الصهيونية
المرحلة الأولى: تأسيس الحركة الصهيونية
حيث تم تأسيس الحركة الصهيونية المستندة إلى فكرة القومية اليهودية، والمتبنية لمشروع إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين (الكيان الصهيونى).
ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر تبنى عدد من المفكرين اليهود الدعوة إلى تكوين قومية يهودية، وبلور هذه الدعوة المفكر اليهودي الروسي "بينسكر" في كتابه "التحرير الذاتي" الذي أصدره في عام 1882م، ولكن هذه الدعوة قوبلت بالرفض والمعارضة من بعض المفكرين اليهود المتدينين، وتبلورت هذه المعارضة في المؤتمر الوطني العام لممثلي الدين الإصلاحي اليهودي الذي انعقد في مدينة بيتسبورغ بالولايات المتحدة في عام 1885م، حيث أصدر بيانًا يرفض فيه فكرة العودة إلى فلسطين معلنًا أن أمريكا هي "صهيوننا".
ولكن هذه المعارضة لم تصمد طويلاً، فقد انبرى ثيودور هرتزل إلى إذكاء نيران الفكرة الصهيونية في كتابه "الدولة اليهودية" الذي أصدره في عام 1895م، حيث دعا فيه جهارًا إلى تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين، ثم تبع ذلك انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال السويسرية برئاسة تيودور هرتزل في عام 1897م، حيث تكرَّسَت في هذا المؤتمر الفكرة الصهيونية، وأخذت الحركة الصهيونية شكلها الحركي والتنظيمي بعد أن هزمت فكرة إقامة الوطن القومي اليهودي– أي دولة إسرائيل في فلسطين – جميع الاقتراحات الأخرى الداعية إلى إقامتها في أوغندا أو الأرجنتين وغيرها.
الدور الإسلامي في هذه المرحلة
لا أزعم أنني أستطيع أن أقدم أي مؤشر أو دليل على وجود أي دور للإسلاميين في مواجهة هذه المرحلة، ولعل أساتذتي الأكثر إلمامًا بهذه المرحلة يسدون عجزي، فيكشفوا عن أية مؤشرات أو أدلة تشرح دور التيار الإسلامي في مواجهة مرحلة تأسيس الحركة الصهيونية.
المرحلة الثانية: تنفيذ مقررات مؤتمر بال
وهي مرحلة التمهيد لتنفيذ مقررات مؤتمر بال. وقد اتخذت هذه المرحلة مَنْحَيَيْن: الأول في اتجاه إيجاد ثقل ديمغرافي لليهود في فلسطين من خلال تشجيع الهجرة اليهودية إليها، والثاني في اتجاه الحصول على اعتراف دولي يضفي شرعية على الفكرة الصهيونية ومشروعها لإقامة دولة (إسرائيل) في فلسطين.
دور التيار الإسلامي في هذه المرحلة
مثَّلت الدولة العثمانية الإسلامية التيار الإسلامي في مواجهة الاتجاه الأول من هذه المرحلة، فقد جاءت أول محاولة صهيونية لتهجير اليهود إلى فلسطين في عام 1850م على شكل مشروع وضعه الصهيوني البريطاني "إيرل. إن. شانتري"، وتبناه وقدمه إلى الدولة العثمانية وزير خارجية بريطانيا "بانشتون"، ولكن الخليفة العثماني المسلم عبد المجيد خان – والد عبد الحميد الثاني – رفض المشروع بحزم.
وعندما انفضح دور اليهود في المؤامرة على قيصر روسيا إسكندر الثاني عام 1881م، تقدمت منظمة "أحباء صهيون" باسترحام للخليفة العثماني عبد الحميد الثاني للسماح ليهود روسيا المضطهدين بسبب تآمرهم على القيصر بالهجرة إلى فلسطين، فكان جواب السلطان حازمًا بالرفض.
وفي عام 1892م حاول بعض اليهود الألمان الاستيطان في منطقة الساحل الشرقي لخليج العقبة، وأقاموا مستوطنة لهم في "المويلح"، فأصدر السلطان أمرًا في 16 شباط/ فبراير 1892م لقواته المرابطة في السعودية بإعادة المستوطنين اليهود من حيث أتوا.
