الجمعيات الاسلامية فى مصر
الزهراء للإعلام العربي
" ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين"
تقديم بقلم الأستاذ الدكتور محمد الطيب النجار
عاشت الجمعيات الاسلامية فى هذا المجتمع الانسانى عبر القرون فكانت هى الجماعات المؤمنة التى جعلت الحق رائدها، والمنارات الهادية التى ترشد السارين فى ظلمات الحيرة وفى مسالك الحياة الوعرة ، وتضيء للناس طريق الخير وتهديم للتي هى أقوم.
" ولقد كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إيذانا بميلاد الجماعة الاسلامية الأولى، وكان أستاذها هو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وطلابها هم أصحابه الأبرار الأخيار رضوان الله عليهم، ثم تتابعت الجماعات الاسلامية على توالى الأجيال والقرون تؤتى ثمارها الطيبة المباركة وتفيض على الناس بخيرها الكثير، وبرها الوفير..
ولن يغض أبدا من جلال هذه الجماعات وما كان يطرأ عليها – أحيانا- فى طريقها الشاق الطويل من العقبات والعراقيل حيث تزاحمها فى مسيرتها المخلصة جماعات زائفة تتستر بالإسلام والإسلام منها براء، وتلبس المسوح الخادعة لتوقع الناس فى حبائلها وتنزل بهم إلى الدرك الأسفل من الجهالة والضلالة .
أقول إن مثل هذه العقبات والعراقيل لن تغض من جلال هذه الجماعات أو توهن من عزيمتها فإن لها من رسوخ الجذور ومتانة العود ما يجعلها تسخر بالأنواء وتقلبات الأجواء ويعينها على الصبر حتى تنجلي عنها ليالي المحن ثم يطالعها فجر باسم من القوة والنماء والازدهار..
ومن أجل ذلك مضت تلك الجماعات الاسلامية الراشدة تتنقل فى العصور والقرون عصرا بعد عصر وقرنا فى إثر قرن حتى وقفت على مشارف القرن الرابع عشر الهجري فإذا بها – بحمد الله – لا تزال قوية فتية يتنافس معظمها التنافس الرشيد،
وتتعاون الغالبية منها التعاون الحميد فى سبيل الحق ومن أجل إعلاء كلمة الدين الحنيف على مستوى العالم الاسلامى كله وفى هذا السفر القيم والبحث الرائد يقف العالم الجليل الدكتور/ محمد عبد العزيز إبراهيم داود على مشارف القرن الرابع عشر الهجري ليتطلع إلى الجمعيات الاسلامية فى مصر باحثا ومؤرخا وناقدا، وقد أحسن – بر ريب- الاختيار فى تركيزه على هذه الجمعيات بالذات،
ذلك بأن مصر بلد الأزهر الشريف والأزهر منذ القدم كعبة الإسلام ومنار الدين ومفخرة الشرق، كما أن الباحث الفاضل من أبناء الأزهر وعلمائه الأجلاء.
وحديثه عن الجمعيات الاسلامية التى كان للأزهر أكبر الأثر فى حياتها إنما هو لمسة وفاء لهذا المعهد العظيم، ووضع للأمر فى نصابه واعتراف بالفضل لأربابه، ولله قول شوقي رحمه الله فى حديثه عن الأزهر وأثره فى الدعوة الاسلامية وكشف ظلمات الجهالة:
ظلمات لا ترى فى جنحها
- غير هذا الأزهر السمح شهابا
قسما لولاه لم يبق بها
- رجل يقرأ أو يدرى الكتاب
ومما يسعد هذا البحث ويسمو به أن الباحث قد أقامه على أسس سليمة، وأصول قويمة، فبدأ أولا بالتاريخ للدعوة والدعاة حتى نشأة الجمعيات الاسلامية ثم قدم بعد ذلك دراسة موجزة للحركات الاسلامية التى مهد فكرها لظهور الجمعيات الاسلامية فى مصر.
وهذه الحركات هى : الدعوة الوهابية فى نجد والحركة السنوسية فى ليبيا، وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده فى مصر ولا غرو فإن الجمعيات الاسلامية فى مصر تدين بالفضل لتلك الدعوات المخلصة وقد ظهر أثر الدعوة الوهابية فى الجمعية الشرعية وفى جمعية أنصار السنة المحمدية.
كما ظهر أثر السنوسية ودعوة السيد/ جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده فى فكر الإخوان المسلمين. وفى اليقظة الاسلامية المعاصرة ثم تحدث الباحث عن الأسباب التى أدت إلى قيام هذه الجمعيات الاسلامية وأهمها الاستعمار والتبشير.
وظهور دعوة للعلمانية والتغريب. والدعوة الآثمة لفصل الدين عن الدولة . ( ثم أفاض الباحث فى الحديث عن الجمعيات الإسلامية فى مصر وتتبعها منذ فجر حياتها وبدء نشأتها ثم صاحبها فى تطورها وازدهارها وعرف برجالها، والأسس التى قامت عليها والأسلوب العلمي والعملي لتحقيق أهدافها والعلاقات بينها والنتائج التى حققتها.
وكانت هذه الجمعيات هى : الجمعية الشرعية التى أسست سنة 1331 – 1912م ، وجمعية أنصار السنة المحمدية وقد بدأت سنة 1345هـ 1926م، وجمعية الشبان المسلمين وقد بدأت سنة 1346 هـ، 1927م، وجمعية الإخوان المسلمين 1347هـ- 1928م.
وكان لزاما على الباحث أن يتحدث بعد ذلك عن الجماعات الاسلامية التى ظهرت منذ سنة 1967 م فبين أسباب ظهورها ومدى صلة الأفكار التى قامت عليها بالأفكار المتطرفة التى سبقتها فى العصور الاسلامية الأولى.
ثم بين رأيه فى هذه الجماعات فى وضوح وصراحة. وما يجب على الدعاة فى مواجهة تلك الأفكار.
وجاءت خاتمة البحث لتكشف عن النتائج الموفقة التى توصل إليها الباحث، حيث بين أن هذه الجمعيات قد وقفت فى صمود وإصرار أمام الاستعمار الفكري وتصدت للمحاولات الشيوعية الباغية، وكشفت وأرشدت الناس إلى فهم الإسلام الحنيف على أساس سليم مستمد من القرآن والسنة، وبعيد كل البعد عن البدع والخرافات والأباطيل التى دست إلى بعض الكتب الاسلامية والإسلام منها براء.
وإذا كان للنقد وجهان أحدهما يظهر الجوانب الايجابية ، والآخر يكشف عن الجوانب السلبية فقد أظهر الباحث فى ثنايا بحثه بوجه عام وفى خاتمة البحث بوجه خاص أنه ناقد محايد إلى حد كبير فلم يخدعه بريق فيمشى فى وميضه دون أن ينظر إلى جوهر الحق وجلاله الوضاء،
ولكنه وضع كل جمعية فى الميزان ليرى جانب الحسنات فى الكفة اليمنى والجانب الآخر فى الكفة ليسرى، ثم يصدر حكمه بعد الفحص الدقيق والتأمل العميق.
وقد وضح له جانب من السلبيات فى هذه الجمعيات وكان من أهمها: عدم التعاون الكامل بين الأزهر الشريف والجمعيات الاسلامية مما أضعف آثارها الايجابية، وعدم التنسيق بين هذه الجمعيات مما أوهن من كيانها، وعدم خروج هذه الجمعيات عن النطاق المحلى للتبشير بمبادئ الإسلام لدى غير المسلمين.
وحينما وصف الباحث الأدواء حاول أن يصف إلى جوار ذلك الدواء الناجع لهذه الأدواء وقد صاحبه – بحمد الله – التوفيق ولم يضع منه الطريق... وبعد، فهذا الكتاب عظيم الفائدة عميم العائدة،
وسوف يجد القارئ فيه من الوثائق المحققة والحقائق الموفقة ما يقنعه ويشفى غلته ويضع بين يديه علامات مضيئة على الطريق، هذا ، ومن الله العون وبه التوفيق ،
رئيس جامع الأزهر سابقا
وعضو مجمع البحوث الاسلامية
وعضو مجمد اللغة العربية
ورئيس المركز الدولي للسيرة والسنة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الهادي إلى الإيمان والمنعم بنعمة الإسلام والمتفضل على الإنسانية بدعوة خير الأنام .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، بعث محمدا عليه الصلاة والسلام هاديا، ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله وحده بإذنه وسراجا منيرا.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله. بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ، وتركها على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وبعد ،
فهذا الكتاب يسد فراغا ويلبى حاجة فى المكتبة الاسلامية عن موضوع " الجمعيات الاسلامية فى مصر ودورها فى نشر الدعوة خلال القرن الرابع عشر الهجري "
هذا ولقد شاءت إرادة الله أن ابدأ هذا البحث مع تباشير القرن الخامس عشر الهجري، ليكون بتوفيق الله كتابا للدعوة الاسلامية عبر القرن المنصرم، وتأريخا للجماعات الاسلامية التى حملت لواء الدعوة زهاء قرن،
وكان لكل منها مسلك خاص ومنهج معين، حرى بالدراسة وجدير بالبحث، خاصة أن هذه الجماعات تحملت أعباء الدعوة وسط الأمواج والعواصف التى طوقت الإسلام والمسلمين عبر القرن الرابع عشر وما قبله.
وإنني من خلال موضوعات الكتاب سأضع المنهج التطبيقي لما ينبغي أنتكون عليه هذه الجمعيات فى القرن الخامس عشر الهجري إن شاء الله .
هذا وإن لكل مؤلف أسبابا ودوافع ومنهج دراسة وحقائق ونتائج.
ولقد دفعني لتأليف هذا الكتاب أسباب عدة أعرضها فيما يلي:
أولا: أن هذا الموضوع لم يطرح على بساط البحث قبل ذلك. فرغم أهميته، فإنه لم تتجه إليه أقلام المؤلفين من المهتمين بأمر الدعوة الاسلامية .
ولا يوجد فى هذا المجال سوى رسالة دكتوراه بعنوان: " الإخوان المسلمون والجماعات الاسلامية فى الحياة السياسية المصرية " وهى بعيدة كل البعد عن المنهج الذى اخترته لأنه يتعلق بنشاط بعض الجمعيات سياسيا فقط.
ثانيا : أن تاريخ هذه الجماعات لا ينفصل بحال من الأحوال عن تاريخ الدعوة الاسلامية ، لأن الإسلام منذ فترة واجه الغزو الفكري والاحتلال الأجنبي، ومحاولات العلمنة والتغريب، وفصل الدين عن الدولة، ولقد كان ولا يزال .
لتلك الجمعيات دور بارز فى التصدي لهذه المحاولات، مما سأتناوله بالعرض والدراسة إن شاء الله تعالى.
ثالثا: إن لكل جمعية من هذه الجمعيات مبادئ تسير عليها وأسلوبا فى الدعوة تنفرد به، وأهدافا تعمل على تحقيقها، ولكل منها رصيد فى الجهاد والدعوة غلى الله ، لهذا أردت من هذا الكتاب ان أتناول تلك الجمعيات بتوضيح أغراضها، وشرح أهدافها وبيان مال لها وما عليها إن شاء الله تعالى.
رابعا: أن البعض من هذه الجمعيات قد انبرى بالهجوم والتجريح لجمعيات أخرى تسير على درب الدعوة الاسلامية ، وإن الكاتب ليدمى قلبه ما يراه من هذه المعارك، التى لم يستفد منها سوى أعداء الإسلام.
ولقد كان هذا دافعا قويا لأبحث تلك الخلافات واضعا نصب عيني الحيدة المطلقة وعدم التعصب لجماعة دون جماعة، ولكن وجهتي البحث العلمي الصادق ونصرة الحق، حيثما كان دون تحامل أو تطاول، وتقريب وجهات النظر المتباينة بقدر المستطاع.
خامسا: عقب هزيمة يونيو ( 1967م) ونتيجة لضرب التيار الاسلامى خلال أعوام ( 1948، 1954، 1965م) ومحاولات احتواء الجمعيات الرسمية المعلنة وتجميد أنشطتها، وعدم نجاح أجهزة الدعوة فى اجتذاب الشباب ، والفرق الشاسع بين مثالية الإسلام وواقع المسلمين المعاصر.. ظهرت بعض الجماعات الاسلامية التى كان لها دور ملموس فى إحياء المفاهيم الاسلامية والسلوك الاسلامى لدى الشباب، وعودة الحشمة والحجاب لدى الفتاة المسلمة، بعد سنين طويلة من السفور والمجون.
غير أن البعض من هذه الجماعات جنح إلى التطرف والعنف، وتكفير المجتمع ووجوب الهجرة منه، مما يوجب على الباحثين وخاصة الدعاة تناول هذه الظاهرة بالعرض الدقيق والدراسة الهادفة، لهذا رأيت من واجبي أن أتناول مبادئ بعض هذه الجماعات ومناقشتها على ضوء الفكر الاسلامى البعيد عن الهوى.
سادسا : أن الكثير من الجيل المعاصر لا يقف على حقيقة هذه الجماعات، والقليل يعرف شيئا عن رجالاتها ، لهذا قصدت من هذا الكتاب أن أقدم للناشئة أعلام الجمعيات الاسلامية ورجالاتها الذين حملوا لواء الإسلام، فى وقت خيم فيه اليأس على القلوب وتمكن الاستعمار من النفوس،
وإن اصدق وصف لحالة الإسلام والمسلمين فى مطلع القرن الرابع عشر الهجري، ما ذكره القرآن الكريم إبان معركة الأحزاب فى قوله تعالى: " إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا".
هذه هى السباب والدوافع التى جعلتني أستخير الله وأكتب فى هذا الموضوع، رغم وعورة الدراسة ونظرات المشفقين على منه. ومن الله ألتمس العون والتوفيق.
تقسيم الكتاب
سيجد القارئ بين يديه منهجا علميا
تم على أساسه طرح موضوعات الكتاب،
وهذه الموضوعات كالآتي:
أولا: المقدمة وتشتمل على الموضوعات التالية:
- 1- الأسباب الدافعة لاختيار هذا الموضوع.
- 2- منهج التأليف وأسلوب البحث.
ثانيا: التمهيد للكتاب ويتناول مبحثين:
- المبحث الأول: التأريخ للدعوة والدعاة حتى نشأة الجمعيات الاسلامية.
- المبحث الثاني: دراسة موجزة للحركات الاسلامية التى مهد فكرها لظهور الجمعيات الاسلامية وهذه الحركات هى:
- 1- الدعوة الوهابية فى نجد.
- 2- الحركة السنوسية فى ليبيا.
- 3- جمال الدين الأفغاني.
- 4- الشيخ محمد عبده فى مصر.
فإن الجمعيات الاسلامية امتداد لهذه الحركات، فأنصار السنة المحمدية امتداد لدعوة الإمام محمد بع عبد الوهاب، وكذلك الجمعية الشرعية، مع اختلاف بعض الموضوعات مما سأتناوله خلال الكتاب إن شاء الله تعالى، كما أن السنوسية ودعوة السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده تركتا أثرا واضحا فى فكر الإخوان المسلمين، وعلى اليقظة الاسلامية المعاصرة.
ثالثا: أبواب الكتاب:
الباب الأول : " الأسباب التى دعت لإنشاء الجمعيات الاسلامية" ويشتمل على الفصول التالية:
الفصل الأول: الاستعمار والتبشير.
الفصل الثاني: سقوط الخلافة الاسلامية فى تركيا.
الفصل الثالث: دعاة العلمنة والتغريب ودعوتهم لفصل الدين عن الدولة .
الفصل الرابع: عدم احتواء الأزهر للدعوة منذ أصبحت وظيفة لا رسالة.
الباب الثاني: " الجمعيات الاسلامية فى مصر ودورها فى نشر الدعوة"
ويحتوى على الفصول التالية:
- 2- جمعية أنصار السنة المحمدية والتي أنشئت عام ( 1345 هـ - 1926م).
- 3- جمعية الشبان المسلمين ، أسست عام ( 1346 هـ - 1927م)
وفصول هذا الباب تشتمل على الموضوعات التالية:
- 1- التعريف الموجز برجال هذه الجمعيات.
- 2- الأسس التى تقوم عليها.
- 3- الأسلوب العلمي والعملي لتحقيق أهدافها.
- 4- النتائج التى حققتها وعلاقة تلك الجمعيات بعضها بالبعض.
- 5- وضع الجمعية فى ميزان النقد الموضوعي، والحكم بما لها وما عليها.
كما أنه توجد جمعيات معاصرة لهذه الجمعيات أو سابقة عليها، كجمعية الهداية الاسلامية، وجمعية مكارم الأخلاق، وجمعية الدعوة والإرشاد، وجمعية جبهة علماء الأزهر.
غير أن هذه الجمعيات استمرت لفترة محدودة ثم توقف نشاطها، ولهذا لن أتعرض لها.
الباب الثالث: الفكر المتطرف: أسبابه وآثاره وواجب الدعاة نحوه:
ويشتمل هذا الباب على الفصول التالية:
الفصل الأول: أسباب ظهوره.
الفصل الثاني: روافد هذا الفكر ومدى صلته بالأفكار المتطرفة قديما.
الفصل الثالث: دراسة لبعض كتبهم وآرائهم.
الفصل الرابع: رأى المؤلف فى هذا الفكر وواجب الدعاة نحوه.
خاتمة الكتاب
وتشتمل على الأمور الآتية:
- 1- النتائج التى توصلت إليها.
- 2- ما ينبغي أن تكون عليه الجمعيات الاسلامية.
- 3- دور الأزهر وواجبه تحو تلك الجمعيات.
هذا عرض موجز لموضوعات الكتاب.
وإنني إذ أسجد لله شكرا لهدايته وتوفيقه على إنهاء هذا المؤلف وإتمامه، أتقدم بالشكر الجزيل إلى أستاذي الكبير فضيلة الدكتور : محمد الطيب النجار رئي جامعة الأزهر.
والذي شرفت بتوجيهه لى فى هذا المؤلف ، لما قدمه من عون صادق وتوجيه فتح لي قلبه وأصغى غلى بمشاعره ، فكان – بارك الله فيه – نعم الأستاذ معينا وموجها، ونعم الأب رحيما حانيا.
كذلك أتقدم بالشكر غلى كل من قدم يد العون، ولا سيما رجال الجمعيات الاسلامية ، الذين أفسحوا لى صدورهم ولم يضنوا على بحقائق أو وثائق، والله اسأل أن يثيبهم خيرا.
فإن أكن قد وفقت فى كتابي هذا فهذا ما أرجوه وأتمناه، وإن تكن الأخرى فحسبي أنني بذلت جهدي ونلت شرف قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" إذا اجتهد أحدكم فأصاب فله أجران: أجر لاجتهاده وأجر لإصابته، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر لاجتهاده".
التمهيد لموضوعات الكتاب
ويشمل مبحثين :
المبحث الأول:
- التأريخ للدعوة والدعاة حتى نشأة الجمعيات الاسلامية .
المبحث الثاني:
- دراسة موجزة للحركات الاسلامية التى مهدت لنشأة الجمعيات الاسلامية.
التمهيد لموضوع الكتاب
رأيت أن أمهد للكتاب بمبحثين:
المبحث الأول:
- التأريخ للدعوة والدعاة حتى نشأة الجمعيات الاسلامية.
المبحث الثاني:
- دراسة موجزة للحركات الاسلامية، التى مهدت لظهور الجمعيات الاسلامية.
وقبل أن أستطرد فى مبحثي التمهيد، أرجع غلى كلمة الدعوة والدعاة فى معاجم اللغة العربية، شارحا لمفرداتها مبينا معناها.
أصل كلمة الدعوة لغة:
1- جاء فى دائرة معارف القرن العشرين ما يلي:
- " دعاة " يدعوه ودعوى ناداه وصاح به.
- " دعا له " طلب له الخير من الله تعالى.
- " دعا عليه " طلب له الشر من الله تعالى .
- " تداعى الناس " دعا بعضهم بعضا.
2- وجاء فى لسان العرب من معاني كلمة الدعوة ما يأتي:
- " الدعوة" المرة الواحدة من الدعاء.
- " والدعاة " قوم يدعون غلى بيعة أو ضلالة ، وأحدهم داع ، ورجل داعية إذا كان يدعو الناس إلى بدعة أو دين ، وأدخلت فيه الهاء للمبالغة.
- وبهذا يتضح أن كلمة دعا ومشتقاتها تدور بين الداعي وما يدعو إليه من خير أو شر.
الدعوة اصطلاحا:
عرفت الدعوة فى الاصطلاح بعدة تعريفات أذكر منها ما يلي :
- 1- " حث الناس على الخير والهدى والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ليفوزوا بسعادة العاجل والآجل".
- 2- " هى قيام العلماء المستنيرين فى الدين بتعليم الجمهور من العامة ما يبصرهم بأمور دينهم ودنياهم على قدر الطاقة".
- 3- " إنقاذ الناس من شر واقع، وتحذيرهم من أمر يخشى عليهم الوقوع فى بأسه".
والمختار من هذه التعريفات هو الأول، لأنه جامع شامل للدعوة بشقيها:
- الترغيب والترهيب، وموضح لآثار الدعوة فى الدنيا والآخرة.
أما التعريف الثاني فقد قصر الدعوة على العلماء فقط، وأسقط من حسابه جماعة المسلمين من غير العلماء، مع ملاحظة أن الدعوة غلى الله هى رسالة الأمة بأسرها كما سيأتي إن شاء الله .
والتعريف الثالث: اقتصر من الدعوة على جانب الترهيب فقط، علما بأن دعوة الأنبياء جميعا تجمع بين التبشير والإنذار والترغيب والترهيب، قال تعالى موضحا أسس دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
" يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وداعيا غلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا".
والدعوة إلى الله رسالة الأنبياء جميعا، ولكن هذه الأمة شرفت دون سائر الأمم بحمل أمانة الدعوة إلى الله ، وقيادة البشرية غلى طريق الهدى والرشاد.
قال تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله". حكم تبليغ الدعوة:
الوجوب العيني على الأنبياء والعلماء الذين فقهوا دين الله، والوجوب الكفائى بالنسبة لمجموع الأمة، ومن أدلة الوجوب من القرآن الكريم ما يلي:
- 1- ما أمر به صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى : " يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر".
- 2- قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"
- 3- قال تعالى: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين"
- 4- وقال تعالى: " وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم" .
- 5- " ولتكن منكم أمة يدعون غلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون".
- 6- " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر:.
أدلة الوجوب من السنة:
- 1- عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان".
- 2- عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعون فلا يستجاب لكم"
- 3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلغوا عنى ولو آية ".
- 4- ومن فوق جبل عرفات وقبل انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بثلاثة وثمانين يوما قال قولته الآمرة الخالدة: " ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب".
- 5- وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ على أصحابه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فعن جابر بن عبد الله قال: " بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم" .
هذه بعض الأدلة من القرآن والسنة على وجوب تبليغ الدعوة إلى الله .
الإجماع على وجوب تبليغ الدعوة:
انعقد إجماع المسلمين على وجوب تبليغ الدعوة الاسلامية، وهذا الإجماع انعقد خلال عصر الصحابة والتابعين، ولا ينقض هذا الإجماع بتخاذل المسلمين فى هذا العصر عن الدعوة إلى الإسلام.
غير ن العلماء قد اختلفوا فى نوعية هذا الوجوب .
هل الدعوة إلى الله فرض عين على كل فرد من أفراد الأمة؟ أم هى فرض كفاية يقوم به البعض دون الكل؟
ومرجع هذا الاختلاف تفسير قول الله سبحانه وتعالى: " ولتكن منكم أمة يدعون غلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر".
فعلى القول بأن ( من ) بيانية يكون المعنى: ولتكونوا أيها المسلمون جميعا أمة داعية إلى الخير آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر.
وهذا التفسير يتفق مع قوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله "
وعلى القول بأن ( من ) تبعيضية يكون المعنى: ليكن بعضكم متخصصا فى الدعوة إلى الله ،
ويكون هذا المعنى متناسقا مع قوله تعالى: " فلولا نفر من كل فرقة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون".
وإنني أرجح الرأي القائل:
بأن ( من ) فى قوله تعالى:" ولتكن منكم أمة" بيانية، وعلى هذا يكون تبليغ الدعوة هو رسالة الأمة جميعها. وهذا الرأي وإن كان وجيها مختارا لدى،
غير أنه يرد عليه الاعتراض التالي: " إن مقومات الدعوة لا تأتى من الناس جميعا، ففيهم جاهلون لا يعرفون الأحكام، ولا يعقل أن يدعو مسلم إلى الإسلام وهو لا يدرى شيئا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويجاب على هذا الاعتراض بما يلي:
- 1- إن المعروف والمنكر تعرفه العقول والطباع السليمة، ويدرك بالفطرة قال الله تعالى " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
- 2- حينما سئل صلى الله عليه وسلم عن البر أجاب بقوله:" البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك فى صدرك" .
فلقد عهد صلى الله عليه وسلم إلى الفطرة السليمة التعرف إلى الخير والشر.
- 3- " ولا يلزم لمعرفة هذا قراءة حاشية ابن عابدين على الدر، ولا الفتح القدير، ولا المبسوط، وإنما المرشد مع سلامة الفطرة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المنقولة بالتواتر والعمل، وهو ما لا يسع أحدا جهله، فالذين منعوا عموم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، جوزوا أن يكون المسلم جاهلا لا يعرف الخير من الشر ، ولا يميز المعروف عن المنكر،وهو لا يجوز دينا".
وأمة الدعوة مكلفة بأن تنتقى من يقود هذا العمل، وينظمه ويشرف عليه ويتولى شرح دقائق الأمور كالفتاوى ورد الشبهات، وهذتا الذى ذهبت إليه هو ما يراه الشيخ محمد رشيد رضا.
4- ويرد أيضا على من قال بأن الدعوة فرض كفاية بالآتي: " إن الشرط للخروج من عهدة الفرض الكفائى حصول الكفاية بمن يقوم به، ولما كانت الكفاية غير حاصلة، فيجب أن يقوم بهذا الواجب كل مسلم حسب قدراته لا سيما فى هذا الزمن".
وعلى هذا يتضح من خلال النصوص الدينية والأدلة الشرعية والعقلية ، وجوب تبليغ الدعوة إلى الله:
- 1- هل الدعوة إلى الله رسالة أم حرفة يتكسب بها؟
- 2- هل يجوز تعاطي الأجر مقابل الدعوة إلى الله؟
مما لا ريب فيه أن الدعوة إلى الله رسالة هذه الأمة من أجلها خلقت وبها شرفت وبتبليغها تسنمت ذرا المجد، وارتقت مراقي الكمال، وهى تشريف وتكليف، ووسيلة لنيل الأجر والثواب من الله لا من بشر، وإن فى رسل الله قدوة حسنة فما كانوا يريدون بدعوتهم إلى الله أجرا، ولا يبتغون من ورائها جاها،
وفى ذلك يقول الله تعالى عن نوح عليه السلام: " ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله".
وعن هود عليه السلام يقول الله تعالى: " يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إلا على الذى فطرني أفلا تعقلون"
وعن أتباع المرسلين يقول الله تعالى: " يا قوم اتبعوا المرسلين. اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون".
وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى".
ولقد ذكر القرآن الكريم أن الأنبياء والمرسلين كانوا جميعا ذوى حرف وأعمال يتكسبون ويعيشون عليها.
وينفقون منها على أعباء الدعوة. وهذا ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم: " ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبى الله داود كان يأكل من عمل يده"
وروى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان زكريا عليه السلام نجارا".
وعن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: " ما بعث الله نبيا إلا ورعى الغنم. قال الصحابة : وأنت؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة".
وعلى هذا الدرب سار سلف الأمة وخلفها لا يطلبون أجرا، ولا يستجدون ولا يتكسبون بالدعوة.
قال الحسن البصري: " لا يزال الرجل كريما على الناس حتى يطمع فى دينارهم، فإذا فعل ذلك استخفوا به وكرهوا حديثه".
ولقد رفض الحارث بن محمد أن يأخذ الرزق الذى رتبه له عمر بن عبد العزيز ليعلم الناس فى البادية وقال: " ما كنت آخذ على علم علمنيه الله أجرا"
ولهذا كان ألم العلماء كبيرا عندما بلغهم أن المدرسة النظامية ببغداد أخذت تدفع رواتب للعلماء فقالوا:
" كان يشتغل بالعلم أرباب الهمم العلية والأنفس الذكية ، الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فإذا صار عليه أجر تدانى إليه الأخساء ، فيكون ذلك لمهانته وضعفه".
هذا ولقد اختلف الفقهاء فى حكم تعاطي الأجر على عمل الطاعات إلى فريقين:
الأول: يرى عدم جواز أخذ الأجر بل يحرم ذلك، واستدلوا بقوله تعالى: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون".
قال الفخر الرازي: احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجر على التعليم، لأن الآية لما دلت على وجوب التعليم كان أخذ الأجر أخذا على أداء الواجب وأنه غير جائز".
وذهب الأحناف إلى هذا لرأى أيضا فقالوا: الإجارة على الطاعات لا تجوز، ويحرم أخذ الأجر" ،
واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به" .
وبقوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: " وإن اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا".
وقال الحنابلة : " لا تصح الإجارة لأذان وإمامة وتعليم وفقه وحديث، ولا يقع إلا قربة لفاعله ويحرم أخذ الأجرة عليه، وجوزوا أخذ رزق من بين المال، أو من وقف على عمل يتعدى نفعه كقضاء وتعليم، وليس بعوض بل رزق للإعانة على الطاعة ولا يخرجه عن كونه قربة ولا يقدح فى الإخلاص".
الفريق الثاني: يرى جواز أخذ هذا الأجر، وهذا ما ذهب إليه المالكية والشافعية وابن حزم ،
قال ابن حزم :" والإجارة جائزة على تعليم القرآن وعلى تعليم العلم مشاهرة وجملة" ويستدلون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا هو كتاب الله " .
ولقد جاء فى فتح الباري ما يعضد هذا الرأي.
فنقل عن الشعبي: " لا يشترط المعلم. إلا أن يعطى شيئا فيقبله"
وفى الجعديات حدثنا على بن الجعد عن شعبة ،
قال : سألت معاوية مرة عن أجر المعلم فقال: " أرى له أجرا" وسألت الحكم فقال: " ما سمعت فقيها ينفيه:.
هذا ومع قوة أدلة الشرعية من القرآن والسنة وأفعال الصحابة، التى لا تجيز أخذ الأجر على الطاعات ومنها الدعوة إلى الله. فإنني أرجح الرأى القائل بجواز أخذ الأجر، لا سيما فى هذا العصر الذى نضب فيه معين الخير،
وشحت فيه الأنفس واستشرى البخل والتقتير على الدعوة والدعاة، وتكاد علوم الشرع تندثر والدعاة ينقرضون ، مع الأخذ بفتوى من يجيز أخذ الأجر،
فكيف لو أخذ بفتوى من لا يجيز أخذ الأجر؟ إذن لن يوجد من يعلم أو يتعلم، على أنه يجب على الداعي أن يكون وجهته ومقصده لله تعالى، وأن يجعل من أجره وسيلة لغاية كريمة،
وهى نشر الإسلام، وألا تكون الدعوة وسيلة غلى طلب المال، وإن اليقظة الاسلامية المعاصرة من خلال الجمعيات الاسلامية، قد عادت إلى سالف العهد فى فجر الإسلام، حيث إن أعضاء تلك الجمعيات يأمرون بالمعروف حسبة لله تعالى.
ولقد شهدت الدعوة الاسلامية عير تاريخها ضروبا من الدعوة وألوانا من الدعاة، تضافروا جميعا على نشر الإسلام وحفظه، والذود عنه،
غلى جانب ذاتية الإسلام التى تتوافق مع الفطرة: " فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون"
ومن هذه الضروب ما يلي: أولا: المحتسب
والمحتسب هو الشخص المعين من قبل الحاكم للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
والحسبة لغة كما جاء فى لسان العرب: مصدر احتسابك الأجر على الله تقول : فعلته حسبة واحتسابا.
والاحتساب طلب الأجر.
وهى فى الشرع كما عرفها الماوردى:" أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهى عن المنكر إذا ظهر فعله".
وعرفها الإمام الغزالي:" كل منكر موجود فى الحال ظاهر للمحتسب بغير تجسس معلوم كونه منكرا بغير اجتهاد".
والمختار لدى تعريف الماوردى لشموله على الدعوة والترغيب والترهيب.
أما تعريف الإمام الغزالي، فلقد قصر الحسبة على إنكار المنكر فقط.
والحسبة نظام عرف منذ فجر الإسلام، فلقد ولى الرسول صلى الله عليه وسلم " سعيد ابن سعيد بن العاص بن أمية على سوق المدينة، وولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه السائب بن يزيد، مع عبد الله بن عقبة بن مسعود عل سوق المدينة".
والمحتسب يجمع بين الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويخول له سلطات إيقاع العقوبة على العصاة.
ولقد عاد أبو حامد الغزالي فى الإحياء درجات العقوبة وتدرجها:" بالوعظ والنصح، ثم بالتعنيف ، ثم التغيير باليد، ثم التهديد بالضرب وتحقيقه، ثم الاستظهار بالأعوان والجنود" ولقد جاء فى كتاب الحسبة فى الإسلام : " فعلى المحتسب أن يأمر العامة بالصلوات الخمس فى مواعيدها ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس.
أما القتل فإلى غيره، ويتعاهد الأئمة والمؤذنين ، فمن فرط منهم فيما يجب من حقوق الإمامة أو خرج عن الأذان والمؤذنين ، فمن فرط منهم فيما يجب من حقوق الإمامة أو خرج عن الأذان المشروع، ألزمه بذلك واستعان فيما يعجز عنه بوالي الحرب، وكل مطاع يعين على ذلك، والمحتسب يفرض له أجر نظير عمله من بيت المال".
ولقد وضع الفقهاء فروقا بين المتطوع فى الدعوة إلى الله والمحتسب، ومن هذه الفروق ما يلى:
- 1- الدعوة إلى الله فرض عين على المحتسب وفرض كفاية على غيره.
- 2- أن قيام المحتسب به من حقوق نصرفه التى لا يجوز أن يتشاغل عنها، وقيام المتطوع به من نوافل عمله، الذى يجوز أن يتشاغل عنه لغيره.
- 3- أن المحتسب منصوب للاستعداء فيما يجب إنكاره، وليس المتطوع منصوبا للاستعداء.
- 4- على المحتسب أن يبحث عن المنكرات الظاهرة،ليصل إلى إنكارها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر، ليأمر بإقامته ، وليس على غيره من المتطوعة بحث ولا فحص.
- 5- للمحتسب أن يعذر فى المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز الحدود، وليس للمتطوع أن يعذر على منكر.
- 6- للمحتسب أن يرتزق على حسبته من بيت المال، ولا يجوز للمتطوع أن يرتزق على إنكار منكر.
ولقد شملت الحسبة جميع مظاهر الحياة الدينية والدنيوية ، وظلت تؤدى رسالتها فى مصر منذ أوائل الإسلام حتى عام ( 1234 هـ - 1819م) حينما ألغى التزامها ،
وأصبح المحتسب موظفا تابعا لديوان الخديوي عام ( 1253 هـ - 1837م )ى هذا ، وما أحوج الدعوة فى هذا العصر أن يعود إلى الداعي صفة المحتسب واختصاصاته التى عرفت منذ صدر الإسلام.
ثانيا : القصص : وهو لون من الدعوة ظهر فى صدر الإسلام وصورته: " أن يجلس القاص فى المسجد وحوله الناس فيذكرهم بالله ويقص عليهم أحاديث وقصصا عن الأمم الأخرى ، لا تعتمد على الصدق بقدر ما تعتمد على الترغيب والترهيب. " وتميم الداري أول من قص على الناس بأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
وذكر ابن الأثير أن أول من قص من الصحابة وتصدر المجالس الجامعة للدعوة والإرشاد الأسود بن سريع" ، ثم تطور أمر القص والقصاص فى عهد الفتنة بين على كرم الله وجهه ومعاوية ابن أبى سفيان، وأصبح فى كل قطر قاص يعرف به، فارتفع شأن القصص والقصاص وأصبح عملا رسميا.
" فبدأ القصص بمصر عام ( 38 هـ ) وكان ثوبه الحضرمي وأبو إسماعيل ابن نعيم وأبو رجب بن عاصم، ممن عينوا قصاصا لجامع عمر بن العاص، وكان راتب الأخير عشرة دنانير فى الشهر".
غير أن هذا اللون من الدعوة سرت إليه الإسرائيليات والأحاديث المفتراة والقصص غير المعقول، وكان مصدر هذه الأخبار ( وهب بن منبه، وكعب الأحبار) وهما من اليهود الذين دخلوا فى الإسلام.
ولهذا فطن الإمام على كرم الله وجهه إلى الخطوة المترتبة على هذا اللون من الدعوة فأخرجهم من المساجد، واستثنى الحسن البصري لتحريه الصدق.
ولقد ألف العلماء كتبا كثيرة للتحذير من هذا اللون من الدعوة، ومن هذه الكتب:" الباعث على الخلاص من حوادث القصاص" ، للحافظ زين الدين أبو الفضل العراقي" .
وألف الإمام جلال الدين السيوطي المتوفى ( 911 هـ ) كتابا سماه: " تحذير الخواص من أكاذيب القصاص".
وما زالت الدعوة الاسلامية فى العصر الحديث تعانى من الدعاة الذين ينهلون من هذا اللون من الدعوة، مروجين للإسرائيليات المفتراة والقصص الغريب، ومع الأسف ما زالت هناك كتب يجدد طبعها، تحمل بين صفحاتها كل ما هو غريب وشاذ كـ " بدائع الزهور فى وقائع الدهور" لابن إياس و " قصص الأنبياء" للعرائسى ، فضلا عن الأحاديث الضعيفة والآثار الموضوعة فى كثير من أمهات الكتب الاسلامية.
ثالثا: الدعاة المتطوعون: ما كاد الإسلام يلامس قلوب المسلمين حتى أيقن كل مسلم بمدى الأمانة الملقاة على عاتقه من تبليغ الدعوة، فانطلق يدعو إلى الله، وغدا المجتمع المسلم كله قوافل من الدعاة يبذلون المهج والأرواح فى نشر الإسلام ، وكان أمل المسلم الذى لا يعادله أمل وسعادته التى لا تعادلها سعادة،
حينما يأخذ بيد أخ أو صديق له من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، ومما عمق هذا الشعور لدى جماعة المسلمين ما جاءت به آيات القرآن الكريم، وما بشرت به السنة النبوية الشريفة، من بيان فضل الدعاة وعظم أجرهم واستحقاقهم ثواب الله والجنة.
قال تعالى:" ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين".
عن أبى هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجر من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا".
وعن سهل بن سعد الساعدى رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لأن يهدى بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم".
وإزاء هذه الأدلة الشرعية فضلا عما تميز به الإسلام من توافق مع الفطرة، تتضافر جهود المسلمين جميعا نحو نشر الإسلام، فبجانب ما ذكر من أمر المحتسبين والقصاص. فإنه يوجد ضرب من الدعاة ، كان لهم فضل كبير فى نشر الدعوة، إنهم الدعاة المتطوعون،
ويمكن تصنيفهم إلى ثلاثة أصناف:
- الأول: العلماء من الدعاة الذين لا يطلبون أجرا ولا يتكسبون بالدعوة ولا يتاجرون بها ، وتاريخ الدعوة يحمل بين صفحاته أعلاما فتح الله بهم القلوب، وسنعرض لهم، إن شاء الله فى إيجاز عند التأريخ للدعوة والدعاة فى الإسلام.
- ثانيا: قوافل التجار: فلقد كانت قوافل التجار من المسلمين تهاجر فى الأرض تبتغى الرزق الحلال والتجارة الرابحة، وفى أثناء ترويجهم لبضائعهم يدعون إلى الإسلام بالقدوة الحسنة والسلوك الطيب والتعامل الكريم.
- وإن ما فتح بواسطة هؤلاء التجار أكثر مما فتح عنوة، فهم وراء انتشار الإسلام فى الهند واندونيسيا وجزر الملايو، وهم الذين حملوا الإسلام إلى أفريقيا، وكانت استمالتهم للقلوب،
وتأثيرهم فى النفوس بالأساليب الآتية:
- أولا: الاختلاط والائتلاف القائمان على حسن المعاملة، ومكارم الأخلاق، والتسامح فى البيع والشراء ، بجانب السلوك الاسلامى خلال الحياة اليومية.
- ثانيا : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى حدود قول الله تعالى:" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هى أحسن" .
- ثالثا: إزالة الأوهام التى تسيطر على عقول الأمم من جراء انحراف العقيدة، واتباع الهوى وفساد الأخلاق، وبهذا انتشر الإسلام بين ربوع الدنيا بواسطة التجار لا سيما اليمنيين والحضارمة.
- ثالثا: الدعاة من المتصوفين: للتصوف دور لا ينكر وجهد لا يجحد فى نشر الإسلام، ومهما اختلف فى شأن التصوف هل هو إسلامي النشأة ؟ أم وافد مع الثقافات والفلسفات القديمة ؟
مما لا مجال له فى بحثي هذا ، فإن المتصوفة نشروا الإسلام بمنهجهم الخاص فى التربية وأسلوبهم المميز فى السلوك، وحينما أذكر التصوف لا أعنى به ذلك الذى شاع فى عصر الفاطميين والمماليك،
وما جاء بعد ذلك بما يحمل من مظاهر الشعوذة والدجل، والخروج للمواكب والأعلام والشطحات والفلسفات، وإنما أقصد التصوف الذى يضفى على النفس الصفاء وعلى القلب الإشراق، وفى العقل اليقين.
التصوف الذى يصفو به الإنسان من سيطرة الشهوة واتباع الهوى، ويتسامى عن متاع الدنيا ويترفع عن سىء الأعمال والأقوال.
وتاريخ التصوف حافل بالأعلام الذين كان لهم دور بارز فى نشر الإسلام ومنهم: " الشيخ عبد القادر الجيلاني الذى عاش فى القرنين الخامس والسادس الهجريين، ولقد كان عالما بالأصول والفروع والحديث رواية ودراية وجلس للوعظ أربعين سنة".
وكذلك كان لأتباع أبى الحسن الشاذلي والمرسى أبى العباس أثر كبير فى نشر الإسلام فى أفريقيا، كما لا ينكر فضل التيجانية والسنوسية فى انتشار الإسلام فى ساحل الذهب وغانا والصومال والسودان ونيجيريا وكثير كن بلدان أفريقيا. بهذا العرض الموجز تتضح ضروب الدعوة وأنواعها.
المبحث الأول" التأريخ للدعوة حتى نشأة الجمعيات الاسلامية "
1- الدعوة فى صدر الإسلام
كان صلى الله عليه وسلم يدعو الناس غلى الله فرادى ومجتمعين، يغشى أماكن تجمعاتهم ودور ندواتهم، ويذهب إلى الأسواق ، ويعرض نفسه على القبائل الضاربة فى الصحراء، يقرأ عليهم القرآن ويجادلهم بالتي هى أحسن، ويؤثر فى قلوبهم بالموعظة الحسنة والقدوة الطيبة،
وكان صلى الله عليه وسلم يوفد أصحابه لتبليغ ونشر الإسلام، فيرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى يثرب، ويوفد شهداء الرجيع وبئر معونة إلى مضارب القبائل العربية،
ويبعث على بن أبى طالب كرم الله وجهه ومعاذ بن جبل إلى اليمن، ويكتب الرسائل إلى كسرى الفرس وقيصر الروم وعظيم القبط فى مصر ونجاشي الحبشة، حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد ما بلغ الرسالة وأدى الأمانة،
وحينما استقر الصحابة فى الأمصار والأقطار لم يتجهوا إلى ما اتجه إليه الغزاة والمستعمرون ، من سلب للأموال وسبى للأنفس وسفك للدماء، لكنهم- رضي الله عنهم- كانوا دعاة خير ورسل رحمة وجيوش هداية يقرءون على الناس القرآن الكريم، ويعرفون بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويذكرون مكارم أخلاقه وحسن شمائله، إلى جانب ما تميزوا به من السلوك الطيب، والخلق الرفيع، وحسن المعاملة ، والوفاء للعهد، والابتعاد عن الدنايا، فتفتحت لهم القلوب، واستراحت بفتوحاتهم النفوس.
يقول مسروق وهو من التابعين: " لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالأخاذ، فالأخاذ يروى العشرة والأخاذ يروى المائة والأخاذ لو نزل بأهل الأرض لأصدرهم".
وكان لانتشار الصحابة فى الأمصار أثر كبير فى نشر الإسلام، ووجدت مدارس تخرج فيها جيل من التابعين وتابعيهم ممن حافظوا على بيضة الإسلام واستمرار مسيرته حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
مدارس الصحابة
1- مدرسة مكة:
- ومن أئمتها معاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس، وعبد الله ابن الزبير رضي الله عنهم جميعا.
2- مدرسة المدينة:
- ولقد اشتهر منها كثير من أعلام الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلى وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
- وكانت هذه المدرسة ينبوعا للكثير من العلماء والفقهاء والدعاة.
3- مدرسة الكوفة :
- نزل بالكوفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد كبير على رأسهم : على ابن أبى طالب وعبد الله بن مسعود، وقد خلفوا أتباعا يعدون بالمئات.
4- مدرسة البصرة:
- ومن أشهر دعاتها أبو موسى الأشعري وأنس بن مالك، وكان من هذه المدرسة الداعيان الإسلاميان: أبو الحسن البصري وابن سيرين.
5- مدرسة الشام:
- ومن أئمتها معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء.
6- مدرسة مصر:
- ومن روادها عمر بن العاص وابنه عبد الله ، وأعداد كثيرة من الصحابة قدموا لفتح مصر واستقروا بها.
وبهذا استطاع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملوا أمانة الدعوة وشرف الرسالة.
الدعوة فى عصر بنى أمية
استقر الحكم لبنى أمية عقب مبايعة الحسن بن على رضي الله عنهما لمعاوية فى الكوفة عام ( 41 هـ ) ، بعد معارك سالت فيها الدماء الزكية من آل وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرعيل الأول من المسلمين ، وغدا الحكم فى الإسلام بعد الخلافة الراشدة القائمة على العدل والشورى،
والبعد عن الترف إلى ملك آل إلى أصحابه بقوة السيف وشدة المكر وسعة الدهاء، وأصبحت الخلافة الأموية أقرب إلى الدولة السياسية منها إلى دولة الدعوة الاسلامية.
وتحولت الدعوة عن مسارها المستقيم، فانقلبت إلى فرق وأحزاب، كالشيعة بجماعاتها المتعددة وآرائها المتطرفة، والخوارج التى بلغت ما يقرب من عشرين جماعة، كانوا غلاة فى عقيدتهم، فران هذا الغلو على قلوبهم وحملهم على الشطط، فكفروا غيرهم وشقوا عصا الطاعة على مخالفيهم وأعلنوا الحرب عليهم.
وبجانب هؤلاء ظهرت المعتزلة وأهل السنة من الأشاعرة والماتريدية، وإذا ما كنا نؤرخ لمسار الدعوة فإنه لابد أن يذكر أثر هذه الفرق فى اطراد حركة الدعوة وظهور كثير من الدعاة، جمعوا بين فصاحة اللسان وروعة النطق وسحر البيان والصلابة فى الرأى، وكانت كل جماعة تؤمن إيمانا عميقا برسالتها متحمسة أشد الحماس لدعوتها.
ولقد جرت هذه الفرق على الإسلام ويلات الخلاف ومصائب الشقاق، وبعدما كانت الدعوة تسير إلى قلوب غير المسلمين انبرت هذه الفرق تجادل ويكيد بعضها لبعض، واندس بينها كل من يحمل حقدا على الإسلام.
يقول الأستاذ أحمد أمين:" والحق أن التشيع كان مأوى يلجأ إليه كلا من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية أو نصرانية أو زرداشتية ، هؤلاء، وكانوا يتخذون حب أهل البيت شعارا يضعون وراءه كل ما شاءت أهواؤهم".
وإن كان هذا هو الاتجاه العام للدعوة فى عصر بنى أمية. فإن هذا العصر لم يخل من دعاة يرفعون للدين الحق أعلامه، وهداة يدعون إليه ويدافعون عنه، بعيدين عن تلك الجماعات المتنافرة،
والأحزاب المتصارعة وكان من دعاة العصر:
- 1- الحسن البصري.
- 2- محمد بن سيرين.
- 3- أبو إدريس الخولانى.
- 4- طاووس بن كيسان الجندي.
- 5- سعيد بن جبير.
هذا بجانب الفتوحات الاسلامية، وانتشار الإسلام بواسطة التجار المسلمين.
الدعوة فى العصر العباسي
قامت الدولة العباسية عام 132 هـ ، واستمرت حتى سقوط بغداد فى أيدي التتار عام 656 هـ ،
ولقد قسم المؤرخون الدولة العباسية إلى مراحل ثلاث:
العصر الأول : من ( 132 هـ إلى 232 هـ ) وكانت السلطة فى هذه الفترة فى ايدى الخلفاء الذين كانوا قوادا للجيوش ، وعلماء فى أمور الدين يهزون أعواد المنابر بخطبهم البليغة المؤثرة.
العصر الثاني: من ( 232 هـ إلى عام 590) وفى هذا العصر ضاعت السلطة السياسية من أيدي الخلفاء، واستقرت فى أيدي الأتراك والبويهيين والسلاجقة، وبقيت لهم السلطة الدينية .
العصر الثالث: من ( 590هـ إلى عام 656 هـ ) ، وخلال هذه الفترة ضعف الخلفاء العباسيون، ولم يعد للخليفة العباسي سوى بغداد وما حولها.
وكانت النهاية مؤلمة وحزينة بسقوط الخلافة تحت وطأة التتار.
ولقد اتسمت الدعوة الاسلامية خلال الدولة العباسية بما يلي:
- 1- منازلة الفرق الاسلامية كل منها الأخرى فى مسائل : الاعتقاد ، والجبر والاختيار، والصلاح والأصلح، وصفات الله والثواب والعقاب.
- 2- منازلة أهل الديانات الأخرى كالمجوس واليهود والنصارى.
- 3- اتجاه العلماء إلى الدراسات الاسلامية، كالتفسير وتدوين الحديث وعلومه، وظهور المذاهب الفقهية والمدارس النحوية، وترجمة الفلسفات المعاصرة للغة العربية،
أما بالنسبة لأمر الدعوة من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فلم يلق العناية الرسمية من الخلفاء العباسيين، لا سيما فى المرحلتين الثانية والثالثة اللتين شهدتا ضعف الخلفاء، وانصرف العلماء إلى التأليف والتدوين،
وانصرفوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتركوا أمر العامة للقصاص والمبتدعين، مع مظاهر الترف، مما أدى إلى الانفصام التام بين مثالية الإسلام وواقع المسلمين.
وكان الرد على هذا القصور ظهور فرقة المتطوعين، للنكير على الفساق فى بغداد، وكان لهذه الحركة زعيمان لكل منهما منهج فى الإصلاح وإزالة المنكر ،
وهذان الزعيمان هما:
خالد الدرويش : كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولكن لا يثور على السلطان، فهو يطلب الإصلاح ويتولاه فى حدود الطاعة للحكومة.
سهل بن سلامة الأنصاري: كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعمل بالكتاب والسنة، ومقاتلة من خالفه كائنا من كان سلطانا أو غيره.
يقول الطبري: " إنه تبعهما خلق كثير، وكان كل من أجاب سهلا عمل على باب داره برجا جص وآجر، ونصب عليه السلاح والمصاحف، وكان ذلك عام 201 ، 202 هـ " واشتد ساعد الخوارج وظهر الزنادقة.
مما سبق يتضح أن الدعوة سواء فى عهد بنى أمية ، أو الدولة العباسية انتشرت بسبب ذاتيه الإسلام، وبالجهود الفردية من العلماء والتجار كما سبق فى دروب الدعوة،
ولقد اشتهر من دعاة هذا العصر:
- 1- أبو العباس محمد الشهير بابن السماك.
- 2- سفيان الثوري.
- 3- ابن سمعون الواعظ البغدادي.
- 4- الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن على الجوزى.
الأزهر الشريف والدعوة الاسلامية
وإذا كنا بصدد ذكر روافد الدعوة الاسلامية والتأريخ لمسارها عبر التاريخ فإن التاريخ ليقف طويلا أمام الأزهر الذى حمل لواء الدعوة الاسلامية وكان ولا يزال حصنا للغة وقلعة للإسلام.
بناؤه : أنشأ جوهر الصقلي الأزهر عام ( 359 هـ ) ليكون مركزا لنشر المذهب الشيعي الفاطمي، وأطلق عليه اسم الأزهر نسبة إلى فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
وقد نظمت الدعوة خلال العصر الفاطمي تنظيما دقيقا، ولكن هذا التنظيم لم يوجه إلى نشر الإسلام، بل وجه لنشر المذهب الشيعي،
ولقد استحدث الفاطميون منصب داعي الدعاة ، وكان يلى قاضى القضاة فى المنزلة، ويساعده اثنا عشر نقيبا، وله نواب ينوبون عنه فى البلاد، ولقد أحدث الفاطميون الكثير من الأعياد والمناسبات التى لا أصل لها فى الإسلام،
وكانوا يعنون بها عناية خاصة، وهكذا كان الأزهر فى بدء تاريخه مقصورا على الدعوة الفاطمية، مستعينا على ذلك بشتى الوسائل ولو أدى إلى إحداث أشياء فى الإسلام ليست منه،
واستمر يؤدى رسالته المذهبية المحدودة، حتى سقطت الخلافة الفاطمية عام ( 567) على يد صلاح الدين الأيوبي، فأبطل المذهب الشيعي وناصر المذهب السني،
وقد أدى ذلك إلى أن يهمل شأن الأزهر خلال الدولة الأيوبية، وعطلت به صلاة الجمعة ما يقرب من مائة عام حتى أعيدت فى عهد الظاهر بيبرس إبان حكم المماليك.
