الفرق بين المراجعتين لصفحة: «أمين هويدي مع عبد الناصر»
لا ملخص تعديل |
لا ملخص تعديل |
||
سطر ١: | سطر ١: | ||
===الفصل الثالث العاشر: القنوات الخلفية ل[[عبد الناصر]]=== | |||
قبل كلام كثير عن القنوات الخلفية التي كان يفتحها [[عبد الناصر]] مع الأعداء والأصدقاء على حد سواء البعض حاول أني يختلق اتصالات لم تحدث والبعض الآخر حاول أن يستغل اتصالات حدثت فعلا ليلوي حقيقتها ويلقي ظلالا على أهدافها والغرض من ورائها . | |||
وقبل أن نبدأ في الحديث عن ذلك في إطار معلوماتي وضمن ما تسمح به القيود المفروضة على السرية لابد وأن نحدد ما نعنيه بالقناة الخلفية أو القناة السرية. | |||
فصاحب القرار علاوة على الاتصالات التى تقوم بها اجهزته الرسمية سواء كانت اتصالات علنيةأو سرية لتزويده بالحقائق الكافية لإعطاء قراره أوتنفيذه فإن له الحق في أن تكون له قنواته الخاصة التي تتم إما بطريق مباشر معه أو عن طريق غير مباشر مع إحد أجهزته لتزوده بمعلومات ربما لا تكون في متناول أجهزته الرسمية أو ربما لايريد الطرف الآخر لها أن تعرف إلا كما يقال عن طريق الهمس ومن الفم إلى الأذن دون وسيط أو طرف ثالث أو القيام بإجراءات قد تسبب الحروجة للأجهزة الرسمية إن هي قامت بتنفيذها . | |||
هذه القنوات في غاية الأهمية خاصة بالنسبة لطبيعة الصراعات القائمة سواء على المستوى الإقليمي أو المستوى العالمي فهي صراعات يمتزج فيها القتال بالتفاوض ويمتزج فيها الوفاق مع التناقض .وهي علاقات بالتالي معقدة وخطيرة يخشي فيها أن يفلت الزمام مما يحتم هذا الاتصال في حالة الوئام وفي حالة الخلاف . | |||
لأن العلاقات الدولية علاقات مصالح قد يحدث فيها تكامل وقد يحدث فيها تعارض وحينئذ لا يكون الاتصال واجبا بين الأصدقاء فحسب بل هو واجب أيضا مع الأعداء وقد يصل التناقض بين دولتين إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما ولكن هذا لا يمنع أبدا من استمرار الاتصال عن طريق الوسائل المعروفة أحيانا أوعن طريق القنوات الخلفية أحيانا أخرى فهذا أحد ضروريات ممارسة [[السياسة]] . | |||
وهناك فارق كامل بين القناة الخلفية أو القناة السرية وبين العمل السري فالعمل السري يتم من وراء الظهر وهو يدخل في أعمال المخابرات أو الجاسوسية ولكن القناة الخلفية تتم بمعرفة الدولتين أو الأطراف المعنية ويحدد مستواها تبعا لاتفاقها على هذا المستوى . ووجود القناة السرية لا يمنع القيام بالعمل السري فكلاهما وسيلتان ضروريتان في كافة الأحوال أعني في حالة الصداقة والعدواة على حد سواء. | |||
وهناك فارق أيضا بين القنوات الخلفية والأبواب الخلفية فالأخيرة هي علاقات شخصية تتجاوز الأصول الواجبة والتي يمارسها صاحبها في الخفاء وبتكتم شديد وهي لا تدخل في حديثنا من قريب أو بعيد . | |||
ولنأخذ مثلا إحدى القنوات الخلفية الشهيرة وهي ما تعرف بعملية '''"بنسلفانيا"''' وهو الإسم الكودى لبدء الاتصالات السرية بين واشنجطن وهانوى أثناء الحرب الفيتنانية والتي قام بها هنرى كيسنجر حتى بدأت المفاوضات الرسمية في باريس بين الجانبين . | |||
''' | بدأت القناة بداية مثيرة فيمارس عام [[1967]] حينما كان يعمل كيسنجر مستشارا لهنرة كابوت لودج سفير الولايات المتحدة في فيتنام الجنوبيةبناء على موافقة '''"الرئيس لندون جونسون"''' الذي حدد له مأموريته فيالبحثفي موضوع '''"التورط الأمريكي في فيتنام"''' وانتهي كيسنجر إلى قرار وافق عليه الجميع هو الانسحاب من فيتنام مع حفظ الهيئةالأمريكية ولكن كيف يتم ذلك؟ هذه هي المشكلة إذ رفض الجانب الآخر الاتصال رفضا باتا . | ||
إذن كان لابد من الاتصال عن طريق ثالث لإنشاء قناة خلفية بعيدة كل البعد عن القنوات الرسمية... وتم ذلك في الوقت السابق عندما اجتمعت '''"البجواش "''' في باريس وكان من أهم قرارات المؤتمر الاهتمام بمشكلتي الشرق الأوسط وفيتنام مع التركيز على ضرورة بدء الاتصالات لحل مشكلة فيتنام من خلال الحكومة الفرنسية التي تسمح علاقاتها الخاصة بذلك. | |||
وقد اختار '''"ديجول"''' اثنين للقيامبذلك هما '''"ريموند أو براك" و"ماركو فتش "''' وكان الأول على علاقة وطيدة مه هوشي منه الذي تعرف به أثناء ذهابه إلى باريس عام [[1946]] للتفاوض مع الحكومة الفرنسية للحصول على استقلال بلاده وسكن بجوارأوبراك وتصادق الرجلان إلى حد أنهوشي منه عمل كالأب الروحي لأحد أبناء أوبراك . | |||
وسافر الرجلان إلى هانوى ليفتحا باب الاتصال بين الجانبالأمريكي والجانب الفيتنامي إلا أن الجانبالآخر كان يرفض ذلك إلا بشروط فلا يجوز أن يغيب تحت رفع شعارالسلام '''"من هو المعتدي ومن هو المعتدى عليه لأن مجرد رفع هذاالشعار يضع الولايات المتحدة وهانوى على قدم المساواة "''' | |||
واستمر الوضع على ما هو عليه أى اتصال الجانبين عن طريق طرف ثالث حتى تمكن أحد أصدقاء كسينجر من الفرنسيين وأحد المشتركين عام [[1946]] في المفاوضات بين فيتنام وفرنسا ويدعي '''" جان سانتيني "''' من فتح الطريق أمام كيسنجر للإتصال مع '''"إكسوان ثوى "''' وزير خارجية هانوى لتبدأ المفاوضات السرية بين الجانبين دون علم باقي المؤسسات الرسمية إلا بالقدر الذي تحتمه الضرورة | |||
وقبل كلام كثير عن قيام الرئيس [[أنور السادات]] بفتح قناته الخلفية مع وشنجطن عن طريق أجهزة المخابرات في البلدين وهي التي تمت من خلالها تبادل رسائل كثيرة قبل حرب [[أكتوبر]] [[1973]] وبعدها أثارت الكثير من علامات الاستفهام بدأت تلك القناة في فبراير [[1973]] حينما قام '''" رونالد كانرال "''' رئيس مجلس إدارة '''"البيبسي كولا"''' بترتيب لقاء بين حافظ إسماعيل مستشار الرئيس [[السادات]] لشئون الأمن القومي وبينهنرى كيسنجر مستشار الرئيس نيكسون لشئون الأمن القومي أيضا في واشنطن ومن تلك الفترة بدأت هذه القناة الخلفية في العمل بنشاط ومن وراء ظهر الدكتور محمود فوزى رئيس الوزراء. | |||
وقد تممن خلال هذه القناة تبادل أخطر رسائل حددت النتائج التي أفرزتها حرب [[أكتوبر]] [[1973]] .من أخطر الرسائل المتبادلة في تلك الفترة هي الرسالة التي أرسلتها [[القاهرة]] في 7/ 10/ [[1973]] إلى هنرى كيسنجر والتي تقول : | |||
:#إن الاشتباكات التي تحدث حاليا في المنطقة لا يصح أنتثير أى دهشة لدى جميع أولئك الذين تتبعوا الاستفزازت الإسرائيلية المستمرة على الخطوط اسورية أواللبنانية فحسب بل أيضا على الجبهة المصرية وكثيرا ما لفتنا النظر إلى مثل هذه الاستفزازات التي لمتتوقف قط رغم الإدانة الدولية. | |||
:# وعلى ذلك فقد كانعلى [[مصر]] أن تتخذ قرارا بمواجهة أيةاستفزازات إسرائيلية جديدة بالحزم وبالتالي أن تتخذ الاحتياطات الضرورية لكي تواجه أى تصرف إسرائيلي من قبيل ذلك الذي جرى فوق سوريايوم 13 /9/ [[1973]] . | |||
:#المصادمات التي حدثت على جبهة القناة كنتيجة للاستفزازات الإسرائيلية كان المقصود منها من جانبنا أن نطهر لإسرائيل أنه لم يكن يساورنا الخوف أو أنه لا حول لنا ولا قوة وأننا نرفض الاستسلام لشروط تخطيط عدواني يهدف إلى احتجاز أرضنا كرهينة للمساومة . | |||
:#وكنتيجة للاشتباكات فإن موقفا جديدا قد نشأ في المنطقة ولقد كان طبيعيا توقع تطورات جديدة في خلال الأيام القليلة القادمة فإننا نود توضيح إطار موقفنا . | |||
:#إنهدفنا الأساسي لا يزال كما كان دائما تحقيق سلام في الشرق الأوسط وليستحقيق تسويات جزئية | |||
:#إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أوتوسيع مدى المواجهة . | |||
:#وأؤكد لكم مرة أخرى الرسالة التي لابد وأنتكون قدوصلتكم من مستر روكفلر والتي كانت تؤكد على . | |||
::'''(أ)''' إن إسرائيل لابد وأن تنسحب من جميع الأراضي المحتلة . | |||
::'''(ب)''' وعندئذ سنكون على استعداد للمساهمة فيمؤتمر سلام بالأمم المتحدة . | |||
::'''(ت)''' إننا نوافق على حرية الملاحة في مضايق تيران ونقبل كضمان تواجدا دوليا لفترة محدودة . | |||
وبناءعلى ما ورد لكسينجر عن طريق هذهالقناة الخلفية ف وبناءعلى ما ورد لكسينجر عن طريق هذه القناة الخلفية فإنه دعا لجنة الأمن القومي لاجتماع عاجل تم عقده في نفس اليوم ودارت المناقشات داخل اللجنة تحاول تحديد الموقف العربي إلا أن كسينجر قال في ثقة ردا على ما قاله أحد الأعضاء من أنه من الصعب عليه تصور أن [[السادات]] سيبقي على الضفة الشرقية للقناة '''"إن رأيي أنه سوف يبقي هناك "''' إنني أعرف أنه لن يتقدم أكثر من ذلك | |||
'''ويضيف كسينجر في مذكراته:''' | |||
:" إن [[السادات]] حافظ على عهده في اتصالات سابقة بألا يثير الكراهية ضدنا لا خدمة لنا ولكن لأنه لم يكن يرغب في دفعنا أكثر إلى جانب إسرائيل في الخطوات القادمة كانت خطة إنشاء علاقة معنا تجعلنا ليس فقط من الناحية الرئيسية بل من الناحية النفسية وسطاء" | |||
قصدت من هذه الإطالة إظهار هذه القنوات الخلفية في تقرير مصير الدول والشعوب ولم أقصد أبدا تقييم '''"السياسات "''' التي تبودلت خلال هذه القنوات والتي دار عليها نقاش حاد في أجهزة الإعلام المختلفة إذ أن هذا قد يكون له مجال آخر. | |||
هذه القنوات الخلفية تؤدى أدوارا أخطر كثيرا مما تؤديه القنوات الرسمية أو العلنية كما شاهدنا .ٍولكن هذه القناة الأخيرة التيقيل إنها فتحت أيام الرئيس السادات كانت مفتوحة من قبله ومن أيام [[عبد الناصر]] وهذه حقيقة معروفة تثبتها الوثائق الرسمية ولكن كان الرئيس السادات كما كان الحال مع بعض فراعنة [[مصر]] – دائما ما ينسي الماضي أويشوهه وكان في الوقت نفسه ينسب كل شئ إلى ذاته بالحقيقة أو بالباطل. | |||
فتحت هذه القناة في [[يونيو]] [[1969]] بين المخابرات العامة المصرية وبين وكالة المخابرات المركزية في واشنطن ضمن قنوات اتصال متعددة بينالبلدين أقلها كان يتم عن طريق مكتب الإشراف على المصالح ولكن أكثرها كان يتم بطرق خلفية متعددة فبعد قطع العلاقات الرسمية بين البلاد العربية والولايات المتحدة الأمريكية كان الزائرون يتنقلون في زيارات متبادلة يحاولون فيها سبر غور المواقف هنا وهناك وكان تبادل الرسائل قائما . | |||
رسائل تصل ويرد عليها رئاسل تصل ولا يرد عليها إلى أن تطورالأمر إلى وضع أكثر صراحة ورسمية بإنشاءمكاتب الإشراف على المصالح هنا وهناك والتي كانت في الواقع أقرب إلى مكاتب البريد منها إلى الإشراف على المصالح كانت الرسائل الواردة أو الصادرة تصل إليها لتعيد توزيعها على من يهمهم الأمر فمثلا كانت مبادرة روجرز المشهورة عبارة عن رسالة شفهية قرأها '''"برجس"''' المشرف على المصالح الأمريكية في [[القاهرة]] من أوراق مكتوبة كانت في حوزته . | |||
كانت وكالة المخابرات المركزية تلح من جانبها على فتح هذه القناة بعد انتهاء حرب [[1967]] مباشرة وقام بالمحاولة أحد رجال المخابرات المركزية وهو '''"وليم بروميل"''' وكان خبيرا بالشرق الأوسط. وكان الرجل في العراق قبل أن تفجرت ثورة ثموز عام [[1958]] وحضر قيام الثورة هناك وسقوط العرش الهاشمي وإقامة الجمهورية وكان في [[القاهرة]] عام [[1966]] وحضر حرب [[1967]] ومكث فترة بعدها ثم كان في طهران بعد ذلك إلى أن أرسلته وكالته إلى [[القاهرة]] في [[يونيو]] 1969 لتكرار المحاولة . | |||
قام بمحاولته الأولي لفتح القناة الخلفية بعد الحرب مباشرة كما سبق القول ولكن لم تكن الظروف تسمح بذلك على الإطلاق فلم تكن الأمور قدوضحت بعد وكان التركيز كله على إعادة ترتيب المنزل من الداخل كنانبني من جديد بعد النكسة الشديدة التي أصابتنا .ولم يكن في تقديرنا في تلك الفترة أن اتصالا من هذا النوع يمكن أن يعود بنتائج إيجابية من تلك النتائج التي يمكن الحصول عليها عن هذا الطريق . | |||
فالاتهامات ثقيلة بالنسبة لقيام الولايات المتحدة الأمريكية بدورخطير في تدبير العدوان ثم كان موقفها بعد ذلك موقفا معاديا على طول الخط وذهبت في تأييدها لإسرائيل إلى حد بعيد ثم كان في اعتقادنا أن أى حوار مثمر لا يمكن أن يتم إلا من مصدر قوة وكانت قوتنا قد أهدرت في [[سيناء]] وهذا لم يمنع قيام الحوار عن طريق قنوات أخرى كثيرة . | |||
كان الموقف في [[يونيو]] 1969 مختلفا عنه عقب النكسة مباشرة بالنسبة لقبول أو رفض فتح هذه القناة الخلفية.فقد كان الموقف في الولايات المتحدة أصبح جاهزا لذلك من وجهة نظر المخابرات العامة المصرية إذ تبلور الموقف في رأيين داخل الإدارة الأمريكية. | |||
كان الرأى الأول يري الموقف من خلال النظرة التقليدية للسياسة الأمريكية إلى الصراعات الإقليمية إذ تنظر إليها دائما من ناحية انعكاس نتائجها على الصراع القائمين وشنجطن وموسكو على المستوي العالمي وفي إطار هذه النظرة فإن أصحاب هذا الرأي كانوا يرون عدم الإقدام على حل الأزمة بل الاكتفاء بإدارتها إذ أن طول الوقت وامتداده سوف يجعل العرب المؤيدين للإتحاد السوفيتي ينتقلون إلى الجانب الآخر نتيجة ليأسهم من الوصول إلى حل عن طريق مشاركة الاتحاد السوفيتي وترتيبا على ذلك | |||
'''فلقد رفعوا شعارين :''' | |||
: | :'''الشعار الأول''' أنه لا يمكن إيجاد حل عن طريق النظم الثورية أى التي تتعامل مع موسكو بأى حال من الأحوال وكان | ||
:وفي | :'''الشعار الثاني''' أنه لا يمكن للسلاح السوفيتي أن ينتصر على السلاح الأمريكي بأى حال من الأحوال ولذلك فإنه من الواجب الوقوف أمام أى حل سلمي تشترك فيه موسكو وعرقلته وفي نفس الوقت الإمداد المستمر لإسرائيل بالأسلحة المتطورة بحيث يكون التوازن دائما في جانبها . | ||
أما الرأى الثاني فكان ينظر إلى الموقف كنظرة أصحاب الرأي الأول تماما من خلال النظرة التقليدية للسياسة الأمريكية إلى الصراعات الإقليمية أى النظر إليها من ناحية نتائجها ومردودها على الصراع العالمي بين وشنجطن وموسكو ولكنهم كانوا يختلفون في النتائج المترتبة على ذلك . | |||
فبقاء الأزمة دون حل سلمي لها سيوطد العلاقات بين النظم الثورية وبين الاتحاد السوفيتي بل سيتيح للإتحاد السوفيتي الفرصة لكى يمد علاقاته إلى دول أخرى في المنطقة على أساس معاداة واشنطن للأماني العربية مع وقوف الاتحاد السوفيتي مؤيدا لها ثمتأثير عدم الوصول إلى حل نتيجة المواقف الأمريكية سوف يؤثر دون شك على النظم التقليدية في المنطقة والتي على علاقة وطيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية إذ أنها ستجد نفسها في موقف لا يمكن تبريره وأخيرا في الاتحاد السوفيتي مؤيدا لها؛ | |||
ثم تأثير عدم الوصول إلى حل نتيجة المواقف الأمريكية سوف يؤثر دون شك على النظم التقليدية في المنطقة والتي على علاقة وطيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية إذ أنها ستجد نفسها في موقف لا يمكن تبريره وأخيرا فإنه لا يمكن إغفال تأثير بقاء المنطقة دون حل أزمتها الراهنة على المصالح الأمريكية الموجودة خاصة المصالح النفطية ولذلك فإنهم كانوا ينادون بفرض القيد على التسليح الأمريكي لإسرائيل وضرورة فتح الحوارمع النظم العربية على اختلاف معتقداتها. | |||
وبناء على ذلك فإنه كان من صالحنا فتح القناة حتى يمكننا أن نؤثر في الحوار الدائر في وشنجطن فلم يكن من المعقول أن نظل بعيدين عنه وكنا نعتقد بأن هذا لوتم فإنه سيكون حوارا من نوع آخر غير الذي يقوم به الدبلوماسيون بطريقتهم التي تزيد من تعقيد الأمور ولا تحلها خاصة وأن الحوار سيتم بطريقة غير رسمية وفي الوقت نفسه فهو حوار غير ملزم لأى طرف من الأطراف فلا يعقل مثلا أن يتم الحوار بين وزراء الخارجية أوبين رؤساء الدول على أساس شخصي أو غير رسمي علاوة على أن هؤلاء يحاولون أثناءقيامهم بالحوار أن يثبتوا دائما أنهم أكثر لباقة من الطرف الآخر بطريقة حذرة تحسب فيها الكلمات بالموازين الدقيقة . | |||
كانت هذه هي الصورة التي أوضحتها للرئيس عبدالناصر وأنا أعرض عليه رأينا بخصوص '''"فتح هذه القناة الخلفية"''' حينما علمت بوصول '''"وليم بروميل"''' إلى [[القاهرة]] وبعد المقابلات التمهيدية التي تمت بينه وبين بعض المساعدين . | |||
ووافق [[عبد الناصر]] بعد تردد لأن الرجل كان قد فقد ثقته نهائيا في الولايات المتحدة الأمريكية شاكا في نواياها حذرا من تصرفاتها وقد أثبتت الأيام أنه كان على حق في شكوكه وحذره ولكنه وافق على أساس أن المصلحة تقتضي ذلك فليس للعداوة أو الصداقة الكلمة الأولي في ممارسة [[السياسة]] . | |||
وبناء على ذلك حددت موعدا لمقابلة وليم بروميل مندوب وكالة المخابرات المركزية وكان الرجل سعيدا بالمقابلة لأن ذلك في حد ذاته كان يعتبر رسالة لحكومته بأننا رغما عن حماقتها وعداوتها راغبون في الحوار وأننا لسنا كما كتب البعض بعد ذلك مع الأسف الشديد من أنصار غلق أبواب الحوار وسدها. | |||
لقد كان هناك إتفاق عام ومن أول وهلة على ضرورة تحديد الغرض من هذه القناة الخلفية وعلى أن يكون الغرض عند تحديده مثمرا وإيجابيا فكل إنسان في استطاعته إقامة اتصال وعلاقة ولكن أن يكون هذا الاتصال مثمرا والعلاقة إيجابية فهذا شئ آخر . | |||
ولم يكن من المتصور أن يكون الحوار من خلال هذه القناة الخلفية في نطاق التعاون بين جهازى المخابرات في البلدين لأن مفهوم التعاون في هذا المجال بيني على وجود هدف واحد مشترك تسعى الدولتان لتحقيقه كأن يكونمثلا القضاء على نظام ما في دولة أخرى وهنا لابد من اطلاع كل طرف على مالدى الطرف الآخر من معلومات تمكن من تحقيق الهدف المشترك ولم يكن الأمر هكذا بين الدولتين فكل منهما تريد '''"قطع رقبة الأخرى "''' ولكن بفارق رئيسي أن إحدى الدولتين معتدية والأخرى معتدى عليها . | |||
ولم يكن من المتصورأيضا أن تيم الحوار على أساس اختلاف أهداف الطرفين مع عدم تعارضهما أوتصادمهما فإن الأغراض كانت مختلفة ولا يسير هذا الخلاف في خطوط متوازية ولكنها خطوط ولم يكن هناك خلاف على ذلك بين وجهتي النظر إذ يتم الحوارفيهذه المجالات بصراحة كاملة لايترك وراءها شكا أوغموضا . | |||
ولكن بقي جانب واحد يكن الاتفاق على العمل فيإطاره وهو ضرورة وجود استقرار في المنطقة يبني على أساس سلام عادل إلا أن بروميل وهو ينقل رأي وكالته أضاف بعض التوضيحات أن الهدف المشترك لفتح هذه القناة في رأيهم هو إيجاد حل للأزمة العربية الإسرائيلية بدون حرب كذا إيجاد طريقة تتيح للولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى أن تسهم بطريقة ما في تنمية [[مصر]] وكان الرجل قلقا من تزايد العلاقة بين [[القاهرة]] وموسكو وعلى ثقة في الوقت نفسه من أن [[القاهرة]] قد استعادت قدرتها بصورة ملحوظة خلال العامين السابقين . | |||
وتم الاتفاق على أن يكون الغرض هوتبادل وجهات النظر بصورة صريحة ودقيقة قد لا تسمح بها الاتصالات الرسمية الأخرى دون ترديد وجهات النظرالقائمة على أنها منزلة من السماء كما تم الاتفاق على أن يكون ممثلهم هنا هو '''" يوجين ترون"''' الذي أمضي ثلاث سنوات كاملة في سيلان وفي قبلها خدم في لبنان والعراق وقدم اسمه إلى وزارة الخارجية المصرية للحصول على موافقتها لينضم الرجل عند مجيئه إلى مكتب الأشراف على المصالح الأمريكية في [[القاهرة]]. | |||
وتمت الموافقة وحضر '''"يوجين ترون"''' ليتولى مع مندوبنا فتح قناة خلفية جديدة مهد لها '''"وليم بروميل"''' من قبل ...!!وبدأت القناة فيعملها المثير ... ولكن ماذا تم فيها ؟!! وهذا ليس ملكنا فلا يجوز إذنأن نتحدث عنه وأظنه سيبقي كذلك لوقت طويل قادم. | |||
كانت هذه القناةإذن قناة غير مباشرة للرئيس [[عبد الناصر]] بين جهازين سريين على قرب من دائرة اتخاذ القرار ومؤثرين فيه وبالرغم من كل ذلك فإن الحوار غير ملزم . وكان الحوار يسجل وبدقة ويرفع للرئيس أولا بأول ليعطي فيه توجيهاته . | |||
''' | وقد فتحت قنوات خلفية قبل ذلك بواسطة أفراد عديدين ربما مع وكالة المخابرات المركزية وربما مع غيرها ولكن البعض من هؤلاء أداروا '''"القناة الخلفية"''' لحسابهم أو ربما لحساب '''"الوكالة "أو " لغيرها "'''.... البعض من هؤلاء '''"سقط"''' والبعض الآخر كان أذكي من أن '''"يسقط"''' | ||
واستمرت هذه القناة الخلفية من العمل حتى بدأ الرئيس أنور السادات في استخدامها وهنا تحولت القناة إلى قناة ملزمة إذ كان على أحد طرفيها قمة القيادة السياسية وعلى الطرف الآخر بعض أفراد من الحلقة الداخلية وتحولت بالتالي إلى قناة تبحث عن أى حل وبأى ثمن بدلا من أن كانت وسيلة تحاول أن تضغط وتؤثر على الطرف الآخر . | |||
وهنا يمكن أن تكون هذه القناة الخلفية قناة '''" قديمة " و" جديدة"'''!! '''"قديمة"''' في نشأتها ولكنها '''"جديدة"''' في هدفها وأسلوبها ..ولذلك فإن من يقول إنها '''" قناة قديمة"''' فهو صادق .ومن يقول إنها '''"جديدة"''' فإنه لا يتجاوز الحقيقة . | |||
موضوع آخر لم أتحدث عنه من قبل كسابقه إلا بعد أن رأيت أن البعض تحدث فيه وصوره على غير حقيقته وهو موضوع الاتصالات التي تمت مع '''"ناحوم جولدمان"''' وقبل أن نبدأ الحديث عن الموضوع نقرر أن هذه الاتصالات لا تدخل إطلاقا ضمن ما يطلق عليه '''"قناة خلفية"''' أو غيرها . | |||
إذ كانت العملية كلها عملية مخابرات بحتة مما يدخل في نطاق '''"الحصول على معلومات"''' كذا من ناحية '''"العمليات الإيجابية"''' التي تقوم بها أجهزة المخابرات وهذا غير ما صورت به هذه الاتصالات سواء في وسائل النشر الداخلية أو الخارجية . | |||
إذ أن العملية عملية '''"مخابرات بحتة"''' قام بها جهاز المخابرات العامة المصرية وأى حديث غير هذا لا يستند إلى الواقع وللدلالة على أن هذه الاتصالات لمتكن في إطار '''"القنوات الخلفية"''' التي نتحدث عنها نعرف القارئ أولا '''"بناحوم جولدمان"''' | |||
ولد ناحوم في لتوانيا في 10 /7/1895 وبعد ولادته بفترة ست سنوات لحق بأبويه اللذين هاجر إلى فرانكفورت وتركاه في رعاية جده لأمه وبذلك فإنه ولد في أوروبا الشرقية وترعرع في أوروبا الغربية والتحق بالحركة الأرثوذكسية الهيودية وهي حركة محافظة كانت تنادى بابتعاد [[اليهود]] عن الثقافات الأجنبية حتى لا يذوبوا في غيرهم من الشعوب وطوال دراسته الثانوية كان لا يكف عن الدعاية للحركة الصهيونية عن طريق إلقاء المحاضرات وكتابة المقالات بل بلغ من حماسته أنه كان يتصدى للمبشرين البروتستانت الذين اعتادوا التبشير في الأوساط اليهودية الفقيرة لتعميدهم نظير مغريات مادية . | |||