ثم بدأت محاولات هرتزل بعد مؤتمر بال لإغراء وإغواء السلطان عبد الحميد بكل وسائل الإغراء والإغواء، ومستغلاً وساطة العشرات من الزعماء الأوروبيين لدى السلطان لثنيه عن موقفه الرافض لفتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين. ولا أريد أن أفصل كثيرًا فيما جرى من صراعات بين السلطان عبد الحميد وهرتزل حول هذا الأمر، فمجال ذلك في الكتب الكثيرة التي تحدثت عن هذه الصراعات، ولكنني أريد أن أَخْلُصَ إلى القول بأن الدولة العثمانية وخليفتها عبد الحميد الثاني دفعا ثمنًا غاليًا مقابل الموقف الإسلامي الصلب ضد الهجرة اليهودية، حيث استطاع اليهود في نهاية المطاف اجتياز هذه العقبة الكؤود المتمثلة في الدولة العثمانية وخليفتها السلطان عبد الحميد حين تمكنت المحافل الماسونية من الإجهاز عليه وخلعه من الخلافة في عام 1908م، وتسليم زمام أمور الدولة العثمانية إلى الماسونيين من زعماء حزب الاتحاد والترقي.
ولكن مع كل ذلك فإن دور السلطان عبد الحميد كممثل للضمير الإسلامي الصادق لا يمكن أن يُنسى في مواجهة المخططات الصهيونية ضد فلسطين.
ومن الإنصاف أن أشير إلى أن فلسطين بعد إزاحة السلطان عبد الحميد، كانت من نصيب أهل فلسطين بقيادة العلماء، وبدعم معنوي متقطع من الشعوب العربية والإسلامية التي كان كل شعب منها منشغلاً بهمومه، كما كان لفتاوى علماء المسلمين بتحريم بيع الأراضي والعقارات لليهود تأثير في إعاقة عملية الهجرة.
ولقد بذل أهل فلسطين بأغلبيتهم المسلمة كل ما يستطيعون من جهد في مواجهة الهجرة اليهودية، وقاموا بصراعات مريرة على كافة الجبهات السياسية والعسكرية والإعلامية من أجل ذلك، ولعل أبرز محطات دَور التيار الإسلامي في هذه المرحلة يمكن تلخيصها على النحو الآتي:
1- كانت أول مواجهة دموية بين المسلمين واليهود في الرابع من نيسان / إبريل 1920م، عندما اعترض اليهود موكبًا للمسلمين متجهًا للاحتفال
بموسم النبي موسى عليه السلام، وهو احتفال تقليدي دأب المسلمون في فلسطين على تنظيمه سنويًّا، وحاول اليهود إهانة الأعلام التي يحملها المسلمون، فجرت مشادة لم تلبث أن تحولت إلى معركة بالسلاح، ثم لم يلبث أن انضم الجند الإنجليز إلى جانب اليهود فسقط من اليهود تسعة قتلى ومن المسلمين أربعة شهداء.
2- كان قد سبق تلك المواجهة الدموية انعقاد مؤتمر وطني فلسطيني في الخامس من آذار/ مارس 1919م أعلن فيه الفلسطينيون بأغلبيتهم المسلمة رفضهم وعد بلفور، ورفضهم للهجرة اليهودية إلى فلسطين.
3- توالت المؤتمرات الوطنية التي كان يغلب عليها التوجه الإسلامي، والتي كان يشرف على تنظيمها الإسلاميون خاصة الشيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين، كما توالت الوفود السياسية في زيارات إلى العواصم الأوروبية لإبراز الرفض الفلسطيني للهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولإبراز الرفض وعد بلفور.
أما الاتجاه الثاني في هذه المرحلة – وهو الحصول على اعتراف دولي بالفكرة الصهيونية – فقد تمكن اليهود من خلال إقناعهم للحكومة البريطانية بأسلوب ابتزازي، من إصدار وعد على لسان وزير خارجية بريطانيا "بلفور" في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917م، يتعهد بمساعدة اليهود على إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، فاكتسبت الفكرة الصهيونية ومشروعها لإقامة "دولة إسرائيل" اعترافًا دوليًّا، ولم تلبث فرنسا والولايات المتحدة وغيرهما من الدول الغربية أن سارعت لإصدار تعهدات مماثلة.
المرحلة الثالثة: تعزيز الوجود اليهودي في فلسطين
وتأتي بعد تعزيز الوجود اليهودي في فلسطين وتأسيس العصابات اليهودية العسكرية لحماية الوجود اليهودي من جهة، ولتُكَوِّن نواة للجيش الذي ستناط به مهمة إقامة "دولة إسرائيل" في فلسطين.