ومن علماء العصر:
أبو على الحسن بن الحسن الهيثم المتوفى عام ( 430هـ ) وعلى بن إبراهيم الحوفى المصري. وأبو محمد القاسم الشاطبى، الذى وفد على الأزهر عام ( 572 هـ ) وهو مؤلف الشاطبية فى علم القراءات.
الأزهر فى عهد المماليك
عادت للأزهر مكانته وبلغ شأنا عظيما إبان عصر المماليك، وأعيدت حلقات العلم ودروس الوعظ إليه. إذ إن الظروف فى هذه الفترة ألقت على مصر والأزهر حماية الإسلام، فلقد اجتاحت جيوش التتار الممالك الاسلامية، فهوت بغداد تحت وطأة ضربات التتار، وفى نفس الوقت كان مسلمو الأندلس يتقهقرون أمام جحافل الفرنجة. ووقفت مصر بأزهرها تستقبل علماء المشرق والمغرب، ونادى الدعاة بالجهاد فى سبيل الله ،
فأوقف الزحف التترى المدمر فى ( عين جالوت) ، وانتهت الإمارات الصليبية فى ديار الإسلام ، وصد زحف الفرنجة الذين حاولوا الاستيلاء على شمال أفريقيا بعد سقوط الأندلس،
ومن علماء هذا العصر ودعاته إلى الجهاد فى سبيل الله:
- 1- ابن تيمية.
- 2- العز بن عبد السلام.
- 3- أبو يحيى زكريا بن زكريا الأنصاري المولود عام ( 823 هـ ) من علماء الأزهر.
الأزهر فى العهد العثماني
تدهور الأزهر إبان هذا العصر وذبلت رسالته، وانطفأت جذوة الدعوة فى أروقته، خاصة عندما أخذ ا لعلماء وذخائر الكتب غلى القسطنطينية .
ويصور كتاب الأزهر حالته إبان هذا العصر : " فلقد عاش الأزهر فى تدهور وهزال، واستكان العلماء وظنوا ألا مطمح لهم فى الاجتهاد، فأغلقوا أبوابه ورضوا بالتقليد ، وعكفوا على كتب لا روح فيها".
وبهذا خفت ضياء الدعوة وأصبحت الخطب المنبرية لا عاطفة فيها، وتعتمد على السجع المتكلف وكتب الدواوين، وقلما وجد خطيب يرتجل الخطبة، وبالرغم من هذا فلقد ظل الأزهر فى هذا العصر يؤدى رسالته،
ويفد إليه طلاب العلم ورواد المعرفة وأقيمت حلقات لتدريس المذاهب الأربعة،
وقد أنشئ منصب شيخ الأزهر فى منتصف القرن التاسع الهجري السابع عشر الميلادي،
وأسندت أول مشيخة للأزهر للشيخ محمد بن عبد الله الخروشى،
ومن علماء الأزهر خلال هذه الفترة:
- - أحمد بن عمر بن أحمد أبو حامد الأزهرى الشهير بالدردير ولد عام ( 1127 هـ ).
- - الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر.
- - المؤرخ الجليل الشيخ عبد الرحمن الجبرتي.
الأزهر وأسرة محمد على باشا
قام الأزهر إبان الحملة الفرنسية على مصر عام ( 1798 م ) بدور خطير، فلقد قاد المقاومة الوطنية، ومن فوق منبره علا صوت الجهاد والاستشهاد،
وفى الوقت الذى توارى فيه ولاة مصر وأمراءها عن مواجهة الغزو الفرنسي، كان الأزهر بعلمائه يتصدى للاحتلال ،
وينظم صفوف المجاهدين مما أغاظ جنود الاحتلال فاقتحمت خيولهم الأزهر.
وكان لموقف العلماء أثر كبير فى رفعة شأنهم ومشاركتهم فى أمور البلاد، حتى إنهم عزلوا الوالي التركي خورشيد باشا ، وعينوا مكانه محمد على عام ( 1805 م) .
ولقد نجح محمد على فى إبعاد العلماء عن المشاركة فى سياسة الأمة وتوجيه الأمور بها بوسيلتين:
- الأولى: الاستيلاء على أوقاف الأزهر وفرض رواتب للعلماء والدعاة، لا تكفى العيش الكريم، وخلع عليهم كساوى تعطى لبعض من يدينون له بالولاء، واستمر هذا التقتير على العلماء خلال العصور المتتالية.
- الثانية: إيفاد البعوث إلى أوربا لتوجيه الثقافة بعيدا عن الأزهر، فانطوى الأزهر على نفسه وتدهورت حالته، واقتصر على علوم اللغة والدين فقط، حتى جاءت النهضة الاسلامية بموقظ الشرق السيد/ جمال الدين الأفغاني والمصلح الديني الإمام محمد عبده.
ومن آثارهما عودة الحياة العلمية والأدبية إلى الأزهر، ومشاركته فى الكفاح الوطني بدءا بالثورة العرابية وما تلاها من ثورات، وامتدت يد الإصلاح إلى الأزهر خلال الحقب التالية، وكان فجر هذا الإصلاح وثمرته الأولى القانون الذى صدر فى عهد الشيخ محمد المهدي العباسي عام ( 1870 م ) ، وانتهت سلسلة هذه القوانين بالقانون رقم ( 103 لسنة 1961 ) بشأن تطوير الأزهر هذا ، ولقد أنشاء قسم الوعظ والإرشاد عام ( 1928) ،
وما زال هذا القسم يؤدى رسالته، ثم أنشئت كلية أصول الدين ومن أقسامها تخصص الدعوة والإرشاد، ولقد توسع فى هذا القسم حتى أنشاء خلال عهد المرحوم الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر كليات للدعوة فى القاهرة ولها فروع فى الأقاليم.
أعلام الأزهر من العلماء والدعاة:
- شهد تاريخ الدعوة الاسلامية منذ نشأة الأزهر عام ( 359 هـ ) نجوما زاهرة وأعلاما شامخة من أعلام الدعوة، حفظوا بيضة الإسلام بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
- ومن من عصر من العصور إلا وبه عالم أزهرى، يقود كفاحه أو يكفكف من طغيان حكامه، أو يلوذ به من وقع عليه حيف أو جور، وعالم الدعوة الاسلامية ما زال يرهف السمع لعلماء الله صادقين، أو عكفوا على ضروب العلم مؤلفين وباحثين.
- وقد مضى نماذج منهم إبان العصر الفاطمي والمملوكي والتركي، وخلال اليقظة الاسلامية المعاصرة سطعت فى سماء الدعوة أعلام شامخة منهم، الشيخ محمد عبده، والشيخ حسن الطويل، والشيخ حسونة النواوى، والشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ محمد مصطفى المراغى ، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ الدكتور عبد الحليم محمود.
- وهذه الأعلام على سبيل المثال لا الحصر. وغيرهم مئات وآلاف سطروا تاريخ الإسلام بأنصع الصفحات، وهذه القوافل من الدعاة من وعاظ الأزهر وأئمة المساجد ، وإخوانهم من أعلام الدعوة فى الأقطار الاسلامية.
والباحث يتساءل:
ما موقف الدعوة الاسلامية لو لم يكن الأزهر – لا قدر الله – موجودا؟ لا شك أن الوضع سيكون مختلفا تماما لا سيما فى هذا العصر، الذى طوقت فيه ديار الإسلام من الاستعمار والتبشير، ودعاة العلمنة والتغريب،
ولله در أمير الشعراء أحمد شوقي حينما شدا بفضل الأزهر قائلا : ظلمات لا ترى فى جنحها غير هذا الأزهر السمح الشهابا
زيدت الأخلاق فيه حائطا
- فاحتمى فيه رواقا وقبابا
وترى الأعزال من أشياخه
- صيروه بسلاح الحق غابا
قسما لولاه لم يبق به
- رجل يقرأ أو يدرى الكتابا
حفظ الدين مليا ومضى
- ينقذ الدنيا فلم يملك ذهابا
المبحث الثاني دراسة موجزة للحركات الاسلاميةالتى مهدت لنشأة الجمعيات الاسلامية
رأيت فى هذا الجزء من مبحثي التمهيد أن أتعرض بإيجاز لليقظة الاسلامية التى مهدت بفكرها لنشأة الجمعيات الاسلامية ، فإن حركات التجديد الاسلامى كل منها تأخذ مما سبقتها وكل مصلح يبدأ من حيث انتهى سلفه فإن من سنن التاريخ الاسلامى القدرة على الخروج منم دائرة الضعف والتخلف بالتماس جوهر القيم الأساسية.
وكلما ضعفت حياة هذا المجتمع الاسلامى وانحرفت ظهرت قوة شابة تحمل اللواء وكلما تحول منهج الفكر واضطرب ظهر مصطلح مجدد، يرده إلى الجادة، وهكذا عاش تاريخ الإسلام بين التحدي ورد الفعل، وإن البعث الاسلامى المعاصر لا سيما الجمعيات الاسلامية ،
قد انبثقت من آثار كل من : دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب بنجد، والإمام محمد بن على بن إدريس السنوسي بليبيا، والسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده فى مصر، هذا ولقد رأيت أن أذكر فى شيء من الإيجاز فكر هؤلاء الأعلام وآثارهم فيمن خلفهم مستهدفا من هذا التمهيد أن أربط بين فكر الجمعيات الاسلامية والروافد التى نهلت من مبادئها مما سيتضح خلال العرض إن شاء الله.
أولا: الإمام محمد بن عبد الوهاب: ( 1115 هـ - 1206هـ ) – ( 1703 – 1787 م )
ولد فى بلدة العيينة شمال الرياض، وحفظ القرآن الكريم ولم يتجاوز عمره عشر سنوات.
ودرس الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل وتأثر بكتب ابن تيمية وابن القيم، وكانت له رحلات كثيرة فى طلب العلم، فقصد مكة والمدينة والبصرة والشام، وأثناء هذه الرحلات وقف على حالة المسلمين.
ورأى أن التوحيد الذى هو جوهر الإسلام قد دخله كثير من شوائب الشرك، فبالغ المسلمون فى تقديس الأولياء وقصدوا أضرحتهم، وقدموا لها النذور وتمسحوا بها معتقدين أنها تجلب خيرا أو تدفع شرا.
إلى جانب انتشار البدع والخرافات وقفل باب الاجتهاد والركون إلى تقليد المذاهب، وكذلك الركود الاقتصادي وسوء الأوضاع المالية وذلك بسبب تحول التجارة إلى رأس الرجاء الصالح والفساد الاجتماعي بسبب إهمال الولاة والأتراك للبلاد الاسلامية.
فعم الجهل واستشرت عوامل الفساد فى الأمة الاسلامية.
فبدأ الشيخ دعوته فى نجد واستقر فى الدرعية عام ( 1157 هـ ) .
حيث ناصره أميرها محمد بن سعود الذى بايعه على الجهاد والنصرة ونشبت معارك بين أتباع الإمام وخصومه، ودانت لهم نجد والرياض، وحينما شعرت الخلافة العثمانية بالخطر المحدق بها من جراء هذه الحركة، عهدت إلى واليها فى مصر محمد على باشا لإخمادها والقضاء عليها.
فأرسل جيوشه عام ( 1216 هـ ) بقيادة نجليه إبراهيم باشا وطوسون باشا ونشبت الحرب بين الفريقين ، وقد انتهت بزوال ملك آل سعود نجد والقضاء على الدولة الوهابية، واستيلاء إبراهيم بن محمد على باشا على الدرعية، غير أنه قدر لهذه الحركة أن تستيقظ من جديد فى نجد والحجاز، على يد عبد العزيز آل سعود عام ( 1343 هـ - 1925 م ).
الأسس التى قامت عليها دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب
دعا الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى المبادئ والأسس التالية:
- 1- توحيد الله تعالى توحيدا خالصا لا تشوبه شوائب الشرك.
- 2- توضيح حقيقة التوسل وهو نوعان:
- أ- توسل مطلوب ومرغوب فيه وهو التوسل بأسماء الله والأعمال الصالحة.
- ب- التوسل المبتدع وهو التوسل بالذوات الصالحة.
- 3- منع شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة.
- 4- حرمة البناء على القبور وكسوتها وإسراجها وإقامة المساجد عليها.
- 5- عدم تأويل الآيات المتشابهة لا سيما آيات الصفات وأنها على الحقيقة من غير تمثيل ولا تكييف.
- 6- إنكار البدع ومحدثات الأمور وإزالتها بالقوة.
وتعتبر هذه الآراء امتدادا لآراء ابن تيمية وابن القيم والمدرسة السلفية.
آثار الدعوة الوهابية فى اليقظة الاسلامية
على الرغم مما يؤخذ على هذه الدعوة من جوانب سلبية وتعرضها للنقد واختلاف المؤرخين عليها، فإنها تركت آثارها على النهضة الاسلامية،
ومما يؤخذ على دعوة محمد بن عبد الوهاب ما نوجزه فيما يلي:
- 1- توسعها فى أمر البدع حتى إنهم توهموا أمورا لا صلة لها بالعبادات بدعا.
- 2- غلوهم فى استئصال المخالفين، واعتقادهم أن رأيهم هو الصواب ورأى مخالفيهم خطأ لا يقبل التصويب.
- 3- الحملات القاسية والعنيفة على التصوف وإنكار أن له صلة بالإسلام.
- 4- أن الدعوة الوهابية لم تقدم النموذج العملي للمجتمع المسلم، ولم تتصد لمشاكل المسلمين الاقتصادية والاجتماعية وأعطت ظهرها للمخترعات العلمية الأوربية.
وعلى الرغم من هذه المآخذ والسلبيات، إلا أنها أيقظت الأمة الاسلامية بعد رقاد طويل وجهل مطبق، وتجاوزت حدود الجزيرة العربية إلى شتى بقاع العالم الاسلامى.
فانتشرت فى الهند على يد السيد أحمد الذى قدم من مكة حاجا عام ( 1820 م ) ، وحينما عاد إلى الهند دعا بدعوة ابن عبد الوهاب، وأسس دولته فى إقليم البنجاب على أساس مبادئها، ولكن هذه الدولة انتهت بوفاته عام ( 1830 م ).
وظهر الشوكانى فى اليمن، والألوسى فى العراق، والسنوسي فى ليبيا، والمهدي فى السودان، والسلفية بالمغرب، وخير الدين التونسي فى تونس، والقاسمى والبيطار فى الشام، ثم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده فى مصر، وامتدت آثارهما إلى الشيخ رشيد رضا الذى عمل على نشر كتب ابن تيمية وابن القيم، ورسائل محمد ابن عبد الوهاب فى مطبعة المنار.
وكذلك سار على نهجهما الشيخ محمد حامد الفقى الذى أنشأ جماعة أنصار السنة المحمدية، التى سارت على خطا الدعوة الوهابية، وما زالت تؤدى رسالتها منذ ما يقرب من نصف قرن، كما سيتضح عند الكتابة عنها إن شاء الله تعالى .
ثانيا: الدعوة السنوسية- الإمام محمد بن على السنوسي: 1202 هـ - 1276 هـ 1798 م – 1859 م
مولده ونشأته
ولد رحمه الله فى قرية مستغانم بالجزائر وتلقى تعليمه الأول بها وحفظ القرآن صغيرا، ثم توجه إلى جامع القرويين بمدينة فاس بالمغرب..
ويعتبر أحد ينابيع الثقافة الاسلامية فى شمال أفريقيا وهو قرين الأزهر فى مصر، ظل جامع القرويين يتعلم ويعلم، ثم تولى مشيخة الجامع لمدة سبع سنوات، ثم تابع مسيرة العلم فاتجه إلى تونس وليبيا واستقر به المقام فترة فى مصر، والتقى بعلماء الأزهر فلم يلق منهم قبولا فرحل إلى مكة فاليمن ثم عاد إلى مكة.
وخلال تطوافه فى العالم الاسلامى وقف على حالة المسلمين وما اعتراهم ومن وهن وضعف وتواكل، وأثناء وجوده فى الحجاز وقف عن كثب على حقيقة الدعوة الوهابية،
وأبصر إيجابياتها وسلبياتها، والدوافع التى جمعت ما بين الرجلين تكاد تكون متشابهة ، فكلاهما نشأ فى عصر ران عليه التقليد والضعف وسيطرة البدع مع إطباق الاستعمار على العالم الاسلامى ومحاولات الدول الأوربية القضاء على الخلافة الاسلامية،
وتقسيم العالم الاسلامى إلى دويلات يسهل إخضاعها والسيطرة عليها، فاحتلت الجزائر عام 1830 وكلا الرجلين " السنوسي وابن عبد الوهاب " نهلا من منهل الإسلام الصافي القرآن والسنة، وتتلمذ على كتب ابن تيمية وابن القيم.
غير أن بين الحركتين اختلافا فى المنهج والأسلوب يتضح هذا من خلال كتب الإمام السنوسي وأهم هذه الكتب:
- 1- إيقاظ الوسنان.
- 2- بغية القاصد وخلاصة الراصد.
- 3- الطرائق الأربعين.
الأسس التى قامت عليها الدعوة السنوسية:
انفردت هذه الحركة بمنهجين كلاهما متمم للآخر:
الأول : المنهج النظري ويعتمد على الأسس التالية:
- 1- وجوب العودة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتقديمهما على رأى كل مجتهد.
- 2- فتح باب الاجتهاد ومحاربة التقليد ومن أقواله فى هذا : " لا يجب انحصار التقليد فى الأئمة الأربعة رضي الله عنهم ، لأنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ورسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة فيقلده دون غيره ويقول: " هذه بدعة قبيحة حدثت فى الأمة لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام، فيا للعجب ماتت مذاهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب التابعين وتابعيهم وسائر الإسلام، وبطلت جملة إلا مذاهب أربعة أنفس فقط من بين الأئمة والفقهاء ، وهل بذلك قال أحد من أئمة الإسلام أو دعا إليه؟".
- 3- ليست هناك حدود تجزيء العالم الاسلامى، والإصلاح ينبغي أن يكون شاملا النواحي الدينية والسياسية والاقتصادية.
- 4- نشر الإسلام بين اللادينيين والوقوف فى مواجهة التبشير المسيحي فى قارة أفريقيا.
موقف السنوسية من التصوف
لم يعلن الإمام محمد السنوسي إنكاره للتصوف ولم يشن الحرب عليه كالدعوة الوهابية. ولكنه سلك طريقا وسطا، فأعطى للتصوف الحق قدره ودعا إليه وأنكر على أدعياء التصوف أحوالهم فيقول: " الصوفية يزينون سلوكهم بمبادئ الشريعة لا يعيبهم إلا الجهلة بعلومهم أو المتعصبون عليهم،
ولا يمنعنا ذلك من النظر إلى الصوفي كإنسان يخطى ويصيب وأن السنة هى المرجع وهى الحاكمة بالخطأ والصواب لأنها حجة على الجميع، وليس هناك لأحد حجة عليها".
بهذا الموقف المعتدل استطاع الإمام السنوسي أن ينفى التصوف من الغلو والتواكل وأنكر شطحات المتصوفين فى أمور الغيب والحلول ووحدة الوجود.
المنهاج العملي للحركة السنوسية
بجانب ما سبق من الأسس النظرية التى قامت عليها الدعوة السنوسية، فإنها خطت لنفسها طريقا عمليا، انفردت وحدها وتميزت به عما سواها من الحركات الاسلامية،
هذا الطريق هو:
إنشاء الزوايا:والزوايا صورة صغيرة للمجتمع المسلم، فالزاوية الواحدة تتكون من :
- 1- مسجد صغير.
- 2- مدرسة لتحفيظ القرآن.
- 3- معهد ديني لتدريس العلوم الاسلامية.
- 4- مكتبة علمية.
- 5- بيوت الإخوان.
- 6- مكان لاستقبال الضيوف.
- 7- إنشاء المزارع وبعض المصانع ودار للعلاج.
اختيار الزوايا:
- كان رحمه الله يختار المواقع الهامة كتقاطع الطرق، وملتقى القوافل أو بالقرب من حدود الدول المجاورة.
تنظيم الزوايا:
- أ – يتولى أمر الزاوية والإشراف عليها" مقدم" يتولى أمورها ويفصل فى الخصومات والمنازعات، وله وكيل يتولى جباية الأموال والإنفاق علىالزاوية، وينظر فى زراعة الأرض.
- ولكل زاوية شيخ يقيم الصلاة ويعلم الأولاد ويباشر عقود النكاح والصلاة على الجنائز، إلى جانب ما انفردت به الزوايا من التدريب العسكري على فنون القتال مما كان له أكبر الأثر فى الدفاع عن ليبيا ضد الاحتلال الايطالي.
- ب- شكل الإمام السنوسي مجلسا يسمى " مجلس الخواص" يتكون ممن بلغ درجة عالية من العلم والمعرفة، وهذا المجلس يشرف على جميع الزوايا.
انتشار الزوايا:
أنشأ الإمام محمد بن على السنوسي الزاوية الأولى فى مكة عام ( 1837 م ) فى جبل أبى قبيس ، ثم أنشأ عدة زوايا بالقرب من الطائف والمدينة وينبع وجدة، غير أن متا أثارته الدعوة الوهابية من خلافات وحروب حال دون نجاح هذه الزوايا، فترك الحجاز وتوجه إلى مصر عام ( 1840 م ) ، ونزل بالأزهر إلا أنه وجد صدودا واعتراضا على أفكاره من علمائه، فغادر مصر غلى ليبيا عام ( 1843 م ) ،
وأنشأ الزاوية البيضاء فى الجبل الأخضر فى عام ( 1856 م ) ، وأنشأ زاوية فى واحة الجغبوب لمكانها ولسيطرتها على طريق القوافل، فجعلها مقرا لدعوته وأنشأ بها مدرسة دينية عمادها الرجال الذين رافقوا الإمام فى رحلاته، وكان بها مكتبة دينية فيها ما يقرب من ثمانية آلاف مجلد، ووجد بها حوالي ثلاثمائة طالب أعدوا إعدادا خاصا لنشر الإسلام.
وفى عهد الإمام المهدي نجل الإمام محمد بن على السنوسي نقل مركز الدعوة من الجغبوب إلى الكفرة عام ( 1895 م ) ، ثم انتشرت الزوايا حتى أصبحت فى مطلع القرن العشرين مائة وستا وثلاثين زاوية موزعة على :
برقة – طرابلس – فزان - الجزيرة العربية – مصر .
أثر الدعوة السنوسية على اليقظة الاسلامية المعاصرة
- 1- بينما نرى حركة الإمام محمد بن عبد الوهاب قد استنفدت طاقاتها فى مواجهة خصومها، وهم مسلمون مهما اعترى إسلامهم من شوائب البدع والخرافات والأباطيل والترهات التى عاقت تقدمهم .
نرى الإمام السنوسي ينفرد بنشر الإسلام والتبشير به، لا سيما فى قارة أفريقيا حيث كان التبشير المسيحي ينفث سمومه ويتسلل إلى قلب أفريقيا،
ولقد كان للسنوسية فضل كبير فى مواجهة قوافل التبشير المسيحي، فأرسلت أتباعها إلى مجاهل أفريقيا وكانت مراكز دعوتها محط قوافل الأفارقة، يحسنون استقبالهم ويشرحون لهم الإسلام.
ومن وسائل الإمام فى نشر الإسلام:
- 1- " أنه اشترى قافلة من العبيد كان تجار الرقيق خطفوهم ليعرضوا فى أسواق الرقيق، ولكن الإمام أعتقهم جميعا وأكرمهم وعلمهم الإسلام، ثم تركهم يعودون إلى قبائلهم مبشرين بالإسلام".
- 2- كان لما اتبعته السنوسية من تنظيم زواياها وتقسيمها إلى جماعات متعاونة ومتكاملة دينيا واجتماعيا واقتصاديا اثر كبير فى فكر الجمعيات الاسلامية فى مصر، لا سيما جمعية الإخوان المسلمين، يزكى ما ذكرته وجود ما يقرب من إحدى وعشرين زاوية فى مصر فى مطلع القرن العشرين،
- وبعض هذه الزوايا بمحافظة البحيرة المتاخمة للصحراء الليبية، تلك المحافظة التى نشأ بها المرحوم الإمام حسن البنا، وهى أيضا موطن الإمام محمد عبده والعديد من علماء الأزهر الشريف.
- ويتضح هذا الفكر فى جمعية الإخوان المسلمين من خلال نظام الأسر والشعب .
- 3- كان للأسلوب التربوي الذى انفردت به السنوسية أثر كبير لا سيما فى فكر الإمام محمد عبده، الذى اتجه إلى التربية والتعليم حينما أخفق أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني فى دعوته السياسية، فلقد أشار عليه الإمام محمد عبده أن يهجر السياسة،
- وأن ينتقيا عددا من الطلاب ويذهبا بهم إلى الصحراء، يعلمانهم ويدربانهم على قيادة الأمة الاسلامية، ويبدو هذا الاتجاه بسبب الاتصال بالسنوسية كما سيأتي عند الكلام عن الإمام محمد عبده.
- 4- كان لاتجاه السنوسية المعتدل نحو التصوف أثر كبير فى بعض الجمعيات الاسلامية، التى لم تسقط التصوف من حسابها، ولم تعلن العداء له ولكنها عملت على تنقيته من البدع والخرافات، كجمعية الإخوان المسلمين وجمعية الشبان المسلمين فى باكورة نشأتها.
- 5- قامت السنوسية بدور بطولي فى مواجهة الاستعمار الايطالي من خلال مقاومة الزوايا، التى أبرزت العديد من المجاهدين كان على رأسهم المجاهد الاسلامى الكبير الشهيد عمر المختار، وكان لهذا الجهاد الرائع أثر كبير فى إيقاظ الوعي الاسلامى، ومحاربة الاستعمار فى أفريقيا فى وجه الغزو الفكري والتبشير الصليبي.
- وبهذا يتضح أثر الدعوة السنوسية فى حركة اليقظة الاسلامية المعاصرة، وانفرادها بوضع المنهج العملي والتربوي للمجتمع المسلم.
ثالثا: السيد جمال الدين الأفغاني: ( 1254 هـ - 1314 هـ ) – ( 1838 م – 1897 م )
يكاد المؤرخون يجمعون على أن حركة التجديد الاسلامى المعاصر مدينة بالفضل إلى الكثير من توجيهات السيد جمال الدين الأفغاني، حتى أنه لقب بموقظ الشرق.
وإن الباحث لتاريخ الجمعيات يرى آثاره واضحة فى تلك الجمعيات.
مولده وثقافته
ولد جمال الدين الأفغاني فى سعد أباد إحدى القرى التابعة لمدينة كابل فى أفغانستان ، ويتصل نسبه بالسيد الترمذي المحدث المشهور، ويرتقى إلى سيدنا الحسين بن على بن أبى طالب رضي الله عنهما.
تلقى تعليمه الأول فى مدينة كابل، ثم تبحر فى العلوم الدينية والثقافية.
وتعلم اللغة العربية والأفغانية والفارسية، واستكمل الغاية من دروسه وهو فى الثامنة عشرة من عمره.
رحلاته
سافر إلى الهند ووقف على أحوال المسلمين بها، وأقام فيها يدرس العلوم الحديثة ثم سافر إلى مكة عام ( 1273 هـ ) ، ثم رجع إلى أفغانستان وشارك فى سياسة الأمور بها ثم عاد إلى الهند. ثم مصر عام ( 1286 هـ ) ،
ومكث بها أربعين يوما وغادرها إلى مكة وعاد إلى مصر مرة ثانية عام ( 1288 هـ ) ، واستقر بها حتى عام ( 1296 هـ ) ، ثم رحل غلى الآستانة ثم بطرسبرج فى روسيا وباريس، ثم عاد إلى استانبول حتى توفى عام ( 1314 هـ - 1897 م ).
الأسس التى قامت عليها دعوة الأفغاني
تكاد تكون حالة المسلمين من الضعف والتفرق وانتشار البدع واستبداد الحكومات هى السمة البارزة، التى جمعت بين أعلام اليقظة الاسلامية وإن وجد اختلاف فى الوسائل والتطبيق، ولقد كانت دعوة الأفغاني تقوم على المبادئ التالية:
1- أن يكون قوام نهضة المسلمين القرآن الكريم.
يقول رحمه الله:" فالقرآن وحده الذى كان كافيا فى اجتذاب الأمم القديمة وهدايتها جدير أن يكون كافيا اليوم أيضا فى اجتذاب الأمم الحديثة وهدايتها.
يا ويلنا .. يا ويلنا القصور منا والتبعة علينا أنصفنا عن الأخذ بروح القرآن والعمل بمضامينه إلى الاشتغال بألفاظه وإعرابه، والوقوف عند بابه دون التخطي إلى محرابه.
2- الدعوة إلى الثورة السياسية على جميع النظم الفاسدة فى المجتمعات الاسلامية، فهي أسرع لتحقيق النتائج، أما وسائل الإصلاح التدريجي فيرى أنها لا تفي بالغاية، وكان يرى ببصيرته الخطر الداهم والمحدق بالإسلام،
قال الكاتب الأمريكي " لو تروباستواد": " كان جمال الدين أول مسلم أيقن خطر السيطرة الغربية المنتشرة فى الشرق الاسلامى وتمثل عواقبها فيما إذا طال عهدها، فهب يضحى بنفسه ويفنى حياته فى سبيل إيقاظ العالم الاسلامى وليس هناك من قطر وطئت أرضه قدم جمال الدين إلا وكانت فيه ثورة فكرية لا تخبو نارها".
3- فتح باب الاجتهاد: فلقد حمل على التقليد حملات قاسية ورد على من زعم أن باب الاجتهاد أغلق فقال :" ما معنى أن باب الاجتهاد مسدود؟ وبأي نص سد باب الاجتهاد ؟
وأي إمام قال لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدى أن يجتهد ليتفقه فى الدين؟ ثم يستطرد قائلا: فمن كان عالما باللسان العربي وعاقلا وعارفا بمسيرة السلف وما كان من طريق الإجماع جاز له النظر فى أحكام القرآن وتمعنها واستنباط الأحكام منها".
4- الوحدة الاسلامية: عمل جمال الدين على توحيد كلمة المسلمين واتحاد صفوفهم وذلك من خلال جمعية العروة الوثقى التى كانت منتشرة فى جميع الأقطار الاسلامية وكان أعضاؤها يختارون من كبار المسلمين ذوى الغيرة الدينية والحماس المتأجج ولها فروع فى جميع البلدان ويجتمع كل منها للبحث فى شون المسلمين وكان من أعضائها والمؤسسين لها: الإمام الشيخ محمد عبده وعبد الله النديم. والأمير عبد القادر الجزائري وشكيب أرسلان، فضلا عن العديد من رجالات العالم الاسلامى.
ولتدعيم هذه الجمعية أنشئت مجلة العروة الوثقى فى بريس والتي صدرت منها ثمانية عشر عددا عام ( 1301 هـ - 1884م) والتي أقلقت مضاجع الاستعمار فى العالم الاسلامى وأفزعت الحكام المستبدين بشعوبهم فصودرت أعدادها ومنعت من معظم الأقطار الاسلامية بعد ثمانية عشر عددا.
ولقد وضع جمال الدين والشيخ محمد عبده قسما يقسم كل عضو عليه.
ومن خلال هذا اليمين يتضح الأسس التى قامت عليها دعوة الرجلين رحمهما الله تعالى : وهذا هو نص القسم:" أقسم بالله العالم بالكلى والجزئي والجلي والخفي القائم على كل نفس بما كسبت الآخذ لكل جارحة بما اجترحت لأحكمن كتاب الله تعالى فى أعمالي وأخلاقي بلا تأويل ولا تضليل ولأجيبن داعيه فيما دعا إليه ولا أتقاعد عن تلبيته فى أمر ولا فى نهى. ولأدعون لنصرته ولأقومن بها ما دمت حيا ولا أفضل على الفوز بها مالا ولا ولدا.
أقسم بالله مالك روحي ومالي، القابض على ناصيتي، المتصرف بإحساسي وجداني، الناصر لمن نصره، والخاذل لمن خذله، لأبذلن ما فى وسعى لإحياء الأخوة الاسلامية، ولأنزلنها منزلة الأبوة والبنوة الصحيحتين. ولأعرفنها كذلك لكل من ارتبط برابطة العروة الوثقى،
وانتظم فى عقد من عقودها، ولأراعينها فى غيرهم من المسلمين، إلا أن يصدر عن أحد ما يضر بشوكة الإسلام، فإني ابذل جهدي فى إبطال عمله المضر بالدين، آخذا على نفسي فى أثره مثل ما آخذ عليها فى المدافعة عن شخصي، أقسم بهيبة الله وجبروته على ألا أقدم إلا ما قدمه الدين ولا أؤخر إلا ما أخره الدين،
ولا أسعى قدما واحدة أتوهم فيها ضررا يعود على الدين جزئيا أو كليا، وألا أخالف أهل العقد الذين ارتبط معهم بهذا اليمين فى شيء يتفق رأى أكثرهم عليه، وأسأل الله نجاح العمل وتقريب الأمل، وتأييد القائم بأمره الناشر لواء دينه ، آمين".
من هذا القسم يتضح منهج العروة الوثقى فى جمع شمل المسلمين، والتي كانت باكورة نشأة الجمعيات الاسلامية.
ولم يقتصر السيد جمال الدين على جمعية العروة الوثقى فقط، بل أسس فى مكة " جمعية أم القرى" ، لتدعو إلى الرابطة الاسلامية.
5- الرد على مزاعم المستشرقين:ظهر اهتمام علماء الغرب بالإسلام وعلومه منذ الحروب الصليبية، وكان البعض من هؤلاء العلماء يتحرى الصدق وينطق بالحق، والكثير حمله حقده الأسود وغله الدفين على نشر الأكاذيب وتزييف الحقائق وتشويه الإسلام.
هذا ولقد تصدى جمال الدين لافتراءات المستشرقين فرد على الفيلسوف الفرنسي رينان.
وفند مفترياته ضد العرب والإسلام، مما جعل هذا الفيلسوف يرجع عن آرائه ويوطد علاقته مع جمال الدين، كذلك قام فى الهند بالرد على الدهرين فى رسالة نقلها إلى العربية الإمام الشيخ محمد عبده.
أثر جمال الدين على النهضة الاسلامية
يعتبر جمال الدين موقظ الشرق وباعث نهضته، وما من قطر حل به إلا ترك فيه آثاره الواضحة.
وظهر أثره فى مصر لدى الشيخ محمد عبده ومدرسته السلفية، وفى أندونيسيا فى حركة تجديد المنار، وفى الجزائر فى جمعية علماء الجزائر لمؤسسها المرحوم عبد الحميد بن باديس المتوفى ( 1940م ) وفى الهند فى جماعة أهل الحديث، وفى ندوة علماء الهند لمؤسسها محمد شبل النعمانى المتوفى ( 1941 م) ، غير أن آثاره فى مصر كانت متعددة الجوانب محققة لأهداف كثيرة، وأثمرت نهضة إسلامية ما زالت تؤتى ثمارها حتى الآن،
ومن آثاره ما نوجزه فى التالي:
1- دفع بالمصريين للثورة على كل مظاهر التخلف والوقوف فى وجه الحكام المستبدين، مما مهد للثورة العرابية وما تلاها من ثورات، كما أهاب بالعلماء أن ينبذوا التقليد ويفتحوا أبواب الاجتهاد.
والوقوف على النهضة الأوربية الحديثة، والأخذ منها بما لا يتعارض مع الإسلام.
2- الخطابة:
- كانت الخطابة فى عصره لا روح فيها، فتلقى من ديوان مطبوع، وتعتمد على السجع المتكلف، ولا تمس حاضر المسلمين ولا تتعدى منبر المسجد. فحينما قدم رحمه الله إلى مصر، أيقظت خطبه البليغة المشاعر وحركت النفوس، حتى إنه لقب بخطيب الشرق.
- ولم تقتصر على المساجد فقط، بل تعداها إلى الأندية والمقاهي، فكان له مجلس خاص فى قهوة البوستة بالأزبكية، يلتقي فيها مع طلابه ومريديه مما كان له أثر فى الجمعيات الاسلامية، لا سيما الإخوان المسلمون. فإن مرشدها العام الإمام حسن البنا بدأ دعوته من خلال التجمعات فى الأندية الرياضية والمقاهي، كما سيتضح من خلال البحث إن شاء الله .
3- الصحافة :
- أسس مدرسة صحفية تعمل على نهضة الإسلام، وجعل منها منبرا يوقظ الهمم ويلهب المشاعر، ويقلق مضاجع الاستعمار، وجريدة العروة الوثقى التى صدرت فى باريس نموذج لأثره فى الصحافة.
- هذا ولقد ترك مدرسة صحفية انتزعت الريادة والتوجيه من صحفيي الشام الذين وجهوا الصحافة فى مصر نحو العلمنة والتغريب والقومية كالأهرام والمقطم والجريدة.
- ومن رواد هذه الصحافة ( الشيخ محمد عبده وعبد الله النديم والشيخ على يوسف والشيخ عبد العزيز البشرى ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب ) ، ثم تتابع هذا الأثر إلى المجلات الاسلامية الناطقة بلسان الجمعيات الاسلامية.
4- وكان إنشاء جمعية العروة الوثقى وجمعية أم القرى وإنشاء الشيخ محمد عبده الجمعية الخيرية الاسلامية دافعا إلى إنشاء الجمعيات الاسلامية المعاصرة، التى يرجع الفضل إليها فى اليقظة الاسلامية الحديثة.
الفرق بين الوهابية والسنوسية ودعوة الأفغاني
تكاد تكون حالة المسلمين من الضعف والتفرق وانتشار البدع هى السمة البارزة التى جمعت بين الوهابيين والسنوسية وجمال الدين.
فهدف الجميع واحد، غير أن كل مصلح نهج منهجا يتلاءم مع ثقافته والبيئة التى نشأ فيها، ومن نا تبدو بعض الاختلافات بين كل من الحركات السالفة،
ودعوة جمال الدين نوجزها فيما يلى:
- 1- الدعوة الوهابية والسنوسية اللتان انطلقتا من الصحراء كلتاهما دعوة دينية خالصة، أما دعوة الأفغاني فهي سياسية بالمقام الأول دينية فى المقام الثاني.
- وهذا الاتجاه بسبب رحلات الأفغاني إلى بلاد الشرق وأوربا ووقوفه على النهضة الحديثة.
- 2- بينما كانت الحركة الوهابية والسنوسية بعيدتين عن الاستعمار والاختلال والتبشير والغزو الفكري كان الأفغاني معاصرا للاحتلال الانجليزي فى مصر والهند، معايشا للمشاكل الاقتصادية التى أودت باستقلال مصر، ووقف على محاولات روسيا القيصرية لتقويض الخلافة العثمانية ، ومؤامرات أوربا على العالم الاسلامى.
- 3- بينما وقفت الوهابية والسنوسية بمنأى عن التطور الصناعي والتقدم العلمي ونظرت إليهما نظرة الارتياب – ولهذا لم تصمدا حينما واجهتا الأسلحة الحديثة فى جيش محمد على والجيش الايطالي ، - نجد جمال الدين الأفغاني يدعو إلى النهضة العلمية ومواكبة لغة العصر صناعيا وعلميا وعسكريا اقتصاديا.
رابعا: الإمام محمد عبده
يعتبر الإمام محمد عبدا رائدا من رواد النهضة الاسلامية الحديثة، ومؤسس مدرسة من الرواد الذين أسهموا بجهد كبير فى حركة التجديد الاسلامى المعاصر.
ولست فى مقام التأريخ لحياته أو المقوم لأعماله ، وإنما أهدف إلى بيان أثره فى نشأة الجمعيات الاسلامية والإصلاح الديني والنهوض برسالة الأزهر.
ونشأته
ولد رحمه الله فى عام ( 1266 هـ - 1849 م ) فى قرية محلة نصر مركز شبراخيت بحيرة، وتلقى تعليمه الأولى فى القرية، ثم انتقل إلى طنطا لتجويد القرآن ودراسة العلوم الشرعية، غير أن عقم الدراسة وجفاء أسلوبها دفعاه للعودة إلى قريته فأصر والده على إرجاعه لطلب العلم،
وفى طريق العودة المكره عليها قيض الله له ( رجلا) من أخوال أبيه يسمى بالشيخ درويش: " صوفي على اتصال بالزاوية السنوسية ، فشرح الله به صدر الإمام وعادت إليه الرغبة فى التعليم " ،
ولم يطل به المقام فى طنطا فارتحل إلى الأزهر عام ( 1866 م ) ، فاصطدم بأسلوب الدراسة به، ولكن الله أراد له الخير بلقائه بالسيد جمال الدين الأفغاني الذى قدم إلى مصر عام ( 1288 هـ 1871 م ) ، فلازمه وسرت فيه روح أستاذه، فأيقظت فيه طاقات من الإشراق العلمي أثمرت فى جوانب عدة كالصحافة والتعليم والقضاء والفتوى والجمعيات الاسلامية وإصلاح الأزهر والمشاركة فى الثورة العرابية، حتى غدا الإمام إمام عصره ومجدد قوته، وما من رائد من رواد اليقظة الاسلامية إلا وقد تلقى عنه أو درس عليه أو تأثر بأفكاره.
آثار الإمام محمد عبده
تنوعت أعمال الإمام وتعددت آثاره وكثرت أسفاره، ومع كل عمل نيط به أو قطر حل فيه، خلف وراءه آثارا جليلة وإصلاحات عظيمة،
فضلا عن التراث العلمي من المؤلفات القيمة. ومن آثاره رحمه الله ما يلي:
- أولا : تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع فى كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى.
- ثانيا إصلاح التعليم:
- حينما أخفق جمال الدين فى دعوته السياسية اتجه الإمام إلى التربية والتعليم ، ومما عمق هذا الاتجاه لديه الاحتلال الانجليزي لمصر ، فلقد وجد رحمه الله أن حلقة الصراع مع الاحتلال ليست متكافئة ، فانسحب من ميدان السياسة إلى ميدان التربية،
وأخذ على أستاذه استغراق السياسة لحياته فقال: " إن السيد جمال الدين كان صاحب اقتدار عجيب، لو صرفه ووجهه إلى التعليم والتربية لأفاد الإسلام أكبر فائدة، عرضت عليه حين كنا فى باريس أن نترك السياسة ونذهب إلى مكان بعيد عن مراقبة الحكومات، نعلم ونربى من نختار من التلاميذ الذين يتبعوننا فى ترك أوطانهم والسير فى الأرض لنشر الإصلاح المطلوب".
وفى سبيل هذا الإصلاح وضع وهو فى المنفى ببيروت لائحتين لإصلاح التعليم وجه الأنظار فيهما إلى خطر مدارس التبشير فى العالم الاسلامى، وحينما عاد غلى مصر وضع لائحة لإصلاح التعليم ف مصر، غير أن اللورد كرومر اعترض عليها.
ثالثا: إصلاح الأزهر:
- كان الأزهر إبان عصر الإمام يحتدم فيه الصراع والجدال بين دعاة الإصلاح والتجديد وجماعة الجمود والتقليد. ومع مطلع القرن الرابع عشر الهجري كان جل علماء الأزهر يرتابون فى علوم العصر، ويتوجسون منها خيفة،
فصرح الشيخ عبد الرحمن النشرتى لإحدى الصحف عام ( 1905 م ): " وأما الخدمة التى قام بها الأزهر للدين ولا يزال يؤديها، فهي حفظ الدين لا غير، وما سوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم العصر، فلا علاقة له بالأزهر ولا ينبغي له". ولم يكن هذا اتجاه العلماء وحدهم ولكن كان رغبة الحكومة والقصر والاحتلال، وهكذا بين هوى الحكام وجمود بعض العلماء حاول الشيخ محمد عبده إصلاح الأزهر، ولقد أتيحت له الفرصة حينما عين عضوا بمجلس إدارة الأزهر عام ( 1895 م ) ،
وقد أثمرت جهوده العديد من الإصلاحات، غير أنها ما لبثت أن تعثرت بسبب جمود بعض العلماء ومحاربة الحكام، مما دفع الشيخ إلى تقديم استقالته من مجلس إدارة الأزهر عام ( 1905 م ) وقال قولته المأثورة : " إن بقاء الأزهر متداعيا على حاله فى هذا العصر محال فهو إما يعمر أو يتم خرابه".
رابعا : تأسيس الجمعيات الدينية الخيرية: يعتبر الإمام محمد عبده رائدا فى تأسيس الجمعيات الدينية والخيرية ، فكما سبق أنه اشترك مع جمال الدين فى تأسيس جمعية العروة الوثقى بباريس، وأثناء وجوده فى بيروت أسس جمعية " التأليف والتقريب .
والهدف منها التقريب بين الأديان وقد دارت بينه وبين بعض رجال الدين المسيحي وبعض مفكري العالم مجادلات ومراسلات، فراسل بعض نبهائهم مثل جوستاف لوبون، وهربرت سبنسر وتولستوى ، وكان المستشرق البريطاني إدوارد براون شديد الإعجاب به، وقدم إلى مصر وحضر حلقات تفسير القرآن الكريم للإمام .
وفى عام ( 1882 م ) أسس الجمعية الخيرية الاسلامية وإن كان يغلب عليها الطابع الاجتماعي، إلا أنه كان لها مدارس خاصة يتربى فيه الطلاب على مبادئ الإسلام.
وفى عام ( 1900 م ) أنشأ جمعية العلوم والتي عنيت بإحياء التراث الاسلامى وإعادة طبعه، وكانت هذه الجمعيات من أول ما عرفته مصر من هذا النوع من النشاط الديني، وما كاد يبزغ فجر القرن الرابع عشر الهجري إلا وكانت مصر تزخر بالعديد من الجمعيات الاسلامية التى كان لها دور بارز فى اليقظة الاسلامية ، الحديثة ، كما سيتضح خلال أبواب الرسالة إن شاء الله .
التراث العلمي للإمام محمد عبده
ترك – رحمه الله – مؤلفات علمية تدل على سعة علمه وصائب رأيه، وتوضح منهجه فى التفكير ومشربه فى الإصلاح وجنوحه إلى الاجتهاد، ومن هذه المؤلفات:
- 1- تفسير القرآن الكريم من فاتحة الكتاب إلى آخر سورة النساء، والذي سار على نهجه الشيخ رشيد رضا إلى أن وصل إلى سورة يوسف.
- 2- رسالة التوحيد.
- 3- رسالة العلم والمدنية بين الإسلام والنصرانية.
- 4- شرح نهج البلاغة.
- 5- شرح مقامات بديع الزمان.
ومع هذه المؤلفات القيمة فلقد ترك رجالا نابغين مرموقين ، منهم من تلقى عنه ولازمه مثال : الشيخ رشيد رضا والشيخ حسونة النواوى والشيخ عبد الكريم سليمان، ومنهم من حمل فكره ونهج منهجه فى الإصلاح الديني مثال : الشيخ عبد المجيد سليم والشيخ مصطفى عبد الرازق والشيخ محمد مصطفى المراغى والشيخ عبد الرحمن قراعة والشيخ محمد شلتوت، وغيرهم كثيرون كان لهم دور بار فى تجديد الفكر الاسلامى وتصحيح مساره، وتنقيته من البدع والخرافات فضلا عن أتباعه فى مجالات السياسة والقضاء والفتوى والصحافة.
بهذا العرض الموجز لمبحثي التمهيد للرسالة يتضح مسار الدعوة الاسلامية عبر التاريخ وحتى نشأة الجمعيات الاسلامية، كما يبرز دور الحركات الفكرية والدعوات الإصلاحية كالوهابية والسنوسية والأفغانية، وإصلاحات الإمام محمد عبده .
ولقد أثمرت هذه الأفكار مجتمعة اليقظة الاسلامية التى وقفت تصارع موجات التبشير والاستعمار، وتعيد الإسلام سالف مجده، كما سيتضح خلال أبواب البحث إنشاء الله.
وبعد الفراغ من التمهيد السابق تبدأ بعون الله وتوفيقه فى " أبواب الرسالة وفصولها".
الباب الأول أسباب نشأة الجمعيات الاسلامية
إن ظاهرة بروز الجمعيات الاسلامية خلال القرن الرابع عشر الهجري لم تكن أمرا عارضا عبر مسيرة الدعوة، أو ظاهرة إسلامية طارئة ، أو انفصالا موقوتا، جمع بين عدد من المسلمين ثم ما لبث أن انطفأت جذوته، ولم تكن وليدة فكرة عدد من الدعاة ارتبطت بهم فى حياتهم واندثرت بموتهم.
بل كانت رد فعل لتلك الأنشطة المحمومة فإذا بالسهام تنتابهم من أعدائهم، ومن بعض بنى جلدتهم الذين تربوا على موائد الاستشراف والتبشير والاستعمار، ووصل التحدي للإسلام إلى غاية لا يمكن السكوت عنها، حيث خيل لأعدائه أنهم قد طوقوه وأجهزوا عليه.
وإذا بالجمعيات الاسلامية تظهر خلال هذا القرن تحمل لواء الإسلام.
هذا ولقد كانت هناك عوامل متعددة وأسباب كثيرة دفعت لقيام الجمعيات الاسلامية ، مما سأوضحه خلال الفصول التالية إن شاء الله.
الفصل الأول الاستشراف– التبشير – الاستعمار
إن الصراع بين الإسلام وأعدائه ليس وليد اليوم ولا الأمس القريب، ولكنه أحقاد كامنة وثأر قديم وغل دفين، فتاريخ الإسلام مثخن بالجراح الدامية من أعدائه، ولولا أن الله تكفل بحفظه وتعهد ببقائه لأصبح أثرا بعد عين ، ولأسدلت عليه ستائر النسيان،
ولاعتراه ما اعترى الأديان الأخرى من التحريف والتبديل، فمنذ أن تلقى الكفر الضربات الموجعة القاتلة فى بدر وأحد والخندق والقادسية واليرموك وحطين وعين جالوت والأندلس والقسطنطينية ، وأعداء الإسلام يتحينون الفرص للإجهاز عليه.
ولقد اكتشفوا أنهم حينما يلجئون إلى ميدان النصر أو الشهادة، وهم فى معاركهم ينطلقون م وح دينهم مستجيبين لنداء الله : " انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون".
وهكذا وجد أعداء الإسلام هجماتهم تنحسر ، وحملاتهم الصليبية والتتارية تتحطم على صخرة الإسلام، فلجئوا إلى أساليب ماكرة وطرق خبيثة للنيل من الإسلام وهدم كيانه داخل عقل المسلم ووجدانه، وذلك بالاستشراف والتبشير والاستعمار، وإن اختلفت هذه المسميات وتنوعت أعمالها،
فإنه يجمعها أمل واحد وغاية مشتركة عبر عنها مستر غلادستون رئيس وزراء انجلترا فى مطلع القرن العشرين، حينما قال: " إن العقبة الكئود أمام استقرارنا فى الشرق شيئان، ولابد من القضاء عليهما مهما كلفنا الأمر : ( القرآن والكعبة).
" والتبشير والاستشراف كلاهما دعامة الاستعمار فى مصر والشرق الاسلامى فكلاهما دعوة إلى توهين القيم الاسلامية والغض من اللغة العربية الفصحى، وتقطيع أواصر القربى بين الشعوب العربية، وكذا بين الشعوب الاسلامية والازدراء بها فى المجالات الدولية".
الفرق بين الاستشراف والتبشير
توجد فوارق بين الاستشراف والتبشير منها:
- 1- أن الاستشراف أخذ طابع البحث العلمي فاستخدم الكتاب والمقال فى المجالات العلمية ، وتسلل إلى كرسي التدريس فى الجامعة.
- 2- أما التبشير فقد غزا العقول بالخدمات الاجتماعية ، كبناء الملاجئ والمستشفيات والإرساليات الطبية وكذلك رياض الأطفال.
هذا وإذا ما كنا بصدد ذكر دوافع قيام الجمعيات الاسلامية ، فإنه يجدر أن نعرف بكل من الاستشراف والتبشير والاستعمار باعتبارهم من أسباب نشأة الجمعيات.
أولا: المستشرقون
عرف المفكر الألماني المعاصر " رويدى بارت " الاستشراف فقال :
كلمة الاستشراف مشتقة من الشرق، وهى تعنى مشرق الشمس وعلى هذا يكون الاستشراف طلب معرفة علوم الشرق".
وعرف المستشرق فقال " إنه عالم غبي يهتم بالدراسات الشرقية" .
ويدور الجدل بين المؤرخين حول البداية الحقيقية للاستشراف ، وتوجد آراء كثيرة أرجح منها الرأي القائل بأنه منذ كان المسلون بالأندلس أصحاب حضارة متألقة وأرباب رسالات سامية، وكانت أوربا تعيش فى ليل بهيم من التأخر والتخلف،
يقول جوستاف لوبون: " كان الشرق يتمتع بحضارة زاهرة بفضل العرب، وأما الغرب فكان غارقا فى بحر من الهمجية ، ولم يكن عند أولئك البرابرة ما يفيد الشرق، ولم ينتفع الشرق منهم بشيء من الحقيقة".
ومن ثم اتجهت أوربا صوب ديار الإسلام، لا سيما الأندلس التى كانت على مشارف أوربا ، فأرسلت طلابها ليتزودوا من الحضارة الاسلامية المتألقة، ومن أوائل هذه البعثات:
" بعثة فرنسية برئاسة ابنة خالة لويس السادس ملك فرنسا، وبعثة إنجليزية على رأسها ابنة الأمير جورج صاحب مقاطعة ويلز،
كما أرسل الملط فيليب ملك بافاريا إلى هشام الأول يستسمحه فى إيفاد هيئة لبلاد الأندلس، لدراسة أنظمتها وشرائعها" ويعتبر الاستشراف فى هذه الفترة استشراقا علميا، واستكشافا لما لدى المسلمين من علوم ومعارف، والوقوف على أسباب تقدمهم.
ثم تطور أمر الاستشراف خلال وبعد الحرب الصليبية، فقد استعظمت أوربا تقهقرها أمام جيوش المسلمين، واندحار ملوكها ونبلائها وخزي رهبانها وباباواتها، الذين سعروا نيران الحرب باسم الصليب، فاتجه المستشرقون إىل حرب صليبية جديدة، ولكنها تقنعت بقناع العلم، واختفت تحت حجب المعرفة،
قال الأب اليسوعي ميبز: " إن الحرب الصليبية الهادئة التى بدأها مبشرونا فى القرن السابع عشر لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا ".
