقتراب من أجل الاعتماد على النفس بقدر الإمكان من جانب ولتغيير التكوين الاجتماعي من جانب آخر بنقل فائض العمالة في قطاع الزراعة إلى قطاع الصناعة للتغلب على مشكلة البطالة المقنعة الموجودة في قطاع الزراعة .
 
وترتب على هذا الخلل في الملكية خلل آخر في التمثيل النيابي إذ لا مندوحة أن تتكون في ظل هذا النظام المالي ديكتاتورية برلمانية تكون انعكاسا طبيعيا للسيطرة الاقتصادية فكانت هناك مجالس  نيابية يجتمع فيها نفس الفئة المتحكمة في الأرض وسوق المال .
 
وبذلك تكون إقطاع سياسي إلى جانب الإقطاع الاقتصادي ولم يكن عجيبا بعد ذلك أن تلك المجالس لم تتحدث إلا نادرا عن مصالح الجماهير الكادحة وعن ضرورة تذويب الفوارق بين الطبقات ..وكانت تلك المجالس غطاء زائفا للحرية إذ أنها كانت توفر حرية الطبقة المتحكمة والحاكمة في نفس الوقت أما  الحرية التي ترتبط بلقمة العيش فكان التحدث فيها محرما وممنوعا إلى أن جاء [[عبد الناصر]] ليبدأ في تساؤله الملح عن معني الحرية ؟"
 
فما هي الحرية بالنسبة للرجل الذي لا يجد لقمة العيش لأولاده في الليل؟ إن الحرية بالنسبة له ليست إلا أن يجد لقمة العيش لأولاده .. الحرية بالنسبة للفلاح الذي يشتغل عبدا في الأرض هي أن يكون حرا ويكون سيد نفسه .. الفلاح الذي يطرده  صاحب الأرض من أرضه هو ومتاعه وعائلته لأنه لا يطيع الأوامر  ولا يقبل أن يكون  رقيقا أو عبدا  و خادما مطيعا ... إن الحرية عنده أن يكون مطمئنا على حياته ومستقبله .. والحرية بالنسبة للعامل الذي يفصل في كل وقت والذي لم يكن مطمئنا على عمله ومطمئنا على  مستقبله .
 
كان من الواضح لنا بعد الدروس التي أخذناها في السنين الماضية أننا إذا أردنا أن نقيم الديمقراطية يتحكم فيها المستغلون وإنما كنا نعنى ديمقراطية الشعب فالحرية لا تنفصل عن الرزق والمساواة لا تنفصل عن الحرية ولا يمكن أن يكون هناك حرية بدون مساواة ويكون هناك أناس مميزون ولهم الحق في كل شئ وأناس آخرون محرومون من كل شئ .
 
وكان [[عبد الناصر]] كما سبق أن ذكرنا في مفاتيح شخصيته قد نشأ في أسرة فقيرة وعاش الجو الذي عاد ليتحدث عنه ويعالجه وهو في الحكم ورأى مهزلة المجالس النيابية ولمس تحكم الإقطاع في الحياة السياسية ولعله تأثر بكل ذلك حينما ألقى يثقله على الحرية الاجتماعية أحد جناحي [[الديمقراطية]] كما كان يقول فنالت منه رعاية كبيرة فاقت رعايته للجناح  الآخر من الديمقراطية وهو الحرية السياسية .
 
وانعكس خلل  الملكية على العلاقات التي كانت تتحكم في حركة المجتمع فأوجدت تناقضا خطيرا بين الحقوق والواجبات .. فالحقوق كلها للقادرين والواجبات كلها على الكادحين ..
 
فالتعليم مثلا وهو حق مشروع للجميع كان قاصرا على طبقة خاصة قادرة على مواجهة تكاليفه وكان العلاج وهو حق من الحقوق قاصرا على الطبقة القادرة على دفع نفقاته وكان العمل متاحا فقط للطبقات المميزة إلا الأعمال الدنيا فتركت لطبقاتها لا عن رغبة وزهد ولكن عن تعفف وازدراء.
 
وكان المسكن اللائق من المناطق المحرمة التي لا يجوز  للطبقات الكادحة حتى أن تفكر فيه حتى الحذاء كان مجرد أمل بالنسبة لكثير من الفلاحين والعمال الذين كانوا يهيمون في حقولهم  ومصانعهم بجلابيبهم الزرقاء المشهورة وهم حفاة.
وفي الوقت الذي حرمت فيه الغالبية من حقوقها كان عليها واجبات خطيرة من المحتم أن تقوم بها ... فالتصويت في الانتخابات واجب عليه لكي توفر الغطاء الشكلي لدفع ممثلي الطبقة المتحكمة فيهم إلى قاعات البرلمان ليكرسوا جهودهم لتعميق الوضع الظالم السائد .
 
وفي نفس الوقت اقتصر دفع '''"ضريبة الدم"'''  للدفاع عن الوطن على الطبقة التي كانت عاجزة عن دفع '''"ثمن الخلاص"''' من الجندية  وهو يتمثل في عشرين جنيها كانت تسمي '''"البدلية"''' أى النقود التي تدفع بدل التجنيد أى في مقابله !!
 
وكأن شرف الدفاع عن الوطن قد اقتصر على الطبقة التي ليس لها حق التملك فيه !!! فكان التجنيد الإجباري في الواقع لا نفذ إلا على التعساء من حثالة المجتمع الذين لا يملكون ثم الخلاص الزهيد .. وكأن الذين لا يمتلكون أى شئ هم الذين وكل إليهم أمر الدفاع عن الذين يملكون كل شئ...!!


كان البديل لذلك " الاحتواء " والدخول في " مناطق النفوذ "وهذا أمر لم يقبله .
ثم كان على هذه الطبقة المعدمة دفع الضرائب للحزينة الخاوية وكان الدفع يتم من '''"المنبع كما يقولون"''' وكان '''"المنبع"''' في أغلب الأحيان جافا ليس به زاد أو ماء بينما القادرون لا يجسر أحد على الاقتراب من '''"منبعهم المتضخم الزاخر الملء"'''!!


  وهنا اختلطت شخصيته " لثورية " بالظروف الضاغطة " وتفاعلت معها ورفضتها وأصبح من المحتم عليه أن يتحرك ليكسر الطوق قبل أن يطبق عليه إذ أن أخطر ما يصيب الثورة هو حالة الجمود التي تدفع إليه أو حالة الاستسلام التي تجر إلى الوقوع في حبائلها .
ثم ووسط الضغوط الخارجية التي كانت تتعرض لها البلاد كان الجيش ألا يملك عتادا ولا سلاحا وقد حاول الرجل سد الفجوة من بريطانيا في أول الأمر فتمنعت في انتظار دفع الثمن ... وتغطية الثمن في سوق السلاح لا يكون نقدا وعدا ولكن هناك طرق أخرى لتسديد الحساب أغلبها ربما يمس السيادة وينقص من الاستقلال ..ولما رأي الباب مسدودا حاول مع الولايات المتحدة الأمريكية دون جدوى أيضا..


تلوم [[عبد الناصر]] على محاولاته تلك وربما تجاوزت اللوم إلى حدالاتهام . ولكنها لم تحاول ولو مرة وحدة أن تتحدث عن محاولات الرجعية والاستعمار مع الثورة وقئدها من يوم أن ولدت حتى تصيدتها في [[يونيو]] حزيران [[1967]] ولم تحاول ولو مرة واحدة أن تقترح البديل الذي كان على [[عبد الناصر]] إتباعه والسير فيه .
وكانت إسرائيل ترتع على الساحة تفعل ما تريد وبريطانيا قابعة بقواتها في قاعدة قناة السويس قاطعة خطوط مواصلات القوات المصرية التي كانت موجودة في [[سيناء]] فكان العدو بذلك أمام قواتنا الموجودة في [[سيناء]] وخلفها في نفس الوقت . وقام الرجل وسط كل هذه الضغوط بمعجزة '''"كسر إحتكار السلاح"''' فكانت صفقة التسليح السوفيتي التي تبعتها صفقات .
 
وبالرغم من ذلك يتعرض [[عبد الناصر]] إلى اللوم الذي يصل إلى حد الاتهام لأنه أخطأ بأخذ السلاح الذي دفع به القدر إليه فكيف '''"يدنس"''' يده بسلاح سوفيتي حتى ولو كان '''"الجيش"''' يقف تحت رحمة العدو ليل  نهار؟ كيف يسمح بتسرب السلاح  السوفيتي حتى لو كان الجيش أعزل أمام عدو يتسلح كيف  يشاء؟
 
لماذا لم يرفض السلاح '''"المحرم"''' حتى لو رفض الجميع إمداده به  حتى مع استعداده لدفع الثمن فور نقدا وعدا؟ولماذا ارتكب الرجل تلك الخطيئة ولماذا أقدم على هذا المحظور؟ لقد ارتكب الرجل هكذا يقولون شيئا إذا وقطف '''"الفاكهة المحرمة"'''


ثم وجد " [[عبد الناصر]] " ضمن ما وجد من " مخلفات" " مشكلة [[فلسطين]] " فالأنظمة  العربية قبل [[ثورة 23 يوليو 1952|ثورة يوليو]] تموز [[1952]] هي المسئولة عن خلق  إسرائيل " الدولة" بعد أن فشلت في مقاومة إسرائيل " الفكرة والحلم " .  
ووسط هذه المواقف الصعبة كانت البلاد تتعرض لمؤامرات خارجية وداخلية وبصفة مستمرة كل هدفها إسقاط النظام وكان هناك أكثر من عشر محطات إذاعة سرية توجه إليه ليل نهار وكانت الضغوط الاقتصادية التي ارتفعت إلى حد الحصار الاقتصادي تلتف حول عنقه في كل وقت . ثم كانت الحروب التي تفرض عليه حينما تفشل الوسائل الأخرى في إسقاطه تتابع بين وقت وآخر .


ف[[عبد الناصر]] لم يكن مسئولا عن خلق المشكلة بل كانت المشكلة إحدى الأسباب التي دفعته إلى الثورة . وعلى أى حال فلن نستطرد أكثر من ذلك إذ لسنا في موقف نحدد فيه المسؤوليات ثم لم تعد هناك فائدة من البكاء على اللبن المسكوب .
وكان المفروض على [[عبد الناصر]] كما يقول اللوامون أن يقابل السيئة بالحسنة حتى يمحوها وهم لا يدرون أن الأنبياء العزل لا مكان لهم في غابة [[السياسة]] . ثم كان [[عبد الناصر]] كما قلنا ونحن نتحدث عن مفاتيح شخصيته إنسانا  وليس نبيا  أو ملاكا ....  


وكن المؤمل أن يتعلم حكام العرب كم درس 1948 ويحاولوا ولو لمرة واحدة  أن يتحدوا أمام الخطر الداهم الذي  أصبح جاثما وسط الدار ولكن الكثيرين منهم رأوا ن الثورة أخطر عليهم وأكثر تهديدا لبقائهم فقاموا يحاربونها بكل ما وهبهم الله من قوة وثروة .
وإلا بالله عليكم ما هي الطريقة التي كان يواجه بها [[عبد الناصر]] تلك المؤامرات الخارجية؟ وما هي الطريقة التي كان يمكن أن يواجه بها [[عبد الناصر]] المؤامرات الداخلية وتعرضه المتكرر للاغتيال ؟ علما بأننا نكرر أن الرجل كان إنسانا يحب ويكره يعدل ويظلم يخطئ ويصيب .


ويقول " السذج" و" المغرضون " الذين يقيمون الأحداث الآن إنه كان على [[عبد الناصر]] أن يترك [[فلسطين]] في ذمة التاريخ لنتفرغ لأحوالنا ومشاكلنا وإنه كان على الرجل أن يقفل عليه حدوده وبذلك يتفادى الصدم مع إسرائيل ويجنب [[مصر]] تلك الحروب التي خاضتها .
كان [[عبد الناصر]] يعيش في بحر هائج تختلط فيه التماسيح المتصارعة مع الأنواء العاتية والعواصف المدمرة وهو نفس الجو الذي تعيش فيها دائما الثورات الأصيلة.ووجد [[عبد الناصر]] نفسه بعد الانفصال في موقف صعب مع المؤسسة العسكرية بقيادة المشير [[عبد الحكيم عامر]].
ولكن.... هل تحرشت [[مصر]] بإسرائيل حينما قامت بغارتها الوحشية في غزة وأتبعتها بغاراتها في مناطق عديدة بعد ذلك ؟ هل تحرشت [[مصر]] بإسرائيل حينما انضمت الأخيرة إلى بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على [[مصر]]  عام [[1956]] ؟
لا نقول ذلك لتدبير حروب [[عبد الناصر]] فهي حروب عادلة لا تحتاج إلى تبرير إذ خاضها لكي يدفع العدوان أو هكذا كان يحاول ويتمني ذلك لأن أبسط قواعد الأمن القومي تشير إلى أن " [[فلسطين]] " هي من ضرورات " الأمن المصري " منذ عصور الفراعنة ووجود دولة معادية هناك فيه تهديد قاتل " لأمن [[مصر]]"
إذن فسلامة [[فلسطين]] من ضروريات الأمن المصري إذا  صح هذا التعبير إذ لا يوجد ما يسمي " بالأمن المصري " المنفرد عن " الأمن العربي " فلا أمن ل[[مصر]] دون العرب ولا أمن للعرب دون [[مصر]] .
وكان الاستعمار يربض في كل مكان من أركان العالم العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي  لتنفيذ إستراتيجية " التطويق " على طريق  إقامة القواعد العسكرية على الساحة كلها .. قاعدة قناة السويس , عدن منطقة الخليج , الظهران , الحبانية , الشعبية , هويلس , بنزرت , [[الجزائر]] [[المغرب]] ... كانت القواعد كالإخطبوط الذي يخنق كل حركة وطنية . واعتبر [[عبد الناصر]] العربي – عن حق – أن معركة استقلال [[مصر]] هي جزء من معركة الاستقلال العربي فالمعركة واحدة متصلة إذ " أن  الأمن واحد والمستقبل واحد والعدو واحد والمصير واحد , هكذا تقول لنا الخريطة وهكذا يقول لنا الواقع وهكذا يقول لنا الدين  " إن القدر لا يهزل وليست هناك أحداث من صنع الصدفة ولا وجود  يصنعه الهباء ... ولن نستطيع أن ننظر إلى خريطة العالم نظرة بلهاء لا ندرك بها مكاننا على هذه الخريطة ودورنا يحكم هذا المكان ... أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا ,أن هذه الدائرة منا ونحن منها  امتزج تاريخنا بتاريخها وارتبطت مصالحنا حقيقة وفعلا لا مجرد كلام " ... واستمر [[عبد الناصر]] يتحدث في " فلسفة الثورة" عن الدائرة الأفريقية والدائرة الإسلامية حديثا أخذا في  الاعتبار مركز [[مصر]] على خريطة العالم ولست أدرى  كيف يمكن لبلد من البلدان كتب عليه أن يكون في هذا  الموقع الحيوي أن يقفل على نفسه ؟ كيف يمكن ل[[مصر]] أن تقفل عيونها حى لا ترى ما حولها ؟ أو تجمد أحاسيسها حتى لا تحس الأخطار  التي تحدق بها ؟ بل لو  أننا سلمنا جدلا أن [[مصر]] أقفلت عيونها وسدت آذانها وجمدت أحاسيسها فهل هذا يحول بين المتربصين وبين أن يقرعوا الأبواب ويقتحموا النوافذ ؟ ولو سلمنا جدلا أنه بإمكاننا أن ننتقص من قدرنا ومكاننا فكيف  نضمن أن غيرنا سيشاركنا هذا التقييم في سبيل سعيه لتحقيق أمنه ومصالحه ؟ أننا جزء من منطقة نعيش فيها .. والمنطقة جزء من عالم متسع  تدور فيه  الأحداث وتتصارع فيه الإرادات .,.... والسياسية أخذ وعطاء ولذلك نجد ن الرجل أعطي ف سخاء لثورة  [[الجزائر]] وللمغرب ولليمن الشمالي والجنوبي العربي .... فأزليت القواعد وتحررت الإرادات ولذلك ضرب [[عبد الناصر]] عام [[1956]] لأن " القضاء على ثورة [[الجزائر]] لن يتم إلا عن طريق [[القاهرة]] " وعادوا فوجهوا إليه الطعنة النجلاء عام [[1967]] لأن " القضاء على الثورة العربية لن يتم إلا عن طريق [[القاهرة]] أيضا ".
وبالرغم من ذلك فإن البعض يوجه إليه اللوم  الثقيل بعد أن مات وكأن ما لاقاه من عداوة ومقاومة قبل أن يموت لم يكن فيه الكفاية ...فمن قاومه قبل أن يموت ومن شرحه بعد أن مات كلاهما كان يطلب منه أن يريح ويستريح . ولكن كان هذا مستحيلا إذ لو توفرت له الرغبة فإن ما كان من الممكن أن تتوفر له القدرة لأن العدوان يدق الأبواب وينساب من النوافذ ويتسرب من الفجوات فلا هو يدع النائم في نومه ولا هو يدع المتيقظ يهنأ بتيقظه . فهو في حركة دائمة ونحن دائما أهدافه التي يسعي إلى السيطرة عليها لابتلاعها  لعلها تسد شيئا من أطماعه .
وكان المجتمع المصري يقع تحت ضغطين رئيسيين : الضغط الأول كان يتمثل في أنه مجتمع بطئ النمو والضغط الثاني كان يتمثل  في أن المجتمع كان يعيش في حالة خلل مخزن وتناقص خطير في العلاقات التي كانت تنظم حركة المجتمع .
ومن ناحية الضغط الأول وهو بطئ نمو المجتمع فإنه طبقا للإحصائيات العلمية الدقيقة كان المجتمع قد وصل إلى حالة ركود تكاد تكون تامة خلال أربعين سنة ما بين عام 1913 إلى عام 1953 ففي تلك الفترة كان معدل النمو لا يزيد في المتوسط عن واحد ونصف بالمائة سنويا وهي نسبة نمو كانت الزيادة في عدد السكان تستوعبها .
أما من  ناحية الضغط الثاني فكان يتمثل في التفاوت الخطير بين الطبقات فكان واحد ونصف بالمائة من السكان يحصلون على نصف الدخل القومي علاوة على أن الملكية من الأراضي الزراعية  كانت قد تركزت في يد القلة المالكة التي كانت تتحكم في الأغلبية من الإجراء ثم كانت ثروات [[مصر]] ليست ملكا لأبنائها فكل المرافق الحيوية كانت في أيدى الشركات الأجنبية مثل قناة السويس والسكك الحديدية وخطوط الترام ومرافق الكهرباء والمياه والبنوك والصناعات ومساحات كبيرة من الأراضي الزراعية ..
وكان العلاج تحت ضغط تلك الظروف ليس مجرد استرداد الثروات إلى ملاكها الحقيقيين عن طريق التمصير والتأميم وإنما كان إلى جانب ذلك إضافة وتوسيع بدأها مجلس الإنتاج بعد شهور من قيام الثورة ثم أشرف عليها بعد وزارة الصناعة التي أنشئت منذ عام [[1956]] والتي قمت تحت ظروف الحصار الاقتصادي الذي أعقب حرب السويس بوضع خطة ثلاث سنوات للصناعة مهدت لخطة التنمية الشاملة بعد ذلك والتي بلغ فيها معدل النمو زيادة سنوية قدرها ستة ونصف بالمائة وأثناءها  دخلت [[مصر]] مرحلة الصناعة الثقيلة رغم تعقيداتها وبطء مردوده بهدف الاقتراب من أجل الاعتماد على النفس بقدر الإمكان من جانب ولتغيير التكوين الاجتماعي من جانب آخر بنقل فائض العمالة في قطاع الزراعة إلى قطاع الصناعة للتغلب على مشكلة البطالة المقنعة الموجودة في قطاع الزراعة .
وترتب على هذا الخلل في الملكية خلل آخر في التمثيل النيابي إذ لا مندوحة أن تتكون في ظل هذا النظام المالي ديكتاتورية برلمانية تكون انعكاسا طبيعيا للسيطرة الاقتصادية فكانت هناك مجالس  نيابية يجتمع فيها نفس الفئة المتحكمة في الأرض وسوق المال . وبذلك تكون إقطاع سياسي إلى جانب الإقطاع الاقتصادي ولم يكن عجيبا بعد ذلك أن تلك المجالس لم تتحدث إلا نادرا عن مصالح الجماهير الكادحة وعن ضرورة تذويب الفوارق بين الطبقات ..وكانت تلك المجالس غطاء زائفا للحرية إذ أنها كانت توفر حرية الطبقة المتحكمة والحاكمة في نفس الوقت أما  الحرية التي ترتبط بلقمة العيش فكان التحدث فيها محرما وممنوعا إلى أن جاء [[عبد الناصر]] ليبدأ في تساؤله الملح عن معني الحرية ؟" فما هي الحرية بالنسبة للرجل الذي لا يجد لقمة العيش لأولاده  في الليل ؟ إن الحرية بالنسبة له ليست إلا أن يجد لقمة العيش لأولاده .. الحرية بالنسبة للفلاح الذي يشتغل عبدا في الأرض هي أن يكون حرا ويكون سيد نفسه .. الفلاح الذي يطرده  صاحب الأرض من أرضه هو ومتاعه وعائلته لأنه لا يطيع الأوامر  ولا يقبل أن يكون  رقيقا أو عبدا  و خادما مطيعا ... إن الحرية عنده أن يكون مطمئنا على حياته ومستقبله .. والحرية بالنسبة للعامل الذي يفصل في كل وقت والذي لم يكن مطمئنا على عمله ومطمئنا على  مستقبله . كان من الواضح لنا بعد الدروس التي أخذناها في السنين الماضية أننا إذا أردنا أن نقيم الديمقراطية يتحكم فيها المستغلون وإنما كنا نعنى ديمقراطية الشعب فالحرية لا تنفصل عن الرزق والمساواة لا تنفصل عن الحرية ولا يمكن أن يكون هناك حرية بدون مساواة ويكون هناك أناس مميزون ولهم الحق في كل شئ وأناس آخرون محرومون من كل شئ .
وكان [[عبد الناصر]] – كما سبق أن ذكرنا في مفاتيح شخصيته – قد نشأ في أسرة فقيرة وعاش الجو الذي عاد ليتحدث عنه ويعالجه وهو في الحكم ورأى مهزلة المجالس النيابية ولمس تحكم الإقطاع في الحياة السياسية ولعله تأثر بكل ذلك حينما ألقى يثقله على الحرية الاجتماعية أحد جناحي الديمقراطية – كما كان يقول – فنالت منه رعاية كبيرة فاقت رعايته للجناح  الآخر من الديمقراطية وهو الحرية السياسية .
وانعكس خلل  الملكية على العلاقات التي كانت تتحكم في حركة المجتمع فأوجدت تناقضا خطيرا بين الحقوق والواجبات .. فالحقوق كلها للقادرين والواجبات كلها على الكادحين ..
فالتعليم مثلا – وهو حق مشروع للجميع – كان قاصرا على طبقة خاصة قادرة على مواجهة تكاليفه وكان العلاج وهو حق من الحقوق قاصرا على الطبقة القادرة على دفع نفقاته وكان العمل متاحا فقط للطبقات المميزة إلا الأعمال الدنيا فتركت لطبقاتها لا عن رغبة وزهد ولكن عن تعفف وازدراء .
وكان المسكن اللائق من المناطق المحرمة التي لا يجوز  للطبقات الكادحة حتى أن تفكر فيه حتى الحذاء كان مجرد أمل بالنسبة لكثير من الفلاحين والعمال الذين كانوا يهيمون في حقولهم  ومصانعهم بجلابيبهم الزرقاء المشهورة وهم حفاة .
   
   
وفي الوقت الذي حرمت فيه الغالبية من حقوقها كان عليها واجبات خطيرة من المحتم أن تقوم بها ... فالتصويت في الانتخابات واجب عليه لكي توفر الغطاء الشكلي لدفع ممثلي الطبقة المتحكمة فيهم إلى قاعات البرلمان ليكرسوا جهودهم لتعميق الوضع الظالم السائد .وفي نفس الوقت اقتصر دفع " ضريبة الدم"  للدفاع عن الوطن على الطبقة التي كانت عاجزة عن دفع " ثمن الخلاص " من الجندية  وهو يتمثل في عشرين جنيها كانت تسمي " البدلية " أى النقود التي تدفع بدل التجنيد أى في مقابله !! وكأن شرف الدفاع عن الوطن قد اقتصر على الطبقة التي ليس لها حق التملك فيه !!! فكان التجنيد الإجباري في الواقع لا نفذ إلا على التعساء من حثالة المجتمع الذين لا يملكون ثم الخلاص الزهيد ...وكأن الذين لا يمتلكون أى شئ هم الذين وكل إليهم أمر الدفاع عن الذين يملكون كل شئ ....!!! ثم كان على هذه الطبقة المعدمة دفع الضرائب للحزينة  الخاوية وكان الدفع يتم من " المنبع كما يقولون " وكان " المنبع " في أغلب الأحيان جافا ليس به زاد أو ماء بينما القادرون لا يجسر أحد على الاقتراب من " منبعهم المتضخم الزاخر الملء!!
كان أهم ما شغل الثورة منذ قيامها تنظيم العلاقة بين القيادتين السياسية والعسكرية فكانت العلاقة واضحة ومحددة أيام حرب التحرير عامي 1953 [[1954]] ضد القوات البريطانية في قناة [[السويس]] وكانت العلاقة واضحة ومحددة في حرب [[السويس]] وحتى حدوث الانفصال فلم يكن كل شئ هادئا في كواليس قيادة [[يوليو]] عندما صدر الميثاق الوطني عام [[1962]] ولا عندما صدر بعده في [[سبتمبر]] أيلول إعلان دستوري بنقل السلطة إلى مجلس الرئاسة كمحاولة لإيجاد قيادة جماعية بعد نجاح الانفصال .  
ثم ووسط الضغوط الخارجية التي كانت تتعرض  لها البلاد كان " الجيش ألا يملك عتادا ولا سلاحا وقد حاول الرجل سد الفجوة من بريطانيا في أول الأمر فتمنعت في انتظار دفع الثمن ...وتغطية الثمن في سوق السلاح لا يكون نقدا وعدا ولكن هناك طرق أخرى لتسديد الحساب أغلبها ربما يمس السيادة وينقص من الاستقلال ..ولما رأي الباب مسدودا حاول مع الولايات المتحدة الأمريكية دون جدوى أيضا ...و وكانت إسرائيل ترتع على الساحة تفعل ما تريد وبريطانيا قابعة بقواتها في قاعدة قناة السويس قاطعة خطوط مواصلات القوات المصرية التي كانت موجودة في [[سيناء]] فكان العدو بذلك أمام قواتنا الموجودة في [[سيناء]] وخلفها في نفس الوقت . وقام الرجل وسط كل هذه الضغوط بمعجزة " كسر إحتكار السلاح " فكانت صفقة التسليح السوفيتي التي تبعتها صفقات .
 
وبالرغم من ذلك  يتعرض [[عبد الناصر]] إلى اللوم الذي يصل إلى حد الاتهام لأنه أخطأ بأخذ السلاح الذي دفع به القدر إليه فكيف " يدنس " يده بسلاح سوفيتي حتى ولو كان " الجيش " يقف تحت رحمة العدو ليل  نهار ؟ كيف يسمح بتسرب السلاح  السوفيتي حتى لو كان الجيش أعزل أمام عدو يتسلح كيف  يشاء ؟ لماذا لم يرفض السلاح " المحرم " حتى لو رفض الجميع إمداده به  حتى مع استعداده لدفع الثمن فور نقدا وعدا ؟ ولماذا ارتكب الرجل تلك الخطيئة ولماذا أقدم على هذا المحظور ؟ لقد ارتكب الرجل – هكذا يقولون  - شيئا إذا وقطف " الفاكهة المحرمة ":
وحاول المجلس أن يدخل التوازن بين سلطات المشير عامر وبين السلطة الرئاسية المتمثلة في القيادة السياسية بعد فشل المشير أيام العدوان الثلاثي وأيام الوحدة  وقد أعد قرار تحديد اختصاصات المشير بما يجعل سلطة تعيين قادة الوحدات في القوات المسلحة من مسؤولية مجلس الرئاسة وليس من مسئولية المشير؛
ووسط هذه المواقف الصعبة كانت البلاد تتعرض لمؤامرات خارجية وداخلية وبصفة مستمرة كل هدفها إسقاط النظام وكان هناك أكثر من عشر محطات إذاعة سرية توجه إليه ليل نهار وكانت الضغوط الاقتصادية التي ارتفعت إلى حد الحصار الاقتصادي تلتف حول عنقه في كل وقت . ثم كانت  الحروب التي تفرض عليه حينما تفشل الوسائل الأخرى في إسقاطه تتابع بين وقت وآخر .
 
وكان المفروض على [[عبد الناصر]] – كما يقول اللوامون – أن يقابل السيئة بالحسنة حتى يمحوها وهم لا يدرون أن الأنبياء العزل لا مكان لهم في غابة [[السياسة]] . ثم كان [[عبد الناصر]] كما قلنا ونحن نتحدث عن مفاتيح شخصيته إنسانا  وليس نبيا  أو ملاكا .... وإلا بالله عليكم ما هي الطريقة التي كان يواجه بها [[عبد الناصر]] تلك المؤامرات الخارجية ؟ وما هي الطريقة التي كان يمكن أن يواجه بها [[عبد الناصر]] المؤامرات الداخلية وتعرضه المتكرر للاغتيال ؟ علما بأننا نكرر أن الرجل كان إنسانا يحب ويكره , يعدل ويظلم , يخطئ ويصيب .
ولم يحضر [[عبد الناصر]] جلسة مجلس الرئاسة التي نوقش فيها هذا الموضوع فطلب المشير تجيل بحثه وانضم إليه كمال حسين الذي كان قد بدأ يقترب من دائرة الظل ويبتعد عن المناصب التسعة التي كان يستحوذ عليها ولكن الغالبية وافقت على القرار وأصدرته ولم يتمثل عامر إلى ذلك وخرج غاضبا وقدم قادة القوات البرية والجوية والبحرية وبعض كبار القادة استقالاتهم وحدثت حالة هياج بين قادة القوات المسلحة المقربين من المشير واجتمعوا في القيادة وأصروا على عودته إلى موقعة .
كان [[عبد الناصر]] يعيش في بحر هائج تختلط فيه التماسيح المتصارعة مع الأنواء العاتية والعواصف المدمرة وهو نفس الجو الذي تعيش فيها دائما الثورات الأصيلة .
 
  ووجد [[عبد الناصر]] نفسه بعد الانفصال في موقف صعب مع المؤسسة العسكرية بقيادة المشير [[عبد الحكيم عامر]] .
وأدرك عامر أن يستمد سلطته من القوات المسلحة فوثق صلته بقادتها وظل يواصل العطاء والمنح لكل من يطلب وأصبح للمشير أظافر وأنياب . وكان من الواجب حسم مثل هذه الأمور عند بدايتها ولأكن إهمال ذلك أدي بالقيادة العسكرية لكي تشكل بروز وورما خطيرا أصبح من الصعب استئصاله وأصبحت القيادة السياسية ينقصها القدرة؛
كان أهم ما شغل الثورة منذ قيامها تنظيم العلاقة بين القيادتين السياسية والعسكرية فكانت العلاقة واضحة ومحددة أيام حرب التحرير عامي 1953 , [[1954]] ضد القوات البريطانية في قناة السويس وكانت العلاقة واضحة ومحددة في حرب السويس وحتى حدوث الانفصال فلم يكن كل شئ هادئا في كواليس قيادة يوليو عندما صدر الميثاق الوطني عام [[1962]] ولا عندما صدر بعده في [[سبتمبر]] أيلول إعلان دستوري بنقل السلطة إلى مجلس الرئاسة كمحاولة لإيجاد قيادة جماعية بعد نجاح الانفصال . وحاول المجلس أن يدخل التوازن بين سلطات المشير عامر وبين السلطة الرئاسية المتمثلة في القيادة السياسية بعد فشل المشير أيام العدوان الثلاثي وأيام الوحدة  وقد أعد قرار تحديد اختصاصات المشير بما يجعل سلطة تعيين قادة الوحدات في القوات المسلحة من مسؤولية مجلس الرئاسة وليس من مسئولية المشير ولم يحضر [[عبد الناصر]] جلسة مجلس الرئاسة التي نوقش فيها هذا الموضوع فطلب المشير تجيل بحثه وانضم إليه كمال حسين الذي كان قد بدأ يقترب من دائرة الظل ويبتعد عن المناصب التسعة التي كان يستحوذ عليها ولكن الغالبية وافقت على القرار وأصدرته ولم يتمثل عامر إلى ذلك وخرج غاضبا وقدم قادة القوات البرية والجوية والبحرية وبعض كبار القادة استقالاتهم وحدثت حالة هياج بين قادة القوات المسلحة المقربين من المشير واجتمعوا في القيادة وأصروا على عودته إلى موقعة .
 
وأدرك عامر أن يستمد سلطته من القوات المسلحة فوثق صلته بقادتها وظل يواصل العطاء والمنح لكل من يطلب وأصبح للمشير أظافر وأنياب . وكان من الواجب حسم مثل هذه الأمور عند بدايتها ولأكن إهمال ذلك أدي بالقيادة العسكرية لكي تشكل بروز وورما خطيرا أصبح من الصعب استئصاله وأصبحت القيادة السياسية ينقصها القدرة – ولا أقول الرغبة- لإزالة هذا الورم وهنا اهتزت كل الأمور فتغيرت طبيعة العلاقات بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية ثم اهتزت طبيعة العلاقات داخل القيادة العسكرية فهبط ميزان الكفاءة ليحل محله ميزان الولاء
ولا أقول الرغبة لإزالة هذا الورم وهنا اهتزت كل الأمور فتغيرت طبيعة العلاقات بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية ثم اهتزت طبيعة العلاقات داخل القيادة العسكرية فهبط ميزان الكفاءة ليحل محله ميزان الولاء وأصبح التأمين الذاتي وليس الأمن القومي هو محل الرعاية والاهتمام .
وأصبح التأمين الذاتي وليس الأمن القومي هو محل الرعاية والاهتمام .
 
وهنا يتساءل الكثيرون وأنا معهم لماذا لم تعالج القيادة السياسية الموقف ربما يكون ذلك لعجز في القدرة بعد اختلاف موازين القوى بين القيادتين وربما تكون القيادة السياسية قدرت أنه لتصحيح الأوضاع لابد من صدام ولكنها لم تكن مستعدة لهذا الصدام إلا على الأرض الملائمة وفي الوقت المناسب .
وهنا يتساءل الكثيرون وأنا معهم لماذا لم تعالج القيادة السياسية الموقف ربما يكون ذلك لعجز في القدرة بعد اختلاف موازين القوى بين القيادتين وربما تكون القيادة السياسية قدرت أنه لتصحيح الأوضاع لابد من صدام ولكنها لم تكن مستعدة لهذا الصدام إلا على الأرض الملائمة وفي الوقت المناسب .
ولكن يبقي سؤال قائم !! ولماذا لم تعالج القيادة السياسية الموقف قبل أن يستفحل ؟ والإجابة على السؤال صعبة , ربما يرجعها البعض إلى عامل الصداقة , وربما يرجعها البعض الآخر إلى تغلب عامل التوازن بين اتجاهات أعضاء مجلس الثورة القديم . والله أعلم .
 
ثم جاءت النكسة عام [[1967]] ليعيش [[عبد الناصر]] في ظل الهزيمة بعد انتصاراته الكبرى في معاركه السابقة وانعكس ذلك على قراراته ولا شك . أصبح الرجل أكثر حذرا وأقل اندفاعا عما قبل كان يحسب ويعيد الحساب بأسلوب تميز بالمرونة والواقعية .
ولكن يبقي سؤال قائم !! ولماذا لم تعالج القيادة السياسية الموقف قبل أن يستفحل؟ والإجابة على السؤال صعبة ربما يرجعها البعض إلى عامل الصداقة وربما يرجعها البعض الآخر إلى تغلب عامل التوازن بين اتجاهات أعضاء مجلس الثورة القديم. والله أعلم .
فبعد أن اجتاز قمة اليأس وخيبة الأمل التي دفعته إلى اتخاذ قرار التنحي في 9 [[يونيو]] حزيران [[1967]] ابتدأ يستعيد نفسه يوم 10 [[يونيو]] حزيران [[1967]] حينما استجاب للرغبة الملحة في بقائه .
 
ووسط الحطام الذي تناثر من حوله بدأ في محاولاته لإزالة آثار العدوان تحت ضغط ظروف قاسية وشبح الهزيمة لا يفارقه لحظة واحدة وكان كل ما يتمناه أن يظل حيا حتى إزالة آثار العدوان ولكن انهيار حالته الصحية لم يتح له ذلك فلقي ربه قبل أن تتحقق الآمال .
ثم جاءت النكسة عام [[1967]] ليعيش [[عبد الناصر]] في ظل الهزيمة بعد انتصاراته الكبرى في معاركه السابقة وانعكس ذلك على قراراته ولا شك . أصبح الرجل أكثر حذرا وأقل اندفاعا عما قبل كان يحسب ويعيد الحساب بأسلوب تميز بالمرونة والواقعية .
ولا شك بعد كل هذا الذي قلناه فإن [[عبد الناصر]] واجه تحديات كبرى في الداخل والخارج على حد سواء ولم يكن يؤمن بالمبدأ  الإصلاحي في معالجة الأمور ولكنه كان قائد ثورة ثم أصبح زعيم أمة أعطته ثقتها في الانتصارات والهزائم على حد سواء .
 
فبعد أن اجتاز قمة اليأس وخيبة الأمل التي دفعته إلى اتخاذ قرار التنحي في 9 [[يونيو]] حزيران [[1967]] ابتدأ يستعيد نفسه يوم 10 [[يونيو]] حزيران [[1967]] حينما استجاب للرغبة الملحة في بقائه .
 
ووسط الحطام الذي تناثر من حوله بدأ في محاولاته لإزالة آثار العدوان تحت ضغط ظروف قاسية وشبح الهزيمة لا يفارقه لحظة واحدة وكان كل ما يتمناه أن يظل حيا حتى إزالة آثار العدوان ولكن انهيار حالته الصحية لم يتح له ذلك فلقي ربه قبل أن تتحقق الآمال .
 