تجلى دور التيار الإسلامي في مواجهة تزايد الوجود اليهودي ومواجهة العصابات اليهودية؛ في العديد من الانتفاضات والثورات والنشاطات الجهادية ، أذكر منها ما يلي:
أ- ثورة البُراق: ففي يوم العشرين من آب / أغسطس 1929م اندلعت معركة عنيفة بين المسلمين واليهود والبريطانيين إثر محاولة اليهود الاستيلاء على حائط البراق الشريف، واستمرت المعركة داخل القدس، وعلى مقربة من حائط البراق الذي يسميه اليهود "المَبْكَى" حتى مساء 23 آب / أغسطس وقتل من اليهود 28، واستشهد 13 من المسلمين، ثم انتقل القتال إلى أنحاء أخرى من فلسطين مما اضطر الإنجليز إلى جلب إمدادات من خارج فلسطين، واستعانوا بالطائرات، وزوَّدوا العصابات اليهودية بالسلاح، واستمرت الثورة 15 يومًا قتل وجرح فيها 472 يهوديًّا، واستشهد وجرح 338 مسلمًا. وأعقب الثورة حملة من الاعتقالات، وصدرت أحكام بإعدام 20 من الثُوَّار المسلمين، ونُفِّذَ الحكم في ثلاثة منهم في يوم الثلاثاء 17 حزيران / يونيو 1930م وهم : فؤاد حجازي، وعطا الزير، ومحمد جمجوم.
وأثارت هذه الأحكام وما أعقبها من إجراءات قمعية ضد عرب فلسطين، ردود فعل في الوطن الإسلامي، وجاء أول رد فعل عملي في تنادي علماء المسلمين في فلسطين إلى عقد مؤتمر إسلامي عالمي في القدس لنصرة الشعب الفلسطيني المسلم، وانعقد المؤتمر في ليلة الإسراء والمعراج 4 كانون الأول/ ديسمبر 1931م، وشارك فيه ممثلون للمسلمين من 22 قطرًا.
ب- ثورة الشهيد عز الدين القسَّام: يمكننا القول إن ثورة الشيخ عز الدين القسَّام– السوري المنبت – كانت أول رد فعل حركي منظم يمثل التيار الإسلامي في الصراع ضد اليهود في فلسطين، فقد كانت ثورته وليدة جهود منظَّمة أشرف عليها الشهيد القسَّام لتجميع الإسلاميين حول فكرة الجهاد، منطلقًا بدعوته من مسجد الاستقلال في حيفا؛ لينتقل بعد ذلك إلى منطقة جنين ونابلس وطولكرم، لتكون مسرحًا لعملياته الجهادية ضد الإنجليز حماة اليهود، وضد العصابات اليهودية، متخذًا من غابات "يَعْبَد" مقرًّا لقيادته. ولكن القوة الغاشمة غلبت الفئة المؤمنة، ففي الخامس والعشرين من تشرين الثاني / نوفمبر من عام 1935م ارتقى شهيدنا القسَّام وعدد من إخوانه المجاهدين إلى جنان الخلد شهداء في سبيل الله دفاعًا عن أرض فلسطين المسلمة بعد حصار مُحْكم فرضته القوات البريطانية، وبعد معركة دامية أبلى فيها المجاهدون بلاءً حسنًا.
ج- ثورة عام 1936م: لم تذهب دماء شهيدنا القسَّام ودماء إخوانه هدرًا، بل كانت الجذوة التي زادت من ثورة أهل فلسطين بتحريض من العلماء المسلمين، فما كادت تمضي أشهر قليلة على استشهاد القسَّام وإخوانه حتى اندلعت في العشرين من نيسان/ إبريل 1936م ثورة جهادية انطلقت من يافا إلى القدس والخليل وحيفا، ثم لم تلبث أن شملت كل مدن وقرى فلسطين، وشهدت بطاح فلسطين طوال أشهر أيار/ مايو وحزيران/ يونيو وآب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر، وحتى منتصف تشرين الأول/ أكتوبر؛ معارك جهادية ضد البريطانيين واليهود كان من أشهرها معارك بلعا وترشيحا وجبع، ولم تتوقف الثورة إلا بعد أن انخدع أهل فلسطين بنداء من بعض ملوك العرب يطلبون إليهم إيقاف ثورتهم والاعتماد على حسن نوايا الحليفة بريطانيا، فما إن أوقفوا ثورتهم حتى شددت بريطانيا الخناق عليهم، وأمْعَنَت في تزويد اليهود بالسلاح.