أ- الحيلولة بين الشعوب الأوربية والاسم خاصة بعد الاتصال المباشر بالمسلمين خلال الحروب الصليبية وتأثر الحركات الإصلاحية فيها بالإسلام والمثال على ذلك جماعة فرسان المعبد التى حاصرت دمشق إبان الحملات الصليبي ومن المنطلق أن الضعيف يقلد الأقوى.
والمستعمر يقتدي بالمستعمر ولكن الذى حدث من جماعة فرسان المعبد خلاف ذلك فلقد اعتنقت الإسلام فطردت من رحمة الكنيسة فغيرت اسمها إلى جماعة الصليب الوردى الذى كان مارتن لوثر أحد أعضائها هذا بجانب تأثر أوربا بالإسلام من خلال الاتصال بالأندلس.
لهذا خشي رجال الدين فى أوربا من تسرب الأفكار الاسلامية إليها يقول لورانس براون: " إذا اتحد المسلمون فى إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرا أما إذا ظلوا متفرقين فإنهم يصبحون لا وزن لهم ولا تأثير".
ب- استهدف الاستشراف التمهيد لاحتلال البلاد الاسلامية وتحقيق حلم أوربا بإقامة إمارات صليبية فى الشرق تستولي على بين المقدس هذا الأمل الذى تبدد تحت أسنة المجاهدين فى الحروب الصليبية يقول اليسوعيون : " ألم نكن نحن ورثة الصليبيين ؟أو لم نرجع تحت راية الصليب لنستأنف التسرب التبشيري والتمدين المسيحي ولنعيد فى ظل العلم الفرنسي وباسم الكنيسة مملكة المسيح".
منهج الاستشراف لتحقيق أهدافه
يذكر الأستاذ أنور الجندي خطورة الاستشراف فيقول: " لعل أخطر آثار الاستشراف هى أنه يجرى من الفكر الاسلامى مجرى الدم، فليس هدفا ظاهرا محسوسا يمكن التحكم ففيه،
ولكنه شيء خطير يسرى فى النفس العربية والإسلامية عن طريق مخططات محكمة لا تكشف فى ظاهرها عن سرها وهدفها، إنه محاولة خطيرة لزرع اليأس والقنوط فى النفس العربية والإسلامية حتى لا تؤمن بذاتها ولا تثق بكيانها ولا تغار على ترابها أو لغتها أو عقيدتها".
ولقد سلك المستشرقون عدة طرق لتحقيق أهدافهم التى هى نفس أهداف التبشير والاحتلال ،
ومن هذه الرسائل ما يلى:
- 1- محاولات الهمز واللمز فى القرآن الكريم وترويج أن القرآن ليس من عند الله يقول جون تاكلى:" يجب أن نستخدم القرآن وهو أمضى سلاح فى الإسلام ضد الإسلام نفسه لنقضى عليه تماما، يجب أن نرى هؤلاء الناس أن الصحيح فى القرآن ليس جديدا والجديد فيه ليس صحيحا، ومن ثم اتجهوا إلى ترجمة القرآن للغة اللاتينية ، حتى يسهل مناقشته وإثارة الجدل حوله.
- " ففي عام ( 1122 م ) قام الراهب بطرس الفنرايلى ، رئيس دير كوكونيا بفرنسا ، بالدعوة لترجمة القرآن ، فقام بهذه الترجمة راهبان عام ( 1143 م ) وظلت هذه الترجمة مخطوطة فى عدة نسخ تتداولها الأديرة، حتى طبعت فى مدينة ( بال ) بسويسرا عام ( 1543 م ) .
- 2- عمدوا إلى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم فروجوا حولها الأباطيل، وأثاروا الشبهات حول عدد من القضايا مثل : زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع، وتعدد الزوجات فى الإسلام والطلاق والميراث والرق ، وفرية انتشار الإسلام بالسيف بل مضوا إلى أبعد من هذا ، فزعموا أن الإسلام شتات متجمع من النصرانية والوثنية.
- قال مستشرق يدعى نلنسن: " إن الإسلام مقلد وأحسن ما فيه مأخوذ من النصرانية، وسائر ما فيه من الوثنية".
- 3- الهجوم السافر على اللغة العربية الفصحى، وإشاعة أنها لا تواكب علوم العصر ومخترعاته، وكانوا وراء انتشار اللهجات المحلية وتشجيع العامية وتوجيه الاهتمام باللغات الأوربية.
- هذا ولقد ولع عدد من المصريين بآراء المستشرقين والمبشرين منهم دعاة العلمنة والتغريب، وسيتناولهم البحث فى فصل خاص إن شاء الله .
- 4- وصف الخارجين على الإسلام من المسلمين بالثوريين وتصويرهم بأنهم طلاب عدل ودعاة إصلاح، كالخوارج والقرامطة والباطنية ، ويبدو هذا واضحا من خلال اهتمامات المستشرقين بنشر وتحقيق كتبهم وما يتصل بهم، كذلك عنوا بنشر شعر الغزل والمجون ، فصدا من وراء ذلك لتشويه تاريخ الخلفاء المسلمين.
- 5- الطعن والتشويه للتاريخ الاسلامى وإبراز صورة العرب المسلمين بأنهم متعطشون للدماء، وأنهم أخضعوا العالم بقوة السيف ويبدو هذا من خلال كناياتهم مؤلفاتهم مثال: جورجى زيدان ، ويعقوب صروف ، وجولد تسهير بهذا يتضح أن الاستشراف وراء كل شبهة،
ومن الخطر الواضح أن الباحثين يعتبرون آراءهم ومؤلفاتهم مراجع يعتمد عليها، وحقائق يؤخذ بها، لا سيما فى الجامعات الأوربية التى بها أقسام للدراسات الشرقية والإسلامية.
هذا وإذا كانت السمو الغالبة للمستشرقين يغلب عليها الحقد الأسود والغل الدفين، فإن فئة قليلة منهم تحرت الحق فى كتاباتها ،
ولم تغمس أقلامها فى مستنقع التعصب ضد الإسلام، بل كتبت عن الإسلام كتابة حقة ومنصفة، واعتنق عدد ليس بالقليل منهم الإسلام.
ولقد صنف الدكتور محمد البهي فى بحثه عن الإسلام والمستشرقين اتجاهاتهم وعرف الخطير منهم. وحذر من مؤلفاتهم ، كما أوضح من اعتدل فى رأيه واعتنق الإسلام مما لا مجال له فى بحثي هذا.
ثانيا: المبشرون
إن الفصل بين الاستشراف والتبشير أمر عسير، لأن كثيرا من المستشرقين انتقلوا إلى ميادان التبشير ، كما أن بعض المبشرين كانوا مستشرقين، غير أنه يجمعهم هدف واحد: " القضاء على الإسلام والتمكين لبنى جلدتهم فى ديار المسلمين". ولقد كان التبشير خلال القرن التاسع عشر مقصورا على الدعوة إلى المسيحية ، أما فى القرن العشرين فلقد اجتمع كل الأعداء للإجهاز على الإسلام فى غزوة تبشيرية شرسة، تدير رحاها المسيحية واليهودية والشيوعية. ولكي نقف على حقيقة التبشير وعملائه، يجدر بنا أن نلقى نظرة موجزة على تاريخه لكي تتضح عوامل قيام الجمعيات الاسلامية.
تاريخ التبشير
إن تاريخ التبشير يرجع إلى الحروب الصليبية. ففي القرن الثالث عشر الميلادي غادر راهب اسمه " سان فرنسكو" وطنه ورحل إلى الشرق مبشرا بالمسيحية، فى معسكر الملك الكامل بمدينة دمياط ثم أرسل الباب بيوس الثاني عقب سقوط القسطنطينية عام ( 1453 م ) رسالة إلى السلطان العثماني، يدعوه فيها إلى اعتناق المسيحية. وأما بالنسبة لتاريخ التبشير فى مصر، فيرجع إلى عام ( 1854 م )، حيث أسس أول معهد للتبشير أسسته جمعية اتحاد مبشري أمريكا.
ولقد تمكن التبشير فى مصر إبان حكم الخديوي إسماعيل، الذى أعلن أن مصر قطعة من أوربا وأقام المحاكم المختلطة، والمحاكم الأهلية محل القضاء الاسلامى، ومنح الدول الأوربية امتيازات كبيرة أودت باستقلال مصر.
كذلك منح إرساليات التبشير امتيازات كثيرة وأغدق عليها الأموال الضخمة.
" فلقد أعطى لرئيس أساقفه اللاتين ( 3500) ذراع من الأرض لبناء مؤسسة تبشيرية كما أعطى الراهبات إعانة سنوية تقدر بستة آلاف فرنك من الذهب " فى الوقت نفسه كان راتب العالم الأزهرى لا يتجاوز مائة وخمسين قرشا فى الشهر،
وفى عام ( 1882 م ) أسس فى مصر معهد علمي، تابع لجمعية تبشير الكنيسة، وله أربعة أقسام.
- الأول : مدرسة للصبيان.
- الثاني : مدرسة للبنات.
- الثالث: لنشر الإنجيل.
وفى عام ( 1892 م ) أنشأت جمعية تبشير شمال أفريقيا معهدا لها فى مصر، ومن أعمال هذا المعهد فتح المدارس، وأن تزور المبشرات منازل المسلمين ويجتمعن بنسائهم، ولقد نجح هذا المعهد فى تنصير خمسة أفراد.
وفى عام ( 1892 م ) أسست الجمعية العامة للتبشير فى مصر وغايتها تنصير المسلمين ، ولقد أنشأت عدة مراكز للاستشراف والتبشير فى مصر ومن هذه المراكز:
- 1- المعهد الشرقي.
- 2- ندوة الكتاب.
- 3- دار السلام.
- 4- المعهد الفرنسي.
- 5- الجامعة الأمريكية والتي أسست عام ( 1919).
وأنشئت فى الستينات جمعية الصداقة المصرية الروسية ومجلس السلام العالمي ، " بجانب أندية الروتارى الدولي، والتي هى بديل للمحافل الماسونية، فضلا عما تقوم به السفارات والقنصليات من أنشطة ضخمة لتحقيق أهدافها".
" وللفاتيكان عشرات المدارس الدينية فى مصر، لها أسماء مختلفة بأسماء عدد من القديسين، أو أسماء دينية مسيحية كالسكرتير والمردية، والفرير والجزويت، والتوجيه فيها يخضع لمجلس يرأسه القاصد الرسولى فى مصر، وهو ممثل دولة الفاتيكان".
ولقد عقد عدد من المؤتمرات التبشيرية، لرسم سياسة التنصير فى العالم الاسلامى ومن هذه المؤتمرات:
- مؤتمر ادنبرج ( 1910 م ).
- مؤتمر بتليوم بأمريكا عام ( 1942 م ).
- مؤتمر امستردام عام ( 1948 م ).
- وايفانستين عام ( 1954 م ).
- ونيودلهى عام ( 1961 م ).
- جاكرتا عام ( 1975 م).
وإن أخطر هذه المؤتمرات مؤتمر القاهرة، الذى عقد فى منزل الزعيم أحمد عرابى عام ( 1906 م )، وسأتناول إن شاء الله هذا المؤتمر وتوصياته، لأنه المنطلق الذى انطلق منه المبشرون لتحقيق أهدافهم فى ديار الإسلام، وما زالت قراراته وتوصياته تنفذ حتى الآن، وإن اختلف الأسلوب التنفيذ وفق تطورات الزمن.
أولا " عقد هذا المؤتمر فى منزل عرابى، وفى عقده فى هذا المنزل بالذات تحد لمشاعر الأمة الاسلامية ،اشترك فى هذا المؤتمر مندوبو إرساليات التبشير الأمريكية فى الهند وسوريا والبلاد العثمانية، وفارس ومصر ومندوبو إرساليات التبشير الانجليزية والألمانية والهولندية، والسويدية، والدنماركية وانتخب القس زومير رئيسا للمؤتمر.
موقف المؤتمر من الأزهر ومدرسة الإمام محمد عبده:
- مما لا جدال فيه أن الأزهر من خلال تاريخه العريق، يقف شامخا يدافع عن الدين فى عزة وإباء، ولطالما حاول الاستعمار أن ينال من علمائه، طورا بالملاينة وطورا بالعنف والقسوة، غير أن هذه المحاولات كانت تتحطم على عتبات الأزهر.
- ولقد حاول المبشرون خلال هذا المؤتمر أن يجدوا منفذا إلى قلب هذا الحصن المنيع، غير أنهم لم يجدوا لذلك من سبيل سوى الكيد والتآمر، فيتحدث أحد أعضاء هذا المؤتمر عن الأزهر ورجاله،
وتساءل عن سر نفوذ هذا الجامع منذ ألف سنة غلى الآن فقال: " إن السنيين من المسلمين رسخ فى أذهانهم أن تعليم العربية فى الجامع الأزهر متقن ومتين أكثر من غيره، والمتخرجون من الأزهر معروفون بسعة الاطلاع على علوم الدين، وباب التعليم مفتوح فى الأزهر لكل مشايخ الدنيا، وأن أوقاف الأزهر الكثيرة تساعد على التعليم مجانا".
ولقد عرض هذا المؤتمر اقتراحا بإنشاء جامعة نصرانية تقوم الكنيسة ببنائها، وتكون مشتركة بين كل الكنائس المسيحية فى الدنيا على اختلاف مذاهبها ، لتتمكن من مزاحمة الأزهر بسهولة، وتتكفل هذه المدرسة الجامعة بإتقان وتعليم اللغة القبطية".
ولقد كانت الجامعة الأمريكية والتي أسست عام ( 1919 م ) أولى بوادر تحقيق آمالهم، وما زال الأمل فى إنشاء جامعة نصرانية يراود النفوس، ويعمل له فى هدوء وحذر،
ولقد انزعج أعضاء المؤتمر من النشاط الديني بين أوساط المثقفين من تلامذة الإمام محمد عبده فقال سكرتير المؤتمر: " إن الخطة العدائية التى انتهجها الشبان المسلمون المتعلمون اضطرت المبشرين فى القطر المصري إلى محاولة إعادة ثقة الشبان المسلمين بهم،
فصار هؤلاء المبشرون يلقون محاضراتهم فى موضوعات اجتماعية وخلقية وتاريخية لا يستطردون فيها إلى مباحث الدين، رغبة فى جلب قلوب الملمين،
وأنشئوا مجلة أسبوعية اسمها " الشرق" وأسسوا مكتبة لبيع الكتب التى تضم سمومهم بأثمان زهيدة، هذا ولقد وضع المؤتمرون وسائل لتحقيق أهدافهم ومن هذه الوسائل ما يلى:
- 1- يجب ألا يثار نزاع مع مسلم.
- 2- يجب ألا يحرض المسلم على الموافقة والتسليم بمبادئ النصرانية إلا عرضا، وبعد أن يشعر المبشر بأن الشروط
الطبيعية والفعلية والروحية قد توافرت فى ذلك المسلم.
- 3- يجب إقناع المسلمين بأن المبشرين ليسوا أعداءهم.
- 4- نشر الكتاب المقدس بلغة المسلمين.
- 5- تبشير المسلمين ينبغي أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم، ومن بين صفوفهم لأن الشجرة ينبغى أن يقطعها أحد أعضائها.
- 6- ينبغي للمبشرين ألا يقنطوا إذا رأوا نتيجة ضعيفة لتبشيرهم المتواصل للمسلمين، إذ من المحقق أن يكون قد نما فى قلوبهم الميل إلى علوم الأوربيين".
وبجانب هذه الوسائل آنفة الذكر التى وضعها مؤتمر القاهرة عام ( 1906 م ) فلقد انتهج المبشرون عدة قواعد لتحقيق غاياتهم ومنها ما يلي:
- أولا: التسلل إلى المراكز العلمية والعربية والإسلامية ، فالمجمع اللغوي فى مصر من أعضائه " جب " ، وهو أكبر مستشرق إنجليزي وله كتابات خطيرة ضد الإسلام، " ولويس ماسينون" من كبار مستشرقي ومبشرى فرنسا،
- وكان يرعى الجمعيات التبشيرية الفرنسية فى مصر. ومرجيليوث وهو إنجليزي متعصب ضد الإسلام، ونيكلسون من أكبر مستشرق الانجليز المتهجمين على الإسلام.
- ثانيا: استمالة كبار المفكرين تحت أسماء براقة كالحوار الاسلامى المسيحي،
ولقد بلغ عدد مراكز الحوار مع المسلمين فى مصر ثلاثة مراكز:
- الأول : معهد الدومينكان للدراسات الشرقية تحت إشراف القس قنواتي، الذى يلتقي عنده الأساتذة والطلبة الجامعيون.
- الثاني: المركز الثقافي ويعرف باسم مؤتمر الثلاثاء، أسسه لويس ماسينون ومارى كارهل عام ( 1940 م ).
- الثالث: رابطة أسست عام ( 1941 م ) وجمعت بين المسلمين والنصارى تحت اسم " الأخوة المخلصون" وقيد نشاطها عام ( 1952 م ) ، ثم عادت لتنعقد لقاءاتها عام ( 1975 م ).
- ثم محاولة إنشاء مجمع الأديان فى سيناء فضلا عن المؤسسات التبشيرية كنادي القلم وأندية الروتارى الدولي.
- ثالثا: فتح المدارس الأجنبية والمعاهد العلمية فى بلاد الإسلام وخاصة رياض الأطفال.
- رابعا: إنشاء المستشفيات ودور التمريض وملاجئ العجزة والأيتام،
- قال الدكتور أراهارس: " يجب على طبيب إرساليات التبشير ألا ينسى ولا لحظة واحدة أنه مبشر وقبل كل شيء ، ثم هو طبيب بعد ذلك".
- خامسا: الدعوة إلى إحياء الحضارات القديمة كالآشورية والفينيقية والفرعونية،
- ولقد ذكر الدكتور محمد حسين فى كتابه: " إن المليونير اليهودي " روكفلر" أوفد عام ( 1926 م ) " برستو " صاحب كتاب انتصار الحضارة ليعرض على مصر عشرة ملايين من الدولارات لتأسيس معهد الدراسات الفرعونية ، ليعين على سلخ مصر من عروبتها وإسلامها".
- ولقد أثمرت هذه الدعوات وأصبح لها دعاة كسلامة موسى، ولويس عوض، ولطفي السيد، وطه حسين الذين يدعون إلى الحضارة الفرعونية التى اندثرت، ولم يبق منها سوى هذه الأصنام المتناثرة فى الصحراء.
- سادسا: هيمنة المبشرين وعملائهم على أجهزة الإعلام، والصحافة التى منذ نشأتها يديرها نصارى الشام، فالأهرام مؤسسها بشارة تكلا والمقتطف والهلال والجامعة يحررها " سركيس " وجورجي زيدان، والدكتور شبلي شمبل ، والجريدة، ورئيسها لطفي السيد، والإذاعة التى كانت فى بدايتها أهلية لصاحبها " ماركونى" ، كذلك استغلت السينما والتلفاز
استغلالا سيئا ضد الإسلام، وما زال المسلمون يجنون أشواك هذه الأجهزة .
- سابعا: تحطيم الأسرة المسلمة بدعوى تحرير المرأة ودعوتها إلى السفور والاختلاط، والتي بدأت بدعوة قاسم أمين ومدرسة العلمنة والتغريب، وسارت المرأة شوطا كبيرا فى الطريق الذى سمه لها دعاة السفور، الذين تنكروا لدينهم وتربوا على موائد الاستشراق والتبشير ، فضلا عن محاولات الشيوعية والصهيونية ، لتطويق العالم الاسلامى والقضاء عليه. لقد كانت هذه الهجمة الشرسة عاملا رئيسيا فى ظهور الجمعيات الاسلامية التى كان لبعضها دور بارز ونشط، لمواجهة الاستشراق والتبشير، مما سأوضحه إن شاء الله، فالإخوان المسلمون كانوا يلاحقون التبشير ومؤسساته فى مدن مصر وقراها.
ولقد سلكوا طريقين لإحباط محاولاتهم:
- الأول : إفهام المسلمين ما يستهدفون له من خطر الاتصال بالإرساليات التبشيرية.
- الثاني: الوسائل العملية من جنس ما عمله المبشرون فأنشئوا المدارس والعيادات الطبية، ولم يكتفوا بهذا بل رفعوا مذكرة إلى الملك فؤاد فى صفر عام ( 1352 هـ ) تطالب بوقف النشاط التبشيري.
أما الشبان المسلمون فقدم رئيسها المرحوم عبد الحميد سعيد استجوابا فى مجلس النواب إلى كل من وزيرا الداخلية والحقانية ( العدل) ، عن نشاط المبشرين، كما قامت الجمعية برفع مذكرة إلى الملك فاروق للتنبيه على خطورة الإرساليات التبشيرية.
وقبيل الحرب العالمية الأولى أنشئت جمعية الرد على المبشرين بالخرنفش بالقاهرة.
وإن المستعرض للمجلات الاسلامية خلال ا لقرن المنصرم، ليقف على مدى التصدي بالكلمات المقروءة فحسب، لتوضيح أخطار الاستشراق والتبشير، ولكن هذه الجمعيات لم تستطع أن تنافسه فى ميدان التعليم والخدمات الاجتماعية إلا فى النزر اليسير، كما سيتضح إن شاء الله.
ثالثا: الاستعمار
كان المستشرقون والمبشرون هم طلائع الاحتلال العسكري للبلاد الاسلامية، فلقد مهدوا بأبحاثهم ومراكز تبشيرهم وإرساليتهم الطبية والتعليمية والاقتصادية للغزو العسكري، وذلك بما نجحوا فيه من توهين الدين فى النفوس بالأساليب سالفة الذكر،
وبما اصطنعوه من عملاء لهم من بعض المسلمين ، الذين ذهبوا إلى أوربا وتشربوا مبادئها، ثم عادوا لبلادهم ينكرون الدين واللغة، وذلك بالتشكيك فى الإسلام والزراية والتنفير منه، هذا ولقد مر احتلال ديار الإسلام بمرحلتين: المرحلة الأولى:
تطويق ديار الإسلام بالسيطرة على سواحلها وانتزاع السيادة البحرية منها، ولقد بدأت هذه المرحلة بحركات الكشف التى قادها البرتغال والأسبان، والتي أبرزت أسماء فاسكودى جاما، وهنرى الملاح، وكانت هذه المرحلة امتدادا لمخططات مدروسة فى عام ( 1249 م ) ، رفعت غلى ملك فرنسا وثيقة ترسم له خطة حربية للسيطرة على عالم الإسلام بشق قناة فى برزخ السويس ، تكون ملكا للعالم الغربي كجزء من خطة الحروب الصليبية.
ولقد استطاعت البرتغال خلال الفترة من( 1420 إلى 1542 م ) انتزاع السيادة الاسلامية على المحيط الهندي، وتحويل التجارة إلى رأس الرجاء الصالح، وتأسست شركة الهند الشرقية التى مهدت للاستعمار الانجليزي احتلال الهند، والسيطرة على جنوب شرق آسيا.
المرحلة الثانية: الاحتلال العسكري:
- ما كاد ينتهي القرن الثالث عشر الهجري وتشرق شمس القرن الرابع عشر، إلا كانت ديار الإسلام ترزخ تحت نير الاستعمار، فلقد احتلت انجلترا الهند ومصر والسودان والعراق وفلسطين وعدن، وغزت فرنسا الجزائر وتونس والمغرب وسوريا ولبنان، واستعمرت إيطاليا ليبيا، وتمكنت هولندة من إندونيسيا والملايو،
- وتعرضت بلاد فارس للغزو الروسي إبان عصر القياصرة، وانتزعوا ما وراء القوقاز، فضلا عما قامت به روسيا البلشفية من القضاء على الجمهوريات الاسلامية فى آسيا، كبخارى وسمرقند وبلوكستان، وأخيرا الغزو الروسي لأفغانستان واحتلالها.
- ولك يكتف الاستعمار بتمزيق العالم الاسلامى وإسقاط الخلافة الاسلامية، بل اصطنع كيانا غريبا فى قلب العالم الاسلامى، هذا الكيان هو دولة إسرائيل، لتكون حاجزا بين مسلمي آسيا وأفريقيا، وخنجرا مصوبا لكل يقظة إسلامية تعيد للإسلام مجده،
ولقد مهد لنشأة إسرائيل بما يلي:
- 1- المؤتمر الصهيوني الذى عقد فى مدينة بال بسويسرا عام ( 1897 م ) ، برئاسة اليهودي هرتزل.
- 2- محاولة إغراء السلطان عبد الحميد بواسطة نائب سالونيك ( قره صو) اليهودي ، ولكن السلطان رحمه الله طرده، فما كان من القوى اليهودية والاستعمارية إلا أن تآمرت على خلعه وإسقاط الخلافة كما سيأتي.
- 3- وعد بلفور عام ( 1917 ) الذى وعد بتمكين اليهود من وطن لهم فى فلسطين.
4:- وضع فلسطين تحت الانتداب الانجليزي عقب الحرب العالمية الأولى، والسماح بهجرة اليهود إليها، فكونوا عصابات الهاجانا، والتي مهدت بمذابحها الرهيبة لإعلان دولة إسرائيل ( 1948 م ).
- 5- إبعاد الإسلام عن ساحة الصراع العربي الاسرائلى، ففي الوقت الذى يلتف اليهود حول اسم إسرائيل نسبة غلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليم جميعا الصلاة والسلام .
يتعمد إغفال الإسلام عن التصدي لهذا ، وبسبب غياب الإسلام عن الميدان انتزعت إسرائيل انتصاراتها عام ( 1948 م ثم 1956 وعام 1967 م ) ، ثم أوقفت هذه الانتصارات حينما رفع المسلمون شعاري الله أكبر، وبدر ، فى العاشر من رمضان، وما زال هذا الصراع تدور رحاه وتشتد وطأته حتى يأذن الله بنصر من عنده،
وحتى لا يتحقق ما ذكره أحد زعماء اليهود فى قوله: " مهمتنا سحق الحضارة الاسلامية وإحلال الحضارة العبرية محلها والمهمة شاقة وعسيرة " ، ولقد خيل لأعداء الإسلام أنهم قد أجهزوا على الكيان الاسلامى ومزقوه شر ممزق، وأنهم قد أطفئوا نار الحروب الصليبية،
حينما قال اللورد اللنبى عندما سقطت دمشق: " والآن انتهت الحروب الصليبية ها نحن أولاء قد عدنا يا صلاح الدين" ولكن الذات الاسلامية ترفض التبعية والشخصية الاسلامية تأبى الذلة والاحتلال، فاشتعلت الثورات على امتداد العالم الاسلامى، تطالب بحريتها وتصون إسلامها، وأعلن المسلمون الجهاد،
وتسابقوا إلى شرف الاستشهاد ، وكان من أهم ملامح هذه النهضة الاسلامية بروز الجمعيات الاسلامية ودعوتها للجهاد فى سبيل الله مرددين: " الاستشهاد فى سبيل الله أسمى أمانينا".
وتنوع جهاد كل جماعة وفق ظروفها وإمكاناتها، فجماعة الإخوان المسلمين شاركت عبر تاريخها فى الكفاح ، وكان أبرزه فى حرب فلسطين عام ( 1948 م ) وأقلقت مضاجع الاستعمار على ضفاف القناة عام ( 1951 م ) ووضع مرشدها العام المرحوم حسن البنا دعاء يقنتون به فى صلواتهم سائلين الله النصر على الانجليز كما سيأتي.
والجمعية الشرعية التزم أعضاؤها بمقاطعة المنتجات الأجنبية ، وأنشئت مصانع يدوية لتصنيع ملابس أعضائها.
وجمعية الشبان المسلمين تدعو للجهاد والتبرع بالمال، وعقدت المؤتمرات التى تساند المجاهدين، وتكون دارها ملتقى المكافحين من كل وطن إسلامي. وهكذا كان الاستشراق والاستعمار من الأسباب المباشرة لنشأة الجمعيات الاسلامية.
الفصل الثاني سقوط الخلافة الاسلامية
الخلافة لغة:
- كما قال الراغب الأصفهاني هى نيابة عن الغير، إما لغيبة المنسوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه، وإما لتشريف المستخلف.
وفى الاصطلاح:
- هى رياسة عامة فى الدين والدنيا، وقوامها النظر فى مصالح المسلمين وتدبير أمور الدولة، والإمام نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم فى الدعوة بتنفيذ أحكامه وفى الدنيا بتدبير شئون الخلق، وعقدها لمن يقوم بها واجب بإجماع الأمة ، واختلف فى وجوبها هل هو وجوب عقلي أو شرعي؟ فقال جماعة بالوجوب العقلي لما فى طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم.
قال شاعر جاهلي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
- ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وقالت جماعة أخرى إنها وجبت بالشرع دون العقل، هذا ، ولقد أفردت كتب الفقه وأصوله مباحث حول الخلافة وشروطها، ومتى تنعقد البيعة، وما يجب على الخليفة، وما يجب له مما هو مبسوط فى كتب الفقه مما ليس مجال بحثي.
هذا ومنذ انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ومبايعة أبى بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة فى سقيفة بنى ساعدة وحتى إلغاء الخلافة عام ( 1924 م ) ن لم يخل عصر من عصور المسلمين من خليفة يتولى شئون المسلمين، فيوحد كلمتهم ويجمع صفوفهم ويجاهد بهم، وكانت دعوة الخليفة للجهاد يتداعى لها المسلمون جميعا، وتلقى الرعب فى قلوب أعداء الإسلام،
وكان يعترى الخلافة فى بعض الأحيان الضعف والذبول ، حتى كان الخليفة لا يملك من أمر نفسه شيئا، ولكن ما تلبث الخلافة حينما يتولاها حاكم مسلم قوى أن تدب فيها الحياة، وتصبح كشجرة ضخمة يستظل بها الرعية.
ولقد آلت الخلافة الاسلامية لسلاطين آل عثمان، الذين حملوا رايات الجهاد ولم يكتفوا بموقف الدفاع عن ديار الإسلام، بل انطلقوا إلى الفتوحات الاسلامية التى كادت تتوقف منذ الدولتين الأموية والعباسية، ففتحوا القسطنطينية على يد محمد الفاتح، والتي كان فتحها أملا يراود نفوس المسلمين منذ فجر الإسلام، واستطاعوا أن يصلوا بالإسلام إلى فيينا عاصمة النمسا،
وحملت الخلافة العثمانية لواء الإسلام فى آسيا وأفريقيا وأوربا، وكانت الخلافة على علاتها رمزا لقوة الإسلام.
وإزاء هذه الخلافة التى هددت أوربا فى عقر دارها، وانتزعت منها لسيادة على البحار والمحيطات، وعوضت الإسلام ما افتقده فى الأندلس، عمل الاستعمار على إسقاط الخلافة العثمانية،
وذلك بالأساليب التالية:
أسباب سقوط الخلافة لعثمانية
كانت هناك عوامل ساعدت على التعجيل بسقوط الخلافة العثمانية وانفراط عقد المسلمين الذين كانوا ينطوون تحت لوائها، ومن هذه الأسباب ما يلي:
أولا: إحياء القوميات المختلفة
كانت دولة الخلافة تنتظم أجناسا كثيرة متعددة المذاهب والعقائد، وتعيش فى كنف الإسلام الذى وحد بين شعوبها وقومياتها، وجعل ولاء المسلم لله ورسوله لا لجنس أو وطن، وجعل معيار التفاضل التقوى: قال تعالى :" إن أكرمكم عند الله أتقاكم" ولقد كان مفهوم الرابطة الاسلامية هو الذى يوحد قلوب المسلمين ومشاعرهن،
ولقد تبلور هذا الشعور إبان حكم السلطان عبد الحميد ، حينما نشطت دعوة جمال الدين الأفغاني فلقد قال السلطان عبد الحميد: " إن بلادنا كانت وستبقى قلعة الإيمان وحصنا لهذا الدين، فإذا زال المفهوم الديني عن الإمبراطورية العثمانية، فقد زالت دولتنا ويجب علينا أن نقوى صلتنا بالبلدان الاسلامية، ولا أمل لنا فى المستقبل إلا بالوحدة، فإن بقاء الوحدة الاسلامية يعنى بقاء إنجلترا وفرنسا وهولندة تحت نفوذنا".
لهذا عمد الاستعمار إلى إثارة النعرات القبلية والشعوبية، وبدأت هذه الدعوات فى أوائل القرن التاسع عشر على ايدى اللاجئين الهولنديين والمجرمين الذين اعتنقوا الإسلام. ووصلوا إلى مناصب خطيرة فى الدولة العثمانية، وكان أحدهم ويسمى " الكونت " قسطنطين بورزيسكى ، الذى سمى نفسه مصطفى جلال الدين باشا ،
وهو أول من أثار النزعات القومية فى كتابه " أتراك الأمس واليوم" ، الذى صدر فى باريس عام ( 1869 ) ولقد شكلت عدة جمعيات للدعوة القومية التركية كجمعية الاتحاد والترقي ، التى تأسست عام ( 1894 )، وجمعية تركيا الفتاة وجمعية " ترك بوردوا" أى وطن الترك، كما قامت حركة أخرى باسم " ترك أوجافى " أي حصول الموقد التركي.
وكان من أهداف هذه الجمعيات ما يلي:
- 1- إبراز الكيان وجذوره القديمة السابقة للإسلام، والدعوة إلى اللغة التركية.
- 2- الاتجاه إلى الغرب اتجاها كاملا.
- 3- الانفصال عن الجماعة الاسلامية والخلافة ومحو الثقافة الاسلامية والعربية.
- 4- النظر إلى الإسلام كمعوق للنهضة، ومحاولة إقامة منهج حضاري بعيد عن الدين.
ولقد نجح أصحاب هذا الاتجاه من الوصول إلى الحكم عام ( 1908 ) وإقصاء السلطان عبد الحميد، ثم اتبع ذلك إلغاء الخلافة عام ( 1924 ) على يد كمال أتاتورك.
وفى الوقت الذى استيقظت فيه الدعوة الطورانية والقومية التركية، ظهر بين العرب تيار جارف إلى القومية العربية، ولقد حمل لواء هذه الدعوة نصارى الشام الذين تخرجوا فى مدارس التبشير والإرساليات الصليبية، يقول جورج أنطونيوس : " نستطيع أن نثبت هنا أن أول صوت أرسلته حركة العرب القومية كان فى جلسة سرية، عقدها بعض أعضاء الجمعية السورية التى أنشأها اليسوعيون عام ( 1857 م ) .
ولقد ساعد على هذا التيار ما ارتكبه بعض الولاة الأتراك من ظلم وقسوة فى البلاد العربية، ثم عمق هذا الاتجاه إلى القومية العربية خلال القرن الرابع عشر الهجري، وكان جل دعاته من غير المسلمين، كفارس نمر صاحب جريدة المقطم، وميشيل عفلق زعيم حزب البعث الاشتراكي.
هذا بجانب إرساليات التبشير التى سعرت نيران الفرقة بين العرب والأتراك، ولقد ترتب على هذه الدعوات ما يلي:
- 1- التفرقة بين المسلم العربي والمسلم غير العربي.
- 2- أصبح الولاء للقومية وللوطن والجنس لا للدين.
- 3- إلغاء أحكام الشريعة الاسلامية.
- 4- كان من أخطر النتائج إبعاد الإسلام عن كل القضايا. فالحرب بين اليهود والمسلمين أبعد الإسلام عمدا عن قيادة معركتها، فضلا عن المعارك الأخرى حيث نحى الإسلام عنها.
ثانيا: دور اليهود فى إسقاط الخلافة
لا شك أن لليهود دورا بارزا فى إسقاط الخلافة، فمنذ إجلائهم عن الجزيرة العربية وهم يبذلون غاية جهدهم لتدمير الإسلام، تارة بالتآمر والاغتيال ومرة بنشر القصص الكاذب والروايات الموضوعة فى التراث الاسلامى،
ولم يكن تآمرهم على الخلافة العثمانية أمرا جديدا عليهم، فقد سبق لهم التآمر على الخلافة الاسلامية الراشدة فكانوا هم المحركين لاغتيال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد غلام فارسي، وهم الذين سعروا نيران الفتنة التى أدت إلى اغتيال عثمان بن عفان، وكان رأس الفتنة عبد الله ابن سبأ اليهودي وهم أيضا كانوا وراء إلغاء الخلافة.
قال الكاتب الروسي " سرجى نيلوس" لابد للأفعى اليهودية من أن تمر بالقسطنطينية ، لتصل إلى فلسطين، ولقد سجل التاريخ أن اليهود الذين هاجروا إلى تركيا، قد دخل كثير منهم الإسلام،
وكان إسلامهم ستارا لتحقيق أهدافهم، ففي سالونيك طائفة منهم يقال لها " الدونمة" ،هاجرت من الأندلس ولقد تسللت هذه الجماعة فى أجهزة الدولة ومنهم: " مدحت باشا حاكم ولاية الدانوب، الذى كان ابن حاخام هنغاري ، وهو الذى أنشأ المدارس اليهودية فى الشرق الدنى، وكان أعضاء حزب الاتحاد والترقي من الدونمة.
ولقد ارتبط التغلغل اليهودي بالمحافل الماسونية، التى زلزلت أركان الخلافة، فلقد كان فى مدينة سالونيك خمسة محافل تضم خمسين ألف يهودى.
ولقد حاول اليهود عقب مؤتمر بال بسويسرا، الذى عقد عام 1998 م ، شراء فلسطين من السلطان عبد الحميد ، وأرسلوا له اليهودي " قره صو " نائب سالونيك،
وعرض مبلغ خمسين مليونا من الجنيهات الذهبية لخزانة الدولة، وخمسة ملايين لخزانة السلطان، فطرده قائلا له: " اغرب عن وجهي ، أنا لن أستطيع أن أبيع شبرا واحدا من أرض فلسطين لأنها ليست ملكي بل هى ملك المسلمين، أخذوها بدمائهم ولن يعطوها إلا بدمائهم" لهذا عمد اليهود إلى إسقاط السلطان عبد الحميد، وكان هذا النائب ضمن اللجنة التى قدمت للسلطان عبد الحميد صك التنازل عن العرش عام ( 1909 م ) ،
ولقد كان حاليم ناحوم حاخام اليهود الأكبر، هو الوسيط بين أتاتورك وإنجلترا للصلح والذي انتهى على شروط كرزن الأربعة وهى :
- 1- إلغاء الخلافة الاسلامية نهائيا.
- 2- أن تقطع تركيا كل صلة لها بالإسلام.
- 3- أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصر الاسلامية الباقية.
- 4- أن يستبدل المدني بالدستور العثماني القائم فى تركيا على الإسلام.
ثالثا: بجانب العاملين السابقين اللذين تسببا فى إلغاء الخلافة، فلقد كانت هناك عوامل أخرى منها
- 1- منح الامتيازات الأجنبية للدول الأوربية، والتي بدأها السلطان سليمان القانوني عام ( 1536 م ) ، حينما أعطى بعض الامتيازات القنصلية لجمهورية جنوة والبندقية. ولفرنسيس الأول، ثم استمرت هذه الامتيازات التى تخول لبعض الدول حماية الكنائس فى الشرق، ومن هذه الامتيازات ما أعطى لفرنسا عام ( 1740 م ) من حق حماية جميع القسيسين الكاثوليك فى المملكة العثمانية.
- 2- عجز دولة الخلافة عن إصلاح جهازها الادارى، مما أدى إلى انتشار الفساد وتقهقر الأوضاع الاقتصادية، هذا بجانب ما اتصف به بعض الولاة من الظلم والقسوة مما ساعد على تكوين رأى عام يدعو إلى انفصال العرب عن الأتراك.
- 3- عجزت دولة الخلافة عن إقامة شرع الله وتطبيق الدود، ففقدت الصفة الشرعية فى قلوب المسلمين، بجانب إهمال اللغة العربية، و
إحلال التركية محلها وجعلها لغة الدواوين والمصالح الحكومية ، بجانب ما اتسمت به هذه القرون من ميل إلى التقليد وانتشار البدع والعزوف عن الاجتهاد،
فاجتمعت هذه العوامل كلها وساعدت على إلغاء الخلافة ( 1924 م ) على يد كمال أتاتورك، الذى أعلن قطع الصلة بين تركيا والإسلام وحرم الأذان ومنع الكتابة باللغة العربية، ولقد أحدث إلغاء الخلافة جرحا عميقا فى كيان الوحدة الاسلامية ،
وأسى وحسرة بين نفوس المسلمين ويصور أمير الشعراء سقوط الخلافة:
يا أخت أندلس عليك سلام
- هوت الخلافة عنك والإسلام
طوى الهلال عن السماء فليتها
- طويت وعم العالمين ظلام
خفت الأذان فما عليه موحد
- يسعى ولا الجمع الحسان تقام
ويصور أحمد شوقي حالة الحزن فى ديار الإسلام فى قصيدة أخرى فيقول :
ضجت عليك مآذن ومنابر
- وبكت عليك مسالك ونواحي
الهند والهة ومصر حزينة
- تبكى عليك بمدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس
- أمحا من الأرض الخلافة ماحي
وعقب سقوط الخلافة عقدت عدة مؤتمرات، منها مؤتمر الأزهر الذى عقد فى ( 15 مارس 1924 م ) ، ودعا إل مؤتمر عام يشترك فيه ممثلون عن جميع المسلمين ، وانعقد المؤتمر عام ( 1926 ) ، ولكنه فشل ولم يسفر عن شيء وحاول الشيخ محمد أمين الحسيني رئيس المجلس الأعلى بفلسطين عقد مؤتمر اسلامى فى القدس ، غير أن هذا المؤتمر لحق به ما لحق بمؤتمر الأزهر، وعقد بالهند تحت اسم " مؤتمر الخلافة الهندي" .
وكانت النية متجهة لتكون مصر مقر الخلافة، وترشيح الملك فؤاد ليكون خليفة للمسلمين، غير أن الانجليز دفعوا الشريف حسين أمير الحجاز، لينصب نفسه دون رأى إسلامي يؤيده.
وهكذا اختلفت الآراء حول الخلافة، ولم يجتمع المسلمون على خليفة ينضوون تحت لوائه مما كان سببا مباشرا لنشأة الجمعيات الاسلامية، والتي كان من أهداف الكثير منها العمل على عودة الخلافة، فالشبان المسلمون كان يقسم عضوها قائلا. " على عهد الله وميثاقه أن أكون عاملا مجاهدا فى سبيل إحياء مجد الإسلام بإعادة تشريعه وإمامته الكبرى".
كذلك كان لجماعة الإخوان دور نشيط فى ميدان الوحدة الاسلامية، وعودة الخلافة كما سيأتي إن شاء الله .
الفصل الثالث دعاة العلمانية والتغريب
من الأسباب المباشرة لنشأة الجمعيات الاسلامية ما برز فى ميدان الفكر الاسلامى فى مطلع القرن الرابع عشر الهجري، من دعوة صريحة إلى العلمنة والتغريب، وما استتبع ذلك من فصل الدين عن الدولة،
وتنحية الشريعة الاسلامية وقوانينها عن مجالات الحكم والقضاء، ومن العوامل التى عملت على تعميق هذا الاتجاه وقوع مصر فريسة للاحتلال الأجنبي وإلغاء الخلافة الإسلامية ،
وكان دعاة هذا الفكر ينحصرون فيما يلي:
- أولا : المستشرقون والمبشرون والاحتلال، وقد مضى الكلام عنهم فى الفصل السابق.
- ثانيا : كتاب ومؤلفون عرب غير مسلمون وهم :
طلائع الغزو الفكري وصنائع الاستعمار، الذين تخرجوا من الإرساليات التبشيرية، ومراكز الاستشراق فى مصر ولبنان، وكان رواد هؤلاء بعض نصارى الشام الذين هاجروا غلى مصر واستوطنوها:
مثال : فارس نمر، ويعقوب صروف، وبشارة تكلا، وفرح أنطون، وجورجي زيدان، بجانب من انضم إليهم من الأقباط المصريين أمثال :
- 1- سلامة موسى.
- 2- مرقص سميكة.
- 3- بطرس غالى.
ولقد استطاعت هذه الفئة السيطرة على الفكر العربي من خلال الصحف اليومية والمجلات الأدبية، كالأهرام والمقطم والمقتطف والهلال، وكانت هذه الصحف عربية اللسان ولكنها أعجمية القلب والفكر.
ثالثا: علماء وباحثون مسلمون أمثال : لطفي السيد وقاسم أمين ، وطه حسين ، وعلى عبد الرازق، ومحمود عزمي، وغيرهم كثيرون لا سيما الذين تلقوا العلم فى أوربا وفتنوا بحضارتها المادية، وعادوا إل مصر يتنكرون لدينها وعروبتها وإسلامها.
ولقد مكن لهم الاحتلال فتقلدوا أزمة الأمور، وسيطروا على التعليم والثقافة والصحافة،
قال اللورد كرومر: " إن المسلم غير المتخلق بأخلاق أوربية لا يصلح لحكم مصر، وإن المستقبل الوزارى سيكون للمصريين المتربين تربية أوربية، وإن الإسلام كنظام اجتماعي قد وضعت نظمه لتناسب الجزيرة العربية".
رابعا: قادة الأحزاب السياسية قبل وبعد الحرب العالمية الأولى. كحزب الأمة، ولسان حاله صحيفة الحرية التى أنشأها لطفي السيد عام ( 1970 ) ،
وكان رجال هذا الحزب من الباشاوات والأثرياء الذين ربطوا مصالحهم بوجود الاستعمار، وحزب الأحرار الدستوريين، ولسان حاله جريدة السياسة، ورئيسها المرحوم الدكتور محمد حسنين هيكل. والحزب الوطني الذى كاد ينتهي بموت الزعيم مصطفى كامل، وهجرة محمد فريد إلى أوربا.
ولقد تم تكوين حزب شيوعي فى مص عام ( 1920 ) ، أنشأ رجل يهودى يسمى جوزيف روزنتال : ومساعده الدكتور على القباني وسلامة موسى، وفى عام ( 1924 م ) أرسلت روسيا خبيرا تحت اسم قسطنطين فاس، وذلك لتنظيم الحزب الشيوعي المصري".
هذا ولقد تعددت الأحزاب حتى وصلت بعد الحرب العالمية الأولى إلى ما يقرب من ثلاثة وعشرين حزبا، وكان اتجاه كثير من الأحزاب اتجاها علمانيا وغربيا، وعملوا جاهدين على إحياء المفاهيم الوطنية والقومية،
والفرعونية بينما الإسلام لا يحظى فى برنامج هذه الأحزاب بشيء يذكر، فضلا عما قامت به معظم الأحزاب المصرية من فساد سياسي وصراع على كراسي الحكم، ولم يسلم من هذا الاتجاه سوى حزب مصر الفتاة الذى أسسه المرحوم أحمد حسين، وكانت وجهته إسلامية فى بعض الأمور، ه
ذا ولقد نجح دعاة العلمنة والتغريب فى تحقيق الأهداف التالية:
أولا: فصل الدين عن الدولة
وهى دعوة غريبة عن الفكر الاسلامى وفدت إليه من خلال ثورات أوربا على سلطان الكنيسة، التى كانت تصادر حرية العلم وتحارب العلماء،
وكان شعار الثورة الفرنسية " اقضوا على آخر ملك بأمعاء آخر قسيس" ولقد تبارت أقلام مدرسة العلمنة والتغريب مروجة لمذهبها، ولقد نشطت عقب سقوط الخلافة الاسلامية عام ( 1924 م ) ،
وكان من أخطر المؤلفات التى روجت لفصل الدين عن الدولة كتاب: الإسلام وأصول الحكم للشيخ على عبد الرازق والذي يعد انحرافا خطيرا عن الفكر الاسلامى الصحيح وسابقة شاذة لأحد علماء الأزهر،
ومن أخطر ما جاء فى هذا الكتاب ما يلي:
- 1- جعل الشريعة الاسلامية روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ فى أمور الدنيا.
- 2- أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت بلاغا للشريعة الاسلامية مجردا عن الحكم.
- 3- إنكار إجماع الصحابة على وجوب تنصيب الإمام، وإنكار أن القضاء وظيفة شرعية.
- 4- أن حكومة أبى بكر الصديق والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانت لا دينية .
ولقد صدم هذا الكتاب عواطف المسلمين بجرأة وتحدى مشاعرهم، وترك أثرا سيئا، لا سيما أن جرح الخلافة لم يكن قد التأم بعد، وكان الرد الاسلامى قويا وحاسما ، فلقد شكلت لجنة من أربعة وعشرين عالما من علماء الأزهر الشريف،
وقررت إخراج الشيخ من زمرة العلماء، وكذلك أخرج من وزارة العدل عام ( 1344 هـ - 1925 م ) هذا ولقد كان للجمعيات الاسلامية التى أنشئت عقب إلغاء الخلافة دور بارز فى كشف زيف ودعاوى مدرسة العلمنة والتغريب، كما سيأتي إن شاء الله.
ثانيا: الفصل بين العروبة والإسلام
بالإسلام شرف العرب وسمت مكانتهم وارتفع شأنهم، فالقرآن الكريم بلغتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم من أشرف أنسابهم، ومكة أم القرى وقبلة الدنيا موطنهم، وإن المتتبع لتاريخ الإسلام يجد أن العرب وعاء الإسلام، وأن قوتهم تعنى قوة الإسلام وازدهار الإسلام، وارتفاع لوائه مجد للعرب ورفعة لشأنهم.
ولقد فطن أعداء الإسلام لهذا، فحاولوا جاهدين للفصل بين العروبة والإسلام، وانطلق دعاة العلمنة والتغريب يعمقون هذا الاتجاه ويدعون إليه يساعدهم على ذلك سيطرتهم عل أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة،
يقول غالى شكري وهو مصري ماركسي:
1- " ومن مصر القبطية إلى مصر العربية ولا أقول الاسلامية، لأن الحضارة العربية كانت أعمق من أن يكون الإسلام عنصرها الوحيد، كما أن التجربة العربية مع الإسلام تختلف تماما عن تجارب الأمم الأخرى مع نفس الدين، مصر الفرعونية مصر القبطية ومصر العربية، هى الحلقات الثلاث الرئيسية فى تاريخنا القومي، ومن خلال الامتزاج الحضاري بين هذه الحضارات الثلاث تكونت ملامح النفس المصرية".
هذا ولقد ظهر اتجاه سلخ العروبة عن الإسلام، منذ أوائل القرن الرابع عشر تحت شعار القومية العربية، وكان رواد هذا الفكر كما سبق من خريجي مدارس الاستشراق والتبشير ، وأول من دعا إلى رابطة الوطن العربي نجيب عازورى بالاشتراك مع يوجين يونج أحد العاملين فى إدارة الاستعمار الفرنسي.
وكان هدف عازورى إنشاء دولتين: دولة على غرار الفاتيكان عربية إسلامية، تقوم فى الحجاز زعامتها مكة، والأخرى عربية علمانية تضم سوريا ولبنان." وإن المتتبع للتاريخ ليدرك كيف كان يقاوم أى تجمع إسلامي بالكيد والتآمر، لا سيما من دولة الاستعمار.
وترضى هذه الدول بالتجمعات العربية البعيدة عن الإسلام. كما حدث فى إنشاء جامعة الدول العربية عام ( 1945) ، ولقد كانت فكرة نادي بها وزير خارجية بريطانيا فى ذلك الوقت. وكذلك دعاة القومية العربية، وقد مضى فى فصل سابق نشأة هذا الفكر.
ثالثا: محاربة اللغة العربية الفصحى
سبق أن أوضحنا دور التبشير والاستشراف والاستعمار فى القضاء على اللغة العربية ، ولقد حمل أنصار العلمنة والتغريب جملات قاسية على اللغة العربية الفصحى، ولقد تزعمت هذا الهجوم جريدة المقتطف التى دعت عام ( 1881 ) إلى كتابة العلوم باللغة العامية .
وفى عام ( 1902 ) وضع أحد الانجليز كتابا يدعو فيه إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية ، وتعمقت هذه الدعاوى على يد سلامة موسى عام ( 1907 ) ، حينما دعا فى صحيفة الجريدة إلى ما يلي:
- 1- إلغاء الفصحى واستبدال العامية بها.
- 2- إلغاء الإعراب وقواعد النحو.
- 3- إدخال الألفاظ الأجنبية ورفض أية محاولة للتعريب.
- 4- إلغاء الحروف العربية، واستخدام الحروف اللاتينية، كمقدمة لإلغاء اللفظ العربي.
ويكتب سلامة موسى عن اللغة العربية قائلا:
" هذه اللغة لا ترضى رجلا مثقفا فى العصر الحاضر، إذ هى لا تخدم الأمة ولا ترقيها لأنها تعجز عن نقل مائة علم من علوم الاجتماع التى تصوغ المستقبل".
ولقد ترتب على هذا أن حلت اللغة العامية محل اللغة الفصحى فى مجالات التخاطب والصحافة والإذاعة والتلفاز، وفشا اللحن ونضب معين الأدب وظهر الشعر غير الموزون والمقفى.
وقلما وجد متحدث يتحدث بالعربية الفصحى. ولولا حفظ الله القرآن لكريم ووجود الأزهر لاندثرت العربية فى مصر تحت وطأة العوامل السابقة كما حدث فى الجزائر. ولهذا كان من أهم ما التزمته الجمعيات الاسلامية أن يتحدث أعضاؤها بالعربية الفصحى كما سيأتي بيانه.
رابعا: الدعوة إلى السفور وإبعاد المرأة عن خلق الإسلام:
نجح دعاة التغريب فى التسلل إلى عقل المرأة المسلمة وقلبها، وزينوا لها التبرج والسفور ومساواتها بالرجل واختلاطها به فى الحياة العامة بدون مبرر، تحت دعاوى التقدم والمدنية، وكان رواد هذه الدعوى قاسم أمين، ومحمود عزمي، وفكري أباظة، وطه حسين، وكثير من الكتاب والصحفيين، ولقد نجحوا جميعا فى احتواء المرأة المسلمة احتواء كاملا، ومما ساعد على هذا إهمال التعليم الديني للفتاة وحجبها عن الثقافة الإسلامية .