ولا شك بعد كل هذا الذي قلناه فإن [[عبد الناصر]] واجه تحديات كبرى في الداخل والخارج على حد سواء ولم يكن يؤمن بالمبدأ  الإصلاحي في معالجة الأمور ولكنه كان قائد ثورة ثم أصبح زعيم أمة أعطته ثقتها في الانتصارات والهزائم على حد سواء .
 
ولا شك بعد كل هذا الذي قلناه فإن [[عبد الناصر]] كان شجاعا إلى أقصي حدود الشجاعة وهو يواجه كل الضغوط التي وجهت إليه فلم يتردد في خوض معركة تلو الأخرى حقق في معظمها انتصارات كبيرة تركت بصماتها في الداخل والخارج على حد سواء .
ولا شك بعد كل هذا الذي قلناه فإن [[عبد الناصر]] كان شجاعا إلى أقصي حدود الشجاعة وهو يواجه كل الضغوط التي وجهت إليه فلم يتردد في خوض معركة تلو الأخرى حقق في معظمها انتصارات كبيرة تركت بصماتها في الداخل والخارج على حد سواء .
وبحكم طبيعته واجه التحديات بإجراءات حاسمة وبطريقة مباشرة لا تعرف الالتواء... الأسود أسود والأبيض أبيض  بينما يغلب على الألوان في ميدان [[السياسة]] أن تكون بين بين .
 
كانت المشاكل الموروثة هائلة وكان يسابق الزمن كان يريد أن يقفز في خطوات واسعة كقفزات النمر بينما يرى ناقدوه أنه كان عليه أن يسير في تؤده كالسلحفاة...والنمر يصل والسلحفاة تصل فلم يكن هناك داع إذن للسرعة أو التسرع .
وبحكم طبيعته واجه التحديات بإجراءات حاسمة وبطريقة مباشرة لا تعرف الالتواء.. الأسود أسود والأبيض أبيض  بينما يغلب على الألوان في ميدان [[السياسة]] أن تكون بين بين .
وكلمة أخيرة عما قيل  من أن قرارات [[عبد الناصر]] كانت قرارات غلب عليه " رد الفعل " ويقصدون بذلك أن قراراته  كانت مجرد عاطفية وانفعالات شخصية .. وهذا قول بعيد عن الواقع .
 
إذ ما اتضحت سياسة [[مصر]]  طوال تاريخها في كافة الميادين مثلما اتضحت أيا [[عبد الناصر]] ولعل السرعة الخاطفة التي اتسمت بها ضربته ترجع إلى وضوح الرؤية والتحضير المسبق وقد اعترف الأعداء قبل الأصدقاء ل[[عبد الناصر]] بهذه الميزة .
كانت المشاكل الموروثة هائلة وكان يسابق الزمن كان يريد أن يقفز في خطوات واسعة كقفزات النمر بينما يرى ناقدوه أنه كان عليه أن يسير في تؤده كالسلحفاة...والنمر يصل والسلحفاة تصل فلم يكن هناك داع إذن للسرعة أو التسرع .
وحتى لو ذهبنا مع هؤلاء في أن [[عبد الناصر]] كان يتخذ قراراته في نطاق " ردود الأفعال " فماذا يعني ذلك ؟ إنه يعني أن [[مصر]] لم تكن تبدأ أحدا بالعداوة كما يرددون ويعني أن [[مصر]] أصبح لها إرادة وربما يكمن الفرق بين سياسة الدول المستقلة وسياسة الدول المغلوب على أمرها في القدوة و العجز عن رد الفعل بلا فلا يجوز أن ننسي أن أهم قاعدة من قواعد اللعبة السياسية في عالمنا المعاصر هي التوازن بين القدرة على توجيه الضربة الأولي والقدرة على توجيه الضربة الثانية .. أى التوازن بين القدرة على الفعل والقدرة على رد الفعل . بل نجد ن القدرة على رد الفعل هي التي تتحكم يحسب في القدرة على الفعل وليس العكس .
 
إذن فليس عيبا ما يقولونه عن أن قرارات [[عبد الناصر]] كانت قرارات يغلب عليها رد الفعل ولكن..  
وكلمة أخيرة عما قيل  من أن قرارات [[عبد الناصر]] كانت قرارات غلب عليه '''"رد الفعل"''' ويقصدون بذلك أن قراراته  كانت مجرد عاطفية وانفعالات شخصية .. وهذا قول بعيد عن الواقع .
هل قيامه بالثورة في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
 
هل إسقاط أسرة محمد على يدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
إذ ما اتضحت سياسة [[مصر]]  طوال تاريخها في كافة الميادين مثلما اتضحت أيا [[عبد الناصر]] ولعل السرعة الخاطفة التي اتسمت بها ضربته ترجع إلى وضوح الرؤية والتحضير المسبق وقد اعترف الأعداء قبل الأصدقاء ل[[عبد الناصر]] بهذه الميزة .
هل قانون الإصلاح الزراعي وقوانين التمصير والقوانين [[الإشتراكية]] تدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
 
هل إقامته دولة الوحدة وسياسته العربية والأفريقية وعدم الانحياز تدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
وحتى لو ذهبنا مع هؤلاء في أن [[عبد الناصر]] كان يتخذ قراراته في نطاق '''"ردود الأفعال"''' فماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أن [[مصر]] لم تكن تبدأ أحدا بالعداوة كما يرددون ويعني أن [[مصر]] أصبح لها إرادة وربما يكمن الفرق بين سياسة الدول المستقلة وسياسة الدول المغلوب على أمرها في القدوة و العجز عن رد الفعل بلا  
هل مقاومته للاستعمار والعمل على إزالة القواعد العسكرية تدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
 
هل بناء السد العالي ومئات المصانع والمدارس والمستشفيات تدخل في نطق الفعل و رد الفعل ؟
فلا يجوز أن ننسي أن أهم قاعدة من قواعد اللعبة السياسية في عالمنا المعاصر هي التوازن بين القدرة على توجيه الضربة الأولي والقدرة على توجيه الضربة الثانية .. أى التوازن بين القدرة على الفعل والقدرة على رد الفعل . بل نجد ن القدرة على رد الفعل هي التي تتحكم يحسب في القدرة على الفعل وليس العكس .
كل ذلك أسقطوه من حسابهم وهم يقيمون قرارات [[عبد الناصر]] وللأسف فقد سمعت لهم بعض الأذان وأطاعتهم بعض الأقلام لأن  من سوء حظ الأمة العربية ومن سوء حظ [[عبد الناصر]] أن القدر لم يمهله حتى إزالة آثار النكسة فمات .
 
الباب الثالث
إذن فليس عيبا ما يقولونه عن أن قرارات [[عبد الناصر]] كانت قرارات يغلب عليها رد الفعل ولكن..  
إستراتيجية [[عبد الناصر]] لإزالة آثار العدوان
 
الفصل الثامن : إستراتيجية [[عبد الناصر]] لإزالة آثار العدوان  
* هل قيامه بالثورة في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
الفصل الثمن
 
إستراتيجية [[عبد الناصر]] لإزالة  آثار العدوان
* هل إسقاط أسرة محمد على يدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
خسرنا معركة ولم نخسر حربا ما خذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة 100% من أوراق اللعبة تعتمد على إرادتنا الذاتية لا نلعب بالاتحاد السوفيتي ولا يلعب بنا قنوات مفتوحة مع واشنطن الخط الحرج خط الأمر الواقع السباق بين الاختراق والاعتراض وبين القدرة على رد الفعل والقدرة على الفعل خطة جرانيت كلام كلام ... قتال قتال مخلفات [[عبد الناصر]] .
 
حلق في الخيال وأنا أفكر فيما وصل إليه الحال فوجدتني أمام خاطر غريب وسؤال عجيب !!! ماذا لو لم يمت [[عبد الناصر]] ؟ وفكرت كثيرا في السؤال  الغريب وعقدت العزم على ن يكون السؤال هو عنوان هذا الفصل ...!! ولكن سرعان ما تبين لى أن السؤال بصورته تلك سوف يحرك كثيرا من المشاعر المتباينة والحسابات الثقيلة ...
* هل قانون الإصلاح الزراعي وقوانين التمصير والقوانين [[الإشتراكية]] تدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
فالكثيرون من سيقرؤون العنوان المثير ربما يغمضون عيونهم لفترة من الوقت ويرفعون أكفهم نحو السماء ويدعون الله لو أن الخيال أصبح حقيقة !! هؤلاء هم الغالبية العظمي من الواعين والكادحين من العمال والفلاحين والوطنيين وكل المنتسبين إلى الحركات الثورية في كل مكان ,. بينما يصيب الخاطر الغريب البعض بالذعر والانزعاج وربما يلقي بعضهم بالكتاب بعيدا في غضب وهم يستعيذون  بالله من الشيطان الرجيم, وربما لا يخفي البعض الآخر سخطه على الكاتب وأفكاره السقيمة , هؤلاء هم الإقطاعيون والانتهازيون والمنحرفون وآخرون ممن داسوا على الوفاء وتنكروا للزمالة والصداقة وغيرهم ممن لا يجدون لهم مجالا  إلا في كنف الاستعمار .
 
وقد يرزح البعض أياما تحت ثقل الخاطر المستحيل بل وقد يبدأ البعض  وهم وطأة هذا " الكابوس " بمراجعة حساباتهم وموازنة أمورهم ... فمن يدرى ؟ خاصة وأننا في زمن أصبحت فيه  المستحيلات ممكنة وجائزة .. ويذكرني هؤلاء بقصة " نابليون بونابرت " مع الصحافة الفرنسية بعد أن فر من منفاه في جزيرة " ألبا " فبمجرد أن انتشر خبر فرار " الإمبراطور السابق " كانت عناوين  الصحف تدور كلها حول " هروب السفاح بونابرت " أو " فرار المجرم بونابرت " !! ولكن حينما تأكد خبر نزوله على الساحل الفرنسي بدأت نفس الصحف بنفس محرريها تتحدث عن " نابليون بونابرت " دون أوصاف أو ألقاب !! وحينما وقف على بوب " باريس " ومعه نقر قليل من أفراد " الحرس الإمبراطوري" ممن عاصروا هزائمه وانتصاراته بدأت نفس الصحف بنفس المحررين تتحدث في حماس عن " الإمبراطور الذي عاد "!!!
* هل إقامته دولة الوحدة وسياسته العربية والأفريقية وعدم الانحياز تدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
فالبشر هم البشر في كل زمان ومكان ...ز!!! وحتى نتفادى تلك المشاعر المتباينة وخوفا من أن تجنح إلى الخيل استبدلنا السؤال الغريب بالعنوان الجديد ..وأعرف سلفا أن ما سأقوله سيشير مشاعر متباينة أيضا وهذه أحدي الصعوبات التي تقفز أمام من يكتب عن " العمالقة "... إذ يعتبرهم البعض " ملائكة " بينما يعتبرهم آخرون مجرد " شياطين " ولو إنني اعتقد أن الفجوة بين الآراء لن تكون واسعة إلى هذا الحد خاصة بعد أن حصرنا حديثنا في قضية واحدة هي " قضية التحرير " والتي مازلنا نعالجها حتى الآن وبعد مرور سنوات عشر على وفاته .
 
فبعد النكسة مباشرة كانت " [[مصر]] " والبلاد العربية قد خسرت كل شئ ... وكان " [[عبد الناصر]] " كالتاجر الذي خسر كل رأسماله في السوق ... وفي مثل هذه المواقف قد ينسحب بعض التجار من السوق بصفة نهائية وهم يؤثرون السلامة بينما يصر آخرون على البدء من جديد ليعودوا كما كانوا وربما أحسن وأفضل . وقد أصر " [[عبد الناصر]] " على أن يستعوض الخسارة الفادحة على الساحة العربية ولذلك فإنه نادى من أول وهلة " أننا خسرنا معركة ولكننا لن نخسر الحرب " وأن الغرض هو " إزالة آثار العدوان وإعادة الحقوق المشروعة للشعب ال[[فلسطين]]ي " وأن " ما أخذ بالقوة  لا يسترد إلا بالقوة " وبذلك حدد الغرض ... كما حدد وسيلة الحصول على الغرض   وأخذ يعمل دون هوادة لتحقيق ذلك ضمن إستراتيجية فيها ذكاء ودهاء تحتاج  منا إلى مراجعة وشرح وربما يساعدني في توضيحها أنني كنت بعد " النكسة " قريبا من دائرة اتخاذ القرار أعلم الكثير مما كان يجرى ويحدث .
* هل مقاومته للاستعمار والعمل على إزالة القواعد العسكرية تدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
100% من أوراق اللعبة تعتمد على إرادتنا الذاتية .
 
منذ اللحظة الأولي للهزيمة أوضح " [[عبد الناصر]] " إن الإرادة الذاتية هي العامل الفاصل لتحديد نتيجة المعركة ... فالمعركة معركتنا , واللعبة لعبتنا , والأوراق أوراقنا أن 100% من أوراق اللعبة في يدنا ونحن لا يجوز أن نتركها في يد الغير . فليس معقولا أن تكون 99% من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة مثلا أو في جيب الاتحاد السوفيتي !! وإلا فأين الإرادة الذاتية للقيادة الواعية وللشعوب المكافحة ؟!
* هل بناء السد العالي ومئات المصانع والمدارس والمستشفيات تدخل في نطق الفعل و رد الفعل ؟
وانطلاقا من هذا المبدأ السليم أخذ يعيد بناء القوات المسلحة , صحيح كان الاتحاد السوفيتي قد أصيب بخيبة أمل كبرى في أصدقائه بعد الهزيمة الكبيرة التي منوا بها وظن الشعب السوفيتي لفترة ليست بالقصيرة أن " السلاح السوفيتي " هزم أمام " السلاح الأمريكي " إلا أن " [[عبد الناصر]] " كان يعتقد عن حق أنه كلما استوعبنا السلاح الذي بيدنا أكثر وأسرع كلما كان الإمداد بالأسلحة متناسبا مع رجة الاستيعاب .
 
وإلى جانب ذلك اتخذت عدة إجراءات لتقوية الإرادة الذاتية ... منها :
كل ذلك أسقطوه من حسابهم وهم يقيمون قرارات [[عبد الناصر]] وللأسف فقد سمعت لهم بعض الأذان وأطاعتهم بعض الأقلام لأن  من سوء حظ الأمة العربية ومن سوء حظ [[عبد الناصر]] أن القدر لم يمهله حتى إزالة آثار النكسة فمات .
تهيئة مسرح العمليات الذي يتسع ليشمل كل أنحاء الجمهورية في حرب لم تعد تعرف واجهات بالمعني بالمفهوم بعد أن كثف العدو غاراته في العمق وأنشئت الطرق والمطارات والمواني المتبادلة .
 
بناء مخزون إستراتجية من المواد الإستراتيجية مثل المواد البترولية والغذائية ومواد تصنيع الأسلحة والذخائر .
==الباب الثالث:إستراتيجية [[عبد الناصر]] لإزالة آثار العدوان==
إنشاء الجيش الشعبي لحراسة المنشآت في منطقة خطوط المواصلات وزيادة كفاءة الدفاع المدني  لمواجهة المعادية .
 
حشد الجهود العربية عن طريق المساعدات الاقتصادية العديدة واستغلال  العمق العربي في إعادة التوزيع الاستراتيجي لقواتنا فقد أصبحت ميناء بور سودان مثلا في خدمة وحدت الأسطول ومطارات واد سينا مكانا لتمركز قاذفاتنا الثقيلة ومنطقة جبل الأولياء لوجود بعض الوحدات البرية الأخرى علاوة على الوحدات العربية التي كانت تقاتل جنبا إلى جنب مع الوحدات المصرية على القناة والوحدات السورية في الجولان .
===الفصل الثامن:إستراتيجية [[عبد الناصر]] لإزالة آثار العدوان===
إشعال جبهة القتال على قناة السويس وفي داخل إسرائيل وبصفة تكاد تكون مستمرة .
 
الاستمرار في خطط التنمية  بأقصى معدل ممكن .
خسرنا معركة ولم نخسر حربا ما خذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة 100% من أوراق اللعبة تعتمد على إرادتنا الذاتية لا نلعب بالاتحاد السوفيتي ولا يلعب بنا قنوات مفتوحة مع واشنطن الخط الحرج خط الأمر الواقع السباق بين الاختراق والاعتراض وبين القدرة على رد الفعل والقدرة على الفعل خطة جرانيت كلام كلام ... قتال قتال مخلفات [[عبد الناصر]] .
لا نلعب بالاتحاد السوفيتي ولا يلعب بنا  
 
حددت علاقاتنا مع الاتحاد السوفيتي على أساس أهمية وجوده داخل اللعبة لأن انفراد احدي القوتين الأعظم بالمسرح فيه الطاقة الكبرى " فلص " واحد ينفرد بالغنيمة ولكن اثنين يتنازعان عليها  ولا يجدان الوقت للإنفراد بها وقد حددت علاقاتنا مع " موسكو" على أسس واضحة ... فهي قوة عظمى لا يمكننا أن " نلعب بها " ونحن دولة مستقبل لا نسمح لهم أن " يلعبوا بنا "
حلق في الخيال وأنا أفكر فيما وصل إليه الحال فوجدتني أمام خاطر غريب وسؤال عجيب !! ماذا لو لم يمت [[عبد الناصر]]؟ وفكرت كثيرا في السؤال  الغريب وعقدت العزم على ن يكون السؤال هو عنوان هذا الفصل..!! ولكن سرعان ما تبين لى أن السؤال بصورته تلك سوف يحرك كثيرا من المشاعر المتباينة والحسابات الثقيلة ...
وعلى ذلك فلا بد أن " نلعب معا" كفريق تلاقت مصالحه واضعين في الاعتبار ألا تتعارض " مصالحنا المحلية مع مصالحه العالمية " فلا يكن التواجد السوفيتي في بعض المناطق أو الأوقات  احتلالا بأى صورة من الصور بل كان يتم وفق مخطط استراتيجي واع يدل على ذكاء وعمق فعلاوة على القلق البالغ الذي يسببه هذا التواجد لدى الطرف لآخر مما يجعله   في خوف من زيادته واستمراره مما يهيئ حافزا على  البحث عن حل فإنه يخدم أغراضا  إستراتيجية محلية .
 
وعلى سبيل المثال كان  تواجد بعض قطع الأسطول السوفيتي في ميناء الإسكندرية  وبور سعيد حائلا دون ن تقوم القوة الجوية الإسرائيلية بضربهما فتتعطل بذلك منافذنا الوحيدة التي تصلنا بالعالم الخارجي وتقطع خطوط إمداداتنا التي نستورد عن طريقها احتياجاتنا الضرورية .
فالكثيرون من سيقرؤون العنوان المثير ربما يغمضون عيونهم لفترة من الوقت ويرفعون أكفهم نحو السماء ويدعون الله لو أن الخيال أصبح حقيقة!! هؤلاء هم الغالبية العظمي من الواعين والكادحين من العمال والفلاحين والوطنيين وكل المنتسبين إلى الحركات الثورية في كل مكان.  
وكان لوجود بعض الطيارين السوفيت فائدة كبرى في توفير طيارتنا بعملياتهم الهجومية على العدو ولا نقل بالحرف الواحد من كتاب هنرى كيسنجر " سنوات البيت الأبيض " صفحة 572 " أخبرني إسحاق رابين سفير إسرائيل في واشنطن يوم 24 [[أبريل]] نسيان [[1970]] أن الطيارين السوفيت يقومون بمهمات دفاعية في دخل [[مصر]] وبذلك فقد تحرر الطيران المصري من واجباته الدفاعية ليركز على الهجوم على المدافع الإسرائيلية على طول القناة وأصبح السلاح الجوى المصري أكثر قدرة على الهجوم علاوة على أن اشتباك الطيارين السوفيت مع الطيارين الإسرائيليين أصبح لا يمكن تفاديه " وكان ما يقوله " رابين " يتمشى مع قواعد اللعبة  الجارية كما سنرى فيم بعد.
 
قنوات مفتوحة مع واشنطن  
بينما يصيب الخاطر الغريب البعض بالذعر والانزعاج وربما يلقي بعضهم بالكتاب بعيدا في غضب وهم يستعيذون  بالله من الشيطان الرجيم وربما لا يخفي البعض الآخر سخطه على الكاتب وأفكاره السقيمة هؤلاء هم الإقطاعيون والانتهازيون والمنحرفون وآخرون ممن داسوا على الوفاء وتنكروا للزمالة والصداقة وغيرهم ممن لا يجدون لهم مجالا  إلا في كنف الاستعمار .
ليس معني ن الولايات المتحدة وهي إحدى الدولتين الأعظم قد اختارت الوقوف إلى جانب إسرائيل ضد الأماني العربية عدم فتح الحوار معها ... بل كانت هناك قنوات مباشرة رسمية وقنوات غير مباشرة سرية على أسس وثيقة من التعامل ومعرفة واعية بإجراء الحوار على مستوى الدولتين الأعظم .
 
كان تقدير [[عبد الناصر]] عن حق أيضا كما نلمس الآن ونقرأ في كل صفحة من كتاب هنرى كيسنجر المشار إليه أن " الإدارة الأمريكية كانت تنقسم إلى رأيين "
وقد يرزح البعض أياما تحت ثقل الخاطر المستحيل بل وقد يبدأ البعض  وهم وطأة هذا '''"الكابوس "''' بمراجعة حساباتهم وموازنة أمورهم فمن يدرى؟ خاصة وأننا في زمن أصبحت فيه  المستحيلات ممكنة وجائزة .. ويذكرني هؤلاء بقصة '''" نابليون بونابرت "''' مع الصحافة الفرنسية بعد أن فر من منفاه في جزيرة '''"ألبا"'''
الرأي الأول : يرى الإسراع في حل النزاع العربي الإسرائيلي من دخول الاتحاد السوفيتي إلى المنطقة برجاله ومن هؤلاء رجال البنتاجون وعلى رأسهم " ملفين ليرد " وزير الدفاع ورجال الخارجية الأمريكية وعلى رأسهم " وليم روجرز".
 
الرأي الثاني : وينفرد به " هنرى كيسنجر " مستشار " الرئيس نيكسون " لشؤون الأمن القومي وكان يرى أن عدم حل النزاع سيجعل العرب ينصرفون عن الاتحاد السوفيتي ويتجهون إلى واشنطن بعد أن يتأكدوا إنه إذا كان في مقدور الاتحاد السوفيتي إعطاء السلام فإن الولايات المتحدة هي القادرة الوحيدة على إعطاء الأرض . وكان [[عبد الناصر]] سيلعب على زيادة التواجد السوفيتي لتعزيز " الرأي الأول " ونسف " الرأي الثاني " لأنه إذا ما انفردت الولايات  بالمنطقة وهي المعروفة بصداقتها الأبدية لإسرائيل فإنها " ستبيع وتشترى " في المنطقة كما تريد ... لابد أن يكون هناك " منشط " أو حافز ؟ أو  " منافس " هكذا كان يرى [[عبد الناصر]] في إدارته الماهرة للصراع في الفترة الحرجة التي عاشها .
فبمجرد أن انتشر خبر فرار '''"الإمبراطور السابق"''' كانت عناوين  الصحف تدور كلها حول '''"هروب السفاح بونابرت" أو "فرار المجرم بونابرت"''' !! ولكن حينما تأكد خبر نزوله على الساحل الفرنسي بدأت نفس الصحف بنفس محرريها تتحدث عن '''"نابليون بونابرت"''' دون أوصاف أو ألقاب !!  
الخط الحرج الذي لا ينبغي تجاوزه .
 
هناك " خط فاصل " متفق عليه بين " الدولتين الأعظم" في م[[مارس]]تهما اللعبة السياسية عليهما عدم تجاوزه خوفا من تصادم ذري بينهما نتيجة لاختلال التوازن أو العدوان الثقيل على المصالح فضلنا أن نسميه" بالخط الحرج" وقد شرحت هذه النظرية بالتفصيل في كتابي " الأمن العربي في مواجهة الأمن الإسرائيلي ".
وحينما وقف على أبواب '''"باريس"''' ومعه نقر قليل من أفراد '''"الحرس الإمبراطوري"''' ممن عاصروا هزائمه وانتصاراته بدأت نفس الصحف بنفس المحررين تتحدث في حماس عن '''"الإمبراطور الذي عاد"'''! فالبشر هم البشر في كل زمان ومكان !!!  
ويتحقق أنسب وضع  للصدام المحلي حينما تتفق نتيجة الحسابات المحلية مع نتيجة حسابات الدولة الأعظم والمسافة التي تقف عندها الدولة الأعظم من " الخط الحرج " في الصراع العالمي تتناسب تناسبا عكسيا مع " الأماني القومية " فكلما قل البعد عن " الخط الحرج" كلما زادت الأماني القومية سلامة وأمنا والعكس بالعكس .
 
والدولتان الأعظم موجودتان شئنا أم أبينا - في كل منطقة من مناطق العالم وقربهما أو بعدهما من " الخط الحرج" يتفق تماما مع مصالحهما في المنطقة . وكان [[عبد الناصر]] يحاول دفع الاتحاد السوفيتي قريبا من " الخط الحرج" لأن الولايات المتحدة  كانت قريبة بالفعل منه لاعتبارها أن مصالحه متطابقة مع الوجود الإسرائيلي .
وحتى نتفادى تلك المشاعر المتباينة وخوفا من أن تجنح إلى الخيل استبدلنا السؤال الغريب بالعنوان الجديد ..وأعرف سلفا أن ما سأقوله سيشير مشاعر متباينة أيضا وهذه أحدي الصعوبات التي تقفز أمام من يكتب عن '''"العمالقة "'''..  
كنت وسيلته إلى ذلك تتلخص في العمل على زيادة ثقل الوجود السوفيتي في المنطقة حتى يكون ذلك حافزا للطرف لآخر على إيجاد حل للنزاع العربي الإسرائيلي  فكان تواجد بعض أطقم الصواريخ من الروس يتمشى مع هذا الاتجاه .
 
وكن تواجد بعض قطع الأسطول الروسي في نفس المياه التي كان ينفرد بها الأسطول السادس الأميركي يتمشى مع هذا الاتجاه .
إذ يعتبرهم البعض '''"ملائكة"''' بينما يعتبرهم آخرون مجرد '''"شياطين"''' ولو إنني اعتقد أن الفجوة بين الآراء لن تكون واسعة إلى هذا الحد خاصة بعد أن حصرنا حديثنا في قضية واحدة هي '''"قضية التحرير"''' والتي مازلنا نعالجها حتى الآن وبعد مرور سنوات عشر على وفاته .
وكان تلاقي [[القاهرة]] وموسكو في محاربة " الامبريالية ليتمشى مع هذا الاتجاه .
 
فبعد النكسة مباشرة كانت '''"[[مصر]]"''' والبلاد العربية قد خسرت كل شئ ...وكان '''"[[عبد الناصر]]"''' كالتاجر الذي خسر كل رأسماله في السوق ... وفي مثل هذه المواقف قد ينسحب بعض التجار من السوق بصفة نهائية وهم يؤثرون السلامة بينما يصر آخرون على البدء من جديد ليعودوا كما كانوا وربما أحسن وأفضل .  
 
وقد أصر '''"[[عبد الناصر]]"''' على أن يستعوض الخسارة الفادحة على الساحة العربية ولذلك فإنه نادى من أول وهلة '''"أننا خسرنا معركة ولكننا لن نخسر الحرب"''' وأن الغرض هو '''"إزالة آثار العدوان وإعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني "''' وأن '''" ما أخذ بالقوة  لا يسترد إلا بالقوة "'''
 
وبذلك حدد الغرض ... كما حدد وسيلة الحصول على الغرض وأخذ يعمل دون هوادة لتحقيق ذلك ضمن إستراتيجية فيها ذكاء ودهاء تحتاج  منا إلى مراجعة وشرح وربما يساعدني في توضيحها أنني كنت بعد '''"النكسة"''' قريبا من دائرة اتخاذ القرار أعلم الكثير مما كان يجرى ويحدث .
 
100% من أوراق اللعبة تعتمد على إرادتنا الذاتية .منذ اللحظة الأولي للهزيمة أوضح '''"[[عبد الناصر]]"''' إن الإرادة الذاتية هي العامل الفاصل لتحديد نتيجة المعركة.. فالمعركة معركتنا واللعبة لعبتنا والأوراق أوراقنا أن 100% من أوراق اللعبة في يدنا ونحن لا يجوز أن نتركها في يد الغير .  
 
فليس معقولا أن تكون 99% من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة مثلا أو في جيب الاتحاد السوفيتي !! وإلا فأين الإرادة الذاتية للقيادة الواعية وللشعوب المكافحة ؟!
 
وانطلاقا من هذا المبدأ السليم أخذ يعيد بناء القوات المسلحة صحيح كان الاتحاد السوفيتي قد أصيب بخيبة أمل كبرى في أصدقائه بعد الهزيمة الكبيرة التي منوا بها وظن الشعب السوفيتي لفترة ليست بالقصيرة أن '''"السلاح السوفيتي"''' هزم أمام '''"السلاح الأمريكي"''' إلا أن '''"[[عبد الناصر]]"''' كان يعتقد عن حق أنه كلما استوعبنا السلاح الذي بيدنا أكثر وأسرع كلما كان الإمداد بالأسلحة متناسبا مع رجة الاستيعاب .
 
'''وإلى جانب ذلك اتخذت عدة إجراءات لتقوية الإرادة الذاتية منها:'''
 
:#تهيئة مسرح العمليات الذي يتسع ليشمل كل أنحاء الجمهورية في حرب لم تعد تعرف واجهات بالمعني بالمفهوم بعد أن كثف العدو غاراته في العمق وأنشئت الطرق والمطارات والمواني المتبادلة .
:#بناء مخزون إستراتجية من المواد الإستراتيجية مثل المواد البترولية والغذائية ومواد تصنيع الأسلحة والذخائر .
:#إنشاء الجيش الشعبي لحراسة المنشآت في منطقة خطوط المواصلات وزيادة كفاءة الدفاع المدني  لمواجهة المعادية .
:#حشد الجهود العربية عن طريق المساعدات الاقتصادية العديدة واستغلال  العمق العربي في إعادة التوزيع الاستراتيجي لقواتنا فقد أصبحت ميناء بور سودان مثلا في خدمة وحدت الأسطول ومطارات واد سينا مكانا لتمركز قاذفاتنا الثقيلة ومنطقة جبل الأولياء لوجود بعض الوحدات البرية الأخرى علاوة على الوحدات العربية التي كانت تقاتل جنبا إلى جنب مع الوحدات المصرية على القناة والوحدات السورية في الجولان .
:#إشعال جبهة القتال على قناة السويس وفي داخل إسرائيل وبصفة تكاد تكون مستمرة .
:#الاستمرار في خطط التنمية  بأقصى معدل ممكن .
 
'''لا نلعب بالاتحاد السوفيتي ولا يلعب بنا:'''
 
:حددت علاقاتنا مع الاتحاد السوفيتي على أساس أهمية وجوده داخل اللعبة لأن انفراد احدي القوتين الأعظم بالمسرح فيه الطاقة الكبرى '''"فلص"''' واحد ينفرد بالغنيمة ولكن اثنين يتنازعان عليها  ولا يجدان الوقت للإنفراد بها وقد حددت علاقاتنا مع '''"موسكو"''' على أسس واضحة...فهي قوة عظمى لا يمكننا أن '''"نلعب بها"''' ونحن دولة مستقبل لا نسمح لهم أن '''"يلعبوا بنا"'''
 
:وعلى ذلك فلا بد أن '''"نلعب معا"''' كفريق تلاقت مصالحه واضعين في الاعتبار ألا تتعارض '''"مصالحنا المحلية مع مصالحه العالمية"''' فلا يكن التواجد السوفيتي في بعض المناطق أو الأوقات  احتلالا بأى صورة من الصور بل كان يتم وفق مخطط استراتيجي واع يدل على ذكاء وعمق فعلاوة على القلق البالغ الذي يسببه هذا التواجد لدى الطرف لآخر مما يجعله في خوف من زيادته واستمراره مما يهيئ حافزا على  البحث عن حل فإنه يخدم أغراضا  إستراتيجية محلية .
 
:وعلى سبيل المثال كان  تواجد بعض قطع الأسطول السوفيتي في ميناء [[الإسكندرية]] و[[بور سعيد]] حائلا دون ن تقوم القوة الجوية الإسرائيلية بضربهما فتتعطل بذلك منافذنا الوحيدة التي تصلنا بالعالم الخارجي وتقطع خطوط إمداداتنا التي نستورد عن طريقها احتياجاتنا الضرورية .
 
:وكان لوجود بعض الطيارين السوفيت فائدة كبرى في توفير طيارتنا بعملياتهم الهجومية على العدو ولا نقل بالحرف الواحد من كتاب هنرى كيسنجر '''"سنوات البيت الأبيض"''' صفحة 572  
 
:"أخبرني إسحاق رابين سفير إسرائيل في واشنطن يوم 24 [[أبريل]] نسيان [[1970]] أن الطيارين السوفيت يقومون بمهمات دفاعية في دخل [[مصر]] وبذلك فقد تحرر الطيران المصري من واجباته الدفاعية ليركز على الهجوم على المدافع الإسرائيلية على طول القناة وأصبح السلاح الجوى المصري أكثر قدرة على الهجوم علاوة على أن اشتباك الطيارين السوفيت مع الطيارين الإسرائيليين أصبح لا يمكن تفاديه" وكان ما يقوله '''"رابين"''' يتمشى مع قواعد اللعبة  الجارية كما سنرى فيم بعد.
 
'''قنوات مفتوحة مع واشنطن '''
 
:ليس معني ن الولايات المتحدة وهي إحدى الدولتين الأعظم قد اختارت الوقوف إلى جانب إسرائيل ضد الأماني العربية عدم فتح الحوار معها .. بل كانت هناك قنوات مباشرة رسمية وقنوات غير مباشرة سرية على أسس وثيقة من التعامل ومعرفة واعية بإجراء الحوار على مستوى الدولتين الأعظم .
 
:كان تقدير [[عبد الناصر]] عن حق أيضا كما نلمس الآن ونقرأ في كل صفحة من كتاب هنرى كيسنجر المشار إليه أن '''" الإدارة الأمريكية كانت تنقسم إلى رأيين "'''
 
:'''الرأي الأول:''' يرى الإسراع في حل النزاع العربي الإسرائيلي من دخول الاتحاد السوفيتي إلى المنطقة برجاله ومن هؤلاء رجال البنتاجون وعلى رأسهم '''"ملفين ليرد"''' وزير الدفاع ورجال الخارجية الأمريكية وعلى رأسهم '''"وليم روجرز"'''.
:'''الرأي الثاني:''' وينفرد به '''"هنرى كيسنجر"''' مستشار '''"الرئيس نيكسون"''' لشؤون الأمن القومي وكان يرى أن عدم حل النزاع سيجعل العرب ينصرفون عن الاتحاد السوفيتي ويتجهون إلى واشنطن بعد أن يتأكدوا إنه إذا كان في مقدور الاتحاد السوفيتي إعطاء السلام فإن الولايات المتحدة هي القادرة الوحيدة على إعطاء الأرض .  
 
وكان [[عبد الناصر]] سيلعب على زيادة التواجد السوفيتي لتعزيز '''"الرأي الأول"''' ونسف '''"الرأي الثاني"''' لأنه إذا ما انفردت الولايات  بالمنطقة وهي المعروفة بصداقتها الأبدية لإسرائيل فإنها '''"ستبيع وتشترى"''' في المنطقة كما تريد ... لابد أن يكون هناك '''"منشط"''' أو حافز؟ أو  '''"منافس"''' هكذا كان يرى [[عبد الناصر]] في إدارته الماهرة للصراع في الفترة الحرجة التي عاشها .
 
'''الخط الحرج الذي لا ينبغي تجاوزه:'''
 
:هناك '''"خط فاصل"''' متفق عليه بين '''"الدولتين الأعظم"''' في ممارستهما اللعبة السياسية عليهما عدم تجاوزه خوفا من تصادم ذري بينهما نتيجة لاختلال التوازن أو العدوان الثقيل على المصالح فضلنا أن نسميه '''"بالخط الحرج"''' وقد شرحت هذه النظرية بالتفصيل في كتابي '''" الأمن العربي في مواجهة الأمن الإسرائيلي "'''.
 
:ويتحقق أنسب وضع  للصدام المحلي حينما تتفق نتيجة الحسابات المحلية مع نتيجة حسابات الدولة الأعظم والمسافة التي تقف عندها الدولة الأعظم من '''"الخط الحرج"''' في الصراع العالمي تتناسب تناسبا عكسيا مع '''"الأماني القومية"''' فكلما قل البعد عن '''"الخط الحرج"''' كلما زادت الأماني القومية سلامة وأمنا والعكس بالعكس .
 
:والدولتان الأعظم موجودتان شئنا أم أبينا في كل منطقة من مناطق العالم وقربهما أو بعدهما من '''"الخط الحرج"''' يتفق تماما مع مصالحهما في المنطقة. وكان [[عبد الناصر]] يحاول دفع الاتحاد السوفيتي قريبا من '''"الخط الحرج"''' لأن الولايات المتحدة  كانت قريبة بالفعل منه لاعتبارها أن مصالحه متطابقة مع الوجود الإسرائيلي .
 
كنت وسيلته إلى ذلك تتلخص في العمل على زيادة ثقل الوجود السوفيتي في المنطقة حتى يكون ذلك حافزا للطرف لآخر على إيجاد حل للنزاع العربي الإسرائيلي  فكان تواجد بعض أطقم الصواريخ من الروس يتمشى مع هذا الاتجاه.
 
وكن تواجد بعض قطع الأسطول الروسي في نفس المياه التي كان ينفرد بها الأسطول السادس الأميركي يتمشى مع هذا الاتجاه.وكان تلاقي [[القاهرة]] وموسكو في محاربة الامبريالية ليتمشى مع هذا الاتجاه .
   