وقد جاء رد الفعل الأقوى انتصارًا لثورة أهل فلسطين عام 1936م من خارج فلسطين، من جماعةالإخوان المسلمين في مصر، وكان على النحو التالي:
- في شهر آذار/ مارس 1936م، قررت الهيئة التأسيسية للجماعة في اجتماع استثنائي تشكيل لجنة مركزية لمساعدة شعب فلسطين برئاسة الإمام الشهيد حسن البنَّا.
- في 18 أيار/ مايو 1936م، بعث الإمام الشهيد برقية إلى مفتي فلسطين الشيخ أمين الحسيني يؤكد فيها وقوف الإخوان إلى جانب إخوانهم أهل فلسطين.
- وجه الإمام الشهيد رسالة إلى لجنة جمع التبرعات لمساعدة الحبشة، يطلب تحويل جزء من الأموال التي جمعت لمساعدة شعب فلسطين.
- دعا مكتب إرشاد الجماعة في مصر، الإخوان المسلمين خاصة والأمة المسلمة عامة، للقنوت في كل صلاة والدعاء بالنصر لشعب فلسطين في ثورته ضد الإنجليز واليهود.
- أسس الإمام البنَّا صندوقًا أسماه صندوق قرش فلسطين، ودعا كل مصري إلى التبرع بقرش لمساعدة إخوانه في فلسطين كحد أدنى، واشترى بما تجمع في الصندوق سلاحًا وعتادًا أرسلها سرًّا إلى المجاهدين في فلسطين.
- نظَّم الإخوان حملة شارك فيها آلاف من دعاة وشباب الإخوان جابوا كل أنحاء مصر لتعريف الشعب المصري بقضية فلسطين وجمع التبرعات لمساعدته.
- وجَّه الإخوان نداءات تدعو المصريين لمقاطعة المصانع والمتاجر التي يملكها يهود في مصر، مؤكدين أن كل قرش يُدفع لهؤلاء يتحول إلى رصاصة تقتل مسلمًا فلسطينيًّا.
- وزَّع الإخوان مئات الآلاف من المنشورات والكتب التي تفضح إجراءات الإنجليز القمعية ضد شعب فلسطين، ومن هذه الكتب كتاب "النَّار والدمار في فلسطين" الذي أصدرته اللجنة العربية العليا لفلسطين، واعتقل الإمام الشهيد بعد توزيعه.
د- ثورة أعوام 1937م، 1938م، 1939م: لم تفتّ النكسة التي واجهتها ثورة 1936م بسبب انخداعها بنداء بعض ملوك العرب في حماس أهل فلسطين، إذ لم تنقضِ أشهر حتى كانت جذوة الثورة قد اتقدت من جديد بقيادة العلماء كالشيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين، والشيخ فرحان السعدي، والشيخ أبو الفيلات، وشهدت هذه الثورات بطولات فردية نادرة قام بها المجاهدون وأدت إلى مقتل العديد من ضباط الإنجليز ومنهم حاكم لواء الجليل أندروز، ومساعده جوردن، والضابط العربي الخائن حليم بسطا، وحاكم جنين موفات، وشهدت سنوات 37 و38 و39م، معارك عنيفة خاضها المجاهدون ضد الإنجليز والعصابات اليهودية لا مجال لذكر تفاصيلها الآن.
ولم يقف الإمام الشهيد حسن البنَّا مكتوف اليدين أمام هذه التطورات، بل صعَّد من نشاطاته في دعم إخوانه في فلسطين، وتمثلت نشاطات جماعة الإخوان المسلمينفي تلك المرحلة فيما يلي:
- في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1937م وجَّه مكتب إرشاد الجماعة مذكرة احتجاج للسفير البريطاني في القاهرة ضد وعد بلفور، مؤكدًا وقوف الإخوان إلى جانب إخوانهم شعب فلسطين.
- في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1937م قاد الإمام البنَّا مظاهرة ضخمة في القاهرة انتصارًا لقضية فلسطين، في نفس الوقت الذي كانت فيه عشرات المظاهرات التي يقودها الإخوان تجوب كبرى المدن المصرية.
- عقد الإمام الشهيد مؤتمرًا شعبيًّا أسماه "المؤتمر الشعبي العربي لنصرة فلسطين"، وانعقد المؤتمر في سرايا آل لطف الله بالقاهرة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1938م.