فامتدت إليها يد العابثين فأسلمت نفسها إليهم يفرضون عليها الزى الذى يروق لهم والفكر الذى يعجبهم ، فاضطرب أمر الأسرة وانفرط عقدها، وتتابع جيل فقد حنان لأم ورعاية لأب، وفسد المجتمع. فلم يحرز هدفا ولم يحقق نصرا، ولم يصن دينا أو يحمى عرضا، فكانت النكسات والهزائم.
ولقد صحب الدعوة لإبعاد المرأة عن إسلامها تغيرات اجتماعية عقب الاحتلال والحرب العالمية الأولى، فانتشرت الخمر وأبيح البغاء وظهرت السينما والمسرح اللذان أصبحا مرتعا خصبا للرذيلة، وانتشر الأدب الساقط والقصص الهابط والروايات التى تثير الجنس، وكانت مجلة الهلال ووز اليوسف وجريد السياسة والجريدة والمقتطف على رأس الصحف التى تروج لهذا التيار، " ففي الوقت الذى تدعو فيه الهلال إلى فوائد مذهب العرى، وإلى اختلاط الجنسين فى التعليم، تكتب السياسة الأسبوعية عن الخمر والرقص، وتواصل حملتها فى الدفاع عن البغاء وتشاركها جريدة البلاغ".
هذا وبجانب العوامل السابقة فلقد استطاع أنصار العلمنة والتغريب السيطرة على الجامعة الأهلية، التى أسست عام ( 1909 ) ثم أصبحت عام ( 1924 ) جامعة فؤاد الأول، واتجهوا بطلابها اتجاها علمانيا بحتا وتبارى بعض مدرسي الجامعة فى التنكر لكل ما يمت للإسلام بصلة، بل وصل الأمر إلى الطعن والتشكيك فى قصص القرآن الكريم ونسبة العرب إلى إبراهيم عليه السلام، وكان ذلك على لسان د. طه حسين فى كتابه الشعر الجاهلي الذى صدر عام ( 1926 م ) .
ولقد أحدث هذا الكتاب ثورة عارمة، واستطاع التيار الاسلامى أن يجرف هذا الكتاب وصاحبه إلى الهاوية وأن يكشف عن هوية هذا الفكر وروافده، وكان الأزهر سباقا لرد شبهات هذا الكتاب فألف لجنة لهذا . وتقدم المرحوم الدكتور عبد الحميد سعيد، الرئيس العام للشبان المسلمين، باستجواب فى مجلس النواب عن نشر الكتاب وتدريسه مما سنعرض له إن شاء الله.
ولقد كان حصاد الاستشراق والتبشير والاحتلال وأعوانهم من دعاة العلمانية، أن تم تنحية ا لشريعة بصورة كاملة، وحلت القوانين الوضعية فى المجالات المدنية والجنائية، وألغيت المحاكم الشرعية وأشرفت الدولة على أوقاف المسلمين، وسلكت بمواردها مسلكا بعيدا عما وقفت من اجله.
وطبع التعليم بطابع علماني بعيدا عن التربية الاسلامية، فضلا عن الانهيار السياسي للإسلام بإلغاء الخلافة عام ( 1924 ) .
وكان التيار الاسلامى حينذاك ضعيفا فالأزهر لم يستطع وقفه لقلة إمكاناته وتفرق علمائه.
وبجانب الأزهر كانت هناك جهود فردية من بعض أعلام الإسلام أمثال الشيخ رشيد رضا الذى أسس جمعية الدعوة والإرشاد عام ( 1912 ) ، وأنشأ بها مدرسة الدعوة والإرشاد لتخريج الدعاة، ولكن قيام الحرب العالمية الأولى تسبب فى إغلاقها.
وبجانب جمعية مكارم الأخلاق التى كان يرأسها الشيخ محمود محمود، وجمعية الهداية الاسلامية تضافرت جهود المرحوم محب الدين الخطيب صاحب مجلة الفتح، والأديب مصطفى صادق الرافعي وعدد ليس بقليل من العلماء والأدباء.
وقفوا جميعا يصدون هذا التيار الجارف غير أن جهد هؤلاء جميعا كان مفرقا فلم يكن ذا تأثير ملحوظ، لهذا كانت نشأة الجمعيات الاسلامية لتجميع المسلمين والوقوف بهم فى وجه دعاة العلمنة والتغريب وكشف زيفهم،
ولتعيد مصر وجهها الاسلامى وعروبتها الأصيلة ، ويذكر المرحوم مصطفى صادق الرافعي أن دعاة التجديد ورواد الإلحاد كانوا من الأسباب المباشرة لاستثارة الهمم ويقظة الشعور،
فيقول عنهم: " إنهم على التحقيق غلطات إنسانية تخرجها الأقدار فى شكل علمي أو أدبي، ليعارض بها صوابا كاد يهمله الناس، فيخشى الناس أن يتحيف الخطأ صوابهم أو يذهب به فيستمسكون بحيله، ويشدون عليه، ويعود ذلك الصواب بعد ظهور الخطأ الذى يقابله بإزائه موقف العدو من العدو،
وما زالت هذه عجيبة حكمة الله فيما يحوط هذا الدين الاسلامى وكتابه الخالد، فكلما وهن عصر من عصوره رماه الله بزنديق ، فإذا الناس أشد ما كانوا طيرة، وأبلغ ما كانوا دفعا ومحاماة ، فالمجددون الملحدون هم جزء من الخطأ يخرج من علمه جزء من الصواب".
الفصل الرابع انتشار البدع والخرافات
من العوامل التى كان لها كبير الأثر فى نشأة الجمعيات الاسلامية فى مصر انتشار البدع والخرافات، وتسربها إلى العقائد والعبادات وتعلق الأمة بها، حتى اعتقد جمهور المسلمين أنهما جزء من العقيدة، فتمسكوا بهما وحافظوا عليهما ودافعوا عنهما، وإنه لمن الواجب خلال ثنايا البحث، أن أعرف بالبدعة وعوامل انتشارها ومدى خطرها، وكيف كانت دافعا لنشأة الجمعيات الاسلامية.
هذا ومما يجدر ذكره أولا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا بعد كمال الدين وتمامه، ونزل قول الله تعالى:" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا".
وقال صلى الله عليه وسلم : " ما وجدت شيئا يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به وما وجدت شيئا يبعدكم عن الله تعالى إلا وقد نهيتكم عنه" ، وعلى هذا فالعقائد والعبادات لا مجال للابتداع فيها.
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى:" من ابتدع فى الإسلام بدعا يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد خان الأمانة، فما لكم يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا".
تعريف البدعة لغة:
- أبدع الله الخلق إبداعا خلقهم لأعلى مثال ومنه قوله تعالى:" بديع السموات والأرض " وأبدعت الشيء وابتدعته. استخرجته وأحدثته ، ومنه قيل للحالة المخالفة بدعة.
- وهو اسم من الابتداع فيما هو نقص فى الدين أو زيادة، وفلان بدع فى هذا المر أى هو أول من فعل، فيكون اسم فاعل بمعنى مبتدع" .
البدعة شرعا:
- اختلف فى تعريف البدعة اختلافا كبيرا، ومنشأ هذا الاختلاف يرجع إلى تحديد البدعة، فالبعض يتوسع فى مفهومها لتشمل كل ما أحدث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم من عبادة أو عادة.
والبعض يقصرها على العبادات فقط، ومن هنا تنوعت التعريفات وكثرت . غير أنى أعرض للبدعة التعريفين التاليين:
التعريف الأول:
- ما ذكره الشاطبى فى كتاب الاعتصام " هى طريقة فى الدين مخترعة، تضاهى الشريعة ، يقصد بالسلوك عليها المبالغة فى التعبد لله تعالى" وقيد هذا التعريف فى الدين لاستخراج ما ابتدع من أمور الدنيا كالعلوم والصناعات فهذا ليس من الابتداع المحرم بل إذا حققت البدع فائدة كانت خيرا،
وإذا أثمرت شرا كانت سيئة وعلى هذا يفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة".
التعريف الثاني: " هى ما أحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم خيرا كان أو شرا عبادة أو عادة " ،
وأصحاب هذا التعريف يقسمون البدعة إلى قسمين:
بدعة ضلالة وبدعة حسنة ، قال ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة : " لفظ البدعة يطلق على مفهومين".
أحدهما ما خولف به لكتاب والسنة، والثاني ما لم يرد فيه نص بل سكت عنه ففعله المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وما روى من قول الرسول عليه الصلاة والسلام:" كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار" محمول عل تفسير البدعة بالمفهوم الأول، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه فى صلاة التراويح" : إنها لبدعة ونعمت البدعة هذه محمول على التفسير الثاني.
هذا وقد يرد اعتراض على ما أحدثه الصحابة رضوان الله عليهم من أمور تتعلق بالعبادات،
لم تكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مثال ذلك:
- 1- جمع الناس على إمام واحد فى قيام رمضان، وقول عمر رضي الله عنه : نعمت البدعة هذه .
- 2- الأذان الثاني للجمعة الذى أحدثه عثمان بن عفان رضي الله عنه على الزوراء .
- 3- جمع المصحف فى عهد أبى بكر ثم فى خلافة عثمان رضي الله عنهما. وغير هذا كثير مما لا مجال له فى بحثي هذا.
وقد أجيب عن ذلك بما بلى:
- 1- إن فعل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم هو من قبيل السنة لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي بإسناد حسن صحيح :" عن أبى نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة، وجلت منها القلوب وذرفت منها الدموع".
- ومما جاء فى هذه الموعظة:" إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضوا عليها بالنواجذ".
- 2- ما أثر عن الصحابة لا سيما الخلفاء الراشدين من أمور من قبيل الابتداع، ولكن له أصل من القرآن أو السنة يرجع إليه ،
مثال ذلك: " ما رآه عمر رضي الله عنه حينما جمع الناس على إمام واحد، وقول أبى بن كعب له : إن هذا لم يكن فقال عمر رضي الله عنه، قد علمت ولكنه حسن. ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصل فى الشرع يرجع إليه.
وسئل عكرمة عن أم الولد فقال : تعتق بموت سيدها، قيل بأي شيء تقول؟ قال : بالقرآن قيل بأي القرآن ؟ قال : قال الله تعالى : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " وعمر رضي الله عنه من أولى الأمر.
النهى عن البدع والتحذير من الابتداع
جاء فى النهى عن الابتداع وذم المبتدعين نصوص من القرآن والسنة، فمن القرآن قول الله تعالى :
- 1- " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" . فقد قيل فى معنى السبل: إنهم أهل البدع والأهواء.
- 3- قال الله تعالى: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ".
فلقد جاء فى تفسيرها فى الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا من هم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة".
ما ورد فى ذم البدعة من السنة ما يلي:
10 عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول فى خطبته : " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار" هذا فضلا عن الكثير من الآيات والأحاديث التى تذم اتباع الهوى، وإلباس الباطل ثوب الحق، وبجانب العلماء من الفقهاء والدعاة على التصدي للبدع والضلالات عبر مسيرة الدعوة الاسلامية.
خطورة البدعة وأضرارها
إن انتشار البدع يسبب ضلالا فى الاعتقاد وفسادا فى السلوك، وانحرافا عما أنزله الله وما أ مر به الرسول صلى الله عليه وسلم،
ويكمن خطر البدعة فيما يلي:
- 1- أن العقول غير مستقلة بمصالحها نفعا وضرا، لأن العقل عاجز عن إدراك ذاته فكيف يشرع لغيره.
- 2- أن الشريعة قد جاءت كاملة، فالمبتدع يرى أن الشريعة لم تتم ونزل نفسه منزلة المشرع سبحانه وتعالى.
- 3- أن المبتدع معاند للشرع ومشاق لله ولرسوله، لأن الله حدد لسعادة الإنسان أوجها خاصة قصر البشر عليها بالأمر والنهى والوعد والوعيد، فابتداع أمور فى الدين وجعلها من قبيل العبادات ضلال، فكأن المبتدع اغتصب حق الله فى التشريع ووقف من الشرع موقف من يعتقد فيه النقص وعدم التمام.
- 4- ما تحدثه البدعة من اثر سيىء فى النفوس، ولقد تحدث المرحوم الشيخ محمود شلتوت عن أضرار البدعة فقال: " لو أن مضار الابتداع تقف عند المبتدع ولا تتعداه إلى غيره لهان ألمر وسهل الخطب، ولكن مضار الابتداع منها ما يصيب المبتدع ومنها ما يصيبه ويصيب أتباعه فى العمل بالبدعة، ومنها ما يصيب الدين نفسه، ومنها ما يصيب الأمة التى وقع الابتداع فى دينها".
عوامل انتشار البدع
توجد عوامل كثيرة لانتشار البدعة وسيطرة الخرافة منها:
- 1- جهل الناس بأحكام وميلهم إلى التقليد، واعتقاد العامة العصمة فى غير المعصوم.
- 2- تهاون بعض العلماء فى إنكار البدعة، بل إن البعض يشارك فيها، ولهذا يشتد تمسك الناس بها بحجة أنهم توارثوها، وأن الكثير من العلماء قد شاهدوها وخالطوا أهلها ولم ينكروا أمرها، وذلك كبدع المساجد والموالد والمآثم والعادات والتقليد، التى ما أنزل الله بها من قرآن ولا ذكرت فى سنة قولية أو فعلية،
ومع هذا ترتكب أمام بعض الدعاة دون اعتراض، وللانصاف نقول: إن الكثير من علماء الأزهر تصدى للبدع والخرافات، ومن هؤلاء : فضيلة الشيخ المرحوم على محفوظ الذى ألف كتابه القيم" الإبداع فى مضار الابتداع" والشيخ الإمام المرحوم محمود خطاب السبكى وأتباعه من علماء الجمعية الشرعية، والشيخ رشيد رضا، والشيخ محمود أبو العيون وغيرهم كثير وكثير غير أن جهد كان مفرقا.
لهذا اتجه المسلمون لإنشاء الجمعيات الاسلامية وأجمعوا أمرهم على محاربة البدع والمنكرات، والعودة بالعقيدة إلى نقائها وصفائها وما درجت عليه منذ عهد النبوة والخلفاء الراشدين، واختطت كل جمعية منهجا خاصا إزاء البدع سيتضح خلال البحث إن شاء الله .
الفصل الخامس الأزهر ونشأة الجمعيات الاسلامية
كان الأزهر – ولا يزال حصن اللغة وقلعة الإسلام والمحافظ على القرآن والمدافع عن السنة، ولا ينكر دور الأزهر إلا جاحد، فتاريخه العريق وجهاده المتألق دليل صدق وشاهد عدل على ما نقول، ولقد سبق أثناء التمهيد للكتاب ما يؤكد هذا .
والجمعيات الاسلامية التى ظهرت فى ميدان الدعوة خلال القرن المنصرم انبثقت من الأزهر فهي إما أن يكون مؤسسوها أزهريين أو يعتمد جل نشاطها على علماء الأزهر فالجمعية الشرعية مؤسسها عالم أزهري هو المرحوم الشيخ محمود خطاب، وخلفاؤه نجله الشيخ أمين وحفيدة الشيخ يوسف والإمام الحالي الشيخ عبد اللطيف مشتهرى الجميع من علماء الأزهر.
وجمعية أنصار السنة المحمدية أسسها عالم أزهرى هو المرحوم الشيخ حامد الفقى، ومن رؤسائها الشيخ عبد الرازق عفيفي، والشيخ عبد الرحمن الوكيل، ومن أعلامها فضيلة المرحوم الدكتور محمد خليل هراس، والجميع من علماء الأزهر، ولقد ضمت جماعة الإخوان المسلمين لعديد من علماء الأزهر أمثال الشيخ محمد الأودن، والشيخ أحمد حسن الباقورى، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ سيد سابق والكثير من العلماء.
وجمعية الإخوان المسلمين كانت جمعيتها التأسيسية تضم النخبة والصفوة من علماء الأزهر، وكان الشيخ عبد العزيز جاويش نائبا لرئيسها، وكانت دارها ملتقى جهابذة العلماء من الدعاة، للمحاضرة فيها والكتابة فى مجلتها أمثال : فضيلة الشيخ المرحوم محمد الخضر حسين، والشيخ مصطفى المراغى، والشيخ محمد عبد اللطيف دراز والشيخ عبد الوهاب النجار وغيرهم كثيرون. غير أن مشاركة هؤلاء الأعلام فى نشأة تلك الجمعيات والمشاركة فى أنشطتها كانت عملا فرديا وجهدا ذاتيا من هؤلاء العلماء الأزهريين.
ولم يكن الأزهر كهيئة دينية يوجه إلى هذا رسميا أو يعمل على تعميق الصلة بينه وبين تلك الجمعيات، ويتعاون معها فى ميدان الدعوة.
وفى الحقيقة لقد تضافرت عوامل كثيرة جمدت نشاط الأزهر وقيدت حركته، ولم تمكنه من احتواء الدعوة والدعاة، والتصدي لأعداء الإسلام على وجه كاف وشاف .
وهذه العوامل منها ما ليس للأزهر فيه يد وإنما فرضت عليه فرضا. ومنها كان الأزهر سببا فيه.
أولا: العوامل الخارجية التى عاقت الأزهر وهى
- 1- استيلاء محمد على باشا على أوقاف الأزهر وفرض رواتب شهرية لا تتجاوز الكفاف، ومن هذه الفترة وحتى الآن أصبحت الدعوة وظيفة لا رسالة لدى البعض من العلماء، وغدت الكلمة رهينة بلقمة العيش فقل تأثيرها وانعدم جدواها، وفى الوقت نفسه كان يغدق على إرساليات التبشير ومراكز الاستشراق مما سبق ذكره، وما زال استرداد أوقاف الأزهر أملا يراوده.
- يقول المرحوم الدكتور عبد الحليم محمود : " لقد كان موقوفا على الأزهر ما لا يكاد يحصى من ألأموال، وكان الأزهر يعيش فى حدود أوقافه كريم النفس رافع الرأس، وكان صدر الحاكمين يضيق أحيانا فما كن لهم إلى إخضاع الأزهر من سبيل إلا من ناحية الرزق، حتى أمكنهم بالمكر والخديعة أن يستولوا على أوقاف الأزهر، ويعطوه مالا من خزائن الدولة يضيق عليه سنويا " ولهذا كانت اليقظة الاسلامية تبعد عن قيد الوظيفة وغير مرتهنة بلقمة العيش. فكانت جليلة الأثر عظيمة الصدى.
- 2- نجح الاحتلال وأعوانه كما سبق فى حرب اللغة العربية وإبعاد الشريعة عن توجيه الأمة فانعكس هذا على العلماء ، فقلت الحاجة إليهم وانعطفوا بعيدا عن ميدان الدعوة، ولقد أحكم أعداء الإسلام خطة الإطباق على الأزهر،
وذلك بالسخرية من عالم الدين والنيل منه بأسلوب ساخر ومهين، فتوارى عالم الأزهر عن مزاحمة أجهزة الإعلام، ثم امتدت إليه الأيدي باسم التطوير، فضعف خريجوه من الدعاة وقل مستواهم ، فأصبح الميدان شاغرا للجمعيات الاسلامية، لكي تنطلق بالدعوة إلى آفاق أوسع وأشمل،
وغدت الجمعيات الاسلامية أقدر على الحركة والتوجيه والاحتواء، وظهر أثر هذا واضحا لدى الآلاف من فتيان الجامعات وفتياتها، من عودة إلى الإسلام فى المظهر والسلوك.
3ـ خلال تاريخ الأزهر العريق وحتى قيل حملة نابليون عام ( 1798 م ) كان الأزهر هو فارس الميدان الذي لا ينازعه منازع ، الأمة تسمع له في إجلال واحترام ، والحكام يصغون إليه في توقير وتكريم ، ثم تتابعت على الساحة أجهزة مكن لها ، فظهرت الصحافة ، ثم تطور الأمر فانتشر المسرح والسينما والتلفاز ، وأخرجت هذه الأجهزة الفارس من ميدانه وانتزعت منه أزمة التوجيه .
ودفعت به بعيدا فلم يعد يملك سوى المسجد فقط ، يفد إليه جموع العجزة والمسنين ، أما ما عدا ذلك من جموع المسلمين فلقد احتوتهم أجهزة الإعلام كالإخطبوط تفرض عليهم الأدب الهابط والفن الداعر ،
وقد تتاح لبعض الدعاة من الأزهريين فرصة التوجيه من خلال هذه الأجهزة ، ولكنها فرص قليلة لا تفي بالغرض ، ومن ثم كان رد الفعل قيام الجمعيات الدينية لتؤازر الأزهر في ميدان الدعوة ، وسنرى مدى نجاحها في هذا المضمار خلال البحث إن شاء الله .
ثانيا : العوامل الداخلية للأزهر
بجانب العوامل السابقة التي فرضت على الأزهر ، فهناك أسباب من داخل الأزهر لم تمكنه من احتواء الدعوة والانطلاق بها ، لتسيطر على الأمة في سلوكها وتشريعاتها ،
ومن هذه الأسباب ما يلي :
- 1ـ أن الأزهر منذ مطلع عصر النهضة وعقب الحملة الفرنسية على مصر ، لم يأخذ زمام المبادرة والمبادأة بتطويع الأمة لتطبيق شرع الله ، وأن إبطاء العلماء في تقنين الشريعة الإسلامية ، جعل الخديوي إسماعيل يفرض القانون الفرنسي محل التشريع الإسلامي ، وشغل الأزهر بقضايا علمية وفكرية أبعدته عن مجالات التشريع والقضاة .
- 2 ـ عدم الحسم في مواجهة البدع بالتصدي لها ، أو استعداء الدولة ، فحينما انتشرت البدعة وسيطرت الخرافة حوربت من العلماء كأفراد يتحركون من واقع مسئوليتهم تجاه الدعوة وتاريخ الأزهر كهيئة رسمية لم يكن حاسما بل التزم الصمت بل تعداه في بعض الأحيان إلى المشاركة ، كما يحدث في المساجد وخلال الموالد والمآتم وغيرها من أمور تتنافى مع الإسلام ،
- ولقد كان في إمكان الأزهر وضع ضوابط من خلالها يتحرك العالم في مجال الدعوة ، بأن يبين له الأمور التي يجب أن ينأى عنها وإن تعارف الناس عليها ،
- ويكون هذا موقفا رسميا بدلا من التضارب والاختلاف بين الدعاة في أمور كثيرة ، يتأرجحون فيها بين التأييد الاعتراض والإباحة والمنع ، مما يفقد الناس الثقة في الدعاة ، فضلا عن أن الأزهر لم يوفر الحماية لدعاته حينما يتعرضون للأذى بسبب صدعهم بكلمة الحق ومحاربتهم للمبتدعات .
- 3 ـ عقب الثورة الصناعية حدث تطور اجتماعي كبير فاتصلت الأمم بعضها ببعض اتصالا مباشرا وأصبحت الأجهزة المرئية والمسموعة تنقل ما يدور في أي مكان لحظة وقوعه ،
- وتشابكت الدول اقتصاديا وفكريا وسياسيا ، وبرز العديد من القضايا سواء في مجال الفكر أو الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع ، وكان العديد من هذا الفكر ينأى عن جوهر الإسلام ونقاء العقيدة وكان يهمس بهذا الفكر في مطلع القرن الرابع عشر همسا .
- وكان في إمكان الأزهر القضاء على هذا الهمس المريب ، ووأده في حينه وإعطاء المفهوم الإسلامي لمختلف القضايا ، غير أنه لم يفعل .
- بل إنه كهيئة دينية كان من الواجب أن ينأى بنفسه عن أي مظهر من مظاهر المخالفة للإسلام ، لاسيما المعاملات المالية ، ولكن يلاحظ أنه يخضع للأنظمة الاقتصادية ، بما فيها من تعامل بالربا المحرم كالتأمين وفوائده والفروض ، واستبدال المعاش .. أمور كثيرة كان من الواجب على الأزهر أن يبتعد عنها، ويكون له استقلاله المالي المنزه عن الحرام. فإن فعل هذا كان نموذجا طيبا ومثالا حسنا.
- 4- خللا هذا القرن المنصرم لم يوسع الأزهر دائرة تحركه اقتصر جهاد الدعوة فيه على المساجد وتركت الجامعات والمصانع والأندية، فاستولت عليها التيارات الإلحادية.
ولهذا تحركت الجمعيات الاسلامية فى هذه المجالات ونجحت فى احتوائها إسلاميا، وإن ظاهرة التدين بين الشباب والفتيات والانضباط فى السلوك والخلق يرجع الفضل فيها إلى الله أولا الذى تكفل بحفظ دينه، ثم إلى الجمعيات الإسلامية ، هذه العوامل من داخل الأزهر، فضلا عن العوامل السالفة الذكر، كانت سببا فى تقييد الأزهر وتعويقه عن إبراز دوره فى قيادة وتوجيه الدعوة الاسلامية ، كما ينبغي على الوجه الأكمل، وكانت هذه الأسباب دافعا لنشأة الجمعيات الاسلامية، مما سبق خلال فصول هذا الباب تتضح الأسباب الرئيسية لنشأة الجمعيات الاسلامية فى مصر خلال القرن الرابع عشر الهجري.
الباب الثاني الجمعيات الاسلامية ودورها فى نشر الدعوة
تمهيد
لقد تكفل الله بحفظ دينه، وعصمه من عوادي السنين وتقلب الأيام، لأنه هو الدين الخاتم حتى يرث الله الأرض ومن عليها قال تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".
ومن عوامل حفظه وأمارات استمراره أن الله سبحانه وتعالى يقيض لهذا الدين من يرفع لواءه ويحمل رايته ويذب عنه ويدعو إليه مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم " يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها" وإن تاريخ الجمعيات الاسلامية جزء من حركة الدعوة، وعلامة من علاماتها البارزة خلال القرن الرابع عشر الهجري.
ولقد تطور أمر هذه الجمعيات فبينما كان عددها لا يتجاوز أصابع اليد فى مطلع هذا القرن، نراها فى نهايته تصبح وفق إحصاء وزارة الشئون الاجتماعية ما يقرب من ألف وخمسمائة جمعية. تعددت أنشطتها واختلفت مناهجها وتنوعت أساليبها.
هذا وإن من المتعذر على المؤلف أن يتتبع هذا العدد الضخم من تلك الجمعيات، لهذا رأيت أن أقتصر فى كتابي على الجمعيات التى حملت الدعوة زهاء نصف قرن أو يزيد، غير متعرض لجمعيات ظهرت لفترة زمنية ثم طوى لواؤها مثل : جمعية الهداية الاسلامية، وجمعية مكارم الأخلاق، وجمعية جبهة علماء الأزهر وغيرها.
وكذلك الجمعيات التى اتسم نشاطها بطابع اجتماعي أو خيري فقط فهذه ما أكثرها.
ولكن وجهت جل بحثي لتلك الجمعيات التى عنيت بتربية الرجال وصقل العقول، وكانت كل جمعية تعتبر بحق مدرسة للدعوة والدعاة، وكان لكل منها نهج خاص وأسلوب معين حرى بالدراسة وجدير بالبحث.
ولو قدر لهذه الجمعيات أن توحد صفوفها على كلمة سواء وتناسب الخلافات الفرعية والآراء الشخصية، لتمخض القرن الرابع عشر عن حركة متألقة للدعوة الاسلامية.
غير أن ما عليه تلك الجمعيات – كما سيتضح إن شاء الله – أضعف من حركة الدعوة الاسلامية ، وقلل من قدرتها على مواجهة تحدى أعداء الإسلام مواجهة حاسمة،
لهذه اقتصر البحث على الجمعيات الرئيسية التالية:
- 1- الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة.
- 2- جمعية أنصار السنة المحمدية.
- 3- الشبان المسلمون.
- 4- الإخوان المسلمون.
فهذه الجمعيات تعتبر الجمعيات الأم للعديد الأخرى، فجماعة شباب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هى وليدة الإخوان المسلمين، وكذلك ما أطلق عليه جماعة التكفير والهجرة، نبتت بين غياهب سجن الإخوان، وجماعة دعوة الحق هى جزء من جماعة أنصار السنة المحمدية، فضلا عن الجماعات الاسلامية التى انبثقت بين شباب الجماعات والطبقات المثقفة،
كالجهاد والتبليغ وغيرها، والعديد من الجماعات الاسلامية التى ظهرت فى حقبة عام ثلاثة وسبعين وتسعمائة وألف. والتي أصبحت تمثل تطورا فى حركة الدعوة الاسلامية وتعميق الانتماء الاسلامى. كل هذه التطورات يرجع الفضل فيها الاسلامية وتعميق الانتماء الاسلامى.
كل هذه التطورات يرجع الفضل فيها لله سبحانه وتعالى، ثم لتلك الجمعيات موضوع الباب وسيتناول العرض لكل جمعية النقاط التالية:
- أولا: التعريف بمؤسس الجمعية، والإلمام الموجز بروادها الذين تولوا إمامتها بعد مؤسسها.
- ثانيا: البناء التنظيمي لكل جمعية.
- ثالثا: أهداف الجمعية.
- رابعا: منهج كل جمعية لتحقيق أهدافها.
- خامسا: الاتجاهات العلمية والعملية لكل جمعية.
- سادسا: التقييم الموضوعي للجمعية.
هذا وقبل أن أستطرد فى هذه الموضوعات، فينبغي أن أصحح خطأ لغويا تعورف، هذا الخطأ هو إطلاق لفظ " جمعية" والأصح لغويا هو : مجمع أو مجمع( بكسر الميم) أو مجمعة إذا أريد مكان الاجتماع.
أو جمع أو جماعة إذا أريد المجتمعون، ولكي يتضح ما ذهبت إليه فسوف أستشهد بمعاجم اللغة العربية جاء فى لسان العرب:
- جمع: جمع الشيء عن تفرقة يجمعه جمعا وجمعه وأجمعه فاجتمع.
- والجمع: اسم لجماعة الناس وهو مصدر قولك جمعت الشيء.
- والجمع: المجتمعون وجمعه جموع.
والجماعة والجميع والمجتمع والمجمعة كالجمع والمجمع يطلق على الموضوع .
والمجمعة : مجلس الاجتماع – قال زهير : وتوقد ناركم شررا ويرفع لكم فى كل مجمعة لواء
وجاء فى دائرة المعارف الاسلامية :
جماعة : معناها لغة تأليف المفترق أو الوحدة.
واصطلاحا : تدل على جماعة المسلمين ، تمييزا لهم عن المارقين وهم الخارجون على هذه الجماعة.
لهذا فطنت الجماعات الاسلامية التى ظهرت فى أواخر القرن الرابع عشر الهجري إلى هذا الخطأ اللغوي فأطلقت لفظ جماعة وأضافتها إلى ما تريد أن تتسمى به دون لفظ جمعية الذى تعورف عليه، مع مطلع القرن الرابع عشر الهجري.
الفصل الأول الجمعية الشرعية
أسست فى غرة المحرم عام 1331 هـ
ويضم الموضوعات التالية:
الأول : التعريف بالإمام محمود خطا السبكى وأئمة الجمعية .
الثاني: البناء التنظيمي للجمعية.
الثالث : أهداف الجمعية الشرعية ومنهجها فى الدعوة .
الرابع: الاتجاهات الفكرية والعلمية للجمعية.
الخامس: الجمعية الشرعية فى الميزان.
الفصل الأول الجمعية الشرعية
تعتبر الجمعية الشرعية من الجمعيات التى كان لها ولا يزال الدور الرائد والنشط فى حقل الدعوة الاسلامية، خلال القرن الرابع عشر الهجري، فدعاتها ومؤسساتها ومساجدها تتسم بالنشاط الدائم والجهد المستمر. وأعضاؤها يتميزون بالطابع الاسلامى المحافظ على السنة فى القول والعمل.
وقبل أن نلقى نظرة متأنية على تاريخها ومناهجها وأسلوبها، يجدر أن نصدر مباحث هذا الفصل بالتعريف بالمؤسس للجمعية الشرعية، وهو المرحوم الإمام بالمعروف والنهى عن المنكر، هما المنار الذى ينهل منه أعضاء الجمعية الشرعية، منذ ما يقرب من سبعين عاما.
التعريف بالإمام محمود خطاب السبكى وأئمة الجمعية ( 1274 هـ - 1353 هـ )
- 1- نسبه : أبو محمد محمود بن محمد بن أحمد بن خطاب السبكى.
- 2- مولده: ولد رحمه الله ببلدة سبك الأحد إحدى قرى مركز أشمون محافظة المنوفية، عام أربعة وسبعين ومائتين وألف من الهجرة.
- 3- نشأته: نشأ رحمه الله فى أسرة ميسورة الحال، وكان أخا لستة من الأشقاء انصرف بعضهم لطلب العلم، وانقطع المترجم له إلى أعمال الحقل والزراعة.
غير أنه على عادة أهل الريف حينذاك كانوا يختلفون إلى أرباب الطرق الصوفية، " فاتصل رحمه الله بالشيخ أبى محمد أحمد بن محمد بن جبل السبكى الخلوقى" وكان اتصاله بالشيخ فاتحة خير. فتعلم القراءة والكتابة، حتى طلب لأداء الخدمة العسكرية فصحبه أخوه إلى الأزهر ، لكي يعفى من التجنيد إلا أن الإمام رحمه الله شغف بالأزهر وطلب العلم رغم تجاوزه العقد الثاني من العمر،
ولقد فتح الله عليه فحصل من العلوم والمعارف، ما جعله يبز أقرانه فحصل على الإجازة العالمية عام 1313 هـ ، بعد أن أدى الامتحان أمام لجنة برئاسة المرحوم الشيخ حسونة النواوى شيخ الأزهر.
وبعد حصوله على شهادة العالمية أخذ يلقى دروسه فى الأزهر الشريف، ولم يقتصر على هذا بل اتجه إلى محاربة البدع والضلالات،
ونحا فى هذا المضمار منهجا عمليا وعلميا: فالمنهج العملي يتركز فى تأسيسه للجمعية الشرعية عام 1331 هـ - 1913 م أما المنهج العلمي فهو منبث بين ثنايا مؤلفاته العلمية الكثيرة التى منها ما يلي:
- 1- أعذب المسالك المحمودية فى التصوف والأحكام الفقهية ، أربعة أجزاء.
- 2- حكمة البصير على مجموع الأمير ( فقه الإمام مالك – أربعة أجزاء).
- 3- هداية الأمة المحمدية فى الحكم المحمودية السنية.
- 4- إصابة السهام فؤاد من حاد عن سنة خير الأنام.
- 5- تحفة الأبصار والبصائر فى بيان كيفية السير مع الجنازة إلى المقابر .
- 6- الرسالة البديعة فى الرد على من طغى فخالف الشريعة.
- 7- حاشية وديباجة الرسالة البديعة.
- 8- المقالة الشرعية للرئاسة الاسلامية.
- 9- غاية التبيان لما به ثبوت الصيام والإفطار فى رمضان.
- 10- العهد الوثيق لمن أراد سلوك أحسن طريق.
- 11- النصيحة النونية فى الحث على العمل بالشريعة المحمدية.
- 12- تعجيل القضاء المبرم " لمحق من سعى ضد سنة الرسول الأعظم".
- 13- سيوف إزالة الجهالة عن طريق سنة صاحب الرسالة.
- 14- فصل القضية فى المرافعات وصور التوقيعات والدعاوى الشرعية.
- 15- المقامات العلية فى النشأة الفخيمة النبوية.
- 16- السم الفعال فى أمعاء فرق الضلال .
- 17- الصارم الرنان من كلام سيد ولد عدنان.
- 18– العضب المنظوم للذب عن سنة المعصوم.
- 19- الرياض القرآنية فى الخطب المنبرية.
- 20- خلاصة الزاد لمن أراد سلوك سبيل الرشاد.
- 21- رسالة البسملة.
- 22- رسالة مبادئ العلوم
- 23- الحكم الالهى بالدلائل القرآنية فى الخطب المنبرية.
- 24- إتحاف الكائنات ببيان مذهب السلف والخلف فى المتشابهات .
- 25- المنهل العذب المورود فى شرح سنن الإمام أبى داود، عشرة أجزاء.
- 26- الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق، فى ستة أجزاء.
- 27- محور الوصول إلى حضرة الرسول.
وظل رحمه الله رسالته بالتدريس فى الأزهر، حتى أحيل للتقاعد عام ( 1350 هـ - 1931 م ) ولم يركن إلى الدعة والكسل، أو يخلد للراحة ولكنه استمر فى تدعيم الجمعية الشرعية، مربيا لدعاتها ومؤسسا لمساجدها ومؤسساتها، حتى اختاره الله غلى جواره يوم الجمعة ( 14 ربيع الأول عام 1353 هـ - 7 يولية عام 1933 م ) وعقب وفاته بويع نجله المرحوم الشيخ أمين محمود خطاب إماما للجمعية الشرعية.
التعريف الموجز بأئمة الجمعية
الشيخ أمين محمود خطاب
مولده: ولد بسبك الأحد عام ( 1304 هـ - 1886 م )
طلبه للعلم: حفظ القرآن الكريم فى كتاب القرية والتحق بالأزهر عام ( 1314 هـ - 1896 م ) ، وحصل على العالمية عام ( 1329 هـ - 1911 م ) ، وبجانب دراسته الأزهرية، فلقد نال قصب السبق فى العلوم الحديثة لا سيما التاريخ والجغرافيا،
ولقد مارس التدريس بالأزهر الشريف بالقاهرة فى عهد المرحوم الشيخ سليم البشرى شيخ الأزهر وانتقل إلى أسيوط عام ( 1314 هـ ) ثم الزقازيق عام ( 1930 م ) ، ثم اختير مدرسا فى كلية أصول الدين بشعبة الوعظ والإرشاد ،
وعقب وفاة والده بويع إماما للجمعية الشرعية وقام بدور نشط فى المجالات الآتية:
- 1- الوعظ.
- 2- التأليف.
- 3- إدارته للوقف الخاص بالجمعية.
- 4- رئاسته لمجلس إدارة الجمعية وظل يؤدى رسالته حتى وافاه الأجل فى ( 27 ذي القعدة 1387 هـ - 29 فبراير 1968 م ) ، وعقب وفاته بويع نجله المرحوم الشيخ يوسف أمين إماما للجمعية.
مؤلفات الشيخ أمين خطاب
لقد خلف رحمه الله العديد من المؤلفات العلمية، فضلا عن تربيته العملية لأعضاء الجمعية، ومن المؤلفات العلمية ما يلي:
- 1- منحة الرحمن فى فقه النعمان.
- 2- فتح الملك الجليل بتفسير بعض آيات التنزيل.
- 3- المصباح المنير فى شرح أحاديث البشير.
- 4- إرشاد الرائض إلى علم الفرائض.
- 5- إرشاد الناسك إلى أعمال المناسك.
- 6- فتح الملك المعبود تكملة المنهج العذب المورود ( شرح سنن الإمام أبى داود) .
- 7- فتح الملك المبين لتتميم فتاوى أئمة المسلمين.
- 8- الاتحافات الإلهية لتخريج أحاديث هداية الأمة المحمدية.
9- الفتاوى الأمينية .
10- الجداول الجغرافية لطلبة ا لمعاهد الدينية .
هذا بجانب بعض المؤلفات الأخرى التى ما زالت مخطوطة.
الشيخ يوسف أمين خطاب
مولده: ولد بسبك الأحد عام ( 1905 م ) .
نشأته : حفظ القرآن الكريم ف كتاب القرية، وحينما بلغ الثامنة من عمره التحق بمدرسة المساعي المشكورة، فمكث حتى النصف الرابع ثم انتقل إلى القاهرة مع والده وحده وفى عام ( 1919 م ) ، دخل رحمه الله الأزهر ولكن لم يطل به المقام فانتقل إلى مدرسة العلوم، ومكث بها أربع سنوات وأخذ شهادة البكالوريا عام ( 1927 م ) ، ثم التحق بمدرسة دار العلوم العليا،
وبعد تخرجه عين مدرسا وظل يترقى فى السلم الوظيفي، حتى صار موجها بوزارة التربية والتعليم . وحينما انتقل والده – رحمه الله – إلى الرفيق الأعلى اختير إماما للجمعية الشرعية، فسار على نفس المنهج واتسمت حياته بالنشاط والارشادى، فكان له دروس دينية ثابتة يقصدها الرواد من كل مكان،
كما كان يقوم بتدريس علم الحديث بمعهد الإمامة، بجانب كتاباته فى الصحف والمجلات الاسلامية، وظل يؤدى رسالته حتى وافاه الأجل فى ( 20 صفر عام 1376 هـ - أول مارس 1976 م ) وعقب وفاته بويع الشيخ عبد اللطيف مشتهرى إماما، للجمعية.
الشيخ عبد اللطيف مشتهرى إبراهيم
مولده: ولد فى أغسطس عام ( 1915 م ) فى قرية كوم حلين مركز منيا القمح محافظة الشرقية.
طلبه للعلم: حفظ القرآن الكريم فى كتاب القرية، والتحق بمعهد الزقازيق ومنذ التحاقه بالمعهد وهو ملتزم بمنهج الجمعية الشرعية حيث تعرف إلى الشيخ حسين القلعى المدرس بالمعهد، وزميل الشيخ أمين خطاب،
ولقد تخرج فى الأزهر عام ( 1944 م ) وكان أول دفعته، وأقيم له مع أوائل الخريجين حفل فى قصر عابدين ولم ينحن للملك فاروق أو يقبل يده رغم تشدد الديوان الملكى فى ذلك ،
ولقد عين بالأزهر وظل يتدرج فى المناصب حتى صار وكيلا لإدارة الوعظ والإرشاد والشيخ أطال الله عمره من الدعاة المخلصين والخطباء الموهوبين، وله فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر صولات وجولات. وهو يعتبر أول إمام للجمعية الشرعية من غير آل خطاب،
وهو ينتسب إليهم انتساب الفكرة والهدف فيقول: " أنا عبد اللطيف الضعيف من الشرقية، ولكن الناس منذ خمسين عاما نسوا أنى من الشرقية، وقالوا عنى : إنه عبد اللطيف السبكى".
مؤلفات الشيخ مشتهرى
- 1- تحديد الملكية أمام الدين والعقل والقانون.
- 2- مدرسة الصوم.
- 3- سيد الشباب.
- 4- الإيمان والمؤمنون.
- 5- فضل رمضان وأحكام الصيام.
- 6- شريعة الله فى الصوم والصلاة.
- 7- الدنيا والآخرة على طريق الإسلام.
- 8- المسجد الأقصى ومعركة النصر والفتح.
- 9- من أنوار القرآن الكريم.
- 10– أنت تسأل والإسلام يجيب.
- 11- التذكير بآيات الله فى النفس من البداية إلى النهاية.
- 12- هذه دعوتنا.
وبعد فهذه ترجمة موجزة لأئمة الجمعية الشرعية ، وبجانبهم وجد لفيف من العلماء والدعاة حفلت بهم الجمعية على مدار تاريخها.
البناء التنظيمي للجمعية الشرعية
قبل أن نذكر أهداف الجمعية الشرعية ومنهجها، يجدر أن نلقى نظرة على الهيكل التنظيمي لها، فمن خلال دقة التنظيم وحسن البناء تنجح الجماعة فى رسالتها،
ولقد أسست الجمعية الشرعية على النظم التالية:
- أولا: المركز الرئيسي بالقاهرة ومقره بشارع الجلاء، وكان قبل هذا فى الخيامية بالغورية حيث منزل محمود حطاب ومسجده. ويتكون مجلس الإدارة الذى يرأسه إمام الجمعية الشرعية،
- ولقد تم إنشاء مكتب استشاري يتكون من كل من : المستشار الديني والاجتماعي والقانوني والمالي، هذا بجانب اللجان المختلفة كلجنة الحج والزكاة والبحوث والعلاقات العامة والشباب ولجنة المصالحات ولجنة الإشراف على المجلة.
- ثانيا : الفروع: للجمعية الشرعية فروع رئيسية وعددها يقرب من مائة وثمانين فرعا وهذه الأفرع مسجلة بوزارة الشئون الاجتماعية، وتلتزم بقانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة، وينظم هذه الفروع مجلس إدارة يتكون من تسعة أفراد إلى خمسة عشر فردا.
- ثالثا: المكاتبلكل فرع من الأفرع السابقة عدد من المكاتب ، لكل منها مجلس إدارة يتكون من سبعة أفراد إلى تسعة أفراد ويبلغ عدد هذه المكاتب 2200 ( ألفين ومائتي) مكتب، تكاد تغطى مساحة مصر.
والفروع والمكاتب ترتبط بالمركز الرئيسي بالقاهرة ومن خلال الفروع والمكاتب يتركز جهد الجمعية الشرعية فى المجالات الآتية:
- 1- المساجد.
- 2- مدارس تحفيظ القرآن .
- 3- دور حضانة الطفل المسلم.
- 4- مدارس ابتدائية وإعدادية وثانوية.
- 5- المستوصفات ودور العلاج.
الشروط التى ينبغي أن تتوافر فى عضو الجمعية
يوضح قانون الجمعية الشرعية فى ا لمادة ( 13 ) الشروط التى يجب توافرها فى عضو الجمعية وهذه الشروط هى :
- 1- كل مسلم قبل أغراض الجمعية ومبادئها حسن السير والسلوك، ولم يصدر فى حقه حكم قضائي مخل بالرشف، ولم يحرم من مباشرة حقوقه السياسية ولا يقل عمره عن واحد وعشرين عاما.
- 2- أن يوافق مجلس الإدارة على طلبه، وأن يواظب على دفع الاشتراكات الشهرية.
كذلك أوضح قانون الجمعية الحالات التى تزول فيها العضوية ومنها ما يلي:
- 1- إذا تأخر فى دفع الاشتراكات.
- 2- إذا اتخذ من عضويته سبيلا للطعن فى الجمعية أو حاول الإضرار بها.
- 3- إذا صدر فى حق العضو أحكام مخلة بالشرف أو الكرامة ، أو صدر قرار بحرمانه من استعمال حقوقه السياسية.
- 4- إذا استعمل انضمامه للجمعية لغرض شخصي.
هذه الشروط سالفة الذكر مع التطبيق العملي والالتزام بالمهج، تتضح معالم رجل الجمعية الشرعية فضلا عما يلتزم به من ارتداء العمامة، وإرسال العذبة وحسن معاملته، لا سيما المعاملات المادية مما يجعله مصدر ثقة الناس ومحل رضاهم، ويعتبر هذا من أكبر عوامل انتشار الجمعية الشرعية.
أهداف الجمعية الشرعية ومنهجها فى الدعوة إلى الله
أ- أهداف الجمعية
تنحصر أهداف الجمعية فى النقاط التى اشتمل عليها قانونها وهى.
- 1- نشر التعاليم الدينية الصحيحة الخالية من البدع والخرافات.
- 2- تحفيظ القرآن الكريم والعمل على انتشار وتعمير المساجد ومحو الأمية.
- 3- تربية الفرد المسلم تربية إسلامية صحيحة.
- 4- رعاية الأسرة والطفولة أدبيا واجتماعيا.
- 5- تقديم المساعدات الاجتماعية للمحتاجين من الأفراد والأسر، وتجهيز ودفن موتى المسلمين الفقراء.
- 6- إحياء بيت المال بتكوين لجان الزكاة.
- 7- إصلاح ذات البين.
- 8- تيسير الحج والزيارة.
ومن مواد القانون المادة الثالثة وهى : "هذه الجمعية لا تتعرض للشئون السياسية مطلقا".
ب- منهج الجمعية فى الدعوة إلى الله
لكي تتعرف إلى منهج جماعة من الجماعات ، يجدر بنا أن نرجح بالبحث والدراسة للنصوص التى صدرت إبان فجر دعوتها، فمن خلال تلك النصوص يتضح ويتبلور منهج الجمعية الشرعية، من خلال منشور إلى العلماء والوعاظ المنتسبين لها عام ( 1331هـ ) واحد وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة وهذا هو نص المنشور.
" الحمد لله حمد من وعظ نفسه قبل أن يعظ سواه، والصلاة والسلام الدائمان على كوكب الإرشاد، ومنار الهداة وعلى آله وأصحابه، الذين بذلوا من أنفسهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله . أما بعد.
فقد رأت الجمعية الشرعية فى حضرة الأستاذ الفاضل.. من المكانة الأخلاقية والعلمية ما يؤهله لأن يجوب فدافد الأرض وغربا وجنوبا وشمالا.
يعظ المسلمين ويرشد الحائرين، ويذب عن دين الله شبهة الضالين والمارقين.
لذلك أسندت إليك هذا المنصب السامي مع علمها بخطورته ووعورة مسالكه. والجمعية ترجو منك أيها الأستاذ أن تتقى الله فيها وفى نفسك وفى المسلمين، فإنك قد أصبحت أمينا على دين الله ، مالكا زمام من ترشدهم تقودهم إلى حيث تريد فجنتهم ونارهم بين لحييك، فيجب عليك أن تجعل مركزك فوق ذلك الطبيب الحاذق الذى يعطى الأدوية لكل مريض ما يناسبه بمقادير خاصة، لا ينقص ولا يزيد عليها شيئا.
يعرف أن التباب فى طرفى الإفراط والتفريط وأن الجمعية تتيح لك أن تغدو وتروح فى تعليمك واضعا نصب عينيك إفادة المسلمين، متدليا من أهم إلى مهم فنبتدى بغرس العقائد فى نفوس من تباشر تعليمهم، مراعيا مذهب أهل السنة والجماعة.
بعيدا عن المشاغبات الكلامية والبراهين المنطقية، لصعوبتها على أفكار العامة من الناس. وتردف ذلك بتعليم مالا بد منه من أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج، وتتبع هذا نهيهم عما هو فاسد فى البلاد من المنكرات، كترك أركان الإسلام وكالربا والزنا وشرب الخمر والقتل،
وتعاطي كل مسكر من الأنبذة والحشيش والمنازيل، وتنهاهم أيضا عن السرقة والغش والإيمان الفاجرة والنميمة والغيبة، وسم البهائم وشق بطونها وحرق المزروعات وتقليعها ، وتنهاهم عن لعب الكاب المعروف بالسيجة والطاولة والكوتشينة، وغير ذلك من كل فعل باطني وقبيح ثم تعرج بهم إلى رياض الآداب النبوية والأخلاق المحمدية،
وتعلمهم لباس النبي صلى الله عليه وسلم وأكله وشربه، وغير ذلك من كل خلق نبوى يتعلق بعادة أو عبادة تمنحهم منه ما يطيقون، ثم تنحدر إلى ما يخالف ذلك من البدع فتنبه عليها، حاثا على اجتنابهم إياها اقتداء نبيهم صلى الله عليه وسلم وحبا فى أدب المصطفى صلى الله عليه وسلم وبغضا لما سواه بعبارة يفهمهم العام والخاص يصحبها التأني.
فإن فى الناس الغبي والذكي، كل ذلك وأنت رحب الصدر حلو اللسان طلق الوجه أزهد الناس وأبعدهم عن الفحش فى القول تسع السفيه والجاهل والمتعنت جاعلا محورك الذى يدور حوله الكلام قوله سبحانه وتعالى على لسان سيدنا لقمان رضي الله عنه يقول لابنه: " وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور".
وقوله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هى أحسن".
وإياك ثم إياك أن يخطر ببالك أن تتكلم فى موضوع سياسي فإن ذلك ليس من شأنك وحسبنا فى ذلك حكومتنا السنية حفظها الله وقواها " ومعلوم أن الدين دين الله والهداية لدينه بيده لا يملكها سواه وليس علينا سوى أن نعرف والحمل على الأمور والتعب لتنفيذها خارج عن الواجب علينا فلا نتعرض له.
فمن سمع وعمل فالخير أراد لنفسه ومن أعراض عنا وتركنا وما نأمر به فالخير أردنا وما علينا إلا البلاغ".
ومن خلال هذا المنشور يتلخص منهج الجمعية الشرعية فيما يلى:
- 1- أن يتقى الداعي الله فى دعوته.
- 2- التوسط فى الأمور فلا يجنح إلى الإفراط أو التفريط.
- 3- أن يبدأ الداعي بالأهم كالعقائد والعبادات فلمهم مع مراعاة مذهب أهل السنة والجماعة.
- 4- الدعوة إلى الاقتداء بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فى العبادات والعادات وتربية المسلم على الآداب النبوية.
- 5- النهى عن الكبائر والتحذير من الصغائر.
- 6- الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
- 7- عدم التعرض للأمور السياسية وهذا التوجيه سيكون محل مناقشة عند تقييم الجمعية غير أن هذا المنهج السالف الذكر قد يعتريه الجنوح فى بعض الأحيان والخروج عنه إلى الشدة أو التعنيف على المخالفين للمهج ويرجع إلى انخراط بعض أنصاف المتعلمين أو بعض أصحاب المهن الذين لم يكن لهم حظ وافر فى الفقه وفى نفس الوقت تدفعهم عاطفتهم الجياشة إلى هذا السلوك فيسيئون إلى الجمعية ومنهجها.
كما سيتضح فيما بعد إن شاء الله .
الاتجاهات الفكرية والعلمية للجمعية الشرعية
أولا : الاتجاه الفكري
إن الاتجاه الفكري الذى تتسم به الجمعية الشرعية، يدور حول التركيز على العقائد والعبادات والأخلاق وتنقيتها من البدع والضلالات،
ولقد سلكت الجماعة فى هذا المضمار مسلكا عمليا سنعرض له خلال ثنايا البحث، غير أنه توجد بعض القضايا الفكرية، كان للجمعية منها موقف واضح عبر تاريخها، وهذه الاتجاهات هى العمد الرئيسية للمنهج الفكري للجمعية،
وقد يعترى هذا الفكر جنوح البعض إلى الخروج عن المنهج، غير أن مرجعنا فى هذا اقوال مؤسسها وأئمتها ومجلة الاعتصام الناطقة بلسانها، هذا ويتضح مما ذكرنا عند التعرض للأهداف والمنهج أن الاتجاهات الفكرية تدور حول الأمور التالية:
1- موقف الجمعية من أصول العقيدة
إن مناط الحكم على جمعية من الجمعيات يرجع إلى منهاجها الفكري إزاء العقيدة الاسلامية، ومدى الالتزام بتلك العقيدة، بعيدة عن الانحراف والتأويل، وهل ما تعتقده له جذوره العلمية وأدلته الشرعية الضاربة فى أغوار الزمن، حتى المنبع الصافي القرآن والسنة وفكر السلف الصالح ؟
أم أن ما تعتقده ضرب من الجدل الفلسفي أو امتداد لآراء سبقت، أو اتجاهات استحدثت؟ هذا وإذا ما أمعنا النظر والدراسة حول موقف الجمعية الشرعية من أصول العقيدة نجدها امتدادا لمنهج السلف رضوان الله عليهم .
