محمود لبيب
مقدمة
في سلسلة مقالاته بمجلة المصور تحت عنوان (قصة ثورة الجيش من المهد إلى المجد) تحدث عبدالناصر إلى حلمي سلام عن نشأة ومولد تنظيم الضباط الأحرار فقال: "كان يجمعنا وينظمنا المرحوم الصاغ (م . ل).
فمن هو م . ل الذي لم يذكره جمال تصريحًا، وإن ذكر دوره في تجميعهم وتنظيمهم وقيادتهم منذ نشأة التنظيم، وحتى وفاته عام 1951م؟
الصاغ محمود لبيب وكيل الإخوان المسلمين للشئون العسكرية ومؤسس تنظيم الضباط الأحرار.
إنه الصاغ محمود لبيب وكيل الإخوان المسلمين للشئون العسكرية والمؤسس لتنظيم الضباط الأحرار.
وصاحب هذه التسمية "الضباط الأحرار"؛ حتى يبعد العيون عن حركة الإخوان الضباط، ويخفي ارتباطها بدعوة الإخوان المسلمين تأمينًا لها إذا تعرضت الجماعة لأي ظروف طارئة.
وفي هذه السطور نحاول التعرف على هذه الشخصية العملاقة ودورها في التاريخ:
مولده ونشأته
ولد الصاغ محمود لبيب وكيل الإخوان المسلمين للشئون العسكرية والمؤسس لتنظيم الضباط الأحرار بالقاهرة عام 1882م بالمنوفية، وجده الأكبر هو الشيخ البقلي المعروف، وله زاوية هناك تسمى زاوية البقلي، وجده الدكتور محمد علي باشا البقلي أحد المشاهير في عهد محمد علي الكبير، وأطلق اسمه على شارع محمد علي المواجه لقسم الموسكي، ووالده الضابط علي بك أمين قومندان طوابي أبي قير في عهد أحمد عرابي، تلقى تعليمه الأولي بمدرسة محمد علي، ثم التحق بمدرسة الخديوية، ثم مدرسة السواحل العسكرية، وتخرج منها عام 1906م برتبة ملازم.
شارك في الحياة السياسية مبكرًا، ويعتبر من الرعيل الأول للحزب الوطني، ومن تلاميذ مصطفى كامل، ورفاق محمد فريد المعدودين.
وفي عام 1910م قاد مظاهرة احتجاج على تصريحات الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت الذي كان يزور القاهرة، والذى أثنى على الاحتلال الإنجليزي لمصر والسودان، ولقد خطب محمود لبيب في هذه المظاهرة أمام فندق شبرد حيث يقيم روزفلت مطالبًا بإخراجه من مصر، وعلى إثرها نُقل إلى سيدي براني بالصحراء الغربية.
وفي عام 1915م شارك وزميله اللواء صالح حرب ورجالهما في الحملة السنوسية على القوات الإنجليزية في السلوم، ولكن فشلت هذه الحملة، وأصدرت عليه محكمة إنجليزية وعلى زميله صالح حرب حكمًا بالإعدام لانضمامهم وجنودهم إلى مجاهدي ليبيا ضد الطليان والإنجليز فخرج من مصر إلى تركيا، وبقى هناك فترة، ثم انتقل إلى ألمانيا بعد سقوط الخلافة الإسلامية.