   
وسأنقل أيضا من  كتاب هنرى كيسنجر " سنوات البيت الأبيض " فيقول " في 31 / 1/[[1970]] سلم دوبرين رسالة من الكيس كوسيجين إلى الرئيس وفي الوقت سلمت رسالة مماثلة إلى كل من ويلسون وبومبيدو , تحذر من استمرار إسرائيل في هجماتها في عمق [[مصر]] لأن هذا سيجبر الاتحاد السوفيتي على النظر في إمكان إمداد الدول العربية بوسائل تحول دون ذلك .. وناشد الدول الأربع إجبار إسرائيل على إيقاف هجماتها بأسرع ما يمكن من الأراضي العربية المحتلة " ويستمر كيسنجر قائلا " بمجرد التأكد من وصول الجنود السوفيت إلى [[مصر]] هذه أول مرة تتمركز فيها قوات سوفيتية على أرض غير شيوعية وجهت سفيرنا في موسكو جاكوب بيم لمقابلة جروميكو للوصول إلى حل لإيقاف النيران إلا أن موسكو رفضت ذلك ورفضت الحد من التسلح إلا بعد  انسحاب  إسرائيل إلى حدود [[1967]] ثم قابلت دوبرنين سفيرهم في واشنطن في 10/2/[[1970]] وأخبرته بأن التواجد السوفيتي في الشرق الأوسط تنظر إليه الولايات المتحدة نظرة خطيرة وأنني اخترت هذه الطريقة للحوار حتى نتجنب المواجهة وأننا على استعداد للتفاوض من أجل إيجاد حل للمشكلة " ثم يستطرد " كيسنجر " فيقول : " بعد وصول الأفراد السوفيت ألقي البنتاجون اللوم على إسرائيل فهي التي تسببت بعنادها في ذلك واقترح الوصول إلى حل سلمي ومعنى ذلك أن رجال البنتاجون يريدون لجهة أخرى أن تحل المشكلة كما حدث في فيتنام وعلاوة على ذلك فقد أيدت وزارة الخارجية اتجاهات البنتاجون بل علق نلسون على ذلك بأن [[السياسة]] الإسرائيلية هي أساس المشاكل الحالية وان الهزيمة العسكرية للعرب [[1967]] هي نصر سياسي  للسوفيت فأصبحوا هم أصدقاء العرب ونحن أعداؤهم " ثم يعود فيقول " في يوم 10 / 6/ [[1970]] قابلت دوبرونين وسألته : هل يمكن ربط انسحاب السوفيت من المنطقة مع خطة سلام شامل ؟"
وسأنقل أيضا من  كتاب هنرى كيسنجر '''"سنوات البيت الأبيض "''' فيقول  
وهذه هي سياسة الترابط المعمول بها في الصراع الدولي ... خلق مشاكل عديدة تجعل الطرف الآخر يعيد حساباته على أساس " الأخذ والعطاء " ولأن [[السياسة]] لا هي أخذ فقط ولا هي عطاء فقط هي مزيج بين هذا وذاك  
 
إذن حققت هذه [[السياسة]] حتى الآن ومن واقع كتاب " سنوات البيت الأبيض " لهنرى كيسنجر : انقساما في الإدارة الأمريكية الكل عدا هنرى كيسنجر يلقي اللوم على إسرائيل , فرض القيود على إرسال الأسلحة إلى إسرائيل لدرجة أن وليم روجوز صرح بأنه في تقدير واشنطن فإن القدرة  الجوية الإسرائيلية كافية لمتطلباتها في الوقت الحالي .
:" في 31 / 1/[[1970]] سلم دوبرين رسالة من الكيس كوسيجين إلى الرئيس وفي الوقت سلمت رسالة مماثلة إلى كل من ويلسون وبومبيدو تحذر من استمرار إسرائيل في هجماتها في عمق [[مصر]] لأن هذا سيجبر الاتحاد السوفيتي على النظر في إمكان إمداد الدول العربية بوسائل تحول دون ذلك ..وناشد الدول الأربع إجبار إسرائيل على إيقاف هجماتها بأسرع ما يمكن من الأراضي العربية المحتلة "  
خط الأمر الواقع
 
وكان " [[عبد الناصر]] " يركز اهتمامه على خط آخر هو " خط الأمر الواقع " وإن كان  الخط الحرج" يتأثر " بالحرارة " فلابد من إشعاله وبصفة مستمرة حتى يقتنع " العدو " أن فرض الأمر الواقع خارج قدراته  وحتى يجبر الدولتين الأعظم على التدخل لإطفاء النيران المشتعلة حتى لا تمتد وتنتشر فتهدر مصالحهما وهنا تصبح المواجهة بينهما أمرا أكثر احتمالا .
'''ويستمر كيسنجر قائلا:'''
" الردع " هو الذي فرض الأمر الواقع ... لأن " الردع " هو القوة التي تردع الجانب الآخر عن القيام بأى عمل يغير من الأمر الواقع . الردع يعتمد على " القوة الحقيقية المتاحة ) وبذلك فإن الجانب الذي  يمتلك " القدرة على الردع " في إمكانه تحقيق أغراضه بالتهديد باستخدام القوة دون الحاجة لاستخدامها بطريقة فعلية وبذلك يمكنه استغلال وجود الأسلحة والتلويح بها دون استخدامها أى " بتعجيز " الطرف الآخر عن طريق القمع والقسر .
 
وفرض الأمر الواقع يحتاج إلى وقت لإقراره .
:" بمجرد التأكد من وصول الجنود السوفيت إلى [[مصر]] هذه أول مرة تتمركز فيها قوات سوفيتية على أرض غير شيوعية وجهت سفيرنا في موسكو جاكوب بيم لمقابلة جروميكو للوصول إلى حل لإيقاف النيران إلا أن موسكو رفضت ذلك ورفضت الحد من التسلح إلا بعد  انسحاب  إسرائيل إلى حدود [[1967]]  
" والردع " هو الذي يوفر هذا الوقت ..وبذلك فإن " الردع " هو درع " الأمر الواقع وأدالته وخطورة الردع في " تأثيره النفسي " ويتضح ذلك من المعادلات الآتية :
 
الردع = التأثير النفسي  + التأثير المادي  = رفض الأمر الواقع .
:ثم قابلت دوبرنين سفيرهم في واشنطن في 10/2/[[1970]] وأخبرته بأن التواجد السوفيتي في الشرق الأوسط تنظر إليه الولايات المتحدة نظرة خطيرة وأنني اخترت هذه الطريقة للحوار حتى نتجنب المواجهة وأننا على استعداد للتفاوض من أجل إيجاد حل للمشكلة"  
الردع -  التأثير المادي + صدام مباشر = رفض الأمر الواقع
 
الردع  - التأثير النفسي = صدام مباشر = رفض الأمر الواقع .
'''ثم يستطرد "كيسنجر" فيقول: '''
وكان لدى إسرائيل كل وسائل الردع  خاصة " الذراع الطويلة " المتمثلة " في قوتها الجوية " خاصة بعد احتلالها لمطاراتنا في [[سيناء]]  وإصرار الولايات المتحدة على إمدادها بكافة أنواع الطائرات الحديثة .
 
وبالرغم من ذلك رفض " [[عبد الناصر]] " الاستسلام رغما عن الغارات في العمق التي كانت توجه إلى أغراضنا المدنية وبذلك فقد كسر أخطر مبدأ في مبادئ الردع وهو التأثير النفسي وأخذ يشن " حرب الاستنزاف " ومعها تضرب الوحدات الفدائية داخل إسرائيل وأعود فأنقل من صفحة 349 من كتاب " سنوات البيت الأبيض " لهنرى كيسنجر إذ يقول " في [[فبراير]] شباط [[1969]] أبلغتنا المصادر الإسرائيلية أن 1288 حادث تخريب وإرهاب تمت منذ  حرب الأيام الستة , منها 920 حادثة من الحدود الأردنية , 166 من الحدود المصرية , 37 حادثة من خط إيقاف النيران مع سوريا , 35 حادثة من الحدود اللبنانية , 130 من قطاع غزة . وكانت خسائر الإسرائيليين هي 234 قتيلا , 265 جريحا من العسكريين , 37 قتلي , 330 جرحي من المدنيين وهذه نسبة مخيفة لدولة تعدادها 5و2 مليون وهي لا تساوي 20,000 قتيل , 100,000 جريح لدولة في حجم الولايات المتحدة " بل نجد أن هاعولام هازيه نشرت في العدد 1640 بتاريخ 26/3/ [[1969]] خطابا أرسلته إحدى القارئات إلى رئيس  التحرير تقول فيه " نحن نريد مزيدا من الأرض " وقد نشرت المجلة ردها على الرسالة بلسان أحد الجنود الإسرائيليين ليقول : لو كنت تجلسين في المناطق المحتلة  وتفقدين أصدقاءك القربيين الذين يموتون كل يوم بواسطة لغم أو بواسطة الطلقات أو بغير ذلك ما طالبت باحتلال المزيد من الأرض " ونجد أن رئيس قسم ضحايا الحرب " بوزارة الدفاع الإسرائيلية وهو يهودا نيرون يعلن عن حجم الخسائر  للجيش الإسرائيلي حتى [[مايو]] أيار [[1969]] فيؤكد أنها 713 قتيلا  في حين أن إسرائيل خسرت في الحرب 780 قتيلا.
:" بعد وصول الأفراد السوفيت ألقي البنتاجون اللوم على إسرائيل فهي التي تسببت بعنادها في ذلك واقترح الوصول إلى حل سلمي ومعنى ذلك أن رجال البنتاجون يريدون لجهة أخرى أن تحل المشكلة كما حدث في فيتنام وعلاوة على ذلك فقد أيدت وزارة الخارجية اتجاهات البنتاجون بل علق نلسون على ذلك بأن [[السياسة]] الإسرائيلية هي أساس المشاكل الحالية وان الهزيمة العسكرية للعرب [[1967]] هي نصر سياسي  للسوفيت فأصبحوا هم أصدقاء العرب ونحن أعداؤهم "  
السباق بين الاختراق والاعتراض
 
وبين القدرة على رد الفعل والقدرة على الفعل
'''ثم يعود فيقول: '''
وبعد أن كسر " [[عبد الناصر]] " إحدى دعائم " الردع " المتمثلة في " التأثير النفسي " برفضه " الاستسلام " وإصراره على مواجهة القتال اتجه ثقله إلى كسر " الجانب المادي ولم يكن الأمر سهلا "
 
كانت محاولاته تتركز في إيجاد حالة من التوازن بين " قدوة العدو على الاختراق " و" قدرتنا على الاعتراض " وكذلك بين " قدرة العدو على الفعل " و" قدرتنا على رد الفعل "
:" في يوم 10 / 6/ [[1970]] قابلت دوبرونين وسألته:هل يمكن ربط انسحاب السوفيت من المنطقة مع خطة سلام شامل ؟"
وتفسير ذلك أن الصراع المسلح هو عبارة عن مبارزة لا تنتهي بين الأسلحة التي " تخترق " والأسلحة التي " تعترض " فمثلا إذا كانت وسيلة العدو في الاختراق كما يحدث في ذلك الوقت هي التفوق في القوة الجوية فلابد أن يكون التركيز على تقوية " دفاعنا الجوى " إلى أن يتيسر لنا الحصول  على " القوة الجوية القادرة على الاختراق "
 
وفعلا في زيارته الشهيرة إلى موسكو حصل [[عبد الناصر]] على صواريخ سام 3 وصواريخ سم 6 بل وأطقم هذه الصواريخ من السوفيت حتى تيسير تدريب الأطقم المصرية ثم بعد ذلك استغل [[عبد الناصر]]  الفترة غير المستقرة بعد قبوله " مبادرة روجرز " عام [[1970]] لنقل حوائط الصواريخ قريبا من القناة بحيث تحمى قواتنا على الضفة الغربية وفي الوقت نفسه تستر وتغطى أى عملية عبور في المستقبل إلى الضفة الشرقية .
وهذه هي سياسة الترابط المعمول بها في الصراع الدولي ... خلق مشاكل عديدة تجعل الطرف الآخر يعيد حساباته على أساس '''"الأخذ والعطاء"''' ولأن [[السياسة]] لا هي أخذ فقط ولا هي عطاء فقط هي مزيج بين هذا وذاك  
وقد تم عبور [[1973]] تحت ستار حائط صواريخ [[عبد الناصر]] الذي أنشأه عام [[1970]] ولم تتمكن  قواتنا من التقدم خطوة واحدة أبعد من مدى حماية  هذه الصواريخ بالرغم من أنه كان من الممكن استخدام وسائل أخرى.
إذن حققت هذه [[السياسة]] حتى الآن  
ولنرجع مرة أخرى إلى هنري كيسنجر في كتابه " سنوات البيت الأبيض " لتجده يقول " في 15 [[أغسطس]] أب [[1970]] قابلني إسحاق رابين أكد  أن 14 موقع صواريخ سام " 2" معززة بثلاثة مواضع صواريخ سام 3 حركت في المنطقة العازلة ون إسرائيل فقدت 5  طائرات فانتوم  في يوم وحد" ثم يقول : استخدم [[عبد الناصر]] مبادرة روجرز لتحريك صواريخه للأمام وأصبحت هذه الصواريخ لا توفر الحماية للقوات المصرية في القناة فحسب بل أصبحت قادرة على حماية أى عملية إنزال [[مصر]]ية على الجانب الآخر وقد انتهز [[عبد الناصر]] فترة إيقاف النيران لأن الصواريخ ستكون مؤمنة ضد الضرب " ثم عاد ليكتب " في 22 يوليو تموز [[1970]] بدأ الروس والمصريون في إنشاء خط دفاعي بمحاولة القناة وعلى مسافة 20 -3- ميلا وهذا الخط يشمل 3 مواقع سام 3, 11 موقع سام 2 وسوف تقوى وتعزز هذه المواقع في المستقبل وأصبحت قادرة على حماية موقع المدفعية المصرية التي تقذف الإسرائيليين في الشرق بل وتعتبر في الوقت نفسه قاعدة للهجوم المصري المنتظر .
 
وأصبح على الأمريكيين مواجهة النظرية الروسية التي تستخدم الوجود السوفيتي لتعزيز نفوذها الجيويوليتيكي فما بدا على أنه وجود لمنع الاختراق الإسرائيلي انتهي إلى كونه وسيلة ضغط الانسحاب إسرائيل ".
'''ومن واقع كتاب " سنوات البيت الأبيض " لهنرى كيسنجر: '''
هذا من ناحية السباق بين " القدرة على الاختراق " و" القدرة على الاعتراض "  
 
فماذا كان عليه الموقف في السباق بين " القدرة على الفعل " و" القدرة على  رد الفعل "؟
:انقساما في الإدارة الأمريكية الكل عدا هنرى كيسنجر يلقي اللوم على إسرائيل فرض القيود على إرسال الأسلحة إلى إسرائيل لدرجة أن وليم روجوز صرح بأنه في تقدير واشنطن فإن القدرة  الجوية الإسرائيلية كافية لمتطلباتها في الوقت الحالي .
كان لدى إسرائيل  السلاح الرادع متمثلا في الطائرات بعيدة المدى من الفانتوم والسكاى هوك فلو أمكن ل[[مصر]] الحصول على الطائرة بعيدة المدى أيضا لبطل مفعول السلاح الرادع الإسرائيلي .. وهذه نتيجة حتمية في إدارة الصراع الذي يعتمد على الردع فامتلاك القوتين الأعظم الأسلحة الذري في مخازنهما  أبطل استخدام القوة الذرية في الصراع وامتلاك الغازات السامة للأطراف المتعددة يمنع استخدامها .
 
ولم تكن الطائرة بعيدة المدى متيسرة لدى [[مصر]] في ذلك الوقت رغما عن محاولاتنا المتعددة مع الاتحاد السوفيتي فلم تكن حساباته قد تطابقت مع حساباتنا في هذا المجال بعد كان يخشي بدوره دفع الأمور بأكثر  مما تحتمل فينجم عن ذلك المواجهة التي يريد تجنبها .
'''خط الأمر الواقع:'''
 
:وكان '''"[[عبد الناصر]]"''' يركز اهتمامه على خط آخر هو '''"خط الأمر الواقع"''' وإن كان  الخط الحرج يتأثر '''"بالحرارة"''' فلابد من إشعاله وبصفة مستمرة حتى يقتنع '''"العدو"''' أن فرض الأمر الواقع خارج قدراته  وحتى يجبر الدولتين الأعظم على التدخل لإطفاء النيران المشتعلة حتى لا تمتد وتنتشر فتهدر مصالحهما وهنا تصبح المواجهة بينهما أمرا أكثر احتمالا .
 
'''"الردع"''' هو الذي فرض الأمر الواقع ... لأن '''"الردع"''' هو القوة التي تردع الجانب الآخر عن القيام بأى عمل يغير من الأمر الواقع . الردع يعتمد على '''"القوة الحقيقية المتاحة"''' وبذلك فإن الجانب الذي  يمتلك '''" القدرة على الردع"''' في إمكانه تحقيق أغراضه بالتهديد باستخدام القوة دون الحاجة لاستخدامها بطريقة فعلية وبذلك يمكنه استغلال وجود الأسلحة والتلويح بها دون استخدامها أى '''"بتعجيز"''' الطرف الآخر عن طريق القمع والقسر .
 
وفرض الأمر الواقع يحتاج إلى وقت لإقراره .'''"والردع"''' هو الذي يوفر هذا الوقت ..وبذلك فإن '''"الردع "''' هو درع الأمر الواقع وأدالته وخطورة الردع في '''"تأثيره النفسي"'''
 
'''ويتضح ذلك من المعادلات الآتية:'''
 
:#الردع = التأثير النفسي  + التأثير المادي  = رفض الأمر الواقع .
:#الردع -  التأثير المادي + صدام مباشر = رفض الأمر الواقع
:#الردع  - التأثير النفسي = صدام مباشر = رفض الأمر الواقع .
 
وكان لدى إسرائيل كل وسائل الردع  خاصة '''"الذراع الطويلة"''' المتمثلة '''"في قوتها الجوية"''' خاصة بعد احتلالها لمطاراتنا في [[سيناء]]  وإصرار الولايات المتحدة على إمدادها بكافة أنواع الطائرات الحديثة .
 
وبالرغم من ذلك رفض '''"[[عبد الناصر]]"''' الاستسلام رغما عن الغارات في العمق التي كانت توجه إلى أغراضنا المدنية وبذلك فقد كسر أخطر مبدأ في مبادئ الردع وهو التأثير النفسي وأخذ يشن '''"حرب الاستنزاف"''' ومعها تضرب الوحدات الفدائية داخل إسرائيل  
 
'''وأعود فأنقل من صفحة 349 من كتاب "سنوات البيت الأبيض " لهنرى كيسنجر إذ يقول:'''
 
:" في [[فبراير]] شباط [[1969]] أبلغتنا المصادر الإسرائيلية أن 1288 حادث تخريب وإرهاب تمت منذ  حرب الأيام الستة منها 920 حادثة من الحدود الأردنية 166 من الحدود المصرية 37 حادثة من خط إيقاف النيران مع [[سوريا]] 35 حادثة من الحدود اللبنانية 130 من [[قطاع غزة]] .  
 
:وكانت خسائر الإسرائيليين هي 234 قتيلا ،265 جريحا من العسكريين ،37 قتلي ،330 جرحي من المدنيين وهذه نسبة مخيفة لدولة تعدادها 5و2 مليون وهي لا تساوي 20,000 قتيل ،100,000 جريح لدولة في حجم الولايات المتحدة "
 
'''بل نجد أن هاعولام هازيه نشرت في العدد 1640 بتاريخ 26/3/ [[1969]] خطابا أرسلته إحدى القارئات إلى رئيس  التحرير تقول فيه:'''
 
:'''" نحن نريد مزيدا من الأرض "''' وقد نشرت المجلة ردها على الرسالة بلسان أحد الجنود الإسرائيليين ليقول: لو كنت تجلسين في المناطق المحتلة  وتفقدين أصدقاءك القربيين الذين يموتون كل يوم بواسطة لغم أو بواسطة الطلقات أو بغير ذلك ما طالبت باحتلال المزيد من الأرض '''"ونجد أن رئيس قسم ضحايا الحرب "''' بوزارة الدفاع الإسرائيلية وهو يهودا نيرون يعلن عن حجم الخسائر  للجيش الإسرائيلي حتى [[مايو]] أيار [[1969]] فيؤكد أنها 713 قتيلا  في حين أن إسرائيل خسرت في الحرب 780 قتيلا.
 
'''السباق بين الاختراق والاعتراض وبين القدرة على رد الفعل والقدرة على الفعل:'''
 
:وبعد أن كسر '''"[[عبد الناصر]]"''' إحدى دعائم '''"الردع"''' المتمثلة في '''"التأثير النفسي"''' برفضه '''"الاستسلام"''' وإصراره على مواجهة القتال اتجه ثقله إلى كسر '''"الجانب المادي ولم يكن الأمر سهلا "'''
 
كانت محاولاته تتركز في إيجاد حالة من التوازن بين '''"قدوة العدو على الاختراق " و" قدرتنا على الاعتراض "''' وكذلك بين '''" قدرة العدو على الفعل " و" قدرتنا على رد الفعل "'''
 
وتفسير ذلك أن الصراع المسلح هو عبارة عن مبارزة لا تنتهي بين الأسلحة التي '''"تخترق"''' والأسلحة التي '''"تعترض"''' فمثلا إذا كانت وسيلة العدو في الاختراق كما يحدث في ذلك الوقت هي التفوق في القوة الجوية فلابد أن يكون التركيز على تقوية '''"دفاعنا الجوى"''' إلى أن يتيسر لنا الحصول  على '''"القوة الجوية القادرة على الاختراق"'''
 
وفعلا في زيارته الشهيرة إلى موسكو حصل [[عبد الناصر]] على صواريخ سام 3 وصواريخ سم 6 بل وأطقم هذه الصواريخ من السوفيت حتى تيسير تدريب الأطقم المصرية ثم بعد ذلك استغل [[عبد الناصر]]  الفترة غير المستقرة بعد قبوله '''"مبادرة روجرز"''' عام [[1970]] لنقل حوائط الصواريخ قريبا من القناة بحيث تحمى قواتنا على الضفة الغربية وفي الوقت نفسه تستر وتغطى أى عملية عبور في المستقبل إلى الضفة الشرقية .
 
وقد تم عبور [[1973]] تحت ستار حائط صواريخ [[عبد الناصر]] الذي أنشأه عام [[1970]] ولم تتمكن  قواتنا من التقدم خطوة واحدة أبعد من مدى حماية  هذه الصواريخ بالرغم من أنه كان من الممكن استخدام وسائل أخرى.
 
'''ولنرجع مرة أخرى إلى هنري كيسنجر في كتابه "سنوات البيت الأبيض" لتجده يقول:'''
 
:"في 15 [[أغسطس]] أب [[1970]] قابلني إسحاق رابين أكد  أن 14 موقع صواريخ سام '''"2"''' معززة بثلاثة مواضع صواريخ سام 3 حركت في المنطقة العازلة ون إسرائيل فقدت 5  طائرات فانتوم  في يوم وحد"  
 
'''ثم يقول:'''
 
:"استخدم [[عبد الناصر]] مبادرة روجرز لتحريك صواريخه للأمام وأصبحت هذه الصواريخ لا توفر الحماية للقوات المصرية في القناة فحسب بل أصبحت قادرة على حماية أى عملية إنزال مصرية على الجانب الآخر وقد انتهز [[عبد الناصر]] فترة إيقاف النيران لأن الصواريخ ستكون مؤمنة ضد الضرب "
 
'''ثم عاد ليكتب:'''
 
:" في 22 [[يوليو]] تموز [[1970]] بدأ الروس والمصريون في إنشاء خط دفاعي بمحاولة القناة وعلى مسافة 20 -3- ميلا وهذا الخط يشمل 3 مواقع سام 3, 11 موقع سام 2 وسوف تقوى وتعزز هذه المواقع في المستقبل وأصبحت قادرة على حماية موقع المدفعية المصرية التي تقذف الإسرائيليين في الشرق بل وتعتبر في الوقت نفسه قاعدة للهجوم المصري المنتظر .
 
وأصبح على الأمريكيين مواجهة النظرية الروسية التي تستخدم الوجود السوفيتي لتعزيز نفوذها الجيويوليتيكي فما بدا على أنه وجود لمنع الاختراق الإسرائيلي انتهي إلى كونه وسيلة ضغط الانسحاب إسرائيل ".
 
هذا من ناحية السباق بين "القدرة على الاختراق " و" القدرة على الاعتراض " فماذا كان عليه الموقف في السباق بين " القدرة على الفعل " و" القدرة على  رد الفعل "؟كان لدى إسرائيل  السلاح الرادع متمثلا في الطائرات بعيدة المدى من الفانتوم والسكاى هوك فلو أمكن ل[[مصر]] الحصول على الطائرة بعيدة المدى أيضا لبطل مفعول السلاح الرادع الإسرائيلي .. وهذه نتيجة حتمية في إدارة الصراع الذي يعتمد على الردع فامتلاك القوتين الأعظم الأسلحة الذري في مخازنهما  أبطل استخدام القوة الذرية في الصراع وامتلاك الغازات السامة للأطراف المتعددة يمنع استخدامها .
 
ولم تكن الطائرة بعيدة المدى متيسرة لدى [[مصر]] في ذلك الوقت رغما عن محاولاتنا المتعددة مع الاتحاد السوفيتي فلم تكن حساباته قد تطابقت مع حساباتنا في هذا المجال بعد كان يخشي بدوره دفع الأمور بأكثر  مما تحتمل فينجم عن ذلك المواجهة التي يريد تجنبها .
  ولكن تدخل الحظ فجأة وحدثت ثورة " الفتاح " من [[سبتمبر]] – أيلول [[1969]] بقيادة الأخ " معمر القذافي " وسعي الرجل في إستماتة حتى تيسر له في أوائل عام [[1970]] الحصول على صفقة فرنسية وافق عليها الرئيس الفرنسي بومبيدو وتتعلق بشراء ليبيا مائة طائرة ميراج يتم توريدها على أربع سنوات وتم الحصول على عدد من هذه الطائرات وضعت تحت تصرف القيادة المصرية ... وأصبح لدى [[مصر]] سلاح رادع في مقدروه ضرب إسرائيل في العمق , وكن هذا من أخطر التطورات الإستراتيجية في الصراع الدائر .
  ولكن تدخل الحظ فجأة وحدثت ثورة " الفتاح " من [[سبتمبر]] – أيلول [[1969]] بقيادة الأخ " معمر القذافي " وسعي الرجل في إستماتة حتى تيسر له في أوائل عام [[1970]] الحصول على صفقة فرنسية وافق عليها الرئيس الفرنسي بومبيدو وتتعلق بشراء ليبيا مائة طائرة ميراج يتم توريدها على أربع سنوات وتم الحصول على عدد من هذه الطائرات وضعت تحت تصرف القيادة المصرية ... وأصبح لدى [[مصر]] سلاح رادع في مقدروه ضرب إسرائيل في العمق , وكن هذا من أخطر التطورات الإستراتيجية في الصراع الدائر .
  وأصبحت [[مصر]] قادرة على " رد الفعل " وبذلك كسرت [[القاهرة]] بفضل سياستها العربية الجناح الآخر من معادلة " الردع " ويرجع الفضل في ذلك إلى " معمر القذافي " وأقول هذا للتاريخ .
  وأصبحت [[مصر]] قادرة على " رد الفعل " وبذلك كسرت [[القاهرة]] بفضل سياستها العربية الجناح الآخر من معادلة " الردع " ويرجع الفضل في ذلك إلى " معمر القذافي " وأقول هذا للتاريخ .

مراجعة ١٦:٠٩، ٩ مارس ٢٠١٣

الفصل السابع:الظروف والعوامل

التحالف الرهيب بين الاستعمار والرجعية فلسطين ضرورة لأمن مصر الاستعمار يحاول التطويق المجتمع المصري يقع تحت ضغطين رئيسيين الخلل في الملكية والخلل في التمثيل النيابي علاقات غير متوازنة بين طبقات المجتمع الجيش لا يملك السلاح والعتاد الضغوط الخارجية والداخلية النكسة .

تحدثنا حتى الآن عن "مفاتيح شخصية عبد الناصر" في معرض حديثنا عن "عبد الناصر واتخاذ القرار" وبذلك نكون قد استكملنا أحد وجهي الموضوع وبقي أن نتحدث عن الظروف التي عاش فيها وقت إصداره لقراراته حتى نجلو الوجه الآخر إذ لا يمكن تقييم أى قرار إلا بوضعه داخل إطار الظروف التي اتخذ لمواجهتها أو التي عاش فيها فأثرت عليه وتأثر بها.

فالقرار لم يكن في يوم من الأيام مجرد عملية حسابية صماء ولكنه إجراء معقد أشد التعقيد وتفسير ذلك أن اتخاذ القرار إجراء يمر بمراحل كثيرة متتابعة ومتداخلة أكثرها تحدث في المحيط المعنوي للمشكلة وأقلها يجرى في المحيط المادي لها ..

والجانب المادي من السهل تقديره وتحديده بدقة وربما يحتاج إلى عمليات حسابية دقيقة للوصول إلى نتيجة أقرب ما يمكن للصواب ولكن الجانب المعنوي يضيف إلى مشكلة اتخاذ القرار عاملين هامين:الأول منهما يتعلق بالمخاطرة والعامل الثاني هو التكهن والاستنتاج .

والمخاطرة لازمة من لوازم القار ولابد من التفريق بينهما وبين المقامرة فللمخاطرة أسسها وقواعدها التي ربما تصيب وربما تخطئ أما المقامرة فهي مجرد ضربة حظ تتعلق بالقدر ولا تبني على أساس من العقل والتدبر.

أما التكهن فيحتاج غلى معرفة والعلم والمعلومات إلى جنب القدرة على الخيال والتصور فيكون بذلك قادرا على اختراق الضباب الذي يغلف المواقف نتيجة للإرادات المتصارعة التي لا يمكن تحديد اتجاهاتها تحديدا قاطعا والمعلومات المتضاربة التي تختلط فيها الحقيقة بالزيف ويمتزج فيها الوضوح بالغموض .

ولنضرب مثلا واحدا نقرب به ما نقول إلى الأذهان .فإذا كن الجانب المضاد مثلا لديه 4 دبابات فالجانب المادي لمواجهة ذلك يبني على أساس أن التعامل سيكون فعلا مع الدبابات الأربع ولكن الجانب المعنوي يمكن أن يجعل التعامل مع دبابتين وربما ثماني !!

إذ سوف يدخل في العملية الحسابية عوامل أخرى غير ملموسة مثل جودة الدبابة من الناحية الفنية مدى المدفع ،القدرة على المناورة،السرعة ،درجة الرؤية المتيسرة في الضبابا أو الليل نتيجة لاستخدام الأشعة تحت الحمراء مثلا درجة تدريب الأفراد ،مهارة القيادة الروح المعنوية ،الإيمان بالغرض ،القدرة على التصرف أمام المواقف المفاجئة ... الخ ... هذه العوامل غير محسوسة ولكنها تؤثر تماما عند اتخاذ القرار .

إذ لو أن صاحب القرار تناساها فإنه سيتعامل في واقع الحال مع ظروف أخرى لم يضعها في حسبانه ويصبح قراره بذلك لا يتعامل مع واقع ويكون أقرب إلى السهم الطائش لا يصيب هدفا ولا يحقق غرضا.وبعد هذه المقدمة السريعة يمكن أن نتحدث عن الظروف التي عاش فيها عبد الناصر وهو يتخذ قراراته ..

كان المناخ الذي ولدت فيه ثورة يوليو تموز 1952 يتميز بالتحالف الرهيب بين الرجعية والاستعمار واستمر الرجل إلى آخر يوم في حياته يخوض معركة ضارية ضد ذلك الحلف الذي شكل قوة ضاغطة مستمرة أثرت إلى قراراته وأجبرته على أن يخوض معركة تلو الأخرى دون أن تترك فرصة لالتقاط الأنفاس ...

ويقول بعض "السذج" إنه كان على "عبد الناصر" تجنب المواجهة ومفاداتها ...ولا أظن أن الرجل كان يطلب غير ذلك إذ لم يكن يريد حريا ولا كان يسعي إلى قتال .. بل حاول جهده أن يتفاهم بالحسني دون جدوى وأمضي السنوات الأولي للثورة في محاولاته تلك فكان يخرج من طريق مغلق إلى طريق مسدود دون أن يجد صدى لمحاولاته تلك.

كان البديل لذلك "الاحتواء" والدخول في "مناطق النفوذ" وهذا أمر لم يقبله .وهنا اختلطت شخصيته "لثورية" بالظروف الضاغطة وتفاعلت معها ورفضتها وأصبح من المحتم عليه أن يتحرك ليكسر الطوق قبل أن يطبق عليه إذ أن أخطر ما يصيب الثورة هو حالة الجمود التي تدفع إليه أو حالة الاستسلام التي تجر إلى الوقوع في حبائلها .

تلوم عبد الناصر على محاولاته تلك وربما تجاوزت اللوم إلى حدالاتهام . ولكنها لم تحاول ولو مرة وحدة أن تتحدث عن محاولات الرجعية والاستعمار مع الثورة وقئدها من يوم أن ولدت حتى تصيدتها في يونيو حزيران 1967 ولم تحاول ولو مرة واحدة أن تقترح البديل الذي كان على عبد الناصر إتباعه والسير فيه .

ثم وجد "عبد الناصر" ضمن ما وجد من " مخلفات" مشكلة فلسطين فالأنظمة العربية قبل ثورة يوليو تموز 1952 هي المسئولة عن خلق إسرائيل "الدولة" بعد أن فشلت في مقاومة إسرائيل "الفكرة والحلم " .

فعبد الناصر لم يكن مسئولا عن خلق المشكلة بل كانت المشكلة إحدى الأسباب التي دفعته إلى الثورة . وعلى أى حال فلن نستطرد أكثر من ذلك إذ لسنا في موقف نحدد فيه المسؤوليات ثم لم تعد هناك فائدة من البكاء على اللبن المسكوب .

وكن المؤمل أن يتعلم حكام العرب كم درس 1948 ويحاولوا ولو لمرة واحدة أن يتحدوا أمام الخطر الداهم الذي أصبح جاثما وسط الدار ولكن الكثيرين منهم رأوا ن الثورة أخطر عليهم وأكثر تهديدا لبقائهم فقاموا يحاربونها بكل ما وهبهم الله من قوة وثروة .

ويقول "السذج" و"المغرضون" الذين يقيمون الأحداث الآن إنه كان على عبد الناصر أن يترك فلسطين في ذمة التاريخ لنتفرغ لأحوالنا ومشاكلنا وإنه كان على الرجل أن يقفل عليه حدوده وبذلك يتفادى الصدم مع إسرائيل ويجنب مصر تلك الحروب التي خاضتها .

ولكن... هل تحرشت مصر بإسرائيل حينما قامت بغارتها الوحشية في غزة وأتبعتها بغاراتها في مناطق عديدة بعد ذلك ؟ هل تحرشت مصر بإسرائيل حينما انضمت الأخيرة إلى بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ؟

لا نقول ذلك لتدبير حروب عبد الناصر فهي حروب عادلة لا تحتاج إلى تبرير إذ خاضها لكي يدفع العدوان أو هكذا كان يحاول ويتمني ذلك لأن أبسط قواعد الأمن القومي تشير إلى أن "فلسطين" هي من ضرورات "الأمن المصري" منذ عصور الفراعنة ووجود دولة معادية هناك فيه تهديد قاتل "لأمن مصر"

إذن فسلامة فلسطين من ضروريات الأمن المصري إذا صح هذا التعبير إذ لا يوجد ما يسمي "بالأمن المصري" المنفرد عن "الأمن العربي" فلا أمن لمصر دون العرب ولا أمن للعرب دون مصر .

وكان الاستعمار يربض في كل مكان من أركان العالم العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي لتنفيذ إستراتيجية "التطويق" على طريق إقامة القواعد العسكرية على الساحة كلها .. قاعدة قناة السويس عدن منطقة الخليج ،الظهران ،الحبانية ،الشعبية ،هويلس ،بنزرت ،الجزائر المغرب ... كانت القواعد كالإخطبوط الذي يخنق كل حركة وطنية.

واعتبر عبد الناصر العربي عن حق أن معركة استقلال مصر هي جزء من معركة الاستقلال العربي فالمعركة واحدة متصلة إذ أن الأمن واحد والمستقبل واحد والعدو واحد والمصير واحد هكذا تقول لنا الخريطة وهكذا يقول لنا الواقع

وهكذا يقول لنا الدين:

"إن القدر لا يهزل وليست هناك أحداث من صنع الصدفة ولا وجود يصنعه الهباء .. ولن نستطيع أن ننظر إلى خريطة العالم نظرة بلهاء لا ندرك بها مكاننا على هذه الخريطة ودورنا يحكم هذا المكان ... أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا أن هذه الدائرة منا ونحن منها امتزج تاريخنا بتاريخها وارتبطت مصالحنا حقيقة وفعلا لا مجرد كلام "

واستمر عبد الناصر يتحدث في " فلسفة الثورة" عن الدائرة الأفريقية والدائرة الإسلامية حديثا أخذا في الاعتبار مركز مصر على خريطة العالم ولست أدرى كيف يمكن لبلد من البلدان كتب عليه أن يكون في هذا الموقع الحيوي أن يقفل على نفسه؟

كيف يمكن لمصر أن تقفل عيونها حى لا ترى ما حولها ؟ أو تجمد أحاسيسها حتى لا تحس الأخطار التي تحدق بها ؟ بل لو أننا سلمنا جدلا أن مصر أقفلت عيونها وسدت آذانها وجمدت أحاسيسها فهل هذا يحول بين المتربصين وبين أن يقرعوا الأبواب ويقتحموا النوافذ؟

ولو سلمنا جدلا أنه بإمكاننا أن ننتقص من قدرنا ومكاننا فكيف نضمن أن غيرنا سيشاركنا هذا التقييم في سبيل سعيه لتحقيق أمنه ومصالحه ؟ أننا جزء من منطقة نعيش فيها .. والمنطقة جزء من عالم متسع تدور فيه الأحداث وتتصارع فيه الإرادات والسياسية أخذ وعطاء ولذلك نجد ن الرجل أعطي ف سخاء لثورة الجزائر وللمغرب ولليمن الشمالي والجنوبي العربي؛

فأزليت القواعد وتحررت الإرادات ولذلك ضرب عبد الناصر عام 1956 لأن "القضاء على ثورة الجزائر لن يتم إلا عن طريق القاهرة" وعادوا فوجهوا إليه الطعنة النجلاء عام 1967 لأن "القضاء على الثورة العربية لن يتم إلا عن طريق القاهرة أيضا".