ويقول الإمام محمود خطاب: " إن عقيدتي فى الأصول ما كان عليه سلف الأمة المحمدية، وهى أنى موقن أن الله تعالى إله واحد متصف بكل الكمال المنزه عن كل نقص، وأنه تعالى خلق العرش والسموات والأرض والملائكة، وقد بعث الله للخلق أنبياء ورسلا كثيرين لا يعلمهم إلا الله وآخرهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،
وأن رسالة نبينا عامة لجميع المكلفين، وأنه لا نبي بعده ، وأن الأئمة المجتهدين كأبي حنيفة والشافعي على هدى وكذلك نهجت الجمعية الشرعية بالنسبة للمحكم والمتشابه منهج الخلف رضوان الله عليهم، فيقول الإمام محمود خطاب بعد أن استعرض فى كتابه الدين الخالص ،
وإتحاف الكائنات فى مذهب السلف والخلف فى المتشابهات: ومذهب السلف أسلم لأنه يحتمل أن الله عز وجل أراد معنى فى الآية غير ما فسرها به الخلف.
وفى نفس الوقت فسروا الآية بما يدل عليه اللفظ العربي، والقرآن عربي وحملهم على التفسير المذكور ولم يفوضوا كما فوض السلف وجود المشبهة والمجسمة فى زمانهم، زاعمين أن ظاهر الآيات أنه جسم ولم يفقهوا أنه مستحيل عليه عز وجل الجسمية والحلول فى الأمكنة" وبهذا يتضح منهج الجمعية الشرعية فى أصول العقيدة، أما بالنسبة للمحكم والمتشابه فلقد سار على نهج علماء عصره حيث قالوا منهج السلف أسلم ومنهج الخلف أحكم، غير أنه يميل لرأى الخلف ويعضده بالأدلة.
2- موقف الجمعية من الفروع
كانت القضايا الفرعية والمسائل الفقهية وما زالت محور خلاف الجمعيات الاسلامية، فكم احتدم نقاش وثار جدل على أمر فرعى لا يسبب الإتيان به أو تركه ضررا يمس العقيدة. غير أن الجمعيات خلال تاريخها، أفرغت جهدها فى هذه المسائل وتشاغلت بها عما سواها من جلائل الأمور وعظائم الأحداث التى أحدقت بالإسلام والمسلمين.
كما سيتضح عند تقويم الجمعيات إن شاء الله.
هذا ويعبر الإمام محمود خطاب عن رأيه ورأى الجمعية فى الفروع بقوله :
" وأما عقيدتي فى الفروع فهي طلب العمل بما ورد فى الكتاب والسنة المحمدية وجوبا أو استنانا ، وما أجمعت عليه الأمة المجتهدون وما لم يرد فيه نص واختلف فيه الأئمة، فأعمل فيه بمذهب الإمام مالك رضي الله عنهم أجمعين، وأن البدع فى العبادات ليست من الدين لا يتقرب بها إلى الله تعال وصاحبها عمله مردود عليه.
وأن إرسال العذبة سنة وردت فيها الأحاديث الصحيحة والحسنة، فمن فعلها فله ثواب فعلها ومن تركها حرم ثوابها ويعاتب على تركها، ومن استهزأ بها بعد العلم بأنها سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كفر والعياذ بالله، وكذلك الحكم فى سائر السنن المحمدية".
وكما سبق أن ذكرنا أنه قد يجنح بعض الأعضاء إلى الوعيد الشديد لمن ترك أمرا فرعيا، مما يؤدى إلى التشاحن والبغضاء بين الدعاة من مختلف الاتجاهات مما كان له الأثر السيئ على حركة الدعوة كما سيأتي.
3- موقف الجمعية من التصوف
للجمعية الشرعية إزاء التصوف موقف يتسم بالحكمة والاعتدال، فهي لم تسقط التصوف من فكرها ، ولم تنح منحى جمعية أنصار السنة فى إنكار التصوف أصلا، وأنه فكر دخيل على الإسلام كما سيتضح عند الحديث عنها.
ولكن الجمعية الشرعية أخذت من التصوف الجانب الخلقي والروحي، الذى يسمو بالنفس وطهرها من سموم المادة وشهوات النفس ونزعات الهوى. وأنكرت على التصوف ما يفعله البعض من بدع وضلالات. وتواكل وأكل لأموال السذج من المسلمين.
ومرجع هذا الاتجاه إلى ا لتربية الصوفية للإمام محمود خطاب، والتي تعرضنا لها أثناء التأريخ له فلقد جاء فى إحدى رسائله ما ينم عن روح صوفية خالصة فمما جاب بها: " الحمد لله مزيل الران على قول الواصلين ومنبت سر السر فى منهج العارفين،
والذي تجلى فى الصفات والأفعال والأسماء على منعناه من الطالبين، فجمعوا قبل ما عرفوا ، وشربوا بعد ما ذاقوا حق اليقين".
إلا أن الشيخ رحمه الله حمل على أرباب الطريق الذين ينحرفون بالتصوف، فلقد جاء فى الدين الخالص أسباب حملة الإمام والجمعية الشرعية على التصوف: " فسمع الأذكار المحرفة ورأى الألعاب البهلوانية،
وشاهد من يتظاهر بأكل النار والحيات والزجاج، وعاين الضرائب التى يجبيها مشايخ الطريق من مريديهم، وكأنها أموال أميرية، وأبصر النذور والهدايا وكأنها مسوقة إلى حرم الله، أو مبذولة لعيال الله الفقراء المحاويج".
هذا وألف الشيخ محمود خطاب كتابا بعنوان" الرسالة القدسية فى الأدب والأخلاق والطريقة الصوفية" وهو من أوائل كتاباته التى كان يقر فيها بعض ما أنكر على التصوف فى آخر ما كتب كالدين الخالص.
4- الجمعية الشرعية ومنهجها فى محاربة البدع
سبق أن ذكرنا فى الباب الأول من دوافع نشأة الجمعيات الاسلامية انتشار البدع والخرافات، لا سيما فى العبادات، ولقد تحدثنا عن تعريف البدعة وأسباب انتشارها وخطورة أمرها، هذا ولقد تصدت الجمعية الشرعية للبدع والمبتدعين، وعدوا " كل عبادة لم يرد بها نص عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم تأت فى عمل من أعماله ولا من أفعال الصحابة فهي بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار".
ولقد نهجت الجمعية الشرعية فى محاربة البدعة منهجين:
المنهج الأول :
- الأسلوب العملي : فمن خلال مساجد الجمعية التى تنتشر فى ربوع البلاد، ويلتزم فيها الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل ما روى وصح عنه من عبادات، حتى إنهم فى بناء المساجد عمدوا إلى البساطة، وانفردت مساجدهم وكذلك مساجد أنصار السنة المحمدية بعدم وجود محاريب، لورود النهى عن ذلك كذلك التزم أعضاء الجمعية باجتناب ما تعارف الناس عليه من بدع المآتم وبناء القبور ورفعها،
- ولقد اقتطعوا من مقابر القاهرة قطة أرض بنوا عليها مقابرهم على الوجه الشرعي، وكان لهذا الأسلوب العملي أثر كبير فى تصحيح عقائد المسلمين وعباداتهم فإن فعل رجل فى ألف رجل ابلغ من قول رجل فى رجل.
المنهج الثاني: الأسلوب العلمي:
- بجانب الالتزام العلمي بإحلال السنة مقام البدعة فى العبادات، فلقد كان لرجال الجمعية دور كبير فى إثراء الفكر الاسلامى المعاصر، من المؤلفات العلمية والفتاوى الدينية ، التى تنير بصائر المسلمين وتأخذ بأيديهم من متاهات البدع والضلالات والخرافات، إلى نقاء العقيدة وصفائها.
- هذا ولقد سلك الإمام محمود خطاب منهجا علميا فريدا إذ رفع غلى علماء الأزهر وشيوخ الإسلام أسئلة بكل ما تأتى به العامة من أفعال شاعت وذاعت، حتى ألبس الحق بالباطل،
وحصل من العلماء على الإجابة المدعمة من القرآن والسنة موقعة بإمضائهم ، ولقد دونها رحمه الله فى كتاب سماه " فتاوى أئمة المسلمين بقطع لسان المبتدعين" وسار على نهجه نجله المرحوم الشيخ أمين خطاب، فوضع كتابا بعنوان " فتح الملك المبين بتتميم فتاوى أئمة المسلمين" هذا بجانب المؤلفات العديدة فى هذا المجال،
وقد سبق الإشارة إلى هذه المؤلفات عند الترجمة لأعلام الجمعية، وقد كان لمجلة الاعتصام دور بارز فى مناهضة البدع لا سيما بابها المعنون " الفتاوى " وبجانب العديد من الموضوعات والمقالات التى دونت على صفحاتها، منذ عام سبعة وثلاثين وتسعمائة وألف.
5- موقف الجمعية من الأمور السياسية
اختطت الجمعية الشرعية فى باكورة دعوتها منهجا فكريا، حافظت عليه ردحا من الزمن، هذا المنهج هو عدم التعرض للأمور السياسية وهى سابقة حينذاك جديدة وخطيرة فى مسار الدعوة الاسلامية، إذ اتبع ذلك دعاوى فصل الدين عن الدولة والمقولة الخطيرة: لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة مما سنعرض له فى حينه إن شاء الله .
فلقد جاء فى المنشور الصادر غلى الدعاة: " وإياك ثم إياك أن يخطر ببالك أن تتكلم فى موضوع سياسي، فإن ذلك ليس من شأنك، وحسبنا فى ذلك حكومتنا السنية ، حفظها الله وقواها".
ولقد نص قانون الجمعية الشرعية فى مادته الثالثة على ما يلي: " وهذه الجمعية لا تتعرض للشئون السياسية مطلقا" غير أن هذا النص لم يلازم الجمعية خلال مسيرتها، إذ أنها كانت تلتزم به حينما يضيق الخناق على الدعوة والدعاة، وتتجاهله حينما يخف الضغط،
ولقد كانت مجلة الاعتصام – لسان حال الجمعية الشرعية – لها صوت مدو فى كثير من القضايا السياسية، مما عرضها للمصادرة أكثر من مرة ولعلماء الجمعية الكثير من المواقف المحمودة فى الأمور السياسية.
ولقد كانت الجمعية لا تألو جهدا فى مخاطبة الحكام لتطبيق شرع الله ، فعقب قيام ثورة ( 23 يوليه 1952 م ) ، أرسلت الجمعية على لسان رئيسها الشيخ أمين خطاب بيانا إلى مجلس قيادة الثورة، يتضمن هذا البيان ثلاثة عشر بندا،
سأعرضها ليتضح تصور الجمعية نحو إقامة مجتمع مسلم فبعد الديباجة والمقدمة فها هى ذي أسس الإصلاح:
- أولا: أن تكون القوانين كلها مستمدة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي أساس العلاج فى الدنيا والآخرة، وبها صلاح حال الراعي والرعية والله يقول: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون".
- ثانيا : العمل على تنظيم المرحلة الأولى من مراحل التعليم، بما يتفق وأحكام الدين وأغراضه، وذلك بأن تقرر حفظ ما تيسر من القرآن الكريم على كل تلميذ بعناية تامة وإخلاص كامل، ذلك أولى وأحق من التغالى فى النهوض بلغة الأجنبي الطارئ.
- ثالثا: إلزام كل من يباشر عمله فى الدولة بتأدية ما فرض الله عليه، وبخاصة الصلاة وصوم رمضان، فمن لوحظ عليه تفريط يعذر ثم ينذر ثم يفصل من عمله، فمن فرط فى حق الخالق فرط فى حق المخلوق.
- رابعا: وضع نظام خاص لجباية الزكاة المتنوعة، ممن وجبت عليهم الزكاة وذلك سهل وميسور، فللبريد فى الدولة سعاة وللأموال الأميرية جباة، والزكاة بجميع أنواعها يجب أن يكون لها سعاة وجباة.
- خامسا: استئصال البدع والخرافات من المساجد والأضرحة والموالد كلها، حتى يشيع بين المسلمين والمسلمات روح العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
- سادسا: القضاء على الدعارة وغيرها بشتى الوسائل فى جميع مواطنها بقوة ورهبة، حتى توجد فى نفوس المواطنين ظاهرة قوية تدفعهم للذود عن أعراضهم وأوطانهم.
- سابعا: مطاردة الخمر بجميع أنواعها، ومعاقبة شاربها وبائعها وصانعها مسلمين وغير مسلمين.
- ثامنا: محاربة المكيفات والمخدرات لا فرق بين دخان أو غيره.
- تاسعا: القبض بيد من حديد على كل امرأة متبرجة مسلمة وغير مسلمة، فإن الأديان كلها علمت المرأة أدبها واحتشامها.
- عاشرا: القضاء على الربا فى جميع أماكنه حكومية وغير حكومية.
- حادي عشر: القضاء على الميسر فى ضروبه ولعيه، فهو من جرائم المجتمع.
- ثاني عشر: إغلاق المسارح والمراقص والملاهي فإنها نشرت الخنوثة والميوعة فتناقص الحياء وتبدلت الطباع.
- ثالث عشر: إلغاء الموالد فى جميع القطر فالموالد مباءة الإثم والموبقات.
- رابع عشر: منع النساء من زيارة الأضرحة والمقابر والسير وراء الجنازة.
والله نسأل أن يكلأنا جميعا برعايته، ويديم لنا منحة التوفيق وكمال السداد.
رئيس الجمعية الشرعية
فهذا البيان يحدد أمل الجمعية فى تطبيق شرع الله، وهو فى نفس الوقت أمل كل مسلم يحمل بين ثنايا صدره قلبا يدين بالولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، كما كان للجمعية صوت مسموع فى كثير من القضايا مثل تنظيم النسل، وقضية المرأة ، والصلح مع إسرائيل، وهذه قضايا بعض الدعاة يبتعد عنها، لكيلا يقع تحت وطأة المساءلة والمؤاخذة.
6- مجلة الاعتصام
من المعالم الفكرية للجمعية الشرعية مجلة الاعتصام لسان حالها والناطقة بلسانها والمعبرة عن اتجاهاتها ومؤسسها الأستاذ أحمد عيسى عاشور، ويرجع تاريخ هذه المجلة إلى عام ( 1939 م ) ، ولقد اقترنت بالجمعية منذ عددها الأول الذى صدر عام ( 1356 م – 1939 م ) ،
يقول مؤسسها: " كنت قبل صدور مجلة الاعتصام أتعثر فى الدعوة إلى الله فكتبت تارة فى مجلة الفضيلة لصاحبها الحاج عبد اللطيف زهران.
ولكن حرصي على إصدار مجلة تكون لسان حال الجمعية الشرعية دعاني إلى أن أعرض الأمر على الإمام أمين خطاب.
وصدرت فى عهد النقراشي باشا ، هذا ولقد أثرت المجلة فى الفكر الاسلامى الحديث بالعديد من الموضوعات وعالجت الكثير من القضايا الاجتماعية كما تصدت لكل محاولات الكيد للإسلام وكشفت دعاوى المستشرقين ورغم أن قانون الجمعية،
يحذر من الانخراط فى أمور سياسية ، إلا أن المجلة وعلماء الجمعية وقفوا فى وجه فصل الدين عن الدولة، لا سيما حينما استشرت فرية " لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة" كما كان لها مع الصلح مع إسرائيل رأى ينبع من فكر إسلامي صادق ، فلم تصمت كما صمت غيرها بل التزمت الخط الاسلامى، مما عرضها فى بعض الأحيان لحرمانها من الصدور، كذلك لا ينسى خلال تاريخ المجلة موقفها من القضايا التى تخص الأزهر والأزهريين،
ولو ذهبنا نستعرض هذه المواقف لأعيانا البحث، غير أن المجلة فى عهدها الأخير وقبل توقفها عن الصدور فى سبتمبر ( 1981 م ) ، قلت موضوعاتها العلمية ولجأت إلى الخبر والتعليق عليه، كما أنها جنحت إلى مخاطبة العواطف وإثارتها دون تربية العقول وإرشادها،
كما أن فتح نوافذ حرية التعبير فى حقبة السبعينات جعل المجلة تنزلق إلى النقد اللاذع والتطاول فى بعض الأحيان، حيث اتخذ هذا ذريعة إلى مصادرتها، ومازالت مصادرة حتى كتابة هذه الصفحات.
مما سبق تتضح الاتجاهات الفكرية للجمعية الشرعية، وهذه الاتجاهات تؤتى ثمارها وتحقق الهدف منها، حينما توجد القدوة الحسنة والأسوة الطبية والسلوك المنضبط الملتزم بالفكرة والمنهج وهذا ما سيتضح فى المبحث الثاني عن التربية العلمية لأبناء الجمعية الشرعية.
ثانيا : التربية العملية لأعضاء الجمعية الشرعية
إن مقياس النجاح لجماعة من الجماعات منوط بما تحققه من تربية لرجالها وأن تجعل منهم صورة عملية لما يعبر عنه فكرها، فكم من أفكار وآراء ظلت حبيسة القلم والقرطاس، وليس لها مع دنيا الناس موقع، ولا على سلوكهم أثر ، هذا ولقد استطاعت الجمعية الشرعية خلال مسيرتها منذ مطلع القرن الرابع عشر الهجري أن تحتفظ بشخصيتها المستقلة، بل تخلى الكثير من علماء الأزهر عن زيهم المتعارف عليه وكادوا لا يعرفون وسط الأمة فجهلهم الناس.نجد عضو الجمعية يميز من بين جماهير المسلمين بعمامته البيضاء وعذبته المرسلة بين كتفيه،
ولحيته ومعاملة طيبة، خاصة فى الأمور التى يتصف بها عضو الجمعية الشرعية، ترجع للتربية العملية والتي نحدد معالمها فيما يلي:
- أولا: مواصفات من ينضم للجماعة وقد سبق الإشارة إليها، فالعضو هو الذى يسعى للانضمام ولا تفرض عليه العضوية، وهذا معيار النجاح لرواد الجمعيات الاسلامية عموما، فهم ينطلقون فى مجال الدعوة من ذاتهم، أما حينما تفرض الدعوة على الإنسان بحكم الوظيفة دون الاستعداد لها، فإنه يضيق بها ويتبرم منها ويصبح عبئا عليها.
- ثانيا: المسجد يعتبر المكان الوحيد والمفضل الذى يتربى المسلم فيه على نور الإسلام وهدى القرآن وسنة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولا يخفى دور المسجد فى إعداد الصفوة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين. هذا وإن من الظلم لرسالة المسجد أن يقتصر فيه على ا لصلوات الخمس فقط،
وتصبح صلة المسلم به مقصورة على أن يقتصر فيه على الصلوات الخمس فقط، وتصبح صلة المسلم به مقصورة على ركعات يخطفها خطفا، ويخرج من المسجد تائها فى زحمة الحياة ومشاكل الدنيا وأعباء الرزق.
وإن أفدح ما نزل بالأمة هو أن تؤدى عباداتها على أنها عادة لا عبادة. ولقد فطنت الجمعية الشرعية إلى أهمية المسجد وجعلته محور رسالتها، ومدرسة لأعضائها وجعلوا ارتباط العضو بالمسجد ارتباطا وثيقا، فلا يكاد يتخلف عن الصلوات الخمس حيث تؤدى بخشوع واطمئنان، قد يقارب الكمال.
فضلا عن حلقات العلم الثابتة والدروس الفقهية، التى تتميز بالنظام والانضباط، ومن المساجد التى تخرج فيها رعيل من رجات الجمعية، مسجد الجمعية الذى أنشأه الشيخ محمود خطاب فى عطفة الجوخدار بشارع الخيامية بالقاهرة، فلقد كان للشيخ رحمه الله دروس ثابتة بعد صلاة الجمعة وليلتي الجمعة والسبت،
وقد درس سنن أئمة الجمعية، ودعاتها فأصبح لهم دروس ثابتة يقصدها الآلاف ويفد إليها من أنحاء البلاد، لا سيما درس الأربعاء فى مسجد الخيامية والسبت فى مسجد الجلاء. وقد ألحقوا بالمسجد مدارس لتحفيظ القرآن.
ومستوصفات العلاج، ومدارس لحضانة الطفل المسلم، وتوجد فروع رائدة فى هذا المضمار كفرع المنيا، ودار السلام، والمحلة الكبرى والمنصورة.
ولقد توسعت الجمعية فى بناء المساجد حتى أصبح لها ما يزيد على ألفى مسجد فى أنحاء الجمهورية، تفوق مساجد الأوقاف الحكومية من ناحية العناية والنظافة وارتباط المسلمين بها، مما جعل وزارة الأوقاف تصدر قرارا بعدم ضم مساجد الجمعية بناء على توصية مجلس الشعب، وذلك عام ( 1971 م ) وهذا هو نص الخطاب الوارد بهذا الشأن " السيد رئيس الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
رأى السيد وزير الأوقاف أن تبقى الجمعية الشرعية مشرفة على المساجد التابعة لها بالقاهرة وسائر المحافظات".
ثالثا: التربية الشرعية فى مجالات التجارة:
كان للتجار الصادقين فى صدر الإسلام دور عظيم فى نشر الإسلام ، فمن خلال القدوة الحسنة والمعاملة الطيبة للتجار اليمنيين والحضارمة عبر البحر الأحمر، إلى مجاهل إفريقيا،
وكذلك المحيط إلى الهند والصين، فإن التعامل بالدرهم والدينار هما معيار صدق المسلم ، اقتداء بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى".
لهذا أفردت الجمعية الشرعية فى قانونها الاساسى الالتزام فى المجالات المادية بتوجيهات الإسلام، والتعاون فيما بينهم فى أمور البيع والشراء،
فلقد جاء فى المادة ( 38) من قانون الجمعية ما يلى: " أفراد الجمعية تعاملهم محصور فيما بينهم على قدر الإمكان، ليؤمونا غش من لم يخش الله فى معاملته".
لهذا رأى مجلس إدارة الجمعية وضع دليل يتعرف منه إلى التجار وأرباب الحرف الذين ينتمون للجمعية الشرعية،
وتأخذ عليهم التعهد التالي: " إنى أعاهد الله تعالى على التزام دينه الحنيف، وتلقى الأحكام الشرعية التى تهمنى فى دينى ودنياي، وأن أتقن عملي مع الصدق فى المعاملة، وتجنب الحلف ولو صادق وترك الغش والخيانة، ونقص المكيال والميزان غير قادح فى صانع أو تاجر،
واضعا نصب عيني قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" وقوله : " ولا تطع كل حلاف مهين " وقوله تعالى: " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون" ، وإني أتعهد بأن أتجنب ما يوقعني تحت وعيد المادة الرابعة والأربعين وهى: " لو ثبت خيانة على أى فرد من أفراد الجمعية فى دين أو دنيا، أو حصل منى فعل مخالف لمبادئ الجمعية الشرعية.
أو صدرت ضده أحكام قضائية مخلة بالسمعة والشرف، أحاله مجلس الإدارة على لجنة المحكمين للنظر فى أمره ولها معاقبته بما تراه" .
وإذا صدر منى ما يخالف هذا التعهد فإني مستعد فى شطب اسمي من الدليل مع قبولي من الآن جميع ما تقرره لجنة المحكمين بدون أية معارضة، ولها الحق فى إباحة مقاضاتي بالمحاكم.
وقد تسلمت صورة من هذا التعهد للعمل بما فيه، ومن الله تعالى أستمد المعونة والهداية والتوفيق" بجانب تلك التوجيهات والمواثيق فقد أنشأت الجمعية مصنعا للمنسوجات اليدوية من القطن والكتان وكان الغرض من هذا المصنع:
- أولا : منافسة المصانع الأجنبية.
- ثانيا: هى أقرب إلى الملابس الاسلامية.
- ثالثا: عدم التشبه بملابس الإفرنج.
ولقد ظلت هذه المنسوجات زمنا طويلا ، غير أنها لم تقو على منافسة الصناعات الأجنبية فأغلقت مصانعها.
مما سبق يتضح أسلوب التربية العملية فى مقام البيع والشراء.
رابعا: معهد الإمامة
لا تألوا الجمعية فى تطوير رسالتها، والارتقاء بمستوى دعاتها.
لهذا أنشأت معهد الإمامة للدراسات الاسلامية، وتدريب المرشدين على الوعظ والخطابة، ولقد افتتح هذا المعهد عام ( 1964 م ) ، ومدة الدراسة به سنتان ويختار الدارسون ممن ترشحهم الفروع والمكاتب التابعة لها، ويشترط فى الدارس حفظ القرآن الكريم وبعض من أحاديث الرسول صلى اله عليه وسلم، والإلمام بقواعد النحو والصرف، ولقد توسع فى معاهد الإمامة فبجانب المعهد الرئيسي بالقاهرة فتحت معاهد فى كل من المطرية وبنها والمحلة الكبرى والمنصورة والإسكندرية والجيزة وبني سويف.
وبجانب الدراسة العلمية يقوم الدارسون بالتدريب فى مساجد الجمعية تحت إشراف الرواد من الدعاة، وبهذه التربية استطاعت الجمعية الشرعية أن تفي باحتياجات مساجدها، بينما نجد وزارة الأوقاف تعانى نقصا كبيرا فى أئمتها.
خامسا : المنشآت التابعة للجمعية الشرعية
أقامت الجمعية العديد من المؤسسات للنهوض بالدعوة الاسلامية، واتجهت بها اتجاها عمليا دون الاقتصار على الوعظ والإرشاد فحسب الذى أطفئت شعلته ولم يعد يقوى على مواجهة أجهزة الإعلام، التى اقتحمت على الناس بيوتهم، وفرضت عليهم برامجها التى تحمل بين ثناياها سموم التحلل والرذيلة.
لهذا أنشأت الجمعية المنشآت التالية:
- 1- مدارس تحفيظ القرآن الكريم، وإقامة حلقات تحفيظ بالمساجد.
- 2- حضانة الطفل المسلم.
- إن اهتمام الجمعيات الاسلامية بالطفل المسلم قد جاء متأخرا وبعد فوات الأوان فإن مدارس التبشير منذ مطلع هذا القرن وهى تؤسس المدارس والإرساليات التعليمية فى أرقى الأحياء، لتستقطب أبناء الطبقات القيادية، والتي تعد أبناءها للمناصب العليا ولم تلق هذه المدارس منافسة إسلامية على الإطلاق، سوى مدارس الجمعية الاسلامية التى أسسها المرحوم الإمام محمد عبده، ولكنها طويت مع الزمن،
- وما زالت مدارس التبشير تبث سمومها فى عقول أبناء المسلمين، هذا ولقد بدأت الجمعية الشرعية فى إنشاء رياض الأطفال، وإن كان عددها ما زال قليلا، غير أن الأمل معقود على توفيق الله ثم على رجال الجمعية فى انتشار رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، كما نأمل ألا يستغل البعض اسم الجمعية أو يرفع لافتة المدارس الاسلامية ويرهق المسلمين بالرسوم الباهظة فيلجئوا غير آسفين إلى مدارس التبشير، والتي ينفق عليها بسخاء من الفاتيكان ، وتوجد فروع رائدة فى هذا المضمار، كفرعي المنيا والمحلة الكبرى.
- 3- المستوصفات ودور العلاج:
- اتجهت الجمعية أخيرا لبناء المستوصفات ودور العلاج لأبناء المسلمين، وهم يهدفون من هذا إلى الحد من نشاط المستشفيات الأجنبية- كالقبطي واليوناني والايطالي- التى استغلت آلام المريض وأنينه، فقدمت له الدواء يحمل بين ثناياه سموم التبشير والتدمير العقلي للمسلم، لهذا أنشأت الجمعية عددا محدودا من العيادات الاسلامية ودور العلاج، وهذا منهج فى التربية وبداية على الطريق لانتزاع المسلم من بين براثن الإلحاد والتبشير.
مما سبق دراسته يتضح منهج الجمعية الشرعية فى التربية العلمية والمعلية، وكيف تصوغ أبناءها على نور الكتاب والسنة، وبجانب هذه الوسائل الفكرية والعملية، فإن الجمعية لا تألو جهدا فى تطوير رسالتها والنهوض بها وفق متطلبات العصر،
فلقد عقد مؤتمر باسم: " المؤتمر العلمي الأول" والذي وافق مجلس إدارة الجمعية على قراراته فى ( 6 ربيع الثاني عام 1401 هـ - 11 فبراير 1981 م ) ،
وهذه القرارات على النحو التالي:
أولا: من الناحية الثقافية:
- 1- إنشاء مكتبة جامعة بمسجد الإمام محمود خطاب بالجلاء وأخرى بالخيامية.
- 2- تزويد الفروع المركزية بأمهات الكتب من مؤلفات الأئمة والعلماء.
- 3- إصدار كتب دورية تشرح عظمة الإسلام وسمو تشريعاته.
- 4- إنشاء مكتبة صوتية تضم خطب ومحاضرات العلماء.
- 5- إصدار مجلة شهرية، تعبر عن الجمعية ونشاطها ولنشر الفتاوى ويخصص بها أبواب للإعجاز القرآني الحديث النبوي.
- 6- عمل معارض متنقلة لكتب الجمعية والتعريف بها.
ثانيا: تربية النشء المسلم:
- 1- التخطيط لمدارس إسلامية من الحضانة حتى الجامعة ووضع منهج إسلامي لجميع مراحل التعليم، وبدأت باكورة هذا العمل بفرع المنيا، حيث أنشئت مدارس ابتدائية وإعدادية تربى الطفل على آداب السلوك اليومي للرسول صلى ا لله عليه وسلم ، ولقد أقرت وزارة التربية والتعليم مناهج هذه المدارس.
- 2- اقتراح منهج لتحفيظ القرآن الكريم ورصد الجوائز والحوافز والاهتمام بفصول التقوية فى جميع مراحل التعليم.
- 3- إضافة المواد التى لابد منها للتعريف بالإسلام وجعله سلوكا للمسلم.
ثالثا: الوعاظ وتدعيم الدعوة:
- 1- عقد دورات تدريبية لوعاظ الجمعية، وبعد النجاح يقسمون غلى فئات ويوزعون على المساجد حسب مستواها.
- 2- سيكلف بعض الوعاظ البارزين بتدريب عملي لعشرة من المبتدئين.
- 3- ربط معاهد الإمامة للفروع بمعهد الجمعية الرئيسي، مع دراسة توحيد المناهج، بحيث تنهل جميعا من منهل واحد.
- 4- الكتب الدينية التى تقرها اللجنة العلمية تعطى للوعاظ بتخفيض يصل إلى ( 50 %)
- 5- إيفاد بعض الوعاظ البارزين مع بعثة الحج للإرشاد إلى المناسك على الوجه الأكمل.
- 6- إيفاد عدد من العلماء كل شهر، لمتابعة أعمال الفروع وحل مشكلاتها وأداء خطبة الجمعة.
- 7- إنشاء لجنة تتابع أجهزة الإعلام، للوقوف عل كل ما يعلن ضد الإسلام ووضع تقرير به لفضيلة الإمام.
- 8- تمثيل الجمعية فى جميع المؤتمرات الاسلامية العالمية.
رابعا: النواحي المالية والإدارية:
- 1- العمل على إنشاء بنك إسلامي تنميه الجمعية الشرعية الرئيسية بإسهام جميع الفروع.
- 2- تشكيل لجنة بفرع كل محافظة تسمى لجنة الإشراف والتوجيه، ومهمتها التوجيه والإشراف عل فروع المحافظة ماليا وإداريا.
- 3- تشكيل لجنة تسمى لجنة العلاقات العامة، مهمتها استقبال مندوبي الفروع والعمل على راحتهم، والمعاونة فى إنهاء أعمالهم بالقاهرة.
- 4- إنشاء دار ضيافة بمقر الجمعية الرئيسي بالقاهرة، وبمقار الفروع بالمحافظات.
- 5- تدعيم الفروع التى تعمل على إنشاء دور للطباعة والنشر.
وبلا شك فإن هذه القرارات والتوصيات عمل طيب ينم عن نية صادقة ، لعمل إسلامي متألق، ولكن الأطيب والأعظم حينما ترى هذه المشروعات النور وتخرج كلها إلى حيز التنفيذ، وهذا أمر إن شاء الله ميسور إذا ما صدقت النية وعقد العزم،
وكما قيل: إن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، ولعل دعاة الجمعية الشرعية يقيمون أعمال جمعيتهم خلال القرن الرابع عشر الهجري، ليبدأوا مع القرن الخامس عشر من حيث انتهوا مع نهاية القرن المنصرم، لا ليبدأوا من حيث بدأت دعوتهم فى أوائل القرن الرابع عشر الهجري.
الجمعية الشرعية فى الميزان
إن أى عمل فى محيط العقل البشرى لابد أن تكون له إيجابياته وسلبياته، وهذا دليل على أن الكمال لله وحده.
كما أن الباحث حينما يتعرض للسلبيات فليس المقصود تجريحا أو قدحا أو غمطا للحق أو تقليلا لقيمة عمل بذله، ولكن وجهة نظر يعتقد فيها الصواب ويقصد بها الوصول إلى مشرف العمل الاسلامى الصحيح، وقبل أن نضع الجمعية الشرعية فى ميزان التقييم،
فإنه يجدر بنا أن ندحض مفتريات ألصقت بها دعاوى اقترنت باسمها ومرجعنا فى دحض هذه المفتريات أقوال أئمتها ودعاتها من الفقهاء فمن هذه المزاعم ما يلى:
أولا: زعم البعض أن دعوة الجمعية الشرعية دعوة إلى مذهب جديد فى الإسلام يضاف إلى العديد من المذاهب الأخرى، وأطلق عليهم " السبكيون" أو " الخطابيون" وأن رجال الجمعية لا يصلون فى مساجد غيرهم، وأنهم غلاظ متشددون إذا ناقشوا أو نوقشوا ،
ويرد على هذا الكلام المرحوم الشيخ أمين محمود خطاب حيث قال: " ديننا معشر أهل السنة والجماعة، العمل بالكتاب والسنة وما ثبت عن الأئمة رضوان الله عليهم يعلم ذلك من خالطنا وطالع كتب الجماعة.
وعلى هذا فالجمعية لم تأت بمذهب جديد فى الإسلام، وإنما هى دعوة إلى العمل بالكتاب والسنة ومحاربة البدعة، وبالنسبة لمن زعم أن رجال الجمعية غلاظ متشددون نعم قد يصدق هذا الزعم على البعض، ممن ينتمون إلى الجمعية بدون خلفية دينية وليس لديهم الإدراك الكامل بأسلوب الدعوة، فتحركهم العواطف الجياشة إلى الغلظة والشدة،
وحينما نسترجع أقوال الشيخ محمود خطاب التى بعث بها إلى الدعاة فى المنشور الصادر عام ( 1331 هـ - 1913 م ) ، نجده ينهى ويحذر مما ينفر من الدعاة فيقول:" كل ذلك وأنت رحب الصدر حلو اللسان، طلق الوجه وأزهد الناس وأبعدهم عن الفحش فى القول، تسع السفيه والجاهل والمتعنت .
جاعلا محورك الذى يدور حوله الكلام قوله سبحانه: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين".
ثانيا: يزعم البعض أن الصلاة لا تصح إلا فى مساجد الجمعية، وأنهم يطيلون فى الصلاة إلى درجة تدعو للتنفير والهروب من مساجد الجمعية،
ويرد على هذا أيضا بكلام المرحوم الشيخ أمين خطاب فيقول: " إنا نصلى فى مساجد المسلمين خلف كل إمام مستقيم، وما أنشأنا مساجد فى بعض الجهات، إلا ليتسنى لنا إقامة الشعائر الدينية طبقا للوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وبالنسبة للتطويل فى الصلاة فنجد فى كلام الشيخ أمين ما يدحض هذا الزعم فيقول: " على الإمام أن يراعى فى الصلاة ظروف المأمومين،
فإذا اطمأن قلبه وتأكد لديه أنهم لا يتأذون من التطويل المسنون ، أطال على نحو ما جاء فى السنة فعن أبى برزة الأسلمى قال : كان صلى الله عليه وسلم يقرأ فى الفجر ما بين الستين والمائة آية ".
" وعن أبى سعيد الخدرى أن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فى صلاة الظهر فى الركعتين الأوليين فى كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفى العصر فى الركعتين الأوليين قدر قراءة خمس عشرة آية."
ثم يستطرد المرحوم الشيخ أمين خطاب فيقول:" فإذا تأكد لدى الإمام أو غلب على ظنه أن فى المأمومين أرباب أعذار، وأصحاب أعمال يتضررون من التطويل المسنون،
فعليه أن يراعى حالهم وتصبح السنة حينئذ هى التخفيف بعد أن كانت هى التطويل" بدليل ما روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان معاذ بن جبل يؤم قومه فدخل حرام وهو يريد أن يسقى نخله فدخل المسجد ليصلى مع القوم فلما رأى معاذا طول تجوز فى صلاته ولحق بنخله يسقيه فقال: إنه منافق أفعجل عن صلاته من أجل سقى نخله؟ قال فجاء حرام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده معاذ فقال يا نبى الله إني أردت أن أسقى نخلاتي فدخلت المسجد لأصلى مع القوم،
فلما طول تجوزت فى صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه فزعم أنى منافق فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال: " أفتان أنت ؟ أفتان أنت؟ لا تطول بهم اقرأ بسبح ربك، والشمس وضحاها ونحوها" مما سبق يتضح عدم صحة ما نسب إلى رجال الجمعية الشرعية من مفتريات ، ساعد على انتشارها فى تصوري غير المؤهلين للدعوة، ولست أقصد بغير المؤهلين من لم يحمل شهادات علمية، ولكن كل من يتصد للدعوة وليس يملك مقومات نجاحها، فيصبح عبئا عليها مانعا دون انتشار مبادئ الجماعة التى ينتسب إليها.
الجمعية الشرعية
بين التقييم والتقويم بعد أن استعرضنا فى الأبحاث السابقة تاريخ الجمعية وأهدافها ومناهجها الفكرية والملية، وفندنا ما ألصق بها من دعاوى ،
فإن من موجبات البحث العلمي أن نختم هذا الفصل بالنقد الموضوعي الهادئ الذى لا يقصد منه قدح ولا انتقاص، وإنما الهدف أن نبحث عن أوجه القصور ونفتش عن مواطن الزلل لتوضع بين يدي الدعاة من رجال الجمعيات الاسلامية، فيقوموا ما اعوج ويتداركوا ما فات.
مريدا ما أراده شعيب عليه السلام فى قوله تعالى.
" إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".
وتتلخص ملاحظاتي حول الجمعية الشرعية فى الأمور التالية:
أولا: المنهج
منذ فجر رسالة الجمعية الشرعية وحتى الآن، ومنهجها يدور بين العقائد والعبادات ، وهما بلا شك جليلان وخطران إذا ما تشبع بهما عقل المسلم وقلبه، غير أن الجمعية قد اقتصرت عليهما فقط مما أفقد دعوتها التكامل والشمول، ولو قدر لهذه الجمعية ولغيرها من الجمعيات التى تعمل فى حقل الدعوة أن تسير على منهجين متصلين متوازيين يجمعان بين العقيدة والعبادات وما يطرأ على المجتمع من قضايا لأصبح لهذه الجمعيات شأن يختلف تماما عما هى عليه الآن.
فلقد شهد النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري موجات عاتية ومتلاحقة من الغزو الفكري والاحتلال العسكري والاقتصادي، وكان صوت الجمعية يكاد يكون خافتا،
ولم تقابل هذه الموجات العاتية بنفس أسلوبها. بمدارس تقام، ومستشفيات تنشأ، ومصانع ترتفع وأجهزة إعلام لديها القدرة على الإقناع والاحتواء ، بل نجد الجمعية الشرعية ونظيراتها تدر فى موضوعات تكررها وتعيدها،
وكلما عفا عليها الزمن عادت تطل من جديد بنفس الأسلوب القديم، وحينما يستعرض الباحث فهرس الموضوعات لمؤلفات أئمة الجمعية، نجده يكاد يخلو من دعوة إلى جهاد الأعداء أو الإصلاح السياسي،
ولولا خشية الإطناب لاستعرضت الكثير من الموضوعات التى أفرغت فيها الجمعية جهدها، وليس نقدي لما تهتم به من أمور العقائد والعبادات، ولكن لاقتصارها على تلك الأمور، دون أن تتجاوز ذلك إلى واقع المسلمين وكيفية النهوض بهم.
ثانيا: لا يختلف باحث على أهمية النشء ووجوب العناية به ورعايته فالنشء هم أطفال اليوم وأمل الغد ورجال المستقبل وكما سبق أن ذكرت أن ميدان الاهتمام بالطفولة كان شاغرا خلال القرن الرابع عشر الهجري،
وتعرض الطفل المسلم لدعاة العلمنة والتغريب، فنزعوا منه كل ولاء لله ولرسوله وللإسلام. فضلا عما قامت به مدارس التبشير والاستشراف فخرج جيل ضعيف الإيمان ضحل الثقافة، مختل التفكير .
لهذا لم يصمد هذا الجيل أمام الغزو العسكري والفكري مما تسبب عنه ضياع أجزاء عزيزة من ديار الإسلام ،
وفقدان أغلى شيء فى حياة الإنسان: العزة والكرامة والشرف. وللباحث أن يتساءل : ما الذى فعلته الجمعية الشرعية وكذلك الجمعيات النظيرة لتربية النشء؟ بل من الأمور العجيبة أن قانون الجمعية الشرعية وفى المادة الثالثة عشرة منه،
ينص على أن من شروط العضوية: " ألا تقل سن العضو عن إحدى وعشرين سنة وما قبل هذه السن أين يذهب؟ إن الأمواج العاتية من كل حدب وصوب تقذف به فى ظلمات بعضها فوق بعض وبعد سن الواحدة والعشرين تنظر الجمعية فى انتسابه إليها، وليت الجمعية اتجهت إلى الشباب المثقف فى المدارس والجامعات، ولكنها لم تفعل بل اتجهت منذ باكورة عهدها إلى الطبقات الأمية وأصحاب الحرف،
فتشربوا مبادئ الجمعية عن عاطفة دينية جياشة لا عن تعقل وترو، فكان جنوح البعض إلى الشدة والغلو مما أدى بالشباب إلى تكوين جماعات إسلامية فى الجامعات، فى فترة السبعينيات وافتقدت القيادة الواعية ولم تمد الجمعيات يدها إليها، فكان ما كان من أمرها مما سأوضحه فى الباب الثالث إن شاء الله .
ثالثا: حرمان عضو الجمعية من الاشتغال بالأمور السياسية: انفرد الإسلام دون سائر الأديان بأنه الدين الذى يهيمن على حياة البشر، وينظم سلوك المسلم دينيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا،
وإن شرع الله متكامل الحلقات وكل تشريع متصل بغيره مكمل له غير منفصل عنه، فلا يؤخذ من الإسلام جانب وتطرح منه جوانب أخرى، وإن أخطر وأفدح ما ارتكبه المسلمون نحو الإسلام أن توضع نصوصه وتشريعاته فى متاحف التاريخ،
يؤخذ منه ما يوافق النفس والهوى والباقي يظل مطويا فى بطون الكتب، لا يعرف عنه شيء على الإطلاق، ولقد انزلق بعض الدعاة إلى هذا المنزلق الخطير،
فجعلوا دعوتهم تدور فى حلقة العقائد والعبادات والأخلاق لا تتعداها إلى دنيا الواقع، ولا تهتم بمشاكل المسلم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية فضلا عما مهد له الاستعمار وأعوانه من إبعاد شرع اله عن مجالات الحياة اليومية،
فأبطلت الحدود وتعطلت النصوص، وأصبح القرآن الكريم يرتل للبركة فقط ويقرأ على المقابر، ويحمل كما تحمل التمائم ثم أعقب ذلك فصل الدين عن الدولة، أو كما قيل لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة- وظهرت الأحزاب السياسية فى مطلع القرن الرابع عشر الهجري، وفى خلاله تنمى الولاءات الوطنية والقومية تحت شعار : " الدين لله والوطن للجميع".
وأفرغت برامج هذه الأحزاب من مفهوم الولاء لله ولرسوله وللإسلام، باستثناء حزب مصر الفتاة الذى أسسه المرحوم أحمد حسين.
هذا ولقد كان الواجب على الجمعيات الاسلامية أن تفطن لهذا كله وتجمع فى برامجها بين الإصلاح العقدي والاجتماعي والسياسي،
وتأخذ زمام التوجيه والريادة والقيادة من الاتجاهات التى فرضت نفسها على الساحة المصرية خلال القرن المنصرم، ولكن للأسف انعطفت تلك الجمعيات – ما عدا الإخوان المسلمين – تعالج موضوعات فقهية وخلافات مرعية أشبعت بحثا خلال فترات الازدهار الاسلامى والتألق الفكري،
وكان الواجب على الجمعيات أن تبدأ من حيث انتهى فكر السلف والخلف، وتتابع مسيرة الإسلام وتصبغ الحياة به، غير أن هذه الجمعيات نأت بنفسها عن غمار الحياة الاجتماعية والسياسية،
فنجد قانون الجمعية الشرعية وكذلك جماعة أنصار السنة المحمدية تحرمان على من ينتسب إليهما الاشتغال بالأمور السياسية،
فلقد جاء فى المادة الثالثة من قانون الجمعية الشرعية ما يلي: " هذه الجمعية لا تتعرض للشئون السياسية مطلقا" ،
ومن توجيهات الإمام محمود خطاب لدعاة الجمعية والتي سبق الإشارة إليه فى صفحة ( 154 ) فى هذه الرسالة، وبهذا عزلت الجمعية نفسها عن الكفاح السياسي، بل إن الجمعية منعت عضويتها عن كل من حرم من مباشرة حقوقه السياسية،
وفى الغالب لا يقدح فى عدالة الشخص، فربما كان الحرمان بسبب الصدع بكلمة الحق، فكيف تحرم الجمعية هذا العضو المجاهد من الانتساب لها إذا كان محافظا على السنة قو وسلوكا؟ .
فلقد جاء فى قانون الجمعية المادة الثالثة عشرة منه " كل مسلم قبل أغراض الجمعية ولم يصدر فى حقه حكم قضائي مخل بالشرف ولم يحرم من مباشرة حقوقه السياسية".
ولعل الفائدة الوحيدة التى استفادت الجمعية الشرعية وكذلك بعض الجمعيات النظيرة لها أنها سلمت خلال تاريخها ولم ينزل بها ما نزل ببعض الجمعيات من الاضطهاد، غير أن هذه الفائدة لا تشفع فى وقوف الجمعية موقف المتفرج على ما يدور فى الساحة الاسلامية من صراع بين الدعاة والقوى المعادية للإسلام، بل إنه فى بعض الأحيان كانت تساق تلك الجمعيات للمشاركة فى الحملة على بعض الجمعيات التى تفاعلت مع قضايا المجتمع،
اجتماعيا وسياسيا لا سيما فى الفترة منذ عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف حتى حقبة السبعينيات، حيثما تولى رئاسة بعض تلك الجمعيات ضابط فجعلوها تولى وجهها شطر الحاكم حيثما اتجه اتجهت مادحة كل قرار والأمثلة على هذا كثيرة لا تخفى عن عين الباحث، غير أننا لا نستغل مثل هذه المواقف للنقد الشديد، لعلمنا أن بعض هذه الجمعيات ومنها الجمعية الشرعية سيقت لهذا مكرهة، ولقد رفع الحرج عن المكره.
ولا يعترض على ما ذهبت إليه بتلك الأصوات المؤمنة التى ارتفعت وترتفع بين الفينة والفينة، تجأر بالحق وتدلى برأي الإسلام فى القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فإن هذه الأصوات تصدر عن رأى شخصي لا يمثل اتجاه الجمعية وفقا لقانونها الاساسى والزى سبقت الإشارة إليه.
لهذا نأمل ونحن فى أوائل القرن الخامس عشر الهجري أن تنطلق الجمعية الشرعية إلى آفاق الإسلام بشموله وتصبغ الحياة اليومية للمسلم بصبغة الله، قال تعالى: " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون".
رابعا: الخلافات بين الجمعية الشرعية وسائر الجمعيات:
الإسلام دين الوحدة والاتحاد والتجمع قال تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " .
وقال صلى الله عليه وسلم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" ولقد حذر الله من مغبة الاختلاف والتنازع، فإنه يؤدى غلى ا لفشل ويذهب بقوة المسلمين قال تعالى: " وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين" .
ولو ذهبنا نسوق الأدلة على وجوب إجماع كلمة المسلمين وحرمة التنازع فيما بينهم، لطال بنا المقال ، ومع أن هذا من بديهيات الدعوة الاسلامية غير أننا للأسف نجد الصراع بين الجمعيات الاسلامية صراعا عنيفا ومريرا،
وأن الباحث ليدمى قلبه ويعتصر الألم فؤاده حينما يجد إخوة الإسلام وحماة الدعوة لا يلتقون على كلمة واحدة، بل يهاجم بعضهم بعضا ويتبادلون ساقط الألفاظ وأقذعها على صفحات المجلات الدينية ،
وجعلوا من الخلافات الفقهية والقضايا الفرعية ميدانا للبطولة الفارغة ، يصولون فيها ويجولون على أشلاء الحركة الاسلامية، وكلما اتجهت النية وصح العزم على جمع الشمل وتوحيد الصف تفرقوا ايدى سبأ.
وأعداء الإسلام يرقبون ما يدور على الساحة الاسلامية فى غبطة وفرح – فلقد جنوا ثمار هذه الخلافات، فأحكموا قبضتهم على ديار الإسلام وتملكوا أزمة التوجيه سياسيا واقتصاديا وثقافيا، بينما رجال الجمعيات غارقون إلى آذانهم فى أمور كان الأكرم بهم أن ينأوا عنها، حتى يطهروا بلاد الإسلام من كل مظاهر الولاء لغير الله ورسوله والمؤمنين،
ولكن ما يدور بين الجمعيات يصدق عليه قول الشاعر:
سريع إلى ابن العم يلطم خده
- وليس إلى داعي الندى بسريع
فنجد الجمعية الشرعية وأنصار السنة المحمدية برغم اتحاد أهدافهما، وأنهما وجهان لعملة واحدة إلا أن كلا منهما تدير ظهرها للأخرى، ويجعلون من آيات الصفات ميدانا يصولون فيه ويجولون ، وفى نفس الوقت يلتقيان هما ومن يدور فى فلكهما على حرب التصوف، وإن اختلفت وجهة نظر كل منهما فى التصوف.
ويلاحظ أن الجمعيات الصوفية على كثرتها تنشب أظافرها فى الجمعيات السلفية، وأصبحت كل جماعة تعتقد أنها وحدها حاملة لواء الدعوة، وأنها هى الفرقة الناجية وتناسى الإخوان الفرقاء ما كان عليه سلف الأمة، حينما يتباحثون أو يتناظرون فيقولون.
" رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب" ولقد حاول المرحوم الإمام حسن البنا أن يجعل من دعوة الإخوان ملتقى كل الجمعيات تحت شعار كلمته المأثورة: " نلتقي على ما اتفق عليه ويعذر كل منا الآخر فيما اختلف فيه".
ولقد جرت عدة محاولات لتوحيد الهيئات والجمعيات الاسلامية، غير أنه لم يكتب لهذه المحاولات الجاح كما سيأتي إن شاء الله ، لأن كل جماعة أرادت أن ت حمل الأخرى على رأيها الذى تعتقد فيه الصواب، هذا ولقد كان الواجب على تلك الجمعيات أن تلتزم فى أبحاثها النقد العلمي الهادئ الهادف، فالنقد إذا كانت لحمته الحق وسداه الإخلاص صهر الباطل كما ينقى الكير خبث الحديد.
ولكنها للأسف لم تفعل وتبادلت الجمعيات فيما بينها فى بعض الأحيان العبارات الجارحة والألفاظ النابية، مما ينبغي أن يرتفع عنه حملة الدعوة الاسلامية ولو ذهبنا نتتبع المعارك لأعيانا البحث ولتملكنا الأسى غير أنني سأسوق نموذجا واحدا للنقد اللاذع والتهكم الصارخ لكل جمعية،
حفظا للسان أن يردد هذا وصونا للأذن أن تسمعه:جاء فى مجلة الاعتصام لسان حال الجمعية الشرعية : مقال بعنوان : " فبهت الذى كفر" للشيخ مصطفى مجاهد ردا على المرحوم أحمد حسن الزيات وبغض النظر عما قاله الزيات فى هذه الفترة، مما يستوجب النقد والرد عليه بالأسلوب العلمي فى عفة وعدم إسفاف ،
ولكن الشيخ مجاهد عفا الله عنه قال:" فلما أخرج من المجلة وجيء لها بكفء من ناحية العلم والفضل والأدب، شق الأمر عليه وأخذته العزة بالإثم ونفث عن نفسه بهذا المقال القذر الذى نزل به ... إلى آخر ما ذكره من كلام يعف اللسان عن ذكره. فهل هذا الكلام ينشر فى مجلة إسلامية ؟
وهل هذا أسلوب من يأمره الله أن يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة؟
ولو ذهبنا نتتبع مثل تلك السقطات فى مجلة الاعتصام على مدى سنوات صدورها أو بعض مؤلفات دعاة الجمعية ، لطال بنا المقال ولقد مزقت هذه الخلافات حركة الدعوة الاسلامية شر ممزق، مما دفع الشباب المثقف فى الجامعات المصرية إلى أن يولى وجهه بعيدا عن تلك الجمعيات، فاتجه إلى تكوين جماعات إسلامية كان من أمرها ما سأوضحه إن شاء الله.