وكانت له حركة ونشاط في تركيا ثم ألمانيا، وقاد في ألمانيا مظاهرة ضد الإنجليز كان أحد أفرادها هتلر قبل أن يصبح زعيمَ ألمانيا، وعاد إلى مصر عام 1924م بعد صدور عفو عام عن جميع المنفيين السياسيين، وعاد إلى مصر من منفاه بميونخ قُبيل حادث إطلاق الرصاص على سعد زغلول، وكان أحد الشهود في هذه القضية، وبعد ذلك عُيِّن بفرق الهجانة بالبحر الأحمر، ثم انتقل إلى قسم سواحل رشيد، ويروي عنه الأخ عباس السيسي فيقول: "ومعروف عندنا في مدينة رشيد أن الصاغ محمود لبيب رحمه الله كان ضابطًا بقسم سواحل رشيد وعُرف عنه الشجاعة والمروءة والإحسان إلى الناس، ولا تزال ذكراه حية عند الذين عاصروه"، ترك الصاغ محمود لبيب الجيش عام 1936م برتبة صاغ لاختلافه مع عقل باشا مدير مصلحة خفر السواحل فطلب تسوية حالته فأحيل إلى المعاش.
الإرتباط بدعوة الإخوان المسلمين
انضم إلى الإخوان المسلمين عام 1938م بعد لقاء مع الإمام البنا في معسكر الدخيلة بالإسكندرية.
ويروي الأخ عباس السيسي فيقول: "بينما كان الأخ زكي طبيخة من فريق الجوالة يركب ترام مدينة الإسكندرية في طريقه إلى معسكر الإخوان الصيفي بالدخيلة وعلى كتفه شعار مكتوب عليه (الإخوان المسلمون) إذ تقدم إليه أحد الركاب وسأله عن الإخوان المسلمين وأين يوجدون، فأخبره الأخ بأن لهم معسكرًا بالدخيلة، فرغب الرجل أن يذهب معه لمقابلتهم، فاصطحبه الأخ إلى المعسكر، وفوجئ الرجل بهذا الخليط من الناس، واستقبله الإخوان، وقدموه إلى فضيلة المرشد العام وجلس الرجل يناقش ويستمع، ويرى نشاط الإخوان وأخوتهم ومحبتهم لأستاذهم.
حتى إذا شرح الله صدره بدأ يُعرِّف نفسه للأستاذ المرشد، فهو الصاغ محمود لبيب العضو البارز في الحزب الوطني وزميل الزعيم محمد فريد في منفاه، والذي شاركه محنة النفي خارج البلاد حتى قضى نحبه، ثم صدر عفو عنه من الملك فؤاد، وعاد إلى مصر مرةً أخرى، وهو يُواصل العمل الجاد في سبيل تحرير وادي النيل من براثن الاستعمار، ولهذا فقد فكر في أن يدعو إلى مبادئ الحزب الوطني عن طريق تكوين نادٍ رياضي اتخذ مقرًا له في شقة في عمارة ماجستيك بالمنشية، ووضع عليها لافتة باسم النادي، ولكنه بعد أن قابل فضيلة المرشد واقتنع بفكره ومنهجه ورسالته فإنه أعلن عن تنازله عن هذه الشقة ليرفع عليها لافتة الإخوان المسلمين بالإسكندرية، ومنذ هذه اللحظة أصبح للإخوان المسلمين في الإسكندرية دارًا في أكبر الميادين، وخرج الصاغ محمود لبيب من معسكر الإخوان، وعاد بعد ساعات ومعه هدية للإخوان من الأرز والخضروات واللحوم والفاكهة.
في قافلة الإخوان
انتخب الصاغ محمود لبيب عام 1947م وكيلاً ثانيًا للإخوان المسلمين للشئون العسكرية، ويعتبر هو المؤسس لتنظيم الضباط الأحرار، وصاحب هذه التسمية "الضباط الأحرار"؛ حتى يبعد العيون عن حركة الإخوان الضباط، ويخفي ارتباطها بدعوة الإخوان المسلمين تأمينًا لها إذا تعرضت الجماعة لأي ظروف طارئة، وهو أيضا القائد العام لمتطوعي الإخوان المسلمين في فلسطين، وقد قال عنه جمال عبد الناصر في سلسلة المصور ( قصة ثورة الجيش من المهد إلي اللحد ) مع حلمي سلام: كان يجمعنا وينظمنا المرحوم الصاغ م . ل يقصد الصاغ محمود لبيب.،
عُيِّن قائدًا عامًا لمنظمات النجادة والفتوة الفلسطينية
فقد قام خلاف بين قادة منظمتي "النجادة" و"الفتوة" الفلسطينيتين، وسارع الإخوان لرأب هذا الصدع والتوفيق بين المختلفين، وانتهت جهود الإخوان إلى إرسال الصاغ/ محمود لبيب وكيل الإخوان للشئون العسكرية قائدًا ومدربًا لهذه المنظمات، وتمكن بمساعدة الهيئة العربية في فلسطين من تكوين جيش ضخم من أبناء فلسطين، ولمَّا أحس الإنجليز بذلك أخرجوه من فلسطين بالقوة.. كما تولَّى القيادة العامة لمتطوعي الإخوان المسلمين في فلسطين.