ثم التحق بجامعة هيدلبرج ليدرس القانون ولم يكن جولدمان طالبا مواظبا بل كان كثير التغيب عن دراسته لإنشغاله بملذاته وبنشاطه الصيوني ولذلك فإنه كان يستعيض بمن يلخص له دروسه رجاء أجر زهيد عن هذا التغيب لينجح بأى ثمن واجتاز الامتحان ثم تقدم للحصول على الدكتوراه وأعد رسالته بتجميع عدد من مقالات كان يكتبها فيإحدى المجلات بعد أن أضاف إليها بعض الدراسات القانونية !!! | |||
ولدهشته قبلت الرسلة وأصبح '''"الدكتور جولدمان"''' حاملا للقب العلمي المرموق وفيتلك الفترة تكونت شخصيته الصهيونية على أساس محاربة '''"الاندماج"''' أى اندماج [[اليهود]] مع غيرهم من الديانات وعلى أساس العلاقة الحتمية بين يهود المنفي ويهود الوطن أن حياة المنفي ضرورة لاستمرار [[اليهود]] على الأرض . | |||
فلا يمكن لأرض الميعاد أن تستغني عن يهود المنفي والرجل كان وراء عدة مشروعات صهيونية فقد كان من مؤسسي '''" دائرة المعارف اليهودية"''' وأصدر منها عشرة أجزاء باللغة الألمنية وكان وراء موضوع التعويضات الألمانية لإسرائيل والمشرف الوحيد على المفاوضات التي دارت بخصوصها حتى وقع الاتفاق في 10 /9/ [[1952]] في لكسمبورج وقد وقعها اديناورمستشار المانيا الاتحادية وموشي شاريت وزير خارجية إسرائيل وناحوم جولدمان نيابةعن [[اليهود]] | |||
وكان من نتيجة هذه الاتفاقية أن دخل الخزانة الإسرائيلية ستون مليون مارك علاوة على بلايين أخرى حصلت عليها إسرائيل لتعويضات وهمية وهو يدين بمبدأ أن مالا يمكن الحصول عليه بالعنف يمكن تحقيقه عن طريق [[السياسة]] والتحايل وعاد بعد إنشاء الدولة يعبر عن رأيه في الصراع العربي الإسرائيلي بأنه صدام بين حقين ولذلك فإن لكل من العرب واليهود حقا في أرض [[فلسطين]] . | |||
''' | ويتضح من هذه المعلومات أن أهداف '''"جولدمان"''' [[الصهيونية]] لا شك فيها ولكنه كان يؤمن ب[[السياسة]] والتحايل لتحقيق الأغراض الصهيونية وتثبيتها إذ أن استخدام القوة بصفة دائمة في سبيل تحقيق ذلك فيه خطر على إسرائيل وهذا حق تؤيده أحداث التاريخ . | ||
والرجل أيضا كما رأينا كان لا يأخذ الحياة بمحمل الجد خاصة بعد أن عاش في الخارج ولم يرض بالعيش داخل إسرائيل لا قبل نشأتها ولا بعد نشأتها وإن كان لا يتردد في تقديم أى خدمة يراها واجبة في سبيلها بالصورة التي يرضاها وتتفق مع أفكاره. | |||
ثم كان الرجل بعد أن استكان إلى حياة الدعة والراحة يميل إلى إعطاء نفسه صورة على غير حقيقتها وكانت حياته فخمة سواء في شقته في باريس أو محل إقامته في واشنطن حيث دأب على التنقل بين دول أوروبا والولايات المتحدة يسهل له ذلك موارده المالية الكافية الميسرة. | |||
وبالرغم من أنه كان بعيدا عن السلطة في إسرائيل وبالرغم من أنه لم يكن ذا تأثير على القرار الإسرائيلي بأية صورة من الصور إلا أن كثرة اتصالاته مع الشخصيات العالمية والإسرائيلية ووكثرة تنقلاته في أنحاء العالم ولخبرته التي لا شك فيها نتيجة لتاريخه السياسي الطويل .. | |||
'''كل ذلك جعل الاتصال به من ناحيتنا عملا مفيدا ولابد أن نوضح بدقة طبيعة هذا الاتصال:''' | |||
:#فلا يمكن أننعتبر مجرد اتصال يتم مع شخصية كشخصية '''"الدكتور جولدمان"''' عبارة عن فتح '''"قناة خلفية"''' فيحدود المفهوم الذي سبق وحددناه إذ لو كانت الحاجة تدعو إلى فتح هذه القناة مع إسرائيل لكان الأجدى فتحها مباشرة على الكثيرين ممن لهم سلطة اتخاذ القرار أو التأثير في اتخاذه وهم كثيرون علاوة على توفر الرغبة الملحة في ذلك . | |||
:# ولا يمكن تصورأن الاتصال الذي قمنا به معه عن طريق غير مباشر أن الرجل كان يعرف ذلك أوحتى كان يرحب به بل هو اتصال عادى مع رجل من المصلحة أن نتصل به في غير نطاق عمل رسمي أو سري . | |||
:#لم يكن الاتصال مع الدكتور جولدمان أيضا بقصد أهداف سياسية أو القيام باتصالات سياسية أوالتمهيد لها كماذكرفي بعض الروايات إذ لم يكن الرجل في وضع يمكنه من ذلك . | |||
''' | '''كان الغرض من الاتصال بالرجل دون أن يعرف أو يحس بذلك والذي حددناهلمن كلفناهم بهذه الاتصالات ينحصر في الآتي ..''' | ||
: | :#الحصول على أكبر قدرممكن عن إسرائيل ثم إعادة تقييمها بواسطة المختصين في مرحلة تالية | ||
:#مده ببعض المعلومات والاتجاهات مع التأكد أنه سينقلها إلى الطرف الآخر خدمة لأهدافنا دون أن يقصد ذلك أو يدرى به . | |||
:#وتطور الموقف بعد ذلك كما سنرى ليكون الغرض إحداث زغزغة أو فرقعة داخل الائتلاف الحاكم في إسرائيل بعد أن أثارت الصحافة العالمية بما عرف '''" بمسألة جولدمان "''' في ذلك الوقت . | |||
ولم تكن المعلومات التي حصلنا عليها بطريق غير مباشر من الدكتور جولدمان بذات قيمة حقيقة إذ كانت في بعض الأحيان ناقصة وعامة وفي أحيان أخرى تنقصها الدقة سواء في مجالات المعلومات السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية إلا أن القيمة الحقيقة بالنسبة لهذا الرجل كانت تتمثل في معرفته الدقيقة بالتيارات السياسية داخل إسرائيل وبالعوامل المعقدة التي تتحكم في الحياة السياسية فيها في إطار إيمانه بضرورة إيجاد مصالحة بين إسرائيل والبلاد العربية وبصفة عامة وبينها وبين [[القاهرة]] على وجه الخصوص أما كنه هذه المصالحة فلم تكن واضحة إطلاقا في أحاديثه . | |||
كان الرجل يكرر في معاملاته المتعددة التي كانت تصل إلينا بين الحين والحين أنه يريد أن تدعوه [[القاهرة]] لزيارتها.وكان يؤمل كثيرا في نتائج هذه الزيارة .كان اقتراحه هذا نابعا من رغبتين متنازعين . | |||
رغبة حقيقية في المساهمة في حل الأزمة التي كان يعتقد بخطرها على إسرائيل أو على حد قوله أنه يريد إبعاد إسرائيل من نفسها ورغبة شخصية بتطلعه إلى العودة إلى الأضواء مرة أخرى إن تحققت رغبته تلك إذ سيكون لو تمت الزيارة أول يهودى على هذا المستوى يكسر حاجز الاتصال مع [[مصر]] أكبر الدول العربية جميعا. | |||
ولم ترد [[القاهرة]] أبدا على هذا الاقتراح بالرفض أو القبول كان الرجل يتحدث حديثا عاديا وكان المستمع له يسمع ما يقول دون أن يعلق .ولما طال الوقت بالدكتور جولدمان شد رحاله إلى إسرائيل ليجس النبض بخصوص أفكاره.وما هو ردالفعل الذي يمكن أن يحدث لو تحققت هذه الأحلام ؟!! | |||
وفعلا سافر الرجل في اوائل [[1970]] ربما في أبريل أو [[مايو]] هذا العام إلى إسرائيل حيث بدأ اتصالاته مع رجال الائتلاف الحاكم وحصل على موافقه إبا إبيان وموشي دايان وزيرا الخارجيةوالدفاع على التوالي بصفة شخصية وفردية؛ | |||
وحينما اتصل بجولدا مائير رئيسة الوزراء في ذلك الوقت وطلب رأيها في زيارته [[القاهرة]] لو دعي إليها أجلت إبداء الرأي حتى ترجع إلى الحزب للإستشارة برأيه وقد انزعج '''"جولدمان "''' من موقف جولدا مائير هذا وحذرها من الرجوع إلى مجلس الوزراء لأخذ رأيه فيهذه المرحلة لأن الخبر سيتسرب دون شك إلى الصحافة وهنا ستكون الكارثة قد حلت بكل آماله . | |||
كنا على علم بهذه التطورات وكانت الأمور تسير حسب ما نرجو ونأمل وفعلا عرضت جولد مائير موضوع زيارة جولدمان إلى [[مصر]] على مجلس الوزراء وإن لم يكن قد وافق أو اعترض عليها أحد واتخذ المجلس قرارا بعدم الموافقة على الزيارة ولم يكن القرار بالإجماع بل وافق البعض على ذلك بينما كان عدد من الغائبين عن الاجتماع أيضا لا يعترضون على إتمامها.وتسرب لخبر إلى الصحافة وأذيع على العالم أجمع وكانت فرقعة لها دوى . | |||
قامت المظاهرات في بعض المدن بعضها يؤيد الزيارة والبعض الآخر يعارضها ومقالات في الصحافة مؤبدة وأخرى معارضة بل وفي أثناء اجتماع عقد في جامعة تل أبيب حضره جولدمان نفسه أخذت الأصوات على الزيارة التي لم يدع إليها بعد فكانت النتيجة : 118 مؤيدون للزيارة ,90 معارضون لها 16 امتنعوا عن التصويت. | |||
وهوجم جولدمان من البعض بأنه رجل لا يعرف إسرائيل فهو يعيش خارجها وبالرغم من ذلك كان جولدمان سعيدا بزيارته لإسرائيل بعد إعادته إلى الأضواء من ناحية وجعلته يلمس بنفسه أن إحساسه بأن كثيرا من الشباب الإسرائيلي قد زهد الحرب والقتال كان على أساس وكان يردد في سعادة تامة أن نفس الشعارات التي كان الشباب يهتف بها '''"إلى المطبخ يا جولدمان إلى [[القاهرة]] يا جولدمان "'''. | |||
وحتى بعد وصول الموقف إلى ما وصل إليه كان جولدمان يأمل أن تصله يوما دعوة من [[القاهرة]] لزيارتها وأن حدث ذلك فإن إصدار بيان بعد إتمامها سوف ينتج عنه تأثير حقيقي داخل إسرائيل يؤدي إلى إحداث تمزق في الائتلاف الحكومي القائم الأمر الذي يعتبر الركيزة الأولي في تغيير الموقف المشدد للحكومة الإسرائيلية . | |||
كان الرجل ما زالمتعلقا بأمل صنعه بنفسه ولنفسه وظل مسيطرا عليه لفترة طويلة كان يريد أن يحيط نفسه بهالة الماضي وكان يردد أمام زائريه قصصا فيها مبالغة ولا ينقصها الخيال . | |||
كان يتحدث مثلا عن دعوة وجهت إليه من '''"تيتو"''' رئيس يوغوسلافيا لزيارة بلغراد ليمضي من زيارته المأمولة إلى [[القاهرة]] وعن موافقة [[عبد الناصر]] على إتمامها بشرط أن تكون علنية وبعد موافقة الحكومة الإسرائيلية نفسها ولكنه لم يكن قادرا على تفسير السبب الذي توسط من أجله [[عبد الناصر]] صديقه تيتو في هذا الأمر ؟ ولم لا يتم العرض مباشرة ! | |||
وكان | وكان يتحدث عن محاولات يقوم بها الاتحاد السوفيتي لدعوته إلى موسكو بعد معرفة مواعيده المتاحة وأنه ما زال يفكر في قبو الدعوة أو الاعتذار عنها لمشغولياته المتعددة . | ||
وكان يتحدث عن زيارته للولايات المتحدة للتأثر على الزعماء [[اليهود]] هناك لعلهم يفهمون موقفه حتى رسائله والتي قدم إحداها إلى أحد الصحفيين المصريين الكبار يطلب فيها دعوته لزيارة [[مصر]] كانت تكتب على ورق مصقول مطبوع عليه بالخط البارز '''"الدكتور جولدمان "''' | |||
''' | وبمناسبة الحديث عن الصحفيين لابد أن نذكر الخدمات التي أدها أحدهم وقت أن كان يعمل في '''"روز اليوسف"''' فقد كان أحد المتصلين بالدكتور جولدمان وبغيره عن طريق المخابرات العامة وهناك محاولات كثيرة لفتح " القنوات الخلفية كانت تتم بين وقت وآخر ولكنها جميعا كانت تقابل بالرفض. | ||
فالمخابرات الايطالية في ذلك الوقت وكانت تحت رئاسة الأدميرال '''"هانكي"''' عرضت فتح قناة كفلت لها كل عوامل السرية إلا أن المحاولة قوبلت بالرفض . | |||
و'''"ليوهامو"''' مدير الاستعلامات الفرنسي والناطق الرسمي باسم الحكومة الفرنسية والمعروف بميوله لإسرائيل حاول عقد لقاء بين مسئولين في [[مصر]] وإسرائيل على أى مستوى بصفة سرية وتحت إشراف الحكومة الفرنسية إلا أن المحاولة قوبلت بالرفض أيضا ومحاولات أخرى كثيرةتمت ولكننا لا يمكن أن نحكي تفاصيلها. | |||
السبب الذي من أجله حكينا '''"قصة جولدمان"''' إن البعض حكاها يحاول أن يخلق منها بطولة والأمر خلاف ذلك كما رأينا / اتصال عادى مع رجل لم يكن في الإمكان تجاهله لتحقيق أغراض واضحة تحققت كلها دون أن يكون الأمر في حاجة إلى بطولة أو ابطال . | |||
===الفصل الحادي عشر:إستراتيجية [[عبد الناصر]] في البحر الأحمر === | |||
يحدد الواقع الجغرافي للبحر الأحمر أهميته القصوى المستمرة بالنسبة للسياسة المصرية منذ القدم وليس أدل على ذلك أنه سمي في الأزمنة السحيقة بالحر الفرعوني قبل أن يسمى بعد ذلك ببحر العرب وبحر القلزم ثم البحر الأحمر وأن بطليموس أنشأ مواني على سواحله الغربية كما أنشأ البطالمة الطرق البرية التي تربط مواني البحر الأحمر بوادي النيل ثم قام محمد على ومن بعده إسماعيل ببناء المواني العديدة على سواحله جنوبا والتي ما زالت قائمة حتى الآن . | |||
'''وتضاعفت الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر في وقتنا الحالي لأسباب عديدة أهمها :''' | |||
:#فهو قناة وصل بين البحار المفتوحة في المحيطين الأطلنطي والهندي عبر البحر المتوسط المقفول وقناة [[السويس]] والبحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن فالمحيط الهندي وتتزايد أهميته تلك في ضوء إعادة التوزيع الاستراتيجي للقوات المتضادة عقب [[الحرب العالمية الثانية]]. | |||
:#وهو المتحكم في مخارج ومداخل البحر المتوسط والخليج العربي فأى تحرك في البحر المتوسط لابد وأن ينتهي إلى البحر الأحمر عبر قناة [[السويس]] كما أن أى تحرك في الخليج العربي إلى أوروبا لابد أن ينتهي بالضرورة إلى البحر الأحمر عن طريق مضيق هرمز خليج عمان المحيط الهندى باب المندب . | |||
:#ويعتبر بمثابة خط أنابيب لنقل البترول الخام من مناطق إنتاجه في الخليج العربي إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وتعتمد أوروبا الغربية على البحر الأحمر في نقل احتياجاتها من بتورل الخليج بنسبة 100% كما أن إسرائيل كانت تعتمد حتى أواخر الستينات والسبعينات بنفس النسبة على نقل احتياجاتها البترولية من إيران أيام حكم الشاة محمد رضا بهلوى إلى البحر الأحمر ثم إيلات ثم إلى أسدود عبر خط أنابيب إيلات أسدود وبذلك فإن للبحر الأحمر أهميته الكبرى بالنسبة للأمن العربي والأمن الإسرائيلي والأمن العالمي . لأنه إن كان الخليج العربي يعتبر مركز ثقل في الإستراتيجية الاقليمية والعالمية من ناحيته الاقتصادية فإن هذا الثقل يعتمد على باب المندب والبحر الأحمر وقناة السويس منناحية النقل والتسويق . ولو توقفت الحركة عبر البحر الأحمر في أى جزء من أجزائه فإن نتائج خطيرة تترتب على ذلك إذ تجف معامل التكرير في ميناء روتردامويجف تبعا لذلك خط الأنابيب روتردام الراين الذي يصل روتردام بأحواض الروهر الألمانية ثم فرنكفورت .كذا يجف خط أنابيب روتردام بلجيكا فرنسا وبالتالي ينقطع مرور البترول إلى أوروبا الغربية عن طريق خط الأنابيب '''"سوميد"''' الممتد من السحنه على البحر الأحمر إلى شواطئ البحر المتوسط الجنوبية وهذا هو الحافز الحقيقي وراء موافقة الدول الأوربية الغربية على خط غاز سيبريا رغما عن اعتراضات الولايات المتحدة الأمريكية .ولذلك فإنني مع الذين يعتبرون أن منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر منطقة إستراتيجية واحدة لا يمكن الفصل بينهما من الناحيتين الاقتصادية والإستراتيجية فإحداها وهي منطقة الخليج منطقة إنتاج النفط والمنظفة الأخرى هي منطقة خطوط المواصلات لنقل هذا الإنتاج إذن فهذا الاعتماد المتبادل يخلق نظرة إستراتيجية واحدة للمنطقتين . | |||
:#ثم بالنسبة للتحركات الإستراتيجية والاقتصادية فإن البحر الأحمر يلعب دورا خطيرا من ناحية عامل الوقت والمسافة فهو يوفر الوقت والوقود إذا قورن بالمرور عن طريق رأس الرجاء الصالح لأنه إذا كانت المسافة من ميناء '''"نورما نسيك"''' السوفيتي على بحر البلطيق إلى المحيط الهندى عن طريق رأس الرجاء الصالح 12,000 ميل فإنها من مواني البحر الأسود إلى المحيط الهندي عبر قناة [[السويس]] لا تتجاوز 3000 ميل ولذلك نجد أن الولايات المتحدة كانت راضية عن استمرار قفل القناة جعل مساعدة الاتحاد السوفيتي لفيتنام الشمالية صعبة للغاية ولم يترك أمامها إلا الطريق البرى عبر الصين الشيوعية وهو أطول ويتعرض إلى ضغوط سياسية. | |||
'''وبالرغم من هذه الأهميات التي تعتبر عامة بالنسبة للسياسة العالمية والتي يجب وضعها في الحسبان عند "التخطيط الاستراتيجي المصري " إلا أن هناك اعتبارات خاصة بالنسبة لنا تضاعف من أهميته:''' | |||
: | |||
:#فالبحر الأحمر متاخم لكيانات سياسية محل اهتمام [[مصر]] ولها معها علاقات:[[اليمن]] الشمالي و[[اليمن]] الجنوبي و[[السعودية]] على الساحل الشرقي للبحر الأحمر وجيبوتي وأثيوبيا و[[الصومال]] و[[السودان]] على ساحلة الغربي . | |||
:#وهو أيضا قريب للكثير من المناطق الحساسة ل[[مصر]] فهو قريب من '''"منابع النيل وروافد"''' التي تمد [[مصر]] بالمياه وينظم ذلك اتفاقيات دقيقة لدول حوض نهر النيل ثم يؤثر ويتحكم كما سبق أن قلنا في منطقة أخرى تشبه منطقة حوض النيل وهي منطقة الزيت في الخليج و[[السعودية]] والتي تعتبر بمثابة منطقة المنبع التي تنقل إنتاجها عبر منطقة خطوط مواصلات خطيرة أهمها البحر الأحمر. هذه الأهمية وهذا التحكم دعت '''"مانشين أوماتزيني"''' وزير خارجية إيطاليا في القرن 19 يقول '''"إن مفاتيح البحر المتوسط تقع في البحر الأحمر"''' وهو ما نسميه '''"بخطة ما تزيني ذى الذراع الواحدة"''' إذ كان من رأيه وهو رأى صواب أنه يمكن لأى قوة تسيطر على سواحل البحر الأحمر الغربية أن تندفع غربا خلال كردفان ودارفور من السودان ليتصل بمناطق نفوذ لها على ساحل البحر المتوسط في حركة التفاف كبرى تهدد بها مركز ثقل المنطقة كلها وهي [[مصر]] وفي الوقت نفسه تتحكم في السواحل الجنوبية للبحر المتوسط وبالمثل فإن أية قوة تتحكم في سواحله الشرقية أو جزء منها كما يحاول الاتحاد السوفيتي الآن يمكنها أن تندفع شرقا إلى منطقة الخليج الحساسة لتتصل بمناطق نفوذ لها في الشرق في حركة التفاف واسعة إلى بحر قزوين هذه الخطة نسميها '''" الخطة ذات الذراعين "''' ذراعها اليسري هي '''" ذراع خطة ما تزين "''' بالارتكاز على أثيوبيا في البحر الأحمر و[[ليبيا]] في المتوسط أما ذراعها اليمني من [[اليمن]] الجنوبي مرتكزة على عدن إلى [[أفغانستان]] أما الولايات المتحدة فتحاول كسر الذراعين وتمنعهما من إتمام حركة '''"الكلمات الكبيرة "'''. | |||
:#ويطل البحر الأحمر على الأرض التي يوجد بها الأماكن المقدسة للمسلمين وتقوم السفن بنقل الحجاج عبر البحر الأحمر من ميناءى [[السويس]] وسفاجة إلى ميناء جدة وهي الميناء البحري لمكة مكان الكعبة التي يحج إليها المسلمون من كافة أنحاء العالم وقبل أن تصبح السعودية دولة بترولية كانت [[مصر]] ترسل '''"كسوة الكعبة"''' وتمدها بمساعدات كبيرة في مجال التعليم والطب ونشر الدين واستمر ذلك إلى وقت قريب. | |||
:#ثم العلاقات التاريخية بين العرب بوجه عام و[[مصر]] بوجه خاص بالدول الإفريقية ويمكن أن يقال إن [[مصر]] كانت قد تمكنت في منتصف القرن الماضي من تحقيق أقصي إتساع لعمقها بالامتداد إلى السودانومنه جنوبا حتى المناطق الشمالية من بحيرة فيكتوريا وبالسيطرة على كل الساحل الغربي للبحر الأحمروالامتداد منه إلى الجانب الأفريقي مضافا إليها ولو لفترات محدودة [[السعودية]] و[[اليمن]] في الشرق وسواحل [[الصومال]] المطلة على المحيط الهندى لدرجة أن صمويل بيكر كتب الآتي '''"لا شك أن [[مصر]] وحدها هيالتي تستطيع أن تدخل الحضارة إلى أفريقيا النيلية بإنشاء حكومة نظامية فيها وبذلك تضمن حماية الرحالة والسائحين في تلك الجهات وتفتح أواسط إفريقيا للحضارة والعمران ويكفي دليلا على ذلك أن السائح الأوروبي أصبح في مقدروه أن يجوب الأماكن البعيدة التي امتد إليها الحكم المصري دون أن يخشي على نفسه أكثر مما كان يخشاه من سيره عند غروب الشمس في حديقة هايدبارك"''' | |||
:# وإسرائيل التي فرضت نفسها في المنطقة أضافت إلى اهتمامات [[السياسة]] المصرية بالبحر الأحمر إذ أصبحت كل من القومية العربية والقومية [[الصهيونية]] وجها لوجه وكانت إحدى صور المواجهة تتم في خليج العقبة والبحر الأحمر إذ بدأت إسرائيل في إنشاء إيلات لاتخاذها قاعدة لاختراق إفريقيا بمساعدة الدول الاستعمارية عن طريق التمثيل الدبلوماسي ثم عن طريق التبادل التجارى خاصة وأن قناة السويس كانت مقفولة أمام الملاحة الإسرائيلية فركزت إسرائيل على البحر الأحمر للوصول إلى دول شرق افريقيا ووسطها ولحليفتها جنوب إفريقيا . | |||
'''الموقف عند قيام ثورة يوليو في منطقة البحر الأحمر''' | |||
'''كان الموقف عند قيام الثورة معقدا غاية التعقيد مليئا بالمشاكل الخطيرة والتحديات الكبرى:''' | |||
:#فعلي امتداد قناة [[السويس]] المدخل الشمالي للبحر الأحمر كانت هناك القاعدة البريطانية التي قدر عدد القوات التي كانت تتمركز فيها لبما لا تقل عن 80,000 مقاتل وكانت تشمل علاوة على ذلك بعض المطارات والمخازن المليئة بالمعدات والأسلحة وقد اكتسبت القاعدة البريطانية صفةالشرعية بعقد معاهدة [[1936]] والتي رضي بها أغلب الأحزاب التي كانت قائمةفي ذلك الوقت في عام [[1951]] كانت المعاهدة قد فقدت هذه الشرعية بعد أن ألغتها حكومة الوفد.وبالرغم من هذا الإلغاء القانوني لمعاهدة وبالرغم من الصدامات الدامية التي وقعت بين المصريين والبريطانيين على المستويين الرسمي والشعبي إلا أن القوات الأجنبية تشبشت بمواقعها في القناة وعلاوة على أن منطقة القناة كلها كانت قاعدة لقوات أمنية فإن القناة نفسها كانت تدار بواسطة الاحتكارات الأجنبية ممثلة في شركة قناة [[السويس]] التي كانت تستولي على إيراداتها فيما عدا حصة ضئيلة لا تتجاوز المليونين من الجنيهات تعطي للحكومة المصرية وكانت هذه الشركة وبحق دولة داخل الدولة . | |||
:#وكانت إسرائيل قد وطدت أقدامها في [[فلسطين]] المحتلة وأخذت تعزز مواقعها في خليج العقبة لتتخذ من البحر الأحمر شريانا للاتصال بالدول الأفريقية وتعويضا لها عن قفل قناة [[السويس]] أمام ملاحتها وكان الوضع الاستراتيجي لإسرائيل خطيرا للغاية إذ قسم ولأول مرة البلاد العربية جغرافيا بعد أن كانت هذه البلاد تشكل كتلة إستراتيجية واحدة وقد تم لها ذلك حينما استولت على النقب ثم على أمر رشرش التي حولتها بعد ذلك إلى ميناء فإن الثورة ورثت مشكلة [[فلسطين]] ولم تصنعها . | |||
:#كان [[السودان]] ما زال تحت الحكم الثنائي المصري البريطاني من الناحية الشكلية إذ كان الحكم بريطانيا .وبالرغم من أن الملك كان قد اتخذ لنفسه لقب [[مصر]] و[[السودان]] و[[دار فور]] بالرغم من أن الأحزاب كانت تنادى بضم [[السودان]] إلى [[مصر]] ,وبالرغم من أن بعض القوات المصرية كانت موجودة في الخرطوم وجبل الأولياء وبورسودان إلا أن بريطانيا كانت هي التي تحكم وتقرر . | |||
:#أما [[الصومال]] الذي يعتبر همزة بين عرب إفريقيا وزنوجها في الشرق فكانت تحت وصاية الأمم المتحدة والإدارة الإيطالية وكان الأمم المتحدة قد أنشأت هيئة تابعة لها هي '''" المجلس الاستشاري "''' منذ عام [[1950]] مكونة من مندوبين عن [[مصر]] وكولومبيا والفلبين بقصد الإشراف على الإدارة في الصومال والتأكد من تطوير البلاد نحو الاستقلال خلال فترة تنتهي عام [[1960]] وكان وجود [[مصر]] في هذا المجلس شكليا قبل الثورة فلم يكن لدى [[مصر]] الرغبة أوالقدرة على الاصطدام بالمصالح الاستعمارية من أجل تحقيق آمال القوى الوطنية في [[الصومال]].أما الحبشة تحت حكم الامبراطور العجوز هيلاسلاسي فكانت تحاول توسيع أراضيها في شرق إفريقيا في ظل حكم رجعي متأخر يقع تحت وهم تمثيله للقاعدة المسيحية الوطيدة في أفريقيا يقف حارسا أمينا ضد الانتشار الإسلامي في القارة . | |||