خامسا : 1- عدم جواز الصلاة خلف حليق اللحية.
2- تأثيم من يترك العمامة والعذبة.
يكاد الفقهاء يجمعون على أن إعفاء اللحية مطاول شرعا، لورود الأحاديث بهذا غير أنه قد اختلف فى صيغة الأمر هل هو للوجوب ؟ أم للندب؟ ولقد ركزت الجمعية الشرعية على أمور ثلاثة اشتهرت عنها وعرفت بها وهى:
- 1- اللحية .
- 2- العمامة.
- 3- العذبة .
فما تكاد الجمعية إلا وذكرت هذه الأمور، وقد بالغت فى شأنها فصدرت فتاوى من بعض أئمتها بعدم جواز الصلاة خلف حليق اللحية، كما أثمت من يترك العمامة والعذبة، وفسقت من تهكم بهما، ولما كان هذا المنهج قد جاوز حد الاعتدال فينبغي للباحث أن يلتمس مواطن الصواب،
ويبعد عن منهج الإسلام كل غلو فى الرأى وتشدد فى الدين، وقبل أن أذكر آراء العلماء فى حكم إعفاء اللحية فسوف أوضح معاني اللحية فى اللغة:
" اللحية : هى الشعر النازل على الذقن والجمع لحى مثل سدرة وسدر وتضم اللازم مثل حلية وحلى. واللحى عظم الحمط وهو الذى عليه الأسنان من الإنسان حيث ينبت الشعر وهو أعلى وأسفل".
الذقن : جاء فى لسان العرب : " ذقن الإنسان مجتمع لحييه .
وقال ابن سيدة : الذقن والذقن مجتمع اللحيين من أسفلهما".
حكم إعفاء اللحية : أجمع العلماء على أن إعفاء اللحية سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ، حافظ عليها وأمر بها وتواترت عن السلف والخلف، فضلا على أنها شرعة الأنبياء والمرسلين ، ومن سنن الفطرة وأمارات الفحولة وعلامات الرجولة، وأن إعفاءها مطلوب شرعا، غير أن المختلف فيه درجة الطلب فقال البعض بالوجوب وقال آخرون بالندب ولكل دليله .
أدلة القائلين بالوجوب: استدل القائلون على وجوب إعفاء اللحية بما يلى:
- 1- ما روى عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله ليه وسلم قال :" خالفوا المشركين ووفروا اللحى واحفو الشوارب" فقالوا: إن الأمر فى قول الرسول صلى الله عليه وسلم للوجوب، وليس هناك ما يصرفه عن هذا الوجوب.
أدلة القائلين بالندب:
- 1- استدلوا بما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عشر من الفطرة وعد منها قص الشارب وإعفاء اللحية" قال النووي فى شرحه : " إن معظم هذه الخصال ليست بواجبة عند العلماء، وقال القائلون بالندب: إن إعفاء اللحية شأنه شأن السنن المذكورة بالحديث وهى كلها مندوبات، فلماذا لا يكون إعفاء اللحية من بين هذه المندوبات؟
- 2- قال : إن إعفاء اللحية وإطلاقها راجع إلى استحسان البيئة، وممن ذهب إلى هذا المرحوم الشيخ محمود شلتوت حيث ذكر فى كتاب الفتاوى : " والحق أن أمر الناس والهيئات الشخصية ومنها حلق اللحية من العادات التى ينبغي للمرء أن ينزل فيها على استحسان البيئة، فمن درجت بيئته على استحسان شىء منها كان عليه أن يساير بيئته، وكان خروجه عما ألف الناس شذوذا عن الدين" .
وقد يستساغ كلام المرحوم الشيخ محمود شلتوت فى الأمور التى لم يرد فيها نص شرعي .
أما ما ورد فيها نص شرعي، فلا مجاض للاستحسان إلا ما حسنه الشرع، فإن البيئات والمجتمعان قد تتعارف على أمور وتستحسنها مع مخالفتها للشرع، فهل ينزل الشرع لهوى البيئة؟ أم تذعن البيئة بحكم الشرع؟
حكم أئمة المذاهب فى إعفاء اللحية وحلقها:
صح جمهور من الفقهاء بوجوب إعفائها وحرمة حلقها ونص البعض على كراهة الحلق:
أولا : المذهب الحنفي:
- جاء فى الدر المختار شرح تنوي الأبصار فى باب الحظر والإباحة : " يحرم على الرجل قطع لحيته يعنى حلقها، وقال فى كتاب الصوم وأما الأخذ منها – يعنى اللحية – وهى دون ذلك يعنى القبضة كما يفعله المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد".
ثانيا : المذهب المالكي:
- " يحرم حلق اللحية ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال " ، وقال العلامة الدسوقي فى حاشيته على شرح الجمل: " يحرم على الرجل حلق لحيته ويؤدب فاعل ذلك".
ثالثا: المذهب الشافعي:
- قال ابن الرفعة فى حاشية الكافية: " إن الإمام الشافعي قد نص فى الأم على تحريم حلق اللحية".
رابعا: المذهب الحنبلي:
- نص فقهاء المذهب الحنبلي على وجوب إعفائها وتحريم حلقها كما قال السفارينى فى غذاء الألباب (صـ 376 ) " المعتمد فى المذهب حرمة حلق اللحية".
هذه بعض آراء أئمة المذاهب الأربعة فى وجوب إعفائها وحرمة حلقها، وإنني أرجح الرأي القائل بالوجوب لتوافر الأدلة وقوة حجتها ووضوحها،
وهذا ما رجحه أيضا علماء معاصرون منهم: فضيلة الشيخ عبد الجليل عيسى، فقد قال فى كتابه : ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين : " حلق اللحية حرام عند الجمهور مكروه عند غيرهم" وقال الشيخ أحمد البنا فى تعليقه على كتابه" الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد بن حنبل" وأما إزالتها بالحلق فهو حرام،
وإلى ذلك ذهبت الظاهرية والحنابلة والجمهور وقال الشيخ أبو بكر الجزائري فى كتابه منهاج المسلم صـ 128 : " وأما اللحية فيوفرها حتى تملأ وجهه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وقوله : " خالفوا المشركين واحفوا الشوارب ووفروا اللحى عفى وكثروها فيحرم بهذا حلقها " وإذا كانت الجمعية الشرعية قد اقتفت أثر تلك الآراء التى أوجبت إعفاءها وحرمت حلقها، غير أننا لا نتفق معها ولا نسايرها فيما هبت إليه من حرمة الصلاة خلف حليق اللحية . فلقد جاء فى كتاب الفتاوى للشيخ أمين خطاب ( صـ 80 ) تحت عنوان " إمامة الفاسق" فوصف حالق اللحية بأنه فاسق لا تجوز الصلاة خلفه وهذا غلو فى الدين وجنوح عن حد الاعتدال مما يشق على المسلمين لا سيما فى هذا العصر، التى انتشرت فيه الأمية الدينية وجهل الناس أركان الإسلام، فلا ينبغي أن يفسق المسلم وترد صلاته بسبب ترك سنة اختلف أمرها بين الوجوب والندب، فضلا على أنه لم يرد عن أئمة المسلمين أن من مبطلات الصلاة حلق اللحية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " .
فلم يشترط أن تكون اللحية من شروط الإمامة، ولقد أجازوا إمامة المفضول مع وجود الفاضل واستدلوا على ذلك بإمامة أبى بكر للرسول صلى الله عليه وسلم ، والأكثر من هذا الرأي غلو، ما يراه بعض العلماء من أن حلق اللحية كبيرة من الكبائر، لا تقبل شهادة من أقدم على هذه الكبيرة،
ويؤدب كما جاء فى كتاب أدلة تحريم حلق اللحية ص 100 ولا يغيب عن ذهن الباحث المنصف أن مثل هذه الآراء جنوح فى الفكر وغلو فى الرأي ، يهدم أكثر مما يبنى،
ويشتت قبل أن يجمع، ومثل هذه الآراء تعبر عن اجتهادات شخصية تحمل النصوص الشرعية ما لا تحتمل وجنحت بالفكر الاسلامى إلى متاهات السفسطة والجدل والتنازع مما فرق المسلمين شيعا وأحزابا، كل حزب بما لديهم فرحون " وهذا ما لا نوافق عليه، لأن النصوص الشرعية أجازت الصلاة خلف المبتدع والفاسق فحليق اللحية من باب أولى.
ولقد جاء فى صحيح البخاري شرح فتح الباري ( جـ 2 صـ 330 ) تحت عنوان " باب إمامة المفتون والمبتدع " ما يلي:
- 1- عن هشام بن حسان أن الحسن سئل عن الصلاة خلف صاحب البدع فقال الحسن : " صل ، وعليه بدعته".
- 2- وعن عبد الله بن عدى بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور فقال : " إنك إمام عامة ونزل بك ما ترى ويصلى لنا إمام فتنة فتتحرج فقال : الصلاة أحسن ما يعمل الناس " وحليق اللحية لا ينزل منزلة الفاسق والمبتدع، فكيف لا تجوز الجمعية الشرعية وبعض الجمعيات الصلاة خلفه؟
و نستدل أيضا بما ذهبنا إليه بما جاء فى كتاب الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم ( جـ4 صـ 176 ) تحت عنوان " الكلام فى صلاة الفاسق" قال : ذهبت طائفة من الصحابة كلهم دون خلاف من أحد منهم،
وأكثر من بعدهم وجمهور أصحاب الحديث وهو قول أحمد والشافعي وأبى حنيفة وداود وغيرهم: " إلى جواز الصلاة خلف الفاسق الجمعة وغيرها، وبهذا نقول وخلاف هذه بدعوة وقد يجنح بقوله تعالى: " إنما يتقبل الله من المتقين".
وحليق اللحية ليس بمتق لتركه سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد أجاب ابن حزم عن هذا الاحتجاج بما يلي : " يقال لهم كل فاسق إذا نوى بالصلاة رحمه الله فهو فى عداد المتقين فصلاته متقبلة ولو لم يكن من المتقين، إلا من لا ذنب له ما استحق أحد هذا الاسم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة".
ولا يجوز القطع على الفاسق بأنه لم يرد بصلاته وجه الله تعالى ، ومن قطع بهذا فقد أفتى بما لا علم به، أو قال ما لا يعلم وهو حرام.
مما سبق يتضح – والله أعلم – عدم صحة ما أفتى به الشيخ أمين خطاب بعدم جواز الصلاة خلف حليق اللحية، ويبطل رأى من قال : إن حلقها كبيرة من الكبائر يعزر صاحبها ولا تقبل شهادته وما اعتقده أن إعفاء اللحية من هدى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن الأمر بها يفيد الوجوب، وأن أدلة الوجوب أقوى من أدلة الندب.
العمامة والعذبة:
- العمامة بالكسر ما يلف على الرأس والعذبة طلاف العمامة المرسل من الخلف، وهما من العادات التى تعارف عليها العرب قبل الإسلام، ولقد ارتدى الرسول صلى الله عليه وسلم العمامة وأرخى العذبة فى بعض الأحيان .
فعن جابر بن عبد الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعليه عمامة سوداء، وعن عمرو بن حريث قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه ،
- ولقد ذكر ابن القيم فى كتابه زاد المعاد : " كان له صلى الله عليه وسلم عمامة تسمى السحاب كسا بها عليا، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة، وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ويلبس العمامة بغير قلنسوة.
وعلى هذا فإن العمامة والعذبة سنة وردت فيها الأحاديث الصحيحة والحسنة، فمن فعلها فله ثواب فعلها، ومن تركها حرم ثوابها ويعاقب على تركها،
ومن استهزأ بها بعد العلم بأنها سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كفر والعياذ بالله "، مع ملاحظة أن الكثير من الأحاديث الواردة بشأن العمامة والعذبة،
إما ضعيفة أو موضوعة مثال ذلك : " صلاة بعمامة تعدل خمسا وعشرين صلاة بغير عمامة ، وجمعة بعمامة تعدل سبعين جمعة بغير عمامة، وإن الملائكة ليشهدون الجمعة معممين ولا يزالون يصلون على أصحاب العمائم حتى تغرب ".
وكذلك حديث " العمائم تيجان العرب ذكره ابن الطاهر فى الموضوعات، كذلك جاء فى كتاب "الحسام السامي لمحق يقول مصطفى الحمامى" لمؤلفه الشيخ عبد الله العفيفى وهو من دعاة الجمعية الشرعية أن إرسال العذبة سنة مؤكدة وساق على هذا بعض الأحاديث الضعيفة منها:" تسوموا فإن الملائكة قد تسومت " ، " ذنبوا فإن الشيطان لا يذنب". " ركعتان مع الذنب أفضل من سبعين بلا ذنب".
ويذكر الشيخ محمود خطاب أن من تشبه بالكفار من ملبوس ومركوب وهيئة فقد كفر والعياذ بالله.
" إن من تشبه بالفساق كان منهم أو بالكفار أو المبتدعة فى أي شيء مما يختصون به من ملبوس أو مركوب أو هيئة، فإذا تشبه بالكافر فى زى واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر فإن لم يعتقد، ففيه خلاف بين الفقهاء منهم من قال: يكفر ومنهم من قال: لا يكفر ولكن يؤدب.
وهكذا نجد الجمعية الشرعية قد بالغت فى أمر العمامة والعذبة، مع ملاحظة أن السنة الصحيحة قد ذكرت أن عمامة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت سوداء، فلماذا لم تقتد الجمعية بهذا، ويرتدى أعضاؤها عمامة سوداء بدلا من العمامة الحالية؟ وهل عدم ارتداء المسلم عمامة أو عدم إرخائه العذبة كفيلان بالتشكيك فى المسلم واتهامه بالفسوق ؟
إن مما يلاحظ على الجمعية الشرعية أنه تهول وتبالغ، بل قد تفتن المسلم وتخرجه من عقيدته، إذا ما ارتكب محظورا وسأضرب على ما ذهبت إليه بمثالين:
- 1- جاء فى كتاب الهداية المحمدية للشيخ محمود خطاب، المبالغة فى زجر من يتحدث فى ا لمسجد لغير عبادة فقال : " إنه حرام لا يصدر إلا من إبليس اللعين".
- المبالغة فى التهويل على من ينام فى المسجد فيقول: " والنوم فى المسجد والتكلم حال الوضوء بغير طاعة كما هو دين الجهلة أهل الإضاعة، لا يليق بمن عرف ربه جل علاه".
- ويرد على هذا بما أورده الإمام البخاري فى صحيحه تحت عنوان باب نوم المرء فى المسجد، وساق سندا عن السيدة عائشة رضي الله عنها.
- وكذلك أفرد بابا عن نوم الرجال فى المساجد. ويرد أيضا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوزع الغنائم فى المسجد ، ويضرب خيمة فيه لعلاج الجرحى.
- 2- التنديد بمن يتكلم حال الوضوء: ولقد ورد نهى عن هذا غير أنى أعترض على أسلوب التحذير الذى اتبعته الجمعية الشرعية. قال الشيخ محمود خطاب فى كتابه هداية الأمة المحمدية " اعلموا أن من تكلم فى تلك المواضع، فقد أوقع نفسه فى المهالك ، ونودي عليه بأنه جهول خسيس ، فتوضئوا وأنتم عن كلام الدنيا ساهون".
- مما سبق ذكره يتضح للباحث الأمور التى نأت بها الجمعية عن مواطن الصواب وعاقتها عن أداء رسالتها على الوجه الأكمل.
وكما سبق أن ذكرت أن هذا ليس قدحا أو انتقاصا لجهد بذل، فإن الجمعية الشرعية ما زالت تؤدى رسالتها، وأن عضو الجمعية الشرعية له شخصيته المستقلة وسماته التى يتميز بها،
وأنه مما يذكر لها أنها بتوفيق الله خلال عمرها الذى يناهز الآن ستين عاما، قد سلمت من الأنواء والعواصف ويشهد أيضا على نجاح رسالتها إشرافها وتعاهدها لما يقرب من ألفى مسجد كما أمر، وأن لها بعض المشروعات الرائدة لخدمة الدعوة الاسلامية كما سبق أثناء البحث.
وأختتم البحث عن الجمعية الشرعية مما قال الشيخ الصاوى شعلان: " قد يحتاج بعض المصلين فى كثير من البلدان الاستماع إلى موعظة أو درس ديني فيتقدم إلى أحد المثقفين ، فيعتذر بأنه متخصص فى التاريخ أو أنه عالم فى الكيمياء أو أستاذ فى الاقتصاد وليس متخصصا فى الخطابة، بينما نجد ابن الجمعية الشرعية ولو كان تاجرا أو نجارا أو فلاحا، وقد يكون أميا فيؤدى ما طلب منه فى قراءة صحيحة وحكمة سليمة، وفى علم مفيد ونصيحة صادقة".
الفصل الثاني جماعة أنصار السنة المحمدية
أسست عام ( 1345 هـ - 1926 م )
من الجمعيات التى أسهمت فى ميدان الدعوة الاسلامية خلال القرن الرابع عشر الهجري جماعة أنصار السنة المحمدية والتي تعتبر امتدادا لمدرسة الإمام بن تيمية وابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب، كما انفردت دون غيرها بنقل وتحقيق كتب المدرسة السلفية .
وقبل أن نلقى ضوء البحث على تاريخها ومنهجها فما يجدر ملاحظته أن جماعة أنصار السنة والجمعية الشرعية تعتبران وجهين لعملة واحدة لاتفاق أهدافهما واتحاد أسلوبهما ولولا وجود بعض الخلافات حول آيات الصفات لأمكن توحيدهما هذا ولقد جرت محاولات الدمج بين الجماعتين عام خمسة وستين وتسعمائة وألف ميلادية برئاسة المرحوم الفريق عبد الرحمن أمين، غير أن هذا الدمج لم يؤت ثماره بل كان مثار خلافات ومنازعات للحساسية المفرطة بين أعضاء الجماعتين ومحاولة كل منهما الهيمنة على الأخرى لأنه كان دمجا إداريا فقط مما أدى إلى توقف نشاط الجماعة تماما منذ تاريخ الدمج حتى أعيد إشهارها عام واحد وسبعين وتسعمائة وألف م .
وأعيد إصدار مجلة الهدى النبوي لسان حال جماعة أنصار السنة منذ عام ست وثلاثين وتسعمائة وألف .
ثم توقفت مجلة الهدى عن الصدور للاختلاف بين الجماعة وورثة المرحوم الشيخ حامد الفقى،
ومن ثم أصدرت الجماعة مجلة التوحيد عام اثنين وسبعين وتسعمائة وألف ثم ما لبثت أن حدث خلاف بين أعضاء الجماعة والدكتور سعيد الطويل فانفصل عنها وأسس ( جماعة دعوة الحق ) وأعيدت مجلة الهدى النبوي لتكون لسان حال تلك الجماعة الناشئة.
وقبل أن أستطرد فى مباحث هذا الفصل ، أوضح أنني سأتناول هذا الفصل بالإيجاز غير المخل إن شاء الله .
وعلة ذلك ما سبق بسطه خلال الحديث عن الجمعية الشرعية إذ إنهما لا يختلفان فى الهدف والمنهج.
المبحث الأول التعريف ببعض رؤساء جماعة أنصار السنة المحمدية
أولا: ترجمة الشيخ محمد حامد الفقى مؤسس الجماعة ورئيسها
مولده: ولد رحمه الله عام ( 1300 هـ - 1892 م ) بقرية نكلا العنب مركز شبرا خيت مديرية البحيرة ووالده الشيخ سيد أحمد عبده الفقى كان زميلا للإمام محمد عبده فى الدراسة بالأزهر الشريف، غير أنه لم يتم دراسته وأنجب أربعة أولاد أوقفهم جميعا على طلب العلم وقسمهم بين المذاهب الأربعة.
طلبه العلم
أتم المرحوم الشيخ محمد حامد الفقى حفظ القرآن الكريم وعمره لا يتجاوز السنة الثانية عشرة، وبدأ دراسته فى الأزهر عام ( 1312 هـ - 1904 م ) وتخرج فيه عام ( 1917 ) وعقب تخرجه عمل إماما وخطيبا بمسجد الهداة بعابدين وظل يؤدى رسالته حتى بعد إحالته للمعاش،
ولقد كان رحمه الله شغوفا بطلب العلم وبالدعوة إلى الله ولقى فى سبيل ما يدعو إليه الكثير من العنت، وكانت له مثابرة عجيبة على القراءة والكتابة والتحقيق.
تحقيقات ومؤلفات الشيخ حامد الفقى
أسهم رحمه الله فى نقل وتحقيق الكثير من مؤلفات الإمامين ابن تيمية وابن القيم وساعده على ذلك ملكه لمطبعة السنة المحمدية ومما حققه ما يلي :
- 1- مختصر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية .
- 2- التفسير القيم للإمام ابن القيم.
- 3- تهذيب سنن ابى داود.
- 4- نظرية العقد لابن تيمية.
- 5- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حيان.
ومن مؤلفاته
( أثر الدعوة الوهابية فى الإصلاح الديني والعمراني).
فضلا عن العديد من المقالات والأبحاث والفتاوى وتفسير القرآن الكريم على صفحات مجلة الهدى النبوي حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى.
تأسيسه لجماعة أنصار السنة المحمدية عام ( 1345 هـ - 1926 م): سبق فى الباب الأول بيان الأسباب التى دعت إلى تأسيس الجمعيات الاسلامية فى مصر خلال القرن الرابع عشر الهجري وهذه الأسباب السابق ذكرها هى نفس ما دفع الشيخ الفقى لإنشاء جماعة أنصار السنة يقول – رحمه الله – شارحا أسباب تأسيسه لجماعته: " رأيت – حين خالطت العامة فى المساجد- أن عندهم قبولا للحق واستعدادا للدين، وأنهم لا يحول بينهم وبين الخير إلا المحترفون للدين من الجهلاء الذين يظنون أنهم على علم وهم عن العلم بعيدون".
هذا ولم تكن تأسيسه الجماعة تملك عليه لبه وحده ولكن سبقه فى هذا فضيلة الشيخ المرحوم محمد عبد الحليم الرمالى من كبار علماء دمياط والمفتش بوزارة الأوقاف وكان له نشاط ملحوظ وذا ثقافة واسعة فبجانب دعوته لمحاربة البدع فلقد كان يناقش بعض القضايا التى وفدت على الفكر الاسلامى مع جحافل الاستعمار والاستشراف كقضية دارون فى النشوء والارتقاء وفرويد فى علم النفس وكارل ماركس فى الاقتصاد ومن ثم تجمع الناس حوله عام ( 1924 ) وكانوا نواة أنصار السنة المحمدية ولهذا اختير رئيسا شرفيا للجماعة حتى تم إشهارها عام ( 1345 هـ - 1926 م ) وتولى الشيخ حامد الفقى رئاستها حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى فى السابع من رجب ( 1387 هـ - يناير 1959 م ).
وعقب وفاته تولى رئاسة الجماعة الشيخ عبد الرازق عفيفي من علماء الأزهر غير أنه لم يستمر فى رئاسته سوى عام فقط وقدم استقالته واختير الشيخ عبد الرحمن الوكيل رئيسا للجماعة.
ثانيا: التعريف بالمرحوم الشيخ عبد الرحمن الوكيل
مولده: ولد رحمه الله فى الثالث والعشرين من يونيه عام ( 1913 م) بزاوية البقلى مركز الشهداء منوفية.
حفظ القرآن الكريم فى طفولته وتلقى تعليمه وتلقى تعليمه فى معهد طنطا الديني ثم تخرج فى كلية أصول الدين وعين مدرسا بوزارة التربية والتعليم وكان من الأعضاء البارزين لجماعة أنصار السنة المحمدية،
فلقد عرفته أوساط الجماعة كاتبا ومحاضرا وخطيبا يأخذ بمجامع القلوب وله – رحمه الله – مقالات عديدة وبحوث فى التفسير على صفحات مجلة الهدى النبوي ومن مؤلفاته:
- 1- البهائية وهو بحث مفيد فى تاريخ تلك الجماعة المنحرفة عن الإسلام.
- 2- هذه هى الصوفية.
- 3- تحقيقه للعديد من كتب أئمة السلف.
توليه رئاسة الجماعة
كان رحمه الله وكيل جماعة أنصار السنة المحمدية فى حياة المرحوم الشيخ محمد حامد الفقى، ثم اختير رئيسا لها عقب استقالة الشيخ عبد الرازق عفيفي فى الخامس من يوليو عام ستين وتسعمائة وألف، وظل يدعم الجماعة بفكره وجهده فكثر أعضاؤها وانتشرت فروعها وسمع صوتها فى ساحة الدعوة الاسلامية حتى عام خمسة وستين وتسعمائة وألف ميلادية، حينما صدر قرار بدمج جماعة أنصار مع الجمعية الشرعية فكاد يتوقف نشاط الجماعة وتفرق جل أعضائها.
وإزاء تلك الأحداث التى جمدت نشاط الجماعة سافر الشيخ عبد الرحمن الوكيل إلى المملكة العربية السعودية أستاذا للعقيدة بقسم الدراسات الاسلامية بكلية الشريعة ممكنة المكرمة وظل يؤدى رسالته حتى وافاه الأجل فى السابع عشر من يوليو عام سبعين وتسعمائة وألف من الميلاد ودفن بها.
هذا وقد مكثت الجمعية شبه معطلة حتى أعيد إشهارها بعد جهود طويلة بذلها الأستاذ محمد عبد المجيد الشافعي، وقد تولى رئاسة الجمعية منذ عام ( 1971 م ثم قدم استقالته 1978 م ) وتولى الرئاسة الأستاذ محمد عبد الرحيم.
وما زالت الجماعة تؤدى رسالتها وأصبح لها ما يقرب من سبعين فرعا فى أنحاء البلاد المصرية تضم عدة آلاف من المسلمين المتمسكين بالسنة المحاربين للبدعة.
المبحث الثاني البناء التنظيمي للجماعة
تتكون جماعة أنصار السنة المحمدية ممن تتوافر فيهم الشروط التى حددها قانونها الاساسى وذلك فيما يلي:
- 1- تتألف الجماعة من كل مسلم حسن الأخلاق متبع لكتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم عقيدة وعملا وخلقا، وألا يكون معروفا بنزعة تخالف أصل هذه العقيدة وأن يكون مواليا لدفع الاشتراك وأن يقدم طلبا كتابيا موقع بتوقيع اثنين من أعضاء الجماعة.
- 2- مجلس العلماء:يختارون ممن تتوافر فيهم الشروط الآتية:
- أ- أن يكون معروفا بأنه سلفي العقيدة.
- ب- أن يكون مشهورا بحسن الأخلاق وصلاح الأعمال معروفا بسعة الاطلاع على كتب السلف من أمثال مؤلفات ابن تيمية وابن القيم متضلعا فى السنة غير منكر لشيء من الصحيح الثابت منها.
ويختص مجلس العلماء ببحث المسائل العلمية وإبداء الرأي فيها ووضع الرسائل والكتب لنشر الدعوة والنظر فى الكتب والمؤلفات التى تقوم الجماعة بطبعها، وإلقاء المحاضرات فى المركز العام والفروع.
غير أن هذا المجلس لم يسمع عن نشاطه ولم يكن له أثر خلال تاريخ الجماعة.
3- رئيس الجماعة :هو الذى يمثلها أمام الهيئات الرسمية، ويرأس مجلس إدارتها وجمعيتها العمومية وينتخب كل ثلاث سنوات ويجوز إعادة انتخابه، ويشترط فى الرئيس المنتخب أن يكون من المشهود لهم بالتحقيق والفقه فى دراسة الكتاب والسنة،عاملا بهما، قوى الحجة ثابت الجنان معروفا بجهاده فى نشر الدعوة إلى التوحيد والجهر بكلمة الحق لا يخشى فى الله لومة لائم ، وألا يكون من أهل التقليد الأعمى والعمل بدون حجة من الكتاب والسنة وأن يكون معروفا بسعة الصدر والحنكة.
4- مجلس الإدارة: يتألف مجلس الإدارة من خمسة عشر عضوا على الأقل ينتخبون ممن يرشحهم الرئيس واللجنة التنفيذية ويشترط على كل عضو من أعضاء مجلس الإدارة وعلى الرئيس المنتخب أن يقسموا يمينا بالله مقلب القلوب والعليم لخفايا الصدور المحافظة على مبادئ الجمعية ويزيد الرئيس ألا يتبع إلا ما قام عليه الدليل والحجة من كتاب الله وسنة رسوله وعمل الصحابة هذا هو البناء التنظيمي لجماعة أنصار السنة المحمدية.
المبحث الثالث أهداف جماعة أنصار السنة المحمدية
تنوعت أغراض الجماعة وتعددت أهدافها فيما يلي:
- 1- دعوة الناس إلى التوحيد الخالص المطهر من جميع أرجاس الشرك أدرانه وشوائبه، وإلى حب الله تعالى حبا خالصا يتمثل فى طاعة الله والوقوف عند أمره ونهيه، وإرشادهم إلى أن أول ما يجب عليهم معرفته من هذا الدين هو فرارهم إلى الله بأن يعبدوه وحده لا شريك له.
- 2- إرشاد الناس إلى أخذ دينهم من نبعيه الصافيين صريح الكتاب وصحيح السنة فما عداهما من أقواس الناس يحتمل الخطأ والصواب.
- 3- الإرشاد إلى أن نصوص الكتاب والسنة لا محيد عنهما البتة ، وأن دين الله محصور فى ظاهر هذه النصوص التى قضت حكمة الله أن ينيط بها صلاح الخلق فى دينهم ودنياهم فألزمهم إتباعها ونهاهم عن اتباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
- 4- الدعوة على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا صادقا صحيحا يحمل على اتخاذه مثلا أعلى وأسوة حسنة والاقتداء به فى عبادته ومعاملاته ومجانية كل ما لم يكن عليه أمره وأمر أصحابه.
- 5- الدعوة إلى مجانبة البدع ومحدثات الأمور والوقوف عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" .
- فكل ما جاء به فى حياته من أمور الوحي فهو دين إلى قيام الساعة وما لم يأت به فليس بدين إل يوم القيامة.
- 6- محاربة الخرافات والعقائد الفاسدة التى دسها العدو لمحاربة هدى الله الذى حصره فى الكتاب والسنة .
- 7- إرشاد الناس إلى أن حياتهم الدنيوية والأخروية مرتبطتان أقوى رباط بتلاوة القرآن الكريم حق تلاوته.
- 8- بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم تشريف القبور ورفع البناء فوقها بقباب ونحوها واتخاذها مساجد إيقاد الشرج عليها ودعاء المقبورين من دون الله والنذر لهم والطواف حول القبور والتمسح بها وما إلى ذلك مما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم وأنذر.
- 9- الإرشاد إلى أن الحكم بغير ما أنزل الله هلكة فى الدنيا وشقوة فى الآخرة.
- 10- إرشاد الناس إلى أن موقفهم من صفات الله وأسمائه يجب أن يكون كموقف الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه بإحسان من الإيمان بكل صفة جاءت فى القرآن الكريم وصحيح السنة من الاستواء والفوقية واليد والعين والنزول وغير ذلك على ظواهرها بدون تأويل أو تمثيل مع استحضار قول الله تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".
- 11- كذلك من أهدافهم وجوب التمسك بالرجولة لتظل للرجل القوامة على المرأة فلا يفلت الزمام من أيدي الرجال.
- 12- النهى عن ارتياد الملاهي من مرقص وسينمات وما إليها من ضروب الهوى.
هذه هى الأهداف التى تدعو إليها جماعة أنصار السنة المحمدية كما جاءت فى قانونها الاساسى وعلى لسان مؤسسها الشيخ حامد الفقى، وكما يتضح من خلال دعاتها وهى أهداف لا يختلف اثنان عليها ولكن العبرة بالتطبيق وبالوسائل التى نهجتها الجماعة لتحقيق تلك الأهداف وهذا مما سأتناوله فيما يلي إن شاء الله .
المبحث الرابع الاتجاه الفكري لتحقيق الأهداف
اتسمت جماعة أنصار السنة باتجاه فكرى واحد التزمت به وحافظت عليه منذ نشأتها ولم تبتعد عنه قيد أنملة طوال تاريخها وكان محور دعاتها وكتابها فلقد حذت حذو مدرسة ابن تيمية التى تولى كل اهتمامها لقضية التوحيد الذى هو حق الله على العبيد والأساس الذى بنيت عليه كل الرسالات السماوية ويتلخص هذا الاتجاه الفكري فيما يلي:
1- التركيز على مسائل العقيدة وتطهيرها من الزيغ والأهواء وكانت معالجة الجماعة لقضية التوحيد تتجه لتوضيح المفاهيم التالية .
- أ - أن الكتاب والسنة هما النوران الهاديان والنبعان الصافيان اللذان قد تكفلا ببيان الدين أصوله وفروعه.
- ب – أن مسائل العقيدة هى أصل الدين والأساس الذى تبنى عليه سائر الأعمال.
- جـ - جميع الاختلافات العقائدية ، التى فرقت دين الأمة وجعلتها شيعا وأحزابا وأضرمت بينها نار العداوة والبغضاء، كلها كانت عوامل أجنبية لا صلة لها بالدين. لهذا ذم السلف – رضي الله عنهم – جميع الفرق المختلفة الخارجة عن دائرة الكتاب والسنة.
ولاستجلاء حقيقة التوحيد وكشف ما يعلق بها من أوهام فلقد عملت الجمعية طوال تاريخها على تعميق وتفهيم العبادات القلبية التى لا ينبغي أن تكون إلا لله تعالى مثل : الحب ، والخوف، والرجاء، والذل ، والتوكل، والاستعانة، والتوبة، والإنابة، والتعظيم، والإجلال، والذل ، والتوكل، والإخلاص، والتقوى، والمراقبة،
والاستغاثة وكذلك العبادات القولية المتعلقة باللسان والتي قد يؤدى الجهل بها إلى الوقوع فى مظنة الشرك والعبادة بالله مثل: دعاء غير الله أو الاستغاثة بغير الله أو الحلف به أو الغلو فى مدحه بما يرفعه درجة على المخلوقين أو سؤاله المدد والبركة،
ولكي تتضح تلك المفاهيم الفكرية اهتمت جماعة أنصار السنة بتوضيح منهج القرآن والسنة وعمل السلف فى العبادات التالية:
أ – الذكر :
- وهو استحضار الذاكر لله سبحانه وتعالى ببعض ما له من الأسماء والصفات مع التأمل فى معانيها وتدبر لآثارها وتأثر القلب بها ولقد أوضح دعاة الجمعية حقيقة الذكر وكيفيته وآدابه وحملت بشدة،
- ولها الحق فى ذلك، على من يحرفون ذكر الله بترديد بعض الكلمات المقطعة والتمايل والرقص على أنغام الموسيقى كما يفعله بعض الجهال مما لم يأذن به الله ورسوله ولم يرو عن أحد من أصحابه.
ب – الدعاء لله والتوجه إليه وحده:
- كانت الجمعية فى هذا المضمار واضحة ومتمسكة بالحق الذى تراه وتدعو إليه من وجوب الدعاء لله وحده وحرمة دعاء غيره تعالى أو اتخاذ واسطة بين العباد وخالقهم.
ج – الاستغاثة والاستعانة:
- وهما طلب الغوث والنجدة لتفريج كربة أو إزالة شدة.
- " ولا يجوز ذلك إلا بالله عز وجل فيما لا يقدر عليه غيره وأما ما يقدر عليه العباد فيجوز الاستغاثة بهم إذا كانوا أحياء حاضرين" ولهذا فلقد حرموا الاستغاثة بالموتى والغائبين.
د – جماعة أنصار السنة وآيات الصفات:
- نهجت الجماعة منهج السلف فى آيات الصفات حيث قالوا: إن هذه الصفات على حقيقتها بدون تأويل مع استحضار الله تعالى:
" ليس كمثله شىء وهو السميع البصير " ولقد حملت بشدة على الجمعية الشرعية لاتباعها رأى الخلف وهاجمت من يقول : " رأى السلف أسلم ورأى الخلف أحكم وأعلم"
2- محاربة البدع والخرافات: منذ نشأة الجماعة ( 1926 م ) وهى تتصدى للبدع والخرافات التى تسللت إلى عقول المسلمين بسبب الأمية الدينية والجهل بأحكام الشرع والتقليد بدون دليل شرعي ولقد صمدت فى هذا الميدان ونازلت أرباب البدع منازلة لا هوادة فيها، تارة بالدليل والحجة وتارة بالهجوم والتطاول كما سنوضحه عند التقييم،
فلم تفتر لها عزيمة ولم يضعف لها جهاد فلقد أوضحت للمسلمين معنى الابتداع فى الدين ومدى خطره على الإسلام ولقد وضعوا نصب أعينهم قول الله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وقوله صلى الله عليه وسلم : " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار" .
3- أنصار السنة والتصوف:
شهدت ساحة الدعوة الاسلامية خلال القرن الرابع عشر الهجري معركة فكرية ضارية بيمن كل من أنصار السنة والتصوف حاول كل فريق أن يجهز فيها على الآخر وقد أحدث هذا الصراع جروحا لن تندمل فى كيان الدعوة الاسلامية فأنصار السنة منذ باكورة عهدها وهى تصب جام غضبها على التصوف،
فمن خلال فكرها المقروء وعبر ألسنة دعاتها استهدفت الجماعة الإجهاز على التصوف بإثبات القضايا التالية:
- أ – الاتجاه الصوفي على النحو الذى يردده أعلام التصوف لم تعرفه البيئة العربية قبل الإسلام وأن فترات تحنث الرسول صلى الله عليه وسلم كانت عزوفا عن المجتمع المسلم.
- ب – عندما جاء الإسلام متمثلا فى مصدريه الأساسيين كتاب الله تعالى والسنة الصحيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم ، لم نجد فيه إشارة للتصوف لا بلفظه ولا بمعناه، والقرآن الكريم وكتب السنة فى متناول الجميع ومن عنده ريب فى هذا التعميم فليأت ببرهان.
- جـ - لا يوجد فى لغة العرب ولا فيما توارثنا من أدبها شعرا ونثرا أية إشارة إلى كلمة صوفية أو صوفي بنفس المعنى الذى يهدف إليه أعلام التصوف .
- د- ظهر التصوف بمقاييسه الفكرية والفلسفية فى البيئة العربية فى النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة وكان من قبل معروفا فى بيئات غير عربية، هذا ولقد أرادت الجماعة من خلال منهجها الفكري أن تثبت أن التصوف فكر وافد ظهر فى أوساط الديانات الوثنية فهو غريب عن الإسلام،
وفى سبيل إثبات ذلك نشرت العديد من المؤلفات التى توضح المنهج الفكري لجماعة أنصار السنة ومن ذلك " هذه هى الصوفية" للأستاذ عبد الرحمن الوكيل و " تنبيه الأذهان للرد على مفتريات الشيخ عبد ربه سليمان" تأليف محمد صالح سعدان، " والصراع بين الحق والباطل" للأستاذ سعد صادق. هذا بجانب العديد من المقالات التى نشرت فى مجلة الهدى عبر تاريخها الممتد زهاء نصف قرن.
هذه الاتجاهات الرئيسية الثلاثة هى دعائم فكر أنصار السنة وبجانب هذا الجهد الرئيسي فلقد عالجت الجماعة قضايا الدعوة الاسلامية معالجة موضوعية ، كتنظيم النسل وعلاقة المرأة بالرجل والمطالبة بتطبيق الشريعة الاسلامية مما كان له أثر واضح فى اليقظة الاسلامية المعاصرة.
أثر أنصار السنة فى ميدان الدعوة الاسلامية
اتضح من خلال المباحث السابقة تاريخ جماعة أنصار السنة ومنهجها فى الدعوة إلى الله وقبل أن نقف من الجماعة موقف النقد البناء والتقييم الموضوعي فمما تجدر ملاحظته أن جماعة أنصار السنة قد تركت آثارا لا تنكر وبذلت جهودا لا تجحد فى ميدان الدعوة الاسلامية ويمكن إيجاز أهم آثارها فى النقاط التالية:
- أ – أنها امتداد فكرى وتاريخي لمدرسة ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعا فلقد نقلت وحذفت الكثير من تراث المدرسة التى لا ينكر أثرها فى اليقظة الاسلامية المعاصرة.
- ب – أنها وقفت من العقيدة موقف الحارس الأمين والمدافع العنيد توضح جوهرها وتذب عنها الشبه التى علقت بها من خلال الأمية والتقليد والثقافات التى وفدت على الفكر الاسلامى فعكرت صفاءه وألبست الباطل ثوب الحق.
- جـ - أن جماعة أنصار السنة قد شاركت مع غيرها من الجمعيات العاملة بميدان الدعوة فى تحقيق التطبيق العملي لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه فى العبادات وسائر السنن كما أن أعضاءها لا يستدلون إلا بما ثبت صحته من الأحاديث.
- د- أنها والجمعية الشرعية قد شاركتا مشاركة فعالة فى محاربة البدع والخرافات التى ترتكب باسم الدين كبدع المآتم والأفراح والموالد وغير ذلك من العادات التى لا تمت إلى الإسلام بصلة.
- هـ - أنه من خلال المعركة الضروس بين أنصار السنة والتصوف ومع ما تركته تلك المعارك مع جراح لا تندمل بين العاملين فى ميدان الدعوة فإن تلك المعارك الفكرية بين الفريقين قد أثرت المكتبة الاسلامية بالعديد من المؤلفات والأبحاث التى حاولت كل جماعة أن تؤيد فكرها بما تسوقه من أدلة وبراهين لتأييد ما تعتنقه وتدعو إليه ولقد دل هذا على قدرة الإسلام على الاحتواء والعطاء.
هذه الآثار السابقة من العوامل التى ساعدت على اليقظة الاسلامية المعاصرة التى تتبع المنهج السفلى وترفض ما عداه.
المبحث الخامس جماعة أنصار السنة فى الميزان
سبق أن ذكرنا أن الجمعية الشرعية وأنصار السنة المحمدية وجهان لعملة واحدة أنهما أسهمتا فى مجالات الدعوة الاسلامية لا سيما فى العقيدة والعبادات ولولا ذلك الخلاف بين الجماعتين حول آيات الصفات لكان لهما شأن أي شأن.
ولهذا فإن ما وجه إلى الجمعية الشرعية من نقد وملاحظات خلال المبحث الخامس من الفصل الأول من هذا الباب يوجه أيضا إلى جماعة أنصار السنة المحمدية ونوجز ما سبق فى النقاط التالية:
- 1- قصور المنهج وعدم شموله إذ أن أنصار السنة اقتصرت فى دعوتها على جوانب العقيدة والعبادة فقط وأهملت جوانب الدعوة الأخرى فعزلت نفسها سياسيا واجتماعيا ولم تعمل على قيادة الرأي العام وتوجيهه إسلاميا فى كل جوانب الحياة.
- 2- عدم الاهتمام بتربية النشء فلم تول عنايتها لإنشاء مدارس أو رياض أطفال الوقت الذى كانت فيه مدارس التبشير والإرساليات الأجنبية تستولي على خيرة أطفال المسلمين وتسيطر على عقولهم.
- 3- عدم المشاركة فى القضايا السياسية والابتعاد عن لكفاح الدين والوطني ضد أعداء الإسلام فما وجدنا دعوة لجهاد فى سبيل الله وما تطوعت الجماعة لتقاتل أعداء الله من الاحتلال الانجليزي أو قضية فلسطين، ولم تبادر الجماعة إلى أية خطوة عملية فى مجال الاقتصاد لتحرير المعاملات الاسلامية من الربا وشوائبه ، بل نأت عن هذا كله وقنعت بما تدعو إليه، وكان النص فى قانونها على عدم التعرض للأمور السياسية تمهيدا للفكرة الخطيرة " لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة".
- 4- الخلاف بين أنصار السنة والجمعيات العاملة فى حقل الدعوة، فى الوقت الذى كان يجثم فيه الاحتلال على صور المسلمين فيستبيح دماءهم وأعراضهم ويعبث بمقدساتهم وينحى شرع الله عن كل مجالات الحياة ويدفع به ليعيش بين أروقة المساجد فقط ويملك أزمة القيادة والريادة لدعاة العلمانية والإلحاد مما كان يستوجب النفير العام بين كل العاملين فى ميادين الدعوة،
وتناسى ما بينهم من خلافات ولكن مع الأسف لم تعر جماعة أنصار السنة التفاتا لهذا كله بل كانت تصول وتجول فى ميدان آخر وهو إذكاء العداوة بين العاملين فى الحقل الاسلامى وذلك بالنقد اللاذع والكلمات القاسية بحيث لم تسلم جمعية من الجمعيات من ألسنة دعاة أنصار السنة والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى ومن ذلك ما يلى:
أ – مهاجمة جماعة الإخوان المسلمين:
فلقد كتب الأستاذ المرحوم عبد الرحمن الوكيل فى مجلة الهدى مقالا هاجم فيه الإخوان لأن مرشدها العام حسن البنا قال : إن مسألة التوسل بالأولياء مسألة خلافية لا يجوز أن تفرق بين المسلم وأخيه المسلم فانبرى كاتب المقال
قائلا: ألا يرى فضيلته أن هذا الرأي خطير يبعد الإخوان عن حقيقة الدين الاسلامى ثم يخاطب المرشد العام قائلا: " أقم وجهك للدين حنيفا يا فضيلة الأستاذ ولا تنس أن عليك مغبة هؤلاء النفر الذين يلهبهم التحمس لك والذياد عنك،قلها مرة مبتغيا بها وجه الله ولا تغرنك الكثرة ولو أعجبك كثرة الخبيث".
فإنه من خلال تلك الكلمات قد حكم على جماعة الإخوان ومرشدها بما يلي:
- (1) البعد عن حقيقة الدين الاسلامى.
- (2) التلميح بأن البنا فى دعوته لم يكن مبتغيا وجه الله وهذا تجن على الرجل ولم يقل بهذا أحد.
- (3) أن كثرة الإخوان كثرة خبيثة وهذا لا يليق بمسلم أن يصف أخاه بمثل هذا الوصف غير الكريم.
ب – أنصار السنة وجماعة شباب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
جماعة شباب سيدنا محمد من الجماعات التى انفصلت عن الإخوان المسلمين فى حقبة الأربعينيات ولها جهاد رائد فى ميدان الدعوة وكان يرأسها الأستاذ المرحوم " محمد عطية خميس" ولم تسلم هى الأخرى من هجوم أنصار السنة عليها فلقد كتب الأستاذ محمد صادق عرنوس فى مجلة الهدى النبوي مقالا ذكر فيه: " والشاهد عندنا قائم فى أولئك الذين انتحلوا لأنفسهم شباب محمد وهم أول من يبرأ منهم محمد صلى ا لله عليه وسلم يوم يقال لهم: ( ماذا أجبتهم المرسلين) ويوم يناديهم: " أين شركائي الذين كنتم تزعمون"
ثم يستطرد كاتب المقال: ( غلبت عليهم شقوتهم فاستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله كما أغرى بهم شيطانا من شياطين الإنس فوجههم وجهة غير سليمة أضاعت ما بذلناه معهم من جهود لتثبيت التوحيد فى قلوبهم فجاهروا بالشرك وناصروا كل بدعة) .
وهذا الكلام ليس فى حاجة إلى تعليق ولكن يصور مأساة العاملين فى ميدان الدعوة.
جـ - أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية : رغم أن أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية كما سبق أن ذكرت وجهان لعملة واحدة فإن صراعا نشب بينهما طال عمر جذوره فأثمر خلافا وفرقة بين الجماعتين وهو الخلاف حول آيات الصفات فأنصار السنة تعمد إلى الحقيقة دون تأميل مع ذكر قوله تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصري" وهذا رأى السلف. والجمعية الشرعية تجنح إلى رأى الخلف القائل بالتأويل.
وهدف الجماعتين تنزيه الله تعالى وإن اختلفت وجهات النظر وكان يكفى فى هذا المقام أن تناقش تلك القضية مع الالتزام بأدب البحث والمناظرة ، غير أن جماعة أنصار السنة وجدت فى هذا المجال ميدانا تصول فيه وتجول وتصب جام غضبها على الجمعية الشرعية حتى يخيل للباحث أن ما يدور ليس بين دعاة تجمعهم عقيدة واحدة وهدف مشترك بل أعداء،
وما رمى به كل فريق الآخر من مثالب ونقائص لم يرموا به أعداء الإسلام فتنشر مجلة أنصار السنة فى العدد العاشر مقالا بقلم مدير المجلة يحمل بعنف على الجمعية الشرعية وينشر بحث للأستاذ ذكريا على يوسف بعنوان " ادفع بالتي هى أحسن " يبدؤه بقوله : " مجلة الاعتصام صحيفة شهرية تصدر فى القاهرة رديئة الورق رديئة التحرير تنشر ما يصل إليها دون تحقيق أو تدقيق رغبة فى الرواج حب الانتشار".
ويبلغ التطاول على حد الافتراء على ا لشيخ محمود خطاب رحمه الله فيقول البحث فى ص 33 تحت عنوان شيخ يدعو الناس إلى عبادته ومما جاء به: ماذا أملك لمجلة الاعتصام التى تذكرني بالجملة القائلة : ( عدو عاقل خير من صديق جاهل) ،
والسن بالسن والبادئ أظلم، ( ولا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم، وأن نكف الأذى عنكم وتؤذوننا) ثم بدأ الكاتب يلفق اتهام الشيخ محمود خطاب بأنه يدعو الناس إلى عبادته من خلال كتابه " العهد الوثيق" وهكذا يستطرد كاتب هذا البحث فى مجلة أنصار السنة والذي قارب الخمسين من الصفحات وبعد هذا كله يقول " نكتفي بهذا القدر والبقية تأتى".
ثم يختتمه بهذا البيت من الشعر الهجائي:
إن عادت العقرب عدنا لها
- وجعلنا لها حاضرة
أهكذا يتعامل الدعاة فيما بينهم ؟
وهل فيما علمته جماعة أنصار السنة من هدى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه هاجم مخالفيه بهذا؟
حشاه صلى الله عليه وسلم أن يفعل أو يقول مثل هذا – ولقد كانت ثمبرة تلك الخلافات حيرة جموع المسلمين وفقدانهم الثقة فى معظم الجمعيات العاملة فى حقل الدعوة ولهذا ما تكاد تنحل جمعية من الجمعيات أو تصادر مجلتها أو يحظر نشاطها فلا يلتفت إليها أحد ولا يتحرك الرأي العام الاسلامى يؤازرها ويقف بجوارها فى محنتها وذلك بسبب عجزها عن التأثير فى حياة المسلم وانشغالها بالهجوم على غيرها كما سبق توضيحه.
5- أنصار السنة والتصوف: إن الفكر الصوفي مهما اختلفت الآراء حوله هل هو إسلامي النشأة ؟ أم غريب وفد مع روافد الثقافات المعاصرة للفتوحات الاسلامية ؟
قد أصبح واقعا لا يجحد وغدا له تاريخ ورجال وفكر لا ينكر ولا يختلف باحث منصف على أن التصوف قد شابه دخل كثير وجنح إلى الشطحات الفكرية والفلسفية والنزعات الغربية مثل قضايا الاتحاد والحلول والغلو فى مسائل التوسل والوسيلة والمبالغة فى شأن الولاية والكرامة ومنحها لكل شارد ووارد ثم الانغماس فى البدع والمنكرات التى تحدث فى الموالد التى تقام للأولياء ويفد الناس إليها من كل حدب وصوب يقبلون القبور ويتمسحون بها ويطوفون حولها ويقدمون لها النذور من أموال وعطايا،
ثم تقام حلقات الذكر على أنغام الموسيقى واختلاط الرجال بالنساء مما يجمع على إنكاره علماء الإسلام هذا ولقد اعترضت معظم الجمعيات العاملة فى ميادين الدعوة على أسلوب التصوف ومنهجه لا سيما حينما ينغمس المتصوفون فيما ذكرناه من أمور البدعة، غير أنهم لم ينكروا التصوف كحقيقة وله أثره فى الفكر الاسلامى ولا يجحد دوره فى نشر الإسلام فى مجاهل أفريقيا،
ولم يتطاولوا على الأحياء والأموات سبابا ولعنا سوى ما انفردت به جماعة أنصار السنة، فلقد نهجت فى الاعتراض على التصوف منهجا يتسم بالقسوة والتطاول ولم يسلم من ذلك الأحياء ولا الأموات وهم يلصقون بالتصوف كل ما نزل بالإسلام من كوارث ويرجعونه إلى وثنية فارس ويصفون أولياء الله أو من أطلق عليهم هذا الاسم - والله أعلم بحقيقتهم – بأقبح الصفات التى يعف اللسان عن ذكرها وأسوق على مضض بعض نماذج منها فيما يلى :
- أ – نشرت مجلة الهدى النبوي : مقالا عن السيد أحمد البدوي رحمه الله ومما جاء فيه : " لا يعرف له أصل ولا فصل ولا علم ولا عبادة إلا أنه دخل المسجد يوم الجمعة فبال فيه وخرج"
ويستطرد كاتب المقال فيقول : " الروايات فى شأن نشأته وظهوره فى مصر مضطربة ومختلفة ، ولكنها تتلاقى فى النص على تفاهة حياته وغرابة أطوراه واختلال عقلة ...
وروى أنه كان جاسوسا لإحدى الدول فلما انكشف أمره تظاهر بالولاية ليصرف الأنظار عنه فهو رجل غريب غامض مريب إن دل تاريخه على شيء فإنما يدل على تمسك المصريين بمبدئهم العريق فى القدم من أنهم حين افتقدوا معبودهم فى شخص أحد الفراعنة التمسوه فى شخص بعض المجانين ".
أهذا كلام يخرج من داعية ملتزم ومحافظ على هدى الرسول صلى الله عليه وسلم فى أدب الحديث؟
ثم هكذا يوصف المصريون بهذا الوصف غير اللائق وبطعن فى عقيدتهم وأنهم متأرجحون بين عبادة الفراعنة والمجانين؟ وتصف مجلة الهدى المرسى أبا العباس رحمه الله بأنه طاغوت الإسكندرية الأكبر.