شهادته في قضية السيارة الجيب
وفي شهادته في قضية السيارة الجيب تحدث عن أحد بطولات الإخوان هناك، وهو دور قوات الإخوان الموجودة في بيت لحم في إمداد القوات المحاصرة في الفالوجا:
- س: هل طلب إليك باعتبارك قائدًا للمتطوعين من الإخوان أن تجمع فرقتين من الإخوان، وذلك في نوفمبر 1948م، وكان القصد من جمع الفرقتين هو فك حصار الفالوجا، وأن هذا كان بناءً على خطة حربية مرسومة رُؤي فيها أن الإخوان المسلمين خير مَن يعهد إليهم في فك هذا الحصار؟
- ج: نعم. حصل ذلك.. في أوائل نوفمبر 1948م أرسل لي عزام باشا أن أحضر للجامعة العربية فتوجهت إلى هناك، وقابلني الأميرالاي أحمد بك منصور ضابط الاتصال وسألته عن سبب دعوتي، فأخبرني برغبتهم في جمع المتطوعين، وأن الأومباشي حسن مصطفي مندوب الهايكستب حاضر لهذا السبب، وحضر الأومباشي حسن مصطفي، وطلب كتيبتين من 1600 من المتطوعين، وسألته هل يريدهم من كل صنف؟ فقال لي إنه يريدهم من صنف واحد فقط هم الإخوان المسلمون بالذات،.
قلتُ له: ممكن، فأفهمني أن المسألة مستعجلة؛ لأننا سندربهم في حوالي 15 إلى 20 يومًا على الأسلحة لفك الحصار عن الفالوجا، فقلتُ: له ممكن وميسور، وأخذني معه لوزارة الحربية، وهناك قابلني البمباشي صلاح صبري، وعرَّفني أنه مدير مكتب الوزير، وقد عرفه بي وسألني: هل أخبروك عن المأمورية.
قلتُ له: مستعدون وأخذوا بعضهم، وقاموا غابوا مدة عشر دقائق ثم عادوا إليَّ وسألوني عن موعد حضور المتطوعين، وكان ذلك في يوم أحد قلتُ لهم يوم الخميس يكونون في الهايكستب، وقصدت مركز الإخوان، وطلبتُ واحدًا من كل شعبة بشرط أن يكون غير متزوج وغير مرتبط بأي مسئولية أو تبعة، وفي مساء الأربعاء اتصلت بي جميع المناطق تليفونيًا وسألوني عن مكان التدريب، وفي صباح الخميس علمتُ أن النقراشي باشا رفض هذا الطلب".
مؤلفاته
أصدر عنها كتابًا هامًا بعنوان (حماة السلوم) قدَّم له المجاهد الكبير صالح حرب باشا مقدمة رائعة أشاد فيها بأخيه ورفيقه في الجهاد، ومما قاله:
"فإذا جاء اليوم زميل مجاهد عزيز وصديق كريم ووطني صادق الوطنية ينفض الغبار عن الماضي، ويكشف القناع عن ذلك الجهاد الرائع، وقد أسعفته ذاكرته القوية التي لم تنل الحوادث والأحداث منها، وساعدته على المضي في كتابتها عزيمة لا تخمد ولا تهمد، فأقدم على نشر هذا التاريخ.