المرحلة الرابعة: المواجهة العسكرية المباشرة
فمع بداية عقد الأربعينيات أصبح واضحًا أن الصراع قد أخذ يتجه نحو مواجهة عسكرية مباشرة مع اليهود ورُعاتهم الإنجليز، وكان التيار الإسلامي داخل فلسطين وخارجه من أوائل المنتبهين لهذه الحقيقة، وكان لا بد أن يكون له دور في مواجهة هذه المرحلة الحاسمة، وهي مرحلة الاحتكاك العسكري المباشر، وقد تجلى دور التيار الإسلامي على النحو التالي:
- أدرك الإمام الشهيد حسن البنا ضرورة وجود نواة قوية للجماعة داخل فلسطين وفي الأقطار المجاورة لها لتكون على استعداد تام للقيام بواجبها الجهادي حين يَجِدُّ الجَدُّ ؛ ولذلك فقد عمد إلى إرسال عدد من دعاة الإخوان المسلمين إلى فلسطين وشرقي الأردن وسوريا ولبنان؛ لنشر الدعوة فيها، ولم يكد عقد الأربعينيات ينتصف حتى كان للإخوان وجود حقيقي وقوي في هذه البلدان.
- بعد أن انتشرت تنظيمات الجماعة في فلسطين وما حولها، عَمَدَ الإمام الشهيد إلى إرسال عدد من المدربين العسكريين بقيادة الصَّاغ محمود لبيب لتدريب شباب الإخوان في فلسطين على السلاح.
- أوكل الإمام الشهيد للصاغ محمود لبيب مهمة الإصلاح بين منظمَتَي النجادة والفتوة، ونجح الصاغ لبيب في مهمته، وأصَرَّ عليه قادة المنظمتين للإشراف على تدريب أعضائهما ففعل.
- في عام 1946م عقد الإخوان في سوريا ولبنان مؤتمرهم السنوي السادس، وأعلنوا فيه عن تشكيل لجنة للدفاع عن فلسطين.
- في 17 تشرين الأول / أكتوبر 1947م عقد الإخوان المسلمون في فلسطين مؤتمرًا لهم في حيفا، وأعلنوا فيه عن استعدادهم للجهاد دفاعًا عن فلسطين.
- في 15 كانون الأول / ديسمبر 1947م كانت جموع الإخوان بقيادة الإمام الشهيد تتظاهر في القاهرة انتصارًا لفلسطين ووقف الإمام البنا ليعلن بصوتٍ جهوري: "لبيك فلسطين..دماؤنا فداء فلسطين.. إنه إن كان ينقصنا السلاح فسنستخلصه من أعدائنا.. لقد تألبت الدنيا تريد أن تسلبنا حقنا، وقد عاهدنا الله تعالى أن نموت كرامًا أو نعيش كرامًا".
- في شهر أيار / مايو 1948م بعث الإمام الشهيد برقية إلى زعماء العرب المجتمعين في مدينة عالية بلبنان يؤكد فيها استعداد عشرة آلاف مجاهد من الإخوان المسلمين للاستشهاد في سبيل الله دفاعًا عن فلسطين.
وبدأت الحرب الحقيقية ففي شهر أيار / [[مايو]ي 1948م انسحبت القوات البريطانية من فلسطين بعد أن دجَّجت العصابات اليهودية بالسلاح، وكان لا بد للمعركة أن تبدأ، فتدخلت الجيوش العربية التي كانت قياداتها تحت سيطرة الضباط الإنجليز المباشرة، ووحَّد الشعب نفسه بين نار العصابات اليهودية وبين تخاذل القيادات العربية الرسمية وخياناتها، ولم يجد له من نصير حقيقي غير التيار الإسلامي ممثلاً في جماعة الإخوان المسلمين، وكانت مشاركة الإخوان في تلك المرحلة على النحو التالي:
- أ- إخوان فلسطين: شكَّل الإخوان الفلسطينيون مجموعات جهادية وخاصة في المناطق الشمالية والوسطى، حيث شنَّت هجمات على التجمعات اليهودية إما وحدها وإما بالتعاون مع المتطوعين من الجماعات الجهادية الفلسطينية الأخرى كالجهاد المقدس والنجادة والفتوة. وبعد وصول المجاهدين الإخوان من مصر والأردن وسوريا والعراق، انضمَّ إخوان فلسطين إليهم كل حسب المنطقة التي استقر الإخوان القادمون من الخارج فيها.
- ب - الإخوان المصريون: تسلَّلت أول مجموعة من المجاهدين من إخوان مصر إلى فلسطين تحت ستار رحلة علمية إلى سيناء، وذلك في حيلة لعبور الحدود المصرية إلى فلسطين، حيث كانت الحكومة المصرية قد أصدرت أمرًا بمنع عبور المجاهدين إلى فلسطين، ووصلت المجموعة إلى فلسطين بعد دخول سيناء في شهر آذار/ مارس 1948م، أي قبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين، ثم ما لبثت أن لحقت بها مجموعات أخرى توزعت على جبهات غزة والخليل والوسط.
