جهود الإخوان نحو فلسطين.. حرب 1948م
بقلم: عبده مصطفى دسوقي
شهدت هذه الفترة تغييرات جذرية على الصعيد الداخلي والعالمي، فقد استيقظ الشعور الوطني لدى المجتمع، وأخذ يطالب بالاستقلال وطرد المحتل الإنجليزي عن البلاد، وعلى الصعيد العالمي انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة دول المحور بعد خمس سنوات من الحروب الضارية.
وتمثل موقف الإخوان المسلمين من القضية الفلسطينية في فترة الحرب الثانية من خلال استمرار الدعم الإعلامي والسياسي، فقد كان لصحافة الإخوان دور جيد في متابعة النشاطات والفعاليات الفلسطينية- على ضعفها وقلتها- أثناء الحرب، ودعمها وإلقاء الضوء عليها، وتشجيع القائمين عليها، وأفسحت صفحاتها لنشر كل ما يتعلق بها.
ومن هنا شهدت فترة الحرب العالمية الثانية بدايات لتأسيس أفرع للجماعة في فلسطين، ومحاولات ناشئة لتأسيس كيان تنظيمي لها هناك، وكان من تلك المحاولات نشأة جمعية المكارم بفلسطين.
ونشأت هذه الجمعية ممثلة لجماعة الإخوان عام 1943م، وكان لانضمام الطلبة الفلسطينيين في مصر إلى جماعة الإخوان المسلمين أثر كبير في نشر أفكارهم بعد عودتهم إلى بلادهم.
ومن أشهر هؤلاء الشيخ مشهور بركان، الذي كان أحد الدارسين في مصر.
ولقد أدرك الأستاذ المرشد أن قضية فلسطين هي قضية الإخوان المسلمين، وأن الإنجليز بتواطئهم مع اليهود لن يعدلوا عن خطتهم، ويسلموا البلاد لأهلها إلا مكرهين، وعلم الأستاذ البنا أن الإنجليز يسلحون عصابات اليهود، وأنه لا بد من معركة فاصلة بين الإخوان المسلمين وهذه العصابات ما دام الإخوان مصرّين على تحرير هذه البلاد، وإنقاذ المسجد الأقصى.
كما أدرك الأستاذ المرشد أن الحكومة المصرية والحكومات العربية حكومات ضعيفة هازلة متخاذلة بل متواطئة، وأنه ليس في البلاد العربية جيوش سوى الجيش المصري، ولكن هذا الجيش من الهزال والجهل وعدم الخبرة بحيث لا يقوى على مواجهة عصابات اليهود المدربة، والمسلحة بأحدث أسلحة الإنجليز والأمريكان، والتي تحارب عن عقيدة مستمدة من دينهم.
أدرك الأستاذ المرشد هذا أيضًا فكان ذلك حافزًا على سرعة الاستعداد بتكوين "النظام الخاص".
بدأت قضية فلسطين تأخذ محورًا آخرَ بعد الحرب خاصة أن أمريكا أصبحت هي والإتحاد السوفيتي القوتين العظميين وتأخر بريطانيا وفرنسا لدول الدرجة الثانية، ودفع ذلك اليهود للارتماء في أحضان أمريكا لتكملة مخطط التوطين والاستيلاء على فلسطين، غير أن الإخوان ظلوا مستشعرين لهذه المخططات فعملوا على التصدي لها عن طريق الدعاية للتصدي لهذا المخطط، ومناشدة الملك ورئيس الوزراء التدخل لإنقاذ فلسطين، بل قاموا بجمع التبرعات وإرسالها للمجاهدين، ولم يكتفوا بذلك بل أعدوا العدة للتدخل العسكري ففتحوا الأبواب أمام المتطوعين من الإخوان وغيرهم وتدريبهم ودفعهم لمحاربة العصابات الصهيونية بفلسطين.
فقد عمل الإخوان عدة خطوات تنفيذية لإنقاذ فلسطين ومنها:-
1- تشكيل قوافل الدعوة لتنطلق في كل أنحاء مصر والعالم الإسلامي بل والأوروبي لتعريف الناس بالغارة اليهودية على فلسطين، وواجب الأمة نحوها.