ب – ألف المرحوم الشيخ عبد الرحمن الوكيل رئيس الجماعة كتابا بعنوان: هذه هى الصوفية تخطى فيه حدود البحث العلمي الهادئ الهادف وأدب المناقشة الموضوعية على التطاول والتشهير. والمستعرض لموضوعات الكتاب يقف على الكثير مما درس فى كتب التصوف يوقها الشيخ الوكيل رحمه الله لإدانة التصوف هذا إذا كنا نعتب على مثل هذه الكتابات فإننا نعتب ونلوم رجال التصوف لذكرهم الأخبار الملفقة والقصص الكاذب فى أمهات كتب التصوف بهذا الأسلوب المهين.
كذلك يؤلف الأستاذ سعد محمد صادق كتابا مما جاء فيه : إن قبر السيدة زينب المنسوب إلى زينب بنت على رضي الله عنها بالقاهرة لا أصل له ويقال : إن موضعه كان ساقية فلما رأى صاحبها أنها لا تغل عليه مع التعب زعم أن السيدة زينب جاءت له فى المنام .. الخ.
كذلك يعنون فى كتابع بعناوين فيها السخرية والتطاول منها:أولياء الخيال ، ولى ضال عن سبيل الله ، ولى يسرق ليعيش ، إلى آخر مثل هذه الأساليب التى تتسم بالتطاول أكثر من اتسامها بالبحث العلمي الدقيق وما ذكرته قليل من كثير امتلأت به كتب جماعة أنصار السنة ومجلتها وعلى ألسنة دعاتها مما أوغر الصدور وبذر بذور الفتن.
هذا ولقد ترتب على رمى جماعة أنصار السنة مخالفيها بالشرك والابتداع أن سهلت كلمة الكفر على الألسنة ورمى بها بعض المسلمين جزافا مما أدى إلى ظهور جماعات فيما بعد تكفر المسلمين وتهجر مجتمعاتهم مما سأوضحه فى الباب الثالث.
هذه بعض الملاحظات والاعتراضات على أسلوب جماعة أنصار السنة فى الدعوة إلى الله مما كان له أثر سيء فى ميدان العمل الاسلامى فتفرقت كلمة الدعاة وابتعدوا بالدعوة عن مسارها الصحيح الذى ينبغي أن تسلكه فى صبغ المجتمع المسلم بصبغة الإسلام ونظرا للاختلاف بين العاملين فى حقل الدعوة الاسلامية فلقد أسست جمعية الشبان المسلمين عام ( 1927 م ) وكان لها منهج خاص ونمط معين فى الدعوة إلى الله مما سأتناوله فى الفصل التالي إن شاء الله تعالى.
الفصل الثالث جمعية الشبان المسلمين
أسست فى جمادى الآخرة عام 1346 هـ
من الجمعيات التى لها دور بارز فى ميدان الدعوة الاسلامية جمعية الشبان المسلمين التى ظهرت فى فترة كانت الدعوة الاسلامية فى أشد الحاجة على شبان يعتنقون مبادئها ويردون عنها تلك الهجمات الشرسة من كل أعداء الإسلام الذين استطاعوا الإطباق على ديار الإسلام فى مطلع القرن الرابع عشر الهجري ولم يكن على سلاح الدعوة حينذاك سوى بعض الجمعيات، والتي سبق التأريخ لها كالجمعية الشرعية،
وأنصار السنة المحمدية اللتين عالجتا أمور العقيدة والعبادة وجعلتا من القضايا الفقهية والخلافات الفرعية ميدانا تصولان وتجولان فيه وكذلك تحركها صوب الشباب حثيثا باستثناء الإخوان المسلمين كما سيأتي إن شاء الله ولهذا كان تأسيس جمعية للشباب المسلم أملا يراود النفوس لا سيما أن ظروف مصر كانت تستوجب تجمعا شبابيا مسلما ولقد مضى فى الباب الأول أسباب نشأة الجمعيات الاسلامية ولقد كان تأسيس تلك الجمعية كرد فعل لجمعية الشباب المسيحية التى أنشئت عام ( 1927 م ) وسوف يتضمن هذا الفصل الموضوعات التالية:
المبحث الأول كيف أسست جمعية الشبان المسلمين
بدأت الفكرة الأولى لإنشاء الجمعية لدى مجموعة من ذوى الغيرة الدينية والحماس الاسلامى أمثال : فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر فيما بعد والشيخ عبد العزيز جاويش، وأحمد تيمور باشا ، والسيد محب الدين الخطيب، والدكتور عبد الحميد سعيد، والدكتور محمد أحمد الغمراوى. وجمع غفير من الشباب اجتمعوا فى يوم الجمعة ( 15 جمادى الآخرة عام 1346 هـ - ديسمبر 1927 م ) على نفقة أمير الشعراء أحمد شوقي.
ويؤرخ المرحوم الأستاذ محب الدين الخطيب لهذا فيقول " فى اجتماع عظيم حضره أكثر من ثلاثمائة شاب من شباب المسلمين يتقدمهم صفوة الكهول والشيوخ من قادة الرأي الاسلامى فى مصر وما منهم إلا من يرى الشرف فى الحصول على أصوات كافية لعضوية مجلس إدارة هذه الجمعية التى ظهرت فجأة على حين فترة من يأس وفى زمن أيقن فيه الإلحاد وأهله ومن يرعاهم من ذوى القوة والسلطان الأجنبي والمحلى بأن الإسلام خفت صوته ولن تقوم له بعد قائمة ولقد تمخض هذا الاجتماع عن النواة الأولى لجمعية الشبان المسلمين ".
المبحث الثاني
التعريف بكل من :
- 1- الدكتور عبد الحميد سعيد الرئيس العام الأوبل للشبان .
- 2- اللواء صالح حرب الرئيس الثاني للشبان.
1- الدكتور عبد الحميد سعيد
مولده : ولد رحمه الله فى مارس ( 1882 م ) فى بيت من البيوتات العريقة فوالده إبراهيم باشا سعيد.
تعليمه: تلقى العلوم فى المدرسة الناصرية التوفيقية ونال منها الشهادة الثانوية ثم أوفده والده إلى باريس لتلقى دراسة الحقوق وقد حصل على درجة الدكتوراة فى القانون ثم اشترك فى حرب البلقان عام ( 1912 م ) وجرح فى إحدى معاركها وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى عام(1914 \ م ) ذهب إلى تركيا.
ثم سافر على سويسرا وإيطاليا ثم عاد إلى مصر وانتخب عضوا بمجلس النواب عام ( 1923 م ) عن دائرة كفر الشيخ طيلة حياته، وفى عام ( 1927م) انتخب رئيسا لجمعية الشبان المسلمين واستمر فى رئاستها حتى انتقل على الرفيق الأعلى يوم الاثنين ( 25 جمادى الأولى 1359 هـ أول يوليه 1940 م ).
جهاده وكفاحه فى سبيل الإسلام
يعتبر الدكتور عبد الحميد سعيد من الرجال الذين لهم جهاد كريم فى الدعوة إلى الله من خلال منبر الشبان المسلمين ومجلتهم ومن فوق منصة البرلمان الذى كان عضوا بارزا فيه وإنه ليجب على شباب هذا الجيل لا سيما الدعاة منهم أن يقفوا على تاريخ هؤلاء الرجال وعلى الباحثين أن يميطوا اللثام عن رجالات الإسلام فى مصر هذا ومن أبرز جهاد الدكتور عبد الحميد سعيد مواقفه من القضايا الاسلامية وأبرزها كشفه أما مجلس النواب عن سوء طوية الدكتور طه حسين بسبب كتابيه " الشعر الجاهلي، وحديث الأربعاء".
فلقد قدم استجوابا للحكومة عن الأمور المنسوبة إلى الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول. سأحاول أن أقتطف بعضا من فقرات خطابه على أعضاء المجلس لنقف على تاريخ الرجل ومواقفه.
" يا حضرات النواب: لقد طغت على بلادنا موجة من التقليد الأعمى لكل ما هى غربي، موجة الخروج على الآداب القومية وعلى النظم الشرعية وتعاليم الدين.
وقام بالتبشير بهذه التقاليد الغربية جماعة ممن لم يتهذبوا التهذيب الديني ولم يصل نور الإيمان إلى قلوبهم... ثم ينتقل فى خطابه إلى الحديث عن آراء طه حسين فيقول : إننا لا نشكو من هذا الرجل حرية الرأي، ولا ما تؤد إليه من بحوث عملية وأدبية ولكننا نشكو منه غلا ران على قلبه نحو الإسلام والمسلمين .
نشكو منه أن يتخذ من الجامعة حصنا يقذف من وراء أسواره غاراته السامة الخانقة فتصيب من الأخلاق والآداب مقتلا ثم تنبعث سمومه فى نفوس الطلبة هم غير مسلحين بالدين وغير مدرعين بتلك التعاليم التى تمكنهم – لو تعلموها أن يهدوا الجبال ، هذا ،
وأخذ – رحمه الله – يقرأ من الموضوعات التى يلقيها طه حسين على طلابه ومن هذه الفقرات وأخطرها قوله: " لا شك فى أن الباحث الناقد والمفكر الحر الذى لا يفرق فى نقده بين القرآن وبين أى كتاب أدبى آخر يلاحظ أن فى القرآن أسلوبين متعارضين لا تربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب خضع لظروف مختلفة وتأثر ببيئات متباينة".
ويعقب الدكتور عبد الحميد سعيد على هذا الكلام الخطير " اسمعوا ... اسمعوا هذا ما كان يلقى على أبنائكم فتتسمم أفكارهم ويقضى على مستقبلهم.. هؤلاء هم شباب البلد الذين سيكونون فيما بعد قادة الأمة ورؤساءها".
ثم يذكر – رحمه الله – طرفا من حياة طه حسين فى فرنسا وكيف تتلمذ على أيدى المستشرقين وكان رسولهم فى مصر. ولقد أردت من هذا الاستطراد أن أضع أمام الدعاة نموذجا لجهاد هذا الرجل الذى غمط تاريخه هو والكثير من أقرانه بينما يؤرخ لأناس كانت أفكارهم وبالا على هذه الأمة. ومما يجدر ذكره أن جمعيات الشبان بلغت فى عهده شأنا كبيرا فاتسع نشاطها وفتحت أبوابها للدعاة والمجاهدين من العالم الاسلامى ومن فوق منبرها علا صوت الحركات الوطنية ضد الاستعمار والاحتلال.
2- اللواء محمد صالح حرب
مولده: ولد فى جزيرة الحربات بناحية الطوبة مركز كوم امبو محافظة أسوان وكان والده ضابطا بالجيش.
تعليمه: دخل المدرسة الابدائية فى أسوان عام ( 1903 م ) وكان زميل الدراسة للمرحوم الأديب عباس محمود العقاد، ولقد كانت دراسته وميوله تتجه للحياة العسكرية فدخل مدرسة خفر السواحل واشترك فى الحرب الليبية الايطالية عام ( 1911 م ) مناصرا للمجاهد أحمد السنوسي ثم ذهب على استنابول ودخل كلية أركان الحرب التركية وتخرج فيها وحارب مع الجيش التركي ضد اليونان والحلفاء ثم انتخب عضوا بالبرلمان عن دائرة أسوان ثم عين وكيلا لمصلحة السجون ثم مديرا لخفر السواحل فوزيرا للحربية عام ( 1940 م ) وعقب وفاة الدكتور عبد الحميد سعيد تم انتخابه رئيسا للشبان المسلمين فى أول جمادى الآخر عام ( 1359 هـ يوليو 1940 م) ولقد ظل رئيسا لها حتى وافاه الأجل عام ( 1966 م ).
ولقد بذل – رحمه الله – جهدا كبير فى توسيع دائرة الشبان المسلمين كما أنه قام بالتنسيق مع الشبان والإخوان المسلمين أثناء حرب فلسطين وحينما صدر قرار حل الإخوان عام ( 1948 م ) فتح صالح حرب دار الشبان للإمام حسن البنا ولم يخضع لتهديد أو وعيد وظل البنا يتردد على الشبان حتى اغتيل على عتباتها كما سيأتي إن شاء الله .
وعقب وفاة المرحوم صالح حرب عين الصاغ إبراهيم الطحاوى أحد ضباط ثورة ( 23 يوليه 1052 م ) مكانه وظل رئيسا لها حتى صدر قرار وزاري بحل مجلس إدارة الشبان فى يوليه عام ( 1975 م ) وتتسم تلك الفترة بتجميد نشاط الجمعية وبعدها عن أهدافها المعانة وعدم تنفيذ المنهج الذى وضع فى بدء تأسيسها كما سيأتي إن شاء الله.
ولقد تولى فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقورى رئاسة الشبان فى ( جمادى الآخرة 1395 هـ يوليو 1975 م ) وهو من علماء الأزهر الشريف وله ماض طويل فى الدعوة الاسلامية فلقد كان عضوا بمكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين ثم انشق وعين وزيرا للأوقاف ثم مديرا لجامعة الأزهر ... وكان الرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين.
المبحث الثالث أهداف الشبان المسلمين=
تعددت أهداف جمعية الشبان المسلمين وتنوعت أغراضها ولقد جاء القانون الاساسى يحدد ذلك فيما يلي:
- 1- بث الآداب الاسلامية والأخلاق الفاضلة.
- 2- السعي لإنارة الأفكار والمعارف على طريقة تناسب العصر.
- 3- العمل لإزالة الاختلاف والجفاء بين الطوائف والفرق الاسلامية.
- 4- العمل على تنشئة الشباب نشأة دينية وثقافية ورياضية واجتماعية وتهيئة الوسائل والظروف التى تعينه على تفهم دينه والتزود من ينابيع الإسلام الصادقة.
- 6- توثيق رابطة الإخاء والتضامن بين المركز العام والجمعيات الاسلامية على الصعيد الدولي.
- 7- حث الجهود على زيادة نماء روابط الأخوة الاسلامية فى ميادين الاقتصاد والثقافة والفكر والاجتماع وما إليها.
- 8- التعاون مع مختلف الهيئات العلمية والثقافية والجامعات والمعاهد وتبادل الدراسات معها وإحياء التراث الفكري الاسلامى وتعهد ولائد الفكر بالرعاية وتقرير المناهج الدراسية والجوائز والإعانات.
- 9- لا يجوز للمركز العام أن يجادل فى الأمور السياسية والمنازعات المذهبية.
هذه هى أهداف جمعية الشبان المسلمين وهى أهداف كبيرة وآمال عريضة وسنرى بين ثنايا البحث هل تحققت تلك الأهداف أم بقيت حبرا على الورق،
وهى كما تبدو لباحث لا مجال للاعتراض عليها أو التقليل من شأنها الهدف التاسع وهو عدم المجادلة فى الأمور السياسية وهو أمر مشترك بين سائر الجمعيات الاسلامية باستثناء الإخوان المسلمين كما سيأتي إن شاء الله ولقد سبق عند مبحث الجمعية الشرعية وجه الاعتراض على هذا النص وقد يستساغ لتلك الجمعيات العذر لأن قانون الجمعيات يوجب النص على ذلك لتشهر الجمعية رسميا.
المبحث الرابع منهج جمعية الشبان المسلمين لتحقيق أهدافها
وضع مجلس إدارة الشبان المسلمين المنعقد خلال الفترة ( 14 ، 15 من صفر عام 1349 هـ. الموافق 10، 11 يوليه 1930 ) الأسس الكفيلة بتحقيق أهداف الجمعية والوسائل التى تساعد الشبان على نجاح رسالتهم وهى كما يلى:
أولا: الرابطة الاسلامية:
- 1- مؤتمر سنوي بمكة.
- 2- مؤتمر سنوي لمجالس الإدارة فى البلاد المختلف .
- 3- مؤتمر دوري عام بين العواصم الاسلامية.
- 4- تعميم فروع الجمعية وشعبها وتوحيد الشعار والعلم.
- 5- تعميم التاريخ الهجري رسميا.
- 6- جماعات للوعظ والإرشاد فى البلاد الاسلامية.
- 7- بعثات للطواف فى أنحاء العالم الاسلامى.
- 8- تأسيس عصبة أمم إسلامية للفصل فى المنازعات بين الطوائف الاسلامية.
- 9- تأليف لجنة من البارزين من رجال الإسلام للتأليف بين أمراء المسلمين.
ثانيا : الروابط الاقتصادية:
- 1- إنشاء مصرف إسلامي عام.
- 2- شركات إسلامية لتبادل المصنوعات والمتاجر الاسلامية.
- 3- مكاتب استعلامات لتعريف الأقطار الاسلامية بأخبار بعضها البعض.
ثالثا : العمل على إرجاع الخلافة الاسلامية.
رابعا: تأسيس لجنة من علماء الأزهر للتقريب بين المذاهب .
خامسا: تأسيس لجنة من طلبة الأزهر للتعارف.
سادسا: عمل ميثاق لجمعيات الشبان المسلمين.
سابعا: التثقيف الاسلامى ويشتمل على :
- أ – تعميم التعليم الديني ودراسة التاريخ الاسلامى للبنين والبنات.
- ب – تعديل المناهج بما يكمل إخراج آباء صالحين وأمهات صالحات.
- جـ - تعميم القرآن الكريم.
- د- تأسيس مدارس إسلامية بحتة.
- هـ - مؤتمر سنوي لمعلمي الدين.
المعاهد الدينية كما يلي:
- 1- إدخال علوم العصر واللغات بها واستبدال كتب أخرى أقرب على الفهم بكتبها.
- 2- ربط المعاهد بعضها ببعض فى الأمة الاسلامية.
- 3- مطالبة الحكومة بتنفيذ الأبحاث والمحاضرات فى الجامعة عن الإلحاد وما يتصل به.
- 4- وضع تفسير للقرآن الكريم بمعرفة مجمع علمي.
- 5- وضع دائرة معارف إسلامية.
- 6- بحث الأحاديث النبوية الصحيحة بحثا علميا ودينيا.
- 7- تأليف روايات إسلامية تمثل أخلاق الإسلام وكذلك قصص للأطفال تبث فيهم الروح الاسلامية.
- 8- ترقية الوعظ الديني بتوزيع الخطب على الوعاظ أو إلقاء المحاضرات عليهم أو الاتفاق مع وزارة الأوقاف عن خطبة مجدية.
ثامنا: التشريع الاسلامى ويحتوى على الآتى:
- 1- منع التبرج وغشيان الفتيان والفتيات المحال المخلة بالآداب والمحافظة على الآداب فى المصايف.
- 2- منع البغاء والخمر والميسر والربا.
- 3- حمل المسلمين على الفرائض.
تاسعا: محاربة التبشير والإلحاد بما يلى:
- 1- لجنة علمية لمحاربة وتنوير الناس فى الدين.
- 2- مكاتب استعلامات فى الأقطار الاسلامية تراقب ما يكتبه المبشرون وتتولى الرد عليهم.
- 3- تأليف جماعات للتبشير الاسلامى ونشر الدين الاسلامى على حقيقته.
- 4- مطالبة الحكومات الاسلامية بتعديل قوانين العقوبات فى المواد الخاصة بحرية الرأى والبحث بحيث يكون هناك فرق بين هذا وبين الطعن فى الدين .
5- إرسال مندوبين عن الجمعية للرد على المبشرين فى اجتماعاتهم.
هذا المنهج الشامل والتخطيط المنظم والأماني الضخمة والآمال العراض التى يهفو إليها قلب كل داعية.
ولو قدر لهذا المنهج أن يرى النور خلال مسيرة الجمعية لكان لها شأن عظيم ولتصدرت مسيرة الدعوة ولانضوى تحت لوائها شباب الإسلام غير أنه لم يتحقق من هذا المنهج سوى النزر اليسير وما تحقق لم تتابعه الجمعية خلال مسيرتها كما سيأتي عند التقييم إن شاء الله .
ولقد كانت الجمعية تأخذ العهد والميثاق على أعضائها للالتزام بالهدف وهذا هو نص القسم:
" على عهد الله وميثاقه قدر طاقني :
- 1- بإحياء هداية الإسلام فى عقائده وآدابه وأوامره ونواهيه ولغته ومقاومة تيار الإلحاد المهدد لهذه الأمة.
- 2- أن أقوم عاملا مجاهدا فى سبيل إحياء مجد الإسلام بإعادة تشريعه وإمامته الكبرى .. الخ.
- 3- أن أعمل على تحقيق أغراض جمعية الشبان المسلمين وتوسيع نطاق عملها.. والله على ما أقول شهيد".
وإن الباحث ليتساءل : هل ما زالت جمعية الشبان تحفظ أعضاءها هذا القسم؟ أم أن سحب النسيان وتلقب الأحوال أنست الجميع هذا العهد؟
المبحث الخامس الاتجاه الفكري والعملي للشبان المسلمين
أ – الاتجاه الفكري
سارت جمعية الشبان المسلمين إبان تأسيسها على نهج المدرسة السلفية التى تعاقبت منذ الإمام ابن تيمية حتى الشيخ رشيد رضا الذى كان له درس أسبوعي بدار الشبان، ويلاحظ هذا من خلال مقالات المجلة ومحاضرات المحاضرين.
فمثلا فى مسألة التوسل والوسيلة تنهج الجمعية منهج المدرسة السلفية وتحمل بشدة على المتوسلين بالأولياء.
ولقد كانت الجمعية تحفل بأسماء العديد من العلماء والأدباء. وألقوا زهاء مائة وثلاثين محاضرة فى عامها الأول، ومن محاضري الشبان فضيلة الشيخ المرحوم يوسف الدجوى، وفضيلة الشيخ المرحوم طنطاوي الجوهري، وفضيلة الشيخ المرحوم محمد الخضر حسين،
وجمع غفير من علماء الأزهر والأدباء والعلماء من مختلف الثقافات ولقد كان الخط الفكري الذى اتسمت به فى أغلب الأحيان: الاعتدال وعدم الميل إلى غلو المغالبين ولا تفريط المفرطين،
وحاولت التوفيق بين أنصار المدرسة السلفية والجماعات الصوفية فكانت الجمعية تفسح صدرها لهؤلاء وهؤلاء وحينما تولى الشيخ محمد زكى إبراهيم – رئيس جمعية العشيرة المحمدية ذات المنهج الصوفي – منصب الرائد الديني للشبان حاول قدر طاقته التقريب بين المدرستين وذلك من خلال مقاله فى مجلة الشبان العدد ( 22 شوال 1396 هـ أكتوبر 1976 م )،
ثم ما لبث الخط الفكري للجمعية أن اضطرب خاصة فى حقبة الخمسينيات والستينيات فلم يعد لها منهج فكرى معروف الاتجاه ولا يستطيع الباحث المتتبع لأسلوبها من خلال المجلة والمحاضرات أن يقف على فكر محدد بل يرى مختلف الآراء والاتجاهات وأن بعضها ليجنح بعيدا عن الفهم للإسلام كما سيأتي عند التقييم.
هذا ولقد حفلت مجلة الشبان المسلمين بالعديد من الموضوعات التى تعالج مختلف القضايا الاسلامية، كذلك شهد منبر الجمعية أعلام الدعوة الاسلامية ورجالات الكفاح الوطني أمثال:
- 1- شوكت على زعيم المسلمين فى الهند.
- 2- الشاعر محمد إقبال.
- 3- الزعيم التونسي الثعالبي.
كذلك العديد من وفد العالم العربى الاسلامى الذين كانوا يعتبرون دار الشبان ملتقى فكريا ونضاليا لهم.
ب – المنهج العملي
يتضح منهج الشبان العملي من خلال اللجان التى يشكلها مجلس الإدارة وهذه اللجان هى :
- أ – اللجنة الدينية والثقافية وينحصر نشاطها فى الاحتفال بالمناسبات الدينية وإقامة العديد من المحاضرات الدينية والثقافية.
- ب – اللجنة الاجتماعية تقوم بتنظيم المسابقات الدينية والاجتماعية ومد يد المساعدة للمحتاجين وفق إمكانيات الجمعية ولقد أنشأ نادي الطفل المسلم وصدر العدد الأول من مجلة الطفل المسلم مايو ( 1961 م ) والذي يعمل عل تحفيظ الطفل القرآن الكريم ويشرح له كيفية أداء الصلاة وأخلاق الاسلامى بجانب بعض الرحلات التى تنظمها الجمعية لأعضائها وكذلك المعسكرات التى يتم فيها مزاولة كل الأنشطة.
- جـ - اللجنة الرياضية: تنفرد جمعية الشبان المسلمين بالاهتمام بالرياضة لأعضائها والهدف من ذلك إعداد فرد الجمعية إعدادا متكاملا من الناحية البدنية والنفسية،
هذا ولقد أصبحت الرياضة السمة البارزة لنشاط الشباب فى الجمعية حتى كادت تطغى على كل الأنشطة الأخرى كذلك استحدثت الجمعية نظام الكشافة، غير أنه لم يكن فى مستوى الإعداد العقائدي ككشافة الإخوان المسلمين كما سيأتي إن شاء الله وكانت معسكرات الكشافة للشبان تسيطر عليها الروح الرياضية والترفيهية أكثر من التربية العقائدية والسلوكية وإن كانت تلك الأنشطة تهتم بأداء الصلاة جماعة.
القوانين العملية العشرة التى تلقن لعضو الشبان المسلمين:
- 1- تكلم دائما أقل مما تفكر وتعود أن تتحدث بصوت منخفض هادئ فإن الطريقة التى تتكلم بها لها قيمة أكثر من الكلام الذى تقوله.
- 2- لا باس ، أن تعد ولكن أحفظ وعدك بأمانة وإخلاص أيا كان الثمن.
- 3- امتدح العمل الحسن بغض النظر عن الشخص الذى عمله.
- 4- اعتن بالآخرين بمصالحهم وأعمالهم وآمالهم واتجاهاتهم، واجعل كل إنسان تقابله مهما يكن قليل الشأن يشعر كأنه فرد ذو شان.
- 5- كن مبتسما دائما وأخف آلامك ومتاعبك عن الآخرين.
- 6- كن واسع الفكر فى مناقشتك وتمسك برأيك ولكن إياك أن تفقد أحد أصدقائك لأنهم لا يعتقدون رأيك.
- 7- اجعل لك قاعدة ألا تقول شيئا عن الآخرين إلا إذا كان حسنا .
- 8- راع شعور الآخرين.
- 9- لا تعن بأي شيء لا تعجبك أبداها الآخرون عنك.
- 10- لا تكن قلقا دائما على استحقاقاتك أو عملك ولكن كن صبورا بشوشا. انس نفسك وأنت تجد مكافأتك.
هذه القوانين العشرة يجب أن يتخلق بها كل داع إلى الله، وبهذا المنهج الطيب فى التربية من المفروض أن ينشأ عضو الشبان المسلمين، غير أن ما يكتب شيء والواقع شيء آخر كما سيأتي إن شاء الله فإن هذا الأسلوب من التربية لم يصاحب الجمعية خلال مسيرتها ولكنه تخلف عنها مبكرا.
وبهذا يتضح فى إيجاز الاتجاه الفكري والعملي للشبان المسلمين.
المبحث السادس أثر جمعية الشبان المسلمين فى الدعوة
لقد كان لجمعية الشبان أثر بارز فى اليقظة الاسلامية المعاصرة لا سيما فى باكورة تأسيسها وإبان نشأتها وخلال الفترة التى تولى رئاستها المرحوم الدكتور عبد الحميد سعيد، واللواء محمد صالح حرب .
ونوجز أهم الآثار فى الأمور التالية:
أ- التصدي لمحاولات التبشير:
- نشط التبشير تحت ظلال الاحتلال والامتيازات الأجنبية فلقد نجح المبشرون فى استمالة بعض الشبان وردوهم عن الإسلام وحينما استفحل أمر التبشير قدم الشبان المسلمون على لسان رئيسها الدكتور عبد الحميد سعيد استجواب فى هذا الشأن وألقى خطابا بليغا من فوق منصة البرلمان أقتطف بعضا من فقراته: " يا حضرات النواب: إن المسألة التى نعالجها اليوم هى مسألة من يسمون أنفسهم بالمبشرين قد عكرت صفو كثير من العائلات الآمنة المطمئنة ورجب البلاد رجا عنيفا وأهاجت النفوس وأثارت الخواطر،
فإن ما تكتبه تلك العصابة التى داست قوانين الحكومة وكرامة الأمة: من اعتداء على حرية الأديان فى المعاهد والمدارس والمستشفيات والملاجئ إلى تمثيل بالفضيلة والسينمات ودور الفسق والفجور إلى طبع كتب توزع فى المدن والقرى والكفور تحوى أشد المطاعن على الدين الاسلامى ثم يستطرد قائلا : فإذا لم تنهض الحكومة بواجبها المقدس الديني والوطني فستضطر الأمة اضطرارا إلى الدفاع عن دينها وكرامتها بكل ما أوتيت من قوة للتخلص من جرائم هؤلاء الأشرار".
وفى عام ( 1941 م ) حاولت بعض مدارس التبشير أن تحصل على امتياز يعفى طلابها المصريين من الجندية فتحرك الشبان بلسان رئيسها المرحوم صالح حرب ومجلس إدارتها ورفعوا مذكرة إلى الملك فاروق وقدموا استجوابا لكل من وزير الداخلية ووزير الحقانية .
ووضعت جمعية الشبان المقترحات التالية لصد هجمات التبشير:
- أولا: أن يكون فى مدارس الدولة متسع لمن تضيق عنهم من أبنائها إما بسبب التشدد فى تحديد السن أو بغير ذلك فيضطرون للالتحاق بمدارس التبشير فتؤذيهم فى دينهم.
- ثانيا: أن تراقب وزارة المعارف سير التعليم فى مدارس التبشير وكذلك الكتب الدراسية فيها.
- ثالثا: منع المدارس المسيحية من مطالبة الطلبة ا لمسلمين بدرس الديانة المسيحية وكذلك منع تلك المدارس من أن يطلبوا من الطلبة أن يصلوا الصلاة المسيحية أو يدخلوا كنيسة المدرسة أو يسمعوا عظات دينية إسلامية.
- رابعا: مراقبة مستشفيات المبشرين أماكن محضراتهم ولقد أثمرت تلك المقترحات استيلاء الدولة فيما بعد على تلك المدارس وخضوعها للإشراف التام من وزارة التربية والتعليم.
ب – التصدي لمحاولات العلمنة والتغريب: شهدت مسيرة الدعوة الاسلامية خلال القرن الرابع عشر الهجري موجات عاتية من كل حدب وصوب تريد أن تعصف بالإسلام باسم التحرر والحرية وتصف علماءه بالجمود والرجعية وتبارت فى ذلك صحف وأقلام كثيرة،
فلقد نشر فى مجلة الاثنين بعدد ( 407 فى 15 مارس 1943 م ) مقال لأحد الصحفيين وهو من المتربعين على الصحافة يمالئ كل عصر وينافق كل سلطان، ومما جاء فى هذا المقال:
- 1- " الدعوة إلى محاربة الرجعية والتقاليد البالية التى يدعون لها باسم الدين ومحاربة التعصب الديني وتجديد الأزهر.
- 2- الدعوة إلى تحرير المرأة المصرية قلبيا فلقد رفعنا الحجاب الشفاف عن وجهها وأبقينا على روحها برقعا سميكا فلا يزال الحب فى مصر جريمة تنقص من قدر الفتاة ومجتمعنا بلا روح لأنه خال من المرأة وشبابنا المصري شباب بلا شخصية لأنه ليس فى حياته امرأة".
إنها دعوة صريحة إلى الانحراف الجنسي ووأد الفضيلة قامت جمعية الشبان المسلمين بالرد عليه وقدم المركز احتجاجا لمدير الشئون الدينية برئاسة مجلس الوزراء،
وفى عام ( 1930 م ) أسست وزارة المعارف لأول مرة فى تاريخ الشرق الاسلامى معهدا لتخريج الممثلين وفى نفس العام عدلت برامج التعليم الابتدائي والثانوي من غير أن تجعل للتعليم الديني والتربية الدينية نصيبا فتحركت جمعية الشبان ووجهت رسائل إلى الملك والحكومة ومما جاء فيها.
" لقد اضطربت مصر يا صاحب المعالي لموجة الدعوة إلى الخروج عن الإسلام ونظمه وتعاليمه بدأت فى الغرب ورددها فى الشرق وبالأسف أناس من المسلمين لم ينشئوا النشأة الاسلامية الحقة فلم يحيطوا بالإسلام علما ولم يجدوا فى أنفسهم له نورا وغر المسلمين باسم تحرير المرأة فصرفوها عن البيت وقادوها إلى المراقص، وفى خدع الشباب المسلم باسم حرية فكر وحرية الفن فصرفوه عن عبادة الله وقادوه إلى عبادة الهوى،
ثم تحمل المذكرة على وزير المعارف لإنشائه معهدا للرقص والتمثيل فتقول: إن أقل ما ينتظر من وزارة المعارف فى بلد دينه الإسلام وجمهرة أهله من المسلمين أن يحترم أحكام الإسلام ونظمه وآدابه وتقاليده فلا تحاربه مع المحاربين ولا تخرج علي ه مع الخارجين وهل هناك ظلم أكثر من أن تنفق أموال الدولة فى أمة مسلمة على ما يبعد الناس عن هداية دينهم؟ أم هناك ظلم أشنع وفساد أفظع من أن يربى أبناء المسلمين على ما ينافى الإسلام رغم أنف المسلمين؟
" إن الوالد المسلم ليلتفت حوله فلا يجد مدرسة علمية واحدة يأمن فيها على ابنه أو ابنته فكأن المسلم فى هذا البلد الاسلامى مخير بين شرين أهونهما كبير" ( أن ينشىء أولاده بلا دين أو ينشىء أولاده بلا علم) .
ولقد عمدت الاستطراد لأوضح معاناة الدعوة فى كل عصر ولألقى الضوء على جهاد الشبان المسلمين وهى فى عنفوان قوتها وتلقها فى ميدان الدعوة.
جـ - الشبان فى مجال الاقتصاد: كان النظام المالي فى مصر خلال القرن الرابع عشر الهجري يخضع للنظام الغربي بكل أصواته المحرمة شرعا مما حدا ببعض رجال الفكر الاسلامى على استحداث نظام مصرفي إسلامي ينأى عن كل شبهة ولقد أسست بعض البنوك الاسلامية لاستثمار أموال المسلمين بطرق مشروعة بعيدة عن الربا وشوائبه وما ظهر حديثا من هذا النظام المصرفي الاسلامى كان فكرة لدى رئيس تحرير مجلة الشبان المسلمين وأحد مؤسسيها وهو الدكتور يحيى الدرديرى فلقد قال: " الوسيلة العملية للقضاء على نظام الربا هو إنشاء البنك الاسلامى ولقد فكرت فى هذا المشروع وتحدثت بشأنه مع بعض الشخصيات وسيكون هذا فى القريب العاجل".
وحينما سئل – رحمه الله – وعلى أو نظم سيسير البنك الاسلامى؟ ذكر تفاصيل هذه الفكرة والتي لا تختلف كثيرا عما عليه البنوك الاسلامية وقال فى مختتم مقاله: " إن كل هذه الأوضاع الاقتصادية التى ثبت فسادها وشرها من أيسر الأمور تغييرها والسير على ما يتفق ومبادئ الإسلام إلذى خلصت النوايا وصحت العزائم".
د – الشبان المسلمون والأدب: حظيت دار الشبان بجماعة من الشعراء والأدباء وعوا قرائحهم للدعوة إلى الله وذلك من خلال قرض الشعر ومن هؤلاء المرحوم الأستاذ محمود جبر الملقب بشاعر آل البيت والشبان المسلمين وله قصائد فى حضرة الرسل صلى الله عليه وسلم تعتبر من عيون الشعر وكذلك من الشعراء المرحوم الشاعر عبد الله شمس الدين والشاعر على الجنبلاطى.
هذا فضلا عن تطويع القصة لتصوير الخلق الاسلامى الرفيع كما أسهمت جمعية الشبان فى تأسيس المصرف الاسلامى وقدمت بعض المسرحيات الاسلامية الجيدة ولكن ما لبثت أن تدهور المسرح وضعف إنتاجه وتجمد نشاطه كما سيأتي.
هـ - دور الشبان فى الكفاح الاسلامى: لم تقف الجمعية موقفا سلبيا تجاه أحداث العالم الاسلامى بل نراها تستجيش المشاعر وتلهب العواطف وتحرك الهمم كلما ألم بالعالم الاسلامى نازلة من النوازل ولقد بدأ الاهتمام مبكرا وذلك منذ مؤتمرات اليهود على فلسطين وتظاهرهم عند حائط المبكى عام ( 1929 م ) فسارعت الجمعية فعقدت جلسة مساء الأحد ( 25 أغسطس 1929 م ) وقررت إرسال برقيات احتجاج إلى عصبة الأمم فى جنيف وإلى وزارة الخارجية البريطانية ومن فوق منبر الشبان ألقى المرحوم أحمد زكى باشا الذى كان يلقب بشيخ العروبة سلسلة من المحاضرات أوضح فيها مؤامرات اليهود على فلسطين وكذلك فتحت أبواب التطوع للوقوف بجانب الشعب الليبي فى حربه مع إيطاليا، ولقد كانت دار الشبان ملتقى الكثير من رواد الكفاح الاسلامى من مختلف أنحاء العالم الاسلامى مما كان له كبير الأثر فى تحرر البلاد الاسلامية من ربقة الاستعمار.
هذا وإذا ما كنا بصدد ذكر أثر رواد جمعية الشبان فمن الذين لا ينسى جهادهم فى النهوض بالشبان المسلمين المرحوم الدكتور أحمد الشرباصى وهو من علماء الأزهر الشريف فيه دقة العالم وبلاغة الأديب وبراعة الخطيب ولقد تولى الرائد الديني لجمعيات الشبان المسلين لسنوات عدة حفلت فيها الجمعية بجهوده ومحاضراته ولقد ترك – رحمه الله – العديد من المؤلفات منها تاريخ عمر بن عبد العزيز وحياة الأديب شكيب أرسلان ومذكرات واعظ أسير، هذا بجانب العديد من مقالاته الدينية فى الصحف والمجلات وأحاديثه المتنوعة فى الإذاعة رحمه الله رحمة واسعة.
هذه أهم آثار الشبان المسلمين فى محيط الدعوة الاسلامية.
المبحث السابع جمعية الشبان المسلمين فى ميزان النقد
لقد اتضح من خلال مباحث هذا الفصل تاريخ الشبان المسلمين وأهدافها ووسائلها وأثرها فى مجال الدعوة الاسلامية ومن موجبات البحث أن نضع الجمعية فى ميزان النقد والتقويم لكي تتضح الرؤيا أمام العاملين فى ميدان الدعوة وتتلخص الملاحظات فى النقاط التالية:
أولا: ذبول الجمعية وتقلص نشاطها
إن المتتبع لتاريخ الشبان يجدها فى بدء عهدها تموج بالنشاط وتزخر بالحركة، ويتضح هذا جليا من خلال أهدافها المعلنة،
وكانت الجماعة تضم فى حقبة الثلاثينيات والأربعينيات نخبة ممتازة من رجالات الإسلام فى مختلف العلوم والثقافات وكانت قاعات المركز العام تتلألأ بهؤلاء الأعلام ولكن ما لبث أن تقلص نشاط الجمعية وذلك عقب وفاة المرحوم اللواء صالح حرب وحتى عام ( 1975 م ) حينما صدر قرار وزاري بحل مجلس إدارة الجمعية وخلال تلك الفترة السابقة تدهورت أحوال الجمعية وضعف نشاطها وغدت ناديا اجتماعيا ورياضيا وفقدت السمة البارزة إبان تاريخها، يرى ذلك من خلال موضوعات المجلة التى فقدت صفتها العلمية وموضوعاتها القيمة وتقلص نشاط المركز العام ولقد حاول المجلس المشكل برئاسة فضيلة الشيخ الباقورى أن ينهض بالجمعية غير أنه لم تظهر بوادر الإصلاح العملي ولا يعدو أمر الإصلاح سوى لجان تعقد ومقترحات توضع ولم تخرج بعد على حيز التنفيذ.
ثانيا: عدم نجاح الجمعية فى تحقيق أهدافها
ترتب على ذبول الجمعية وضعف نشاطها إخفاقها فى تحقيق أهدافها فإن المطلع على أهداف الجمعية وعلى منهجها المقترح عام (1930 م ) اللذين أشرت إليهما خلال هذا الفصل يرى أن الجمعية أخفقت إخفاقا ظاهرا فى تحقيق تلك الأهداف التى لم يتحقق منها سوى النزر اليسير.
ثالثا: قصور الجمعية فى التربية العقائدية لأعضائها
إن مقياس النجاح لأية جمعية من الجمعيات مرتهن بتربية العقيدة وغرسها فى النفوس، كذلك بالتربية السلوكية لأعضائها وإيمان الفرد بهذه المبادئ والدعوة إليها والتفاني من أجلها،
ويتضح هذا بالنسبة للجمعيات العاملة فى ميدان الدعوة كالجمعية الشرعية وأنصار السنة والإخوان فإن كل عضو من أعضاء تلك الجماعة له معالمه البارزة وسمته المميزة من ناحية التكوين العقائدي والخلقي والسلوكي وكل فرد من هؤلاء الأفراد حينما يتحرك تتحرك الجمعية معه بأهدافها وأساليبها ما عدا جمعية الشبان المسلمين فهي لم تركز على تكوين العقيدة لدى أعضائها فتكتفي بمجرد انتساب العضو إليها واستخراج بطاقة العضوية فقط دون التربية الفكرية ومتابعة العضو للوقوف على مدى انضباطه والتزامه بمبادئ الجمعية ومن ثم فإن هوية عضو الشبان هوية غير متميزة فكريا ولا يعدو أمرها إلا أن تكون ناديا اجتماعيا يمارس عدة أنشطة فقط.
وبجانب تلك الملاحظات السالفة الذكر فإن جمعية الشبان قد نهجت منهجا فكريا فى بعض الأحيان ينأى عن الفكر الاسلامى الصحيح كذلك فإن مجلتها قد حكمت المجلات غير الدينية فى النزول إلى مستوى الفن الهابط ولو ذهبنا نحصى تلك السقطات الفكرية لطال بنا المقام غير أنى أوجز بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر مع الإيجاز وذلك فيما يلى:
1- تبنى الحوار الاسلامى المسيحي: إن الإسلام يقرر حقوق أهل الذمة وإن حسن معاملتهم مطلوب شرعا لمجرد انتسابهم إلى أحد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،
ومما علم من الدين بالضرورة وصرحت به نصوص القرآن والسنة وأجمع عليه العلماء أن الإسلام هو الدين الناسخ لكل الأديان السابقة وأن محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين وأن من يحتفظ ببقايا الأديان السابقة كمن يحتفظ بعملة تذكارية غير متداولة فى حياة الناس ولكن لها قيمة تاريخية فقط ورغم هذا الوضوح فإن جمعية الشبان قد وقعت فى مصيدة التبشير العالمية والتي يحيك خيوطها الفاتيكان فى إيطاليا والكتائب المسيحية فى الشرق.
فتبنت الحوار المزعوم ودعت إليه وروجت له فلقد جاء فى مجلة الشبان المسلمين العدد 45 ( 14 من المحرم عام 1395 هـ فبراير 1975 م ) ما نصه: " كما يجب أن تكون نظرة كل من المسلم والمسيحي إلى عقيدة الآخر على أساس الاعتراف بها وعلى أنها تجمع أوجه المشابهة والمخالفة.
ومن دعاة هذا الفكر ورواده فضيلة الشيخ الباقورى الرئيس العام للشبان المسلمين فلقد نشرت مجلة الشبان حديثا لفضيلته فى العدد ( 3 لسنة 49 ربيع الآخر 1397 هـ - مارس 1977 م ) وإن المتتبع للمجلة إبان الفترة السابقة ليرى دعوة سافرة لههذ الفكرة وهذا أمر انفردت به الجمعية دون سائر الجمعيات الاسلامية.
2- الشبان المسلمون والفن: أنشىء المسرح فى مصر على أيدى نصارى الشام فىنهاية القرن التاسع عشر ثم تتابعت الفرق المسرحية تعصف بالأخلاق وتسخر من الفضيلة على خشبة المسرح ثم تفاقم الأمر حينما ظهرت لسينما فى مصر عام ( 1927 م ) ومنذ ذلك التاريخ والأفلام السينمائية والروايات المسرحية تنشر الفساد وتروج للأدب الرخيص والفن الساقط والهوى المبتذل وحينما تكونت جمعية الشبان عام ( 1927 م ) نص قانونها الاساسى على : " الأخذ بمحاسن حضارتي الشرق والغرب وترك ما فيهما من مساوئ" غير أنه فى مجال التطبيق أخذت الجمعية بالمحاسن والمساوئ لا سيما فى مسألة الفن ونستدل على ما نقول بالحقائق التالية:
1- فى فجر نشأتها كانت الجمعية تعطى الامتيازات لمن سددوا الاشتراكات ومن هذه الامتيازات حق دخول دور اللهو والمسارح بتخفيض يصل فى بعض الأحيان إلى 50 % فلقد نشرت مجلة الشبان المسلمين.
حق دخول سينما متروبول وسينما أمير ومسرح رمسيس شارع عماد الدين بخصم ( 20 % ) ومسرح فاطمة رشدي 20 % ) ومحل البيانو والموسيقى عزيز بولس شارع نوبار بخصم 50 % . أهكذا يكافأ الشباب المسلم ؟ أو لم يكن لدى الجمعية مكافأة أشرف من هذا ؟
وهل هذا هو أمثل طريق لخلق جيل مسلم؟
ومن المفارقات العجيبة فى نفس العدد الذى ينشر هذا تنقل المجلة خطابا بليغا للدكتور عبد الحميد سعيد فى البرلمان يحمل بشدة على وزارة المعارف لإنشائها معهدا للتمثيل.
2- فى عام ( 1941 م ) تكونت أول فرقة مسرحية للشبان وقد أقيم أول عرض لها فى ( 12 / 12/ 1941 م) وفى البداية اتفق على عدم ظهور العنصر النسائي، ثم بعد هذا سمح للفتيات بالتمثيل ( مع مخالفة هذا الشرع الذى يصون المرأة وعفافها) ولقد كان من الواجب على الجمعية أن تؤهل شبابها ليرتقوا بالفن من خلال رؤية إسلامية صادقة غير أنها لم تفعل، وتخرج من على خشبة مسرحها بعض الممثلين والممثلات الذين أغرقوا الأمة فى مستنقعات الفن الهابط والأدب الرخيص فلقد ذكرت مجلة الشبان أسماء من تخرجوا وتخرجن من مسرح...؟
3- فى فترة من الفترات نسيت مجلة الشبان وهى النافذة الفكرية لجمعية الشبان المسلمين أنها مجلة إسلامية تعبر عن اليقظة الاسلامية المعاصرة فنزلت إلى مستوى المجلات المصورة التى تستحوذ على القارئ بذكر التافه من الموضوعات فتنشر مجلة الشبان بحثا عن القبلة السينمائية وتتصدر المقال صورتان لبعض الممثلات تسألها المجلة المسلمة عن القبلة وأن تقبيل الرجل للمرأة على الشاشة البيضاء حرام فهل يمكن للفنانة أن تثير المشاهد بأشياء غير القبل، وتسوق المجلة إجابة محترفي الفن الرخيص والهوى الساقط والفن المبتذل دون تعليق يشتم منه هوية المجلة الاسلامية.
و يخلو تاريخ الجمعية ومجلداتها من مثل هذه السقطات.
بهذا النقد الموضوعي نكون قد ألقينا ضوء البحث على جمعية الشبان المسلمين ال ما زالت تحمل اسما حبيبا إلى النفوس أثيرا على القلوب، إنها " جمعية الشبان المسلمين" والتي نأمل فى أن يقيم مجلس إدارتها أعمالهم ويسألون أنفسهم اين الجمعية من أهدافها إبان النشأة وأسلوبها فى صدر تاريخها لكي تشارك فى النهضة الاسلامية خلال القرن الخامس عشر الهجري إن شاء الله .
الفصل الرابع الإخوان المسلمون=
أسست فى ( ذي القعدة عام 1347 هـ - مارس عام 1928 م )
تمهيد: إن تاريخ الإخوان يعتبر أهم فصل فى ملحمة الدعوة الاسلامية خلال القرن الرابع عشر الهجري ، وإن دورهم يحتل مكان الصدارة بين الجمعيات المعاصرة.
وما من كاتب يتعرض للدعوة والدعاة إلا وقف وقفة متأنية أمام جماعة الإخوان المسلمين.
فهي الجماعة التى استطاعت بتوفيق الله ثم بفضل مؤسسها ومرشدها الإمام الداعية الأستاذ حسن البنا رحمه الله أن تنتشل الدعوة من الأيدي التى حاولت تطويقها واحتواءها وخنقها، ونجحت فى أن تعيد على مسامع الدنيا صوت الجهاد والاستشهاد فى سبيل الله الذى كاد يختفي تحت وطأة الاستعمار وكانت هى خط الدفاع الأول فى مواجهة الدعوة،
وقد نالت منهم الضربات الموجعة القاتلة التى خيل لمعاصري أحداثها- لقوتها وشراستها- أنها قاصمة لظهرها، قاضية على آمالها.
وإذا بها تخرج من كل محنة أصلب عودا، وأقوى إيمانا، وأمضى عزيمة.
وإن مدرسة الإخوان لهى المدرسة الوحيدة التى انصهر دعاتها فى بوتقة المحن، وتعرضوا لما لم يتعرض له الدعاة من معاصيهم .
فبينما توج تاريخها بالشهداء فى فلسطين والقنال وعلى أعواد المشانق، وتمزقت جلود دعاتها فى غياهب السجون وظلمات المعتقلات نجد الجمعيات المعاصرة وأجهزة الدعوة تقف أمام هذه الأحداث موقف الصمت بل إن بعض هذه الأجهزة كانت تشارك فى حملة الإجهاز عليها كمن أصدروا كتابي " رأى الدين فى إخوان الشياطين" و " معالم على طريق الخيانة والرجعية" غير هذا مما سودوا به كتبهم وتاريخهم.
هذا ولقد أشفقت على نفسي من خوض غمار البحث عن الإخوان المسلمين .
وقدمت رجلا وأخرت أخرى فى ارتياد محرابهم ودربهم هذا الدرب الذى اتضحت آثاره ولم تتضح بعد حقائقه.
فلقد تبارت أقلام كثيرة فى الكتابة عن الإخوان المسلمين وكتبت كتب عدة عنها وانقسم المؤرخون والباحثون بصددها فالبعض مولع بها مبالغ فى الإعجاب برسالتها.
والبعض معاد ومغال فى الحقد عليها ولطالما توارت الحقيقة بين مبالغة المحبين وغلو الحاقدين.
ومن ثم كان التعرض لحركة الإخوان ليس أمرا سهلا ولكنه صعب جدا لأن أوجه النظر المتباينة لم تتضح بعد، والحقائق العلمية لا تستقى من مصدر واحد أو من مصادر يكتنفها الغموض.
مما يزيد الكتابة صعوبة ووعورة ، التعرض لها بفصل واحد فقط فى كتاب وهذا غير كاف فى استقصاء تاريخها، وتبيان آثارها فى الدعوة والدعاة، فهي تستحق أن تنفرد بكتاب أو بعدة كتب.
والحمد لله فلقد كتب عنها عدد من المؤلفات والكتب.
ولكنها مع الأسف لم تكن من رحاب الأزهر مهد الدعوة والدعاة.
وإن الكاتب يتساءل : كيف إن تجربة كتجربة الإخوان والجمعيات الاسلامية لا تعرف عنها الدراسات العلمية فى أقسام الدعوة شيئا حتى الآن مع العلم بأنه يجب على الداعي أن يقف مع هذه التجارب موقف الناقد البصير موضع البحث والدراسة والتقييم ليستفيد من إيجابياتها وسلبياتها؟
ولهذا فسوف اقتصر فى عرضي على الهدف والمنهج وأسلوب التربية فقط وهناك بعض الأمور التى لن أتعرض لها إما لأنها بحثت فى رسائل علمية أو أن مجالات الكتابة فيها يكتنفها الغموض الشديد.
فمن الأمور التى سأتجنب غمار الكتابة فيها ما يلي:
أ – موقف الإخوان من السياسة:
- فهذا موضوع مؤلف بعنوان " الإخوان المسلمون والجماعات الاسلامية فى الحياة السياسية المصرية " للدكتور زكريا البيومى.
ب – قضايا بكتنفها الغموض والمؤلف فيها كمن يمسك بالسراب ومنها:
- 1- اليد المديرة والمنفذة لمقتل الإمام حسن البنا .. أهي القصر ؟ أم الانجليز ؟ أم الصهيونية نظرا لدور الإخوان فى فلسطين؟ أم الأحزاب المناوئة ؟ ولقد كتب فى هذا كتاب بعنوان " لماذا اغتيل حسن البنا ؟" للأستاذ عبد المتعال الجبرى.
- 3- الانشقاقات والانقسامات داخل صفوف الإخوان والتي أحدثت تصدعا بها ومهدت للانقضاض عليها.
فمؤرخو الإخوان يؤكدون أن الثورة خرجت من بين صفوفهم ، وبعض المؤرخين ينفى هذا . ولقد صدر فى هذا كتاب بعنوان: " الإخوان المسلمون وثورة 23 يوليه" للأستاذ حسن العشماوي، بجانب أمور أخرى فرضت نفسها على الإخوان فلم تجد بدا من التعامل معها أو الاصطدام بها.
ولهذا فسوف يقتصر العرض فى هذا الفصل على الموضوعات التالية:
- 1- التعريف الموجز بمرشدي الإخوان المسلمين : " الإمام حسن البنا، المستشار حسن الهضيبي".
- 2- البناء التنظيمي للإخوان.
- 3- أهدافها وغاياتها.
- 4- التربية الفكرية والعملية لتحقيق الأهداف.
- 5- آثار جماعة الإخوان على الدعوة الاسلامية.