:#أما إلى الساحل الشرقي للبحر الأحمر كانت هناك [[السعودية]] و[[اليمن]] يعيشان في ظل حكم رجعي استبدادي يستند إلى طريقة حكم القرون الوسطي أما عدن فكانت قاعدة بريطانية كبرى وبذلك كانت بريطانيا تتحكم في المدخل الشمالي للبحر الأحمر عن طريق قاعدة قناة [[السويس]] وتتحكم أيضا في مدخله الجنوبي وهو باب المندب عن طريق قاعدتها في عدن ثم كانت في نفس الوقت تتحكم في منطقة الخليج بقواعد هناك.وكانت هذه الأوضاع تتناقض مع مبادئ الثورة الوليدة وتقيد تحركاتها بعد أن وضحت سياستها في تحقيق الاستقلال وتطهير أراضيها من القوات الأجنبية وعدم الدخول في أحلاف تدخلها إلى مناطق النفوذ وأن [[مصر]] لا تستطيع أن تعيش وحدها إذ تعتبر الثورة نفسها جزءا من ثورة التحرر الوطني في العالم بوجه عام والتحرر العربي بوجه خاص وكان هذا إيذانا بالتصادم الذي استمر لسنوات قادمة. | |||
'''النظرة الاستراتيجية للثورة المصرية للبحر الأحمر''' | |||
كان البحر الأحمر ومن اللحظة الأولي له مكانته الهامة في [[السياسة]] المصرية كما يتضح من التفاصيل التالية : | |||
'''منطقة قناة [[السويس]] ''' | |||
إذا كان البحر الأحمر يؤثر في قناة [[السويس]] إيجابيا وسلبيا فإن قناة السويس تؤثر في البحر الأحمر تأثير خطيرا ومباشرا فالقناة أنبوب يصل بين بحيرتين مقفولتين تسيطر البلاد العربية على إحداهما بالكامل وهو البحر الأحمر وتسيطر على الأخرى وهي البحرالمتوسط من ساحليه الجنوبي والشرقي وموضع [[مصر]] منهذا الوضع '''"الجيوبوليتيكي"''' يؤكد أنها هي المنطقة الحاسمة في أية مواجهة بين القومية العربية وأعدائها وهذا هو قدر [[مصر]] شاءت أم أبت . | |||
كان هذا في الماضي وسيظل أيضا في الحاضر والمستقبل وأية محاولة للتقليل من هذا الدور أو احتوائه تهدف إلى احتواء المنطقة العربية كلها والسيطرة عليها وإذا كانت [[مصر]] هي خط الدفاع الأول عن القومية العربية فإن [[سيناء]] التي يجددها خليج العقبة شرقا وخليج [[السويس]] وقناة [[السويس] هي الأرض الحيوية فيالمنطقة الدفاعية عن [[مصر]] التي تكون دائما هدفا للمعتدي | |||
''' | '''وتكتمل هذه النظرة في الإطار الآتي:''' | ||
* من يسيطر على فلسطين يهدد [[سيناء]] . | |||
* ومن يسيطر على [[سيناء]] على قناة [[السويس]] . | |||
* ومن يسيطر على القناة سيطر على [[مصر]] وعلى البحر الأحمر . | |||
* ومن سيطر على [[مصر]] سيطر على العرب . | |||
'''منطقة خليج العقبة''' | |||
إذا نظرنا إلى الفاصلين المائيين اللذين يشقان الساحة العربية وهما الخليج العربي والبحر الأحمر بمنطقة خليج العقبة نجد أنهما يكملان بعضهما البعض .أحدهما منطقة إنتاج الزيت والآخر منطقة خطوط نقله . | |||
: | '''ومنطقة الخليج العربي تفصل بين قوميتين: ''' القومية الفارسية والقومية العربية وبين طائفتين من دين [[الإسلام]] هما طائفة [[الشيعة]] وطائفة السنة. | ||
كما أن البحر الأحمر بخليجية وقناته يفصل بين البلاد العربية الأفريقية والبلاد العربية الأفريقية والبلاد العربية الآسيوية خاصة بعد احتلال إسرائيل لإيلات والنقب وهما يفصلان أيضا أقصد خليج العقبة و[[سيناء]] بين قوميتين العربية والإسرائيلية وبين دينين هما الدين اليهودي والدين الإسلامي . | |||
ويتحكم في منطقة خليج العقبة والذييقع عليه ميناءى العقبة الأردني وإيلات الإسرائيلي جزيرتا '''"تيران"''' وصنافر السعودتيان وعن طريق هذا المضيق يمكن التحكم في أية تجارة إسرائيلية مع بلدان شرق إفريقيا وغيرها فهي تصدر الموالح والصناعات نصف المصنعة أو كاملة التصنيع إليها وتستورد منها المواد الخام علاوة على اتصالاتها بجنوب إفريقيا علاوة على نقل البترول الإيراني إلى أسدود عبر أنبوب إيلات أسدود الذي كان قطره 8 بوصات ثم زاد إلى 12 بوصة . | |||
'''منطقة باب المندب والجزر المحيطة''' | |||
إذا كان من الممكن السيطرة على خليج العقبة بواسطة جزيرتي صنافر وتيران فإنه يمكن السيطرة على البحر الأحمر والخليج العربي من باب المندب لأن '''"الترويكا المتحكمة"''' في المنطقة الاستراتيجية التينتحدث عنها هي مضيق هرمز باب المندب قناة [[السويس]] إذ أنها تتحكم في بعضها تحكما متبادلا. | |||
: | '''وعلاوة على ذلك فإن للمنطقة الجنوبية للبحر الأحمر مميزات هامة:''' | ||
فإذا كانت السواحل الشرقية والغربية للبحر شمال هذه المنطقة عربية بالكامل فيما عدا الساحل الصغير الذي يقع عليه إيلات الإسرائيلية في خليج العقبة فإن الساحل الغربي الجنوبي تقع عليه أرتريا التي هي مطمع للإمبراطور هيلاسلاسي كما يقع عليها جبيوتي المستعمرة الفرنسية أما الساحل الشرقي في المنطقة فهو ساحل عربي . | |||
يضيق البحر في هذه المنطقة تدريجيا كلما اتجه نحو الجنوب حتى يصبح في أضيق اتساع عند بابالمندب تماما بين ساحلي عدن وجيبوتي وهي المنطقة التيتصل البحر الأحمر بخليج عدن الذي يطل عليه القرن الأفريقي ثم البحار المفتوحة في المحيط الهندي منطقة بهذه الأهمية لابد وأن تكون محل صراع عالمي في المستقبل القريب خاصةإذا تمكنت [[مصر]] من إجلاء البريطانيين عن القناة | |||
: | '''هذه النظرة الاستراتيجية جعلت [[عبد الناصر]] يقول في فلسفة الثورة:''' | ||
: | :"إن القدر لا يهزل وليست هناك احداث من صنع الصدفة ولا وجود يصنعه الهباء ولن نستطيع أن ننظر إلى خريطة العالم نظرة بلهاء لا ندرك بها مكاننا على هذه الخريطة ودورنا بحكم المكان أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا وأن هذه الدائرة منا ونحن منها امتزج تاريخنا بتاريخها وارتبطت مصالحنا حقيقة وفعلا لا مجرد كلام ؟ أيمكن أن نتجاهل أن هناك قارة إفريقية شاء لنا أو علينا سواء أردنا أم لم نرد؟ | ||
أيمكن أن نتجاهل أنهناك عالما إسلاميا تجمعنا وإياه روابط لا تقربها العقيدة الدينية فحسب وإنما تشاهدها حقائق التاريخ؟ وكما قلت سابقا فإن القدر لا يهزل ". | |||
التحرك المصري لتنفيذ الاستراتيجية البحر أحمرية للثورة الاستقلال الوطني وحرب التحرير حددت الثورة هدفها منذ اليوم الأول في ضرورة انسحاب القوات البريطانية من [[مصر]] انسحاب كاملا وبذلك يتحقق للبلاد استقلالها الذي كافحت من أجله أجيال عديدة وبذلت في سبيله آلاف الضحايا . | |||
''' | '''وقد كان تقدير الموقف الاستراتيجي في منتصف عام [[1952]] من واقع الوثائق الرسمية يتلخص في الآتي:''' | ||
''' | '''تواجه القوات المصرية عدوين في وقت واحد:''' بريطانيا في القناة وإسرائيل على الحدود الشرقية لا يمكن لأية مفاوضات سياسية مقبلة مع بريطانيا للجلاء أن تنجح إلا بمساندة العمل الحربي على أن يعطي ثقل خاص للعمليات الفدائية في منطقة القناة. | ||
لا يمكن ل[[مصر]] خوض أية معركة عسكرية ناجحة سواء كانت دفاعية أو هجومية ضد إسرائيل طالما ظلت القوات البريطانية في منطقة القناة تهدد خطوط مواصلاتنا نحو الشرق وتتحكم فيها العدو الرئيسي في الوقت الحالي هو القوات البريطانية في القناة والعدو الفرعي هو القوات الإسرائيلية قبل تحريك العمل الفدائي ضد البريطانيين في القناة لابد من إخلاء [[سيناء]] من قواتنا العسكرية حتى لا يكون هناك ضغط علينا إذ يمكن للقوات البريطانية أن تمنع مرور الامدادات والذخائر من كوبري الفردان أو من أية أماكن أخرى عبر القناة وتتخذ من ذلك ورقة ضغط في يدها في الأيام التالية . | |||
وفعلا أخليت [[سيناء]] من القوات المسلحة المصرية فيما عدا بعض الوحدات الرمزية في المناطق الحساسة وقبيل بدء المفاوضات عبر [[عبد الناصر]] عن إستراتيجية [[مصر]] في ذلك الوقت بالآتي '''"إننا سنناضل بكل ما أوتينا من قوة حتى لو اقتضي ذلك إراقة الدماء إذا أرغمونا على ذلك ونحن نعرف أنه ليس في استطاعتنا هزيمة القوات البريطانية ولكننا نعرف أنه في إمكاننا جعل الوجود البريطاني في القناة عديم الفائدة لها ولحلفائها على السواء "''' | |||
وبدأت أعمال الفدائيين قبل بدء المفاوضات وأثناءها على أساس نظرية '''" كلام كلام .قتال قتال"''' كما بدأت المفاوضات في 23 / 4/ [[1953]] وقطعت يوم 6/5/ [[1953]] إذ لم تكن الضربات العسكرية المصرية قد أقنعت البريطانيين بعد بالوصول إلى اتفاق فاشتدت الهجمات على المعسكرات البريطانية وبدأت الحرب النفسية والاقتصادية بإعلان الحصار الاقتصادي على القوات البريطانية وبدأت الحرب النفسية والاقتصادية بإعلان الحصار الاقتصادي على القوات البريطانية في القناة | |||
ونتيجة لهذه الضغوط وقعت اتفاقية الجلاء يوم 27 /7/[[1954]] وكانت تنص على تحقيق الجلاء خلال 30 شهرا مع بقاء أجزاء من القاعدة في حالة تصلح للاستخدام على أن تقدم [[مصر]] لبريطانيا التسهيلات لمواجهة أى هجوم مسلح من دولة خارج المنطقة على أى بلد يكون طرفا في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية أو على تركيا وكانت مدة الاتفاقية سبع سنوات من تاريخ التوقيع وهكذا تحررت القناة جزئيا وكمرحلة أولي من [[السياسة]] المصرية البحر أحمرية . | |||
'''تأميم قناة السويس وحرب [[1956]] والاستيلاء على القاعدة البريطانية في القناة''' | |||
قبل حدوث التأميم كان [[عبد الناصر]] قد حقق عدة انتصارات كبرى:معركة رفض الدخول في مناطق النفوذ معركة حرب التحرير والجلاء معركة عدم الانحياز معركة كسر احتكار السلاح معارك القضاء على الرجعية والإقطاع ولذلك فإن ربط العدوان الثلاثي عام [[1956]] بالتأميم فقط ليس ربطا دقيقا من الناحية التاريخية إذ أن التأميم كان '''" القشة التي قصمت ظهر البعير "''' بعد أن اتجهت [[مصر]] اتجاها خطيرا لم تعهده الدول الاستعمارية من قبل . | |||
'''وكان من نتيجة العدوان الثلاثي والصمود الذي ووجه به تحقيق الآتي:''' | |||
* أصبحت قناة [[السويس]] مصرية وعادت ملكيتها إلينا. | |||
* ألغيت المعاهدة وتم الاستيلاء على القاعدة البريطانية وبذلك تطهر المدخل الشمالي للبحر الأحمر . | |||
* أصبح الطريق مفتوحا نحو الشرق في [[سيناء]] دون تهديد أجنبي لخطوط مواصلاتنا وعادت قواتنا إلى أماكنها في [[سيناء]] تبعا للخطط الموضوعة . | |||
* تم تمصير الممتلكات الأجنبية . | |||
* ارتفع شأن [[مصر]] في المجال الدولي بصفة عامة وفي المجال العربي والأفريقي بصفة خاصة . | |||
* تم بناء السد العالي . | |||
''' | '''ولكن تخلف عن هذه الحرب نتيجتان هامتان كان لهما تأثيرهما الكبير في حرب [[1967]]:''' | ||
: | :#المسألة الأولي وجود القوات الدولية في [[سيناء]] بوجه عام وشرم الشيخ بوجه خاص ثم حرية الملاحة في خليج العقبة بالنسبة لإسرائيل وهو وضع استغلته الأنظمة العربية عام [[1967]] في هجماتها الدعائية الضارية . | ||
:#والمسألة الثانية خاصة بتعطيل الملاحة في قناة [[السويس]] أثناء العدوان صحيح أعيد فتح القناة للملاحة من جديد ولكن بعد أن أحست الدول العظمي بتأثير ذلك عليها وبأنه كان ورقة رابحة في يد [[مصر]] الذي جعلها تتخذ من الاحتياطات التي قللت من تأثير غلق القناة مرة أخرى أثناء عدوان [[1967]] . | |||
'''[[السودان]]''' | |||
كان الزعماء الوطنيون والحكومات السابقة في [[مصر]] قبل قيام الثورة يطالبون بسيادة [[مصر]] على [[السودان]] أو بحق ضمه إلى [[مصر]] بل أعلن الملك فاروق نفسه ملكا على [[مصر]] و[[السودان]] وكانوا يستندون في ذلك إلى الروابط المتينة التي تربط شعبي وادي النيل منذ القدم وكثيرا ما تحطمت المفاوضات التي كانت تدور بين [[مصر]] وبريطانيا على صخرة [[السودان]] . | |||
إلا أن [[السياسة]] المصرية في بداية الثورة فاجأت الجميع حينما أعلنت عن تصميمها على إنهاء الاحتلال الثنائي للسودان أولا والدعوة بعد ذلك إلى وحدة وادي النيل من خلال الاعتراف بحق الشعب السوداني في تقرير مصيره ووافق [[عبد الناصر]] على إجراء استفتاء عام في [[السودان]] من أجل تحقيق ذلك بعد تحقيق المناخ المناسب وذلك بالاتفاق على فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات يتم فيها تصفية الإدارة الثنائية كما تقرر تأليف جمعية تأسيسية منتخبة لتقرير مصير السودان على أساس ارتباطه ب[[مصر]] في أية صورة من صور الارتباط أو الاستقلال التام أى الانفصال عن [[مصر]] . | |||
كما تقرر سحب القوات البريطانية والمصرية من [[السودان]] فورا عندما يعلن البرلمان السوداني عن رغبته في الشروع في اتخاذ التدابير الخاصة بتقرير المصير رغم أن [[مصر]] عملت طول فترة الانتقال على إقناع الشعب السوداني للارتباط ب[[مصر]] لتحقيق وحدة وادى النيل إلا أنه حينما رأت أن الغالبية العظمي للشعب السوداني تفضل الاستقلال بادرت على الفور بتأييد هذا الاتجاه وسحبت قواتها من [[السودان]] تاركة أسلحتها الثقيلة هدية للجيش السوداني فاضطر البريطانيون إلى سحب جيشهم منهيا احتلال [[السودان]] . | |||
وهكذا فإن كانت [[مصر]] قد فشلت في تحقيق الوحدة مع [[السودان]] إلا أنها كانت قد نجحت في طرد البريطانيين من هناك واكتساب صادقة الشعب السوداني بل فتحت مجال العمل في أفريقيا كلها وبإخلاصها والتزامها بالمبادئ الأساسية التي قامت عليها سياستها الأفريقية بعد ذلك.. | |||
وهي تصفية الاستعمار وحق تقرير المصير وحينما تحقق تصفية القاعدة البريطانية بعد ذلك في قناة [[السويس]] عام [[1957]] أصبح كل الساحل الغربي للبحر الأحمر حتى كسلا ونهاية الحدود السودانية خاليا من القوات الأجنبية باختلاف وسيلتين مختلفتين في مجال [[السياسة]]:الدبلوماسية كما حدث في طرد البريطانيين من السودان والضغط العسكري إلى جانب التفاوض كما حدث في طرد البريطانيين من القناة. | |||
'''[[الصومال]]''' | |||
'''في أوائل الخمسينات تلخص الموقف في [[الصومال]] ذات الموقع الإستراتيجي الهام في القرن الإفريقي في الآتي:''' | |||
''' | وجود صومولات خمسة هي الإيطالي والانجليزي والفرنسي والأثيوبي والكيني.وضع الإقليم تحت الوصاية للأمم المتحدة التي أنشأت '''"المجلس الاستشاري "''' منذ عام [[1950]] مكونا من ثلاث دول هي [[مصر]] وكولومبيا والفلبين للإشراف على البلاد لتحقيق استقلالها عام[[1960]]. | ||
كان الإيطاليون الذين يملكون السلطة الإدارية ويسيطرون على اقتصاديات البلاد ويملكون معظم الأراضي الخصبة لا يريدون تغيير الأوضاع فكانوا يعرقلون أى جهد يقوم به المجلس الاستشاري لإشراك الوطنيين في الإدارة وتدرجهم نحو الاستقلال . | |||
''' | البريطانيون لا يعارضون في استقلال '''" هرجسية الصومال الانجليزي "''' على أن يتحد مع الصومال الإيطالي بعد استقلاله في دولة مستقلة تدخل رابطة الكومونولث البريطاني أثيوبيا تسعي إلى ضم الإقليم الذي تديره إلى الوطن الأم كما ضمت الأوجادين من قبل تؤيدها الولايات المتحدة . | ||
كانت كل هذه القوى المتصارعة تتفق على شئ واحد هو القضاء على الملامح العربية للصومال وإيجاد علاقة اقتصادية بينها وبين إسرائيل .وسط هذه المؤامرات الضخمة أعلنت [[مصر]] عام [[1952]] عن سياستها بمساندة القوى الوطنية في [[الصومال]] من أجل الاحتفاظ بمقومات الشخصية الصومالية بجذورها العربية الإسلامية ووحدة أراضيه وقطع الطريق على إسرائيل حتى لا تدعم علاقاتها الاقتصادية مع البلاد . | |||
وقد استندت [[مصر]] في نشاطها إلى وضعها القانوني في المجلس الاستشاري الذي كان يعطيها حق محاسبة الإدارة الإيطالية عن طريق الأمم المتحدة كما أعطاها حق الوجود في مقديشيو الاتصال بكافة الهيئات والتنظيمات السياسية وتقديم المساعدة لها فقدمت [[مصر]] مساعداتها الايجابية عن طريق إمداد المدارس العربية التي تفتتحها الجمعيات والأحزاب السياسية بالمدرسين والكتب العربية وأعطت كثيرا من المنح الدراسية في المعاهد والمدارس والجامعات لأبناء [[الصومال]] | |||
كما فتح [[الأزهر]] أبوابه لأعداد هائلة من الصوماليين وقام بإرسال بعثة أزهرية إلى [[الصومال]] كان أعضاؤها يخطبون في الجوامع بجانب رسالتهم التعليمية ثم عملت [[مصر]] على استيراد جزء كبير من احتياجاتها من الماشية من الصومال الأمر الذي ربط مصالح التجار ب[[القاهرة]] وجعلهم يترددون عليها . | |||
* وقد استقل [[الصومال]] عام [[1960]] وأصبح عضوا في الجامعة العربية .اليمنان العملية 9000 والعملية صلاح الدين توفي الإمام أحمد حميد الدين في [[سبتمبر]] [[1962]] وتولي ولده محمد البدر الإمامة من بعده ولم تنقض إلا أيام قليلة على توليه الحكم حتى قامت ثورة 26 [[سبتمبر]] [[1962]] أطاحت به وبملك أسرة حميد الدين وفر هاربا إلى الجبال وظهر مرة أخرى بعد أسابيع ليحشد قوات لمقاومة قوات الثورة في صنعاء وهنا حقيقتان لابد من التركيز عليهما . | |||
* كان حكم أسرة حميد الدين استبداديا لا يعترف بالتعليم أو الانفتاح على العالم . | |||
* أن السعودية هي التي بدأت التدخل في ثورة [[اليمن]] عقب قيامها بمساعدة الولايات المتحدة وبريطانيا وقامت بإنشاء محطة إذاعة للملكيين تندد بالنظام الجديد ودفعت الأمين الحسن عم البدر إلى الجبال للمقاومة حتى البدر من جديد من مكان اختفائه واتخذت من منطقتي جيزان ونجران قاعدة كبرى لعمليات القوات الملكية بقيادة البدر وتحت إشراف الخبراء الأجانب | |||
* ثم أخذت تستأجر الجنود المرتزقة بأجور خيالية لتدفع بهم إلى داخل [[اليمن]] وأخذت الولايات المتحدة تمد السعودية بالسلاح لتغذي حرب العرب ضد العرب بينما قامت بريطانيا بمساندة عمليات شريف بيجان من الجنوب وتعمل على تفتيت [[اليمن]] الشمالي بفصل جنوبه من الشوافع عن شماله من الزيود ثم التركيز على مستعمراتها في عدن . | |||
* أمام هذا التدخلات قامت الجمهورية الوليدة بطلب مساعدة [[مصر]] حتى يمكنها مواجهة الضغوط الكثيفة التي تواجهها ووافقت [[القاهرة]] على مساعدة صنعاء في عملية كبرى كان اسمها الكودي العملية 9000 ولكن إلى جانب تدعيم الحكم عسكريا أخذت [[مصر]] تدخل الحضارة إلى [[اليمن]] فأنشأت جهازا للدولة لأول مرة في تاريخ [[اليمن]] وأسست المساعدات العربية لبناء [[اليمن]] ثم قام الاتحاد السوفيتي والصين ودول المعسكر الاشتراكي بإنشاء المواني والطرق وتقديم المساعدات المختلفة. | |||
كانت | وحدث فجأة ما كانت تخشاه القوى المضادة فاشتعلت الثورة في عدن و[[اليمن]] الجنوبي وساعدتها [[مصر]] بكل قواها '''(العملية صلاح الدين)''' ففتحت بذلك جبهة جديدة أمام الاستعمار وعمت الثورة أنحاء البلاد إلى أن وقعت بريطانيا معاهدة مع [[اليمن]] الجنوبية تعترف فيها باستقلالها التام وأخذت تنسحب من قاعدتها إلى غير رجعة وفي نفس الوقت أخذ مركز الجمهورية في الشمال يقوي ويتدعم وأصبحت قوى القومية العربية تسيطر سيطرة كاملة على باب المندب . | ||
'''وكانت نتائج أحداث [[اليمن]]ين خطيرة بحق:''' | |||
:فقد قامت الجمهورية [[اليمن]]ية وهبت رياح التغيير لتخرج شعب [[اليمن]] من الظلمات إلى النور وانطلقت حركة التغيير والتعمير في الجزيرة العربية بما فيها السعودية خوفا من رياح الثورة العاصفة . | |||
:خرجت دولة [[اليمن]] الجنوبية إلى الوجود كدولة مستقلة .السيطرة العربية على باب المندب وأصبح البحر الأحمر بحرا عربيا بحق . | |||
وسط هذه التغييرات الخطيرة التي أحدثتها الثورة المصرية اختمرت خطة التآمر لضرب [[القاهرة]] بعد أن فشلت كل المحاولات والضغوط لإبقاء [[القاهرة]] محصورة في حدودها فكانت حرب [[1967]] والتي انتهت بنكسة تشابهت مع الضربة التي وجهت إلى محمد على بعد ضرب الأسطول المصري في معركة نفارين عام 1840 بتآمر الدول الكبرى . | |||
''' | '''وقد استغلت إسرائيل نكسة [[1967]] لتزيد من تواجدها في البحر الأحمر واتخذت في سبيل ذلك عدة إجراءات منها:''' | ||
: | :بناء بعض المطارات في [[سيناء]] التي يمكنها عن طريقها الوصول إلى أغراض بعيدة من البحر أو حوله ضمن سياسة أمنها نقل بعض الزوارق الحربية برا من موانيها في البحر المتوسط إلى البحر الأحمر محاولات البحث عن البترول في مياه خليج [[السويس]] محاولة التدخل في إدارة قناة السويس عند فتحها مرة أخرى للملاحة أى المشاركة في الإدارة ولم تقبل [[القاهرة]] في ذلك الوقت تغيير الأوضاع في البحر الأحمر فقاومت المحاولات الإسرائيلية الاستعمارية كلها . | ||
فمن ناحية زيادة النقل العسكري الإسرائيلي في البحر الأحمر قامت [[مصر]] بنشر سفنها التابعة لأسطول البحر الأحمر في بعض المواني المصرية وميناء بورسودان .كما قامت بنشر قواتها الجوية في مطارات [[السودان]] في الجنوب كذا بعض قواتها البرية في جبل الأولياء وبذلك قدمت السودان أراضيها لزيادة العمق المصري. | |||
''' | قاومت [[مصر]] أية محاولات إسرائيلية للبحث عن البترول في خليج السويس فلما أرادت إسرائيل الحفر في خليج [[السويس]] عن البترول مستخدمة الحفار '''"كينتج"''' ومر في أبيدجان عاصمة ساحل العاج بعملية إيجابية للمخابرات المصرية تعد من أعظم عمليات المخابرات في تلك الحرب . | ||
وقد قمت بنفسي بالتخطيط لهذه العملية والإشراف على تنفيذها بنجاح أيام رئاستي لجهاز المخابرات العامة ومعي جماعة من الرجال الأكفاء ذوى العزم والقدرة كان الحفار إنجليزيا اشترته شركة أمريكية كندية سجلت نفسها في '''" دنفر عاصمة كولورادو"''' بالولايات المتحدة يجره جرار هولندي وتمت المحاولة الأولي لضربه في '''"داكار"''' عاصمة السنغال يوم 19/ 2/[[1970]] إلا أن الحفار غادر الميناء فجأة قبل تنفيذ العملية ونجحت محاولتنا الثانية في تعطيل الحفار في أبيدجان يوم 8/ 3/ [[1970]] وقفل راجعا إلى ميناء '''"تيما"ر في غانا حيث بيع بعد ذلك كخردة . | |||
أما عن موضوع قناة [[السويس]] فقد رفضت [[مصر]] في عهد [[عبد الناصر]] أية مبادرات للانسحاب الجزئي على أساس إعادة فتح قناة [[السويس]] في مقابل ذلك ثم رفضت كل المحاولات التي قامت بها الدول الاستعمارية عن طريق مندوبيها لجعل منطقة القناة منطقة حرة . | |||
''' | من ضمن هذه المحاولات محاولة كان يقوم بها مليونير أمريكي يدعي '''"ديتويللر"''' حضر ومعه صديقته الحسناء في يد وفي اليد الأخرى حافظة أوراق بها خرائط مدروسية كاملة لجعل القناة ولمسافة عشرة كيلو مترات شرقها وأخرى غربها منطقة حرة تقسم بين الدول لتمارس نشاطها فيها وتكون كمنطقة عازلة بيننا وبين إسرائيل وقد قابلت الرجل وأخذ [[عبد الناصر]] علما بقدوم الرجل واطلع على مشروعاته دون أن يقابله ولكنه رفض كل هذه المحاولات على أساس أن القناة مصرية ولابد أن تبقي مصرية . | ||