2- توجه المجاهد الصاغ محمود لبيب وكيل الإخوان المسلمين إلى فلسطين عام 1947م، لتوحيد صفوف المجاهدين على أرض فلسطين، وتكوين جيش من أهالي فلسطين، إلا أن الإنجليز قاموا بطرده بالقوة.
3- توجه المجاهد محمود عبده مع بعض الإخوان لسوريا لتدريب المجاهدين استعدادًا لدخول فلسطين.
4- الاتصال بالنظام الحاكم في مصر وبجامعة الدول العربية وبعض الشخصيات مثل علوبة باشا لفتح باب التطوع للراغبين في الجهاد في فلسطين، واستطاعوا فتح معسكر الهايكستب لتدريب هؤلاء المتطوعين.
5- تكوين فرق من رجال النظام الخاص والإخوان لجمع السلاح والذخيرة من الصحراء الغربية وتنظيفه وإعداده للاستعمال وكان ذلك بتصريح من النظام الحاكم في مصر غير أن ذلك لم يستمر بسبب أن النقراشي باشا ألغى تصريح جمع السلاح.
6- سفر كتائب الإخوان المسلمين المجاهدين إلى فلسطين للتصدي للعدو اليهودي، وكان على رأس هذه الكتائب المجاهد كامل الشريف، والشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت.
هذه بعض الخطوات غير أن الإمام البنا في 2 نوفمبر 1947م، قاد مظاهرة بدأت من الأزهر الشريف دعا فيها إلى إنقاذ فلسطين، وطالب بفتح أبواب الجهاد، وما كاد باب التطوع يفتح حتى تدافع شباب الإخوان لتسجيل أسمائهم وبرزت مواقفهم التربوية ومدى حبهم للجهاد حتى أن بعضهم باع كل ما يملك حتى يشتري سلاحًا يسافر به ليجاهد وغيره باع جاموسته لنفس الغرض وغيره غير القادر باع عجلته ليجهز مجاهدًا، وهكذا صهرت هذه المواقف هذه القلوب المؤمنة، حتى أن بعضهم كان يهتف ويقول: "دعوني أؤدي ما علي من دين للإسلام"، ووصلت الكتيبة الأولى إلى أرض فلسطين في فبراير 1948م، وكان الإخوان المجاهدون حريصين منذ اللحظة الأولى على منازلة العدو اليهودي.
ومن الأنشطة الهامة التي قامت بها الهيئة التأسيسية اجتماعها برئاسة فضيلة المرشد العام في الساعة العاشرة من صباح يوم الخميس 27 من جمادى الآخر 1367هـ، الموافق 6 من مايو سنة 1948م، وقد استعرضت الهيئة الموقف في فلسطين، وفي مصر وناقشت التعديلات التي تقدم بها مكتب الإرشاد العام في النظام الأساسي للهيئة، واتخذت بعد ذلك قرارات منها ما يتعلق بالشأن الفلسطيني.
وقام الإمام البنا بزيارة لفلسطين في مارس 1948م ومعه الأستاذسعد الدين الوليلي.
إن الإخوان لم ينسوا قضيتهم الأولى فلسطين، والتي كانت محور اهتمام قسم الاتصال، كما ذكر الدكتور توفيق الشاوي في مذكراته حول أعمال قسم الاتصال فقال: "وكان العاملون في القسم يدرسون معًا قضايا العالم الإسلامي، ويتولى كل واحد منهم حفظ ملفات قضية أو أكثر من تلك القضايا ومتابعتها، ولقد كان عددنا يتزايد ويتناقص حسب الظروف؛ لأن أغلب العاملين به كانوا من الطلاب الذين يعودون إلى بلادهم عند انتهاء دراستهم، وعندما يغيب أحدنا كان ينوب عنه أحد زملائه من العاملين في القسم أو غيرهم من المتطوعين من الإخوان سواء كانوا من أبناء وطنه أو من غيرهم، وكانت قضية فلسطين هي الأولى، وكنا جميعًا نسهم فيها كل بنصيب"؛ لذلك كانت أوائل أعمال القسم تصب في الدفاع عن القضية الفلسطينية، ومقاومة توطين اليهود بفلسطين، ولقد اتخذ القسم عدة إجراءات لتنفيذ ذلك منها: إرسال مذكرة إلى وزير أمريكا المفوض بمصر يستنكرون فيها تصريح الحزبين الجمهوري والديمقراطي تشجيع فكرة إقامة وطن قومي للصهيونية في فلسطين، وأن مثل هذه التصريحات تضر بالعلاقات بين أمريكا ودول الشرق.