وبالرغم من ذلك فإن البعض يوجه إليه اللوم الثقيل بعد أن مات وكأن ما لاقاه من عداوة ومقاومة قبل أن يموت لم يكن فيه الكفاية ...فمن قاومه قبل أن يموت ومن شرحه بعد أن مات كلاهما كان يطلب منه أن يريح ويستريح .

ولكن كان هذا مستحيلا إذ لو توفرت له الرغبة فإن ما كان من الممكن أن تتوفر له القدرة لأن العدوان يدق الأبواب وينساب من النوافذ ويتسرب من الفجوات فلا هو يدع النائم في نومه ولا هو يدع المتيقظ يهنأ بتيقظه . فهو في حركة دائمة ونحن دائما أهدافه التي يسعي إلى السيطرة عليها لابتلاعها لعلها تسد شيئا من أطماعه .

وكان المجتمع المصري يقع تحت ضغطين رئيسيين:

الضغط الأول كان يتمثل في أنه مجتمع بطئ النمو والضغط الثاني كان يتمثل في أن المجتمع كان يعيش في حالة خلل مخزن وتناقص خطير في العلاقات التي كانت تنظم حركة المجتمع .
ومن ناحية الضغط الأول وهو بطئ نمو المجتمع فإنه طبقا للإحصائيات العلمية الدقيقة كان المجتمع قد وصل إلى حالة ركود تكاد تكون تامة خلال أربعين سنة ما بين عام 1913 إلى عام 1953 ففي تلك الفترة كان معدل النمو لا يزيد في المتوسط عن واحد ونصف بالمائة سنويا وهي نسبة نمو كانت الزيادة في عدد السكان تستوعبها .
أما من ناحية الضغط الثاني فكان يتمثل في التفاوت الخطير بين الطبقات فكان واحد ونصف بالمائة من السكان يحصلون على نصف الدخل القومي علاوة على أن الملكية من الأراضي الزراعية كانت قد تركزت في يد القلة المالكة التي كانت تتحكم في الأغلبية من الإجراء ثم كانت ثروات مصر ليست ملكا لأبنائها فكل المرافق الحيوية كانت في أيدى الشركات الأجنبية مثل قناة السويس والسكك الحديدية وخطوط الترام ومرافق الكهرباء والمياه والبنوك والصناعات ومساحات كبيرة من الأراضي الزراعية ..

وكان العلاج تحت ضغط تلك الظروف ليس مجرد استرداد الثروات إلى ملاكها الحقيقيين عن طريق التمصير والتأميم وإنما كان إلى جانب ذلك إضافة وتوسيع بدأها مجلس الإنتاج بعد شهور من قيام الثورة ثم أشرف عليها بعد وزارة الصناعة التي أنشئت منذ عام 1956 والتي قمت تحت ظروف الحصار الاقتصادي الذي أعقب حرب السويس بوضع خطة ثلاث سنوات للصناعة مهدت لخطة التنمية الشاملة بعد ذلك؛

والتي بلغ فيها معدل النمو زيادة سنوية قدرها ستة ونصف بالمائة وأثناءها دخلت مصر مرحلة الصناعة الثقيلة رغم تعقيداتها وبطء مردوده بهدف الاقتراب من أجل الاعتماد على النفس بقدر الإمكان من جانب ولتغيير التكوين الاجتماعي من جانب آخر بنقل فائض العمالة في قطاع الزراعة إلى قطاع الصناعة للتغلب على مشكلة البطالة المقنعة الموجودة في قطاع الزراعة .

وترتب على هذا الخلل في الملكية خلل آخر في التمثيل النيابي إذ لا مندوحة أن تتكون في ظل هذا النظام المالي ديكتاتورية برلمانية تكون انعكاسا طبيعيا للسيطرة الاقتصادية فكانت هناك مجالس نيابية يجتمع فيها نفس الفئة المتحكمة في الأرض وسوق المال .

وبذلك تكون إقطاع سياسي إلى جانب الإقطاع الاقتصادي ولم يكن عجيبا بعد ذلك أن تلك المجالس لم تتحدث إلا نادرا عن مصالح الجماهير الكادحة وعن ضرورة تذويب الفوارق بين الطبقات ..وكانت تلك المجالس غطاء زائفا للحرية إذ أنها كانت توفر حرية الطبقة المتحكمة والحاكمة في نفس الوقت أما الحرية التي ترتبط بلقمة العيش فكان التحدث فيها محرما وممنوعا إلى أن جاء عبد الناصر ليبدأ في تساؤله الملح عن معني الحرية ؟"

فما هي الحرية بالنسبة للرجل الذي لا يجد لقمة العيش لأولاده في الليل؟ إن الحرية بالنسبة له ليست إلا أن يجد لقمة العيش لأولاده .. الحرية بالنسبة للفلاح الذي يشتغل عبدا في الأرض هي أن يكون حرا ويكون سيد نفسه .. الفلاح الذي يطرده صاحب الأرض من أرضه هو ومتاعه وعائلته لأنه لا يطيع الأوامر ولا يقبل أن يكون رقيقا أو عبدا و خادما مطيعا ... إن الحرية عنده أن يكون مطمئنا على حياته ومستقبله .. والحرية بالنسبة للعامل الذي يفصل في كل وقت والذي لم يكن مطمئنا على عمله ومطمئنا على مستقبله .

كان من الواضح لنا بعد الدروس التي أخذناها في السنين الماضية أننا إذا أردنا أن نقيم الديمقراطية يتحكم فيها المستغلون وإنما كنا نعنى ديمقراطية الشعب فالحرية لا تنفصل عن الرزق والمساواة لا تنفصل عن الحرية ولا يمكن أن يكون هناك حرية بدون مساواة ويكون هناك أناس مميزون ولهم الحق في كل شئ وأناس آخرون محرومون من كل شئ .

وكان عبد الناصر كما سبق أن ذكرنا في مفاتيح شخصيته قد نشأ في أسرة فقيرة وعاش الجو الذي عاد ليتحدث عنه ويعالجه وهو في الحكم ورأى مهزلة المجالس النيابية ولمس تحكم الإقطاع في الحياة السياسية ولعله تأثر بكل ذلك حينما ألقى يثقله على الحرية الاجتماعية أحد جناحي الديمقراطية كما كان يقول فنالت منه رعاية كبيرة فاقت رعايته للجناح الآخر من الديمقراطية وهو الحرية السياسية .

وانعكس خلل الملكية على العلاقات التي كانت تتحكم في حركة المجتمع فأوجدت تناقضا خطيرا بين الحقوق والواجبات .. فالحقوق كلها للقادرين والواجبات كلها على الكادحين ..

فالتعليم مثلا وهو حق مشروع للجميع كان قاصرا على طبقة خاصة قادرة على مواجهة تكاليفه وكان العلاج وهو حق من الحقوق قاصرا على الطبقة القادرة على دفع نفقاته وكان العمل متاحا فقط للطبقات المميزة إلا الأعمال الدنيا فتركت لطبقاتها لا عن رغبة وزهد ولكن عن تعفف وازدراء.

وكان المسكن اللائق من المناطق المحرمة التي لا يجوز للطبقات الكادحة حتى أن تفكر فيه حتى الحذاء كان مجرد أمل بالنسبة لكثير من الفلاحين والعمال الذين كانوا يهيمون في حقولهم ومصانعهم بجلابيبهم الزرقاء المشهورة وهم حفاة.

وفي الوقت الذي حرمت فيه الغالبية من حقوقها كان عليها واجبات خطيرة من المحتم أن تقوم بها ... فالتصويت في الانتخابات واجب عليه لكي توفر الغطاء الشكلي لدفع ممثلي الطبقة المتحكمة فيهم إلى قاعات البرلمان ليكرسوا جهودهم لتعميق الوضع الظالم السائد .

وفي نفس الوقت اقتصر دفع "ضريبة الدم" للدفاع عن الوطن على الطبقة التي كانت عاجزة عن دفع "ثمن الخلاص" من الجندية وهو يتمثل في عشرين جنيها كانت تسمي "البدلية" أى النقود التي تدفع بدل التجنيد أى في مقابله !!

وكأن شرف الدفاع عن الوطن قد اقتصر على الطبقة التي ليس لها حق التملك فيه !!! فكان التجنيد الإجباري في الواقع لا نفذ إلا على التعساء من حثالة المجتمع الذين لا يملكون ثم الخلاص الزهيد .. وكأن الذين لا يمتلكون أى شئ هم الذين وكل إليهم أمر الدفاع عن الذين يملكون كل شئ...!!

ثم كان على هذه الطبقة المعدمة دفع الضرائب للحزينة الخاوية وكان الدفع يتم من "المنبع كما يقولون" وكان "المنبع" في أغلب الأحيان جافا ليس به زاد أو ماء بينما القادرون لا يجسر أحد على الاقتراب من "منبعهم المتضخم الزاخر الملء"!!

ثم ووسط الضغوط الخارجية التي كانت تتعرض لها البلاد كان الجيش ألا يملك عتادا ولا سلاحا وقد حاول الرجل سد الفجوة من بريطانيا في أول الأمر فتمنعت في انتظار دفع الثمن ... وتغطية الثمن في سوق السلاح لا يكون نقدا وعدا ولكن هناك طرق أخرى لتسديد الحساب أغلبها ربما يمس السيادة وينقص من الاستقلال ..ولما رأي الباب مسدودا حاول مع الولايات المتحدة الأمريكية دون جدوى أيضا..

وكانت إسرائيل ترتع على الساحة تفعل ما تريد وبريطانيا قابعة بقواتها في قاعدة قناة السويس قاطعة خطوط مواصلات القوات المصرية التي كانت موجودة في سيناء فكان العدو بذلك أمام قواتنا الموجودة في سيناء وخلفها في نفس الوقت . وقام الرجل وسط كل هذه الضغوط بمعجزة "كسر إحتكار السلاح" فكانت صفقة التسليح السوفيتي التي تبعتها صفقات .

وبالرغم من ذلك يتعرض عبد الناصر إلى اللوم الذي يصل إلى حد الاتهام لأنه أخطأ بأخذ السلاح الذي دفع به القدر إليه فكيف "يدنس" يده بسلاح سوفيتي حتى ولو كان "الجيش" يقف تحت رحمة العدو ليل نهار؟ كيف يسمح بتسرب السلاح السوفيتي حتى لو كان الجيش أعزل أمام عدو يتسلح كيف يشاء؟

لماذا لم يرفض السلاح "المحرم" حتى لو رفض الجميع إمداده به حتى مع استعداده لدفع الثمن فور نقدا وعدا؟ولماذا ارتكب الرجل تلك الخطيئة ولماذا أقدم على هذا المحظور؟ لقد ارتكب الرجل هكذا يقولون شيئا إذا وقطف "الفاكهة المحرمة"

ووسط هذه المواقف الصعبة كانت البلاد تتعرض لمؤامرات خارجية وداخلية وبصفة مستمرة كل هدفها إسقاط النظام وكان هناك أكثر من عشر محطات إذاعة سرية توجه إليه ليل نهار وكانت الضغوط الاقتصادية التي ارتفعت إلى حد الحصار الاقتصادي تلتف حول عنقه في كل وقت . ثم كانت الحروب التي تفرض عليه حينما تفشل الوسائل الأخرى في إسقاطه تتابع بين وقت وآخر .

وكان المفروض على عبد الناصر كما يقول اللوامون أن يقابل السيئة بالحسنة حتى يمحوها وهم لا يدرون أن الأنبياء العزل لا مكان لهم في غابة السياسة . ثم كان عبد الناصر كما قلنا ونحن نتحدث عن مفاتيح شخصيته إنسانا وليس نبيا أو ملاكا ....

وإلا بالله عليكم ما هي الطريقة التي كان يواجه بها عبد الناصر تلك المؤامرات الخارجية؟ وما هي الطريقة التي كان يمكن أن يواجه بها عبد الناصر المؤامرات الداخلية وتعرضه المتكرر للاغتيال ؟ علما بأننا نكرر أن الرجل كان إنسانا يحب ويكره يعدل ويظلم يخطئ ويصيب .

كان عبد الناصر يعيش في بحر هائج تختلط فيه التماسيح المتصارعة مع الأنواء العاتية والعواصف المدمرة وهو نفس الجو الذي تعيش فيها دائما الثورات الأصيلة.ووجد عبد الناصر نفسه بعد الانفصال في موقف صعب مع المؤسسة العسكرية بقيادة المشير عبد الحكيم عامر.

كان أهم ما شغل الثورة منذ قيامها تنظيم العلاقة بين القيادتين السياسية والعسكرية فكانت العلاقة واضحة ومحددة أيام حرب التحرير عامي 1953 1954 ضد القوات البريطانية في قناة السويس وكانت العلاقة واضحة ومحددة في حرب السويس وحتى حدوث الانفصال فلم يكن كل شئ هادئا في كواليس قيادة يوليو عندما صدر الميثاق الوطني عام 1962 ولا عندما صدر بعده في سبتمبر أيلول إعلان دستوري بنقل السلطة إلى مجلس الرئاسة كمحاولة لإيجاد قيادة جماعية بعد نجاح الانفصال .

وحاول المجلس أن يدخل التوازن بين سلطات المشير عامر وبين السلطة الرئاسية المتمثلة في القيادة السياسية بعد فشل المشير أيام العدوان الثلاثي وأيام الوحدة وقد أعد قرار تحديد اختصاصات المشير بما يجعل سلطة تعيين قادة الوحدات في القوات المسلحة من مسؤولية مجلس الرئاسة وليس من مسئولية المشير؛

ولم يحضر عبد الناصر جلسة مجلس الرئاسة التي نوقش فيها هذا الموضوع فطلب المشير تجيل بحثه وانضم إليه كمال حسين الذي كان قد بدأ يقترب من دائرة الظل ويبتعد عن المناصب التسعة التي كان يستحوذ عليها ولكن الغالبية وافقت على القرار وأصدرته ولم يتمثل عامر إلى ذلك وخرج غاضبا وقدم قادة القوات البرية والجوية والبحرية وبعض كبار القادة استقالاتهم وحدثت حالة هياج بين قادة القوات المسلحة المقربين من المشير واجتمعوا في القيادة وأصروا على عودته إلى موقعة .

وأدرك عامر أن يستمد سلطته من القوات المسلحة فوثق صلته بقادتها وظل يواصل العطاء والمنح لكل من يطلب وأصبح للمشير أظافر وأنياب . وكان من الواجب حسم مثل هذه الأمور عند بدايتها ولأكن إهمال ذلك أدي بالقيادة العسكرية لكي تشكل بروز وورما خطيرا أصبح من الصعب استئصاله وأصبحت القيادة السياسية ينقصها القدرة؛

ولا أقول الرغبة لإزالة هذا الورم وهنا اهتزت كل الأمور فتغيرت طبيعة العلاقات بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية ثم اهتزت طبيعة العلاقات داخل القيادة العسكرية فهبط ميزان الكفاءة ليحل محله ميزان الولاء وأصبح التأمين الذاتي وليس الأمن القومي هو محل الرعاية والاهتمام .

وهنا يتساءل الكثيرون وأنا معهم لماذا لم تعالج القيادة السياسية الموقف ربما يكون ذلك لعجز في القدرة بعد اختلاف موازين القوى بين القيادتين وربما تكون القيادة السياسية قدرت أنه لتصحيح الأوضاع لابد من صدام ولكنها لم تكن مستعدة لهذا الصدام إلا على الأرض الملائمة وفي الوقت المناسب .

ولكن يبقي سؤال قائم !! ولماذا لم تعالج القيادة السياسية الموقف قبل أن يستفحل؟ والإجابة على السؤال صعبة ربما يرجعها البعض إلى عامل الصداقة وربما يرجعها البعض الآخر إلى تغلب عامل التوازن بين اتجاهات أعضاء مجلس الثورة القديم. والله أعلم .

ثم جاءت النكسة عام 1967 ليعيش عبد الناصر في ظل الهزيمة بعد انتصاراته الكبرى في معاركه السابقة وانعكس ذلك على قراراته ولا شك . أصبح الرجل أكثر حذرا وأقل اندفاعا عما قبل كان يحسب ويعيد الحساب بأسلوب تميز بالمرونة والواقعية .

فبعد أن اجتاز قمة اليأس وخيبة الأمل التي دفعته إلى اتخاذ قرار التنحي في 9 يونيو حزيران 1967 ابتدأ يستعيد نفسه يوم 10 يونيو حزيران 1967 حينما استجاب للرغبة الملحة في بقائه .

ووسط الحطام الذي تناثر من حوله بدأ في محاولاته لإزالة آثار العدوان تحت ضغط ظروف قاسية وشبح الهزيمة لا يفارقه لحظة واحدة وكان كل ما يتمناه أن يظل حيا حتى إزالة آثار العدوان ولكن انهيار حالته الصحية لم يتح له ذلك فلقي ربه قبل أن تتحقق الآمال .

ولا شك بعد كل هذا الذي قلناه فإن عبد الناصر واجه تحديات كبرى في الداخل والخارج على حد سواء ولم يكن يؤمن بالمبدأ الإصلاحي في معالجة الأمور ولكنه كان قائد ثورة ثم أصبح زعيم أمة أعطته ثقتها في الانتصارات والهزائم على حد سواء .

ولا شك بعد كل هذا الذي قلناه فإن عبد الناصر كان شجاعا إلى أقصي حدود الشجاعة وهو يواجه كل الضغوط التي وجهت إليه فلم يتردد في خوض معركة تلو الأخرى حقق في معظمها انتصارات كبيرة تركت بصماتها في الداخل والخارج على حد سواء .

وبحكم طبيعته واجه التحديات بإجراءات حاسمة وبطريقة مباشرة لا تعرف الالتواء.. الأسود أسود والأبيض أبيض بينما يغلب على الألوان في ميدان السياسة أن تكون بين بين .

كانت المشاكل الموروثة هائلة وكان يسابق الزمن كان يريد أن يقفز في خطوات واسعة كقفزات النمر بينما يرى ناقدوه أنه كان عليه أن يسير في تؤده كالسلحفاة...والنمر يصل والسلحفاة تصل فلم يكن هناك داع إذن للسرعة أو التسرع .

وكلمة أخيرة عما قيل من أن قرارات عبد الناصر كانت قرارات غلب عليه "رد الفعل" ويقصدون بذلك أن قراراته كانت مجرد عاطفية وانفعالات شخصية .. وهذا قول بعيد عن الواقع .

إذ ما اتضحت سياسة مصر طوال تاريخها في كافة الميادين مثلما اتضحت أيا عبد الناصر ولعل السرعة الخاطفة التي اتسمت بها ضربته ترجع إلى وضوح الرؤية والتحضير المسبق وقد اعترف الأعداء قبل الأصدقاء لعبد الناصر بهذه الميزة .

وحتى لو ذهبنا مع هؤلاء في أن عبد الناصر كان يتخذ قراراته في نطاق "ردود الأفعال" فماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أن مصر لم تكن تبدأ أحدا بالعداوة كما يرددون ويعني أن مصر أصبح لها إرادة وربما يكمن الفرق بين سياسة الدول المستقلة وسياسة الدول المغلوب على أمرها في القدوة و العجز عن رد الفعل بلا

فلا يجوز أن ننسي أن أهم قاعدة من قواعد اللعبة السياسية في عالمنا المعاصر هي التوازن بين القدرة على توجيه الضربة الأولي والقدرة على توجيه الضربة الثانية .. أى التوازن بين القدرة على الفعل والقدرة على رد الفعل . بل نجد ن القدرة على رد الفعل هي التي تتحكم يحسب في القدرة على الفعل وليس العكس .

إذن فليس عيبا ما يقولونه عن أن قرارات عبد الناصر كانت قرارات يغلب عليها رد الفعل ولكن..

  • هل قيامه بالثورة في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
  • هل إسقاط أسرة محمد على يدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
  • هل قانون الإصلاح الزراعي وقوانين التمصير والقوانين الإشتراكية تدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
  • هل إقامته دولة الوحدة وسياسته العربية والأفريقية وعدم الانحياز تدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
  • هل مقاومته للاستعمار والعمل على إزالة القواعد العسكرية تدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل ؟
  • هل بناء السد العالي ومئات المصانع والمدارس والمستشفيات تدخل في نطق الفعل و رد الفعل ؟

كل ذلك أسقطوه من حسابهم وهم يقيمون قرارات عبد الناصر وللأسف فقد سمعت لهم بعض الأذان وأطاعتهم بعض الأقلام لأن من سوء حظ الأمة العربية ومن سوء حظ عبد الناصر أن القدر لم يمهله حتى إزالة آثار النكسة فمات .

الباب الثالث:إستراتيجية عبد الناصر لإزالة آثار العدوان

الفصل الثامن:إستراتيجية عبد الناصر لإزالة آثار العدوان

خسرنا معركة ولم نخسر حربا ما خذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة 100% من أوراق اللعبة تعتمد على إرادتنا الذاتية لا نلعب بالاتحاد السوفيتي ولا يلعب بنا قنوات مفتوحة مع واشنطن الخط الحرج خط الأمر الواقع السباق بين الاختراق والاعتراض وبين القدرة على رد الفعل والقدرة على الفعل خطة جرانيت كلام كلام ... قتال قتال مخلفات عبد الناصر .

حلق في الخيال وأنا أفكر فيما وصل إليه الحال فوجدتني أمام خاطر غريب وسؤال عجيب !! ماذا لو لم يمت عبد الناصر؟ وفكرت كثيرا في السؤال الغريب وعقدت العزم على ن يكون السؤال هو عنوان هذا الفصل..!! ولكن سرعان ما تبين لى أن السؤال بصورته تلك سوف يحرك كثيرا من المشاعر المتباينة والحسابات الثقيلة ...

فالكثيرون من سيقرؤون العنوان المثير ربما يغمضون عيونهم لفترة من الوقت ويرفعون أكفهم نحو السماء ويدعون الله لو أن الخيال أصبح حقيقة!! هؤلاء هم الغالبية العظمي من الواعين والكادحين من العمال والفلاحين والوطنيين وكل المنتسبين إلى الحركات الثورية في كل مكان.

بينما يصيب الخاطر الغريب البعض بالذعر والانزعاج وربما يلقي بعضهم بالكتاب بعيدا في غضب وهم يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم وربما لا يخفي البعض الآخر سخطه على الكاتب وأفكاره السقيمة هؤلاء هم الإقطاعيون والانتهازيون والمنحرفون وآخرون ممن داسوا على الوفاء وتنكروا للزمالة والصداقة وغيرهم ممن لا يجدون لهم مجالا إلا في كنف الاستعمار .

وقد يرزح البعض أياما تحت ثقل الخاطر المستحيل بل وقد يبدأ البعض وهم وطأة هذا "الكابوس " بمراجعة حساباتهم وموازنة أمورهم فمن يدرى؟ خاصة وأننا في زمن أصبحت فيه المستحيلات ممكنة وجائزة .. ويذكرني هؤلاء بقصة " نابليون بونابرت " مع الصحافة الفرنسية بعد أن فر من منفاه في جزيرة "ألبا"

فبمجرد أن انتشر خبر فرار "الإمبراطور السابق" كانت عناوين الصحف تدور كلها حول "هروب السفاح بونابرت" أو "فرار المجرم بونابرت" !! ولكن حينما تأكد خبر نزوله على الساحل الفرنسي بدأت نفس الصحف بنفس محرريها تتحدث عن "نابليون بونابرت" دون أوصاف أو ألقاب !!

وحينما وقف على أبواب "باريس" ومعه نقر قليل من أفراد "الحرس الإمبراطوري" ممن عاصروا هزائمه وانتصاراته بدأت نفس الصحف بنفس المحررين تتحدث في حماس عن "الإمبراطور الذي عاد"! فالبشر هم البشر في كل زمان ومكان !!!

وحتى نتفادى تلك المشاعر المتباينة وخوفا من أن تجنح إلى الخيل استبدلنا السؤال الغريب بالعنوان الجديد ..وأعرف سلفا أن ما سأقوله سيشير مشاعر متباينة أيضا وهذه أحدي الصعوبات التي تقفز أمام من يكتب عن "العمالقة "..

إذ يعتبرهم البعض "ملائكة" بينما يعتبرهم آخرون مجرد "شياطين" ولو إنني اعتقد أن الفجوة بين الآراء لن تكون واسعة إلى هذا الحد خاصة بعد أن حصرنا حديثنا في قضية واحدة هي "قضية التحرير" والتي مازلنا نعالجها حتى الآن وبعد مرور سنوات عشر على وفاته .

فبعد النكسة مباشرة كانت "مصر" والبلاد العربية قد خسرت كل شئ ...وكان "عبد الناصر" كالتاجر الذي خسر كل رأسماله في السوق ... وفي مثل هذه المواقف قد ينسحب بعض التجار من السوق بصفة نهائية وهم يؤثرون السلامة بينما يصر آخرون على البدء من جديد ليعودوا كما كانوا وربما أحسن وأفضل .

وقد أصر "عبد الناصر" على أن يستعوض الخسارة الفادحة على الساحة العربية ولذلك فإنه نادى من أول وهلة "أننا خسرنا معركة ولكننا لن نخسر الحرب" وأن الغرض هو "إزالة آثار العدوان وإعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني " وأن " ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة "

وبذلك حدد الغرض ... كما حدد وسيلة الحصول على الغرض وأخذ يعمل دون هوادة لتحقيق ذلك ضمن إستراتيجية فيها ذكاء ودهاء تحتاج منا إلى مراجعة وشرح وربما يساعدني في توضيحها أنني كنت بعد "النكسة" قريبا من دائرة اتخاذ القرار أعلم الكثير مما كان يجرى ويحدث .

100% من أوراق اللعبة تعتمد على إرادتنا الذاتية .منذ اللحظة الأولي للهزيمة أوضح "عبد الناصر" إن الإرادة الذاتية هي العامل الفاصل لتحديد نتيجة المعركة.. فالمعركة معركتنا واللعبة لعبتنا والأوراق أوراقنا أن 100% من أوراق اللعبة في يدنا ونحن لا يجوز أن نتركها في يد الغير .

فليس معقولا أن تكون 99% من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة مثلا أو في جيب الاتحاد السوفيتي !! وإلا فأين الإرادة الذاتية للقيادة الواعية وللشعوب المكافحة ؟!

وانطلاقا من هذا المبدأ السليم أخذ يعيد بناء القوات المسلحة صحيح كان الاتحاد السوفيتي قد أصيب بخيبة أمل كبرى في أصدقائه بعد الهزيمة الكبيرة التي منوا بها وظن الشعب السوفيتي لفترة ليست بالقصيرة أن "السلاح السوفيتي" هزم أمام "السلاح الأمريكي" إلا أن "عبد الناصر" كان يعتقد عن حق أنه كلما استوعبنا السلاح الذي بيدنا أكثر وأسرع كلما كان الإمداد بالأسلحة متناسبا مع رجة الاستيعاب .

وإلى جانب ذلك اتخذت عدة إجراءات لتقوية الإرادة الذاتية منها:

  1. تهيئة مسرح العمليات الذي يتسع ليشمل كل أنحاء الجمهورية في حرب لم تعد تعرف واجهات بالمعني بالمفهوم بعد أن كثف العدو غاراته في العمق وأنشئت الطرق والمطارات والمواني المتبادلة .
  2. بناء مخزون إستراتجية من المواد الإستراتيجية مثل المواد البترولية والغذائية ومواد تصنيع الأسلحة والذخائر .
  3. إنشاء الجيش الشعبي لحراسة المنشآت في منطقة خطوط المواصلات وزيادة كفاءة الدفاع المدني لمواجهة المعادية .
  4. حشد الجهود العربية عن طريق المساعدات الاقتصادية العديدة واستغلال العمق العربي في إعادة التوزيع الاستراتيجي لقواتنا فقد أصبحت ميناء بور سودان مثلا في خدمة وحدت الأسطول ومطارات واد سينا مكانا لتمركز قاذفاتنا الثقيلة ومنطقة جبل الأولياء لوجود بعض الوحدات البرية الأخرى علاوة على الوحدات العربية التي كانت تقاتل جنبا إلى جنب مع الوحدات المصرية على القناة والوحدات السورية في الجولان .
  5. إشعال جبهة القتال على قناة السويس وفي داخل إسرائيل وبصفة تكاد تكون مستمرة .
  6. الاستمرار في خطط التنمية بأقصى معدل ممكن .

لا نلعب بالاتحاد السوفيتي ولا يلعب بنا:

حددت علاقاتنا مع الاتحاد السوفيتي على أساس أهمية وجوده داخل اللعبة لأن انفراد احدي القوتين الأعظم بالمسرح فيه الطاقة الكبرى "فلص" واحد ينفرد بالغنيمة ولكن اثنين يتنازعان عليها ولا يجدان الوقت للإنفراد بها وقد حددت علاقاتنا مع "موسكو" على أسس واضحة...فهي قوة عظمى لا يمكننا أن "نلعب بها" ونحن دولة مستقبل لا نسمح لهم أن "يلعبوا بنا"
وعلى ذلك فلا بد أن "نلعب معا" كفريق تلاقت مصالحه واضعين في الاعتبار ألا تتعارض "مصالحنا المحلية مع مصالحه العالمية" فلا يكن التواجد السوفيتي في بعض المناطق أو الأوقات احتلالا بأى صورة من الصور بل كان يتم وفق مخطط استراتيجي واع يدل على ذكاء وعمق فعلاوة على القلق البالغ الذي يسببه هذا التواجد لدى الطرف لآخر مما يجعله في خوف من زيادته واستمراره مما يهيئ حافزا على البحث عن حل فإنه يخدم أغراضا إستراتيجية محلية .
وعلى سبيل المثال كان تواجد بعض قطع الأسطول السوفيتي في ميناء الإسكندرية وبور سعيد حائلا دون ن تقوم القوة الجوية الإسرائيلية بضربهما فتتعطل بذلك منافذنا الوحيدة التي تصلنا بالعالم الخارجي وتقطع خطوط إمداداتنا التي نستورد عن طريقها احتياجاتنا الضرورية .
وكان لوجود بعض الطيارين السوفيت فائدة كبرى في توفير طيارتنا بعملياتهم الهجومية على العدو ولا نقل بالحرف الواحد من كتاب هنرى كيسنجر "سنوات البيت الأبيض" صفحة 572
"أخبرني إسحاق رابين سفير إسرائيل في واشنطن يوم 24 أبريل نسيان 1970 أن الطيارين السوفيت يقومون بمهمات دفاعية في دخل مصر وبذلك فقد تحرر الطيران المصري من واجباته الدفاعية ليركز على الهجوم على المدافع الإسرائيلية على طول القناة وأصبح السلاح الجوى المصري أكثر قدرة على الهجوم علاوة على أن اشتباك الطيارين السوفيت مع الطيارين الإسرائيليين أصبح لا يمكن تفاديه" وكان ما يقوله "رابين" يتمشى مع قواعد اللعبة الجارية كما سنرى فيم بعد.

قنوات مفتوحة مع واشنطن

ليس معني ن الولايات المتحدة وهي إحدى الدولتين الأعظم قد اختارت الوقوف إلى جانب إسرائيل ضد الأماني العربية عدم فتح الحوار معها .. بل كانت هناك قنوات مباشرة رسمية وقنوات غير مباشرة سرية على أسس وثيقة من التعامل ومعرفة واعية بإجراء الحوار على مستوى الدولتين الأعظم .
كان تقدير عبد الناصر عن حق أيضا كما نلمس الآن ونقرأ في كل صفحة من كتاب هنرى كيسنجر المشار إليه أن " الإدارة الأمريكية كانت تنقسم إلى رأيين "
الرأي الأول: يرى الإسراع في حل النزاع العربي الإسرائيلي من دخول الاتحاد السوفيتي إلى المنطقة برجاله ومن هؤلاء رجال البنتاجون وعلى رأسهم "ملفين ليرد" وزير الدفاع ورجال الخارجية الأمريكية وعلى رأسهم "وليم روجرز".
الرأي الثاني: وينفرد به "هنرى كيسنجر" مستشار "الرئيس نيكسون" لشؤون الأمن القومي وكان يرى أن عدم حل النزاع سيجعل العرب ينصرفون عن الاتحاد السوفيتي ويتجهون إلى واشنطن بعد أن يتأكدوا إنه إذا كان في مقدور الاتحاد السوفيتي إعطاء السلام فإن الولايات المتحدة هي القادرة الوحيدة على إعطاء الأرض .

وكان عبد الناصر سيلعب على زيادة التواجد السوفيتي لتعزيز "الرأي الأول" ونسف "الرأي الثاني" لأنه إذا ما انفردت الولايات بالمنطقة وهي المعروفة بصداقتها الأبدية لإسرائيل فإنها "ستبيع وتشترى" في المنطقة كما تريد ... لابد أن يكون هناك "منشط" أو حافز؟ أو "منافس" هكذا كان يرى عبد الناصر في إدارته الماهرة للصراع في الفترة الحرجة التي عاشها .

الخط الحرج الذي لا ينبغي تجاوزه:

هناك "خط فاصل" متفق عليه بين "الدولتين الأعظم" في ممارستهما اللعبة السياسية عليهما عدم تجاوزه خوفا من تصادم ذري بينهما نتيجة لاختلال التوازن أو العدوان الثقيل على المصالح فضلنا أن نسميه "بالخط الحرج" وقد شرحت هذه النظرية بالتفصيل في كتابي " الأمن العربي في مواجهة الأمن الإسرائيلي ".
ويتحقق أنسب وضع للصدام المحلي حينما تتفق نتيجة الحسابات المحلية مع نتيجة حسابات الدولة الأعظم والمسافة التي تقف عندها الدولة الأعظم من "الخط الحرج" في الصراع العالمي تتناسب تناسبا عكسيا مع "الأماني القومية" فكلما قل البعد عن "الخط الحرج" كلما زادت الأماني القومية سلامة وأمنا والعكس بالعكس .
والدولتان الأعظم موجودتان شئنا أم أبينا في كل منطقة من مناطق العالم وقربهما أو بعدهما من "الخط الحرج" يتفق تماما مع مصالحهما في المنطقة. وكان عبد الناصر يحاول دفع الاتحاد السوفيتي قريبا من "الخط الحرج" لأن الولايات المتحدة كانت قريبة بالفعل منه لاعتبارها أن مصالحه متطابقة مع الوجود الإسرائيلي .

كنت وسيلته إلى ذلك تتلخص في العمل على زيادة ثقل الوجود السوفيتي في المنطقة حتى يكون ذلك حافزا للطرف لآخر على إيجاد حل للنزاع العربي الإسرائيلي فكان تواجد بعض أطقم الصواريخ من الروس يتمشى مع هذا الاتجاه.

وكن تواجد بعض قطع الأسطول الروسي في نفس المياه التي كان ينفرد بها الأسطول السادس الأميركي يتمشى مع هذا الاتجاه.وكان تلاقي القاهرة وموسكو في محاربة الامبريالية ليتمشى مع هذا الاتجاه .

وسأنقل أيضا من كتاب هنرى كيسنجر "سنوات البيت الأبيض " فيقول

" في 31 / 1/1970 سلم دوبرين رسالة من الكيس كوسيجين إلى الرئيس وفي الوقت سلمت رسالة مماثلة إلى كل من ويلسون وبومبيدو تحذر من استمرار إسرائيل في هجماتها في عمق مصر لأن هذا سيجبر الاتحاد السوفيتي على النظر في إمكان إمداد الدول العربية بوسائل تحول دون ذلك ..وناشد الدول الأربع إجبار إسرائيل على إيقاف هجماتها بأسرع ما يمكن من الأراضي العربية المحتلة "

ويستمر كيسنجر قائلا:

" بمجرد التأكد من وصول الجنود السوفيت إلى مصر هذه أول مرة تتمركز فيها قوات سوفيتية على أرض غير شيوعية وجهت سفيرنا في موسكو جاكوب بيم لمقابلة جروميكو للوصول إلى حل لإيقاف النيران إلا أن موسكو رفضت ذلك ورفضت الحد من التسلح إلا بعد انسحاب إسرائيل إلى حدود 1967
ثم قابلت دوبرنين سفيرهم في واشنطن في 10/2/1970 وأخبرته بأن التواجد السوفيتي في الشرق الأوسط تنظر إليه الولايات المتحدة نظرة خطيرة وأنني اخترت هذه الطريقة للحوار حتى نتجنب المواجهة وأننا على استعداد للتفاوض من أجل إيجاد حل للمشكلة"

ثم يستطرد "كيسنجر" فيقول:

" بعد وصول الأفراد السوفيت ألقي البنتاجون اللوم على إسرائيل فهي التي تسببت بعنادها في ذلك واقترح الوصول إلى حل سلمي ومعنى ذلك أن رجال البنتاجون يريدون لجهة أخرى أن تحل المشكلة كما حدث في فيتنام وعلاوة على ذلك فقد أيدت وزارة الخارجية اتجاهات البنتاجون بل علق نلسون على ذلك بأن السياسة الإسرائيلية هي أساس المشاكل الحالية وان الهزيمة العسكرية للعرب 1967 هي نصر سياسي للسوفيت فأصبحوا هم أصدقاء العرب ونحن أعداؤهم "

ثم يعود فيقول:

" في يوم 10 / 6/ 1970 قابلت دوبرونين وسألته:هل يمكن ربط انسحاب السوفيت من المنطقة مع خطة سلام شامل ؟"

وهذه هي سياسة الترابط المعمول بها في الصراع الدولي ... خلق مشاكل عديدة تجعل الطرف الآخر يعيد حساباته على أساس "الأخذ والعطاء" ولأن السياسة لا هي أخذ فقط ولا هي عطاء فقط هي مزيج بين هذا وذاك إذن حققت هذه السياسة حتى الآن

ومن واقع كتاب " سنوات البيت الأبيض " لهنرى كيسنجر:

انقساما في الإدارة الأمريكية الكل عدا هنرى كيسنجر يلقي اللوم على إسرائيل فرض القيود على إرسال الأسلحة إلى إسرائيل لدرجة أن وليم روجوز صرح بأنه في تقدير واشنطن فإن القدرة الجوية الإسرائيلية كافية لمتطلباتها في الوقت الحالي .