الشئ الغريب حقيقة أن موقف إسرائيل في ذلك الوقت كان أضعف مواقفها فقد أثمرت [[السياسة]] المصرية الإفريقية فقطعت كل الدول إفريقيا علاقاتها مع إسرائيل وتوقفت حركة التجارة معها ثم توقف ضغط البترول الإيراني الذي ما كان يمكن أن يمر في السفن عبر باب المندب وثبت أنه إذا كان من الممكن حصار إيلات من مضيق العقبة بجزيرتي صنافر وتيران فإنه يمكن قفل مضيق العقبة عن طريق باب المندب . | |||
وثبت أكثر من ذلك أن [[مصر]] وليس غيرها هي الدولة المتحكمة في الملاحة في البحر ففي حربين متتاليين تمكنت [[مصر]] من السيطرة على الملاحة في البحر الأحمر عن طريق قناة [[السويس]] وأنه أمكنها أن تثبت للعالم أجمع أنه يمكنها أن تكون أداة '''"فصل"''' كما يمكنها في الوقت نفسه أن تكون أداة '''"وصل"''' مهما قيل غير ذلك . | |||
''' | '''تقييم للسياسة الناصرية البحر أحمرية''' | ||
لا شك أن [[عبد الناصر]] كان يتمتع بالقدرة على النظرة الشاملة للمسرح السياسي الذي تحرك عليه بمهارة ضمن ما يسمى '''"بالمخطط الكبير"''' وهذا هو أهم أسباب صموده أمام الظروف الصعبة الضاغطة التي عمل في ظلها كان يعلم من التاريخ أن الخطر يداهم [[مصر]] دائما من الشرق وأن قناة [[السويس]] كانت موقع جذب للطامعين,ولم ينس أبدا كيف استغلها البريطانيون عام 1882 في كسر قوات عرابي إذ خاضوا معه معركة خداعية في كفر الدوار ثم نزلوا في القناة رغما عن الاتفاقيات الموجودة ليضربوه من الخلف . | |||
لم ينس [[عبد الناصر]] أبدا ذلك ولذلك فإننا نجد أن كل معاركه دارت حول قناة [[السويس]] معركة التحرير من عام [[1952]] -[[1954]] ،معاهدة الجلاء ،تأميم القناة العدوان الثلاثي ،حرب [[1967]] ،حرب الصمود والاستنزاف ... | |||
كان للرجل تطلعات كبيرة ضخمة ربما فاقت الإمكانيات المتاحة لدرجة أن البعض يقول إن [[عبد الناصر]] وجد في غير عصره ولكنه كان يتغلب دائما على قلة الإمكانيات بقدرته الفائقة على السرية والمفاجأة وسرعة توجيه الضربات في الوقت السليم | |||
الاستخدام المتميز للرسائل العسكرية ممزوجة بالوسائل الدبلوماسية ثم الجرأة الهائلة عند مواجهة الأحداث ... لقد أخطأ في بعض حساباته أحيانا ولكن لا يجوز القطع بذلك إلا في إطار المناخ الذي اتخذ فيه قراراته .. فنزع الظروف السائدة عن نوعية القرار لا تجعل وزن الأمور يتم بطريقة سليمة أو موضوعية . | |||
كانت الدائرة العربية هي إحدي دوائره الثلاث التي ملأت قلبه وفكره وكانت الدائرة الأفريقية تشحذ خياله وآماله وكانت الدائرة الإسلامية تعزز الجانب الروحي لأهدافه كانت الدائرة العربية تختلط دائما تحركاته بالدائرة الأفريقية ومن ينظر إلى الخريطة أداة الرجل السياسي يلاحظ بصماته عليها بوضوح. | |||
''' | فإذا كان '''"مانشين أوماتزيني"''' أكد في القرن 19 أن '''"مفتاح البحر المتوسط يقع في البحر الأحمر"''' فإنه فشل في تحقيق إذ لم يمكنه أن يصل بذراعه الطويلة الممتدة من مصوع إلى البحر المتوسط كذلك الحال مع '''" ببيتو موسوليني "''' فإن كان الرجل أنشأ قاعدته في الحبشة و[[الصومال]] في الجنوب وأنشأ مستعمرته في [[ليبيا]] في الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط إلا أنه فشل في '''"بناء الذراع الطويلة الكاملة"''' إذ كان يحول بينه وبين ذلك وجود [[السودان]] . | ||
وفشل الرجلين راجع إلى اعتماد كلاهما على حق الغزو والاستعمار واستخدام الوسيلة العسكرية كعامل وحيد لتنفيذ [[السياسة]] ولكن [[عبد الناصر]] نجح في ذلك تماما فكانت الذراع المحيطة ب[[مصر]] تمر كلها في أراض صديقة نتيجة لسياسته الخلافة .. [[الصومال]] الذي وقف إلى جانبه حتى حصل على استقلاله الحبشة التي هادنها في أناة وصبر رغما عن استفزازات الإمبراطور العجوز [[السودان]] الصديق شعبا وحكومة ثم إلى ليبيا بعد قيام ثورتها عام [[1969]] وقضائها على القواعد الأجنبية هناك كانت الذراع الطويلة قد تحققت وظلت كذلك حتى وإسرائيل في الضفة الشرقية للقناة . | |||
بل نجده في بناء الذراع الأخرى ناحية الشرق ... من [[اليمن]] الجمهوري الذي حارب معه في العملية 9000 إلى [[اليمن]] الجنوبي الذي كافح معه في العملية '''"صلاح الدين "''' إلى منطقة الخليج العربي ببغداد ثم الاتحاد السوفيتي الصديق ... فكان بذلك حتى وهو يواجه هزيمة بحرب لا تهدأ ومقاومة لا تنفد مسيطرا على الأمور في المنطقة وعلى البحر الأحمر في شماله إلى جنوبه وقد تم كل ذلك عن طريق خوض المعركة ممزوجة بالدبلوماسية الخلافة ولكن كيف ترك [[عبد الناصر]] الموقف بعد أن رحل إلى جوار ربه في 28/ 9/ [[1970]]؟ | |||
كان الصراع ما زال محتدما مع إسرائيل في كل المجالات رغما عن إيقاف إطلاق النيران بموجب مبادرة روجرز والذي أوشك على أن تنتهي مدته الأولي وهي ثلاثة شهور ومن المعروف أن مبادرة روجرز كانت تقضي بإعادة [[سيناء]] إلى [[مصر]] مع إجراء تعديلات طفيفة مع حدود الدول العربية الأخرى لا تحمل معني الغزو إلا أنه رفض ذلك لأنه كان حلا فرديا . | |||
وكانت القوات المسلحة المصرية قد استردت جزءا كبيرا من قدرتها القتالية على الضفة الغربية للقناة وتقوم بمناوراتها التدريبية على خطة العبور. وكان حائط الصواريخ المضاد للطائرات قد تحرك منذ أيام [[عبد الناصر]] إلى مسافة قريبة من غرب القناة تسمح بستر عملية العبور المنتظرة وقد تم ذلك بعد قبول مبادرة روجرز مباشرة مما أثار ما يعرف '''"بأزمة الصواريخ"''' وهذا الحائط هو الذي عبرت في حمايته قواتنا القناة في 6 [[أكتوبر]] [[1973]] | |||
وكانت قناة [[السويس]] ما زالت معطلة أمام الملاحة الدولية واتسع عمق [[مصر]] غربا بعد قيام ثورة [[ليبيا]] في أول [[سبتمبر]] [[1969]] والتي أمدت المقاومة العربية ولأول مرة بطائرات الميستير التي تصل إلى عمق إسرائيل كما اتسع العمق جنوبا في [[السودان]] الذي جعل من أرضه تكملة لمسرح العمليات فانتشرت فيه قواتنا البرية والجوية والبحرية كما سبق القول وكانت الدول الأفريقية قد قطعت علاقاتها مع إسرائيل و[[مصر]] ما زالت متمسكة بموقف عدم الانحياز وكل دول هذا المعسكر تقف إلى جانبها وفوق كل ذلك كان الاتحاد السوفيتي ما زال يدعم [[مصر]] في مواجهة الانحياز الكامل للولايات المتحدة وإسرائيل . | |||
وكان العرب رغم اختلافاتهم المعتادة مجمعين على استعادة حقوقهم قائمين بالتزاماتهم تظللهم الجامعة العربية بالرغم من سلبياتها المعروفة مؤكدة أقل حد من الوفاق وكما سبق أن قلنا كانت الدول الأفريقية دون استثناء تؤكد الحق العربي تظللهم منظمة الوحدة الأفريقية التي لعب [[عبد الناصر]] دورا أساسيا في تكوينها وفوق كل ذلك كان التوازن في البحر الأحمر ما زال معقولا إذ كان تحرك إسرائيل في هذا الممر الضيق محفوفا بالمخاطر . | |||
وفوق كل ذلك كان الشعب صامدا والجبهة الداخلية صلدة جامدة رغما عن التضحيات الكبرى التي قدمها لمدة طويلة كان توازن القوى من الناحية السياسية معقولا وكان توازن القوى من الناحية العسكرية يقترب من مرحلة التعادل بخطوات ثابتة وكانت العروض السياسية التي ألقيت في الساحة تتناسب إلى حد كبير مع التوازنات القائمة. | |||
'''سياسة [[مصر]] البحر أحمرية بعد الفترة الناصرية ''' | |||
'''في ظل هذا التوازن المعقول ارتكبت [[السياسة]] المصرية بعد وفاة [[عبد الناصر]] خطأين استراتيجيين فادحين أخلا بالتوازن كله حتى قبل أن تبدأ المعركة إذا استبعدت ورقتا ضغط هامتين من مسرح الأحداث كان الخط أن الكبيران هما:''' | |||
:#الخطأ الأول ضرب '''"الناصرية"''' بطريقة غامضة في أول الأمر ثم بطريقة مكشوفة مركزة بعد ذلك كوسيلة لإرضاء '''"جبهة الثورة الإقليمية"''' ولإبعاد صفة '''"الثورة"''' عن النظام لمصري أى كان الهدف طمأنة '''"الثورة الإقليمية ومن وراءها "''' على حساب '''" الثورة الإقليمية"''' وقد يكون هذا جائزا في مجال [[السياسة]] والصراع ولكن ما هو المقابل لهذه الخطيئة الكبرى ؟ لا شئ .بل حدث العكس إذ خضعت الإدارة المصرية بعد هذه الخطوة وبعد أن غيرت ثوبها إلى ابتزاز سياسي تم خطوة في أول الأمر ثم بعد ذلك تحول الابتزاز إلى تغيير كامل للأهداف والنوايا. | |||
:#والخطأ الثاني كان طرد الخبراء الروس وبعد أن تم الطرد أخذ النظام في المطاردة وإعلان الحرب على الاتحاد السوفيتي بعد أن كان النظام قد أعلن عن مبادرة يتم بمقتضاها الانسحاب المحدود عام [[1971]] . ويزيد من جسامة هذا الخطأ أن الطرد تم بدون مقابل ثم تبعت عملية الطرد عملية المطاردة . | |||
ومن المعروف أن [[السياسة]] الأمريكية تقوم على ثلاثية معروفة: المحافظة على بقاء إسرائيل كقوة إقليمية عظمي في المنطقة ألا يتم أى حل عن طريق أى نظام ثوري ألا يسمح بتغلب السلاح السوفيتي على السلاح الأمريكي . | |||
وإذا كانت هذه هي سياسة الولايات المتحدة الأمريكية فإن التفريط في المبدأين الأخيرين من الثلاثية الموضوعية فيه تعزيز للمبدأ الأول وهو زيادة قوة إسرائيل.وقد أخطأت [[السياسة]] المصرية في ذلك دون ثمن لدرجة أن هنرى كسينجر لم يصدق وكالات الأنباء حينما نقلت خبر طرد الخبراء السوفيت ولما تأكد من ذلك قال '''" لو أن السادات طلب مني أى شئ في مقابل هذا الإجراء ما ترددت في تلبيبته"'''. | |||
وبذلك اختلت التوازنات كلها في الداخل وعلى الصعيد العربي ثم الصعيد العالمي ووسط ذلك قامت الحرب ولكن كيف يكون القتال في ظل عدم التوازن هذا؟ إلى أى مدى تصل قواتنا داخل [[سيناء]]؟ كيف تمزج المعركة بالدبلوماسية أى كيف يمكن مزج لهجة القتال مع لهجة الكلام؟ أسئلة لم تكن كما ظهر بعد الحرب قد وجدت لها جوابا في ذهن [[السياسة]] المصرية وهي تدير '''"الحرب المحدودة "''' التي بدأتها في6 [[أكتوبر]] [[1973]] رغما عن خطورة هذا الغموض ونتائجه . | |||
إذ في '''"الصراعات الإقليمية"''' يمكن لأية دولة أن تبدأ الحرب في الوقت الذي تحدده وفي المكان الذي تختاره وبالصورة التي تحددها ولكن بعد إطلاق الطلقة الأولي تفقد الدولة لعوامل متعددة قدرتها على إيقاف الحرب والقتال في الوقت المرغوب ولا بالأوضاع التي تحددها ولا بالصورة التي تريدها وليس في نيتنا على الإطلاق أن ندخل في تفاصيل هذه الحرب فكل ما نريده هو توضيح نتائجها على [[السياسة]] المصرية البحر أحمرية . | |||
فما هي نتيجة هذه الحرب على [[السياسة]] المصرية البحر أحمرية ؟لقد حققت هذه الحرب عملا إيجابيا هو '''"ترك"''' إسرائيل ل[[سيناء]] وهو عمل إيجابي رغما عن الإرادة المصرية المنقوصة على هذا الجزء الغالي من الوطن ورغما عن تواجد القوات متعددة الأجناس التي تقترب بتواجدها هذا وبمحطات الإنذار القابعة في جبل أو خشيب من القاعدة الأجنبية ورغما عن القيود الموضوعة على تواجد قواتنا هناك . أقول رغما عن كل هذه القيود الثقيلة فإن مجرد ترك قوات إسرائيل ل[[سيناء]] هو عمل إيجابي . | |||
ولكن إلى جانب هذه الإيجابية اختل التوازن في [[السياسة]] المصرية كلها فمن ناحية [[السياسة]] العربية وجدت [[مصر]] نفسها تقف وحدها أمام إجماع عربي عدا عمان و[[الصومال[[ و]]السودان]] وسقطت زعامة [[مصر]] في العالم العربي ونقلت الجامعة العربية إلى [[تونس]] وقفلت السفارات العربية أبوابها في [[القاهرة]] وفتحت السفارة الإسرائيلية مبناها. | |||
أما عن سياستنا البحر أحمرية فقد أصيبت بنكسة حقيقية فقد قطعت الدول البحر أحمرية عموما علاقاتها مع [[القاهرة]] فيما عدا [[الصومال]] و[[السودان]] ومن ناحية الذراع اليسرى لخطة [[عبد الناصر]] أو ذراع ما تزيني الطويلة نجد أنها قطعت وبترت إذ أنها أصبحت لا تمر بالحبشة التي أثارها وعود [[السادات]] لإسرائيل بمدها بمياه النيل رغما عن مخالفة ذلك لاتفاقية مياه النيل الموقعة من الدول المعنية؛ | |||
ولم تعد تصل هذه الذراع إلى [[ليبيا]] الصديقة والشقيقة في الساحل الشمالي لإفريقيا أو الساحل الجنوبي للبحر المتوسط أما عن الذراع اليمني لخطة ناصر فقد بترت نهائيا فبالرغم من أن [[اليمن]] الجنوبي شاركت معنا في قفل باب المندب في أثناء حرب [[أكتوبر]] [[1973]] وبالرغم من وقوف دول الخليج إلى جوارنا في الحرب وكذلك العراق إلا أنها جميعا قطعت علاقاتها معنا أما عن نهاية هذه الذراع فإنها أصبحت عاجزة عن الوصول إلى الاتحاد السوفيتي الذي عادته [[السياسة]] المصرية دون سبب . | |||
وبعد أن وجدت [[مصر]] نفسها مجمدة في الجامعة العربية وفي مؤتمرات دول عدم الانحياز والمؤتمر الإسلامي وفي منظمة الوحدة الأفريقية تباعدت عن سياسة عدم الانحياز كطريق يمكن أن يخفف من عزلتها . | |||
فنجدها وقد رحبت وبحماس أنتكون شريكا في توافق الاستراتيجيات مع الولايات المتحدة الأمريكية وبذلك أصبحت من الناحية الإستراتيجية في حلف واحد مع إسرائيل ثم اتبعت ذلك بوضع قواعدها الجوية في خدمة القوات الأمريكية وهي تقوم بعمليتها الفاشلة لفك الأسري الأمريكان في طهران ثم وجدت القوات المسلحة المصرية نفسها وهي تقوم بتدريبات مشتركة مع القوات الأمريكية الأمر الذي لم يحدث من قبل حتى مع إحدى القوات العربية . | |||
ولكن الخطر الحقيقي على حياد البحر الأحمر وقع حينما وافقت [[مصر]] على إعطاء الولايات المتحدة تسهيلات في ميناء رأس بناس في البحر الأحمر وأخذت القوات الأمريكية تقيم المنشئات والمباني لعملي قاعدة حقيقية خصص لها الكونجرس الأمريكي الاعتمادات اللازمة . | |||
وأصبح البحر الأحمر بعد ذلك مفتوحا للصراعات الدولية فاتخذت الولايات المتحدة قواعد لها في جزيرتي '''" سنتيان" و" دهلك"''' اللتين تقعان على بعد 6 أميال بحرية من باب المندب بعد أن استأجرتها من أثيوبيا لمدة 25 عاما تعزيزا لقواعدها في '''" ديجو جارسيا " و" مالا ديف " و" موريشيوس"''' | |||
وفي نفس الوقت يقف الاتحاد السوفيتي في عدن بناء على '''"التسهيلات"''' التي أعطيت له هناك ليعزز من تسهيلات أعطيت له في '''" الأوجادين "''' الذي يتنازعه كل من الصومال والحبشة علاوة على تواجده في مواني أنجولا وموزمبيق. كما يتردد أن إسرائيل موجودة هي الأخرى في جزيرتي '''" حنش الكبرى " و" حنش الصغرى "''' | |||
هذه النتائج المقلقة تشير إلى أن [[مصر]] في تلك الحقبة وحتى تولي الرئيس محمد حسني مبارك الحكم كان ينقصها '''"المخطط الكبير"''' فكانت تقرر فجأة أن تصل إلى '''" القمر "''' ولكنها لا تفكر أبدأ كيف تعود مرة أخرى إلى الأرض . فحينما اتخذ قرار الذهاب إلى القدس كان ذلك صعودا إلى القمر ولكن أن يظل الإنسان في القمر أمرا مستحيلا ولابد من عودته مرة ثانية إلى الأرض وإلا تعرض للفناء . فكيف العودة إلى الواقع ؟ إلى الأرض ؟ هذا هو السؤال الذي لم تعرف [[السياسة]] المصرية له جوابا وهي تتحرك على مسرح الأحداث | |||
فنجد أنه بعد أن قام الرئيس السادات بإلقاء خطابه في الكنيست ظن أن إسرائيل ستلبي له كل طلباته إلا أن بيجن قال له '''" سيادة الرئيس. نحن الآن وصلنا إلى القمر وعلينا أن نهبط إلى الأرض حيث نعيش "''' وكان مناحم فولفو فتتش بيجن يقصد '''" دعنا من الحركات المسرحية وعد بنا إلى الواقع الذي لا نتعامل مع سواه "'''. | |||
ثم كانت [[السياسة]] المصرية حريصة على استبدال مكاسب ضخمة يحصل عليها الطرف الآخر في مقابل مكاسب أمنية لدرجة أن جيمي كارتر قال في مذاكرته بعد الوصول إلى اتفاقية كامب دافيد " أمضيت طول الليل قلقا وأنا أتساءل '''" هل ذبحت [[السادات]] ؟"''' وكان الرجل وكأنه يقرأ المستقبل قبل حدوث عملية المنصة بعد ذلك بسنوات محدودة كانت الإستراتيجية المصرية في ذلك الوقت أميل للعطاء أكثر من ميلها للأخذ . | |||
ثم الأخطر من ذلك أن [[السياسة]] المصرية في ذلك الوقت عجزت عن فهم سياسة الترابط فبينما هي تتحدث عن الحلول الشاملة نجدها تقبل حلولا جزئية لا تعالج القضية الشاملة من كل جوانبها وتقبل سياسة كيسنجر اللئيمة خطوة خطوة والتي كانت تعني قطعة كبيرة من السلام في مقابل قطعة صغيرة من الأرض . | |||
وباختصار فبينما كانت القيادة السياسية تتحدث كثيرا عن '''"قدرتها الإستراتيجية"''' إلا أنها في واقع الحال كانت تتحرك في إطار تكتيكي وحتى ضمن هذا الإطار كان التحرك متعثرا يخضع للابتزاز وقد وصل الحد الذي كانت فيه الولايات المتحدة تهزأ من قدرة تحركنا الاستراتيجي أن وصل الأمر بكسنجر حينما كان يجلس مع السيد [[أنور السادات]] أن يقول له في جدية '''" سيادة الرئيس إنني أريد أن أتعلم منك كيفية التعامل مع الاتحاد السوفيتي "''' | |||
بل وصل الأمر بالكسندر هيج وزير الخارجية في بداية عهد رونالد ريجان وهو تلميذ هنرى كيسنجر ومساعده في إدارة الأمن القومي أنه حينما وصل إلى [[القاهرة]] في أول زيارة له أن ذكر في تصريحه الصحفي في المطار وأمار عدسات السينما والتليفزيون وميكروفونات الإذاعة '''" أهم ما جئت من أجله هو تلقي بعض الدروس الإستراتيجية من السيد [[أنور السادات]] "'''!!! | |||
ولم يكن غريبا بعد كل هذا التخبط وغياب الرؤية السليمة أن البحر الأحمر أصبح مجالا للصراعات الدولية ولم يكن غريبا بعد ذلك اختلال التوازن بالنسبة للسياسة المصرية من هذه البقعة من العالم والتي تؤثر على الأمن القومي المصري والعربي تأثيرا مباشرا . | |||
وأخيرا | |||
'''لا شك أن الظروف قد تغيرت في السنوات التي انتقال [[عبد الناصر]] إلى حوار ربه والتي تلت مقتل السادات في حادثة المنصة أهم هذه المتغيرات يمكن حصرها في الآتي:''' | |||
:#فقد تركت إسرائيل [[سيناء]] ولكن يوجد هناك حاليا القوات متعددة الأجناس وهناك القيود الكثيرة على تواجد الإدارة المصرية بكاملها. [[سيناء]] منطقة مفرغة ليست [[مصر]] حرة في ملئها في الوقت الذي تريده وبالطريقة التي تختارها. | |||
:#وفتحت قناة السويس للملاحة العالمية وكذلك خليج العقبة وأصبحت إسرائيل حرة في استخدام هذه القنوات المائية بموجب المعاهدات والاتفاقيات الموجودة . ثم عاد السكان المهجرون إلى منطقة القناة وعاد الاتصال بين سكان الوادي وسكان [[سيناء]] . | |||
:#واختلفت العداوة والصداقة إختلافا جذريا مما يؤثر على الاتجاه الاستراتيجي فلا يمكن أن يقال أن إسرائيل ما زالت عدوة للقاهرة الرسمية كما أن الاتحاد السوفيتي الذي أمدنا بالسلاح ما زال يساعد القضية العربية ويقف في موقف العداوة الكاملة مع إسرائيل والولايات المتحدة فيما يخص قضيتنا انتقل من '''"خانة "''' الصداقة '''" إلى خانة " العداوة "''' أما الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت في '''"خانة "''' العداوة لمساعديها لإسرائيل وتحيزها لها تحيزا كاملا ضد المصالح العربية فقد انتقلت إلى خانة '''" الصداقة "''' رغما عن استمرارها في مسعدة إسرائيل وتحيزها لها تحيزا كاملا ضد المصالح العربية واضطربت العلاقات المصرية العربية اضطرابا خطيرا خاصة بالنسبة للبلاد العربية البحر أحمرية كما سبق القول . | |||
:#وأصبح للولايات المتحدة قاعدة أو تسهيلات في رأس بناس وجزر أخرى في البحر الأحمر وكذلك للإتحاد السوفيتي وربما لإسرائيل. | |||
:#وزادت أهمية البحر الأحمر نتيجة للخطط الطموحة للاستغناء عن مضيق هرمز كبوابة الخروج النفط إلى البحار الواسعة بعد أن مدت [[السعودية]] خط أنابيب سعة مليون وربع المليون برميل في اليوم من منابع البترول في الظهران إلى ميناء ينبع وبعد أن صممت بغداد على توصيل خط أنابيب من حقولها إلى الخط السعودي لينقل ولأول مرة عبر الأنابيب السعودي إلى ينبع لم يتم إلا بعد أن أرست الولايات المتحدة أقدامها في رأس بناس فهل ترى الأيام القادمة توصيل خط مباشر من ينبع إلى رأس بناس ؟ وهل ترى الأيام القادمة توصيل الخط السعودي بالخط ال[[مصر]]ي الذي يبدأ فيعين السخنة على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر وينتهي عند سيدى كرير على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط؟ نعني بذلك أن البحر الأحمر زادت قيمته استراتيجيا واقتصاديا وإذا كان الخليج العربي قد جذب الاهتمام بعد رحيل القوات البريطانية عن قاعدة قناة السويس فإن الأيام القادمة سوف ترى التركيز على البحر الأحمر كأنبوب رئيسي لنقل البترول من منابعه على الخليج متفاديا '''"ترويك المضايق"''' في هرمز وباب المندب وقناة [[السويس]] . | |||
:#ونحن نوافق على تصريح وزير الدفاع المصري في [[أخبار اليوم]] بتاريخ 13 / 2/ [[1982]] حينما قال | |||
:'''" نحن ننظر إلى البحر الأحمر بصفته إحدى المناطق الإستراتيجية الهامة المؤثرة على أمن [[مصر]] ولذلك فإننا نرى أن يكون البحر الأحمر آمنا لا نفوذ أو سيطرة فيه لأية قوة خارجية وإنما للدول التي لها شواطئ عليه والتي لها مصالح إستراتيجية مرتبطة بخطوط الملاحة التي تمر فيه خاصة وأن البحر الأحمر يؤثر على قناة السويس التي نعتبرها أحد المصادر الرئيسية القومية لاقتصادنا المصري ولذا فمن المهم جدا أن يظل البحر الأحمر نظيفا . | |||
:معظم سواحله عربية وبناء عليه فيجب أن تكون هناك إستراتيجية عربية متكاملة لتأمين البحر الأحمر تماما ولا نقصد بعروبة البحر الأحمر منع ملاحة الدول الأخرى وإنما المحافظة على سلامة المرور البرئ والحر لجميع خطوط المواصلات البحرية بمعني أن التجارة الدولية التي تمر بالبحر الأحمر نريدها دائما حرة ولا يتحكم فيها أحد فحوالي 50 % من تجارة البترول تمر في البحر الأحمر ونحن نؤمن بألا يكون هناك أية إعاقة للملاحة ولا خطورة على مرورها وهذا هو الغرض الرئيسي من الأمن الاستراتيجي للبحر الأحمر "'''. | |||
و[[السياسة]] معقولة لا غبار عليها ... بقي الإجابة على السؤال الآتي :وكيف يتم هذا ؟ ثم أليس من الأفضل لمن يريد أن ينفذ سياسة ما أن يبدأ بنفسه ؟ | |||
[[تصنيف:تصفح الويكيبيديا]] | |||
[[تصنيف:المكتبة العامة]] |
مراجعة ١٠:٣٣، ١١ مارس ٢٠١٣
الفصل الثالث العاشر: القنوات الخلفية لعبد الناصر
قبل كلام كثير عن القنوات الخلفية التي كان يفتحها عبد الناصر مع الأعداء والأصدقاء على حد سواء البعض حاول أني يختلق اتصالات لم تحدث والبعض الآخر حاول أن يستغل اتصالات حدثت فعلا ليلوي حقيقتها ويلقي ظلالا على أهدافها والغرض من ورائها .