- وخاض إخوان مصرأول معركة مواجهة مع اليهود في الساعة الثانية من فجر الرابع عشر من نيسان/ إبريل 1948م، حين هاجمت مجموعة بقيادة الشهيد يوسف طلعت مستعمرة كفار ديروم الحصينة، وقدم الإخوان في هذه المعركة 20 شهيدًا دون أن يُفْلِحوا في اقتحام المستعمرة، وعادوا ليهاجموا المستعمرة في فجر اليوم العاشر من أيار/ مايو 1948م بقيادة المجاهد أحمد لبيب الترجمان، وقدموا 70 شهيدًا في تلك المعركة، ولكنهم لم يفلحوا في اقتحامها أيضًا. ومن المعارك التي خاضها إخوان مصر معركة الاستيلاء على مستعمرة رامات راحيل، حين هاجمت مجموعة من مجاهدي الإخوان المستعمرة في منتصف ليل السادس والعشرين من أيار/ مايو 1948م، وتمكنت من الاستيلاء على المستعمرة الحصينة وقتلت في المعركة أكثر من 200 جندي يهودي.
- كما خاض إخوان مصر معارك عديدة، من أهمها معركة استرداد موقع التَّبَّة رقم 86 بعد أن خسر الجيش المصري، وكان هذا الموقع يشكِّل مقتلاً للجيش المصري فيما لو بقى اليهود فيه.
- ولا أريد أن أسهب في الحديث عن جهاد إخوان مصر في هذه المرحلة. إذ يمكن الاطلاع على المزيد في المراجع التي تحدثت عن هذا الجهاد الميمون، ولكني أريد أن أتوقف عند الدور الخياني الذي لعبه ملك مصر الهالك فاروق وحكومته الواقعة تحت سيطرة الإنجليز في التآمر على إخوان مصر في الوقت الذي كان فيه مجاهدوهم يؤدون – نيابة عن شعب مصر – شرف الدفاع عن فلسطين. ففي الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 1948م صدر القرار العسكري رقم 64 لعام 1948م القاضي بحل جماعة الإخوان المسلمينفي مصر، وبعد أيام من هذا القرار صدرت الأوامر للجيش المصري المرابط في غزَّة بجمع أسلحة المجاهدين من إخوان مصر. وفي 12 شباط / فبراير 1949م صُعِقَ المجاهدون بخبر اغتيال الإمام الشهيد حسن البنَّا في وسط القاهرة في منتصف النهار، وبعد يومين من اغتياله صدرت الأوامر باعتقال مجاهدي الإخوان المصريين، وزُجَّ بهم في معتقل رفح حتى 18 حزيران/ يونيو 1949م، حيث نُقِلُوا بعد ذلك إلى مصر مكبَّلين بالحديد ليقبعوا في سجون مصر من جديد.
- ج- الإخوان السوريون والأردنيون والعراقيون: شارك الإخوان السوريون بقيادة المجاهد الدكتور مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان في سوريا يومذاك، وكان لهم دور مهم في الدفاع عن القدس العربية، كما شارك الإخوان الأردنيون بقيادة المجاهد الحاج عبد اللطيف أبو قورة المراقب العام للإخوان المسلمين في الأردن يومذاك، وكان مقر قيادتهم في صور باهر قريبًا من القدس، وشارك عدد محدود من الإخوان العراقيين بقيادة المجاهد الشيخ محمد محمود الصَّوَّاف المراقب العام للإخوان في العراق يومذاك.
- وينبغي الإشارة إلى مشاركة عدد من الإخوان المسلمين الليبيين، وعدد من المسلمين اليوغسلاف الذين استضافهم إخوان مصر بعد فرارهم من حكم الشيوعي تيتو، وكان لهؤلاء دور في تدريب الإخوان على فنون المتفجرات.
المرحلة الخامسة: ما بعد تأسيس الكيان الصهيوني
وهي ما بعد تأسيس الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين، بعد أن تكاتفت الخيانة الرسمية العربية مع الدعم الغربي النصراني والشرقي الشيوعي لإنجاح المشروع الصهيوني.