خط الأمر الواقع:

وكان "عبد الناصر" يركز اهتمامه على خط آخر هو "خط الأمر الواقع" وإن كان الخط الحرج يتأثر "بالحرارة" فلابد من إشعاله وبصفة مستمرة حتى يقتنع "العدو" أن فرض الأمر الواقع خارج قدراته وحتى يجبر الدولتين الأعظم على التدخل لإطفاء النيران المشتعلة حتى لا تمتد وتنتشر فتهدر مصالحهما وهنا تصبح المواجهة بينهما أمرا أكثر احتمالا .

"الردع" هو الذي فرض الأمر الواقع ... لأن "الردع" هو القوة التي تردع الجانب الآخر عن القيام بأى عمل يغير من الأمر الواقع . الردع يعتمد على "القوة الحقيقية المتاحة" وبذلك فإن الجانب الذي يمتلك " القدرة على الردع" في إمكانه تحقيق أغراضه بالتهديد باستخدام القوة دون الحاجة لاستخدامها بطريقة فعلية وبذلك يمكنه استغلال وجود الأسلحة والتلويح بها دون استخدامها أى "بتعجيز" الطرف الآخر عن طريق القمع والقسر .

وفرض الأمر الواقع يحتاج إلى وقت لإقراره ."والردع" هو الذي يوفر هذا الوقت ..وبذلك فإن "الردع " هو درع الأمر الواقع وأدالته وخطورة الردع في "تأثيره النفسي"

ويتضح ذلك من المعادلات الآتية:

  1. الردع = التأثير النفسي + التأثير المادي = رفض الأمر الواقع .
  2. الردع - التأثير المادي + صدام مباشر = رفض الأمر الواقع
  3. الردع - التأثير النفسي = صدام مباشر = رفض الأمر الواقع .

وكان لدى إسرائيل كل وسائل الردع خاصة "الذراع الطويلة" المتمثلة "في قوتها الجوية" خاصة بعد احتلالها لمطاراتنا في سيناء وإصرار الولايات المتحدة على إمدادها بكافة أنواع الطائرات الحديثة .

وبالرغم من ذلك رفض "عبد الناصر" الاستسلام رغما عن الغارات في العمق التي كانت توجه إلى أغراضنا المدنية وبذلك فقد كسر أخطر مبدأ في مبادئ الردع وهو التأثير النفسي وأخذ يشن "حرب الاستنزاف" ومعها تضرب الوحدات الفدائية داخل إسرائيل

وأعود فأنقل من صفحة 349 من كتاب "سنوات البيت الأبيض " لهنرى كيسنجر إذ يقول:

" في فبراير شباط 1969 أبلغتنا المصادر الإسرائيلية أن 1288 حادث تخريب وإرهاب تمت منذ حرب الأيام الستة منها 920 حادثة من الحدود الأردنية 166 من الحدود المصرية 37 حادثة من خط إيقاف النيران مع سوريا 35 حادثة من الحدود اللبنانية 130 من قطاع غزة .
وكانت خسائر الإسرائيليين هي 234 قتيلا ،265 جريحا من العسكريين ،37 قتلي ،330 جرحي من المدنيين وهذه نسبة مخيفة لدولة تعدادها 5و2 مليون وهي لا تساوي 20,000 قتيل ،100,000 جريح لدولة في حجم الولايات المتحدة "

بل نجد أن هاعولام هازيه نشرت في العدد 1640 بتاريخ 26/3/ 1969 خطابا أرسلته إحدى القارئات إلى رئيس التحرير تقول فيه:

" نحن نريد مزيدا من الأرض " وقد نشرت المجلة ردها على الرسالة بلسان أحد الجنود الإسرائيليين ليقول: لو كنت تجلسين في المناطق المحتلة وتفقدين أصدقاءك القربيين الذين يموتون كل يوم بواسطة لغم أو بواسطة الطلقات أو بغير ذلك ما طالبت باحتلال المزيد من الأرض "ونجد أن رئيس قسم ضحايا الحرب " بوزارة الدفاع الإسرائيلية وهو يهودا نيرون يعلن عن حجم الخسائر للجيش الإسرائيلي حتى مايو أيار 1969 فيؤكد أنها 713 قتيلا في حين أن إسرائيل خسرت في الحرب 780 قتيلا.

السباق بين الاختراق والاعتراض وبين القدرة على رد الفعل والقدرة على الفعل:

وبعد أن كسر "عبد الناصر" إحدى دعائم "الردع" المتمثلة في "التأثير النفسي" برفضه "الاستسلام" وإصراره على مواجهة القتال اتجه ثقله إلى كسر "الجانب المادي ولم يكن الأمر سهلا "

كانت محاولاته تتركز في إيجاد حالة من التوازن بين "قدوة العدو على الاختراق " و" قدرتنا على الاعتراض " وكذلك بين " قدرة العدو على الفعل " و" قدرتنا على رد الفعل "

وتفسير ذلك أن الصراع المسلح هو عبارة عن مبارزة لا تنتهي بين الأسلحة التي "تخترق" والأسلحة التي "تعترض" فمثلا إذا كانت وسيلة العدو في الاختراق كما يحدث في ذلك الوقت هي التفوق في القوة الجوية فلابد أن يكون التركيز على تقوية "دفاعنا الجوى" إلى أن يتيسر لنا الحصول على "القوة الجوية القادرة على الاختراق"

وفعلا في زيارته الشهيرة إلى موسكو حصل عبد الناصر على صواريخ سام 3 وصواريخ سم 6 بل وأطقم هذه الصواريخ من السوفيت حتى تيسير تدريب الأطقم المصرية ثم بعد ذلك استغل عبد الناصر الفترة غير المستقرة بعد قبوله "مبادرة روجرز" عام 1970 لنقل حوائط الصواريخ قريبا من القناة بحيث تحمى قواتنا على الضفة الغربية وفي الوقت نفسه تستر وتغطى أى عملية عبور في المستقبل إلى الضفة الشرقية .

وقد تم عبور 1973 تحت ستار حائط صواريخ عبد الناصر الذي أنشأه عام 1970 ولم تتمكن قواتنا من التقدم خطوة واحدة أبعد من مدى حماية هذه الصواريخ بالرغم من أنه كان من الممكن استخدام وسائل أخرى.

ولنرجع مرة أخرى إلى هنري كيسنجر في كتابه "سنوات البيت الأبيض" لتجده يقول:

"في 15 أغسطس أب 1970 قابلني إسحاق رابين أكد أن 14 موقع صواريخ سام "2" معززة بثلاثة مواضع صواريخ سام 3 حركت في المنطقة العازلة ون إسرائيل فقدت 5 طائرات فانتوم في يوم وحد"

ثم يقول:

"استخدم عبد الناصر مبادرة روجرز لتحريك صواريخه للأمام وأصبحت هذه الصواريخ لا توفر الحماية للقوات المصرية في القناة فحسب بل أصبحت قادرة على حماية أى عملية إنزال مصرية على الجانب الآخر وقد انتهز عبد الناصر فترة إيقاف النيران لأن الصواريخ ستكون مؤمنة ضد الضرب "

ثم عاد ليكتب:

" في 22 يوليو تموز 1970 بدأ الروس والمصريون في إنشاء خط دفاعي بمحاولة القناة وعلى مسافة 20 -3- ميلا وهذا الخط يشمل 3 مواقع سام 3, 11 موقع سام 2 وسوف تقوى وتعزز هذه المواقع في المستقبل وأصبحت قادرة على حماية موقع المدفعية المصرية التي تقذف الإسرائيليين في الشرق بل وتعتبر في الوقت نفسه قاعدة للهجوم المصري المنتظر .

وأصبح على الأمريكيين مواجهة النظرية الروسية التي تستخدم الوجود السوفيتي لتعزيز نفوذها الجيويوليتيكي فما بدا على أنه وجود لمنع الاختراق الإسرائيلي انتهي إلى كونه وسيلة ضغط الانسحاب إسرائيل ".

هذا من ناحية السباق بين "القدرة على الاختراق " و" القدرة على الاعتراض " فماذا كان عليه الموقف في السباق بين " القدرة على الفعل " و" القدرة على رد الفعل "؟كان لدى إسرائيل السلاح الرادع متمثلا في الطائرات بعيدة المدى من الفانتوم والسكاى هوك فلو أمكن لمصر الحصول على الطائرة بعيدة المدى أيضا لبطل مفعول السلاح الرادع الإسرائيلي .. وهذه نتيجة حتمية في إدارة الصراع الذي يعتمد على الردع فامتلاك القوتين الأعظم الأسلحة الذري في مخازنهما أبطل استخدام القوة الذرية في الصراع وامتلاك الغازات السامة للأطراف المتعددة يمنع استخدامها .

ولم تكن الطائرة بعيدة المدى متيسرة لدى مصر في ذلك الوقت رغما عن محاولاتنا المتعددة مع الاتحاد السوفيتي فلم تكن حساباته قد تطابقت مع حساباتنا في هذا المجال بعد كان يخشي بدوره دفع الأمور بأكثر مما تحتمل فينجم عن ذلك المواجهة التي يريد تجنبها .

ولكن تدخل الحظ فجأة وحدثت ثورة " الفتاح " من سبتمبر – أيلول 1969 بقيادة الأخ " معمر القذافي " وسعي الرجل في إستماتة حتى تيسر له في أوائل عام 1970 الحصول على صفقة فرنسية وافق عليها الرئيس الفرنسي بومبيدو وتتعلق بشراء ليبيا مائة طائرة ميراج يتم توريدها على أربع سنوات وتم الحصول على عدد من هذه الطائرات وضعت تحت تصرف القيادة المصرية ... وأصبح لدى مصر سلاح رادع في مقدروه ضرب إسرائيل في العمق , وكن هذا من أخطر التطورات الإستراتيجية في الصراع الدائر .
وأصبحت مصر قادرة على " رد الفعل " وبذلك كسرت القاهرة بفضل سياستها العربية الجناح الآخر من معادلة " الردع " ويرجع الفضل في ذلك إلى " معمر القذافي " وأقول هذا للتاريخ .
وقد تحدث هنرى كيسنجر في كتابه " سنوات البيض لأبيض " عن ذلك أثناء حديثه عن زيارة بومبيدو للولايات المتحدة في نهاية فبراير – شباط 1970 وكيف استقبل الرجل هو وزوجته استقبالا سيئا من العناصر اليهودية  لموافقته على عقد تلك الصفقة ويقول بالنص " ولم يكن لدى ليبيا الطيارين الذين يقودون هذه الطائرات وأصبح من الواضح إنها اشتريت لدولة أخرى من المحتمل أن يكون مصر " ولم يغفر بومبيدو أبدا للولايات المتحدة استقبالها السئ له مم أثر على العلاقات بين البلدين .
وبذلك أصبح لدنا القدرة على الاعتراض وتساقطت الطائرات الإسرائيلية  على ضفتي القناة .. كما أصبح لدينا القدرة على رد الفعل الذي يمكن أن يتضاعف في الأسابيع التالية .
وحينما تم لعبد الناصر ذلك أقدم على أعظم خطوة في إدارة الصراع وهي قبوله لمبادرة روجرز .
خطة جرانيت
وفي أثناء ذلك كانت خطط العبور تجهز في سرية وتكتم ويجرى عليها التعديلات بين وقت وآخر على حسب تطور التقدم في التسليح والتدريب وتجهيز مسارح العمليات كان الغرض هو العبور ثم الوصول في مرحلة واحدة إلى مناطق الممرات وكان الاسم الكودي للخطة هو " جرانيت " وكتجارب ابتدائية للتنفيذ أخذت قواتنا تعبر إلى البر الشرقي في وحدات صغيرة في أول الأمر ثم زاد حجمها إلى " سرايا بأسلحة  معاونة " لتدمير العدو والحصول على معلومات عن دفاعاته والقبض على الأسري .
وقد قامت المخابرات العامة بتصوير خط " بارليف " بحيث اتضحت معالمه تماما وقامت في الوقت نفسه بإتمام دراسة مستفيضة عن الأعياد الإسرائيلية لاختيار إحداها لبدء الهجوم إذا رؤى ذلك, كما قامت بإجراء دراسات مستفيضة عن كافة الأهداف الإستراتيجية داخل إسرائيل وكيفية التعامل معها ووضعت كل ذلك على الخرائط وتخت الرمل بل علمت " ماكينات " من الخشب والورق المقوى للأغراض ذات الأهمية الخاصة , وفي الوقت نفسه قامت المخابرات بدفع دوريتها بعيدة المدى خلف خطوط العدو  في سيناء لتبقي  هناك إياما قصيرة أو طويلة حسب الواجبات المنوطة بها..
كن عبد الناصر في لعبته الكبيرة يستعد " للمعركة الكبرى " إذا فشلت وسائله الأخرى في تحقيق الجلاء عن أراضينا . وتعمدت ألا أقول " القتال " لأنه لم يتوقف يوما واحدا إلا بعد قبولنا لمبادرة " روجرز".
كلام  كلام .. قتال قتال 
الحوار في الصراع الدولي ديالوج.. نقاش وتبادل أفكار وصراع إرادات .
ووسيلة تنفيذ ذلك هي الألفاظ والكلمات والمذكرات جنبا إلى جنب مع القنابل والمدافع والطائرات.. هذه لهجة وهذه لهجة أخرى تكون في مجموعها لغة الحوار في الصراع المحلي أو العالمي على حد سواء .
والحوار يسير في بحر  هائج ملئ بالأخطار والأمواج المتلاطمة . الخط الحرج أحد شواطئه والأمر الواقع هو الشاطئ الآخر . ويتأثر الشاطئ الأول بمصلحة الدولتين الأعظم بينما يتأثر الشاطئ الآخر بمقدار إصرار القوى المحلية سواء تلك التي تصر على " رفض " الأمر الواقع أو تلك التي تصر على " فرض "  الأمر الواقع .
والريان الماهر هو الذي يقود سفينته وسط هذا الخضم بمهارة وشجاعة وصدق وإلا غرق مع سفينته إلى القاع وأصبح طعاما شهيا  للحيتان . وعلى الربان وهو يقود سفينته أن يتذكر أنه خير له أن يكون موضع رهبة وخوف في دنيا السياسة من أن يكون موضع عطف ومديح وعليه أن يكون ثعلبا ليعرف مكان الفخاخ وفي الوقت نفسه يكون ليثا ليخيف الذئاب . وعليه قبل كل ذلك أن يكون عالما بلغة الحور .. كلام وقتال .. فالكلام وحدة لهجة أحيانا يصعب عليها التأثير .. والقتال لهجة قد تؤثر وتلين وتجبر الطرف الآخر على إعادة حساباته .
وكان عبد الناصر يستخدم طول الوقت اللهجات المختلفة للحوار .. قتال لا يتوقف ومحادثات مستمرة في نفس الوقت حتى عندما  قبل إيقاف النيران بعد مبادرة " روجرز " قبل ذلك لفترة 90 يوما واستغلها في نقل حائط الصواريخ قريبا من القناة .
فتح قلبه " لجونار يارنج " وظل الرجل ينتقل في المنطقة " المكوك " حتى تقطعت أنفاسه " وشجع المباحثات الثنائية بين موسكو وواشنطن إلا أن " هنرى كيسنجر " كان ينسفها من وراء ستار وشجع المباحثات الرباعية بين موسكو وواشنطن وباريس ولندن إلا أن " هنرى كيسنجر " كان لها بالمرصاد أيضا ...
 ولكنه كان يعلم تماما أن الحل أولا في  مسرح العمليات : فلا يمكن أن يتحقق السلام العادل إلا بعد تعديل موازين القوى على الطبيعة : كان لابد له أن يكسب معركة الاعتراض , وكان لابد له أن يكسب معركة الفعل والقدرة عليه وكان لابد له أن يغير مواقع الدولتين الأعظم من الخط الحرج وكان لابد له أن " يقلقل " الواضع على خط  الأمر الواقع .

وحينئذ يمكن أن يتحرك إلى " الحل " قاعدة وطيدة أساسها الاعتماد على النفس . وقبل " مبادرة روجرز"...وانتقل من صفحة 327 من كتاب سنوات البيت الأبيض لهنرى كيسنجر عن الاتجاه الرسمي الأمريكي لهذه المبادرة " لقد كنت أعترض على قيام الولايات المتحدة بأى مبادرة في ظل التواجد السوفيتي وفي ظل تطرف عبد الناصر , وفي أعمال الفدائيين . وبالرغم من ذلك تقدمت وزارة الخارجية بورقة مبادئ عامة تقر أن المفاوضات القادمة تعتبر مجرد اتفاق وليس بالضرورة معاهدة سلام , وإن المباحثات المباشرة ليست ضرورية في المرحل الأولي وإن كان من المحتمل أن تتم في مرحلة لاحقة وإنه على إسرائيل الانسحاب من مصر والأردن إلى حدود ما قبل الحرب مع تعديلات طفيفة فقط في الحدود مع الأردن وفي 10 مارس – آذار وافق نيكسون على مقترحات الخارجية على أن تقدم ورقة المبادئ إلى إيبان عند زيارته ثم تناقش نقطة نقطة بعد ذلك مع دوبرينين ثم تعتبر أساسا للمفاوضات الرباعية .

وحينما مات عبد الناصر في 28 أيلول  1970 كان ضمن مخلفاته أشياء كثيرة أهمها : جيش أعيد بناؤه خطة جرانيت والتمرين عليها حائط صواريخ يستر القوات على القناة ويستر أى عملية عبور الظروف الصعبة قناة السويس معطلة الملاحة كوسيلة ضغط موقف عربي مساند , باب المندب مسيطر عليه نتيجة لمساعدته لثورتي اليمن الشمالي والجنوبي وتنسيق كامل مع الاتحاد السوفيتي كإحدى الدولتيني الأعظم يوازن به الموقف الأمريكي المعادى , انقسام في الرأي داخل الإدارة الأمريكية مبادرة روجرز , موقف أوروبي متعاطف .
ولعل البعض يتساءل : لماذا كان الاعتماد على هنرى كيسنجر " كمصدر أساسي لتقييم رد فعل إجراءات عبد الناصر والإجابة بسيطة , ظاهرة , ففيه إرضاء لكل من أصدقاء الرجل وأعدائه على  فالأصدقاء – وهم يثقون فيه – لا يمكنهم أن يتنكروا لشهادة صديق والأعداء – وهم يشكون فيه – يرحبون بشهادته على أساس أن أصدق شهادة هي الاعتراف بالحق من جانب الأعداء . ولعل الكثيرين – وأنا واحد منهم – " يتطلعون في شوق إلى الجزء الثاني من كتاب هنرى كيسنجر " " سنوات البيت الأبيض " وفيه سيتحدث عن فترة ما بعد عبد الناصر !!
الباب الرابع
ومات عبد الناصر
الفصل التاسع : اليوم الطويل .
الفصل العاشر : وقائع تحتاج إلى وقفة 
الفصل الحادي عشر : الوداع الأخير

الفصل التاسع

اليوم الطويل
أيلول الأسود – في السادسة والربع مات عبد الناصر – ترتيبات الجنازة الحزينة – بدأت الأسافين وجثة الرئيس لم تخرج من منزله بعد – الجثمان في قصر القبة – الجلسة المشتركة بين اللجنة التنفيذي ومجلس الوزراء – التقرير الطبي عن وفاة الرئيس – أعمال المادة 110 من الدستور – نائب الرئيس ينعي عبد الناصر إلى الشعب .
في صيف عام 1970 كان الوضع في الأردن قد أصبح في غاية التعقيد وقد أصبح واضحا أن صداما دمويا بين الملك حسين والمنظمات الفدائية الموجودة في الأردن أمر لا يمكن تفاديه إذ وجد الملك  حسين نفسه  بمرور الوقت بين شقي الرحي : المنظمات الفلسطينية تزيد من سلطاتها داخل دولته مما اعتبره إقتداء على سلطته الشرعية ولم يكن من السهل عليه قبول ذلك.
وإسرائيل تهدد " بذراعه الطويلة " وتتوعد بالانتقام إن لم يعمل على إيقاف العمليات الفدائية التي تم من أراضيه 
 وكان خوف الملك الحقيقي من المنظمات الفدائية إذ كان يعتبرها بمثابة التهديد الخطير لعرشه ولم يكن يخشي في واقع الحال – في ذلك الوقت – من أى تهديد إسرائيلي إذ كان تأمين العرش الأردني أحد أهداف الإستراتيجية الإسرائيلية في ذلك الوقت وكانت إسرائيل تعلن أنها سوف تتدخل عسكريا في حالة أى تهديد يوجه إلى الوضع القائم في الأردن.
وفي يوم 12 سبتمبر – أيلول أعلن الملك حسين الأحكام العرفية في الأردن واستبدل حكومته المدنية بحكومة عسكرية برئاسة اللواء محمد داود إذ كان الملك قد عقد العزم على سحق المنظمات  الفدائية في بلاده . وما لبث الموقف أن تفجر بين قوات الملك من جانب والقوات الفلسطينية من جانب آخر وخاض الطرفان معارك وحشية استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة المتاحة.
وبدأت سوريا في حشد قواتها على الحدود الأردنية استعدادا للتدخل في الوقت المناسب :
وأعلنت الولايات المتحدة الأميركية أنها قد تضطر للتدخل في الأردن إذا هددت سوريا والعراق النظام الملكي في الأردن.
وبدأت واشنطن تستعد لكافة الاحتمالات فأعلنت حالة التأهب بين بعض القوات الأميركية وتم استنفار الفرقة 82 المحمولة جوا ثم أمرت سفن الأسطول السادس بالقيام بعملية " استعرض العلم " بالتحرك في اتجاه سواحل لبنان وإسرائيل ثم وجه ريتشارد نيسكون إنذار شديدا إلفى الاتحاد السوفيتي يحثهم فيه على ردع السوريين كما تصل بالملك حسين ليطمئنه على أنه لا يقف وحده.
وقام الاتحاد السوفيتي بدوره بشجب الاستفزازات العسكرية الأمريكية ولفت نظر واشنطن إلى أن تتبع الحذر في خطواتها التي تقوم بها بصدد الموقف المعقد في الشرق  الأوسط وأن أى تدخل سيزيد الموقف تعقيدا.
إلا أن تطورا غريبا حدث في الموقف إذ رأت واشنطن أن تستعين بإسرائيل للتدخل لحسم الموقف في حالة توغل القوات السورية في الأراضي الأردنية وكانت " جولدا مائير  رئيسة وزراء إسرائيل قد وصلت إلى نيويورك في زيارة رسمية وقرر نيكسون مفاتحتها في قراره  هذا عند لقائه لها في اليوم التالي وكتمهيد لهذا اللقاء وافق على طلب  إسرائيلي بمساعدة قدرها 500 مليون دولار وإرسال 18 طائرة فانتوم في موعد مبكر عن البرنامج الزمنى المحدد له وكان هذا الطلب يتسكع في إدراج الرئيس لفترة طويلة قبل بداية الأزمة .
وفي نفس اليوم 18 سبتمبر – أيلول 1970 تقدمت القوات المدرعة السورية في اتجاه "  أربد" من الشمال الغربي من الأردن وزادت كثافة الدبابات السورية التي عبرت الحدود الأردنية في اليوم التالي وأرسل الملك حسين رسالة يقول فيها " سقطت أربد في أيدي السوريين " وطالب بمساعدة الأمريكيين والبريطانيين له .
وبدأ التعاون الأمريكي – الإسرائيلي في رسم الخطط  للتدخل وكان يمثل الجانب الأمريكي هنرى كيسنجر والجانب الإسرائيلي إسحاق رابين سفيرهم في واشنطن في ذلك الوقت وكان هيكل الخطة الإسرائيلية شن  هجوم على القوات السورية في منطقة اربد تقوم به القوات المدرعة الإسرائيلية المتمركزة في الجولان باتجاهها شرقا وجنوبا على أن تتقدم المدرعات الأردنية من الجنوب  في اتجاه اربد على أن تقوم المدفعية الإسرائيلية بتقديم المساعدة بالنيران من الضفة الغربية ويقوم الطيران الإسرائيلي بضرب اربد من الجو واتفق على أن يقوم الجانب الأمريكي بالتنسيق مع الأردن مع التأكيد للملك حسين بأن القوات الإسرائيلية سوف تنسحب من الأردن بعد انتهاء العملية .

وبدأت الاستعدادات الإسرائيلية المحمومة بطريقة علنية في الضفة الغربية للأردن وفي مرتفعات الجولان.

وفي يوم 23 سبتمبر – أيلول 1970 عقد مؤتمر القمة العربي بالقاهرة ومنذ بدايته كان هناك اتجاهان في الرأي  : كان هناك القذافي وجعفر النميرى وغيرهما يرون اتخاذ موقف حاسم من الملك حسين وكان آخرون من بينهم عبد الناصر يرون أن الغرض من المؤتمر هو وقف المذبحة الحالية وعلى ذلك فإن اتخذ موقف التشدد من الملك حسين فإن المؤتمر بذلك يكون قد أعطاه المبرر لقطع اتصالاته بالحكومات العربية والمضى في مذبحته ضد المقاومة . وفي 24 سبتمبر – أيلول سافر  إلى عمان وفد برئاسة جعفر النميري للوقوف على ما يجرى ومحاولة تهدئة الموقف وعاد الوفد دون  نتيجة وأخذ الوفد يعرض نتائج مباحثاته على المؤتمر .
ويحسن أن أنقل من كتاب " الطريق إلى رمضان " لمحمد حسنين هيكل جانبا من النقاش الذي  تم في هذه الجلسة حتى نوضح الجو الذي ساد المؤتمر ...

الملك فيصل : إني متفق مع فخامة جمال عبد الناصر أن ذلك كله يبدو كنه خطة لتصفية المقاومة .

القذافي : أني غير متفق معكم في الجهود التي تبذلونها وأعتقد أنه لابد من إرسال قوات مسلحة إلى عمان ... قوات مسلحة من العراق وسوريا .
الملك فيصل : تريد أن ترسل قواتنا المسلحة للقتال في الأردن ؟ هذا ليس عمليا ..
عبد الناصر : أظن أن علينا أن نتحلى بالصبر .
فيصل : أظن أنه إذا كان لنا أن نرسل جيوشنا إلى ى مكان فلابد أن نرسلها لتقاتل اليهود.
القذافي :أن ما يفعله حسين أبشع مما يفعله اليهود ...والمسألة كلها في الأسماء .
عبد الناصر : الصعوبة هي أننا إذا أرسلنا جنودا إلى الأردن فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى تصفية بقية الفلسطينيين وأريد منكم أن تستمعوا إلى رسالة تلقيتها هذا الصباح من الاتحاد السوفيتي إنهم يطلبون منا التمسك بأقصى قدر ن ضبط النفس لأن الموقف الدولي أصبح دقيقا للغاية وأى خطأ في التقدير يمكن أن يؤدي إلى أن نفقد نحن العرب كل السمعة التي اكتسبناها خلال السنوات الثلاث الماضية .
القذافي : ما زلت معترضا فإننا إذا كنا نواجه مجنونا كالملك حسين يريد أن يقتل شعبه فلابد أن نرسل من يقبض عليه ويضع الأغلال في يديه ويمنعه من أن يفعل ما يفعله ويحمله إلى مستشفي المجانين .
فيصل : لا أظن أن من اللائق أن تصف ملكا عربيا بأنه مجنون .
القذافي : لكن أسرته كلها مجانين .
فيصل: حسنا . ربما كنا كلانا مجانين .

عبد الناصر : في بعض الأحيان حينما ترون حلالتكم ما يجرى في العالم العربي أن ذلك ربما يصبح صحيحا وأقترح أن نعين طبيبا يكسف علينا بصورة منتظمة ليتبين من هم المجانين بيننا ..

فيصل " أريد أن يبدأ طبيبك بي لأني أشك بالنسبة لما أراه في أني أستطيع الاحتفاظ بتعقلي .
عبد الناصر : على أية حال  , دعونا نعود إلى موضوعنا الأصلي , إني أقترح أن يصدر على الفور بيان باسم الرئيس النميري يقول إن الملك حسين قطع  للوفد عهدا بإنهاء القتال .
القذافي : الملك حسين  لن يتراجع ما لم يحس بخنجر فوق عنقه ,.
ووسط كل هذا الذي يجرى كان اللواء محمد داوود رئيس الحكومة الأردنية الذي عينه الملك حسين خلفا لعبد المنعم الرفاعي لمواجهة الموقف في القاهرة وإذا به يعلن استقالته لأن " الحكومة العسكرية التي شكلت برئاستي في الأردن حملت بما لا ذنب لها فيها ولم يكن بيدها من أمر توجيه الأمور شيئا  وأنه يريد الآن أن يفسح المجال لتشكيل حكومة وطنية تستطيع أن عيد السلام إلى الأردن "
وانتهى الموضوع  كله حينما شن الملك حسين هجوما شاملا ضد القوات السورية محدثا بها خسائر فادحة وأخذت قاذفاته من طراز هوكر هنتر تقذف  المدرعات السورية وهي منسحبة من الشمال وحينما تأكد الملك حسين من سيطرته التامة على الموقف قبل الدعوة في 27 سبتمبر – أيلول 1970 لحضور مؤتمر القمة في القاهرة ووقع على اتفاق مع ياسر عرفات على وقف فوري لإطلاق النيران وانسحاب كل قوات الجيش وقوة المقاومة من كل مدينة من الأردن مساء ذلك اليوم .
كان عبد الناصر طوال هذه الأزمة يعيش في الطابق الحادي عشر في فندق " النيل هيلتون " وبعد أن وقع الاتفاق بين الملك وأبي عمار يوم 27 قرر العودة إلى منزله في منشية البكرى لينام مبكرا إذ كان عليه في اليوم التالي توديع المسافرين من الملوك والرؤساء .
وفي اليوم التالي  28 سبتمبر – أيلول 1970 ذهب إلى مطار القاهرة الدولي لتوديع الملوك والرؤساء وفي أثناء توديعه لأمير الكويت شعر بأنه غير قادر على الوقوف وطلب سيارته لتقله من حيث يقف لأنه أصبح عاجزا عن السير إليها وركب السيارة وهو يجر رجليه وطلب أن يحضر الأطباء .
وفي الثالثة والنصف كان قد وصل إلى منزله ليجد قرينته وأولاده في انتظاره على مائدة الغذاء ولكنه اتجه مباشرة إلى حجرة نومه في الطابق الثاني .
وبدأت محاولات الأطباء اليائسة دون جدوى  كانت الأزمة القلبية أثقل مما ينفع معها أى دواء وفي السادسة والربع مات عبد الناصر .
بزغت شمس 28  سبتمبر – أيلول 1970 وكنت في ذلك الوقت  وزيرا للدولة لشؤون مجلس الوزراء كان على ن أحضر بعض الاجتماعات العجلة في الصباح أما بعد الظهر فكان على ن أمر على مستشفي المعادى حوالي الخامسة بعد الظهر للاطمئنان على حرم المرحوم فاروق حمد الله عضو مجلس الثورة السوداني والذي أعدمه النميري بعد ذلك في صيف عام 1971 كما كان على  أن أزور الأخ سعد الصباح وزير الدفاع الكويتي  زيارة عمل في منزله بالزمالك الساعة الخامسة والنصف وفعلا ذهبت إلى الزيارتين ولذلك لم أكن حاضرا وقت وقوع  الحدث الجلل . وأثناء مروري على منزل العائلة وكانت الساعة حوالي السابعة أخبروني أن رئاسة الجمهورية طلبتني عدة مرات   ويرجو المتحدث أن أتصل به في رقم هاتف تركه بمجرد وصولي . وطلبت الرقم ولما عرف المتحدث اسمي صرخ وهو يبكي وينتحب " انت فين ؟ تعال فورا ... الريس مات , الريس مات !"
وكان الرجل يكرر العبارة بعد أن ألقيت سماعة الهاتف من يدى وكأنها  أفعي لدغتني .. وجريت لا ألوى على شئ . لم أكن أصدق ما سمعت .
وحينما وصلت منزل " الريس " دخلت من فوري حجرة الصالون التي اعتاد أن يستقبلنا فيها ووجدت هناك السادة أنور السادات , حسين الشافعي , وعلى صبري , محمد فوزي , شعراوى جمعة , محمد أحمد . سامي شرف , والليثي ناصف , محمد حسنين هيكل .. وبعض أفراد الحرس الخاص .
كان الحزب يخيم على الجميع ..حزن صامت من البعض ..وبكاء من أغلب الحاضرين ولم يكن من السهل فتح أى موضوع للتحدث فيه .
وبدأ البعض منا يثير أسئلة من تلك التي تثار في هذه المناسبات ..
واتفق الرأي في هذه الجلسة على الآتي ..

• أن تشيع الجنازة أول أكتوبر – تشرين أول 1970 . • أن يذيع السيد أنور السادات بيانا على الشعب العربي بالحدث الأليم . • أن يتم اجتماع عاجل لأعضاء اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء في قصر القبة الساعة العاشرة مساء . • تتكون لجنة برئاسة الأخ محمد أحمد لتنظيم مراسم وإجراءات الدفن . • تبدأ الجنازة من الأزهر الشريف حيث نادي عبد الناصر أيام العدوان الثلاثية عام 1956 من فوق منبره " سنقاتل , سنقاتل , سنقاتل ". • نقل الجثمان فورا من منشية البكري إلى قصر القبة . وقمت بصفتي وزيرا للدولة لشؤون مجلس الوزراء بأخطار مكتبي للدعوة إلى الاجتماع المتفق عليه وبعد ان فرغت من ذلك مباشرة ارتفع صوت حرم الرئيس وهي متعلقة بجثمانه الذي حمله البعض من الدور العلوي إلى الدور الأسفل لنقله بواسطة عربة الإسعاف المنتظرة على الباب الداخلي .

واستغرقت هذه العملية بعض الوقت وكنت أنا مع شعراوي جمعة وسامي شرف في الحديقة وإلى جوارنا محمد حسنين هيكل يروح جيئة وذهابا وهو يردد " مش معقول , مش معقول "
ويقول حسن التهامي في مذكرات نشرت في صحيفة الأهرام – على ما أظن – أنه حينما رآنا هكذا وقوفا في الحديقة أيقن إننا نتآمر ضد السادات ثم يستطرد . ليقول " دخلت من فوري لأخبر السادات بأن شعراوي جمعة وسامي شرف وأمين هويدى يتآمرون في الخارج  وعليك أن تضرب ضربتك قبل فوات الأوان " ويستطرد قائلا أن الرئيس السادات قال له " ليس هذا وقت هذا الكلام "!!!
لقد حدث هذا باعتراف الزميل  حسن التهامي قبل أن تخرج جثة الرجل العظيم من المنزل ولما يمض على موته إلا ثلاث ساعات !! ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ولست أدرى حتى الآن كيف وصل الزميل إلى هذا الذي وصل إليه ؟ كيف يعرف الرجل ما كنا نتحدث فيه بمجرد مروره هكذا في الحديقة علما بأنني أؤكد للزميل أن هذا لم يحدث على الإطلاق . كانت مجرد الكلمات العادية لا تقوى على الخروج من فم الإنسان كان التفكير مشلولا لا يقول على مثل هذه الظنون . وإنني أحسده تماما على قوة أعصابه التي مكنته من هذا التصور في مثل هذا الموقف العسير !!!
ثم هناك سؤال آخر : إذا كان الزميل المحترم قد أوقع على هؤلاء هذا الاتهام الغليظ فكيف يطاوعه ضميره – وهو رجل دين وتقوى – إلا يتأكد قبل ن يقطع بالظن وهو يعلم أن الله يقول " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة "؟ ثم كيف يطاوعه ضميره – وهو الرجل الذي انصرف إلى التقرب إلى الله – بأن يقبل أن يكون عضوا أيسر في المحكمة التي حاكمت هؤلاء ضمن آخرين فيما سمي بأحدث 15 مايو – أيار 1971 خاصة وأنه اتهم فعلا دون أن يتحقق وصبح طرف في الموضوع ؟!!
وهذا يجعلني أشك كثيرا في أنه أخبر الرئيس السادات بهذا الاتهام  وإلا ما كان الرجل قد عينه عضوا في محكمة تحاكم أفرادا قطع مسبقا بأن بعضا منهم مذنبون !!
وعلى أية حال فلا فائدة من الإطالة ولكنني أعود فأكرر  أن هذا الظن باطل وأنه لم يحدث لأن كل همنا كان منحصرا في المصيبة التي وقعت على رأسنا فجأة ودون إنذار !!