وقبل أن نبدأ في الحديث عن ذلك في إطار معلوماتي وضمن ما تسمح به القيود المفروضة على السرية لابد وأن نحدد ما نعنيه بالقناة الخلفية أو القناة السرية.
فصاحب القرار علاوة على الاتصالات التى تقوم بها اجهزته الرسمية سواء كانت اتصالات علنيةأو سرية لتزويده بالحقائق الكافية لإعطاء قراره أوتنفيذه فإن له الحق في أن تكون له قنواته الخاصة التي تتم إما بطريق مباشر معه أو عن طريق غير مباشر مع إحد أجهزته لتزوده بمعلومات ربما لا تكون في متناول أجهزته الرسمية أو ربما لايريد الطرف الآخر لها أن تعرف إلا كما يقال عن طريق الهمس ومن الفم إلى الأذن دون وسيط أو طرف ثالث أو القيام بإجراءات قد تسبب الحروجة للأجهزة الرسمية إن هي قامت بتنفيذها .
هذه القنوات في غاية الأهمية خاصة بالنسبة لطبيعة الصراعات القائمة سواء على المستوى الإقليمي أو المستوى العالمي فهي صراعات يمتزج فيها القتال بالتفاوض ويمتزج فيها الوفاق مع التناقض .وهي علاقات بالتالي معقدة وخطيرة يخشي فيها أن يفلت الزمام مما يحتم هذا الاتصال في حالة الوئام وفي حالة الخلاف .
لأن العلاقات الدولية علاقات مصالح قد يحدث فيها تكامل وقد يحدث فيها تعارض وحينئذ لا يكون الاتصال واجبا بين الأصدقاء فحسب بل هو واجب أيضا مع الأعداء وقد يصل التناقض بين دولتين إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما ولكن هذا لا يمنع أبدا من استمرار الاتصال عن طريق الوسائل المعروفة أحيانا أوعن طريق القنوات الخلفية أحيانا أخرى فهذا أحد ضروريات ممارسة السياسة .
وهناك فارق كامل بين القناة الخلفية أو القناة السرية وبين العمل السري فالعمل السري يتم من وراء الظهر وهو يدخل في أعمال المخابرات أو الجاسوسية ولكن القناة الخلفية تتم بمعرفة الدولتين أو الأطراف المعنية ويحدد مستواها تبعا لاتفاقها على هذا المستوى . ووجود القناة السرية لا يمنع القيام بالعمل السري فكلاهما وسيلتان ضروريتان في كافة الأحوال أعني في حالة الصداقة والعدواة على حد سواء.
وهناك فارق أيضا بين القنوات الخلفية والأبواب الخلفية فالأخيرة هي علاقات شخصية تتجاوز الأصول الواجبة والتي يمارسها صاحبها في الخفاء وبتكتم شديد وهي لا تدخل في حديثنا من قريب أو بعيد .
ولنأخذ مثلا إحدى القنوات الخلفية الشهيرة وهي ما تعرف بعملية "بنسلفانيا" وهو الإسم الكودى لبدء الاتصالات السرية بين واشنجطن وهانوى أثناء الحرب الفيتنانية والتي قام بها هنرى كيسنجر حتى بدأت المفاوضات الرسمية في باريس بين الجانبين .
بدأت القناة بداية مثيرة فيمارس عام 1967 حينما كان يعمل كيسنجر مستشارا لهنرة كابوت لودج سفير الولايات المتحدة في فيتنام الجنوبيةبناء على موافقة "الرئيس لندون جونسون" الذي حدد له مأموريته فيالبحثفي موضوع "التورط الأمريكي في فيتنام" وانتهي كيسنجر إلى قرار وافق عليه الجميع هو الانسحاب من فيتنام مع حفظ الهيئةالأمريكية ولكن كيف يتم ذلك؟ هذه هي المشكلة إذ رفض الجانب الآخر الاتصال رفضا باتا .
إذن كان لابد من الاتصال عن طريق ثالث لإنشاء قناة خلفية بعيدة كل البعد عن القنوات الرسمية... وتم ذلك في الوقت السابق عندما اجتمعت "البجواش " في باريس وكان من أهم قرارات المؤتمر الاهتمام بمشكلتي الشرق الأوسط وفيتنام مع التركيز على ضرورة بدء الاتصالات لحل مشكلة فيتنام من خلال الحكومة الفرنسية التي تسمح علاقاتها الخاصة بذلك.
وقد اختار "ديجول" اثنين للقيامبذلك هما "ريموند أو براك" و"ماركو فتش " وكان الأول على علاقة وطيدة مه هوشي منه الذي تعرف به أثناء ذهابه إلى باريس عام 1946 للتفاوض مع الحكومة الفرنسية للحصول على استقلال بلاده وسكن بجوارأوبراك وتصادق الرجلان إلى حد أنهوشي منه عمل كالأب الروحي لأحد أبناء أوبراك .
وسافر الرجلان إلى هانوى ليفتحا باب الاتصال بين الجانبالأمريكي والجانب الفيتنامي إلا أن الجانبالآخر كان يرفض ذلك إلا بشروط فلا يجوز أن يغيب تحت رفع شعارالسلام "من هو المعتدي ومن هو المعتدى عليه لأن مجرد رفع هذاالشعار يضع الولايات المتحدة وهانوى على قدم المساواة "
واستمر الوضع على ما هو عليه أى اتصال الجانبين عن طريق طرف ثالث حتى تمكن أحد أصدقاء كسينجر من الفرنسيين وأحد المشتركين عام 1946 في المفاوضات بين فيتنام وفرنسا ويدعي " جان سانتيني " من فتح الطريق أمام كيسنجر للإتصال مع "إكسوان ثوى " وزير خارجية هانوى لتبدأ المفاوضات السرية بين الجانبين دون علم باقي المؤسسات الرسمية إلا بالقدر الذي تحتمه الضرورة
وقبل كلام كثير عن قيام الرئيس أنور السادات بفتح قناته الخلفية مع وشنجطن عن طريق أجهزة المخابرات في البلدين وهي التي تمت من خلالها تبادل رسائل كثيرة قبل حرب أكتوبر 1973 وبعدها أثارت الكثير من علامات الاستفهام بدأت تلك القناة في فبراير 1973 حينما قام " رونالد كانرال " رئيس مجلس إدارة "البيبسي كولا" بترتيب لقاء بين حافظ إسماعيل مستشار الرئيس السادات لشئون الأمن القومي وبينهنرى كيسنجر مستشار الرئيس نيكسون لشئون الأمن القومي أيضا في واشنطن ومن تلك الفترة بدأت هذه القناة الخلفية في العمل بنشاط ومن وراء ظهر الدكتور محمود فوزى رئيس الوزراء.
وقد تممن خلال هذه القناة تبادل أخطر رسائل حددت النتائج التي أفرزتها حرب أكتوبر 1973 .من أخطر الرسائل المتبادلة في تلك الفترة هي الرسالة التي أرسلتها القاهرة في 7/ 10/ 1973 إلى هنرى كيسنجر والتي تقول :
- إن الاشتباكات التي تحدث حاليا في المنطقة لا يصح أنتثير أى دهشة لدى جميع أولئك الذين تتبعوا الاستفزازت الإسرائيلية المستمرة على الخطوط اسورية أواللبنانية فحسب بل أيضا على الجبهة المصرية وكثيرا ما لفتنا النظر إلى مثل هذه الاستفزازات التي لمتتوقف قط رغم الإدانة الدولية.
- وعلى ذلك فقد كانعلى مصر أن تتخذ قرارا بمواجهة أيةاستفزازات إسرائيلية جديدة بالحزم وبالتالي أن تتخذ الاحتياطات الضرورية لكي تواجه أى تصرف إسرائيلي من قبيل ذلك الذي جرى فوق سوريايوم 13 /9/ 1973 .
- المصادمات التي حدثت على جبهة القناة كنتيجة للاستفزازات الإسرائيلية كان المقصود منها من جانبنا أن نطهر لإسرائيل أنه لم يكن يساورنا الخوف أو أنه لا حول لنا ولا قوة وأننا نرفض الاستسلام لشروط تخطيط عدواني يهدف إلى احتجاز أرضنا كرهينة للمساومة .
- وكنتيجة للاشتباكات فإن موقفا جديدا قد نشأ في المنطقة ولقد كان طبيعيا توقع تطورات جديدة في خلال الأيام القليلة القادمة فإننا نود توضيح إطار موقفنا .
- إنهدفنا الأساسي لا يزال كما كان دائما تحقيق سلام في الشرق الأوسط وليستحقيق تسويات جزئية
- إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أوتوسيع مدى المواجهة .
- وأؤكد لكم مرة أخرى الرسالة التي لابد وأنتكون قدوصلتكم من مستر روكفلر والتي كانت تؤكد على .
- (أ) إن إسرائيل لابد وأن تنسحب من جميع الأراضي المحتلة .
- (ب) وعندئذ سنكون على استعداد للمساهمة فيمؤتمر سلام بالأمم المتحدة .
- (ت) إننا نوافق على حرية الملاحة في مضايق تيران ونقبل كضمان تواجدا دوليا لفترة محدودة .
وبناءعلى ما ورد لكسينجر عن طريق هذهالقناة الخلفية ف وبناءعلى ما ورد لكسينجر عن طريق هذه القناة الخلفية فإنه دعا لجنة الأمن القومي لاجتماع عاجل تم عقده في نفس اليوم ودارت المناقشات داخل اللجنة تحاول تحديد الموقف العربي إلا أن كسينجر قال في ثقة ردا على ما قاله أحد الأعضاء من أنه من الصعب عليه تصور أن السادات سيبقي على الضفة الشرقية للقناة "إن رأيي أنه سوف يبقي هناك " إنني أعرف أنه لن يتقدم أكثر من ذلك
ويضيف كسينجر في مذكراته:
- " إن السادات حافظ على عهده في اتصالات سابقة بألا يثير الكراهية ضدنا لا خدمة لنا ولكن لأنه لم يكن يرغب في دفعنا أكثر إلى جانب إسرائيل في الخطوات القادمة كانت خطة إنشاء علاقة معنا تجعلنا ليس فقط من الناحية الرئيسية بل من الناحية النفسية وسطاء"
قصدت من هذه الإطالة إظهار هذه القنوات الخلفية في تقرير مصير الدول والشعوب ولم أقصد أبدا تقييم "السياسات " التي تبودلت خلال هذه القنوات والتي دار عليها نقاش حاد في أجهزة الإعلام المختلفة إذ أن هذا قد يكون له مجال آخر.
هذه القنوات الخلفية تؤدى أدوارا أخطر كثيرا مما تؤديه القنوات الرسمية أو العلنية كما شاهدنا .ٍولكن هذه القناة الأخيرة التيقيل إنها فتحت أيام الرئيس السادات كانت مفتوحة من قبله ومن أيام عبد الناصر وهذه حقيقة معروفة تثبتها الوثائق الرسمية ولكن كان الرئيس السادات كما كان الحال مع بعض فراعنة مصر – دائما ما ينسي الماضي أويشوهه وكان في الوقت نفسه ينسب كل شئ إلى ذاته بالحقيقة أو بالباطل.
فتحت هذه القناة في يونيو 1969 بين المخابرات العامة المصرية وبين وكالة المخابرات المركزية في واشنطن ضمن قنوات اتصال متعددة بينالبلدين أقلها كان يتم عن طريق مكتب الإشراف على المصالح ولكن أكثرها كان يتم بطرق خلفية متعددة فبعد قطع العلاقات الرسمية بين البلاد العربية والولايات المتحدة الأمريكية كان الزائرون يتنقلون في زيارات متبادلة يحاولون فيها سبر غور المواقف هنا وهناك وكان تبادل الرسائل قائما .
رسائل تصل ويرد عليها رئاسل تصل ولا يرد عليها إلى أن تطورالأمر إلى وضع أكثر صراحة ورسمية بإنشاءمكاتب الإشراف على المصالح هنا وهناك والتي كانت في الواقع أقرب إلى مكاتب البريد منها إلى الإشراف على المصالح كانت الرسائل الواردة أو الصادرة تصل إليها لتعيد توزيعها على من يهمهم الأمر فمثلا كانت مبادرة روجرز المشهورة عبارة عن رسالة شفهية قرأها "برجس" المشرف على المصالح الأمريكية في القاهرة من أوراق مكتوبة كانت في حوزته .
كانت وكالة المخابرات المركزية تلح من جانبها على فتح هذه القناة بعد انتهاء حرب 1967 مباشرة وقام بالمحاولة أحد رجال المخابرات المركزية وهو "وليم بروميل" وكان خبيرا بالشرق الأوسط. وكان الرجل في العراق قبل أن تفجرت ثورة ثموز عام 1958 وحضر قيام الثورة هناك وسقوط العرش الهاشمي وإقامة الجمهورية وكان في القاهرة عام 1966 وحضر حرب 1967 ومكث فترة بعدها ثم كان في طهران بعد ذلك إلى أن أرسلته وكالته إلى القاهرة في يونيو 1969 لتكرار المحاولة .
قام بمحاولته الأولي لفتح القناة الخلفية بعد الحرب مباشرة كما سبق القول ولكن لم تكن الظروف تسمح بذلك على الإطلاق فلم تكن الأمور قدوضحت بعد وكان التركيز كله على إعادة ترتيب المنزل من الداخل كنانبني من جديد بعد النكسة الشديدة التي أصابتنا .ولم يكن في تقديرنا في تلك الفترة أن اتصالا من هذا النوع يمكن أن يعود بنتائج إيجابية من تلك النتائج التي يمكن الحصول عليها عن هذا الطريق .
فالاتهامات ثقيلة بالنسبة لقيام الولايات المتحدة الأمريكية بدورخطير في تدبير العدوان ثم كان موقفها بعد ذلك موقفا معاديا على طول الخط وذهبت في تأييدها لإسرائيل إلى حد بعيد ثم كان في اعتقادنا أن أى حوار مثمر لا يمكن أن يتم إلا من مصدر قوة وكانت قوتنا قد أهدرت في سيناء وهذا لم يمنع قيام الحوار عن طريق قنوات أخرى كثيرة .
كان الموقف في يونيو 1969 مختلفا عنه عقب النكسة مباشرة بالنسبة لقبول أو رفض فتح هذه القناة الخلفية.فقد كان الموقف في الولايات المتحدة أصبح جاهزا لذلك من وجهة نظر المخابرات العامة المصرية إذ تبلور الموقف في رأيين داخل الإدارة الأمريكية.
كان الرأى الأول يري الموقف من خلال النظرة التقليدية للسياسة الأمريكية إلى الصراعات الإقليمية إذ تنظر إليها دائما من ناحية انعكاس نتائجها على الصراع القائمين وشنجطن وموسكو على المستوي العالمي وفي إطار هذه النظرة فإن أصحاب هذا الرأي كانوا يرون عدم الإقدام على حل الأزمة بل الاكتفاء بإدارتها إذ أن طول الوقت وامتداده سوف يجعل العرب المؤيدين للإتحاد السوفيتي ينتقلون إلى الجانب الآخر نتيجة ليأسهم من الوصول إلى حل عن طريق مشاركة الاتحاد السوفيتي وترتيبا على ذلك
فلقد رفعوا شعارين :
- الشعار الأول أنه لا يمكن إيجاد حل عن طريق النظم الثورية أى التي تتعامل مع موسكو بأى حال من الأحوال وكان
- الشعار الثاني أنه لا يمكن للسلاح السوفيتي أن ينتصر على السلاح الأمريكي بأى حال من الأحوال ولذلك فإنه من الواجب الوقوف أمام أى حل سلمي تشترك فيه موسكو وعرقلته وفي نفس الوقت الإمداد المستمر لإسرائيل بالأسلحة المتطورة بحيث يكون التوازن دائما في جانبها .
أما الرأى الثاني فكان ينظر إلى الموقف كنظرة أصحاب الرأي الأول تماما من خلال النظرة التقليدية للسياسة الأمريكية إلى الصراعات الإقليمية أى النظر إليها من ناحية نتائجها ومردودها على الصراع العالمي بين وشنجطن وموسكو ولكنهم كانوا يختلفون في النتائج المترتبة على ذلك .
فبقاء الأزمة دون حل سلمي لها سيوطد العلاقات بين النظم الثورية وبين الاتحاد السوفيتي بل سيتيح للإتحاد السوفيتي الفرصة لكى يمد علاقاته إلى دول أخرى في المنطقة على أساس معاداة واشنطن للأماني العربية مع وقوف الاتحاد السوفيتي مؤيدا لها ثمتأثير عدم الوصول إلى حل نتيجة المواقف الأمريكية سوف يؤثر دون شك على النظم التقليدية في المنطقة والتي على علاقة وطيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية إذ أنها ستجد نفسها في موقف لا يمكن تبريره وأخيرا في الاتحاد السوفيتي مؤيدا لها؛
ثم تأثير عدم الوصول إلى حل نتيجة المواقف الأمريكية سوف يؤثر دون شك على النظم التقليدية في المنطقة والتي على علاقة وطيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية إذ أنها ستجد نفسها في موقف لا يمكن تبريره وأخيرا فإنه لا يمكن إغفال تأثير بقاء المنطقة دون حل أزمتها الراهنة على المصالح الأمريكية الموجودة خاصة المصالح النفطية ولذلك فإنهم كانوا ينادون بفرض القيد على التسليح الأمريكي لإسرائيل وضرورة فتح الحوارمع النظم العربية على اختلاف معتقداتها.
وبناء على ذلك فإنه كان من صالحنا فتح القناة حتى يمكننا أن نؤثر في الحوار الدائر في وشنجطن فلم يكن من المعقول أن نظل بعيدين عنه وكنا نعتقد بأن هذا لوتم فإنه سيكون حوارا من نوع آخر غير الذي يقوم به الدبلوماسيون بطريقتهم التي تزيد من تعقيد الأمور ولا تحلها خاصة وأن الحوار سيتم بطريقة غير رسمية وفي الوقت نفسه فهو حوار غير ملزم لأى طرف من الأطراف فلا يعقل مثلا أن يتم الحوار بين وزراء الخارجية أوبين رؤساء الدول على أساس شخصي أو غير رسمي علاوة على أن هؤلاء يحاولون أثناءقيامهم بالحوار أن يثبتوا دائما أنهم أكثر لباقة من الطرف الآخر بطريقة حذرة تحسب فيها الكلمات بالموازين الدقيقة .
كانت هذه هي الصورة التي أوضحتها للرئيس عبدالناصر وأنا أعرض عليه رأينا بخصوص "فتح هذه القناة الخلفية" حينما علمت بوصول "وليم بروميل" إلى القاهرة وبعد المقابلات التمهيدية التي تمت بينه وبين بعض المساعدين .
ووافق عبد الناصر بعد تردد لأن الرجل كان قد فقد ثقته نهائيا في الولايات المتحدة الأمريكية شاكا في نواياها حذرا من تصرفاتها وقد أثبتت الأيام أنه كان على حق في شكوكه وحذره ولكنه وافق على أساس أن المصلحة تقتضي ذلك فليس للعداوة أو الصداقة الكلمة الأولي في ممارسة السياسة .
وبناء على ذلك حددت موعدا لمقابلة وليم بروميل مندوب وكالة المخابرات المركزية وكان الرجل سعيدا بالمقابلة لأن ذلك في حد ذاته كان يعتبر رسالة لحكومته بأننا رغما عن حماقتها وعداوتها راغبون في الحوار وأننا لسنا كما كتب البعض بعد ذلك مع الأسف الشديد من أنصار غلق أبواب الحوار وسدها.
لقد كان هناك إتفاق عام ومن أول وهلة على ضرورة تحديد الغرض من هذه القناة الخلفية وعلى أن يكون الغرض عند تحديده مثمرا وإيجابيا فكل إنسان في استطاعته إقامة اتصال وعلاقة ولكن أن يكون هذا الاتصال مثمرا والعلاقة إيجابية فهذا شئ آخر .
ولم يكن من المتصور أن يكون الحوار من خلال هذه القناة الخلفية في نطاق التعاون بين جهازى المخابرات في البلدين لأن مفهوم التعاون في هذا المجال بيني على وجود هدف واحد مشترك تسعى الدولتان لتحقيقه كأن يكونمثلا القضاء على نظام ما في دولة أخرى وهنا لابد من اطلاع كل طرف على مالدى الطرف الآخر من معلومات تمكن من تحقيق الهدف المشترك ولم يكن الأمر هكذا بين الدولتين فكل منهما تريد "قطع رقبة الأخرى " ولكن بفارق رئيسي أن إحدى الدولتين معتدية والأخرى معتدى عليها .
ولم يكن من المتصورأيضا أن تيم الحوار على أساس اختلاف أهداف الطرفين مع عدم تعارضهما أوتصادمهما فإن الأغراض كانت مختلفة ولا يسير هذا الخلاف في خطوط متوازية ولكنها خطوط ولم يكن هناك خلاف على ذلك بين وجهتي النظر إذ يتم الحوارفيهذه المجالات بصراحة كاملة لايترك وراءها شكا أوغموضا .
ولكن بقي جانب واحد يكن الاتفاق على العمل فيإطاره وهو ضرورة وجود استقرار في المنطقة يبني على أساس سلام عادل إلا أن بروميل وهو ينقل رأي وكالته أضاف بعض التوضيحات أن الهدف المشترك لفتح هذه القناة في رأيهم هو إيجاد حل للأزمة العربية الإسرائيلية بدون حرب كذا إيجاد طريقة تتيح للولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى أن تسهم بطريقة ما في تنمية مصر وكان الرجل قلقا من تزايد العلاقة بين القاهرة وموسكو وعلى ثقة في الوقت نفسه من أن القاهرة قد استعادت قدرتها بصورة ملحوظة خلال العامين السابقين .
وتم الاتفاق على أن يكون الغرض هوتبادل وجهات النظر بصورة صريحة ودقيقة قد لا تسمح بها الاتصالات الرسمية الأخرى دون ترديد وجهات النظرالقائمة على أنها منزلة من السماء كما تم الاتفاق على أن يكون ممثلهم هنا هو " يوجين ترون" الذي أمضي ثلاث سنوات كاملة في سيلان وفي قبلها خدم في لبنان والعراق وقدم اسمه إلى وزارة الخارجية المصرية للحصول على موافقتها لينضم الرجل عند مجيئه إلى مكتب الأشراف على المصالح الأمريكية في القاهرة.
وتمت الموافقة وحضر "يوجين ترون" ليتولى مع مندوبنا فتح قناة خلفية جديدة مهد لها "وليم بروميل" من قبل ...!!وبدأت القناة فيعملها المثير ... ولكن ماذا تم فيها ؟!! وهذا ليس ملكنا فلا يجوز إذنأن نتحدث عنه وأظنه سيبقي كذلك لوقت طويل قادم.
كانت هذه القناةإذن قناة غير مباشرة للرئيس عبد الناصر بين جهازين سريين على قرب من دائرة اتخاذ القرار ومؤثرين فيه وبالرغم من كل ذلك فإن الحوار غير ملزم . وكان الحوار يسجل وبدقة ويرفع للرئيس أولا بأول ليعطي فيه توجيهاته .