لعب التيار الإسلامي في هذه المرحلة دورًا مهمًّا في مواجهة الكيان الصهيوني، حيث انتقلت نشاطات الإخوان إلى مجالات جديدة من ميادين العمل السياسي والإعلامي والإعداد الجهادي، وقد تجلَّت هذه النشاطات وبالمقدار الذي كانت تسمح به الإمكانيات، خاصة في وقت كانت الجماعة الأم في مصر تَمُرُّ فيه بمحنة تمخضت عن اغتيال إمامها الشهيد، والزج بقيادات الجماعة وأعضائها – بعد حلها - في السجون والمعتقلات وذلك على النحو التالي:
لعب الإخوان في سوريا والأردن والعراق دورًا مهمًّا في رفع معنويات الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية بعد الإحباط الذي أصابهم إثر نجاح اليهود في إقامة دولتهم في الجزء الذي احتلوه من فلسطين، كما لعبوا دورًا مهمًّا في إبقاء جذوة القضية الفلسطينية، وتبنوا الدعوة إلى ضرورة انتهاج سبيل الجهاد كطريق وحيد لتحرير فلسطين، وقد تجلى هذا الدور في النشاطات التالية:
- تبنت صحافة الإخوان المتاحة حينذاك، "الكفاح الإسلامي" في الأردن، "المنار" و "الشهاب" في سوريا، "الأخوة الإسلامية" في العراق، "المسلمون" في مصر ودمشق وجنيف، "الإخوان المسلمون" في مصر – خلال فترة الانفراج بعد قيام الثورة وإلى حين الاصطدام مع الثورة – وغيرها من الصحف المتعاطفة مع الإخوان، تبنَّت القضية الفلسطينية بكل أبعادها الإعلامية والإنسانية والسياسية والعقائدية.
- تعبيرًا عن اهتمام الإخوان المسلمين بقضية فلسطين، قام المرشد الصابر الأستاذ حسن الهضيبي بزيارة خاصة إلى الأجزاء التي لم تُحْتَل من فلسطين، وإلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن وسوريا ولبنان، وتمت الزيارة في شهر تموز/ يوليو 1954م، وشدَّد فضيلته في كل لقاءاته على اهتمام الجماعة بقضية فلسطين، ونقلت الصحافة الأردنية والسورية والمصرية واللبنانية تصريحاته ومنها على سبيل المثال: "إن الإخوان المسلمين في جميع البلاد الإسلامية يذكرون دائمًا فلسطين، ويذكرون جراح أهلها، وهي جراح في قلوبهم، وإنهم يشاركون الفلسطينيين العمل لتحقيق الأمل في استرداد بلادهم الحبيبة".. "فلسطين لن تعود إلى أهلها إلا بمثل القوة التي سلبت بها، وقد يتراءى ذلك بعيدًا لبعض ذوي الهمم الضعيفة، ولكن الحق لا بد أن ينتصر".
- خصصت صحيفة "الشهاب" الإخوانية (سوريا) عددها رقم 45 الصادر في 5 شعبان 1375هـ (1955م)، للحديث عن الخطر الصهيوني.
- عقد الإخوان المسلمون في مصر مؤتمرًا شعبيًّا في السادس من تموز/ يوليو 1954م انتصارًا لقضية فلسطين شارك فيه مفتي فلسطين الشيخ أمين الحسيني.
- شارك قادة الإخوان الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة (الأردن)، والدكتور مصطفى السباعي (سوريا)، والأستاذ محمد محمود الصواف (العراق) في مظاهرة عارمة في دمشق يوم 12 شعبان 1375هـ، انتصارًا لفلسطين بمناسبة أسبوع الخطر الصهيوني الذي نظمه إخوان سوريا.
- كان لقضية فلسطين مكانها البارز في اهتمامات جميع الاجتماعات التي عقدها المكتب التنفيذي لقادة الإخوان في البلاد العربية، وكمثال على هذا الاهتمام نشير إلى هذه الفقرات من بيان المكتب التنفيذي لقادة الإخوان في البلاد العربية إثر اجتماعه في 5 نيسان / أبريل 1956م.
- لن نقبل تهويد فلسطين، ولا ضياع الأقصى المبارك، ولن نخضع لأمر الواقع، ويجب أن يستمر الجهاد حتى ولو استغرق قرنًا أو قرنين، أو حتى قيام الساعة، فما تطيب لنا حياة إذا فقدنا مقدساتنا وبقينا بلا دين ولا أرض ولا تاريخ.
- عندما شنَّت بريطانيا وفرنسا ودولة الكيان الصهيوني هجومًا ثلاثيًّا على غزة ومصر؛ امتشق إخوان غزة سلاحهم المخبوء وتصدوا لليهود، كما شارك إخوان مصر في قتال اليهود والبريطانيين والفرنسيين في بور سعيد والإسماعيلية، وكانت إذاعة العدوان التي تبث من قبرص تحذر جنود العدوان ممن أسمتهم "شياطين الإخوان المسلمين".