وعندما أعلنت بريطانيا أنها ستنسحب من فلسطين في 15/5/1948م عقد الإمام البنا مع باقي القوى السياسية مؤتمرًا في الأزهر أعلن أنه سيرسل عشرة آلاف مقاتل من الإخوان إلى فلسطين للتصدي لعصابات اليهود، فكانت ضربة قوية أفزعت الإنجليز والأمريكان واليهود عن كون هذه القوى موجودة ولا يعلمون بها، وأنها ستكون سببًا في عرقلة المخطط الصهيوني لتوطين اليهود في فلسطين، وزاد فزعهم بعدما تحركت كتيبتان من متطوعي الإخوان، الأولى اتجهت إلى قطنة في سوريا، والثانية عسكرت في معسكر البريج، وكانت تحت قيادة الشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت وكامل الشريف، وهذا يرد على من يشكك بأن الإخوان لم يشتركوا في حرب فلسطين، فشهداؤهم وشهادة قادة الجيش المصري والأوسمة الشرفية التي حصلوا عليها كفيلة بالرد، ولقد استطاع الإخوان أن يكبدوا اليهود هزائم شديدة مما كانت سببًا في فزعهم.
الإخوان في المعركة
لقد اندفع الإخوان لمواجهة اليهود وأثبتوا وجودهم وقدرتهم العسكرية، ويصف الوضع قائد كتائب الإخوان الأستاذكامل الشريف بقوله: "وبعد لحظات وصلت جنودنا إلى المعركة، وترجلوا عند مكان أمين لتنظيمهم وأعدادهم، وكانت الخطة تقضي بتقسيم الإخوان إلى ثلاث مجموعات تهاجم اثنتان منهما الموقع من الأمام، ومن جهة الشمال، بينما تدور القوة الثالثة منها إلى الموقع، وتهاجم مؤخرته، وتمنع تدفق الإمدادات عليه، وتجذب اهتمام المدافعين إليها، وتشغلهم عن القوتين الأخريين، وكان المفروض أن تتقدم الدبابات متجمعة أمام قوة الإخوان تحت ستار من نيران المدفعية والأسلحة الرشاشة، وتحت غلالة من قنابل الدخان التي كانت تطلقها مدافع الهاون التابعة للإخوان المسلمين، وبدأت المعركة على هذا الأساس، وانطلق الإخوان إلى أهدافهم، وأمسك الضباط والجنود أنفاسهم، وهم ينظرون إلى هذا الشباب المؤمن يتواثب في ثبات وقوة، ولا يثنيه الرصاص والقنابل عن التقدم لملاقاة أعدائه.
لقد بدأ الإخوان هجومهم فجر السبت 10 أبريل 1948م، وكادوا يسيطرون على المستعمرة لولا استنجاد اليهود بالإنجليز فكانت الحصيلة عشرات القتلى من اليهود واستشهاد اثني عشر من الإخوان، وبرزت نماذج المجاهدين أمثال محمد سلطان من الشرقية الذي ظل يزحف على الأرض وهو يحمل لغمًا وهدفه إحدى المستعمرات لكن الحرس يرونه فيطلقون عليه الرصاص فيصاب في يده لكنه ظل يزحف حتى اقترب وأشغل اللغم فانفجر فيه والمستعمرة.
وغيره من المجاهدين الذين سطرت أسماءهم كثير من الكتب، واندلعت أيضًا المعارك التي سجلتها الكتب مثل معركة كفار ديروم والعسلوج والتبة 86، ولقد استطاع الإنجليز في 18 يوليو 1948م أن يستصدروا من مجلس الأمن قرارًا بفرض الهدنة لإنقاذ اليهود.
وفي الحلقة القادمة إن شاء الله نستكمل هذه الجهود والشبهات التي أثيرت حول أن الإخوان لم يشتركوا في حرب فلسطين وندحضها بالأدلة العلمية الدامغة.