سامحه الله وسامح غيره وكلنا يعلم أن الله شديد العقاب

وفتح الباب الخارجي على مصراعيه ووضع الجثمان الطاهر في عربة الإسعاف وتبع عربة الإسعاف عربتان أو ثلاث كنت في إحداها مع الزميلين شعراوي جمعة وسامي شرف وأخذ الموكب الحزين طريقه إلى قصر القبة....
وكانت هذه آخر مرة تطأ فيها قدماي منزل عبد الناصر في منشية البكري .
كانت الشوارع هادئة فلم يكن الخبر قد أذيع بعد... ولم يكن هؤلاء الذين يسيرون في الشوارع الموصلة إلى المقصر يعلمون أن الموكب يحمل أغلي من في مصر  كلها ولم يكن هؤلاء يعلمون بالكارثة التي حلت وبالحادث الجلل الذي وقع .
وحمل جثمان وسط نحيب الضباط والجنود الذين تجمعوا وهم لا يصدقون ما يحدث أمامهم إلى غرفة " العيادة " بالقصر حيث وضع جثمانه على السرير الوحيد بالغرفة وقد غطي بملاءة بيضاء ووقف على الباب حراس بأسلحتهم.
وجهزت الثلاجة الخاصة بالقصر وحينما تم ذلك نقل الجثمان إليها ليبقي هناك حتى يوم تشييع الجثمان إلى مثواه الأخير في جامع عبد الناصر بكوبري القبة حيث كانت قيادة الجيش التي سقطت في يد قوات الثورة يوم 23 يوليو – تموز 1952 .
ويقول الأخ الدكتور صلاح هدايت وزير البحث العلمي السابق إنه أخذ صورة وجه عبد الناصر على نوع خاص من " الجبس " حتى يحتفظ بملامحه الحقيقية عنده ولست أدرى هل ما زال يحتفظ بها حتى الآن .
ولم يبق أمامنا إلا انتظار عقد اجتماع المجلس المشترك الذي سيحضره كل من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء .
وكانت الإذاعة والتليفزيون قد قطعا برامجهما العادية واقتصرا على إذاعة القرآن الكريم ... وبدأ الشعب يحدس ويخمن عما وقع ولكن لم يخطر ببال أحد أن آيات الله تتلى على روح عبد الناصر بعد أن فارق الحياة !!!
وتم عقد اجتماع مشترك لأعضاء اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء قاعة الاجتماعات الموجودة بقصر القبة القاعة التي كان يعقد فيها عبد الناصر اجتماعات المجلس بصفة دائمة .
وكان كثير من الوزراء في ملابس الميدان إذ كانوا قد رجعوا من فورهم من الجبهة على قناة السويس فقد كان الوزراء – كل فيما يخصه – يذهب لزيارة الجبهة بين وقت وآخر لحل المشاكل على الطبيعة ولم يكن بعض هؤلاء قد علم بالحادث الجلل بعد. وانفجر أغلب الوزراء في البكاء وكانت علامات الحزب والآسي وربما الضياع قد ظهرت على وجوهنا جميعا .
وجلس الوزراء كل في مكانه وترك مكان الرئيس الراحل شاغرا لم يجلس فيه أحد.
 كان جسد الرئيس موضوعا في غرفة " العيادة " بقصر القبة على خطوات معدودة من اجتماع المجلس بعد أن تم نقله من منزله " بمنشية البكري " ولم  يكن قد تم نقله إلى ثلاجة القصر في انتظار تشييع الجنازة بعد.
وتولي السيد أنور السادات " نائب رئيس الجمهورية " رئاسة الجلسة .
وبدأ في تبليغ الأعضاء تفصيلات ما حدث والذهول مخيم على الجميع .
وبدأ حسن التهامي وزير الدولة التعليق باتهام صريح للهيئة الطبية المشرفة على علاج الرئيس متهما إياها بالتقصير والإهمال واستدعي الدكتور " منصور فايز" على الفور ليدلي ببيان تفصيلي عما حدث واستغرق بيان " الدكتور فايز" حوالي ربع ساعة انهاه بقوله " لقد نفذت إرادة الله ولم تكن هناك قوة تحول دون ذلك. إن المستحيل عمل من أجل الرئيس ولكن علينا أن نؤمن بأنه لا راد لقضائه ".
وانصرف الرجل النبيل والحزن يعتصره وهو لا يقوى على السير .
ثم عاد أنور السادات ليتحدث عن الهيكل العام لتشييع الجنازة .
وحينما أراد الانصراف على عجل ليذهب إلى مبني الإذاعة والتليفزيون بشارع " ما سبيرو"  ليلقي بيانه على الشعب أثار لبيب شقير بحكم رئاسته لمجلس الأمة في ذلك الوقت موضوع السلطة بعد وفاة الرئيس الراحل وقال الرجل بالحرف الواحد " إن المادة 110 من الدستور تنص على أنه في حالة استقالة الرئيس أو عجزه الدائم عن العمل أو وفاته يتولي الرئاسة مؤقتا النائب الأول لرئيس الجمهورية ثم يقرر مجلس الأمة بأغلبية ثلثي أعضائه خلو منصب الرئيس ويتم اختيار رئيس الجمهورية خلال مدة  لا تتجاوز 60   يوما من تاريخ خلو منصب الرياسة ... وتطبيقا لهذا النص الدستوري اقترح أن يتولى الرياسة المؤقتة السيد أنور السادات ".
والتفت إليه أنور  السادات وهم يهم بمغادرة قاعة الاجتماع قائلا " ليس هذا هو الوقت المناسب لمثل هذه الأحاديث وعلى  أى حال اعملوا دراسة دستورية عن هذا الموضوع " إذ كان من رأي سيادته الذي كان يصر على خلال الأيام التالية لا يتولى  الرياسة إلا بعد إتمام إزالة آثار العدوان .

وليس صحيحا ما قاله البعض أنه كان هناك مناورات أو تردد في أعمال نص الدستور في تلك الليلة وما تلاها من أيام إذ كان الجميع قد أصروا على أن تنقل السلطة بسرعة وبالطريق الدستوري الذي اعتادوا أن يحترموه من قبل إذ أن الجميع كانوا يشعرون أن العالم كله ينظر إليهم ويحسب عليهم تصرفاتهم وخطواتهم بعد رحيل الزعيم .

ولذلك بادر رئيس مجلس الأمة بعد انتهاء الاجتماع مباشرة إلى إعلان النص الدستوري إلى مندوبي الصحف والإذاعة والتليفزيون  مضيفا أن السيد " نائب رئيس الجمهورية سيحضر في اليوم التالي اجتماعا مشتركا للجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء في الساعة 12 ظهر بالقصر الجمهوري بالقبة ".

وفعلا نشرت كل الصحف نص التصريح في اليوم التالي وإذاعته والتلفيزيون وتناقلته كافة وكالات الأنباء .

وفي الساعة الحادية عشرة إلا خمس دقائق من ليلة 28 سبتمبر – أيلول 1970 وجه أنور السادات بيانا نعي للأمة العربية إبنها وبطلها وقائدها ... قال :
" فقدت الجمهورية العربية المتحدة وفقدت الأمة العربية , وفقدت الإنسانية كلها رجلا من أغلي الرجال وأشجع الرجال وأخلص الرجال , هو الرئيس جمال عبد الناصر الذي جاد بأنفاسه الأخيرة في الساعة السادسة والربع من مساء اليوم 27 رجب 1390 الموافق 28 سبتمبر 1970 بينما هو وقف في ساحة النضال يكافح من أجل وحدة الأمة العربية ومن أجل يوم انتصارها .
" لقد تعرض البطل الذي سيبقي ذكره خالدا إلى الأبد في وجدان الأمة والإنسانية لنوبة قلبية حادة بدت أعراضها عليه في الساعة الثالثة والربع بعد الظهر وكان قد  عاد إلى بيته بعد انتهائه من آخر مراسم اجتماع مؤتمر الملوك والرؤساء العرب الذي انتهي بالأمس في القاهرة والذي كرس  له القائد والبطل كل جهده وأعصابه ليحول دون مأساة مروعة دهمت الأمة العربية .
" إن اللجنة التنفيذية العليا للإتحاد الاشتراكي العربي ومجلس الوزراء وقد عقدا جلسة مشتركة طارئة على أثر نفاذ قضاء الله قدره لا يجدان الكلمات التي يمكن بها تصوير الحزن العميق الذي ألم بالجمهورية العربية المتحدة وبالوطن العربي والإنساني إزاء ما أراد الله امتحانها به في وقت من أخطر الأوقات ..
" إن جمال عبد الناصر كان أكبر من الكلمات هو أبقي من كل الكلمات ولا يستطيع أن يقول عنه غير سجله في خدمة شعبه وأمته  والإنسانية مجاهدا عن الحرية مناضلا من أجل الحق والعدل مقاتلا من أجل الشرف إلى آخر لحظة من عمره .
" ليس هناك كلمات تكفي عزاء في جمال عبد الناصر .

" إن الشئ الوحيد الذي يمكن ن يفي بحقه وبقدره هو أن تقف الأمة العربية الآن كلها وقفة صابرة صامدة شجاعة قادرة حتى تحقق النصر الذي عاش واستشهد من أجله ابن مصر العظيم وبطل هذه الأمة ورجلها وقائدها .

" يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي "
" والسلام عليكم ورحمة الله "
وكان هذا اليوم الطويل الحزين يوم 28 سبتمبر – أيلول 1970 يوافق ليلة " الإسراء والمعراج " كما كان يوافق  يوم انفصال الإقليم الشمالي عن الإقليم الجنوبي في الجمهورية العربية المتحدة .
وبالمصادفة العجيبة !!!
الفصل العاشر	

وقائع تحتاج إلى وقفة

رفض تشييع الجنازة من الأزهر – استقر الرأي على أن تشيع الجنازة من الجزيرة – بدأت وفود المعزين في الوصول – اجتماع للبت في موضوع إيقاف إطلاق النيران وحقيقة ما تم فيه – حقيقة ما تم في اجتماع مدينة نصر – بعض الجهود تهز الصورة والجثمان لم يشيع بعد .
ما زلنا نتحدث عن اليوم الطويل الحزين , وكنا قد توقفنا عند إلقاء بيان السيد أنور السادات الذي وجهه إلى الأمة العربية وذلك بعد انتهاء الاجتماع المشترك لأعضاء اللجنة التنفيذية  العليا ومجلس الوزراء .
وانصرف كل إلى حال سبيله .
ولعلنا نذكر أنه كان قد تم الاتفاق على تشييع الجنازة من الأزهر الشريف وتوجهنا إلى هناك حوالي الساعة الواحدة من صباح يوم 29 سبتمبر – أيلول 1970 . كان الموجودون هناك شعراوى جمعة وسامي شرف وأمين هويدى ومحمد أحمد وحسن طلعت مدير المباحث العامة وآخرون .
وقطعنا الميدان جيئة وذهابا نحاول أن نتصور سير الجنازة وكيف يكون .
وهنا ألقى رجال الأمن برأيهم القاطع في عدم صلاحية المكان لتشييع الجنازة ولم تفلح الآراء المضادة لإثنائهم عن القرار الذي وصلوا إليه ...
فالميدان مفتوح تصب فيه شوارع وطرق كثيرة ولذلك فإنه من المستحيل السيطرة على سيل المعزين المنتظر ثم الشوارع هناك ضيقة لن تتسع لكثافة عربات الملوك والرؤساء ووفود المعزين والمنازل  قديمة لن تتحمل ضغوط الحشود المنتظرة علاوة على أن كارثة ستحدث إذ من عاد السكان أن يتجمعوا في المنازل المطلة على الموكب ولن تتحمل المنازل القديمة من سيتجمعون فيها .
وأما هذه الآراء المعقولة أخذ المجتمعون يقلبون الأمر من جديد وأخيرا اتفق الجميع على أن يبدأ في تشييع الجنازة من مبني " مجلس الثورة " بالجزيرة فأهمية المكان التاريخية لا تحتاج إلى تعليق علاوة على أنه مكان مقفول نسبيا إذ يمكن التحكم في الكباري والجسور  التي توصله بشاطئ النيل إذ يصبح من السهل إقامة الأسلاك الشائكة وحشد القوات وإذا اضطر الأمر يمكن فتح الكباري فيتعذر على تجمعات البشر أن تقتحم المكان المخصص لتشييع الجنازة .
ووافق الجميع على المكان المختار وترك للأخ محمد أحمد السكرتير الخاص للرئيس الراحل عمل باقي الإجراءات ووضعنا ما يمكن أن نبذله جميعا من هد تحت تصرفه . وكانت الشمس قد ظهرت في الأفق من جديد حينما انصرفنا إلى منازلنا لتغيير ملابسنا واستئناف العمل لمواجهة ما أمامنا من مسئوليات .

وفي هذا اليوم بدأ الرؤساء وأعضاء الوفود في الوصول للاشتراك في تشييع الجنازة وبدأت عدة اتصالات مع أعضاء الوفود ورؤسائها في الفنادق التي ينزلون بها. وقد تم اجتماع مساء يوم 30 سبتمبر – أيلول 1970 في مكتب وزير الحربية الفريق محمد فوزي بكوبرى القبة حضره كل من محمود رياض وزير الخارجية وشعراوي جمعة وزير الداخلية وحافظ إسماعيل رئيس المخابرات العامة وسامي شرف وزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية ومحمد حسنين هيكل وزير الإرشاد وأمين هويدى وزير الدولة .

كان الغرض من الاجتماع هو الوصول إلى قرار بشأن تجديد قرار وقف إطلاق النيران الذي كان ينتهي في 9  نوفمبر – تشرين ثاني 1980 والذي كانت مصر قد قبلته بعد موافقتها على مبادرة روجرز.
ويقول هيكل في كتابه " الطريق إلى رمضان " بهذا الخصوص " لم يكن التوصل إلى قرار في هذا الأمر سهلا وكان شعوري أن علينا أن نمد وقف إطلاق النار لأسباب سياسية بحتة . صحيح أن الاستعداد لعملية جرانيت 1 كانت تمضى في طريقها ولكن من الذي كان يستطيع في ذلك الوقت أن يتحمل  مسؤولية إصدار الأمر بتنفيذها ؟ كن اليوم آنذاك أخر سبتمبر – أيلول وكان لابد لمن سيختار رئيسا جديدا ـأن يثبت منصبه باستفتاء عام يستغرق الإعداد له معظم شهر أكتوبر – تشرين أول وليس من الإنصاف أن نتوقع منه إصدار الأمر ببدء  الحرب ولما تمض عليه في منصبه إلا بضعة أيام ثم هل من الإنصاف أن نزج بالبلاد على الفور في معركة وهي لا تزال ممزقة بالحزن ؟ وهكذا أعلنت  أنني في جانب مد وقف إطلاق النار , وتحدث البعض مؤيدين الإجراء العاجل وخطر لى أن خير وسيلة لحسم الموضوع هي سماع رأي الرجل  المحترف . وتحدث الفريق فوزي وقال ما يفهم منه أن مصر العليا أى العسكرية المحضة لاستئناف القتال ؟ قال : أنا جندي وإذا صدر أمر مكتوب إلى فإني سأنفذ ما تطلبه مني القيادة السياسية . وكان ذلك غريبا إذ لم يحدث طوال حياة عبد الناصر أن طلب الفريق فوزي أية أوامر مكتوبة وقلت : ليس ذلك بالضبط هو الجواب على سؤال . السؤال هو : هل يناسبك من الناحية العسكرية أن تبدأ القتال على الفور أم أنك تفضل أن يتاح لك مزيد منا الوقت للاستعداد ؟ ورد على الفور : إذا منحت فرصة شهرين آخرين فإني أظن أن موقفي سيكون حسن . ستكون بطاريات الصواريخ في مصر العليا قد استقرت في مواقعها وسأشعر عندئذ بمزيد من الأمن . وقلت : أظن أن في هذا ما يجيب على تساؤلنا وإذا كان الجيش يري أن من الأفضل أن تتاح له فرصة شهرين آخرين فخير وبركة  والفرق ليس كبيرا بين شهرين وثلاثة وأظن أن علينا أن نضي بمد وقف إطلاق النيران فترة ثلاثة شهور أخرى وقد احتج بعض الحاضرين بأن هذه طريقة مفاجئة بلا داع لإنهاء النيران فترة ثلاثة شهور أخرى وقد احتج بعض الحاضرين بأن هذه طريقة مفاجئة بلا داع لإنهاء المناقشة لكن الحقيقة أنه لم يكن بينهم من  كان مستعدا للمضي في المناقشة في الاتجاه المعارض "
وانتهى كلام محمد حسنين هيكل , ولكن لنا وقفة طويلة أمام ما كتبه صراحة وما تركه يسقط بين السطور لإعطاء إيحاء معين ربما تطلبه الموقف حينما كتب ما كتب , ولست أعلق على ما قال تلبية لما ذكره في مقدمة كتابه من أنه سوف يكون من " أسعد الناس لو أن أحد قال لى أنك كتبت كذا وكذا ... ولكن الحقيقة كانت كذا وكذا ... ولو أنني اقتنعت لسجلت اقتناعي ولتراجعت عما كتبت شاكرا ومقدار لشعاع من الحقيقة أنار أمامي ما كان شاحبا و معتما " ولكن تعليقي نابع من عقيدة تأصلت في النفس تؤمن بأن الإنسان إما أن ينطق بالحق إلا فالصمت أفضل.
وقبل التعليق أطرح النقاط التالية .
فلا أظن أن تصحيح واقعة أو وقائع " بصراحة " يمكن أن يغير من علاقة قامت بين هيكل وبيني ساسها الاحترام المتبادل رغما عن ندرة اللقاء .
ولا أظن في الوقت نفسه أن أحدا يمكن أن يصنفني على حساب مجموعة أو شخص فلست واحدا ممن أسماهم " هيكل " بمجموعة 15 مايو – أيار وهيكل نفسه يعرف ذلك إلا أنني  بالرغم من اعتذاري عن الاشتراك في الوزارة منذ نوفمبر – تشرين ثاني 1970, وبالرغم من اعتزالي العمل السياسي وتفرغي لكتابة كتابين عن " كنت سفيرا في العراق " و" كيف يفكر زعماء الصهيونية " في وقت واحد إلا أنني وجدت نفسي وقد اعتقلت مع الآخرين وتنقلت في سجون عديدة مع الآخرين  وحقق معي على أشياء لا أعرف كنهها حتى الآن مع الآخرين ثم حكم على إمام نفس المحكمة التي حاكمتهم .. ولا أقول هذا تنصلا فليس هذا من عادتي ولا تباعدا هذا من شيمتي ولكنها الحقيقة التي لم يطاوعني قلبي أن أقولها أمام المحقق حتى لا يفسر تفسيرا خاطئا أو تترجم  ترجمة بعيدة عن المقصود.
وليس معنى هذا أنه تربطني بالكثيرين منهم صداقات عزيزة.
معني كلامي هذا أن حديثي حديث رجل محايد يقدم شهادته للتاريخ وهناك فارق كبير بين الشهادة الخاصة لوجه الله وبين الادعاء  على العير أو الدفاع  عن لنفس .؟

إن كل ما كتب حتى الآن عن تلك الفترة كتب من وجهه نظر واحدة بالرغم من اختلاف وربما تناقض من كتبوا عنها ولكن الظروف التي كتبوا فيها وحدا بين الاتجاهات والأهداف وهذا ليس شأني ولكن ما أهتم به هو أن كل ما كتب لم يحاول أن يفرق في عدالة بين الأشخاص والمواقف ولا بين الحقيقة وبين ما حتمته الظروف .

أؤكد أنه حينما تم عقد هذا الاجتماع  كان قد قرر  وبصفه قاطعة الخطوات الدستورية لنقل السلطة ووافق عليها السيد أنور السادات .وكان قد تم تحديد تواريخ عقد اجتماعات اللجنة التنفيذية العليا واللجنة المركزية ومجلس الأمة وموعد إجراء الاستفتاء على رئاسة الجمهورية بدقة كاملة لقطع خط الرجعة على أية محاولات  تحاول الصيد في الماء العكر . ولعل هذا يلقي شعاعا من الحقيقة على الظلال الكثيفة التي تركتها كلمات الأخ هيكل هنا وهناك.
وبعد نقاط النظام هذه نوضح الآتي بخصوص الناحية الموضوعية ...

• فلم يكن الأخ هيكل هو الشخص الوحيد الذي سيطر على هذا الاجتماع كما يبدو واضحا من حديثه : فهو الوحيد الذي تكلم وهو الوحيد الذي وجه المؤتمر وجهة خاصة , وهو الذي افتتح المؤتمر ثم هو الذي أنهاه , ثم هو الذي استجوب وزير الحربية وهو الذي قدم التوصية وهو الذي حسم المناقشة بعد ذلك !!! وتصوير الموقف بهذه الصورة أمر غير مقبول وغير مطابق للواقع , فالموضوع متشعب النواحي متعددة الأجناب فكانت له جوانبه السياسية علاوة على جوانبه العسكرية خاصة تلك التي تتعلق بتجهيز مسرح العمليات وكل من الحاضرين كانت له أرؤاه ونصائحه .. • لم يكن هناك خلاف على الإطلاق بين أعضاء المؤتمر على ضرورة مد إيقاف النيران لنفس الأسباب التي أوضحها هيكل في كتابه والتي لم يذكرها أبدأ في المؤتمر إذ لم يكن هناك م يدعو إلى ذلك الاتفاق وجهات النظر اتفاقا كاملا . • ودفاعه الحماسي فيما كتب ليقي ظلالا كثيفة على نوايا من حضروا المؤتمر أو على بعضهم على أقل تقدير إذ يوحى بأن هناك من كان يهدف من طرح " الإجراء العاجل" لإحراج القيادة السياسية للتورط في قتال قبل أوانه الأمر الذي لا أظن أنه كان في خاطر أحد من الحاضرين . • كانت نقطة الخلاف الوحيدة والتي دار النقاش حولها هي المدة التي تقبل فيها إيقاف إطلاق النيران وربما كنت أنا الوحيد الذي أثار هذه النقطة وقد أوضحت أهمية ذلك حتى ترتبط القيادة العسكرية أمام القيادة السياسية بموعد تكون جاهزة فيه لاستئناف القتال وهذا يعطى للقيادة السياسية في تحركها المقبل مرونة كاملة إذ ستكون قادرة على التحرك من قاعدة وطيدة صلبة وحاول الجميع بما فيهم هيكل إقناعي بغير ذلك,. • وبالرغم من ذلك فقد كانت توصية المؤتمر هي " مد إيقاف إطلاق النيران" وليس كما ذكره هيكل في كتابه " مد وقف إطلاق النيران فترة ثلاثة شهور أخرى والدليل على ذلك أن القتال لم يستأنف منذ ذلك الوقت إلا حينما تفجر الموقف كله في 6 أكتوبر – تشرين أول 1973 أى بعد عامين كاملين . • لم يكن هناك ما يستدعي دهشة هيكل حينما قال الفريق محمد فوزي وزير الحربية " أنا جندي . وإذا صدر لى أمر مكتوب فإني سأنفذ ما تطلبه القيادة السياسية " فهذا أمر طبيعي معمول به دائما وهو ما يعبر عنه " بأمر القتال " الذي يحدد فيه الغرض من استئناف القتال كذا المهمة المطلوب تحقيقها . تلك الدهشة التي قيلت عرضا في حديث هيكل تلقي ظلالا وشكوكا على مؤتمر كان يبحث مسألة قومية بطريقة مجردة وكان الجميع لا يقلون وطنية ولا غيرة عن الأخ هيكل في نظرتهم تلك . أما أن هذا الوضع لم يكن معمولا به من قبل فإن معركة يونيو 1967 لم تتوقف يوما واحدا حتى قبول إيقاف النيران عام 1970 بل دخلت مصر في معارك الصمود ثم حرب الاستنزاف دون أن توقف العمليات يوما واحدا . • لم يكن هناك احتجاج من بعض من حضروا المؤتمر على قيام هيكل بإنهاء المناقشة بطريقة مفاجئة كما يقول فلم يكن من حق الزميل أبدا – مع احترامي وتقديري لشخصه – أن ينهي أعمال المؤتمر أو يجعله يستمر أو يوجهه كيفما يشاء خاصة في حضور الشخصيات التي ذكرها . • لم يكن هناك احتجاج من بعض من حضروا المؤتمر على قيام هيكل بإنهاء المناقشة بطريقة مفاجئة كما يقول فلم يكن من حق الزميل أبدا – مع احترامي وتقديري لشخصه – أن ينهي أعمال المؤتمر أو يجعله يستمر أو يوجهه كيفما يشاء خاصة في حضور الشخصيات التي ذكرها . ومناورته التي ذكر أنه قام بها للرد على من كانوا يؤيدون " الإجراء العاجل " بأنه وجد أن غير وسيلة لحسم الموضوع هي سماع رأى الرجل المحترف مناورة لم يتحدث على الإطلاق فكما قلت فأن الموضوع كله لم يكن يستدعي مناورت لأنه كان من البديهي ونحن نبحث موضوعا يتعلق بإيقاف إطلاق النيران وفي مكتب وزير الحربية أن نسمع لرأى الرجل ولم يكن هذا يحتاج إلى حسم أو مناورة !!! كان الموضوع خطيرا شأن الموضوعات الكثيرة التي كنا نناقشها وتمت المناقشة في حدود الارتفاع إلى مستوى المسؤولية من جميع الزملاء الحاضرين . ولم تكن هناك أية اتجاهات تحتاج إلى إستغراب و دهشة ولا إلى رموز وتشكك !! كانت المناقشة تجرى في سهولة ويسر بين زملاء يقدرون الكارثة التي يواجهونها تسيطر عليهم روح الفريق وفي مخيلة كل منهم أن القائد مات في أحرج الأوقات والعدو يدق الأبواب والعالم كله ينظر إلى ما يجرى في القاهرة وكل يجرى حساباته ويعيد تقديرها من جديد في ظل المتغيرات التي حدثت أو التي ينتظر حدوثها .

واجتماع آخر أجدني رغم أنفي أتعرض له لأروي حقيقة ما تم فيه ... وأجدني – للأسف الشديد – ولثاني مرة أخالف الأخ محمد حسنين هيكل فيما رواه عنه ... وأيضا سأنقل رواية هذا الاجتماع عما قاله الأخ الفضل في كتابه " الطريق إلى رمضان "....  " وفي أثناء خروجنا من الاجتماع – يقصد الاجتماع السابق الذي كنا نبحث فيه موضوع إيقاف النار – اقترب مني شعراوى جمعة وقال : أظن إننا يجب أن نذهب إلى مكن نجلس فيه ونتحدث  إنت وأنا وسمي وأمين هويدى . فقلت لا بأس . وركبنا نحن الأربعة سيارة الرسمية لوزارة الداخلية المخصصة له . وجلس هو في المقعد الأمامي بينما جلسنا نحن في المقعد الخلفي , تبعتني سيارتي. كان شعراوى وسامي وأمين هويدى اتفقوا على أن يقضوا الليل في مبنى هيئة قناة السويس في جاردن سيتي ومن هناك يستطيعون بسهولة أن يصلوا إلى مبني مجلس الثورة في الجزيرة حيث يبدأ في تشييع الجنازة أما أنا فكنت سأقضي الليل في منزلي على النيل مباشرة , وهكذا  فإننا كلنا متجهين الوجهة نفسها . لكن عندما وصلنا إلى العباسية على بعد 4 أميال من وسط المدينة كان الميدان أصبح مغلقا تماما وعندما اقتربنا من أمام كلية البوليس أوقف السيارة والتفت ناحيتنا وقال : أولئك الثلاثة أنور السادات وحسين الشافعي وعلى صبري ينزلون في قصر القبة ويتصرفون كأنهم حكومة ثلاثية مثلهم في ذلك كوسيجين  وبودجورني ويريجنيف   بينما نحن الناصريين الحقيقيين وأقرب الناس إلى عبد الناصر لم نفعل شيئا للتنسيق في ما بيننا أو الاتفاق على أسلوب مشترك في العمل . وهذا ما يجعلني أرى ضرورة البحث في الموقف بعضنا مع بعض فقلت له : لنكن واضحين بشأن موقف كل منا هناك نقطة نظم أضعها . ونصيحة صغيرة أقدمها أما نقطة النظام فهي أنكم إذا كنتم تريدون التنسيق فيما بينكم بصفتكم  وزراء فلا تفعلوا ذلك بحضورى لأني قد أستقر رأيي على الخروج وترك الوزارة وقد أثار قولي غضبا شديدا لدى سامي شرف وقال : لا ... أما أن تخرج كلنا  أو نبقي كلنا .. فقلت أن يلم أكن أبدا جزء من السلطة كما هو الحال بالنسبة إليكم . كنت دائما صحفيا ولم أقبل منصب وزير الإرشاد إلا تحت ضغط شديد من جانب عبد الناصر وتعهدت بقبوله لمدة سنة فقط وقد انقضت الآن ستة أشهر ونتقل عبد الناصر إلى رحاب الله هكذا فقد قررت أن أتحلل من وعدى وأعترض سامة  بأني إذا فعلت ذلك فسأبدوا كأني غير مستعد للعمل فقد تحت رئاسة أى شخصي آخر غبر عبد الناصر في حين أنهم سيظهرون في مظهر المستعد لخدمة أى شخص وقلت لسامي أنه يبالغ وأن النهاية إلى صراع على السلطة وإذا حدث تصادم في الآراء فأني سأؤدى دوري فيه كصحفي أما إذا نشب صراع على السلطة قائم على الأشخاص فلن يكون لى شأن به وستعاني البلاد كلها منه وازداد سامي انفعالا وراح  يصيح : عبد الناصر لم يمت فقلت له : اسمع لابد أن تواجه حقائق الطبيعة إن الرجل مات  وسيحكم على كل منكم فقط من الآن فصاعدا بما يمكن أن يقدمع من أجل مصلحة البلد إنها صفحة جديدة فتحت أمامكم جميعا . وبدأ سامي يبكي ويصرخ بأننا إما أن نبقي كلنا أو نخرج كلنا . وعندئذ فقدت أعصابي ونزلت من السيارة واتجهت إلى سيارتي وكانت تثق وراء سيارة شعراوي مباشرة وعدت إلى القاهرة "

هذه رواية " هيكل " عن هذا اللقاء وقبل أن أبدأ في التعليق أوضح الآتي :-

لم يمسني هيكل في حديثه من قريب و بعيد ولم يمسني الرجل في أحاديثه التليفزيونية التي أجراها عقب أحداث مايو  - أيار 1971  ولا في مقالاته التي نشرها في الأهرام " وهو رئيس تحرير له ... فهكذا أخبرت بعد فترة من وقوع كل ذلك إذ كنت في ذلك الوقت في " زنزانتي " أعاني مع أحد ... أما توفر قلم وورق للكتاب فكان ترفا لم أحلم به أو أفكر في حدوثه في تلك الفترة الصعبة .
وكان من الحكمة – والحالة هكذا – أن أقفز فوق ما قبل وأعبره كما يفعل الكثيرون ولكني بذلك أكون كاتما للشهادة الأمر الذي نهانا عنه الله تعالي في كتابه العزيز . ثم لا أظنني أضير أحدا – حتى هيكل – بقول ما حدث دون تحريف وإلا كان من الأفضل أن أقلد " القرد الجالس " الذي سد أذنه حتى لا يسمع وأغمض عينيه حتى لا يرى وقفل فمه حتى لا يتكلم . وأنا في كثير من الأحيان أرغب في ذلك ولكني تحت وقع أحداث معينة لا أقدر على الامتثال للرغبة الجامحة في السكوت ... تماما كما حدث في مساجلاتنا  معا  أيام ما كتبه عن " زوار الفجر " وإصراري على الإيضاح كما أفعل الآن مع فارق الزمان والظروف .. فقد مرت على تلك المساجلات عشر سنوات كاملة حدثت فيها أحداث وأحداث.
ثم أصبح كلانا من ناحية الظروف مهاجرا بقلمه وفكره بحكم الأحداث والأحوال .
ثم – وهنا أضع خطين تحت ما أقول – فإنني لا أدافع عن أحد ممن ذكرهم هيكل في  حديثه فكل واحد منهم يفوقني قدرة في الدفاع إن كان الأمر يتطلب ذلك فكما سبق ون قلت فإنني لا أنتسب إلى " جماعة " أو " شلة " حتى من أيام عبد الناصر  من كان يريد أن يتقرب فأهلا به ولكني  ما سعيت إلى  الاقتراب من أحد . وإذا كان هذا قد تم في الماضي أيام وجودي في " حفرة ومأزق السلطة فالأجدر به أن يتم بعد " التخفف " من أثقال السلطة ومحاذيرها .

• لا يعني قيادي بالتصحيح أنني اتخذت موقفا من أحد فالحوار لا يعني من وجهة نظري إلا وسيلة لزيادة التقارب وتيسير اللقاء لأنه يساعد على وحدة الفكرة الخاصة في مواضيع أصبحت في ذمة التاريخ والحوار في الوقت نفسه عامل مساعد للتاريخ للأحداث فإنه بدلا من أن يحصر الأمر في مصدر واحد فإنه يساعد على خلق مصادر متعددة تساعد على الدقة . • وبعد ذكرنا من نقاط النظام هذه نبدأ في التعليق .. • فلم يتم اللقاء – كم قل هيكل – أمام كلية الشرطة وبعد انتهاء الاجتماع الذي تم في مكتب وزير الحربية في كوبري القبة ولكن بداية اللقاءات تمت في قصر القبة . فقد ذهبت أنا وشعراوي وسامي إلى القصر لنرى سير الأمور في زيارة خاطفة وتركنا سامي في الشرفة الخارجية لفترة طويلة عاد بعدها فجأة ومعه هيكل ولم أكن أعلم بوجود في القصر ولم أكن أعلم أن اتفاقا تم بين ثلاثتهم على اللقاء وبذلك كنت الوحيد الذي يجهل أن لقاء سوف يتم .. • لم يتم الاجتماع بطريقة مفاجئة كما يقول هيكل ولكن باتفاق مسبق فإنه من الجائز أن يكون قد اندفع بغريزته الصحفية لمثل هذا اللقاء حتى يتحسس لأوضاع بنفسه ... ربما لنفسه وربما لغيره , وربما للغرضين معا ...وليس في هذا عيب فمن الحكمة أن يعرف كل فرد ين يضع قدمه , وعلى ما أذكر فإن الاجتماع تم في مدخل مدينة نصر وليس أمام كلية الشرطة بالرغم من أن هذا لا يغير قليلا و كثيرا في الموضوع . • لم يلق هيكل أبدا بكل هذه النصيحة عن الناصرية والسلطة والصراع .

ولم يتحدث شعراوى جمعة أبد عن السادة : السادات والشافعي وعلى صبري كما لم يتحدث عن " الترويكا " الروسية :
ولم يصرخ سامي أو يبكي ولا  هو أنكر وفاة عبد الناصر ...
أبدأ لم يحدث  شئ من هذا كما صوره هيكل في أسلوب غلبت عليه الإثارة الصحفية التي تبعث على التشويق ..
ولكن كل ما ذكره شعراوى لهيكل هو أننا قررنا التخلي عقب تشييع الجنازة وبعد انتقال السلطة بالطريقة الدستورية وسأله عن رأيه في ذلك!!
رحب " هيكل " إيما " ترحيب بالفكرة وذكر أيضا أنه سيترك المنصب الوزاري ليتفرغ لرئاسة تحرير الأهرام حيث كان الرجل يجمع بين المنصبين مضيفا أنه لكل زمن رجاله وعلى الجميع أن يعيدوا النظر في أفكارهم وسوف تتعدد اللقاءات في الأيام القادمة . وسلم الرجل واتجه إلى عربته دون ن يفقد أعصابه ودون أن يغضب واتجه إلى منزله واتجهنا نحن إلى مكتب سامي شرف وهناك انفجرت في الرجلين لتوريطي في اجتماع لم أخطر به وتساءلت عن سبب أخذ رأى هيكل في موضوع يتعلق برغبة كل واحد منا وبإرادته ثم لم يكن الموضوع في حاجة إلى مناقشة في مدينة نصر وكان الأفضل مناقشته في قصر القبة حيث كنا أو في مكتب أى فرد فينا .
كنا قد اجتمعنا مرارا وهذا أمر عادى وقررنا أن نتخلى عقب  نقل السلطة بالطريقة الدستورية لنفسح المجال للسيد أنور السادات ليختار معاونيه ولو أنني كنت مزمعا على أن أتخلي في أقرب وقت ممكن ورأى شعراوي أن يستشير هيكل في الأمر لأن من عادته أنه كان يستشير هيكل وسامي في كل أمر يقدم عليه .
وكما نرى فإن الموضوع الذي تم بسيط للغاية ولكنه حسم بطريقة تلقي الظلال على النوايا ولا شك أن هذه الظلال كانت بالضرورة تترك آثارا في النفوس تتعمق بمرور الأيام ..
وحتى لا ننسي .. كانت جثة عبد الناصر ما زالت موجودة في قصر القبة لم يتم تشييعها بعد إلى مثواها الأخير 

الفصل الحادي عشر

الوداع الأخير 
ثلاث استقالات – ترتيب نقل السلطة – الكل عازم على أن تنقل السلطة بأسرع ما يمكن وبطريقة دستورية  - وساطة إلى جعفر النميرى – عزيز صدقي يصدر بيانا – سرادق كبير في عابدين – الوداع يا جمال يا حبيب الملايين – واختلط لحابل بالنابل – وقفل باب المقبرة – ماذا قيل في وفاة عبد الناصر – دموع على جمل ودموع على وفاء الرجال .
انتهينا في الفصل السابق إلى بعض ما كان يحدث بعد وفاة الرئيس وقبل مواراة جثمانه ولا بأس من سرد تفصيلات أخرى ...
ففي خلال أيام قليلة من وفاته قدمت ثلاث استقالات :
الاستقالة الأولي من الدكتور محمود فوزي وكان ذلك في أول اجتماع للجنة التنفيذية العليا بعد وفاة الرئيس ويبدو أنه كان متأثرا من عدم حضوره ول اجتماع مع الوفد السوفيتي برئاسة كوسيجين وأراد أن يجس النبض بالنسبة لوضعه في النظام الجديد ولذلك فاته  سحب استقالته بالسرعة التي قدمها بها بمجرد أن أبدى أعضاء اللجنة تمسكهم به !!

• الاستقالة الثانية قدمها محمد حسنين هيكل من منصبه الوزاري كوزير للإرشاد إلا أن السيد أنور السادات رأى ألا يبت فيها إلا بعد الاستفتاء على منصب رئاسة الجمهورية الذي قد تحدد في ذلك الوقت !! الاستقالة الثالثة قدمها السيد حسين الشافعي وامتنع فعلا عن الذهاب إلى اجتماع اللجنة المركزية الذي كان سيتم فيه مناقشة قرار اللجنة التنفيذية العليا لترشيح السيد أنور السادات لمنصب رئيس الجمهورية وكان سبب تقديمه للاستقالة و تمسكه بمنصب رئاسة الوزراء طالما أن السيد أنور السادات رشح لرئاسة الجمهورية ويبدو أن أحد لم يتصل بسيادته بخصوص هذه الاستقالة وبالرغم من ذلك فإنه سحبها في اليوم التالي كما علمنا !!