- حين بدأ العمل الفدائي المسلح ضد الكيان الصهيوني شارك الإخوان المسلمون من جميع البلدان العربية، خاصة مصر والأردن والسودان وسوريا والعراق واليمن؛ في العمل الفدائي تحت مظلة "فتح" التي كانت يومذاك قريبة من الإخوان، وقام الإخوان بأنجح العمليات الفدائية، وقدموا عددًا من الشهداء منهم المهندس صلاح حسن (مصري) والقائد الركن محمد سعيد باعباد (يمني) والشاب عمود برقاوي (فلسطين) والطالب رضوان كريشان (أردني)، وكان الشهيد الدكتور عبد الله عزام من أبرز قادة الإخوان في العمل الفدائي.
- استمر الإخوان بعد توقف العمل الفدائي في بذل كل جهد ممكن – حسب ظروفهم – في جميع الميادين السياسية والإعلامية والإعداد الجهادي.
المرحلة السادسة: ما بعد اتفاقية كامب ديفيد
وهي مرحلة ما بعد عقد معاهدة كامب ديفد، وقد تمثل دور التيار الإسلامي الذي يشكل الإخوان المسلمون عموده الفقري في التصدي لهذا الانحراف الخياني الذي تمثله هذه المعاهدة، ونشطوا في جميع الميادين الجهادية والسياسية والإعلامية والعقائدية، في مواجهة هذا الانحراف، وتمثلت هذه النشاطات فيما يلي:-
- تصدِّي الإخوان في مصر لمعاهدة كامب ديفيد، وكان لهم تأثير في إفشال كل محاولات التطبيع الشعبي مع اليهود، وقد عبرت عن زيادة الإخوان في قيادة المعارضة للمعاهدة، صحيفة "الشرق الأوسط" الصادرة في لندن في 5/7/1979م حين نشرت تحليلاً سياسيًّا بعنوان: ""الإخوان المسلمون في مصر.. نشاط متزايد ورفض مطلق للمعاهدة مع إسرائيل.."
- حين بدأت منظمة التحرير الفلسطينية انحرافها نحو الحلول الاستسلامية بدأ الإخوان المسلمون في إعداد أنفسهم للتصدي لهذا الانحراف، ولم يلبث هذا الإعداد أن تمخض عن الإعلان عن ولادة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير 1987م، بعد أسبوع واحد من اندلاع الانتفاضة الجماهيرية الفلسطينية، وانطلقت حماس بعد أن أعلنت عن تشرفها بأنها ذراع من أذرع جماعة الإخوان المسلمين؛ لتكون امتدادًا مباركًا لجهاد الأوائل من أبطال جماعة الإخوان المسلمينعلى أرض فلسطين.
- وها هي "حماس" تؤكد يومًا بعد يوم وجودها على أرض فلسطين، رائدة وقائدة حقيقية للشعب الفلسطيني، خاصة بعد أن خذلته منظمة التحرير بارتمائها في أحضان الحلول الأمريكية الصهيونية، وها هي حماس الثمرة الطيبة من ثمار شجرة الإخوان المسلمين، تصبح الهاجس الذي يطرد النوم من عيون دهاقنة الصهيونية رابين وبيريز وحليفهما كلينتون.
- وكما وقف الإخوان المسلمون في فلسطين من خلال حركة "حماس" ضد معاهدة أوسلو الفلسطينية – اليهودية، فقد وقف الإخوان المسلمون في الأردن ضد المعاهدة الأردنية – اليهودية، وها هم يشكلون القيادة الحقيقية للمعارضة الجماهيرية لهذه المعاهدة، بقبول وعن اقتناع من جميع القوى والأحزاب المعارضة للمعاهدة.
- وبعد.. فإن المعركة ما زالت مستمرة، وما زالت مراحلها تتلاحق، ومثلما كان للتيار الإسلامي – وخاصة لطليعته جماعة الإخوان المسلمين – دور في كل مرحلة، فسيكون للتيار الإسلامي بكل لافتاته وأسمائه، وفي طليعته جماعة الإخوان المسلمين، دور في كل مرحلة مقبلة بإذن الله، إلى أن يتحقق وعد الله ووعيده في بني إسرائيل [فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وَجَوْهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوا تَتْبِيْرًا] (الإسراء – 7)