وقد فتحت قنوات خلفية قبل ذلك بواسطة أفراد عديدين ربما مع وكالة المخابرات المركزية وربما مع غيرها ولكن البعض من هؤلاء أداروا "القناة الخلفية" لحسابهم أو ربما لحساب "الوكالة "أو " لغيرها ".... البعض من هؤلاء "سقط" والبعض الآخر كان أذكي من أن "يسقط"
واستمرت هذه القناة الخلفية من العمل حتى بدأ الرئيس أنور السادات في استخدامها وهنا تحولت القناة إلى قناة ملزمة إذ كان على أحد طرفيها قمة القيادة السياسية وعلى الطرف الآخر بعض أفراد من الحلقة الداخلية وتحولت بالتالي إلى قناة تبحث عن أى حل وبأى ثمن بدلا من أن كانت وسيلة تحاول أن تضغط وتؤثر على الطرف الآخر .
وهنا يمكن أن تكون هذه القناة الخلفية قناة " قديمة " و" جديدة"!! "قديمة" في نشأتها ولكنها "جديدة" في هدفها وأسلوبها ..ولذلك فإن من يقول إنها " قناة قديمة" فهو صادق .ومن يقول إنها "جديدة" فإنه لا يتجاوز الحقيقة .
موضوع آخر لم أتحدث عنه من قبل كسابقه إلا بعد أن رأيت أن البعض تحدث فيه وصوره على غير حقيقته وهو موضوع الاتصالات التي تمت مع "ناحوم جولدمان" وقبل أن نبدأ الحديث عن الموضوع نقرر أن هذه الاتصالات لا تدخل إطلاقا ضمن ما يطلق عليه "قناة خلفية" أو غيرها .
إذ كانت العملية كلها عملية مخابرات بحتة مما يدخل في نطاق "الحصول على معلومات" كذا من ناحية "العمليات الإيجابية" التي تقوم بها أجهزة المخابرات وهذا غير ما صورت به هذه الاتصالات سواء في وسائل النشر الداخلية أو الخارجية .
إذ أن العملية عملية "مخابرات بحتة" قام بها جهاز المخابرات العامة المصرية وأى حديث غير هذا لا يستند إلى الواقع وللدلالة على أن هذه الاتصالات لمتكن في إطار "القنوات الخلفية" التي نتحدث عنها نعرف القارئ أولا "بناحوم جولدمان"
ولد ناحوم في لتوانيا في 10 /7/1895 وبعد ولادته بفترة ست سنوات لحق بأبويه اللذين هاجر إلى فرانكفورت وتركاه في رعاية جده لأمه وبذلك فإنه ولد في أوروبا الشرقية وترعرع في أوروبا الغربية والتحق بالحركة الأرثوذكسية الهيودية وهي حركة محافظة كانت تنادى بابتعاد اليهود عن الثقافات الأجنبية حتى لا يذوبوا في غيرهم من الشعوب وطوال دراسته الثانوية كان لا يكف عن الدعاية للحركة الصهيونية عن طريق إلقاء المحاضرات وكتابة المقالات بل بلغ من حماسته أنه كان يتصدى للمبشرين البروتستانت الذين اعتادوا التبشير في الأوساط اليهودية الفقيرة لتعميدهم نظير مغريات مادية .
ثم التحق بجامعة هيدلبرج ليدرس القانون ولم يكن جولدمان طالبا مواظبا بل كان كثير التغيب عن دراسته لإنشغاله بملذاته وبنشاطه الصيوني ولذلك فإنه كان يستعيض بمن يلخص له دروسه رجاء أجر زهيد عن هذا التغيب لينجح بأى ثمن واجتاز الامتحان ثم تقدم للحصول على الدكتوراه وأعد رسالته بتجميع عدد من مقالات كان يكتبها فيإحدى المجلات بعد أن أضاف إليها بعض الدراسات القانونية !!!
ولدهشته قبلت الرسلة وأصبح "الدكتور جولدمان" حاملا للقب العلمي المرموق وفيتلك الفترة تكونت شخصيته الصهيونية على أساس محاربة "الاندماج" أى اندماج اليهود مع غيرهم من الديانات وعلى أساس العلاقة الحتمية بين يهود المنفي ويهود الوطن أن حياة المنفي ضرورة لاستمرار اليهود على الأرض .
فلا يمكن لأرض الميعاد أن تستغني عن يهود المنفي والرجل كان وراء عدة مشروعات صهيونية فقد كان من مؤسسي " دائرة المعارف اليهودية" وأصدر منها عشرة أجزاء باللغة الألمنية وكان وراء موضوع التعويضات الألمانية لإسرائيل والمشرف الوحيد على المفاوضات التي دارت بخصوصها حتى وقع الاتفاق في 10 /9/ 1952 في لكسمبورج وقد وقعها اديناورمستشار المانيا الاتحادية وموشي شاريت وزير خارجية إسرائيل وناحوم جولدمان نيابةعن اليهود
وكان من نتيجة هذه الاتفاقية أن دخل الخزانة الإسرائيلية ستون مليون مارك علاوة على بلايين أخرى حصلت عليها إسرائيل لتعويضات وهمية وهو يدين بمبدأ أن مالا يمكن الحصول عليه بالعنف يمكن تحقيقه عن طريق السياسة والتحايل وعاد بعد إنشاء الدولة يعبر عن رأيه في الصراع العربي الإسرائيلي بأنه صدام بين حقين ولذلك فإن لكل من العرب واليهود حقا في أرض فلسطين .
ويتضح من هذه المعلومات أن أهداف "جولدمان" الصهيونية لا شك فيها ولكنه كان يؤمن بالسياسة والتحايل لتحقيق الأغراض الصهيونية وتثبيتها إذ أن استخدام القوة بصفة دائمة في سبيل تحقيق ذلك فيه خطر على إسرائيل وهذا حق تؤيده أحداث التاريخ .
والرجل أيضا كما رأينا كان لا يأخذ الحياة بمحمل الجد خاصة بعد أن عاش في الخارج ولم يرض بالعيش داخل إسرائيل لا قبل نشأتها ولا بعد نشأتها وإن كان لا يتردد في تقديم أى خدمة يراها واجبة في سبيلها بالصورة التي يرضاها وتتفق مع أفكاره.
ثم كان الرجل بعد أن استكان إلى حياة الدعة والراحة يميل إلى إعطاء نفسه صورة على غير حقيقتها وكانت حياته فخمة سواء في شقته في باريس أو محل إقامته في واشنطن حيث دأب على التنقل بين دول أوروبا والولايات المتحدة يسهل له ذلك موارده المالية الكافية الميسرة.
وبالرغم من أنه كان بعيدا عن السلطة في إسرائيل وبالرغم من أنه لم يكن ذا تأثير على القرار الإسرائيلي بأية صورة من الصور إلا أن كثرة اتصالاته مع الشخصيات العالمية والإسرائيلية ووكثرة تنقلاته في أنحاء العالم ولخبرته التي لا شك فيها نتيجة لتاريخه السياسي الطويل ..
كل ذلك جعل الاتصال به من ناحيتنا عملا مفيدا ولابد أن نوضح بدقة طبيعة هذا الاتصال:
- فلا يمكن أننعتبر مجرد اتصال يتم مع شخصية كشخصية "الدكتور جولدمان" عبارة عن فتح "قناة خلفية" فيحدود المفهوم الذي سبق وحددناه إذ لو كانت الحاجة تدعو إلى فتح هذه القناة مع إسرائيل لكان الأجدى فتحها مباشرة على الكثيرين ممن لهم سلطة اتخاذ القرار أو التأثير في اتخاذه وهم كثيرون علاوة على توفر الرغبة الملحة في ذلك .
- ولا يمكن تصورأن الاتصال الذي قمنا به معه عن طريق غير مباشر أن الرجل كان يعرف ذلك أوحتى كان يرحب به بل هو اتصال عادى مع رجل من المصلحة أن نتصل به في غير نطاق عمل رسمي أو سري .
- لم يكن الاتصال مع الدكتور جولدمان أيضا بقصد أهداف سياسية أو القيام باتصالات سياسية أوالتمهيد لها كماذكرفي بعض الروايات إذ لم يكن الرجل في وضع يمكنه من ذلك .
كان الغرض من الاتصال بالرجل دون أن يعرف أو يحس بذلك والذي حددناهلمن كلفناهم بهذه الاتصالات ينحصر في الآتي ..
- الحصول على أكبر قدرممكن عن إسرائيل ثم إعادة تقييمها بواسطة المختصين في مرحلة تالية
- مده ببعض المعلومات والاتجاهات مع التأكد أنه سينقلها إلى الطرف الآخر خدمة لأهدافنا دون أن يقصد ذلك أو يدرى به .
- وتطور الموقف بعد ذلك كما سنرى ليكون الغرض إحداث زغزغة أو فرقعة داخل الائتلاف الحاكم في إسرائيل بعد أن أثارت الصحافة العالمية بما عرف " بمسألة جولدمان " في ذلك الوقت .
ولم تكن المعلومات التي حصلنا عليها بطريق غير مباشر من الدكتور جولدمان بذات قيمة حقيقة إذ كانت في بعض الأحيان ناقصة وعامة وفي أحيان أخرى تنقصها الدقة سواء في مجالات المعلومات السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية إلا أن القيمة الحقيقة بالنسبة لهذا الرجل كانت تتمثل في معرفته الدقيقة بالتيارات السياسية داخل إسرائيل وبالعوامل المعقدة التي تتحكم في الحياة السياسية فيها في إطار إيمانه بضرورة إيجاد مصالحة بين إسرائيل والبلاد العربية وبصفة عامة وبينها وبين القاهرة على وجه الخصوص أما كنه هذه المصالحة فلم تكن واضحة إطلاقا في أحاديثه .
كان الرجل يكرر في معاملاته المتعددة التي كانت تصل إلينا بين الحين والحين أنه يريد أن تدعوه القاهرة لزيارتها.وكان يؤمل كثيرا في نتائج هذه الزيارة .كان اقتراحه هذا نابعا من رغبتين متنازعين .
رغبة حقيقية في المساهمة في حل الأزمة التي كان يعتقد بخطرها على إسرائيل أو على حد قوله أنه يريد إبعاد إسرائيل من نفسها ورغبة شخصية بتطلعه إلى العودة إلى الأضواء مرة أخرى إن تحققت رغبته تلك إذ سيكون لو تمت الزيارة أول يهودى على هذا المستوى يكسر حاجز الاتصال مع مصر أكبر الدول العربية جميعا.
ولم ترد القاهرة أبدا على هذا الاقتراح بالرفض أو القبول كان الرجل يتحدث حديثا عاديا وكان المستمع له يسمع ما يقول دون أن يعلق .ولما طال الوقت بالدكتور جولدمان شد رحاله إلى إسرائيل ليجس النبض بخصوص أفكاره.وما هو ردالفعل الذي يمكن أن يحدث لو تحققت هذه الأحلام ؟!!
وفعلا سافر الرجل في اوائل 1970 ربما في أبريل أو مايو هذا العام إلى إسرائيل حيث بدأ اتصالاته مع رجال الائتلاف الحاكم وحصل على موافقه إبا إبيان وموشي دايان وزيرا الخارجيةوالدفاع على التوالي بصفة شخصية وفردية؛
وحينما اتصل بجولدا مائير رئيسة الوزراء في ذلك الوقت وطلب رأيها في زيارته القاهرة لو دعي إليها أجلت إبداء الرأي حتى ترجع إلى الحزب للإستشارة برأيه وقد انزعج "جولدمان " من موقف جولدا مائير هذا وحذرها من الرجوع إلى مجلس الوزراء لأخذ رأيه فيهذه المرحلة لأن الخبر سيتسرب دون شك إلى الصحافة وهنا ستكون الكارثة قد حلت بكل آماله .
كنا على علم بهذه التطورات وكانت الأمور تسير حسب ما نرجو ونأمل وفعلا عرضت جولد مائير موضوع زيارة جولدمان إلى مصر على مجلس الوزراء وإن لم يكن قد وافق أو اعترض عليها أحد واتخذ المجلس قرارا بعدم الموافقة على الزيارة ولم يكن القرار بالإجماع بل وافق البعض على ذلك بينما كان عدد من الغائبين عن الاجتماع أيضا لا يعترضون على إتمامها.وتسرب لخبر إلى الصحافة وأذيع على العالم أجمع وكانت فرقعة لها دوى .
قامت المظاهرات في بعض المدن بعضها يؤيد الزيارة والبعض الآخر يعارضها ومقالات في الصحافة مؤبدة وأخرى معارضة بل وفي أثناء اجتماع عقد في جامعة تل أبيب حضره جولدمان نفسه أخذت الأصوات على الزيارة التي لم يدع إليها بعد فكانت النتيجة : 118 مؤيدون للزيارة ,90 معارضون لها 16 امتنعوا عن التصويت.
وهوجم جولدمان من البعض بأنه رجل لا يعرف إسرائيل فهو يعيش خارجها وبالرغم من ذلك كان جولدمان سعيدا بزيارته لإسرائيل بعد إعادته إلى الأضواء من ناحية وجعلته يلمس بنفسه أن إحساسه بأن كثيرا من الشباب الإسرائيلي قد زهد الحرب والقتال كان على أساس وكان يردد في سعادة تامة أن نفس الشعارات التي كان الشباب يهتف بها "إلى المطبخ يا جولدمان إلى القاهرة يا جولدمان ".
وحتى بعد وصول الموقف إلى ما وصل إليه كان جولدمان يأمل أن تصله يوما دعوة من القاهرة لزيارتها وأن حدث ذلك فإن إصدار بيان بعد إتمامها سوف ينتج عنه تأثير حقيقي داخل إسرائيل يؤدي إلى إحداث تمزق في الائتلاف الحكومي القائم الأمر الذي يعتبر الركيزة الأولي في تغيير الموقف المشدد للحكومة الإسرائيلية .
كان الرجل ما زالمتعلقا بأمل صنعه بنفسه ولنفسه وظل مسيطرا عليه لفترة طويلة كان يريد أن يحيط نفسه بهالة الماضي وكان يردد أمام زائريه قصصا فيها مبالغة ولا ينقصها الخيال .
كان يتحدث مثلا عن دعوة وجهت إليه من "تيتو" رئيس يوغوسلافيا لزيارة بلغراد ليمضي من زيارته المأمولة إلى القاهرة وعن موافقة عبد الناصر على إتمامها بشرط أن تكون علنية وبعد موافقة الحكومة الإسرائيلية نفسها ولكنه لم يكن قادرا على تفسير السبب الذي توسط من أجله عبد الناصر صديقه تيتو في هذا الأمر ؟ ولم لا يتم العرض مباشرة !
وكان يتحدث عن محاولات يقوم بها الاتحاد السوفيتي لدعوته إلى موسكو بعد معرفة مواعيده المتاحة وأنه ما زال يفكر في قبو الدعوة أو الاعتذار عنها لمشغولياته المتعددة .
وكان يتحدث عن زيارته للولايات المتحدة للتأثر على الزعماء اليهود هناك لعلهم يفهمون موقفه حتى رسائله والتي قدم إحداها إلى أحد الصحفيين المصريين الكبار يطلب فيها دعوته لزيارة مصر كانت تكتب على ورق مصقول مطبوع عليه بالخط البارز "الدكتور جولدمان "
وبمناسبة الحديث عن الصحفيين لابد أن نذكر الخدمات التي أدها أحدهم وقت أن كان يعمل في "روز اليوسف" فقد كان أحد المتصلين بالدكتور جولدمان وبغيره عن طريق المخابرات العامة وهناك محاولات كثيرة لفتح " القنوات الخلفية كانت تتم بين وقت وآخر ولكنها جميعا كانت تقابل بالرفض.
فالمخابرات الايطالية في ذلك الوقت وكانت تحت رئاسة الأدميرال "هانكي" عرضت فتح قناة كفلت لها كل عوامل السرية إلا أن المحاولة قوبلت بالرفض .
و"ليوهامو" مدير الاستعلامات الفرنسي والناطق الرسمي باسم الحكومة الفرنسية والمعروف بميوله لإسرائيل حاول عقد لقاء بين مسئولين في مصر وإسرائيل على أى مستوى بصفة سرية وتحت إشراف الحكومة الفرنسية إلا أن المحاولة قوبلت بالرفض أيضا ومحاولات أخرى كثيرةتمت ولكننا لا يمكن أن نحكي تفاصيلها.
السبب الذي من أجله حكينا "قصة جولدمان" إن البعض حكاها يحاول أن يخلق منها بطولة والأمر خلاف ذلك كما رأينا / اتصال عادى مع رجل لم يكن في الإمكان تجاهله لتحقيق أغراض واضحة تحققت كلها دون أن يكون الأمر في حاجة إلى بطولة أو ابطال .
الفصل الحادي عشر:إستراتيجية عبد الناصر في البحر الأحمر
يحدد الواقع الجغرافي للبحر الأحمر أهميته القصوى المستمرة بالنسبة للسياسة المصرية منذ القدم وليس أدل على ذلك أنه سمي في الأزمنة السحيقة بالحر الفرعوني قبل أن يسمى بعد ذلك ببحر العرب وبحر القلزم ثم البحر الأحمر وأن بطليموس أنشأ مواني على سواحله الغربية كما أنشأ البطالمة الطرق البرية التي تربط مواني البحر الأحمر بوادي النيل ثم قام محمد على ومن بعده إسماعيل ببناء المواني العديدة على سواحله جنوبا والتي ما زالت قائمة حتى الآن .
وتضاعفت الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر في وقتنا الحالي لأسباب عديدة أهمها :
- فهو قناة وصل بين البحار المفتوحة في المحيطين الأطلنطي والهندي عبر البحر المتوسط المقفول وقناة السويس والبحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن فالمحيط الهندي وتتزايد أهميته تلك في ضوء إعادة التوزيع الاستراتيجي للقوات المتضادة عقب الحرب العالمية الثانية.
- وهو المتحكم في مخارج ومداخل البحر المتوسط والخليج العربي فأى تحرك في البحر المتوسط لابد وأن ينتهي إلى البحر الأحمر عبر قناة السويس كما أن أى تحرك في الخليج العربي إلى أوروبا لابد أن ينتهي بالضرورة إلى البحر الأحمر عن طريق مضيق هرمز خليج عمان المحيط الهندى باب المندب .
- ويعتبر بمثابة خط أنابيب لنقل البترول الخام من مناطق إنتاجه في الخليج العربي إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وتعتمد أوروبا الغربية على البحر الأحمر في نقل احتياجاتها من بتورل الخليج بنسبة 100% كما أن إسرائيل كانت تعتمد حتى أواخر الستينات والسبعينات بنفس النسبة على نقل احتياجاتها البترولية من إيران أيام حكم الشاة محمد رضا بهلوى إلى البحر الأحمر ثم إيلات ثم إلى أسدود عبر خط أنابيب إيلات أسدود وبذلك فإن للبحر الأحمر أهميته الكبرى بالنسبة للأمن العربي والأمن الإسرائيلي والأمن العالمي . لأنه إن كان الخليج العربي يعتبر مركز ثقل في الإستراتيجية الاقليمية والعالمية من ناحيته الاقتصادية فإن هذا الثقل يعتمد على باب المندب والبحر الأحمر وقناة السويس منناحية النقل والتسويق . ولو توقفت الحركة عبر البحر الأحمر في أى جزء من أجزائه فإن نتائج خطيرة تترتب على ذلك إذ تجف معامل التكرير في ميناء روتردامويجف تبعا لذلك خط الأنابيب روتردام الراين الذي يصل روتردام بأحواض الروهر الألمانية ثم فرنكفورت .كذا يجف خط أنابيب روتردام بلجيكا فرنسا وبالتالي ينقطع مرور البترول إلى أوروبا الغربية عن طريق خط الأنابيب "سوميد" الممتد من السحنه على البحر الأحمر إلى شواطئ البحر المتوسط الجنوبية وهذا هو الحافز الحقيقي وراء موافقة الدول الأوربية الغربية على خط غاز سيبريا رغما عن اعتراضات الولايات المتحدة الأمريكية .ولذلك فإنني مع الذين يعتبرون أن منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر منطقة إستراتيجية واحدة لا يمكن الفصل بينهما من الناحيتين الاقتصادية والإستراتيجية فإحداها وهي منطقة الخليج منطقة إنتاج النفط والمنظفة الأخرى هي منطقة خطوط المواصلات لنقل هذا الإنتاج إذن فهذا الاعتماد المتبادل يخلق نظرة إستراتيجية واحدة للمنطقتين .
- ثم بالنسبة للتحركات الإستراتيجية والاقتصادية فإن البحر الأحمر يلعب دورا خطيرا من ناحية عامل الوقت والمسافة فهو يوفر الوقت والوقود إذا قورن بالمرور عن طريق رأس الرجاء الصالح لأنه إذا كانت المسافة من ميناء "نورما نسيك" السوفيتي على بحر البلطيق إلى المحيط الهندى عن طريق رأس الرجاء الصالح 12,000 ميل فإنها من مواني البحر الأسود إلى المحيط الهندي عبر قناة السويس لا تتجاوز 3000 ميل ولذلك نجد أن الولايات المتحدة كانت راضية عن استمرار قفل القناة جعل مساعدة الاتحاد السوفيتي لفيتنام الشمالية صعبة للغاية ولم يترك أمامها إلا الطريق البرى عبر الصين الشيوعية وهو أطول ويتعرض إلى ضغوط سياسية.
وبالرغم من هذه الأهميات التي تعتبر عامة بالنسبة للسياسة العالمية والتي يجب وضعها في الحسبان عند "التخطيط الاستراتيجي المصري " إلا أن هناك اعتبارات خاصة بالنسبة لنا تضاعف من أهميته:
- فالبحر الأحمر متاخم لكيانات سياسية محل اهتمام مصر ولها معها علاقات:اليمن الشمالي واليمن الجنوبي والسعودية على الساحل الشرقي للبحر الأحمر وجيبوتي وأثيوبيا والصومال والسودان على ساحلة الغربي .
- وهو أيضا قريب للكثير من المناطق الحساسة لمصر فهو قريب من "منابع النيل وروافد" التي تمد مصر بالمياه وينظم ذلك اتفاقيات دقيقة لدول حوض نهر النيل ثم يؤثر ويتحكم كما سبق أن قلنا في منطقة أخرى تشبه منطقة حوض النيل وهي منطقة الزيت في الخليج والسعودية والتي تعتبر بمثابة منطقة المنبع التي تنقل إنتاجها عبر منطقة خطوط مواصلات خطيرة أهمها البحر الأحمر. هذه الأهمية وهذا التحكم دعت "مانشين أوماتزيني" وزير خارجية إيطاليا في القرن 19 يقول "إن مفاتيح البحر المتوسط تقع في البحر الأحمر" وهو ما نسميه "بخطة ما تزيني ذى الذراع الواحدة" إذ كان من رأيه وهو رأى صواب أنه يمكن لأى قوة تسيطر على سواحل البحر الأحمر الغربية أن تندفع غربا خلال كردفان ودارفور من السودان ليتصل بمناطق نفوذ لها على ساحل البحر المتوسط في حركة التفاف كبرى تهدد بها مركز ثقل المنطقة كلها وهي مصر وفي الوقت نفسه تتحكم في السواحل الجنوبية للبحر المتوسط وبالمثل فإن أية قوة تتحكم في سواحله الشرقية أو جزء منها كما يحاول الاتحاد السوفيتي الآن يمكنها أن تندفع شرقا إلى منطقة الخليج الحساسة لتتصل بمناطق نفوذ لها في الشرق في حركة التفاف واسعة إلى بحر قزوين هذه الخطة نسميها " الخطة ذات الذراعين " ذراعها اليسري هي " ذراع خطة ما تزين " بالارتكاز على أثيوبيا في البحر الأحمر وليبيا في المتوسط أما ذراعها اليمني من اليمن الجنوبي مرتكزة على عدن إلى أفغانستان أما الولايات المتحدة فتحاول كسر الذراعين وتمنعهما من إتمام حركة "الكلمات الكبيرة ".
- ويطل البحر الأحمر على الأرض التي يوجد بها الأماكن المقدسة للمسلمين وتقوم السفن بنقل الحجاج عبر البحر الأحمر من ميناءى السويس وسفاجة إلى ميناء جدة وهي الميناء البحري لمكة مكان الكعبة التي يحج إليها المسلمون من كافة أنحاء العالم وقبل أن تصبح السعودية دولة بترولية كانت مصر ترسل "كسوة الكعبة" وتمدها بمساعدات كبيرة في مجال التعليم والطب ونشر الدين واستمر ذلك إلى وقت قريب.
- ثم العلاقات التاريخية بين العرب بوجه عام ومصر بوجه خاص بالدول الإفريقية ويمكن أن يقال إن مصر كانت قد تمكنت في منتصف القرن الماضي من تحقيق أقصي إتساع لعمقها بالامتداد إلى السودانومنه جنوبا حتى المناطق الشمالية من بحيرة فيكتوريا وبالسيطرة على كل الساحل الغربي للبحر الأحمروالامتداد منه إلى الجانب الأفريقي مضافا إليها ولو لفترات محدودة السعودية واليمن في الشرق وسواحل الصومال المطلة على المحيط الهندى لدرجة أن صمويل بيكر كتب الآتي "لا شك أن مصر وحدها هيالتي تستطيع أن تدخل الحضارة إلى أفريقيا النيلية بإنشاء حكومة نظامية فيها وبذلك تضمن حماية الرحالة والسائحين في تلك الجهات وتفتح أواسط إفريقيا للحضارة والعمران ويكفي دليلا على ذلك أن السائح الأوروبي أصبح في مقدروه أن يجوب الأماكن البعيدة التي امتد إليها الحكم المصري دون أن يخشي على نفسه أكثر مما كان يخشاه من سيره عند غروب الشمس في حديقة هايدبارك"
- وإسرائيل التي فرضت نفسها في المنطقة أضافت إلى اهتمامات السياسة المصرية بالبحر الأحمر إذ أصبحت كل من القومية العربية والقومية الصهيونية وجها لوجه وكانت إحدى صور المواجهة تتم في خليج العقبة والبحر الأحمر إذ بدأت إسرائيل في إنشاء إيلات لاتخاذها قاعدة لاختراق إفريقيا بمساعدة الدول الاستعمارية عن طريق التمثيل الدبلوماسي ثم عن طريق التبادل التجارى خاصة وأن قناة السويس كانت مقفولة أمام الملاحة الإسرائيلية فركزت إسرائيل على البحر الأحمر للوصول إلى دول شرق افريقيا ووسطها ولحليفتها جنوب إفريقيا .
الموقف عند قيام ثورة يوليو في منطقة البحر الأحمر
كان الموقف عند قيام الثورة معقدا غاية التعقيد مليئا بالمشاكل الخطيرة والتحديات الكبرى:
- فعلي امتداد قناة السويس المدخل الشمالي للبحر الأحمر كانت هناك القاعدة البريطانية التي قدر عدد القوات التي كانت تتمركز فيها لبما لا تقل عن 80,000 مقاتل وكانت تشمل علاوة على ذلك بعض المطارات والمخازن المليئة بالمعدات والأسلحة وقد اكتسبت القاعدة البريطانية صفةالشرعية بعقد معاهدة 1936 والتي رضي بها أغلب الأحزاب التي كانت قائمةفي ذلك الوقت في عام 1951 كانت المعاهدة قد فقدت هذه الشرعية بعد أن ألغتها حكومة الوفد.وبالرغم من هذا الإلغاء القانوني لمعاهدة وبالرغم من الصدامات الدامية التي وقعت بين المصريين والبريطانيين على المستويين الرسمي والشعبي إلا أن القوات الأجنبية تشبشت بمواقعها في القناة وعلاوة على أن منطقة القناة كلها كانت قاعدة لقوات أمنية فإن القناة نفسها كانت تدار بواسطة الاحتكارات الأجنبية ممثلة في شركة قناة السويس التي كانت تستولي على إيراداتها فيما عدا حصة ضئيلة لا تتجاوز المليونين من الجنيهات تعطي للحكومة المصرية وكانت هذه الشركة وبحق دولة داخل الدولة .