وكان سيادته هو العضو الوحيد في اللجنة التنفيذية العليا الذي اعترض على ترشيح السيد أنور السادات للرئاسة وذكر أنه متأكد  أن سيادته ربما لا يحصل على الأصوات الكافية للترشيح وهنا تصبح الثورة نفسها وقد سحب الشعب الثقة منها إلا أن السيد أنور السادات تقبل هذا الاعتراض بروح ديمقراطية  سمحة .
وفي الوقت الذي كانت تقدم فيه تلك الاستقالات كان العمل الجاد لإكمال لترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية يتم على قدم وساق فاستقر الرأي على الآتي ..
* يعرض الترشيح على اللجنة التنفيذية العليا يوم السبت 3 أكتوبر – تشرين أول 1970 .
يعرض الترشيح على اللجنة المركزية يوم الاثنين 5 أكتوبر – تشرين أول 1970 .
دعوة مجلس الأمة لاجتماع غير عادى صباح يوم الأربعاء 7 أكتوبر – تشرين أول 1970 .
يتم الاستفتاء يوم الخميس 15 أكتوبر – تشرين أول 1970 .
إذا جاءت نتيجة الاستفتاء بنعم يجتمع  مجلس الأمة يوم السبت 17 أكتوبر – تشرين أول 1970 . ليؤدي رئيس الجمهورية أمام المجلس اليمين الدستورية وفقا لنص المادة 104 من الدستور .
وانصرف كل فيما يخصه لبذل كافة جهده حتى يتم نقل السلطة بالطريقة الدستورية في صورة رائعة وقد تمت كل هذه الخطوات في دقة أذهلت العالم وكانت محل تعليقات من كافة الجهات الرسمية والصحافة وأجهزة الإعلام العالمية وقد التزم الجميع بالدستور القائم التزاما لا شك فيه ولذا فإن أية محاولات وتقولات تذكر هنا وهناك عن التشكيك من قيمة الجهد الذي بذل في ذلك الوقت أو في النوايا منها تشويه ضار للصورة الجميلة الرائعة الصادقة التي تمت بها الأمور في ذلك الوقت.

وإلى جانب هذه الاستقالات حدثت بعض المحاولات لتآلف الجهود والوحدة الوطنية في تلك الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد ولقد قيل الكثير في نوايا القائمين بها وقيل أكثر في الأسباب التي تختفي وراء الظواهر ولا شأن لى بالنوايا فعلمها عند الله وما أحاوله هو مجرد تدوين ما حدث بصدق وأمانة.

ففي أحد الاجتماعات التي تمت مع جعفر النميري في فندق هيلتون وقبل أن تشيع الجنازة تحدث الرجل عن إحدى هذه المحاولات . كان موجودا مع الأخ فاروق  أبو عيسي وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء في الخرطوم وكان موجودا من الجانب المصري شعراوى جمعه وسامي شرف وأمين هويدى .
وقد تحدث الرجل بأن أمين شاكر – وزير السياحة السابق – اتصل بوزير المواصلات السوداني محمود حسيب وأخبره أن بعض أعضاء مجلس الثورة القدامى يريدون مقابلة الرئيس النميري ليكون واسطة خير مع السيد أنور السادات حتى يتم تآلف الجميع في تلك الفترة العصيبة .وتساءل النميري عن مدى ترحيب السادات بهذه الخطوة ...وهنا تدخل فاروق أبو عيسي ذاكرا أنه يرى ألا يتدخل الرئيس النميري في مثل هذه الموضوعات وقد أتفق معه على ذلك وهم يخبرونا بالمحاولة لمجرد العلم .
وفي فجر هذا اليوم كنا مع السيد أنور السادات في قصر القبة حيث كان يمضى ليلته وقص سامي شرف ما سمعه على سيادته وفوجئنا بأن سامي يقترح اعتقال " أمين شاكر " إلا أن سيادته رد في الحال " لا اعتقال أنا لا أريد أن نبدأ إجراءاتنا بعدة وفاة عبد الناصر باعتقالات " أما عن المحاولة نفسها فقد رفضها سيادته وأخذ يتحدث بمرارة عن الصراعات التي كانت موجودة في مجلس الثورة القديم .. ثم تركنا كل هذا وأكملنا حديثنا بخصوص نقل السلطة وإعمال الدستور وتحديد تواريخ الخطوات اللازمة لذلك .
وفي اليوم التالي مباشرة أرسل أعضاء مجلس الثورة القدامى إلى السيد أنور السادات مذكرة مكتوبة يعرضون فيها إعادة تكوين مجلس الثورة على أساس ديمقراطي ويتولي سيادته الرئاسة وقد وقع على المذكرة كل من السادة عبد اللطيف البغدادي , زكريا محيي الدين و حسن إبراهيم و كمال حسين ورفض السيد أنور السادات مقابلتهم كطلبهم في المذكرة وذكر أنه سيكتفي بمقابلة بغدادي لأنه يرتاح إليه دون الآخرين وقد تمت المقابلة ولا أدرى شيئا عما تم فيها .

وأصدر الدكتور عزيز صديقي بيانا إلى العمال قال فيه:" لقد ناضل جمال عبد الناصر طوال حياته في سبيل تدعيم الإشتراكية في بلدنا ليحقق لكل مواطن الكفاية والعدل وعندما كان يطبق هذه المبادئ فإنما كان في ذلك منفذا لإرادة هذا الشعب ومعبر عن آماله وأحلامه ولقد سار خلف جمال عبد الناصر أعوان له ساهم كل منهم بنصيبه فيما رأي جمال عبد الناصر أنه قادر عليه وهناك من تخلف بعد جزء من الطريق وهناك من أكمل الشوط حتى نهايته وكان الشوط الذي لا يرضي الرئيس الراحل عنه بديلا لمن يبقيه معه في مسيرته إيمانه بالمبادئ التي نادى بها الشعب ... إيمانه بالإشتراكية وفي وقت الشدائد يجب أن نتصارح بالحقيقة فهي التي تقينا من الوقوع في أوهام باطلة .. لن يقود المسيرة مسيرة الإشتراكية – إلا الذين يؤمنون بمبادئه الإشتراكية ... وإني أطمئنكم إننا لن نسمح لمن ارتد أو تخلف أو ظن أن الإشتراكية تنتهي بموت عبد الناصر أن يرفع رأسه أو أن يكون له مكان في مسيرتنا أن عبد الناصر في أثناء حياته أصدر حكمه وعبر عن رأيه في كل من عملوا معه لم يبق معه إلى نهاية الشوط إلا الذين أمن لهم واطمأن إلى أنهم يعتنقون المبادئ الأساسية التي عمل من أجلها وأنهم سيكونون قادرين على الحفاظ عليها "

وواضح أن عزيز صدقي في بيانه هذا يغمز ويلمز أعضاء الثورة القدامي الذين تركوا السلطة أو تركتهم السلطة أيام عبد الناصر . وقد أثار هذا لأمر عبد اللطيف البغدادي فكتب كتابا شديدا وجهه إلى عزيز صدقي وأرسله مع سائق إلى منزله يسبه فيه ويوجه إليه الاتهامات الثقيلة التي وصلت إلى حد السب والقذف إذ تحدث الرجل عن الكذب والانتهازية والرجولة .... بلهجة قاسية وصمم عزيز على الرد إلا أن بعض النصائح المخلصة أقنعته بالتمسك بالصمت . وقد أقتنع .
ووسط الاستقالات العديدة وسحبها والرجوع عنها والبيانات الحماسية والخطابات التي ترد عليه والمذكرات الكتابية وتجاهلها .. لم تعدم البلاد بعض من أخذوا يعملون بصمت وبالتزام وبصدق حتى تسير الأمور في مجراه الدستوري ولا يقلل من ذلك الجهد الذي بذل في تلك الفترة ما قيل عنهم بعد ذلك وهم في السجون أثناء محاكمتهم بتهمة غليظة هي " الخيانة العظمي " أو 
الاشتراك فيها ".
وبعد الوفاة مبشرة أقيم سرادق كبير في ساحة عابدين في نفس المكان الذي كان يلقي فيه " الريس " خطاباته العديدة لتقبل العزاء . ووسط قراءة آيات القرآن الكريم كانت وفود الشعب تتوافد واختلط المعزون بمن يتقبلون العزاء وتوافدت النساء مع الرجال متخطين عادة وعرفا وتقليدا يقضي بالا تذهب النساء إلى سرادقات العزاء وكانت النساء حتى الفقيرات منهم يولولن ويصحن ويصرخن عن " الأسد " الذي تركهن وعن " السبع " الذي غادرهن إلى غير رجعة . وكان الشبان يبكون في حزن والشيوخ تسيل دموعهم على الأذقان وهم يترحمون ويطلبون من الله أن يعينهم على بلواهم .
وفي الليلة السابقة على تشييع الجنازة اتفق بعض الأصدقاء على أن نمضي الليلة في مبني هيئة قناة السويس بجاردن سيتي على النيل حتى نتفادى أمواج البشر التي كانت قد ملأت الشوارع فقد خرجت الملايين لتشييع زعيمها في موكب وزحام لم يتكرر من قبل ولا أظنه سيتكرر من بعد 

وسهرنا الليلة بطولها فلم يكن أحد راغبا في النوم.

وكان الشعور ما زال يسيطر على البعض من أن " الريس " كان ما زال معنا لمجرد أن " جثته " لم تدفن بعد.. لم يكن هناك إحساس حقيقي بحدوث الموت عند الكثيرين ولم يكن هناك إدراك بمدى الفراغ الهائل الذي سوف يحدث ... كان عبد الناصر مازال موجودا في" قصة القبة " وكان الكل يعملون حسابا لذلك حتى وهو جثة هامدة لا تقوى على شئ ... كان ما زال يشد " الإسراع" قبل أن تقطع وترتخي .
كنا نتحدث عما سنفعله في اليوم التالي وكأنه أحد الواجبات التي كان يكلفنا بأدائها في حياته وكانت العاطفة هي التي تتحكم في العقل وتسيطر عليه لم يفكر أحد فيما بعد وفاة عبد الناصر إلا تفكيرا عاطفيا سطحيا أقرب إلى أبناء فقدوا الأب الذي كان  يرعاهم .
وكان هذا تقصيرا ما بعده تقصير .
بل كان مجرد محاولة الانتقال  إلى التفكير العقلاني يثير ثائرة بعض الموجودين فحينما كنا نتحدث مثلا عن عائلة الرئيس بعد رحيله فكرنا أن نتقدم باقتراح بتخصيص مزله الذي عاش فيه لزوجته طوال حياتها لأن الرجل نسي في غمرة مسؤولياته أن يترك  لعائلته منزلا ينتقلون إليه بعد الوفاة وتخصيص معاش لها هو نفس  مرتب " الريس "  الذي كان يتقاضاه لأنه نسي وسط مشاغله ن يترك لعائلته مصدر رزق آخر !! هنا اقترح البعض وسط الانفعال السائد أن يطلق على الرئيس الراحل لقب الزعيم وعلى زوجته حرم الزعيم ولما اعترض البعض على ذلك لما يترتب عنه من حساسيات يجب تجنبها ترك هؤلاء المبني بمن فيه غاضبين من هؤلاء الذين خانوا الزعيم الذي لم يدفن بعد..!
وتحدث البعض عما يمكن أن يفعل لتخليد ذكرى الراحل العظيم ...وكانت الصحف قد بدأت تتحدث عن عشرات المشروعات لتخليد ذكراه وتكونت لجنة إشراف جريدة الأهرام .. وبدأ البعض يطرح بعض الاقتراحات العاطفية  وحينما بذلت محاولات لنقل الجميع إلى أرض الواقع ثارت المناقشات الحادة التي تبادلت فيها الاتهامات وسط الأعصاب المشدودة والنفوس الثائرة والقلوب الحائرة .
وانطلق طوفان البشر طول الليل ينشد بصوت واحد مهيب كلمات أغنية حزينة وما لبثنا أن وجدنا أنفسنا ننشد مع الناشدين والدموع تسيل بغزارة مياه النيل الذي يمر أمامنا كانت الأغنية 

الوداع يا جمال يا حبيب الملايين ... الوداع .

ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين ... الوداع.
إنت عايش في قلوبنا يا جمال الملايين ... الوداع .
إنت  ثورة إنت جمرة نذكرك طول السنين.. الوداع ,
إنت نوارة بلدنا واحنا عذبنا الحنين .. الوداع

إنت ريحانة زكي لأجل كل الشقيانين ... الوداع .

الوداع يا جمال يا حبيب الملايين .. الوداع .
وحتى الآن لا يعرف أحد على وجه التحديد كيف انطلق هذا النشيد من كل هذه الألسنة ولا يعرف أحد على وجه التحديد كيف انتشر بين  ملايين البشر ولا كيف حفظوا كلماته وألحانه !! 

قيل أنه في اليوم السابق للجنازة طافت شوارع القاهرة فرقة فنية من أبناء بور سعيد المهاجرين يرددون الشعارات ووسط هتافاتهم الحزينة ولدت هذه الأغنية .. من ألف كلماتها ؟ لا أحد لديه الجواب . كانت بدايتها بيتا من الشعر كتبه " عبد الرحمن عرنوس " مدرب فرقة " شباب البحر "

كان البيت يقول " الوداع يا جمال يا حبيب الملايين ... الوداع " وانطلق أفراد الفرقة يرددونه في 

نغمات حزينة وانضم إليهم ملايين البشر فولدت الكلمات تباعا وسط البكاء والولولة ... أما اللحن فقد وضعته الجماهير من خلال نواح النساء وعويلهن..

وطبعت منه ملايين الأسطوانات والأشرطة ليسمعها كل بيت في طول البلاد وعرضها .

ومر الليل الثقيل ولم ينم أحد ... كانت الأمة كلها سهرة تحضر " للموكب الجنائزى " الذي ستشارك فيه في اليوم التالي ... وامتلأت الشوارع والحدائق والمنازل ... كانت الجمهورية كلها خرجت في العاصمة وفي الأقاليم لتودع القائد والزعيم ..

وحينما خرجنا في الصباح الباكر لنعبر " كوبري قصر النيل " إلى أرض الجزيرة حيث سيوجد " مجلس الثورة " ظهر لنا أن كل ما خططن له يصعب علينا تنفيذه فلم يكن من الممكن أن نسير عشرات الخطوات التي تفصلنا عن " الجسر "ولم يكن أمامنا إلا أن نعبر النيل في الزوارق إلى الشاطئ الآخر وخوفا من أن يفعل آخرون مثل ما فعلناه وما ينجم عن ذلك من خسائر محتمة صدرت التعليمات إلى كل الزوارق بأن تترك الشاطئ الغربي  للنيل إلى الشاطئ الشرقي أو إلى وسط النهر الخالد.
وكان النظام خارج " بناء مجلس الثورة " سائدا وقفنا نستقبل المعزين من رؤساء الدول  ومندوبيهم البعض كان يبكي والبعض الآخر كان حزينا في صمت والقليل منهم كان يؤدى الواجب الرسمي ووصل الجثمان في طائرة هليكوبتر نقلته  بعد ان صلي عليه في قصر القبة وكان النعش قد صنع بطريقة خاصة لأنه كان متوقعا أن تخطفه الجماهير وقوى الهيكل الخشبي بصفائح من الحديد تلتف حوله وبأقفل يصعب فتحها ثم ثبت على عربة المدفع التي تجرها الجياد ويحرسها مئات الضباط والجنود .
وكانت الدقائق تمر وكأنها  الساعات والكتل البشرية تمكنت من التسرب رغما عن نطاقات الأسلاك الشائكة المضروبة في كل مكان .. كان التسرب قليلا في بادئ الأمر ثم ما لبث أن أصبح عاما بمرور الوقت أخذت الكتل البشرية الباكية  الناحبة تطغي على المكان الذي ستمر فيه " الجنازة " 

وبعد دقائق من سير الجنازة لم يعد هناك نظام أو سيطرة فقد اختلط الجنود المكلفون بحفظ النظام بباقي طوائف الشعب ولم يعد في إمكان أحر أن يسيطر على النظام .

وكان من الصعب على الرؤساء الذين يشيعون الجنازة أن يستمروا في تأدية الواجب الثقيل حتى نهايته  ولم يكن من المناسب أن تتكبد الوفود لأخرى كذلك المشقة الهائلة التي أخذت تتصاعد عند وصول الجنازة إلى كوبري قصر النيل فأشير على هؤلاء بأن يعودوا مرة أخرى إلى السرادق وقد فعل البعض منهم ذلك وأصر الكثيرون على مواصلة السير .
وحينما وصل الموكب إلى قرب " الهيلتون " ضاق الطريق وزادت صعوبة السير وسقط البعض تحت الأقدام وقد ساهمت مع آخرين في عمل حلقة دائرية حول هؤلاء لنمنع كارثة محققة وحملنا بعض من سقطوا إلى أسطح بعض العربات التي كانت واقفة هناك وتم نقل هؤلاء بعد ذلك بواسطة آخرين إلى داخل الفندق ...وظهر خطر جديد بطريقة فجائية إذا أصر البعض على نزع " النعش " من على عربة المدفع التي تجرها الخيول وهن استمات الجنود الموجودون حول " النعش " ليحولوا دون ذلك وأعطي أحد الضباط التعليمات لتعدوا الخيول بعربة المدفع حتى تتفادى الكارثة ثم نقل النعش بعد ذلك إلى إحدى العربات ليصل إلى جامع " عبد الناصر " في كوبري القبة حيث سيتم الدفن .
وتركنا موكب الجنازة بصعوبة وأخذنا بعض العربات من الطرق الجانبية ولحقنا " بالنعش " في الجامع وحضرنا الصلاة على الجثمان .
وكانت هناك جماعة الدفن جاهزة خارج المسجد لموارة الجثمان الطاهرة في مثواه الأخيرة وكان يشرف على الجماعة التي ستسد المقبرة المهندس  على  السيد رئيس إحدى شركات المقاولات في ذلك الوقت ووزير الإسكان بعد حركة 15 مايو – آيار 1971 . 

ورأيت الجثمان محمولا إلى داخل المقبرة ووضع بجوار الحائط الغربي . ورأيت عبد الناصر الذي ظل واقفا طوال حياته يناضل ويكافح وقد استراح أخيرا في مثواه الأخير ..وأصبح العملاق شأنه شأن أى فرد مجرد جثمان وضع إلى جوار حائط ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا عظمة إلا لله , ولا بقاء إلا لله .

واندفع بعض الضباط ومعهم محمد أحمد وبعض أولاج " الريس " ليودعوه الوداع الأخير ونظروا من خلال الحائط الذي كان يبني وتضيق فتحاته شيئا فشيئا وصفوف " الطوب أو الطابوق " ترتفع شيئا فشيئا ثم انسحب الجميع إلى الخارج وقد ارتفعت أصواتهم بالبكاء والعويل .
وكنت ما زلت واقفا أراقب وأتأمل وقد هانت أمامي الدنيا وما فيها . هل حقيقة هذه هي الدنيا ؟
هل حقيقة أن الرجل الذي ملأ العالم أجمع بصورته وصوته وعمله قد انتهي  به الأمر هكذا إلى جوار حائط وهو ممدد على الأرض ؟!!
ووسط هذه التأملات تقدم منى أحد الضباط من حرس " الريس " قميصه مفتوح وقد ضاع غطاء رأسه والدموع تسيل من عينيه وهو ينتحب وادى التحية العسكرية وهو مشدود الأعصاب وسألني " هل صحيح أن عبد الناصر مات ؟ فقلت له " نعم " فقال " طيب " واشتد نحيبه " وبحركة عسكرية دار إلى الخلف . وذهب.
وانصرفت بعده وقد جفت دموعي .
كتب " رجاء النقاش " مقالا في العدد الخاص لمجلة الهلال الذي أصدرته في نوفمبر – تشرين ثاني – 1970 عن جمال عبد الناصر تحت عنوان " أدباؤنا ومواقف لا تنسي لعبد الناصر " ... جاء في المقال عن موقف عبد الناصر من توفيق الحكيم أن إسماعيل القباني الذي عين وزيرا للمعارف في بداية الثورة تقدم إلى مجلس الوزراء بطلب فصل توفيق الحكيم من دار الكتب لأنه لا يؤدي عمله كموظف على الوجه الأكمل ودهش عبد الناصر من اقتراح القباني وأعترض عليه أشد الاعتراض واعتبر وجود  " الحكيم" في دار الكتب تشريفا لها . ومرة أخرى وقف عبد الناصر موقفا رائعا من توفيق الحكيم ففي  أواخر الخمسينات شن الناقد الكبير أحمد رشدي صالح حملة عنيفة ضد توفيق الحكيم محورها أن كثيرا من أعمال الحكيم المسرحية والروائية مقتبس من أصول  أجنبية  وكان  يعني بذلك – على حد قول النقاش – أن توفيق الحكيم لم يكن أديبا ولا فنانا بل مترجما ولصا أدبيا وتأثر الحكيم أيما تأثر بهذه الحملة الظالمة وخلال هذه الحملة اتخذ الرئيس جمال عبد الناصر قرارا رائعا حيث منح توفيق الحكيم أعلى وسام في الدولة .
ويقول رجاء النقاش عن موقف عبد الناصر من يوسف إدريس حينما رفض قدرها ألفي جنيه خصصتها مجلة  " حوار " التي كانت تصدر  في بيروت عن " منظمة حرية  الثقافة العالمية " له كأحسن أديب في العام وقد رفض " إدريس " الجائزة لأنه علم وتأكد أن المجلة خاضعة للتوجيه الأمريكي وحينما علم عبد الناصر بموقف " يوسف إدريس " أمر بصرف قيمة الجائزة كاملة له كما منحه وسام الأدب والفنون .
ثم تحدث رجاء النقاش عن موقف عبد الناصر  من نزار قباني بعد 5 يونيو 1967 حينما كتب قصيدته المشهور " هوامش على دفتر  النكسة " فهاجمته بعض الصحف المصرية وطالبت بمنع دخوله إلى الجمهورية العربية المتحدة كما طالبت بمنع إذاعة أغانيه وهنا أرسل " نزار " قصيدته بخطاب إلى عبد الناصر الذي قرأ القصيدة والرسالة وكتب بخط يده على رسالة نزار بالسماح للقصيدة بالدخول إلى مصر وإيقاف أية إجراء ضد الشاعر وشعره .
ولذلك لم يكن غريبا أن يكتب نزار قباني بعد موت عبد الناصر قصيدته المشهورة :
قتلناك يا جبل الكبرياء
وآخر قنديل زيت

يضئ لنا في ليالي الشتاء

وآخر سيف من القادسية

قتلناك نحن بكلتا يدينا

وقلنا المنية 

لماذا قبلت المجئ إلينا؟

فمثلك كان كثيرا علينا .
 وكتب الدكتور عبد العزيز كامل في نفس العدد من مجلة الهلال تحت عنوان " الإسلام عند جمل عبد الناصر " ليقول " هذا الإيثار والحب  كان المحور الرئيسي في حياة الرئيس , آثر وطنه الكبير ...آثر العطاء على الأخذ ..والتعب على الراحة ...والنضال على المهادنة ..وحل قضايا الحياة اليومية للملايين ..سعادته من أن تشيع السعادة وراحته في أن يستريح الناس ". ثم واصل حديثه بوصية أوصاه بها عبد الناصر في إحدى مقابلاته له إذ قال عبد الناصر :" من اليسير أن نكتب ومن العسير أن نطبق ذلك على الناس فإنك قد تجد السوء ممن تنتظر منه التعاون والخير فلا تجعل ذلك يصرفك عن هدفك " ثم يقول " لقد كان عبد الناصر يعيش الإسلام في نفسه . في زهده وتواضعه , في إعادة الدين إلى بساطته وإلى تطبيقه في حياته اليومية على نفسه وعلى الناس ... كان متخففا في طعامه طاهرا في بيته وشرابه وأهله ... كان الإسلام عنده إسعاد الناس "

ثم كتب الشيخ أحمد حسن الباقورى في نفس العدد " إن في عبد الناصر جوانب كثيرة كبيرة موصولة بعقل ذكي ونظر بعيد فهو أهل لكل صفة كريمة تسبغ عليه ولكل كلمة خير تقال فيه فالذين يرونه شجاعا ومصلحا لا يعدمون لكل صفة من هذه الصفات أصولا تستند إليها وشواهد تدل عليها "

وكتبت السيدة شهير القلماوى تحت عنوان " الثورة الناصرية في الثقافة " في نفس العدد ولعل أهم ما قدمته الثورة الناصرية للشعب في ميدان الثقافة والفن هي الكرامة .. كرامة الفنان فقلدته أرفع الأوسمة وأسمى الجوائز وكرامته في كل ميدان وبكل وسيلة . أما المناخ الذي تتنافس فيه الفنون ومن أخطرها الكلمة فقد هبت عليه ريح اقتلعت كل المقاييس القديمة وإذا الكلمة تعبير حر لا يلقي  في سبيلها الكاتب عنتا ولا اضطهاد كم ذا ملئت السجون بأصحاب الكلمة الشريفة !! كم ذا هدد الكتاب والشعراء في أرزاقهم في عهد الملكية !! أما الكلمة في الثورة الناصرية فهي التعبير الحر عن الفكر الملتزم بقضية الشعب ولم تقف الثورة ضد أى فكر إلا الفكر المقوض لمكاسبها أو المخرب لخطواتها المنتصرة في سبيل كرامة الكلمة المعبرة عن الشعب . يمكن أن يوقف القلم إذا رؤى ضرره ولكن صاحبه لا يضار بسبب الكلمة والكلمة الشريفة مهما تكن الزاوية التي تري منها صالح الشعب فإن لها المجال لأن تعبر ولأن تبني قضايا الشعب بأى وسيلة تراها "
وقال " صالح جودت " في قصيدة بعنوان " بعد الوداع ":
هوى الذي كان ارتفع السها      وانهار من كان كشم القلاع

إرادة الله ... وما جهدنا إزاءها إلا رضا وانصياع

إرادة الله قضت أمرها              فينا فقلنا يا جمال الوداع
جمال قد أرسي لكم نهجه            ونهجه أولي بكل إتباع
يا زورق الأحلام قم وانطلق        وانشر على مد الحياة الشراع
وسر على درب جمال ولا            تهن وضاعف من خطاك السراع
مسيرة الثورة    لا تنتهي           أما نعي الملاح في الغيب ناع

فكلنا ملاحها .... كلنا من غرس هذا العبقري الشجاع وكتب " أحمد زين" يوم 29 -9- 1970 في الأخبار يقول :" لقد أعطى عبد الناصر الأرض للفلاح وللعامل المصنع ,للجيل الجديد العلم والنور مجانا . ولأول مرة تساوت الفرص وقلت الفواق وأحس كل فرد بالحرية الحقيقية .... ماذا يستطيع القلم أن يكتب ؟ أن المجلدات الضخمة تعجز عن التعبير فما بالك بالكلمات ؟... هل تستطيع أن تتحدث عن البسمات التي أدخلها على تصنف فرص العيش التي توفرت والحياة التي تحققت ؟"

وكتب " أنيس منصور" في نفس العدد من الأخبار " أما ذلك اليوم الأسود يوم تنحي عبد الناصر عن الحكم  فكان أتعس أيام الأمة العربية فقد أحسسنا جميعا بأنني يتامى .. أما اليوم فإن عبد الناصر لم يتنح عنا بل وضعنا أمام إرادة الله , فلا شئ يعوضنا عن خسارته المروعة ". ثم عاد ليكتب يوم 1/ 10/1970 " إننا في عصر ما بعد عبد الناصر نتكلم أكثر ونصرخ أكثر وهو لا يتكلم .
ونخاف أكثر كان هو الأمان وصمام الأمان . فاللهم أرحم عبد الناصر وارحمنا من بعده ... ومن أنفسنا "
وكتب " عبد الرحمن الشرقاوي " في نفس العدد " فالرجل الذي تلخصت فيه أحلام أمة بأسرها ... الإنسان الذي شكلت نبضات ملايين القلوب خطاه ... الزعيم الذي ارتبط اسم الوطن باسمه كما لم يرتبط اسم وطن بزعيم من قبل ... المعلم الذي عمر الوجدان بالثقافة والقيم الفاضلة ...
الأب الذي ملأ القلوب الخائفة بالأمن ... الرائد الذي فجر من الجوانج عزة الكبرياء .. رجل الدولة الذي فرض على عالمنا هيبة العرب ... الأب الذي شعر أبناء الوطن في ظلاله بالطمأنينة والثقة في المستقبل ... الأخ  جعل حياته كلها آثارا نبيلة من نضال جبار لا يهدأ حتى ينتصر الحق ويسود العدل ."
وكتب سيد مرعي في الأهرام 4/ 10/1970 يقول تحت عنوان " كلمة وفاء " إلى روحك الطاهرة يا من حررت ملايين الفلاحين المصريين يا من أدركتهم بعد شقاء آلاف السنين فجئتهم في موعدك  وكسرت عن أيديهم الأغلال والقيود وأطلقت فساروا وراءك على أشرف طريق ..  لازالت ماثلة أمامي صورتك بين  الفلاحين في منطقة دميرة توزع عليهم وثيقة تحررهم وتملكهم الأرض التي عاشوا عليها عبيدا لها فأصبحوا بفضلك أسيادها .... ثم في منطقة الزعفران وأنت تواصل نفس الرسالة وكانت البلاد  تحتفل بالعيد الأول لثورتها التي قامت بقيادتك . إنك لم تتخلف عن رد حقوق الفلاحين إليهم فبعد ستة أسابيع من قيام ثورتك أعلنت قانون الإصلاح الزراعي وفي عيدها الأول قمت بتوزيع الأرض على الفلاحين ...وسيظل دائما عبد الناصر هو أسلوبنا في الفكر وهو مصدر الأمل ومفجر طاقات العمل "
وكتب نجيب محفوظ في أهرام  2/ 10/ 1970 حوارا تحت عنوان " كلمات من السماء ".....

- حياك الله يا أكرم ذاهب - حياكم الله وهداكم - إني أحنى رأسي حبا وإجلالا - تحية متقبلة ولكن لا ننسي ما سبق من قولي " ارفع صوتك يا أخي " - نحن من الحزن في ذهول شامل - لا يحق الذهول لمن تحدق به الأخطار وتنتظره عظائم الأمور - يعزينا بعض الشئ أنك إلى جنة الخلد تمضي . - وسيسعدني أكثر أن تجعلوا من دنياكم جنة - إن عشرات التماثيل لن تجعلك في خلود الذكرى - لا تنسوا تمثالين أقمتهما بيدي وهما " الميثاق " و" بيان 30 مارس " - وراءك فراغ لن يملأه فرد - ولكن يملأه الشعب الذي حررته - سيبقي ذووك في صميم الأفئدة - أبنائي هم الفلاحون والعمال والفقراء

ونشر  لأهرام في 2/ 10 / 1970 أن مجلس إدارة الأهرام قرر أن يتعهد الفكرة التي دعا إليها توفيق الحكيم بإقامة تمثال عبد الناصر وقد نشر توفيق الحكيم بيانا قال فيه " لقد جسد الشعب فيك صورة حريته لقد جعل منك تمثال الحرية لنا فاسمح لنا وقد فارقتنا أن نقيم لك تمثالا عاليا في  ميدان التحرير ليشرق على الأجيال ويكون دائما رمزا للآمال وما ينبغي أن تقيم هذا التمثال سلطة أو دولة لكنه الشعب نفسه من ماله القليل يقيمه " وكانت السيدة أم كلثوم قد اقترحت أن يطلق على " السد العالي " اسم " سد ناصر " كما كان يطلق على بحيرة تخليدا لذكرى الرجل الذي بني السد وصنع البحيرة .
ونشرت " روتير " تعليقا لمناحم بيجن زعيم كتلة جحل في إسرائيل قال فيه " إن الرئيس عبد الناصر كان أخطر أعداء إسرائيل إن وفاة عبد الناصر تعني وفاة عدو مر . أنه كان أخطر عدو لإسرائيل ولهذا السبب لا تستطيع أن تشارك في حديث النفاق الذي يملأ العالم كله عن ناصر وقدوته وحكمته وزعامته !! ولعل بيجن  كان من القليلين الذين صدقوا مع أنفسهم فلم يغير لون جلده بمرور الوقت كما تفعل الحرباء 

وبعد هذا الذي قرأت لم يعد في استطاعتي أن أقرأ أكثر ولا أكن أكتب أكثر !!

وتوقفت عن القراءة والكتابة وجمعت ما أمامي من أوراق وأعدتها إلى المكان الذي كانت فيه .
وأخذت أقارن بين هذا الذي  قيل بالأمس , وما يقال اليوم .. وهالني ما وجدت !!!
وذرفت بعض الدموع ... بعضها على جمال ...وأكثرها على وفاء الرجال !!  وشعرت في نفس الوقت بالقلق عما ستكتبه الأقلام المارقة الآن وفي كل أوان عن الحكام وأصحاب الصولجان لو تغير اتجاه الريح في يوم من الأيام . أو إذا وافاهم الأجل بعد عمر طويل ... فالموت حق على الجميع بل هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة !!!
وفي الوقت نفسه نظرت إلى صفحات التاريخ التي نتداو لها بين وقت وآخر بين الشك والارتياب .... فربما تكون أقلام الأمس التي كتبت ودونت شبيهة بأقلام اليوم التي تغيرت وتبدلت !!
وأقول ربما ... لأنني لم أصل بعد إلى حد اليقين .!!!

الباب الخامس

قضايا تحتاج إلى إيضاح
الفصل الثاني عشر : الليلة العصيبة 
الفصل  الثالث عشر : القنوات الخلفية لعبد الناصر
الفصل الرابع عشر : إستراتيجية عبد الناصر في البحر الأحمر 
الفصل التاسع – الليلة العصيبة
وحان وقت الإيضاح – علاقة المؤسسة العسكرية بالقيادة السياسية – المؤسسة العسكرية أصبحت وما داخل الدولة – النكسة – العدوان على الشرعية – تورطات – تجاوزات – القرار الحاسم – محاكمة  عامر في منشية البكري – تصفية منزل الطحاولا – تحديد إقامة عامر – ومات المشير  - سقوط دولة المخابرات 
لم الحديث والإيضاح الآن ؟
مر على الليلة العصيبة التي سوف نتحدث عنها أكثر من ستة عشر عاما بالتمام والكمال كانت الليلة  ليلة 25/ 26 أغسطس 1967 وفيها تم نزع سلطات المشير عبد الحكيم عامر وزالت عنه كل صفاته الرسمية . ولم يكن تنفيذ ذلك بالأمر السهل عن طريق إجراءات عادية خاصة بعد النكسة الخطيرة التي حلت بالبلاد والتي تسبب فيها " القيادة العسكرية " وعلى رأسها القائد العام للقوات المسلحة الذي هو المشير عامر . كانت الهزيمة وحدها كافية أن تسهل أمر إبعاده وتنحيته ولكن لم يقبل المشير عامر – حتى والآلاف من أفراد القوات المسلحة يذبحون ويؤسرون في سيناء  أو يموتون عطشا – أن يتخلي عن منصب قيادة القوات المسلحة بل لم يقنع بمنصب نائب رئيس الجمهورية الذي عرضه عليه عبد الناصر في ذلك الوقت . بل أصر رغما عن كل شئ أن يظل  محتفظا بكافة مناصبه وسلطانه معتمدا في ذلك على أفراد قيادته العسكرية التي ساندته دوما في اعتداءاته المتكررة على السلطة الشرعية قبل النكسة والتي أصبحت معه في سفينة واحدة بعد النكسة إن تركها قائدها غرقت بمن فيها وحينئذ يصبح وضعهم في قفص الاتهام سهلا ميسرا فالخوف من المصير جعلهم يتكتلون وراءه مما جعله يتصلب في موقفه ويعلن العصيان وبالرغم من أن القوات المسلحة فقدت كل شئ في سيناء إلا أنه جمع أعوانه من الضباط في منزله بمحافظة الجيزة لا يغادرونه ليل نهار بل شدد وكثف الحراسة على هذا المنزل " بحرس خاص " تكون من وحدات الشرطة العسكرية والعربات المصفحة كما أحضر من بلدته " أسطال " بمحفظة المنيا أكثر كم 3—فرد مدني معظمهم من الفلاحين لتعزيز الحراسة على منزله  . وبدأ هؤلاء في تحصين المنزل بشكاير الرمل وإقامة المزاغل وسدت الطرق الموصلة إلى المنزل وأصبح المكان بمن فيه " ورما" خارجا على " الشرعية القائمة" والأخطر من ذلك أن الغالبية العظمي من وحدات وأفراد القوات المسلحة كانت متعاطفة معه وأذكر أنه بعد تعييني  وزيرا للحربية بعد النكسة كيف كانت صور المشير عامر معلقة في الوحدات رغم زوال سلطاته الرسمية عنه ولم تكن أى سلطة في البلاد بقادرة  حينئذ على أن تعطي الأوامر بإزاحة صورة الرجل الذي لم يعد له صفة رسمية توجب استمرارها في أماكنها . كما أذكر أنه في أول مؤتمر للقادة الكبار عقدته في مكتبي بحضور الفريق محمد فوزي القائد العام  للقوات المسلحة والفريق عبد المنعم رياض   رئيس هيئة أركان حرب أن كنت أعطى تعليماتي بخصوص موضوعات على جانب كبير من الخطورة : الموقف الراهن , إجراءاتنا في المدى القريب , التسليح , إعادة تنظيم القوات وأوضاعنا في اليمن , علاقاتنا العربية ,.... أقول وسط كل هذه الموضوعات  الخطيرة تساءل أحد القادة الكبار عما إذا كان " من الممكن تلقي توجيهات بخصوص استمرار وضع صورة المشير في الوحدات "؟ كان الرجل وهو يوجه سؤاله يعلم تماما حساسية ما يطلب لإجابة عنه , ولما لم يكن من السهل في ذلك الوقت معرفة " الموطئ الصحيح للقدم " تظاهرت بالغضب وأجبت " بأنه يا أخي نحن نتكلم عن هذه الموضوعات الخطيرة ثم يأتي سؤالك عن هذا الموضوع الفرعي ؟! وكتب لى " عبد المنعم رياض " على ورقة صغيرة دفعها لى " الحمد لله لقد تخطينا أول حفرة "
إذن لم يكن الأمر سهلا ولا عاديا وخشية أن نستطرد في الموضوع دون التمسك بالتسلسل المعقول الذي لابد وأن يعرض به نتوقف هنا عند هذا الحد .
ونعود إلى شاغلنا الأصلي : لم الإيضاح الآن ؟ لم التحدث بعد فترة ستة عشر عاما في هذا الموضوع الحساس علما بأنني كنت أعتذر دائما عن الخوض في مثل هذه الموضوعات من قبل ؟

وهناك دوافع كثيرة حتمت ذلك :-

فقد مرت تلك الفترة التي خيل لى أن الغالبية العظمي أصيبت بظاهرة " كتابة المذكرات " أو " التذكر " أو " الذكريات " وكانت الجهود المحمومة قد ركزت على عبد الناصر     وفكره وعقيدته لتصيبها في  مقتل . كانت الثورة المضادة قد خاضت حربا غير مقدسة ضد كل ما فعله  عبد الناصر طوال ثمانية عشر عاما حافلة بالأحداث وفضلت في ذاك   الجو المشحون الذي غاب منه جانب العقل أن أركز   على موضوعات أكثر أهمية مثل أضواء على النكسة وحرب الاستنزاف , حروب عبد الناصر , مع عبد الناصر , الأمن العربي في مواجهة الأمن الإسرائيلي ... الخ كلها كتب صدرت لى في تلك الفترة الحزينة من تاريخ مصر ,حتى لا أشارك في موضوعات فرعية من السهل أن تكشف عن زيفها الأيام .
ونشر في هذا الموضوع بالذات كتب عديدة ومقالات كثيرة وتطوع من يعرف ومن لا يعرف بذكر ما حدث مؤكدا على أن ما يقوله هو الحقيقة الكاملة علما بأنه لم يكن شاهدا على ما حدث .
ولا طرفا في الحوادث ولا صانعا لها وكنت أدهش حقيقة من قدرة البعض على صياغة الأحداث وتلوينها بصورة أبعد ما تكون عن الحقيقة .
ثم رأيت أن بعض الذين كانوا على قرب من مركز الأحداث اهتموا بالتاريخ لأدوراهم وصوروا على أنهم كانوا هم " كل شئ " حتى عبد الناصر نفسه ظهر إلى جانبهم وكأنه لا حول ولا قوة . فهم المخططون وهم المستشارون بل هم المنفذون . وظهر من خلال ما كتبوه أن عبد الناصر لم يكن لا صاحب قرار أو نفوذ أو سلطن . فهم الذين حركوا كل شئ . الشئ الغريب أنه بالرغم من بعد هذا عن الحقيقة إلا أن الأكثرية صدقت وسلمت بما قيل وأخذته على أنه حقيقة لا رجعة فيها وقد شرك في هذا وللأسف الشديد بعض الرجال والقادة الذين لم يتورع البعض منهم عن الاعتداء على الحقيقة وللانتقاص منها أحيانا أو الإضافة إليها أحيانا أخرى.
ثم رأيت بعض المؤرخين يتقدمون الصفوف ليكتبوا ويحللوا عن وقائع معينة  صانعوها ما زالوا على قيد الحياة .. وهؤلاء قد شاهدوا الحدث وعاينوه وشاركوا فيه إلا أن هؤلاء المؤرخين لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن المصدر والمنبع للأخذ منه , ثم محاولة التثبت من ذلك من آخرين . أبدا  لم يحدث شئ من هذا . فمن قال إن " المشير " قتل ثم لم يكتف بذلك بل استنتج طريقة القتل ووسيلته . وبني على ذلك قصصا وقدم هذا كله على أنه " تاريخ !! ومن صور ما حدث بين " عبد الناصر " و" عامر " على أنه صراع على السلطة علما بأن ما حدث كان عدوانا  على الشرعية التي حاولت – ولديها كل الحق  أن تعيد الأمور إلى أصلها " وتصحح " الأخطاء الكبيرة التي سببت النتائج  الوبيلة ومن أطلق الصفات الرذيلة على الجميع بعد أن خلع ثياب   النفاق وتهيأ وتجهز ليوزع أكبر قدر من المال ولو كان ذلك على حساب الحقيقة والصالح العام .