فباسمي واسم إخواني المجاهدين الأحياء منهم والشهداء أشكره سلفًا على هذا الفضل الذي جاوز ساحة الحمد والشكر والثناء".
صفات شخصية
لم يدخن مطلقًا طوال حياته، ولم يشرب الشاي أو القهوة إلا اضطرارًا وفي المناسبات، كما كان مواظبًا على أداء التمرينات الرياضية يوميًا حتى آخر يوم له قبل مرضه الأخير الذي أقعده عن الحركة تمامًا، وكان في شبابه من مشاهير لاعبي كرة القدم الأوائل في مصر حتى أطلق عليه لقب "الكابتن".
وفاته وتشييع جنازته
مشهد من الجنازة المهيبة للصاغ محمود لبيب
تُوفي يوم الثلاثاء الموافق 1951/18/12م، وتشاء الأقدار أن يكون هذا اليوم هو يوم افتتاح المركز العام للإخوان المسلمين بعد طول إغلاق، وأذيع نبأ الوفاة أثناء إلقاء درس الثلاثاء، فكان وقعه أليمًا على نفوس الإخوان جميعًا، وألقى الأخ الأستاذ عبد الحكيم عابدين كلمة مؤثرة رثى بها الفقيد.
وحضر في سرادق العزاء الذي أقامته أسرته وفود المشيعين من أنحاء البلاد يتقدمهم المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي وسماحة مفتي فلسطين، وعزيز باشا المصري، ورفيق جهاده صالح باشا حرب وكبار رجالات فلسطين كالأستاذ محمد علي الطاهر، وكثير من رجال الجيش والبوليس وطلبة المدارس والوجهاء والسياسيين.
وانطلقت الجنازة من منزله إلى شارع سعيد فميدان فاروق حتى وصلت إلى جامع الظاهر؛ حيث صُلِّي عليه صلاة الجنازة، وقد أمَّ المصلين سماحة مفتي فلسطين.
وبعد الصلاة وقف فضيلة الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي، وألقى كلمة ذكر فيها وصية الفقيد إذا وافاه أجله المحتوم، وهي أن يُدفن بملابسه إن كان شهيدًا أو يُهتف على جثمانه بهتاف الإخوان التقليدي الله أكبر ولله الحمد إن كان موته على فراشه.
وسارت الجنازة من جامع الظاهر مخترقة شارع فاروق إلى ميدان محمد علي حتى قسم الموسكي، ثم نقل الجثمان في سيارة نظرًا لحلول المساء، وشيعه آلاف الإخوان الذين حضروا الجنازة بهتافهم الله أكبر ولله الحمد، وانطلقت السيارة حتى إذا مرت أمام المركز العام للإخوان توقفت برهة، ثم انطلقت إلى مقابر السيدة نفيسة؛ حيث وقف جمع كبير من الإخوان ومعهم صالح حرب باشا وأسرة الفقيد يشيعون جثمانه إلى مثواه الأخير.
نعي الهيئة العربية العليا بفلسطين للفقيد
"تنعى الهيئة العربية العليا بفلسطين بالحزن والأسى المجاهد الكبير الصاغ محمود بك لبيب قائد منظمة الشباب العربي الفلسطيني وقائد المتطوعين في حرب فلسطين.
والهيئة العربية العليا تعرب عن شديد أسفها وعميق حزنها للخسارة الفادحة التي أصابت مصر وفلسطين بوفاة هذا القائد المؤن المجاهد المخلص لأمته ووطنه، وتدعو الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جنته مع عباده الأبرار المخلصين من الصديقين والشهداء والصالحين، وإنا لله وإنا إليه راجعون".
ألبوم صور