- وكانت إسرائيل قد وطدت أقدامها في فلسطين المحتلة وأخذت تعزز مواقعها في خليج العقبة لتتخذ من البحر الأحمر شريانا للاتصال بالدول الأفريقية وتعويضا لها عن قفل قناة السويس أمام ملاحتها وكان الوضع الاستراتيجي لإسرائيل خطيرا للغاية إذ قسم ولأول مرة البلاد العربية جغرافيا بعد أن كانت هذه البلاد تشكل كتلة إستراتيجية واحدة وقد تم لها ذلك حينما استولت على النقب ثم على أمر رشرش التي حولتها بعد ذلك إلى ميناء فإن الثورة ورثت مشكلة فلسطين ولم تصنعها .
- كان السودان ما زال تحت الحكم الثنائي المصري البريطاني من الناحية الشكلية إذ كان الحكم بريطانيا .وبالرغم من أن الملك كان قد اتخذ لنفسه لقب مصر والسودان ودار فور بالرغم من أن الأحزاب كانت تنادى بضم السودان إلى مصر ,وبالرغم من أن بعض القوات المصرية كانت موجودة في الخرطوم وجبل الأولياء وبورسودان إلا أن بريطانيا كانت هي التي تحكم وتقرر .
- أما الصومال الذي يعتبر همزة بين عرب إفريقيا وزنوجها في الشرق فكانت تحت وصاية الأمم المتحدة والإدارة الإيطالية وكان الأمم المتحدة قد أنشأت هيئة تابعة لها هي " المجلس الاستشاري " منذ عام 1950 مكونة من مندوبين عن مصر وكولومبيا والفلبين بقصد الإشراف على الإدارة في الصومال والتأكد من تطوير البلاد نحو الاستقلال خلال فترة تنتهي عام 1960 وكان وجود مصر في هذا المجلس شكليا قبل الثورة فلم يكن لدى مصر الرغبة أوالقدرة على الاصطدام بالمصالح الاستعمارية من أجل تحقيق آمال القوى الوطنية في الصومال.أما الحبشة تحت حكم الامبراطور العجوز هيلاسلاسي فكانت تحاول توسيع أراضيها في شرق إفريقيا في ظل حكم رجعي متأخر يقع تحت وهم تمثيله للقاعدة المسيحية الوطيدة في أفريقيا يقف حارسا أمينا ضد الانتشار الإسلامي في القارة .
- أما إلى الساحل الشرقي للبحر الأحمر كانت هناك السعودية واليمن يعيشان في ظل حكم رجعي استبدادي يستند إلى طريقة حكم القرون الوسطي أما عدن فكانت قاعدة بريطانية كبرى وبذلك كانت بريطانيا تتحكم في المدخل الشمالي للبحر الأحمر عن طريق قاعدة قناة السويس وتتحكم أيضا في مدخله الجنوبي وهو باب المندب عن طريق قاعدتها في عدن ثم كانت في نفس الوقت تتحكم في منطقة الخليج بقواعد هناك.وكانت هذه الأوضاع تتناقض مع مبادئ الثورة الوليدة وتقيد تحركاتها بعد أن وضحت سياستها في تحقيق الاستقلال وتطهير أراضيها من القوات الأجنبية وعدم الدخول في أحلاف تدخلها إلى مناطق النفوذ وأن مصر لا تستطيع أن تعيش وحدها إذ تعتبر الثورة نفسها جزءا من ثورة التحرر الوطني في العالم بوجه عام والتحرر العربي بوجه خاص وكان هذا إيذانا بالتصادم الذي استمر لسنوات قادمة.
النظرة الاستراتيجية للثورة المصرية للبحر الأحمر
كان البحر الأحمر ومن اللحظة الأولي له مكانته الهامة في السياسة المصرية كما يتضح من التفاصيل التالية :
منطقة قناة السويس
إذا كان البحر الأحمر يؤثر في قناة السويس إيجابيا وسلبيا فإن قناة السويس تؤثر في البحر الأحمر تأثير خطيرا ومباشرا فالقناة أنبوب يصل بين بحيرتين مقفولتين تسيطر البلاد العربية على إحداهما بالكامل وهو البحر الأحمر وتسيطر على الأخرى وهي البحرالمتوسط من ساحليه الجنوبي والشرقي وموضع مصر منهذا الوضع "الجيوبوليتيكي" يؤكد أنها هي المنطقة الحاسمة في أية مواجهة بين القومية العربية وأعدائها وهذا هو قدر مصر شاءت أم أبت .
كان هذا في الماضي وسيظل أيضا في الحاضر والمستقبل وأية محاولة للتقليل من هذا الدور أو احتوائه تهدف إلى احتواء المنطقة العربية كلها والسيطرة عليها وإذا كانت مصر هي خط الدفاع الأول عن القومية العربية فإن سيناء التي يجددها خليج العقبة شرقا وخليج السويس وقناة [[السويس] هي الأرض الحيوية فيالمنطقة الدفاعية عن مصر التي تكون دائما هدفا للمعتدي
وتكتمل هذه النظرة في الإطار الآتي:
- من يسيطر على فلسطين يهدد سيناء .
- ومن يسيطر على القناة سيطر على مصر وعلى البحر الأحمر .
- ومن سيطر على مصر سيطر على العرب .
منطقة خليج العقبة
إذا نظرنا إلى الفاصلين المائيين اللذين يشقان الساحة العربية وهما الخليج العربي والبحر الأحمر بمنطقة خليج العقبة نجد أنهما يكملان بعضهما البعض .أحدهما منطقة إنتاج الزيت والآخر منطقة خطوط نقله .
ومنطقة الخليج العربي تفصل بين قوميتين: القومية الفارسية والقومية العربية وبين طائفتين من دين الإسلام هما طائفة الشيعة وطائفة السنة.
كما أن البحر الأحمر بخليجية وقناته يفصل بين البلاد العربية الأفريقية والبلاد العربية الأفريقية والبلاد العربية الآسيوية خاصة بعد احتلال إسرائيل لإيلات والنقب وهما يفصلان أيضا أقصد خليج العقبة وسيناء بين قوميتين العربية والإسرائيلية وبين دينين هما الدين اليهودي والدين الإسلامي .
ويتحكم في منطقة خليج العقبة والذييقع عليه ميناءى العقبة الأردني وإيلات الإسرائيلي جزيرتا "تيران" وصنافر السعودتيان وعن طريق هذا المضيق يمكن التحكم في أية تجارة إسرائيلية مع بلدان شرق إفريقيا وغيرها فهي تصدر الموالح والصناعات نصف المصنعة أو كاملة التصنيع إليها وتستورد منها المواد الخام علاوة على اتصالاتها بجنوب إفريقيا علاوة على نقل البترول الإيراني إلى أسدود عبر أنبوب إيلات أسدود الذي كان قطره 8 بوصات ثم زاد إلى 12 بوصة .
منطقة باب المندب والجزر المحيطة
إذا كان من الممكن السيطرة على خليج العقبة بواسطة جزيرتي صنافر وتيران فإنه يمكن السيطرة على البحر الأحمر والخليج العربي من باب المندب لأن "الترويكا المتحكمة" في المنطقة الاستراتيجية التينتحدث عنها هي مضيق هرمز باب المندب قناة السويس إذ أنها تتحكم في بعضها تحكما متبادلا.
وعلاوة على ذلك فإن للمنطقة الجنوبية للبحر الأحمر مميزات هامة:
فإذا كانت السواحل الشرقية والغربية للبحر شمال هذه المنطقة عربية بالكامل فيما عدا الساحل الصغير الذي يقع عليه إيلات الإسرائيلية في خليج العقبة فإن الساحل الغربي الجنوبي تقع عليه أرتريا التي هي مطمع للإمبراطور هيلاسلاسي كما يقع عليها جبيوتي المستعمرة الفرنسية أما الساحل الشرقي في المنطقة فهو ساحل عربي .
يضيق البحر في هذه المنطقة تدريجيا كلما اتجه نحو الجنوب حتى يصبح في أضيق اتساع عند بابالمندب تماما بين ساحلي عدن وجيبوتي وهي المنطقة التيتصل البحر الأحمر بخليج عدن الذي يطل عليه القرن الأفريقي ثم البحار المفتوحة في المحيط الهندي منطقة بهذه الأهمية لابد وأن تكون محل صراع عالمي في المستقبل القريب خاصةإذا تمكنت مصر من إجلاء البريطانيين عن القناة
هذه النظرة الاستراتيجية جعلت عبد الناصر يقول في فلسفة الثورة:
- "إن القدر لا يهزل وليست هناك احداث من صنع الصدفة ولا وجود يصنعه الهباء ولن نستطيع أن ننظر إلى خريطة العالم نظرة بلهاء لا ندرك بها مكاننا على هذه الخريطة ودورنا بحكم المكان أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا وأن هذه الدائرة منا ونحن منها امتزج تاريخنا بتاريخها وارتبطت مصالحنا حقيقة وفعلا لا مجرد كلام ؟ أيمكن أن نتجاهل أن هناك قارة إفريقية شاء لنا أو علينا سواء أردنا أم لم نرد؟
أيمكن أن نتجاهل أنهناك عالما إسلاميا تجمعنا وإياه روابط لا تقربها العقيدة الدينية فحسب وإنما تشاهدها حقائق التاريخ؟ وكما قلت سابقا فإن القدر لا يهزل ".
التحرك المصري لتنفيذ الاستراتيجية البحر أحمرية للثورة الاستقلال الوطني وحرب التحرير حددت الثورة هدفها منذ اليوم الأول في ضرورة انسحاب القوات البريطانية من مصر انسحاب كاملا وبذلك يتحقق للبلاد استقلالها الذي كافحت من أجله أجيال عديدة وبذلت في سبيله آلاف الضحايا .
وقد كان تقدير الموقف الاستراتيجي في منتصف عام 1952 من واقع الوثائق الرسمية يتلخص في الآتي:
تواجه القوات المصرية عدوين في وقت واحد: بريطانيا في القناة وإسرائيل على الحدود الشرقية لا يمكن لأية مفاوضات سياسية مقبلة مع بريطانيا للجلاء أن تنجح إلا بمساندة العمل الحربي على أن يعطي ثقل خاص للعمليات الفدائية في منطقة القناة.
لا يمكن لمصر خوض أية معركة عسكرية ناجحة سواء كانت دفاعية أو هجومية ضد إسرائيل طالما ظلت القوات البريطانية في منطقة القناة تهدد خطوط مواصلاتنا نحو الشرق وتتحكم فيها العدو الرئيسي في الوقت الحالي هو القوات البريطانية في القناة والعدو الفرعي هو القوات الإسرائيلية قبل تحريك العمل الفدائي ضد البريطانيين في القناة لابد من إخلاء سيناء من قواتنا العسكرية حتى لا يكون هناك ضغط علينا إذ يمكن للقوات البريطانية أن تمنع مرور الامدادات والذخائر من كوبري الفردان أو من أية أماكن أخرى عبر القناة وتتخذ من ذلك ورقة ضغط في يدها في الأيام التالية .
وفعلا أخليت سيناء من القوات المسلحة المصرية فيما عدا بعض الوحدات الرمزية في المناطق الحساسة وقبيل بدء المفاوضات عبر عبد الناصر عن إستراتيجية مصر في ذلك الوقت بالآتي "إننا سنناضل بكل ما أوتينا من قوة حتى لو اقتضي ذلك إراقة الدماء إذا أرغمونا على ذلك ونحن نعرف أنه ليس في استطاعتنا هزيمة القوات البريطانية ولكننا نعرف أنه في إمكاننا جعل الوجود البريطاني في القناة عديم الفائدة لها ولحلفائها على السواء "
وبدأت أعمال الفدائيين قبل بدء المفاوضات وأثناءها على أساس نظرية " كلام كلام .قتال قتال" كما بدأت المفاوضات في 23 / 4/ 1953 وقطعت يوم 6/5/ 1953 إذ لم تكن الضربات العسكرية المصرية قد أقنعت البريطانيين بعد بالوصول إلى اتفاق فاشتدت الهجمات على المعسكرات البريطانية وبدأت الحرب النفسية والاقتصادية بإعلان الحصار الاقتصادي على القوات البريطانية وبدأت الحرب النفسية والاقتصادية بإعلان الحصار الاقتصادي على القوات البريطانية في القناة
ونتيجة لهذه الضغوط وقعت اتفاقية الجلاء يوم 27 /7/1954 وكانت تنص على تحقيق الجلاء خلال 30 شهرا مع بقاء أجزاء من القاعدة في حالة تصلح للاستخدام على أن تقدم مصر لبريطانيا التسهيلات لمواجهة أى هجوم مسلح من دولة خارج المنطقة على أى بلد يكون طرفا في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية أو على تركيا وكانت مدة الاتفاقية سبع سنوات من تاريخ التوقيع وهكذا تحررت القناة جزئيا وكمرحلة أولي من السياسة المصرية البحر أحمرية .
تأميم قناة السويس وحرب 1956 والاستيلاء على القاعدة البريطانية في القناة
قبل حدوث التأميم كان عبد الناصر قد حقق عدة انتصارات كبرى:معركة رفض الدخول في مناطق النفوذ معركة حرب التحرير والجلاء معركة عدم الانحياز معركة كسر احتكار السلاح معارك القضاء على الرجعية والإقطاع ولذلك فإن ربط العدوان الثلاثي عام 1956 بالتأميم فقط ليس ربطا دقيقا من الناحية التاريخية إذ أن التأميم كان " القشة التي قصمت ظهر البعير " بعد أن اتجهت مصر اتجاها خطيرا لم تعهده الدول الاستعمارية من قبل .
وكان من نتيجة العدوان الثلاثي والصمود الذي ووجه به تحقيق الآتي:
- أصبحت قناة السويس مصرية وعادت ملكيتها إلينا.
- ألغيت المعاهدة وتم الاستيلاء على القاعدة البريطانية وبذلك تطهر المدخل الشمالي للبحر الأحمر .
- أصبح الطريق مفتوحا نحو الشرق في سيناء دون تهديد أجنبي لخطوط مواصلاتنا وعادت قواتنا إلى أماكنها في سيناء تبعا للخطط الموضوعة .
- تم تمصير الممتلكات الأجنبية .
- ارتفع شأن مصر في المجال الدولي بصفة عامة وفي المجال العربي والأفريقي بصفة خاصة .
- تم بناء السد العالي .
ولكن تخلف عن هذه الحرب نتيجتان هامتان كان لهما تأثيرهما الكبير في حرب 1967:
- المسألة الأولي وجود القوات الدولية في سيناء بوجه عام وشرم الشيخ بوجه خاص ثم حرية الملاحة في خليج العقبة بالنسبة لإسرائيل وهو وضع استغلته الأنظمة العربية عام 1967 في هجماتها الدعائية الضارية .
- والمسألة الثانية خاصة بتعطيل الملاحة في قناة السويس أثناء العدوان صحيح أعيد فتح القناة للملاحة من جديد ولكن بعد أن أحست الدول العظمي بتأثير ذلك عليها وبأنه كان ورقة رابحة في يد مصر الذي جعلها تتخذ من الاحتياطات التي قللت من تأثير غلق القناة مرة أخرى أثناء عدوان 1967 .
كان الزعماء الوطنيون والحكومات السابقة في مصر قبل قيام الثورة يطالبون بسيادة مصر على السودان أو بحق ضمه إلى مصر بل أعلن الملك فاروق نفسه ملكا على مصر والسودان وكانوا يستندون في ذلك إلى الروابط المتينة التي تربط شعبي وادي النيل منذ القدم وكثيرا ما تحطمت المفاوضات التي كانت تدور بين مصر وبريطانيا على صخرة السودان .
إلا أن السياسة المصرية في بداية الثورة فاجأت الجميع حينما أعلنت عن تصميمها على إنهاء الاحتلال الثنائي للسودان أولا والدعوة بعد ذلك إلى وحدة وادي النيل من خلال الاعتراف بحق الشعب السوداني في تقرير مصيره ووافق عبد الناصر على إجراء استفتاء عام في السودان من أجل تحقيق ذلك بعد تحقيق المناخ المناسب وذلك بالاتفاق على فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات يتم فيها تصفية الإدارة الثنائية كما تقرر تأليف جمعية تأسيسية منتخبة لتقرير مصير السودان على أساس ارتباطه بمصر في أية صورة من صور الارتباط أو الاستقلال التام أى الانفصال عن مصر .
كما تقرر سحب القوات البريطانية والمصرية من السودان فورا عندما يعلن البرلمان السوداني عن رغبته في الشروع في اتخاذ التدابير الخاصة بتقرير المصير رغم أن مصر عملت طول فترة الانتقال على إقناع الشعب السوداني للارتباط بمصر لتحقيق وحدة وادى النيل إلا أنه حينما رأت أن الغالبية العظمي للشعب السوداني تفضل الاستقلال بادرت على الفور بتأييد هذا الاتجاه وسحبت قواتها من السودان تاركة أسلحتها الثقيلة هدية للجيش السوداني فاضطر البريطانيون إلى سحب جيشهم منهيا احتلال السودان .
وهكذا فإن كانت مصر قد فشلت في تحقيق الوحدة مع السودان إلا أنها كانت قد نجحت في طرد البريطانيين من هناك واكتساب صادقة الشعب السوداني بل فتحت مجال العمل في أفريقيا كلها وبإخلاصها والتزامها بالمبادئ الأساسية التي قامت عليها سياستها الأفريقية بعد ذلك..
وهي تصفية الاستعمار وحق تقرير المصير وحينما تحقق تصفية القاعدة البريطانية بعد ذلك في قناة السويس عام 1957 أصبح كل الساحل الغربي للبحر الأحمر حتى كسلا ونهاية الحدود السودانية خاليا من القوات الأجنبية باختلاف وسيلتين مختلفتين في مجال السياسة:الدبلوماسية كما حدث في طرد البريطانيين من السودان والضغط العسكري إلى جانب التفاوض كما حدث في طرد البريطانيين من القناة.
في أوائل الخمسينات تلخص الموقف في الصومال ذات الموقع الإستراتيجي الهام في القرن الإفريقي في الآتي:
وجود صومولات خمسة هي الإيطالي والانجليزي والفرنسي والأثيوبي والكيني.وضع الإقليم تحت الوصاية للأمم المتحدة التي أنشأت "المجلس الاستشاري " منذ عام 1950 مكونا من ثلاث دول هي مصر وكولومبيا والفلبين للإشراف على البلاد لتحقيق استقلالها عام1960.
كان الإيطاليون الذين يملكون السلطة الإدارية ويسيطرون على اقتصاديات البلاد ويملكون معظم الأراضي الخصبة لا يريدون تغيير الأوضاع فكانوا يعرقلون أى جهد يقوم به المجلس الاستشاري لإشراك الوطنيين في الإدارة وتدرجهم نحو الاستقلال .
البريطانيون لا يعارضون في استقلال " هرجسية الصومال الانجليزي " على أن يتحد مع الصومال الإيطالي بعد استقلاله في دولة مستقلة تدخل رابطة الكومونولث البريطاني أثيوبيا تسعي إلى ضم الإقليم الذي تديره إلى الوطن الأم كما ضمت الأوجادين من قبل تؤيدها الولايات المتحدة .
كانت كل هذه القوى المتصارعة تتفق على شئ واحد هو القضاء على الملامح العربية للصومال وإيجاد علاقة اقتصادية بينها وبين إسرائيل .وسط هذه المؤامرات الضخمة أعلنت مصر عام 1952 عن سياستها بمساندة القوى الوطنية في الصومال من أجل الاحتفاظ بمقومات الشخصية الصومالية بجذورها العربية الإسلامية ووحدة أراضيه وقطع الطريق على إسرائيل حتى لا تدعم علاقاتها الاقتصادية مع البلاد .
وقد استندت مصر في نشاطها إلى وضعها القانوني في المجلس الاستشاري الذي كان يعطيها حق محاسبة الإدارة الإيطالية عن طريق الأمم المتحدة كما أعطاها حق الوجود في مقديشيو الاتصال بكافة الهيئات والتنظيمات السياسية وتقديم المساعدة لها فقدمت مصر مساعداتها الايجابية عن طريق إمداد المدارس العربية التي تفتتحها الجمعيات والأحزاب السياسية بالمدرسين والكتب العربية وأعطت كثيرا من المنح الدراسية في المعاهد والمدارس والجامعات لأبناء الصومال
كما فتح الأزهر أبوابه لأعداد هائلة من الصوماليين وقام بإرسال بعثة أزهرية إلى الصومال كان أعضاؤها يخطبون في الجوامع بجانب رسالتهم التعليمية ثم عملت مصر على استيراد جزء كبير من احتياجاتها من الماشية من الصومال الأمر الذي ربط مصالح التجار بالقاهرة وجعلهم يترددون عليها .
- وقد استقل الصومال عام 1960 وأصبح عضوا في الجامعة العربية .اليمنان العملية 9000 والعملية صلاح الدين توفي الإمام أحمد حميد الدين في سبتمبر 1962 وتولي ولده محمد البدر الإمامة من بعده ولم تنقض إلا أيام قليلة على توليه الحكم حتى قامت ثورة 26 سبتمبر 1962 أطاحت به وبملك أسرة حميد الدين وفر هاربا إلى الجبال وظهر مرة أخرى بعد أسابيع ليحشد قوات لمقاومة قوات الثورة في صنعاء وهنا حقيقتان لابد من التركيز عليهما .
- كان حكم أسرة حميد الدين استبداديا لا يعترف بالتعليم أو الانفتاح على العالم .
- أن السعودية هي التي بدأت التدخل في ثورة اليمن عقب قيامها بمساعدة الولايات المتحدة وبريطانيا وقامت بإنشاء محطة إذاعة للملكيين تندد بالنظام الجديد ودفعت الأمين الحسن عم البدر إلى الجبال للمقاومة حتى البدر من جديد من مكان اختفائه واتخذت من منطقتي جيزان ونجران قاعدة كبرى لعمليات القوات الملكية بقيادة البدر وتحت إشراف الخبراء الأجانب
- ثم أخذت تستأجر الجنود المرتزقة بأجور خيالية لتدفع بهم إلى داخل اليمن وأخذت الولايات المتحدة تمد السعودية بالسلاح لتغذي حرب العرب ضد العرب بينما قامت بريطانيا بمساندة عمليات شريف بيجان من الجنوب وتعمل على تفتيت اليمن الشمالي بفصل جنوبه من الشوافع عن شماله من الزيود ثم التركيز على مستعمراتها في عدن .
- أمام هذا التدخلات قامت الجمهورية الوليدة بطلب مساعدة مصر حتى يمكنها مواجهة الضغوط الكثيفة التي تواجهها ووافقت القاهرة على مساعدة صنعاء في عملية كبرى كان اسمها الكودي العملية 9000 ولكن إلى جانب تدعيم الحكم عسكريا أخذت مصر تدخل الحضارة إلى اليمن فأنشأت جهازا للدولة لأول مرة في تاريخ اليمن وأسست المساعدات العربية لبناء اليمن ثم قام الاتحاد السوفيتي والصين ودول المعسكر الاشتراكي بإنشاء المواني والطرق وتقديم المساعدات المختلفة.
وحدث فجأة ما كانت تخشاه القوى المضادة فاشتعلت الثورة في عدن واليمن الجنوبي وساعدتها مصر بكل قواها (العملية صلاح الدين) ففتحت بذلك جبهة جديدة أمام الاستعمار وعمت الثورة أنحاء البلاد إلى أن وقعت بريطانيا معاهدة مع اليمن الجنوبية تعترف فيها باستقلالها التام وأخذت تنسحب من قاعدتها إلى غير رجعة وفي نفس الوقت أخذ مركز الجمهورية في الشمال يقوي ويتدعم وأصبحت قوى القومية العربية تسيطر سيطرة كاملة على باب المندب .
وكانت نتائج أحداث اليمنين خطيرة بحق:
- فقد قامت الجمهورية اليمنية وهبت رياح التغيير لتخرج شعب اليمن من الظلمات إلى النور وانطلقت حركة التغيير والتعمير في الجزيرة العربية بما فيها السعودية خوفا من رياح الثورة العاصفة .
- خرجت دولة اليمن الجنوبية إلى الوجود كدولة مستقلة .السيطرة العربية على باب المندب وأصبح البحر الأحمر بحرا عربيا بحق .
وسط هذه التغييرات الخطيرة التي أحدثتها الثورة المصرية اختمرت خطة التآمر لضرب القاهرة بعد أن فشلت كل المحاولات والضغوط لإبقاء القاهرة محصورة في حدودها فكانت حرب 1967 والتي انتهت بنكسة تشابهت مع الضربة التي وجهت إلى محمد على بعد ضرب الأسطول المصري في معركة نفارين عام 1840 بتآمر الدول الكبرى .
وقد استغلت إسرائيل نكسة 1967 لتزيد من تواجدها في البحر الأحمر واتخذت في سبيل ذلك عدة إجراءات منها:
- بناء بعض المطارات في سيناء التي يمكنها عن طريقها الوصول إلى أغراض بعيدة من البحر أو حوله ضمن سياسة أمنها نقل بعض الزوارق الحربية برا من موانيها في البحر المتوسط إلى البحر الأحمر محاولات البحث عن البترول في مياه خليج السويس محاولة التدخل في إدارة قناة السويس عند فتحها مرة أخرى للملاحة أى المشاركة في الإدارة ولم تقبل القاهرة في ذلك الوقت تغيير الأوضاع في البحر الأحمر فقاومت المحاولات الإسرائيلية الاستعمارية كلها .
فمن ناحية زيادة النقل العسكري الإسرائيلي في البحر الأحمر قامت مصر بنشر سفنها التابعة لأسطول البحر الأحمر في بعض المواني المصرية وميناء بورسودان .كما قامت بنشر قواتها الجوية في مطارات السودان في الجنوب كذا بعض قواتها البرية في جبل الأولياء وبذلك قدمت السودان أراضيها لزيادة العمق المصري.
قاومت مصر أية محاولات إسرائيلية للبحث عن البترول في خليج السويس فلما أرادت إسرائيل الحفر في خليج السويس عن البترول مستخدمة الحفار "كينتج" ومر في أبيدجان عاصمة ساحل العاج بعملية إيجابية للمخابرات المصرية تعد من أعظم عمليات المخابرات في تلك الحرب .