ثم الأخطر من كل هؤلاء " أعداء تظاهروا في ثوب الأصدقاء وهؤلاء وهم يدافعون عن مسئوليات لم يحسنوا أداءها , وإبعاد الاتهامات صريحة تحيط بهم , وتوجيها لسير الأحداث إلى وجهة تطمس الحقيقة ... أقول إن هؤلاء جسموا صغائر الأعمال التي قاموا بها حتى يتستروا على حجم الخطايا التي ارتكبوها وكتبوا عن إيجابيات فرعية تكتيكية ليخفوا بها هزائم رئيسية إستراتيجية !! إزاء كل هذا الذي حدث اهتزت ثقة الرأي العام فيما يقال , وزهد الناس في سماع المزيد من الأكاذيب والافتراءات خاصة بعد ن رأوا الكبار ينزلون إلى مستوى الصغار وهنا تريثت الأقلام الحاقدة والجهود المحمومة مما أوجد مجالا لكلمة الحق أن تقال وربما تسمع في نفس الوقت .

وأحب أن أحدد موقفي من البداية فإنني أعترف أنني لست ملما بتفاصيل العلاقة المعقدة التي كانت بين الرئيس عبد الناصر والمشير عامر ولذلك فلن أخوض فيها إلا بالقدر الذي أعلمه تمام العلم ,لكن يمكنني – وبكل ثقة – أن أتحدث عن تلك الليلة العصيبة بتفاصيلها لأنني كنت مع آخرين شهودا على أحداثها  بل مشاركين في صنعها فلم يكن ما حدث في تلك الليلة جهدا قام به فرد واحد – كما جاء في بعض الروايات – ولكن الحدث تم بجهود مشتركة بذلت قبل حدوثه بوقت ليس بالقصير وظلت هذه الترتيبات – حفاظا على السرية – محصورة في نفر قليل ممن شاركوا في إعدادها .
هؤلاء المشاركون لم يكونوا " جماعة واحدة أو شلة متضامنة " ولكنهم كانوا جميعا ممن يعملون مع عبد الناصر والذين كانت تربطهم به علاقة العمل أو الحب والولاء أو الإيمان بمبادئه أقول هذا بالرغم من أن كثرة المشاركين حوكموا بعد ذلك فيما سمي " بأحداث مايو 1971 " والذين أطلق عليهم " مركز القوى "  وبالرغم من أن هذا حدث لهؤلاء فإنهم لم تضمهم " جمعة أو شلة واحدة " بل كانوا على الأصح متناقضين ولعل هذا التناقض هو الذي جعل هذه الجماعة تصبح فريسة سهلة للجانب المتربص الذي كان يعرف تماما حقيقة العلاقات القائمة بين هؤلاء فاستغل ذلك بذكاء في القيام بالثورة المضادة على مبادئ عبد الناصر بل بلغ تناقض هؤلاء المشاركين قمته حينما كان البعض منهم في قفص الاتهام والبعض الآخر كان خارج القفص لا يدخر جهدا في إثبات الاتهام الظالم بل شارك في الحملة المسعورة على عبد الناصر نفسه بطريقة أو أخرى موجه سهامه إلى " جماعة مايو " وإن كان يعني ويقصد توجيهها إلى " عبد الناصر " وربما كان الدافع لهذا الالتواء إبعاد الحروجة أو ربما بقية من حياء.
وبالرغم من ذلك كان هناك دافع مشترك بينهم للمشاركة في أحداث تلك الليلة وإن لم يكن بينهم اتفاق مشترك على هذه المشاركة إذ دخل هؤلاء المشاركون في العمل في أوقات متفاوتة متتالية كان الدافع المشترك بينهم أنهم ما لهم الموقف الذي أصبحت فيه البلاد بعد النكسة مما كان يحتم " تصحيح المسار " ولم يكن هذا ممكنا إلا " بتنحي عامر " عن السلطة أو على أقل تقدير بإبعاده عن القوات المسلحة ولم يكن هناك لتنفيذ ذلك إلا طريقان : طريق " الشرعية " بأن ينفذ " عامر " قرار القيادة السياسية  ولكنه أبي ورفض وإزاء ذلك لم يكن هناك إلا الطريق الآخر وهو استخدام القوة لإعادة " الشرعية " بالدولة كما كانت قبل النكسة بل كان من الواجب إعادتها مرة أخرى لتعمل في إطار " الدولة " لتنفذ أهدافها  وتحقق استعادة الأراضي المغتصبة فما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد إلا بالقوة .
العلاقة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية
والعلاقة بوجه عام بين القيادتين علاقة معقدة وبالغة الأهمية خاصة في البلاد النامية التي تحدث فيها التغييرات الداخلية عادة باستخدام القوات المسلحة والتي لا يتحدد فيها أسلوب نقل السلطة بطريقة تمنع الهزات والرجات . وإن إخلال التوازن في العلاقة بين القيادتين يتسبب في مخاطر كثيرة تؤثر على الأمن القومي للبلاد مما يحتم معالجة الموضوع معالجة حاسمة وحكيمة وواضحة .
وإيجاد التوازن أمر صعب إذ تتعدد مؤسسات الدولة التي لا تقل إحداها أهمية عن الأخرى ولكن على هذه المؤسسات أن تسر داخل إطار واحد في خطوات متزنة ثابتة وإلا تعثرت الدولة كلها وترنحت وهي تتصارع في غابة السياسة الدولي المليئة بالذئاب والثعالب. فتحقيق التوازن بين مؤسسات الدولة تجعل منها " أوركسترا " واحدا متناسقة الأنغام بالرغم من أنه يتكون من آلات موسيقية متعددة لكل منه نغمة الخاص .
وبالرغم من أن هذا مرغوب فيه إلا انه أمر صعب كما سبق القول ويزداد الأمر صعوبة حينما تقوم القوات المسلحة بالتغيير وحينما يكون لقائدها العام دور بارز في إحداث هذا التغيير فما لم يتدارك الموقف من أول الأمر تتفاقم المشكلة مما يؤدى إلى ازدواجية خطيرة ينهار من جرائها الإطار الصحيح الذي ينظم السلطات داخل الدولة مما يهز " الشرعية " من أساسها .
فحينما تولي المشير عامر قيادة القوات المسلحة عقب قيام الثورة كان هذا الإجراء يتفق وطبيعة الأشياء فالثورة أى ثورة – لها الحق في تأمين نفسها خاصة في القوات المسلحة التي يمكن أن تتجه إليها جهود الثورة المضادة إن هي فكرت في استعادة السلطة والمشير عامر كان أهلا للقيام بهذا الواجب  فشخصيته تتميز بالتسامح والدقة والإنسانية إلا أن علاقاته الخاصة كانت ترجح انضباطه الذي من المحتم أن يكون صفة مميزة لمن يتولي قيادة رفيعة كتلك التي كان يتولاها ... ثم فوق كل ذلك كن عامر هو الشخص الأقرب إلى قلب عبد الناصر قائد الثورة وزعيمها .. ولقد قام المشير عامر بتحقيق هذا الواجب في يسر وكفاءة حببت فيه القوات المسلحة وفي الوقت نفسه زادته قربا من الرئيس مما أثار حفيظة بعض الزملاء وغيره بعض الأصدقاء فتسبب عن ذلك صارعات وخلافات كانت تحسم دائما لصالح المشير   ولكن أن يستمر " عامر " بعد أن حقق هذا الواجب في تولي القيادة الفعلية للقوات المسلحة فهو أمر ما كن يجب ن يحدث خاصة وأن سياسة القاهرة الوطنية في ذلك الوقت أثارت عليها الاستعمار وأصبح الأعداء يتكاثرون وهم يواصلون الليل بالنهار للكيد والتدبير بل اقتضت مصالح الجمهورية في ذلك الوقت نشر بعض الوحدات المسلحة خارج الحدود مرات متعددة وفوق كل ذلك كانت هناك إسرائيل تتحين الفرصة لتنقض . ومعني هذا أن القوات المسلحة لابد وأن تكون على أعلى مستوى من ناحية الكفاءة القتالية وهذا يحتاج إلى نوع خاص من القيادة يتصف إلى جانب الكياسة والليونة بالمعرفة العلمية العميقة بأصول الحرب وما لحقه من تطور الأمر الذي لم يكن متوفرا لدى المشير فإذا أضفنا إلى ذلك إفراطه في تغليب العامل الإنساني في المعاملة وتودده الذي يتميز بالطبع السياسي لعلمنا مقدار ما أصاب معايير الانضباط من سلبيات إهتز معها الضبط والربط وانعدم الاحترام الواجب بين الرئيس والمرؤوس وتحطمت سلسلة القيادة وهي بمثابة العمود الفقري للقوات المسلحة وقد لمس الجميع ذلك وتحدثوا فه بل كانت كل قيادات القوات المسلحة راضية عنه تسايره وتشجعه دون أن يرتفع صوت واحد يحذر و ينذر .
ولقد كان من الواجب تنحية " عامر " عن قيادة القوات المسلحة عقب العدوان الثلاثي عام 1956 وقد كان هذا ممكنا حتى ذلك الوقت في يسر وسهولة لأن إدارة المعركة كانت في مستوى مقلق ولولا المهارة السياسية التي أديرت بها دفة الأمور ما كان نصر عام 1956 . وإذا كان التغيير لم يتم بعد العدوان الثلاثي ربما للشعور العام السائد في ذلك الوقت من الأمور قد فاجأتنا وداهمتنا فإنه كان من اللازم إحداث هذا التغيير بعد جريمة الانفصال بين سوريا ومصر عام 1962 خاصة وأن المشير عامر كان هو المسئول عن إدارة الأمور المتعلقة بالوحدة بل كانت كل الأمور تدار بواسطته في الإقليم الشمالي حيث أعطيت له اختصاصات رئيس الجمهورية .
وربما  منذ ذلك الوقت بدأ الصراع بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر . كان صراعا خفيا يدور بينهما ولا يلمسه إلا رجال المطبخ الداخلي للرجلين مع حرصهما على التظاهر أمام الرأي العام بمظاهر الود والإخاء وقد دفع هذا المشير عامر إلي أن يتخذ من الترتيبات التي تجعل من الصعب التخلص منه في المستقبل  كما تم التخلص من الزملاء لآخرين. وهنا لم يتقيد في اختيار معاونيه فأسقط من حسابه قواعد الاختيار المتعارف عليها مما كان له أثره في نكسة 1967 دون ما شك . لم يعد مهما العلم أو المعرفة بل لم يعد مهما توفر الخلق أو السمعة الطيبة أو القدوة الحسنة .ولكن كان الأهم من كل ذلك له أن يتم الاختيار على أساس الولاء لشخصه ولأعوانه كانت المجموعة المحيطة بالمشير كافية للإساءة إليه بالإفراط في اللهو وأسباب المتعة فكانت الألسن تتحدث عن إفراط بعض كبار رجال القيادة العامة للقوات المسلحة في علاقاتهم الجامحة وسهراتهم الحمراء مما كان محل تحقيق السلطات المعنية في بعض الأحيان وكان المفروض في هؤلاء أن يكونوا قدوة لغيرهم من الضباط ومن الملفت للنظر أنه جاء وقت كان ثلاثة من القيادة العامة متزوجين من فنانات : المشير عامر وقد تزوج من السيدة " برلتني عبد الحميد " زواجا عرفيا وعلى شفيق وقد تزوج من السيدة " مها صبري " عبد المنعم أبو زيد وقد تزوج من السيدة " سهير فخري " والتي كانت متزوجة من قبل من الأستاذ محمد كامل حسن المحامي وهي صديقة لبرلتني عبد الحميد وكانت أول من عرف بزواجها من المشير ..

وأغدق " عامر " على ضباطه دون حساب وفتح لهم أبوابه وآذانه لاستقطابهم وقد نجح المشير في تحقيق ذلك إلى حد كبير وفي وقت قصير بحيث أن عبد الناصر أصبح بمرور الوقت غير قادر على تغيير المشي حتى لو رغب هذا التغيير . وليس معني هذا أن محاولات لم تبذل لتطويق هذا الموضوع فعند تشكيل مجلس الرئاسة كمحاولة للقيادة الجماعية بعد الانفصال بدأ المجلس يبحث في الحد من سلطات المشير عامر بعد فشله في إدارة الأمور والذي أدى إلى وقوع الانفصال وبأفراد من مكتبه أثناء وجوده هناك وقد ظهر مقدار عجزه عن التصرف إزاء الأحداث المؤسفة كان مجلس الرئاسة قد فكر في أن تكون سلطة تعيين ونقل قادة الكتائب والألوية في القوات المسلحة من اختصاصه ,قد أعد عبد الناصر القرار بنفسه في نوفمبر 1962 ولكنه لم يحضر الجلسة التي ناقشته بحضور عبد الحكيم عامر الذي طالب بتأجيل مناقشته وأيده في ذلك كمال الدين حسين . إلا أن باقي أعضاء مجلس الرئاسة أصروا على مناقشته ووافقوا على القرار وخرج عامر غضبا من الاجتماع وكتب استقالته وسافر إلى مطروح دون أن يبلغ أحدا من زملائه كانت الاستقالة تتحدث عن الديمقراطية وضرورة العودة إلى نظام الأحزاب ومن الواضح أن عامر لم يكن مقتنعا بذلك تتحدث عن الديمقراطية وضرورة العودة إلى نظام الأحزاب ومن الواضح أن عامر لم يكن مقتنعا بذلك واكنه كان يقصد أن تكون استقالته تحت ستار قضية عامة وبسببها إذ انه بعد أن سويت المسائل لم يعد إلى طلباته تلك إلا بعد نكسة 1967 حيث أعاد طباعة الاستقالة بواسطة زوجته برلنتي عبد الحميد وتم توزيعها على نطاق واسع ..

إلا أن  عبد الناصر بما حرصا على تماسك القوات المسلحة , وربما عزوفا عن الدخول في معركة لا يضمن فيها الفوز رفض الاستقالة واحتفظ بعامر بالرغم من رد فعل ذلك على باقي أعضاء مجلس الرئاسة وقد أخبرني كل من السيدين عبد اللطيف البغدادي وكمال حسين بأن الرئيس عرض عليهما تولي أمر القوات المسلحة إلا أنهما اشترطا أن يقوم عبد الناصر أولا بإزاحة أعوان المشير من المراكز التي كانوا يتولونها .

عبد الناصر قادرا على التدخل في القوات المسلحة بأى صورة من الصور .

وقد بلغ هذا الوضع إلى درجة إصدار " عامر " لقرار نائب القائد الأعلى  للقوت المسلحة رقم 168 لسنة 1966 بشأن إعادة تنظيم القيادة العليا للقوات المسلحة تقرر بموجبه .

1- دمج مكتب نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة ومكتب رئيس هيئة أركان حرب القوت المسلحة في إدارة واحدة بالقيادة العليا للقوات المسلحة . 2- تنشأ إدارة جديدة تتولي أعمال الأركان حرب بالقيادة العليا برئاسة ضابط يسمي مدير الأركان بالقيادة العليا . 3- يستمر مكتب نائب القائد للشئون العامة في مباشرة اختصاصاته الحالية ويسمى مكتب نائب القائد الأعلى ويتبع مباشرة لنائب القائد الأعلى للقوات المسلحة . 4- تشمل القيادة العليا : نائب القائد الأعلى ومكتبه, مساعد نائب القائد الأعلى , رئيس هيئة أركان حرب إدارة الأركان بالقيادة العليا .

وتصدر جميع مكاتباتهم معنونة برسم القيادة العليا للقوات المسلحة .

5- باقي أجهزة القوات المسلحة يعنون مكاتباتها برسم القيادة العليا للقوات المسلحة . 6- يتبع مدير الأركان وإدارته إلى رئيس هيئة الأركان ويعمل بتوجيهات منه . 7- يتخذ رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة الإجراءات التنفيذية ويصدر تعليمته بتنظيم واختصاصات إدارة الأركان بالقيادة العليا وأسلوب عملها .

وواضح من القرار تقليص اختصاصات رئيس هيئة أركان حرب ودمجه بمكتبه في مكتب نائب القائد الأعلى وعلاوة على ذلك إخراج مكتب نائب القائد للشئون العامة الذي يتولاه " المقدم شمس بدران " من سلسلة القيادة ليتبع مباشرة نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي  هو عبد الحكيم عامر .
والشئ الغريب أن الجميع وافقوا ونفذوا عن طيب خاطر !!  

ثم عاد المشير ليصدر أغرب قرار غير دستوري يمكن أن يصدر عن وجه مسئولة وهو قرار نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة رقم 367 عام 1966 في شأن تحديد اختصاصات ومسئوليات السيد شمس الدين بدران وزير الحربية في نطاق القوات المسلحة :

مادة أو لي : يتبع وزير الحربية أجهزة القوت المسلحة لآتية :
إدارة كاتم أسرار حربية
إدارة القضاء العسكري 
إدارة المخابرات الحربية 
إدارة الشئون العامة 

إدارة التوجيه المعنوي.

ويصدر بتحديد الاختصاصات والسلطات في كل منها قرار بالتفويض من نائب القائد الأعلى .
مادة ثانية : يختص وزير الحربة بكافة الشئون المالية والإدارية وشئون الخدمات الطبية والعلاجية وتتبعه الأجهزة الحالية التي تعمل من هذا المجال ويصدر بتنظيمها وتحديد مهامها وأسلوب عملها في نطاق القوات المسلحة قرار من وزير الحربية .
مادة ثالثة : تنقل تبعية لأجهزة المنقولة من وزارة الحربية إلى القوات المسلحة بموجب قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 117 / 1964 إلى وزير الحربية عدا الهيئة المصرية العامة للطيران ( هذه الأجهزة  هي : مصلحة السواحل والمصايد وحرس الجمارك , المؤسسة الاقتصادية للقوات المسلحة , المؤسسة العامة للمحاربين القدماء المؤسسة العامة للطيران عدا شركة الطيران العربية المتحدة مكتب المستشار الصناعي بكلولون ومكتب المستشار الصناعي بموسكو ومكتب التظلمات العسكرية )
مادة رابعة : وزير الحربية والأجهزة التابعة له بالقوات المسلحة هي الجهة المسئولة عن اتصالات القوات المسلحة بالوزارات  والأجهزة المركزية للدولة وتتم عن طريقها .
مادة خامسة : يلغي مكتب نائب القائد الأعلى للقوت المسلحة وتؤول كافة اختصاصاته ومهامه إلى مكتب وزير الحربية 

ويلاحظ على هذا القرار الخطير الآتي : 1- أنه صادر من القائد العام للقوات المسلحة لتحديد اختصاصات وزير من الوزراء وهذا من واجب القيادة السياسية ثم صدر القرار لشمس بصفته الشخصية يعني لا تسري هذه الاختصاصات على أى وزير حربية يأتي بعده. 2- أن الأجهزة الخطيرة المتعددة والتي تم فصلها عن سلسلة القوات المسلحة القيادية أصبحت لا تؤدي دورها بطريقة سليمة لخدمة هذه القوات مثل إدارة كاتم أسرار والمخابرات الحربية والتوجيه المعنوي . 3- أن القرار ألغي مكتب نائب القائد الأعلى الذي سبق وتكون بموجب القرار السابق – من دمج مكتبي نائب القائد الأعلى ورئيس هيئة أركان حرب وتحولت اختصاصات هذا المكتب الملغي إلى مكتب وزير الحربية . 4- أن وزير الحربية أصبحت في يده كل وسئل السيطرة على ضباط القوات المسلحة دون رقيب فأصبح في يده وحده : تنقلاتهم وترقياتهم وإنهاء خدماتهم الموضوعات الخاصة بالتأمين , الترفيه , النواحي المالية , العلاج , المكاتب الخارجية ... الخ.

وصدر القرار دون تدخل من جهة من الجهات لتعديله بما يتفق والنظام المتعارف عليه في الدولة أما قادة القوت المسلحة فقد وافقوا ونفذوا ولم يعترضوا !!!
وكم عانيت من هذه القرارات بعد تعييني وزيرا للحربية بعد النكسة إذ كانت وجهات النظر كلها ما زالت متأثرة بالأوضاع السابقة ولما لم يكن في استطاعتي تصحيح الأوضاع فضلت ترك منصبي رغما عن المحاولات الكثيرة التي بذلت للضغط على بقائي ... وهذه قصة أخرى ..
وسأحكي  قصتين شاهدت وقائعهما  بنفسي إحداها تجسم طبيعة المشير والأخرى تصور طبيعة العلاقات بين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر .
في أوائل 1965 وكنت سفيرا للجمهورية العربية المتحدة في بغداد حضر المشير عامر على رأس  وفد إلى بغداد للزيارة وذلك ردا على زيارات متعددة قام بها الرئيس عبد السلام عارف رئيس الجمهورية العراقية وقتئذ إلى القاهرة . وقبل إتمام الزيارة حضرت إلى القاهرة للترتيب لها وأرسلت في الوقت  نفسه إلى " المشير " مذكرة مختصرة عن الأوضاع في العراق والموضوعات الهامة التي يمكن أن تثار ومعلومات عن الشخصيات التي سيقابلها عند وصوله إلى بغداد وذهبت لمقابلة المشير فاستقبلني ببشاشته ولطفه ورقته التي يعرفها عنه كل من احتك به . وسألته عما إذا كان قد قرأ المذكرة التي أرسلتها له ؟! فقال : مذكرة إيه ؟ لم تصلني مذكرات ,  واستدعي " على شفيق " وسأله عن المذكرة فقال له " آه دى وصلت من زمان " فرد عليه " طيب يا ... لم لم تعرضها علي  ؟!" وانتهي  الأمر عند ذلك . وكان  من ضمن البرنامج إقامة حفل استقبال كبير على شرف الزائر الكبير وهنا استدعي " عامر " على شفيق " مرة أخرى وقال له " هات ألف إسترليني لأمين لأنه حيصرف على الحفلة منين ؟" وأحضر  على شفيق المبلغ في لمحة عين وأنا في غاية الدهشة مما يم , واعتذرت عن قبول المبلغ شاكرا وقلت " سيادة المشير لا تحمل هم أى شئ . الماهية كفاية للصرف على مثل هذه المناسبات " فقال لى " والنبي إنت ساذج وأول واحد يرفض . إنت حر ".
وعند حضوره إلى بغداد نزل ضيفا على الحكومة  العراقية التي أحاطت الزيارة بكل مظاهر التكريم والحفاوة وأقام المشير في قصر بغداد هو ومرافقوه . وفي الصباح الباكر لليوم الثاني من الزيارة اتصل بي تليفونيا في منزلي عضو السفارة الذي خصصته للإقامة مع الوفد في قصر بغداد وطلب مني الحضور فورا إلى القصر . ورفض الزميل أن يزيد حرفا واحدا على ذلك وحينما وصلت إلى هناك كان أحد ضباط القصر في انتظاري على الباب ومعه عضو السفارة وسلمني مظروفا ذكر أن به أوراقا وجدوها متناثرة بالأمس على سرير المشير  أثناء وجوده بالقصر الجمهوري ورأوا من الأمانة أن يعيدوها داخل  مظروف مغلق وفتحت المظروف وكدت أصعق !!! كان بدخله عدة تقارير اصطحبها  المشير معه من القاهرة ليقرأها وهو في بغداد تمس وتسئ إلى العلاقة بين عبد الناصر وعارف وتتحدث عن  عارف حديث شائنا مشككا كانت التقارير سرية للغاية ومع ذلك تركت هكذا دون اهتمام ليطلع  عليها من يشاء !! كان من المؤكد ن الرئيس عارف اطلع عليها وقد يكون المختصون – وهذا مؤكد – قد احتفظوا بصورة منها وأعادوا لنا الأصل !!!
وذهبت إلى المشير لأقص عليه ما حدث . لم ينزعج الرجل بل قابل الموضوع بمنتهي السخرية والاستهزاء !!! ولم يكن في يدى أكثر من أن أ‘نف المسئول عن جمع أوراق المشير ولما ذهبنا للاجتماع مع الرئيس عارف كان الرجل بادى التأثر وأخذ في حديثه يرد على ما أثير في التقارير – مما يؤكد إطلاعه عليها – وأخذ يحذر بين وقت وآخر ممن يحاولون الوقيعة بين بغداد والقاهرة .
وتذكرت هذه القصة بعد حدوث النكسة وإجراء التحقيقات بخصوص " قضية تآمر المشير وانحراف المخابرات " حينما تأكد للمحققين أن " عامر " كان يترك ملفاته " سري للغاية" والتي بها الخطط والتقارير والميزانية ... الخاصة بالقوات المسلحة في الفيلا التي كان ينفرد فيها مع زوجته " السيدة برلنتي عبد الحميد " في منطقة الهرم لكي  يطلع عليها من يشاء !!
لم تكن هذه نهاية  مفاجآت تلك الزيارة إذ حدثت المفاجأة ليلة إقامتي حفل استقبال " المشير " كان الحفل كبيرا فخما قيم في " دار السفير " بالوزيرية حضره أكثر من ألف مدعو من رجالات العراق وأعضاء السلك الدبلوماسي العربي ولأجنبي .ودعوت الرئيس عارف للحضور فوعد بذلك تكريما " للمشير " الذي يمثل " عبد الناصر " وعندما وصل ركب الرئيس عارف إلى دار السفير دعوت المشير – وكان بالداخل – لنخرج سويا لاستقبال الضيف الكبرى وفوجئت بأنه يرفض ذلك رفضا باتا مصرا على الاكتفاء باستقباله في إحدى القاعات الداخلية في الدار . وهرولنا لاستقبال " عارف "  الذي دخل معنا إلى الدار ليحي المشير عامر حيث شاء أن يبقي . وبعد فترة من الوقت دعوت  الجميع للخروج لتحية الضيوف في حديقة الدار إلا أنني فوجئت برفض المشير أن يغادر محله . ولم يجد الرئيس عارف بدا من أن يخرج وحده إلى الضيوف ونحن معه تاركين المشير حيث هو بالداخل مما أحدث استياء عميقا لدى المدعوين الذين حضروا خصيصا لتحية مندوب عبد الناصر 
وكنا في موقف لا نحسد عليه وعجزنا أن نجد تبريرا لما حدث !!
قصة تدل على أحد جوانب شخصيته رحمه الله .

والقصة الثانية حدثت يوم وفاة عبد السلام عارف في حادث الطائرة المعروف في أبريل 1966.

كنت يومئذ وزيرا للإرشاد القومي واتصل بي الرئيس عبد الناصر تليفونيا في الصباح الباكر . كان الرجل شديد التأثر على وفاة عارف وأخبرني بأني سأسافر إلى بغداد كعضو في بعثة يرأسها المشير لتقديم التعزية الواجبة وذكر لى  الرئيس ن المشير سيحضر لمقابلته الساعة الحادية عشرة من هذا اليوم قبل السفر إلى بغداد وكان على بناء على حديثه أن أمر عليه في منزله بمنشية البكرى قبل ذلك بنصف ساعة للتحدث في أمر علاقتنا مع بغداد على ضوء التطورات المحتملة بعد وقوع الحادث . وذهبت في الموعد المحدد وكان لدى الرئيس كثير من المعلومات والتعليمات كان مما ذكره " إننا لا نريد من بغداد شيئا إلا العلاقة الأخوية والكلمة الأخيرة ستكون لك عند حدوث  أى تطورات هناك وأرسل لى بشفرتي الخاصة عن أى أشياء تريد إبلاغها أو أخذ الرأي فيها " وحان وقت حضور المشير واستأذنت من الرئيس لكي أذهب إلى المطار حتى أترك الرجلين وحدهم . إلا أن الرئيس استمهلني ومرت الدقائق ولم يحضر المشير في الوقت المحدد وعبد الناصر ينظر في ساعته وقد قطب جبينه وبدت الحيرة في عينيه ولما تجاوز وقت التأخير الحد المعقول وقف الرئيس وهو يقول " أعمل إيه في المشير بتاعكم ... حتى الموعد  الذي  أحدده أصبح لا يحترم " وخرجت لأنتظر المشير في المطار لكي أسافر في صحبته إلى بغداد 
وفي بغداد حدثت قصة لابد وأن تحكي
كان الوفد الذي يصحب المشير يتكون من الأخوين فتحي الديب وعبد المجيد فريد علاوة على شخصي. وفي الطائرة فوجئنا " بعبد الحميد السراج" نائب  رئيس الجمهورية أيام الوحدة إلى جوار عبد الحكيم عامر وتعمد عبد الحميد أن ينفرد بالمشير طوال الرحلة ويبدو أنهما كان يتحدثان في موضوع هام وعند الوصول إلى بغداد وجدنا أن محاولات تبذل ليخلف الدكتور عبد الرحمن البزاز المرحوم الرئيس عارف إلا أن الأمور تطورت بعد ذلك ليخلف اللواء عبد الرحمن عارف أخاه في رئاسة الجمهورية وكان عبد الرحمن ( أبو قيس ) في زيارة لموسكو ولما يعد بعد إلى بغداد "
ولكن قبل أن تستقر الأمور إلى هذا الاتجاه كنا في حركة دائبة مع أصدقاء في بغداد وكنت ألح على " المشير في أن يستقبل الأخوة وكان يوفق على مضض وكأنه كان يضمر شيئا !! رجعت إلى قصر بغداد في الليلة التالية لوصولنا حوالي منتصف الليل وهناك أخبرني القائم بالأعمال أنه أرسل برقية من المشير إلى الرئيس بحضور الأخ عارف عبد الرازق إلى بغداد في طائرة تصل فجر  نفس اليوم لتولي السلطة إذ أن كل شئ جاهز ومرتب لذلك.. وعرفت أن هذا تدبير عبد الحميد السراج وربما استقروا  على ذلك قبل تركهم القاهرة .
كانت الأخبار التي وصلتني تعتبر كارثة فإن حضور عارف عبد الرزاق من القاهرة هكذا دون  ترتيب ... رغما عما قيل لن يمكنه من النجاح على الإطلاق علاوة على أن " أبا رافع " لم يكن محل رضاء إخوانه الذين كانوا في السلطة فضلا عن رد الفعل المضاد له من الرأي العام بعد فشله في القيام  بانتداب – وهو رئيس وزراء العراق وفي غيبة الرئيس عبد السلام عارف في أحد المؤتمرات في الخارج.
وذهبت مع القائم بالأعمال " إلى مبني السفارة " وكانت في " كرادة مريم " وهناك اطلعت على البرقية التي أمر المشير بإرسالها ولم أتردد أن رسل برقية أخرى إلى " الرئيس " مقترحا إلغاء كافة الترتيبات لحضور " عارف " موضحا أن الأمور ستسير سيرها الطبيعي وأن  غالبية الآراء قد اتفقت على تعيين عبد الرحمن عارف خلفا لأخيه وكنت أدعو  الله ألا تحول الظروف غير العادية دون وصول البرقية قبل قيام الطائرة فجرا فكنا بذلك في سباق مع الزمن . إذ كان لابد من " تشفير " البرقية في بغداد بشفرة مكتب الرئيس الخاصة التي كنت في جيبي والتي استلمتها يوم سفري  إلى بغداد . هذا وحده يستغرق وقتا طويلا .. ثم عند وصول البرقية إلى القاهرة كن لابد من فك شفرتها ولن يتم ذلك إلا بعد وقت طويل أيضا . كان تقديرى أن الأمور لو سرت في طبيعتها فإن وصول برقيتي إلى الرئيس سوف يستغرق ثلاث ساعات وهذا ما حدث فعلا . وحينما قرأ " السيد سامي  شرف سكرتير  الرئيس  للمعلومات " البرقية أصبته الدهشة الشديدة وكانت المشكلة التي واجهته هي : هل يوقظ الرئيس من نومه في مثل هذه الساعة المبكرة وهو يعرف انه يذهب إلى فراشه في ساعة متأخرة من الليل ؟ ولم يتردد  وأيقظ الرئيس إذ كان " عارف " قد تهيأ للسفر والطائرة جاهزة في مطار الماظة ولم يبق على الفجر إلا ساعتان وكان لابد من قرار .
وحينما قرأ " سامي " البرقية على الرئيس أمر بإلغاء سفر " عارف عبد الرزاق " أخذا بوجهة نظرى . علق الرئيس بعد ذلك على ما حدث  أمامي بأنه كان يستبعد أن المشير يتخذ مثل هذا القرار ويرسل برقيته قبل  أخذ  رأيي في الموضوع كما نبه عليه ولذلك فإنه وافق على البرقية الأولي وحمد موقفي على أنني أرسلت برقيتي الثانية .
وفي الصباح استدعاني " عبد الحكيم عامر " لأتناول طعام الإفطار في حجرته بقصر الضيفة ولم أكن  قد ذقت للنوم طعما طويل الليل .. وأثناء تناول الطعام كان الرجل يركز نظراته على وجهي في شك قاتل وسألني " إنت تعبان جدا ويظهر إنك لم تنم  طوال الليل . كنت مشغولا وألا إيه ؟! ورددت بكلمات غامضة إذ كنت أستعد للسؤال الحاسم , وجاء السؤال سريعا " يا أخي أنا أرسلت أمس للرئيس آخذ رأيه في موضوع هام كان المفروض أن يتم الآن ولكن القاهرة لم ترد على بالنفي أو الإيجاب . أنا شامم إن واحد " ابن ...." عمل ملعوبا ألغي ما دبرناه" .
ورددت عليه أيضا بجمل غامضة محاولا توجيه الحدث وجهة أخرى . وانتهي تناول الطعام وبدأنا نعد نفسنا لمهام الويم الجديد ولم يعلم أحد بما دار ولا أظن أنهم يعلمون حتى الآن .
هكذا كان المشير مغامرا في كل شئ , متدخلا في كل شئ مهتما بكل شئ عدا شئ واحد لم يلق اهتماما منه وهو الاطمئنان على كفاءة قواته المسلحة وقدرتها القتالية حتى يؤمن الأمن القومي للبلاد.
وبعد أن صورتا طبيعة العلاقات بين القيادتين السياسية والعسكرية وأعطين فكرة عامة عن شخصية " المشير " رحمه الله لابد ون نحدد العلاقة الواجب تواجدها بين القيادتين والمتعارف عليها في الدول المستقرة :
الأمن القومي . وهو عبارة من الإجراءات الشاملة التي تتخذها الدولة في حدود طاقتها للحفاظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل مع مراعاة المتغيرات الدولية من مسئولية القيادة السياسية ومجاله الإستراتيجية العليا أو العظمي  ويصبح الأمن العسكري جزءا من الأمن القومي وهو من مسئولية القيادة العسكرية وبتوجيه  وتحت إشراف القيادة السياسية ومجاله الاستراتيجي وهو فن إدارة المعارك لتحقيق الغرض من الحرب أو هي فن القيادة العسكرية أو باختصار فالقيادة العسكرية هي إحدي الوسائل المتيسرة لدى القيادة السياسية لتحقيق أهداف الدولة تأتمر بأوامرها وتنفذ المهام التي تكلف بالقيام بها .