وقد قمت بنفسي بالتخطيط لهذه العملية والإشراف على تنفيذها بنجاح أيام رئاستي لجهاز المخابرات العامة ومعي جماعة من الرجال الأكفاء ذوى العزم والقدرة كان الحفار إنجليزيا اشترته شركة أمريكية كندية سجلت نفسها في " دنفر عاصمة كولورادو" بالولايات المتحدة يجره جرار هولندي وتمت المحاولة الأولي لضربه في "داكار" عاصمة السنغال يوم 19/ 2/1970 إلا أن الحفار غادر الميناء فجأة قبل تنفيذ العملية ونجحت محاولتنا الثانية في تعطيل الحفار في أبيدجان يوم 8/ 3/ 1970 وقفل راجعا إلى ميناء "تيما"ر في غانا حيث بيع بعد ذلك كخردة .
أما عن موضوع قناة السويس فقد رفضت مصر في عهد عبد الناصر أية مبادرات للانسحاب الجزئي على أساس إعادة فتح قناة السويس في مقابل ذلك ثم رفضت كل المحاولات التي قامت بها الدول الاستعمارية عن طريق مندوبيها لجعل منطقة القناة منطقة حرة .
من ضمن هذه المحاولات محاولة كان يقوم بها مليونير أمريكي يدعي "ديتويللر" حضر ومعه صديقته الحسناء في يد وفي اليد الأخرى حافظة أوراق بها خرائط مدروسية كاملة لجعل القناة ولمسافة عشرة كيلو مترات شرقها وأخرى غربها منطقة حرة تقسم بين الدول لتمارس نشاطها فيها وتكون كمنطقة عازلة بيننا وبين إسرائيل وقد قابلت الرجل وأخذ عبد الناصر علما بقدوم الرجل واطلع على مشروعاته دون أن يقابله ولكنه رفض كل هذه المحاولات على أساس أن القناة مصرية ولابد أن تبقي مصرية .
الشئ الغريب حقيقة أن موقف إسرائيل في ذلك الوقت كان أضعف مواقفها فقد أثمرت السياسة المصرية الإفريقية فقطعت كل الدول إفريقيا علاقاتها مع إسرائيل وتوقفت حركة التجارة معها ثم توقف ضغط البترول الإيراني الذي ما كان يمكن أن يمر في السفن عبر باب المندب وثبت أنه إذا كان من الممكن حصار إيلات من مضيق العقبة بجزيرتي صنافر وتيران فإنه يمكن قفل مضيق العقبة عن طريق باب المندب .
وثبت أكثر من ذلك أن مصر وليس غيرها هي الدولة المتحكمة في الملاحة في البحر ففي حربين متتاليين تمكنت مصر من السيطرة على الملاحة في البحر الأحمر عن طريق قناة السويس وأنه أمكنها أن تثبت للعالم أجمع أنه يمكنها أن تكون أداة "فصل" كما يمكنها في الوقت نفسه أن تكون أداة "وصل" مهما قيل غير ذلك .
تقييم للسياسة الناصرية البحر أحمرية
لا شك أن عبد الناصر كان يتمتع بالقدرة على النظرة الشاملة للمسرح السياسي الذي تحرك عليه بمهارة ضمن ما يسمى "بالمخطط الكبير" وهذا هو أهم أسباب صموده أمام الظروف الصعبة الضاغطة التي عمل في ظلها كان يعلم من التاريخ أن الخطر يداهم مصر دائما من الشرق وأن قناة السويس كانت موقع جذب للطامعين,ولم ينس أبدا كيف استغلها البريطانيون عام 1882 في كسر قوات عرابي إذ خاضوا معه معركة خداعية في كفر الدوار ثم نزلوا في القناة رغما عن الاتفاقيات الموجودة ليضربوه من الخلف .
لم ينس عبد الناصر أبدا ذلك ولذلك فإننا نجد أن كل معاركه دارت حول قناة السويس معركة التحرير من عام 1952 -1954 ،معاهدة الجلاء ،تأميم القناة العدوان الثلاثي ،حرب 1967 ،حرب الصمود والاستنزاف ...
كان للرجل تطلعات كبيرة ضخمة ربما فاقت الإمكانيات المتاحة لدرجة أن البعض يقول إن عبد الناصر وجد في غير عصره ولكنه كان يتغلب دائما على قلة الإمكانيات بقدرته الفائقة على السرية والمفاجأة وسرعة توجيه الضربات في الوقت السليم
الاستخدام المتميز للرسائل العسكرية ممزوجة بالوسائل الدبلوماسية ثم الجرأة الهائلة عند مواجهة الأحداث ... لقد أخطأ في بعض حساباته أحيانا ولكن لا يجوز القطع بذلك إلا في إطار المناخ الذي اتخذ فيه قراراته .. فنزع الظروف السائدة عن نوعية القرار لا تجعل وزن الأمور يتم بطريقة سليمة أو موضوعية .
كانت الدائرة العربية هي إحدي دوائره الثلاث التي ملأت قلبه وفكره وكانت الدائرة الأفريقية تشحذ خياله وآماله وكانت الدائرة الإسلامية تعزز الجانب الروحي لأهدافه كانت الدائرة العربية تختلط دائما تحركاته بالدائرة الأفريقية ومن ينظر إلى الخريطة أداة الرجل السياسي يلاحظ بصماته عليها بوضوح.
فإذا كان "مانشين أوماتزيني" أكد في القرن 19 أن "مفتاح البحر المتوسط يقع في البحر الأحمر" فإنه فشل في تحقيق إذ لم يمكنه أن يصل بذراعه الطويلة الممتدة من مصوع إلى البحر المتوسط كذلك الحال مع " ببيتو موسوليني " فإن كان الرجل أنشأ قاعدته في الحبشة والصومال في الجنوب وأنشأ مستعمرته في ليبيا في الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط إلا أنه فشل في "بناء الذراع الطويلة الكاملة" إذ كان يحول بينه وبين ذلك وجود السودان .
وفشل الرجلين راجع إلى اعتماد كلاهما على حق الغزو والاستعمار واستخدام الوسيلة العسكرية كعامل وحيد لتنفيذ السياسة ولكن عبد الناصر نجح في ذلك تماما فكانت الذراع المحيطة بمصر تمر كلها في أراض صديقة نتيجة لسياسته الخلافة .. الصومال الذي وقف إلى جانبه حتى حصل على استقلاله الحبشة التي هادنها في أناة وصبر رغما عن استفزازات الإمبراطور العجوز السودان الصديق شعبا وحكومة ثم إلى ليبيا بعد قيام ثورتها عام 1969 وقضائها على القواعد الأجنبية هناك كانت الذراع الطويلة قد تحققت وظلت كذلك حتى وإسرائيل في الضفة الشرقية للقناة .
بل نجده في بناء الذراع الأخرى ناحية الشرق ... من اليمن الجمهوري الذي حارب معه في العملية 9000 إلى اليمن الجنوبي الذي كافح معه في العملية "صلاح الدين " إلى منطقة الخليج العربي ببغداد ثم الاتحاد السوفيتي الصديق ... فكان بذلك حتى وهو يواجه هزيمة بحرب لا تهدأ ومقاومة لا تنفد مسيطرا على الأمور في المنطقة وعلى البحر الأحمر في شماله إلى جنوبه وقد تم كل ذلك عن طريق خوض المعركة ممزوجة بالدبلوماسية الخلافة ولكن كيف ترك عبد الناصر الموقف بعد أن رحل إلى جوار ربه في 28/ 9/ 1970؟
كان الصراع ما زال محتدما مع إسرائيل في كل المجالات رغما عن إيقاف إطلاق النيران بموجب مبادرة روجرز والذي أوشك على أن تنتهي مدته الأولي وهي ثلاثة شهور ومن المعروف أن مبادرة روجرز كانت تقضي بإعادة سيناء إلى مصر مع إجراء تعديلات طفيفة مع حدود الدول العربية الأخرى لا تحمل معني الغزو إلا أنه رفض ذلك لأنه كان حلا فرديا .
وكانت القوات المسلحة المصرية قد استردت جزءا كبيرا من قدرتها القتالية على الضفة الغربية للقناة وتقوم بمناوراتها التدريبية على خطة العبور. وكان حائط الصواريخ المضاد للطائرات قد تحرك منذ أيام عبد الناصر إلى مسافة قريبة من غرب القناة تسمح بستر عملية العبور المنتظرة وقد تم ذلك بعد قبول مبادرة روجرز مباشرة مما أثار ما يعرف "بأزمة الصواريخ" وهذا الحائط هو الذي عبرت في حمايته قواتنا القناة في 6 أكتوبر 1973
وكانت قناة السويس ما زالت معطلة أمام الملاحة الدولية واتسع عمق مصر غربا بعد قيام ثورة ليبيا في أول سبتمبر 1969 والتي أمدت المقاومة العربية ولأول مرة بطائرات الميستير التي تصل إلى عمق إسرائيل كما اتسع العمق جنوبا في السودان الذي جعل من أرضه تكملة لمسرح العمليات فانتشرت فيه قواتنا البرية والجوية والبحرية كما سبق القول وكانت الدول الأفريقية قد قطعت علاقاتها مع إسرائيل ومصر ما زالت متمسكة بموقف عدم الانحياز وكل دول هذا المعسكر تقف إلى جانبها وفوق كل ذلك كان الاتحاد السوفيتي ما زال يدعم مصر في مواجهة الانحياز الكامل للولايات المتحدة وإسرائيل .
وكان العرب رغم اختلافاتهم المعتادة مجمعين على استعادة حقوقهم قائمين بالتزاماتهم تظللهم الجامعة العربية بالرغم من سلبياتها المعروفة مؤكدة أقل حد من الوفاق وكما سبق أن قلنا كانت الدول الأفريقية دون استثناء تؤكد الحق العربي تظللهم منظمة الوحدة الأفريقية التي لعب عبد الناصر دورا أساسيا في تكوينها وفوق كل ذلك كان التوازن في البحر الأحمر ما زال معقولا إذ كان تحرك إسرائيل في هذا الممر الضيق محفوفا بالمخاطر .
وفوق كل ذلك كان الشعب صامدا والجبهة الداخلية صلدة جامدة رغما عن التضحيات الكبرى التي قدمها لمدة طويلة كان توازن القوى من الناحية السياسية معقولا وكان توازن القوى من الناحية العسكرية يقترب من مرحلة التعادل بخطوات ثابتة وكانت العروض السياسية التي ألقيت في الساحة تتناسب إلى حد كبير مع التوازنات القائمة.
سياسة مصر البحر أحمرية بعد الفترة الناصرية
في ظل هذا التوازن المعقول ارتكبت السياسة المصرية بعد وفاة عبد الناصر خطأين استراتيجيين فادحين أخلا بالتوازن كله حتى قبل أن تبدأ المعركة إذا استبعدت ورقتا ضغط هامتين من مسرح الأحداث كان الخط أن الكبيران هما:
- الخطأ الأول ضرب "الناصرية" بطريقة غامضة في أول الأمر ثم بطريقة مكشوفة مركزة بعد ذلك كوسيلة لإرضاء "جبهة الثورة الإقليمية" ولإبعاد صفة "الثورة" عن النظام لمصري أى كان الهدف طمأنة "الثورة الإقليمية ومن وراءها " على حساب " الثورة الإقليمية" وقد يكون هذا جائزا في مجال السياسة والصراع ولكن ما هو المقابل لهذه الخطيئة الكبرى ؟ لا شئ .بل حدث العكس إذ خضعت الإدارة المصرية بعد هذه الخطوة وبعد أن غيرت ثوبها إلى ابتزاز سياسي تم خطوة في أول الأمر ثم بعد ذلك تحول الابتزاز إلى تغيير كامل للأهداف والنوايا.
- والخطأ الثاني كان طرد الخبراء الروس وبعد أن تم الطرد أخذ النظام في المطاردة وإعلان الحرب على الاتحاد السوفيتي بعد أن كان النظام قد أعلن عن مبادرة يتم بمقتضاها الانسحاب المحدود عام 1971 . ويزيد من جسامة هذا الخطأ أن الطرد تم بدون مقابل ثم تبعت عملية الطرد عملية المطاردة .
ومن المعروف أن السياسة الأمريكية تقوم على ثلاثية معروفة: المحافظة على بقاء إسرائيل كقوة إقليمية عظمي في المنطقة ألا يتم أى حل عن طريق أى نظام ثوري ألا يسمح بتغلب السلاح السوفيتي على السلاح الأمريكي .
وإذا كانت هذه هي سياسة الولايات المتحدة الأمريكية فإن التفريط في المبدأين الأخيرين من الثلاثية الموضوعية فيه تعزيز للمبدأ الأول وهو زيادة قوة إسرائيل.وقد أخطأت السياسة المصرية في ذلك دون ثمن لدرجة أن هنرى كسينجر لم يصدق وكالات الأنباء حينما نقلت خبر طرد الخبراء السوفيت ولما تأكد من ذلك قال " لو أن السادات طلب مني أى شئ في مقابل هذا الإجراء ما ترددت في تلبيبته".
وبذلك اختلت التوازنات كلها في الداخل وعلى الصعيد العربي ثم الصعيد العالمي ووسط ذلك قامت الحرب ولكن كيف يكون القتال في ظل عدم التوازن هذا؟ إلى أى مدى تصل قواتنا داخل سيناء؟ كيف تمزج المعركة بالدبلوماسية أى كيف يمكن مزج لهجة القتال مع لهجة الكلام؟ أسئلة لم تكن كما ظهر بعد الحرب قد وجدت لها جوابا في ذهن السياسة المصرية وهي تدير "الحرب المحدودة " التي بدأتها في6 أكتوبر 1973 رغما عن خطورة هذا الغموض ونتائجه .
إذ في "الصراعات الإقليمية" يمكن لأية دولة أن تبدأ الحرب في الوقت الذي تحدده وفي المكان الذي تختاره وبالصورة التي تحددها ولكن بعد إطلاق الطلقة الأولي تفقد الدولة لعوامل متعددة قدرتها على إيقاف الحرب والقتال في الوقت المرغوب ولا بالأوضاع التي تحددها ولا بالصورة التي تريدها وليس في نيتنا على الإطلاق أن ندخل في تفاصيل هذه الحرب فكل ما نريده هو توضيح نتائجها على السياسة المصرية البحر أحمرية .
فما هي نتيجة هذه الحرب على السياسة المصرية البحر أحمرية ؟لقد حققت هذه الحرب عملا إيجابيا هو "ترك" إسرائيل لسيناء وهو عمل إيجابي رغما عن الإرادة المصرية المنقوصة على هذا الجزء الغالي من الوطن ورغما عن تواجد القوات متعددة الأجناس التي تقترب بتواجدها هذا وبمحطات الإنذار القابعة في جبل أو خشيب من القاعدة الأجنبية ورغما عن القيود الموضوعة على تواجد قواتنا هناك . أقول رغما عن كل هذه القيود الثقيلة فإن مجرد ترك قوات إسرائيل لسيناء هو عمل إيجابي .
ولكن إلى جانب هذه الإيجابية اختل التوازن في السياسة المصرية كلها فمن ناحية السياسة العربية وجدت مصر نفسها تقف وحدها أمام إجماع عربي عدا عمان و[[الصومالوالسودان]] وسقطت زعامة مصر في العالم العربي ونقلت الجامعة العربية إلى تونس وقفلت السفارات العربية أبوابها في القاهرة وفتحت السفارة الإسرائيلية مبناها.
أما عن سياستنا البحر أحمرية فقد أصيبت بنكسة حقيقية فقد قطعت الدول البحر أحمرية عموما علاقاتها مع القاهرة فيما عدا الصومال والسودان ومن ناحية الذراع اليسرى لخطة عبد الناصر أو ذراع ما تزيني الطويلة نجد أنها قطعت وبترت إذ أنها أصبحت لا تمر بالحبشة التي أثارها وعود السادات لإسرائيل بمدها بمياه النيل رغما عن مخالفة ذلك لاتفاقية مياه النيل الموقعة من الدول المعنية؛
ولم تعد تصل هذه الذراع إلى ليبيا الصديقة والشقيقة في الساحل الشمالي لإفريقيا أو الساحل الجنوبي للبحر المتوسط أما عن الذراع اليمني لخطة ناصر فقد بترت نهائيا فبالرغم من أن اليمن الجنوبي شاركت معنا في قفل باب المندب في أثناء حرب أكتوبر 1973 وبالرغم من وقوف دول الخليج إلى جوارنا في الحرب وكذلك العراق إلا أنها جميعا قطعت علاقاتها معنا أما عن نهاية هذه الذراع فإنها أصبحت عاجزة عن الوصول إلى الاتحاد السوفيتي الذي عادته السياسة المصرية دون سبب .
وبعد أن وجدت مصر نفسها مجمدة في الجامعة العربية وفي مؤتمرات دول عدم الانحياز والمؤتمر الإسلامي وفي منظمة الوحدة الأفريقية تباعدت عن سياسة عدم الانحياز كطريق يمكن أن يخفف من عزلتها .
فنجدها وقد رحبت وبحماس أنتكون شريكا في توافق الاستراتيجيات مع الولايات المتحدة الأمريكية وبذلك أصبحت من الناحية الإستراتيجية في حلف واحد مع إسرائيل ثم اتبعت ذلك بوضع قواعدها الجوية في خدمة القوات الأمريكية وهي تقوم بعمليتها الفاشلة لفك الأسري الأمريكان في طهران ثم وجدت القوات المسلحة المصرية نفسها وهي تقوم بتدريبات مشتركة مع القوات الأمريكية الأمر الذي لم يحدث من قبل حتى مع إحدى القوات العربية .
ولكن الخطر الحقيقي على حياد البحر الأحمر وقع حينما وافقت مصر على إعطاء الولايات المتحدة تسهيلات في ميناء رأس بناس في البحر الأحمر وأخذت القوات الأمريكية تقيم المنشئات والمباني لعملي قاعدة حقيقية خصص لها الكونجرس الأمريكي الاعتمادات اللازمة .
وأصبح البحر الأحمر بعد ذلك مفتوحا للصراعات الدولية فاتخذت الولايات المتحدة قواعد لها في جزيرتي " سنتيان" و" دهلك" اللتين تقعان على بعد 6 أميال بحرية من باب المندب بعد أن استأجرتها من أثيوبيا لمدة 25 عاما تعزيزا لقواعدها في " ديجو جارسيا " و" مالا ديف " و" موريشيوس"
وفي نفس الوقت يقف الاتحاد السوفيتي في عدن بناء على "التسهيلات" التي أعطيت له هناك ليعزز من تسهيلات أعطيت له في " الأوجادين " الذي يتنازعه كل من الصومال والحبشة علاوة على تواجده في مواني أنجولا وموزمبيق. كما يتردد أن إسرائيل موجودة هي الأخرى في جزيرتي " حنش الكبرى " و" حنش الصغرى "
هذه النتائج المقلقة تشير إلى أن مصر في تلك الحقبة وحتى تولي الرئيس محمد حسني مبارك الحكم كان ينقصها "المخطط الكبير" فكانت تقرر فجأة أن تصل إلى " القمر " ولكنها لا تفكر أبدأ كيف تعود مرة أخرى إلى الأرض . فحينما اتخذ قرار الذهاب إلى القدس كان ذلك صعودا إلى القمر ولكن أن يظل الإنسان في القمر أمرا مستحيلا ولابد من عودته مرة ثانية إلى الأرض وإلا تعرض للفناء . فكيف العودة إلى الواقع ؟ إلى الأرض ؟ هذا هو السؤال الذي لم تعرف السياسة المصرية له جوابا وهي تتحرك على مسرح الأحداث
فنجد أنه بعد أن قام الرئيس السادات بإلقاء خطابه في الكنيست ظن أن إسرائيل ستلبي له كل طلباته إلا أن بيجن قال له " سيادة الرئيس. نحن الآن وصلنا إلى القمر وعلينا أن نهبط إلى الأرض حيث نعيش " وكان مناحم فولفو فتتش بيجن يقصد " دعنا من الحركات المسرحية وعد بنا إلى الواقع الذي لا نتعامل مع سواه ".
ثم كانت السياسة المصرية حريصة على استبدال مكاسب ضخمة يحصل عليها الطرف الآخر في مقابل مكاسب أمنية لدرجة أن جيمي كارتر قال في مذاكرته بعد الوصول إلى اتفاقية كامب دافيد " أمضيت طول الليل قلقا وأنا أتساءل " هل ذبحت السادات ؟" وكان الرجل وكأنه يقرأ المستقبل قبل حدوث عملية المنصة بعد ذلك بسنوات محدودة كانت الإستراتيجية المصرية في ذلك الوقت أميل للعطاء أكثر من ميلها للأخذ .
ثم الأخطر من ذلك أن السياسة المصرية في ذلك الوقت عجزت عن فهم سياسة الترابط فبينما هي تتحدث عن الحلول الشاملة نجدها تقبل حلولا جزئية لا تعالج القضية الشاملة من كل جوانبها وتقبل سياسة كيسنجر اللئيمة خطوة خطوة والتي كانت تعني قطعة كبيرة من السلام في مقابل قطعة صغيرة من الأرض .
وباختصار فبينما كانت القيادة السياسية تتحدث كثيرا عن "قدرتها الإستراتيجية" إلا أنها في واقع الحال كانت تتحرك في إطار تكتيكي وحتى ضمن هذا الإطار كان التحرك متعثرا يخضع للابتزاز وقد وصل الحد الذي كانت فيه الولايات المتحدة تهزأ من قدرة تحركنا الاستراتيجي أن وصل الأمر بكسنجر حينما كان يجلس مع السيد أنور السادات أن يقول له في جدية " سيادة الرئيس إنني أريد أن أتعلم منك كيفية التعامل مع الاتحاد السوفيتي "
بل وصل الأمر بالكسندر هيج وزير الخارجية في بداية عهد رونالد ريجان وهو تلميذ هنرى كيسنجر ومساعده في إدارة الأمن القومي أنه حينما وصل إلى القاهرة في أول زيارة له أن ذكر في تصريحه الصحفي في المطار وأمار عدسات السينما والتليفزيون وميكروفونات الإذاعة " أهم ما جئت من أجله هو تلقي بعض الدروس الإستراتيجية من السيد أنور السادات "!!!
ولم يكن غريبا بعد كل هذا التخبط وغياب الرؤية السليمة أن البحر الأحمر أصبح مجالا للصراعات الدولية ولم يكن غريبا بعد ذلك اختلال التوازن بالنسبة للسياسة المصرية من هذه البقعة من العالم والتي تؤثر على الأمن القومي المصري والعربي تأثيرا مباشرا . وأخيرا
لا شك أن الظروف قد تغيرت في السنوات التي انتقال عبد الناصر إلى حوار ربه والتي تلت مقتل السادات في حادثة المنصة أهم هذه المتغيرات يمكن حصرها في الآتي:
- فقد تركت إسرائيل سيناء ولكن يوجد هناك حاليا القوات متعددة الأجناس وهناك القيود الكثيرة على تواجد الإدارة المصرية بكاملها. سيناء منطقة مفرغة ليست مصر حرة في ملئها في الوقت الذي تريده وبالطريقة التي تختارها.
- وفتحت قناة السويس للملاحة العالمية وكذلك خليج العقبة وأصبحت إسرائيل حرة في استخدام هذه القنوات المائية بموجب المعاهدات والاتفاقيات الموجودة . ثم عاد السكان المهجرون إلى منطقة القناة وعاد الاتصال بين سكان الوادي وسكان سيناء .
- واختلفت العداوة والصداقة إختلافا جذريا مما يؤثر على الاتجاه الاستراتيجي فلا يمكن أن يقال أن إسرائيل ما زالت عدوة للقاهرة الرسمية كما أن الاتحاد السوفيتي الذي أمدنا بالسلاح ما زال يساعد القضية العربية ويقف في موقف العداوة الكاملة مع إسرائيل والولايات المتحدة فيما يخص قضيتنا انتقل من "خانة " الصداقة " إلى خانة " العداوة " أما الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت في "خانة " العداوة لمساعديها لإسرائيل وتحيزها لها تحيزا كاملا ضد المصالح العربية فقد انتقلت إلى خانة " الصداقة " رغما عن استمرارها في مسعدة إسرائيل وتحيزها لها تحيزا كاملا ضد المصالح العربية واضطربت العلاقات المصرية العربية اضطرابا خطيرا خاصة بالنسبة للبلاد العربية البحر أحمرية كما سبق القول .
- وأصبح للولايات المتحدة قاعدة أو تسهيلات في رأس بناس وجزر أخرى في البحر الأحمر وكذلك للإتحاد السوفيتي وربما لإسرائيل.
- وزادت أهمية البحر الأحمر نتيجة للخطط الطموحة للاستغناء عن مضيق هرمز كبوابة الخروج النفط إلى البحار الواسعة بعد أن مدت السعودية خط أنابيب سعة مليون وربع المليون برميل في اليوم من منابع البترول في الظهران إلى ميناء ينبع وبعد أن صممت بغداد على توصيل خط أنابيب من حقولها إلى الخط السعودي لينقل ولأول مرة عبر الأنابيب السعودي إلى ينبع لم يتم إلا بعد أن أرست الولايات المتحدة أقدامها في رأس بناس فهل ترى الأيام القادمة توصيل خط مباشر من ينبع إلى رأس بناس ؟ وهل ترى الأيام القادمة توصيل الخط السعودي بالخط المصري الذي يبدأ فيعين السخنة على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر وينتهي عند سيدى كرير على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط؟ نعني بذلك أن البحر الأحمر زادت قيمته استراتيجيا واقتصاديا وإذا كان الخليج العربي قد جذب الاهتمام بعد رحيل القوات البريطانية عن قاعدة قناة السويس فإن الأيام القادمة سوف ترى التركيز على البحر الأحمر كأنبوب رئيسي لنقل البترول من منابعه على الخليج متفاديا "ترويك المضايق" في هرمز وباب المندب وقناة السويس .
- ونحن نوافق على تصريح وزير الدفاع المصري في أخبار اليوم بتاريخ 13 / 2/ 1982 حينما قال
- " نحن ننظر إلى البحر الأحمر بصفته إحدى المناطق الإستراتيجية الهامة المؤثرة على أمن مصر ولذلك فإننا نرى أن يكون البحر الأحمر آمنا لا نفوذ أو سيطرة فيه لأية قوة خارجية وإنما للدول التي لها شواطئ عليه والتي لها مصالح إستراتيجية مرتبطة بخطوط الملاحة التي تمر فيه خاصة وأن البحر الأحمر يؤثر على قناة السويس التي نعتبرها أحد المصادر الرئيسية القومية لاقتصادنا المصري ولذا فمن المهم جدا أن يظل البحر الأحمر نظيفا .
- معظم سواحله عربية وبناء عليه فيجب أن تكون هناك إستراتيجية عربية متكاملة لتأمين البحر الأحمر تماما ولا نقصد بعروبة البحر الأحمر منع ملاحة الدول الأخرى وإنما المحافظة على سلامة المرور البرئ والحر لجميع خطوط المواصلات البحرية بمعني أن التجارة الدولية التي تمر بالبحر الأحمر نريدها دائما حرة ولا يتحكم فيها أحد فحوالي 50 % من تجارة البترول تمر في البحر الأحمر ونحن نؤمن بألا يكون هناك أية إعاقة للملاحة ولا خطورة على مرورها وهذا هو الغرض الرئيسي من الأمن الاستراتيجي للبحر الأحمر ".
والسياسة معقولة لا غبار عليها ... بقي الإجابة على السؤال الآتي :وكيف يتم هذا ؟ ثم أليس من الأفضل لمن يريد أن ينفذ سياسة ما أن يبدأ بنفسه ؟