- 6- الجمعية فى ميزان النقد والتقييم.
المبحث الأولال تعريف بالإمام الداعية حسن البنا
هو الإمام حسن أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي.
والده: الشيخ أحمد البنا من مواليد شيشيرة مركز فوة غربية درس الفقه والتوحيد والنحو وحفظ القرآن وجوده واشتغل بصناعة إصلاح الساعات، وله رحمه الله مؤلفات منها " بدائع المسند فى جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن، وعلق عليه شرحا ورتب أجزاء من مسانيد الأئمة الأربعة ورتب مسند الإمام أحمد وسماه " الفتح الرباني فى ترتيب مسند الإمام أحمد الشيبانى" وشرحه باسم بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني.
مولد الإمام حسن البنا:
تعلمه ونشأته:
- نشأ فى بيت علم وفقه . وتلقى العلم كعادة أقرانه فى كتاب القرية حيث تفتح عقله على آيات القرآن الكريم، فضلا عما تميز به معلمه الشيخ محمد زهران من سلامة الفطرة وحسن التربية والتوجيه، مما كان له طيب الأثر فى تكوين الأستاذ حسن البنا.
ولقد تحدث رحمه الله عن هذا فى كتابه، ولقد أتم حفظ القرآن الكريم ورغب فى الالتحاق بالمدرسة الإعدادية غير أن والده عارض هذا الاتجاه حتى يتم حفظ القرآن الكريم، فوعد الطفل حسن البنا أن يواظب على حفظ القرآن أثناء دراسته.
وأصبحت حياته الأولى تدور بين :
- أ – طلب العلم نهارا بالمدرسة الأولية.
- ب- تعلم إصلاح الساعات بعد الانتهاء من المدرسة.
- جـ - حفظ القرآن الكريم.
وكما تأثر فى مدرسة الرشاد بالشيخ زهرا فقد تأثر فى المدرسة الإعدادية بالأستاذ محمد أفندي عبد الخالق مدرس الحساب فلقد ألف هذا الأستاذ جمعية " الأخلاق الأدبية" وكان التلميذ حسن البنا رئيسا لها.
ثم وهو ما زال فى ميعة الصبا ألف جمعية بالمحمودية باسم " جمعية منع المحرمات" واتخذ أسلوبا فريدا يتسم بالبراءة والجدية.
ومن الآثام التى حاربتها الجمعية :
- 1- عدم الإحسان فى أداء العبادات خاصة الصلاة.
- 2- الإفطار فى رمضان.
- 3- التحلي بالذهب.
- 4- لطم الخدود وشق الجيوب من السيدات.
- 5- إحياء حفلات العرس بالراقصات.
فكان أعضاؤها حينما يعرفون أن أحدا من أفراد القرية ارتكب إثما شرعيا من هذه الآثام كتبوا له خطابا مهذبا رقيا يوضحون فيه الحكم الشرعي.
وحينما بلغ – رحمه الله – أربعة عشرة عاما التحق بمدرسة المعلمين الأولية فى دمنهور.
تفتحت عينا التلميذ حسن البنا فى دمنهور عن أتباع الطريقة الحصافية وهم يتحلقون فى المساجد يذكرون الله تعالى بأصواتهم المنسقة ونشيدهم المؤثر، والتقى والسيد عبد الوهاب الحصافى وتلقى عهد الطريقة على يديه فى رمضان عام ( 1341 هـ ).
وأثناء طلبه العلم فى دمنهور شارك فى تأسيس جمعية بعنوان " جمعية الحصافية الخيرية " واختير أحمد أفندي السكري وكيل الإخوان فيما بعد رئيسا، والطالب حسن البنا سكرتيرا.
ويتحدث – رحمه الله – عن نشاط هذه الجمعية فيقول :
زاولت الجمعية عملها فى ميدانين مهمين:
الميدان الأول: نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة ومقاومة المنكرات والمحرمات الفاشية كالخمر والقمار وبدع المآتم.
الميدان الثاني: مقاومة الإرساليات النجيلية التبشيرية التى هبطت إلى البلد.
وهكذا قضى – رحمه الله – ردحا من الزمن فى دمنهور ولقد امتازت هذه الفترة بالتربية الصوفية التى اتضحت آثارها على شخصيته فيما بعد.
التحق رحمه الله بمدرسة المعلمين العلا عام ( 1922 م ) وما كادت عينه تبصر القاهرة حتى آلمه ما رأه من مظاهر التحلل والبعد عن الأخلاق الاسلامية وهى تبدو دائما خطيرة لدى كل من ينتقل من الريف للقاهرة، ناهيك بطالب كحسن البنا الذى تمرس على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر منذ نعومة أظفاره، وانخرط فى جمعيات صغيرة فى المحمودية ودمنهور.
ومن ثم بدأ بفكرة تكوين فئة من الطلاب الأزهريين ومن دار العلوم للتدريب على الوعظ فى المساجد والمقاهي والأندية،
ثم تكونت منهم جماعة تنتشر فى القرى والمدن، ولقد وفق فيما تمناه حين كون جماعة من الطلاب منهم الأستاذ / محمد مدكور خريج الأزهر والشيخ حامد عسكرية والأستاذ / أحمد عبد الحميد وكانوا يجتمعون فى مسجد شيخون بالصليبة يقرءون عدة كتب كالإحياء والأنوار المحمدية للنبهانى، وتنوير القلوب فى معاملة علام الغيوب للشيخ الكردي.
الدعوة فى المقاهي:
بدأ حسن البنا دعوته إلى رواد المقاهي وكانت تجربة فريدة من نوعها، فكان يلقى الموعظة لا تتجاوز عشر دقائق تترك آثارها فى نفوس المستمعين.
وهكذا كانت حياة الإمام الداعية فى القاهرة إبان دراسته كما يتحدث عنها- رحمه الله -:
- " كانت حياتي فى القاهرة خليطا عجيبا من الحضرة فى منزل الشيخ ( الحصافى ) أو منزل على أفندي غالب إلى المكتبة السلفية حسي السيد محمد الدين الخطيب.
إلى دار المنار والسيد رشيد رضا إلى منزل الشيخ الدجوى ثم منزل فريد وجدي ودار الكتب أحيانا ومسجد شيخون" .
هذه العوامل مجتمعة ساعدت على تكوين شخصية الإمام حسن البنا الداعية، وبجانب تلك العوامل كانت تلك الفترة تتسم بالأحداث التالية:
- 1- الاحتلال الانجليزي وسيطرته على كل شئون الأمة.
- 2- تحول الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية وسيطرة الروح العلمانية عليها.
- 3- الانقلاب ضد الإسلام فى تركيا وإلغاء الخلافة.
- 4- نشوب الحرب العالمية الأولى وما ستتبع هذه الحرب من انحلال واضطراب عالمي.
- 5- أنشىء بالقاهرة ما يسمى بالمجمع الفكري تلقى فيه خطب ومحاضرات تهاجم الأديان القديمة وتبشر بوحي جديد وكان خطباؤه خليطا من المسلمين واليهود والنصارى.
- 6- ظهور كتب وجرائد ومجلات كل ما فيها ينضح بهذا الفكر الذى لا هم له إلا إضعاف الدين وإبعاده عن الحياة ولقد مضى بشيء من التفصيل فى الباب الأول .
يقول الأستاذ حسن البنا – رحمه الله – عن هذه الفترة:
- " وكنت متألما لهذا اشد الألم فها أنذا أرى الأمة المصرية العزيزة متأرجحة حياتها الاجتماعية بين إسلامها العزيز الغالي الذى ورثته وحمته وعاشت به واعتز بها أربعة عشر قرنا كاملة وبين هذا الغزو الغربي العنيف المسلح والمجهز بكل الأسلحة الماضية الفتاكة: المال والجاه والمظهر والمتعة والقوة ووسائل الدعاية".
ولقد كان رد الفعل لهذا كله اتصاله – رحمه الله – بالمعنيين بالإسلام والغيورين عليه أمثال الأستاذ محب الدين الخطيب، وفضيلة الشيخ يوسف الدجوي، والشيخ عبد العزيز جاويش الشيخ عبد العزيز الخولي والدكتور عبد الحميد سعيد.
ولقد أفرزت هذه الاتصالات عقد النية على عمل شيء يقف فى وجه التيار الالحادى.
ولقد تكونت نواة طيبة من هؤلاء الفضلاء وأعقب ذلك ظهور مجلة الفتح الاسلامية يرأس تحريرها الشيخ عبد الباقي سرور ومديرها الشيخ محب الدين الخطيب.
ولقد كان هذا التجمع تأسيس " جمعية الشبان المسلمين" والتي سبق الحديث عنها فى فصل سابق.
تخرج حسن البنا فى دار العلوم:
- تخرج – رحمه الله – فى مدرسة دار العلوم العليا فى يونيه عام 1927 م وعقب نجاحه عين مدرسا للغة العربية فى مدينة الإسماعيلية .
- ولقد ودعه أصدقاؤه وقال أحدهم له: " إن الرجل الصالح يترك أثرا صالحا فى كل بلد ينزل فيه ونحن نأمل فى أن يترك صديقنا أثرا صالحا فى هذا البلد الجديد عليه" .
حسن البنا فى الإسماعيلية:
- فى الإسماعيلية بدأت النواة الأولى فى تكوين جماعة الإخوان المسلمين .
- فمنذ أن ألقى عصا الترحال واستقر به المقام بالمدينة ركز جهده بين المدرسة والدعوة إلى الله .
- ولقد ملكت ليه الإرشاد فى المقاهي إذ إن المساجد لا يقصدها سوى العدد القليل أما المقاهي فتى تضم مختلف الأوساط الاجتماعية.
- ولقد نحا بهم منحى عمليا فى كيفية الوضوء والصلاة وكيف تؤدى عبادات الإسلام.
- وكان لهذا المسلك أثره الطيب بين أبناء الإسماعيلية فاجتمعوا حوله واصطحبهم إلى زاوية الحاج مصطفى فى درس بين المغرب والعشاء.
تأسيس جماعة الإخوان:
- بجانب العوامل السالفة الذكر والتي اصطدم بها – رحمه الله – فى القاهرة حينما نزح إليها من الريف فإن الإسماعيلية أوحت إليه بعمل إسلامي منظم فجيوش الاحتلال ترابط على ضفاف القناة ،
- وقناة السويس والتي حفرت بسواعد المصريين تحت سياط القهر والتعذيب وها هى شركة قناة السويس تحتكر هذا الشريان الذى يربط الشرق والغرب .
- وتربض مبانيها الضخمة الفخمة بشوارعها التى تحمل أسماء أجنبية. ويقابل هذا مساكن العرب المصريين فى ضآلتها ويعصف بهم الجهل والفقر والمرض.
يقول الأمام حسن البنا . " لقد أوحت إلى الإسماعيلية بالكثير من المعاني التى كان لها أثر كبير فى تكييف الدعوة والداعية".
وفى ذي القعدة عام ( 1327 هـ مارس عام 1928 م ) اجتمع – رحمه الله – وستة أفراد كانوا هم النواة الأولى لجماعة " الإخوان المسلمين " وهذا الاسم جرى على لسان الإمام حسن البنا حينما تساءلوا بم يسمون أنفسهم فقال : " نحن إخوة فى الله فنحن إذن الإخوان المسلمون " هذه الدعوة التى دوت فى الآفاق وأرهف العالم السمع لها بدأت فى غرفة صغيرة لا يتجاوز إيجارها ستين قرشا شهريا أطلق عليها " مدرسة التهذيب للإخوان المسلمين ".
ولقد تخير لها منهجا تربويا يتلخص فى الخطوات التالية:
- 1- تصحيح تلاوة القرآن ومحاولة حفظه وشرح ما يحفظ.
- 2- حفظ بعض الأحاديث وشرحها.
- 3- تصحيح العقائد والعبادات.
- 4- تدريب القادرين على الخطابة.
حول هذا المنهج نشأ الرعيل الأول من الإخوان، ولقد بلغوا فى نهاية العام الدراسي ( 1027 – 1928 م ) سبعين فردا.
ومنذ هذا التاريخ انسابت دعوة الإخوان تفتح القلوب والأمصار حتى انتشرت شعبها وعمت شطري الوادي بل تجاوزته إلى بلدان العالم الاسلامى كما سيتضح خلال البحث إن شاء الله .
- انتقل حسن البنا إلى القاهرة فى أكتوبر عام ( 1932 م ) مدرسا بإحدى المدارس الابتدائية واجتمع مجلس إدارة الإخوان بالإسماعيلية وقرر اعتبار القاهرة المركز العام للإخوان المسلمون.
- ولقد ظل – رحمه الله – يؤدى رسالته فى الدعوة إلى الله بالقدوة الحسنة والكلمة المخلصة الهادفة والعمل الدقيق المنظم. فربى رجالا وأسس مدرسة للدعوة والدعاة ما زالت تؤدى رسالتها إلى اليوم،
- ولقد صبحت جماعة الإخوان بفضل الله ثم بحين قيادته أكبر الحركات الدينية فى العصر الحديث.
- ولقد امتدت إليه يد خائنة غادرة فأطلقت عليه عدة رصاصات أثناء خروجه من المركز العام للشبان المسلمين فى ( 12 فبراير 1949 م ) .
- ولقى ربه شهيد الدعوة الاسلامية وعمره لا يتجاوز اثنين وأربعين عاما.
شخصية الإمام حسن البنا:
يكاد معاصرو الإمام حسن البنا يجمعون على أن شخصيته كانت تنفرد بعدد من المواهب والطاقات الفريدة.
فضلا عن إخلاص صادق للدعوة الاسلامية ملك عليه لبه ومشاعره فعاش من أجلها ولقي ربه فى سبيلها ولقد استطاعت هذه الشخصية الموهوبة الفذة أن تعلن صوت الإسلام فى وقت كانت الحركة الاسلامية تتوارى فيه خلف جدران المساجد فقط أو تشغل نفسها والمسلمين معها بخلافات فقهية ذكرت نماذج منها فى الفصول السابقة.
ولو ذهبنا نعدد مواهب هذا الإمام لطال بنا المقام ولكن نستطيع أن نتعرف إلى شخصيته ونقف على آماله منذ كان فتى يافعا فى المحمودية ودمنهور ثم تبلورت شخصيته واتضح اتجاهه وهو ما زال طالب فى دار العلوم وذلك من خلال موضوع بعنوان " اشرح آمالك بعد إتمام دراستك وبين الوسائل التى تعدها لتحقيقها".
فكتب – رحمه الله – موضعا تحت هذا العنوان أقتطف منه ما يحدد شخصيته وآماله وتطلعاته: " أعتقد أن خير النفوس تلك النفس التى ترى سعادتها فى إسعاد الناس وإرشادهم، وتستمد سرورها من إدخال السرور عليهم وذود المكروه عنهم، وتعد التضحية فى سبيل الإصلاح العام ريحا وغنيمة،
والجهاد فى الحق والهداية – على توعر طريقهما وما فيهما من مصاعب – راحة ولذة وتنفذ إلى أعماق القلوب فتشعر بأدوائها وتتغلغل فى مظاهر المجتمع فتتعرف ما يعكر على الناس صفاء عيشهم ومسرة حياتهم...
وأعتقد أن العمل الذى لا يعدو نفعه صاحبه ولا تتجاوز فائدته عامله، قاصر ضئيل ، وخير الأعمال وأجلها ذلك الذى يتمتع بنتائجه العامل وغيره من أسرته وأمته وبني جنسه،
ويقدر شمول هذا النفع ويكون جلاله وخطره وعلى هذه العقيدة سلكت سبيل المعلمين لأني أراهم نورا ساطعا يستنير به الجمع الكثير إن كان كنور الشمعة التى تضيء للناس باحتراقها".
ثم يكتب الطالب حسن البنا عن آماله فيقول : " فكان أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية.
( خاص ) – وهو إسعاد أسرتي وقرابتي والوفاء لذلك الصديق المحبوب ما استطعت إلى ذلك سبيلا وإلى أكبر حد تسمح به حالتي ويقدرني الله عليه .
( وعام ) – وهو أن أكون مرشدا ومعلما . فإذا قضيت فى تعليم الأبناء سحابة النهار، ومعظم العام قضيت ليلى فى تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة وأخرى بالتأليف وللكتابة وثالثة بالتجوال والسياحة.
ولقد أعددت لتحقيق الأول معرفة بالجميل، وتقديرا للإحسان " وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان" ولتحقيق الثاني من الوسائل الخلقية " الثبات والتضحية" وهما ألزم للمصلح من ظله وسر نجاحه كله وما تخلق بهما مصلح فأخفق إخفاقا يزرى به أو يشينه".
ومن الوسائل العملية:
- درسا طويلا سأحاول أن تشهد لي به الأوراق الرسمية. وتعرفا بالذين يعتنقون هذا المبدأ ويعطفون على أهله، وجسما تعود الخشونة على ضآلته، وألف المشقة على نحافته ، ونفسا بعتها الله صفقة رابحة.
- وتجارة بمشيئته منجية، راجيا منه قبولها، سائله إتمامها ، ولكليهما عرفانا بالواجب وعونا من الله سبحانه أقرؤه فى قوله تعالى : " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم".
ذلك عهد بيني وبين ربى أسجله على نفسي وأشهد عليه أستاذي فى وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير وليل لا يطلع عليه إلا اللطيف الخبير . " ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيوئتيه أجرا عظيما".
هذه آمال الطالب حسن البنا منذ أن كان فتى يافعا والتي عمل على تحقيقها وبلغ فى هذا مبلغا لم يتسن للدعاة من معاصريه.
ولقد استطردت فى عرض أماله – رحمه الله – لتتضح معالم شخصيته وطبيعة هويته ولتوضع بين يدي الدعاة كنموذج حي للدعوة والدعاة.
هذا ولقد كتبت عن الإمام حسن البنا كتب عدة لا سيما ما كتبه من التقوا به وعاشوا معه من جماعة الإخوان المسلمين.
آثار الداعية حسن البنا:
- لم يترك – رحمه الله – مؤلفات سوى مذكرات الدعوة والداعية ورسائله إلى الإخوان فضلا عن مقالاته فى صحف الإخوان وخطبه وإرشاداته.
- إلا أن معظم أثر تركه هو إنشاء مدرسة ارتبطت باسمه وربى رجالا ما زالوا يسيرون على دربه رغم ما نزل بهم من محن ويؤدون رسالته – التى هى رسالة الإسلام – مهما كانت العوائق ،
- ولقد أثبتت الأيام أن دعوة حسن البنا قد تأصلت فى النفوس وتغلغلت فى الأعماق وأن لها صوتا مدويا فى العالم الاسلامى وحسبه – رحمه الله – أنه استطاع فى فترة وجيزة أن يربى جيلا بلغ تعداده قبيل اغتياله ما يقرب من المليون – وجعل صوت الدعوة الاسلامية يسمو ويتألق على تلك الأصوات التى كانت تفرض نفسها على الساحة المصرية مما أثار انتباه أعداء الإسلام لهذه الحركة فحاولوا القضاء عليه برصاصات أطلقت عليه.
- ولكن هذه الرصاصات دوت فى أسماع العالم الاسلامى فأيقظته من رقدته وحركته من سباته العميق وما كانت آلاف الخطب والمواعظ لتحرك المشاعر كما حركتها قطرات الدم الذكية المراقة على باب جمعية الشبان المسلمين عام ( 1949 م ) ورحم الله شهيد الإسلام سيد قطب حينما قال : " إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا فى سبيلها دبت الروح وكتبت لها الحياة".
- رحم الله الإمام الأستاذ حسن البنا بقدر ما أعطى للدعوة الاسلامية.
ب- المستشار حسن إسماعيل الهضيبى:
عقب اغتيال حسن البنا فى ( 12 فبراير 1949 م ) انفرط عقد الجماعة وتشرد أعضاؤها بين غياهب السجون أو الاختفاء عن أعين الدولة وصودرت ممتلكاتها ومؤسساتها الاقتصادية.
وأضحت الجماعة بدون مرشد زهاء عامين إلى أن تغيرت الحكومة السعدية وتولى حزب الوفد مقاليد الوزارة فخفف الضغط عن الإخوان المسلمين نظرا لحاجة الوفد لمؤازرة الإخوان فى قضاياه السياسية،
خاصة إلغاء معاهدة عام 1936 م ، واتفاقية السودان اللتين ألغيتا فى العاشر من أكتوبر عام واحد وخمسين وتسعمائة وألف،
وفى التاسع من أكتوبر نفس العام السابق تم انتخاب المرشد العام الثاني للإخوان المسلمين وهو المرحوم الأستاذ المستشار حسن إسماعيل الهضيبى والذي نوجز حياته فيما يلى:
مولده: ولد فى قرية عرب الصوالحة التابعة لمركز شبين القناطر محافظة القليوبية .
دراسته: حفظ القرآن الكريم صغيرا، ولما بلغ أشده دخل الأزهر ومكث فيه سنة واحدة فقط والتحق بمدرسة باب الشعرية الابتدائية ثم المدرسة الخديوية الثانوية،
وعقب حصوله على البكالوريا التحق بمدرسة الحقوق وتخرج فيها عام ( 1915 م ) ، وأثناء دراسته قام بعدة أعمال وطنية لمقاومة الاحتلال الانجليزي فعوقب على هذا بفصله من الدراسة لمدة عام.
وظائفه: تدرج – رحمه الله – فى سلك القضاء حتى انتهى به المطاف إلى مستشار بمحكمة النقض والإبرام.
شخصيته : يتحدث الأستاذ محمود عبد الحليم عضو الهيئة التأسيسية عن شخصيته فيقول : " كان من القلائل الذين اشتهروا بين رجال القضاء بالجمع بين العلم والنزاهة والحصافة وقوة الشخصية وبعد النظر، وله تاريخ عريق فى المطالبة بجعل الشريعة الاسلامية قانونا للبلاد..
- قد يبدو للوهلة الأولى أنه – رحمه الله – كان غريبا على الإخوان المسلمين إذ إنه لم يكن معروفا فى الوسط الإخوان.
- وعقب وفاة الأستاذ حسن البنا تلألأت أسماء فى سماء الإخوان تتطلع إلى أن تتبوأ مركز المرشد العام ومنهم الأستاذ عبد الرحمن البنا شقيق الإمام حسن البنا والأستاذ عبد الحكيم عابدين زوج شقيقته والأستاذ الخ ولى، والشيخ أحمد الباقوري وأسماء كثيرة كانت تأمل فى أن يقع عليها الاختيار ولهذا كان اختيار الهضيبى غير متوقع لدى الكثيرين.
- غير أن ما تؤكده الوثائق التاريخية ومؤرخو الإخوان ومعاصروا أحداثها يؤكدون صلة الهضيبى بالإخوان ويتحدث – رحمه الله – عن صلته بالإخوان وبالمرشد الأستاذ حسن البنا فيقول : " عرفته أول ما عرفته من غرس يده.
- كنت أدخل المدن والقرى فأجد إعلانات عن الإخوان المسلمين فخلت أنها إحدى الجمعيات التى تعنى بتحفيظ القرآن والإحسان إلى الفقراء ودفن الموتى .. فلم أحفل بها.
- ثم يستطرد فيذكر عن لقائه الأول بحسن البنا ومدى تأثره به : وسمعنا حسن البنا .. لقد تعلقت أبصارنا به ولم نجد لأنفسنا فكاكا من ذلك، وخلت والله أن هالة من نور أو مغناطيسا بوجهه الكريم تزيد الانجذاب إليه ..
المبحث الثاني البناء التنظيمي للإخوان المسلمين
ينفرد الإخوان بدقة الإعداد وحسن التنظيم وانضباط أعضاء الجماعة انضباطا محكما وتمكن المركز العام من السيطرة على جميع الشعب، والتي بلغت فى بعض الأحيان ما يقرب من ألف وخمسمائة شعبة تضم حوالي ألف ألف عضو .
واستطاعوا من خلال هذا التنظيم الدقيق التغلغل فى وجدان الشعب المصري وخالطت دعوتهم شغاف قبله .
وانتشرت شعبهم فى مدن مصر وقراها، وحملها الأثير على العالم الاسلامى فكان لها فى كل قطر دعوة وفى كل مصر دعاة. وتجاوزت دائرتها المحدودة فى الإسماعيلية وما حولها إلى مصر بأكملها عقب انتقال حسن البنا عام ( 1932 م ) إلى القاهرة وقرر مجلس إدارة الإخوان فى الإسماعيلية اعتبار القاهرة المركز العام الذى أصبح كالقلب والشعب كالشرايين له.
ويصف الدكتور إسحاق موسى الحسيني تنظيم الإخوان ودقته فيقول: " لقد كانت جمعيتهم أشبه بساعة مضبوطة كل قطعة فيها تعمل بالتعاون مع سائر القطع،
وكالساعة أيضا يمكنك أن ترى بعض قطعها ولا يمكنك أن ترى قطعا أخرى لأنها موضوعة بحيث لا ترى ولكن بين ما يرى وما لا يرى صلة أكيدة".
وهذا البناء التنظيمي تبدو صورته الموجزة كما يلي :
أولا الهيئة التأسيسية:
- وتتكون من مائة وخمسين عضوا ومهمتها الإشراف العام على سير الدعوة واختيار أعضاء مكتب الإرشاد العام وتعتبر مجلس الشورى العام للإخوان.
ثانيا : مكتب الإرشاد العام:
- ينتخب من أعضاء الهيئة التأسيسية وعدد أعضائه اثنا عشر عضوا، ويلاحظ فى انتخابهم أن يكون تسعة من القاهرة وثلاثة من الأقاليم. ويقسم العضو المنتخب هذا القسم التالي: " أقسم بالله العظيم أن أكون حارسا أمينا لمبادئ الإخوان المسلمين ونظامهم الاساسى واثقا من قيادتهم منفذا لقرارات المكتب العام القانونية وإن خالفت رأيى فى هذا بكل قوة فى سبيل تحقيق الغاية السامية وأبايع الله على ذلك والله على ما أقول وكيل".
ثالثا: المرشد العام:
- هو الرئيس الأعلى للهيئة التأسيسية .
- ورئيس مكتب الإرشاد العام.
ومن الشروط التى يجب أن تتوافر فيه :
- 1- أن يكون من أعضاء الهيئة التأسيسية ولقد تم التجاوز عن هذا الشرط عند اختيار الأستاذ حسن الهضيبي.
- 2- ألا تقل سنه عن ثلاثين عاما.
- 3- أن تتوافر فيه الصفات العلمية والخلقية التى تؤهله لذلك.
- ويقسم المرشد العام القسم التالي: " أقسم بالله العظيم أن أكون حارسا أمينا لمبادئ الإخوان المسلمين ونظامهم الاساسى وألا أجعل مهمتي سبيلا إلى منفعة شخصية وأن أتحرى فى عملي وإرشادي مصلحة الجماعة وفق الكتاب والسنة وأن أتقبل كل اقتراح أو رأى أو نصيحة من أى شخص بقبول حسن وأن أعمل على تنفيذه متى كان حقا وأشهد الله على ذلك".
رابعا : الأقسام واللجان الرئيسية بالمركز العام:
- وسيأتي مزيد تفصيل فى مبحث التربية العملية للإخوان إن شاء الله .
خامسا : المكاتب الإدارية:
- وهى تتكون من كل المناطق الواقعة فى دائرة المديرية ولكل مكتب إداري مجلس يديره.
- وقسمت مصر إلى تسعة عشر مكتبا إداريا فى كل مديرية ( محافظة ).
سادسا: المناطق :
- وتتكون من الشعب الواقعة فى دائرة المركز أو القسم وتسمى باسم المركز الواقعة به وتعدادها يقرب ثلاثمائة منطقة.
سابعا: الشعب والأسر:
قسم الإخوان المناطق على شعب تنتشر فى المدن والقرى ويقسمون فى الشعبة إلى إخوان تحت الاختبار وهم الأشخاص الذين اعتنقوا فكرة الإخوان وما زالوا فى مقدمة الطريق وهؤلاء يمكثون فترة ستة أشهر ومن تثبت صلاحيته تعتمد عضويته من المركز العام ويؤذن له بأداء البيعة أمام رئيس الشعبة ولقد بلغ عدد الشعب قبيل اغتيال الإمام حسن البنا ألفا وخمسمائة شعبة تقريبا تضم نحو ما يقرب من المليون عضو. وقسمت الشعب على أسر لا تتجاوز خمسة أفراد تسمى بأسماء الصحابة رضوان الله عليهم.
هذه صورة موجزة للبناء التنظيمي للإخوان يتضح من خلالها مدى التنظيم والدقة والانتشار والتسلسل من الخلية الأولى وهى الأسرة حتى قمة القيادة والتوجيه فى الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد العام.
ولقد استطاع هذا البناء أن يثبت فاعليته كجهاز حركي يخدم دعوة الإخوان ويتضاءل أمام دقته أى نظام آخر أو جمعية معاصرة.
وهذا البناء أدى إلى تكوين ما يطلق عليه علماء التربية العقل الجمعي أو لغة الفريق حيث يتوحد الفكر وتلتقي الأهداف على كلمة سواء ويمتزج الشعور نحو غاية واحدة، وبذلك أصبح الإخوان من أقاصي البلاد إلى أدناها جماعة متحدة لا نشاز فيها باستثناء ما حدث من خروج بعض الأفراد أثناء مسيرة الدعوة وهذه ظاهرة تتكرر فى كل جماعة.
المبحث الثالث أهداف الإخوان المسلمين
لكي يتعرف أي كاتب على أهداف جماعة من الجماعات فإنه يجب عليه أن يعتمد إلى قانون تلك الجماعة ليتعرف منه على أهدافها.
ولقد حددت المادة الثانية من قانون الإخوان المسلمين أهدافهم فيما يلى :
- أ – شرح دعوة القرآن الكريم شرحا دقيقا يوضحها ويردها إلى فطرتها وشمولها ويعرضها عرضا يوافق روح العصر ويرد عنها الأباطيل والشبهات.
- ب- جمع القلوب والنفوس على هذه المبادئ القرآنية وتجديد أثرها الكريم فيها وتقريب وجهات النظر بين الفرق الإسلامية المختلفة.
- جـ - تنمية الثروة القومية وحمايتها وتحررها والعمل على رفع مستوى المعيشة.
- د- تحقيق العدالة الاجتماعية والتأمين الاجتماعي لكل مواطن والإسهام فى الخدمة الشعبية ومكافحة الجهل والمرض والفقر والرذيلة وتشجيع أعمال البر والخير.
- هـ- تحرير وادي النيل والبلاد العربية جميعا والوطن الإسلامي بكل أجزائه من كل سلطان أجنبي ومساعدة الأقليات الإسلامية فى كل مكان، وتأييد الوحدة العربية تأييدا كاملا والسير على الجامعة الإسلامية.
- و- قيام الدولة الصالحة التى تنفذ أحكام الإسلام وتعاليمه عمليا وتحرسها فى الداخل وتبلغها فى الخارج.
- ز- مناصرة التعاون مناصرة صادقة فى ظل المثل الفاضلة التى تصون الحريات وتحفظ الحقوق والمشاركة فى بناء السلام والحضارة الإنسانية على أساس جديد من تآزر الإيمان والمادة كما تكفلت بذلك نظم الإسلام الشاملة.
هذه الأهداف التى حددها قانون الإخوان ووضحها جليا المرحوم الإمام حسن البنا من خلال رسائله ومحاضراته فى المركز العام وجولاته. فلقد بلور هذه الأهداف فى إحدى رسائله وحدد وسائلها على النحو التالي:
- 1- نريد أولا الرجل المسلم فى فكره وعقيدته وفى خلقه وعلاقته وفى عمله وتصرفه فهذا تكويننا الفردي.
- 2- ونريد بعد ذلك البيت المسلم ونحن بهذا نعتني بالمرأة عنايتنا بالرجل ونعتني بالطفولة عنايتنا بالشباب وهذا هو تكويننا الأسرى.
- 3- ونريد بعد ذلك الشعب المسلم ونحن لهذا نعمل على أن تصل دعوتنا إلى كل بيت وأن يسمع صوتنا فى كل مكان وأن تسير فكرتنا وتتغلغل فى القرى والنجوع والمدن والمراكز والحواضر والأمصار.
- 4- نريد بعد ذلك الحكومة المسلمة التى تقود هذا الشعب إلى المسجد وتحمل به الناس على هدى الإسلام.
- 5- ونريد بعد ذلك أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي.
- 6- ونريد بعد ذلك أن تعود راية الله خفاقة عالية على تلك البقاع التى سعدت بالإسلام حينا من الدهر، ودوى بها صوت المؤذن بالتكبير والتهليل ثم أراد لها نكد الطالع أن ينحسر عنها ضياؤه فتعود إلى الكفر بعد الإسلام فالأندلس وصقلية والبلقان وجنوب إيطاليا وبحر الروم كلها مستعمرات إسلامية يجب أن تعود إلى أحضان الإسلام ويجب أن يعود البحر الأبيض والبحر الأحمر بحيرتين إسلاميتين كما كانتا من قبل.
- 7- نريد بعد ذلك أن نعلن دعوتنا على العالم وأن تبلغ الناس جميعا وأن نعم بها الآفاق وأن تخضع لها كل جبار.
هذه هى الأهداف التى أعلنها الإخوان من خلال قانونهم وعلى لسان مرشدهم العام وعملوا جاهدين على تحقيقها بالتربية الفكرية والعملية كما سيتضح من بين ثنايا الأبحاث التالية، ولقد كان يحدوهم إيمان صادق وعزيمة متوثبة لتحقيق هذه الآمال .
يقول الإمام حسن البنا- رحمه الله- : " وفى الوقت الذى يكون فيه منكم معشر الإخوان ثلاثمائة كتيبة قد جهزت نفسها روحيا بالإيمان والعقيدة وفكريا بالعلم والثقافة وجسميا بالتدريب والرياضة فى هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحار وأقتحم بكم عنان السماء وأغزو بكم جبار عنيد فإني فاعل إن شاء الله".
ويلاحظ فى هذه الأهداف أنها لا تعالج قضية واحدة من قضايا الإسلام ولكنها تنظر إلى الإسلام كنظام كامل الحياة ويظهر فيها الاحتواء والتكامل وهذا أمر انفرد الإخوان دون سائر الجمعيات.
ولقد كانوا لا يألون جهدا فى عرض هذه الأهداف سواء على مستوى الحكومة أو الأمة.
فعلى مستوى الأمة كانت شعب الإخوان تتغلغل فى مدن مصر وقراها حتى دخل فيها أو سمع عنها كل بيت وعلى المستوى الرسمي ما برح الداعية الأستاذ حسن البنا بين الفينة والفينة فى إرسال الرسائل إلى رؤساء الوزراء ثم إلى الملك وكذلك ملوك وأمراء العالم العربي فمن ذلك ما يلي: رسالة إلى محمد محمود باشا رئيس الوزراء يبسطون فيها حال الأمة وما تعانيه من آلام ثم حثته الرسالة بإجراء ما يلي:
أولا: منع الحفلات الخليعة واختلاط الرجال بالنساء وشرب الخمر فيها.
ثانيا: امتناع الوزراء والرؤساء عن ارتياد أندية القمار وميادين السباق ومحافل اللهو.
ثالثا: أن يكفوا عن نشر صور سيداتهم فى الصحف.
رابعا: أداء الصلاة والإمساك عن العمل فى أوقاتها.
خامسا: أن يكون المظهر الغالب فى بيوتهم مصريا إسلاميا يتحدثون العربية ويتخذون مربيات مصريات ويجعلون المدارس الحكومية إسلامية.
وعلى هذا النمط أرسلوا رسائل إلى الملك فاروق ومصطفى النحاس عام ( 1936 م ) بعنوان " نحو النور " وفى عام ( 1938 م ) رفعوا رسالة للملك يطالبون بحل الأحزاب وكذلك أرسلوا إلى وزير العدل أحمد خشبة باشا يطلبون منه تجربة الدولة الإسلامية.
وخلال مسيرة الدعوة لم يكفوا عن مخاطبة أولى الأمر بوجوب إصلاح المجتمع على الأسس الإسلامية.
وحينما قامت ثورة ( 23 ) يوليه أرسل المرحوم المستشار حسن الهضيبي رسالة على مجلس قيادة الثورة يوضح لهم أسس الإصلاح وأن يتركز فى نقاط ثلاث:
- 1- الحكم بالقرآن.
- 2- رفع مستوى الأخلاق.
- 3- تحقيق العدالة الاجتماعية.
من خلال هذا المبحث تتضح دعوة الإخوان وأهدافها وأنها تتجه إلى غاية واحدة عبر عنها المرحوم حسن البنا فى قوله: " نحن أمة مسلمة وقد وطدنا العزم على ألا نحكم بغير قانون الله وشريعة القرآن وتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم مهما كلفنا ذلك من تضحيات وسيظل الإخوان المسلمين يطالبون بإعادة التشريع الإسلامي كركن من أركان حياة مصر حتى تتحقق غايتهم أو يموتون دونه".
المبحث الرابع التربية الفكرية والعملية للإخوان المسلمين
تفرد الإخوان دون سائر الجمعيات المعاصرة بمنهج فريد فى التربية وأسلوب رائد فى الإعداد مما كان له كبير الأثر فى اكتمال رسالتهم وذيوع أمرهم، وانتشار مبادئهم حتى تجاوزت مصر إلى العالم الإسلامي...
ولقد اتضح عمق هذه التربية ومدى تأصلها فى القلوب خلال المحن والفتن التى تعرضوا لها.
فلم تلن لهم قناة أو ينثني لهم عزم أو تضعف لهم إرادة، وما كان يتسنى لهم ذلك إلا بالتربية الفكرية والعملية التى أوجزها المرحوم حسن البنا فى أمور ثلاثة:
- 1- الإيمان العميق.
- 2- التكوين الدقيق.
- 3- العمل المتواصل.
ولأجل الوصول إلى هذه الغايات فلقد تدرجوا فى تربية الأخ المسلم على عدة مراحل متنوعة، كل مرحلة ترتكز على ما قبلها وتعده إلى ما بعدها ومن ثم كان الانضمام لجماعة الإخوان يتدرج إلى مستويات أربعة:
أولا : الانضمام العام:
- وهو حق كل مسلم عرف مقاصد الدعوة ووسائلها وتعهد بأن ينصرها ويحترم نظامها ويقضى العضو مدى لا تقل عن ستة أشهر يثبت فيها مدى التزامه بمبادئ الإخوان ويؤذن بأداء البيعة وبسمي : ( أخا مساعدا).
ثانيا الانضمام الأخوي:
- وهو حق لكل مسلم يوافق على قبوله عضوا بالجماعة بشرط أن يحفظ العقيدة ويتعهد بالالتزام بالطاعة والكف عن المحرمات وحضور الاجتماعات الأسبوعية والسنوية ويسمى : ( أخا منتسبا).
ثالثا: الانضمام العملي:
وهو لمن اجتاز مرحلة الانضمام الأخوي ويطلب منه الالتزام بما يلى:
- 1- دراسة وشرح عقيدة الإخوان المسلمين.
- 2- التعهد بالورد القرآني.
- 3- حضور مجالس القرآن الكريم الأسبوعية.
- 4- الاشتراك فى صندوقي الحج والزكاة.
- 5- الانضمام إلى فرقة الرحلات ما دامت سنه تسمح بذلك.
- 6- التزام التحدث باللغة العربية الفصحى بدر ما يستطيع.
- 7- إلزام منزله بمبادئ الإخوان المسلمين.
- 8- العمل على تثقيف نفسه والاجتهاد فى حفظ أربعين حديثا نبويا.
- 9- قبول مناصفات الإخوان التأديبية ويسمى ( أخا عاملا).
رابعا: الانضمام الجهادي:
وهو مستوى الذروة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :" جماع الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله ".
وهذا المستوى الرفيع من حق مكتب الإرشاد أن يمنحه لمن تثبت كفاءته
ويجب عليه أن يلتزم بما يلي:
- 1- تحرى السنة المطهرة ما استطاع إلى ذلك سبيلا فى الأقوال والأعمال.
- 2- قيام الليل وأداء صلاة الجماعة إلا لعذر قاهر.
- 3- العزوف عن مظاهر المتع الفانية والبعد عن كل ما هو غير إسلامي فى العبادات والمعاملات.
- 4- الاشتراك المالي فى مكتب الإرشاد وصندوق الدعوة والوصية بجزء من تركته لجماعة الإخوان المسلمين.
- 5- أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما دام أهلا لتحمل هذه الأمانة.
- 6- تلبية دعوة المكتب متى وجهت إليه فى أي وقت وفى أي مكان.
- 7- حمل المصحف دائما ليذكره بواجباته.
- 8- الاستعداد لقضاء مدة التربية الخاصة بمكتب الإرشاد.
هذه المستويات الأربعة لا يصل الفرد إليها إلا بعد التكوين الفكري والعقائدي العميق.
والإعداد العملي الدقيق الذى يجب أن يكون منهجا لتربية ا لدعاة، وإنني إذا أبسط المقال للتربية الفكرية والعملية لأضع أمام الباحثين – لا سيما المعنيين بأمر الدعوة- الأسلوب الأمثل للنهوض بشأن الدعاة.
هذا ولقد انفرد الإخوان المسلمين بوسائل الإعداد التالية:
أولا : التربية الفكرية:
- إن سلوك الفرد يرتبط دائما بما يعتنقه من أفكار لأن الإيمان بالفكرة يهبنا من القوة ما نستطيع به أن نزحزح معه الحبال ،
ومن ثم اتجهت جماعة الإخوان إلى تربية الفرد المسلم تربية علمية على أسس من أركان المبحث التى يوضحها المرحوم الإمام حسن البنا فيما يلي:
الفهم : فكلما تفهم الإنسان دينه وتغلغل فى وجدانه ووقف على أسراره ازداد إيمانا به ودفاعا عنه ودعوة إليه . ولقد حدد – رحمه الله – أبعاد هذا الفهم فى أصول عشرين سأوجزها إيجازا يفي بالغرض إن شاء الله .
- 1- الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا.
- 2- القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم فى تعرف أحكام الإسلام.
- 3- للإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نور وحلاوة يقذفها الله فى قلب من يشاء من عباده، ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية.
- 4- التمائم والرقى والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته إلا ما كان من قرآن أو رقية مأثورة .
- 5- رأى الإمام فيما لا نص فيه وفيما يحتمل وجوها عدة فى الصالح ومعمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية.
- 6- كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة قبلناه وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالإتباع.
- 7- لكل مسلم لم يبل درجة النظر فى أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين ويحسن به مع هذا الإتباع أن يجتهد ما استطاع فى تعرف أدلته.
- 8- الخلاف الفقهي فى الفروع لا يكون سببا للتفرق فى الدين ولا يؤدى إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه فى مسائل الخلاف فى ظل الحب فى الله والتعاون على الوصول للحقيقة من غير أن يجر ذلك إلى المراء والتعصب.
- 9- كل مسألة لا يبنى عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذى نهينا عنه شرعا ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التى لم تقع والخوض فى معاني الآيات القرآنية الكريمة التى لم يصل إليها العلم بعد.
- 10- معرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يلتحق بذلك من التشابه نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء.
- 11- كل بدعة فى الدين لا أصل لها استحسنها الناس بأهوائهم سواء بالزيادة أو بالنقص منه ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التى لا تؤدى إلى ما هو شر منها.
- 12- البدعة الإضافية والتزكية والالتزام فى العبادات المطلقة خلاف فقهي لكل فيه رأيه ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان.
- 13- محبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة على الله تعالى والأولياء هم المذكورون فى قوله تعالى : " الذين آمنوا وكانوا يتقون ، لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ".
- والكرامة ثابتة لهمك بشرائطها الشرعية مع اعتقاد بأنهم رضوان الله عليهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فى حياتهم أو بعد مماتهم فضلا على أن يهبوا شيئا لغيرهم.
- 14- زيارة القبور أيا كانت سنة مشروعة بالكيفية المأثورة ، ولكن الاستعانة بالمقبورين أيا كانوا ونداءهم ، وطلب قضاء الحاجة منهم عن قرب أو بعد والنذر لهم وتشييد القبور وسترها وإضاءتها والتمسح بها والحلف بغير الله وما يخلق بذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها ولا نتأول لهذه الأعمال سدا للذريعة.
- 15- الدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعى فى كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة.
- 16- العرف الخاطئ لا يغير حقائق الألفاظ الشرعية بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها والوقوف عندها، كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي فى كل نواحي الدنيا والدين فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء .
- 17- العقيدة أساس العمل وعمل القلب أهم من عمل الجارحة، وتحصيل الكمال فى كليهما مطلوب شرعا وإن اختلفت مرتبتا الطلب.
- 18- الإسلام يحرر العقل ويحث على النظر فى الكون ويرفع قدر العلم والعلماء ويرحب بالصالح النافع من كل شىء والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
- 19- قد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي ما لا يدخل فى دائرة الآخر ولكنهما لن يختلفا فى القطعي فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة ويؤول الظني منهما ليتفق مع القطعي فإن كانا ظنين فالظن الشرعي أولى بالإتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار.
- 20- لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض- برأى أو معصية – إلا أن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة أو كذب صريح القرآن أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر.
وهذا النص الأخير ينفى نفيا قاطعا ما يزعمه البعض من أن الإخوان تكفر المجتمع أو تبعد البعض عن حظيرة الإسلام- قد يكون البعض قد جنح إلى هذا كما سيأتي إن شاء الله فى باب – إلا أن فكر الجماعة وتوجيهات مرشدها العام ورسائله- رحمه الله – واتجاه الرأي العام فيها لا يكفر بمعصية .
كما يلاحظ من خلال الاتجاهات الفكرية التى اندرجت تحت الركن الأول من أركان البيعة مدى الاعتدال فى الفكر والتوسط فى المنهج وكيف حاول الإمام حسن البنا رحمه الله أن يجمع بين الجماعات الإسلامية المتباعدة فى الفكر والرأى لا سيما أنصار التصوف وخصومه ولقد بلور هذا الفكر وحدد هذا الاتجاه فى رسالته إلى المؤتمر الخامس الذى انعقد عام ( 1357 هـ - 1938 م ).
ومما جاء فيها: " إن الإخوان المسلمين دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة عملية وثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية" وهذا الكلام لم يطلق على عواهنه أو يراد به الدعاية ولكنه قيل بعد عشر سنوات من بداية الدعوة وبعد أن تأصلت فى النفوس واتضحت اتجاهاتها وأهدافها.
الإخلاص:
- وهو من أركان بيعة الإخوان وبما تعاهدوا عليه ومعناه : " أن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله وابتغاء مرضاته وحسن ثوابه من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه" ، وبذلك يكون المسلم جندي فكرة وعقيدة لا جندي غرض ومنفعة.
العمل :
ومراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق هى :
- 1- إصلاح نفسه حتى يكون قوى الجسم متين الخلق مثقف الفكر قادر على الكسب، سليم العقيدة صحيح العبادة.
- 2- تكوين بيت مسلم بأن يحمل أهله على احترام فكرته والمحافظة على آداب الإسلام فى كل مظاهر الحياة المنزلية.
- 3- إرشاد المجتمع بنشر دعوة الخير فيه ومحاربة الرذائل والمنكرات وتشجيع الفضائل وكسب الرأى العام إلى جانب الفكرة الإسلامية.
- 4- تحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي – غير إسلامي – سياسي أو اقتصادي أو روحي.
- 5- إصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق.
- 6- إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية بتحرير أوطانها.
- 7- أستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام فى ربوعه حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
- فى نجاح لدعوة الدعوات إلا إذا قامت على الجهاد الذى يتنوع حسب الحاجة والطاقة وهناك جهاد اللسان، والقلم ، واليد ، وكلمة حق عند سلطان جائر، وبقدر سمو الدعوة وسعة أفقها تكون عظمة الجهاد فى سبيلها.
التضحية
- ببذل النفس والمال والوقت والحياة وليس فى الدنيا جهاد ولا تضحية معه.
الطاعة: وهى امتثال الأمر وإمضاؤه فى العسر واليسر والمنشط والمكره، إذ إنه من عوامل نجاح الدعوة والداعية، والطاعة خلال مسيرة الدعوة ولقد قسم الإخوان دعوتهم إلى مراحل ثلاث:
1- التعريف 2- التكوين 3- التنفيذ ولن يتم هذا إلا بالطاعة.
الثبات:
- وأريد به أن يظل الأخ المسلم مجاهدا فى سبيل غايته مهما بعدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام حتى يلقى الله وقد فاز بإحدى الحسنيين فإما الغاية وإما الشهادة فى النهاية.
التجرد: وهو أن يسمو بالفكرة الإسلامية عن الأشخاص ولقد كان من خصائص الدعوة: البعد عن هيمنة الأعيان والكبراء والأحزاب والهيئات وأن تكون صلة المسلم بغيره من خلال الرؤية الإسلامية والناس عند الأخ الصادق واحد من ستة أصناف: " مسلم مجاهد أو مسلم قاعد أو مسلم آثم، أو ذمي معاهد أو محايد أو محارب، ولكل حكمه فى ميزان الإسلام" .
الأخوة:
- وهى أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة وهى أوثق الروابط، والأخوة أخوة الإيمان والتفرق أخو الكفر ولا وحدة بغير حب وأقل الحب سلامة الصدر وأعلاه مرتبة الإيثار والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه، لأنه إن لم يكن بهم فلن يكون بغيرهم وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره.
الثقة:
- والثقة هى اطمئنان الجندي إلى القائد فى كفاءته وإخلاصه اطمئنانا عميقا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة والقائد جزء من الدعوة ولا دعوة بغير قيادة وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة النظام للجماعة والقيادة فى دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة".
هذه أركان البيعة العشرة والتي تعبر عن التربية الفكرية والعقائدية لجماعة الإخوان ويلاحظ استقامتها مع الفطرة وتوافقها وأحكام الإسلام وأنها لا تجنح إلى الإفراط أو التفريط ،
ولا يبدو منها غلو ولا تطرف هذا ولقد تتابعت رسائل الإمام حسن البنا رحمه الله لتربية الإخوان عقائديا وفكريا وسلوكيا فبجانب أركان البيعة السالفة الذكر نجد العديد من الوصايا والتوجيهات التربوية التى يتربى عليها الدعاة فمن ذلك :
أ- الوصايا العشر:
وهى تعتبر ميزانا دقيقا يزن به المسلم سلوكه وهى :
- 1- قم للصلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف.
- 2- اتل القرآن أو طالع أو استمع أو اذكر الله ولا تصرف جزءا من وقتك فى غير فائدة.
- 3- اجتهد أن تتكلم العربية الفصحى فإن ذلك من شعائر الإسلام.
- 4- لا تكثر الجدل فى أي شأن من الشئون أيا كان فإن المراء لا يأتي بخير.
- 5- لا تكثر الضحك فإن القلب الموصول بالله ساكن وقور.
- 6- لا تهرج فإن الأمة المجاهدة لا تعرف إلا الجد.
- 7- لا ترفع صوتك أكثر مما يحتاج إليه السامع فإنه رعونة وإيذاء.
- 8- تجنب غيبة الأشخاص وتجريح الهيئات ولا تتكلم إلا بخير.
- 9- تعرف إلى من تلقى من إخوانك وإن لم يطلب إليك ذلك فإن أساسا دعوتنا الحب والتعاون.
- 10- الواجبات أكثر من الأوقات فعاون غيرك على الانتفاع بوقته وإن كان لك حاجة فأوجز فى قضائها.
ب- الموبقات العشر:
التى يجب أن ينأى عنها المسلم:
- 1- الاستعمار.
- 2- الخلافات السياسية والمذهبية والشخصية.
- 3- الربا.
- 4- الشركات الأجنبية.
- 5- التقليد الغربي.
- 6- القوانين الوضعية.
- 7- الإلحاد والفوضى الفكرية.
- 8- الشهوات الإباحية.
- 9- فساد الخلق وإهمال الفضائل.
- 10- ضعف القيادة وفقدان المناهج العلمية.
جـ - المنجيات العشر:
- 1- الوحدة .
- 2- الحرية .
- 3- تنظيم الزكاة.
- 4- تشجيع المشروعات الوطنية .
- 5- احترام القومية.
- 6- العمل بالشرائع الإسلامية.
- 7- تثبيت العقائد الإيمانية.
- 8- إقامة الحدود الإسلامية.
- 9- تقوية الفضائل الخلقية.
- 10- اتباع السيرة المحمدية.
هذه هى الأصول التى نشأت عليها جماعة الإخوان المسلمين ولم تكن هذه فحسب بل إن الباحث فى التراث الفكري من خلال المؤلفات والرسائل والصحف التى أصدرها الإخوان خلال مسيرة الدعوة تتضح له أبعاد هذه التربية العميقة ومما ساعد على تشربها فى القلوب وتأصلها فى النفوس وانتشار أمرها وذيوع صيتها ما يلي:
أولا : دروس ومحاضرات المركز العام بالقاهرة:
فلقد كان يلقى بالمركز العام دروس فى التصوف والتفسير للشيخ المرحوم طنطاوي الجوهري. وتكوين الدعاة للأستاذ البنا وهو ما عرف بدرس الثلاثاء الذى كان تجمعا إسلاميا رائدا ورائعا حيث يفد إليه الإخوان من ربوع مصر وقراها ليستمعوا إلى الإمام رحمه الله فيستولى على مشاعرهم بإخلاصه وبحسن حديثه وروعة إلقائه فتزداد معارفهم وتعارفهم،
وما زال حديث الثلاثاء رغم توقفه قبيل الرصاصات الغادرة له عظيم الأثر وأطيب الذكريات لمن استمع عنه، ولقد كان المركز العام فى حقبتي الثلاثينيات والأربعينيات ملتقى رواد الحركة الإسلامية فى العالم العربي والإسلامي كما كان له دور رائد فى استنهاض الهمم وشحذ العزائم إبان حرب فلسطين عام ( 1947 م ) ومنه انطلقت دعوات الجهاد لاستخلاص فلسطين من شراذم اليهود وبداره انعقدت المؤتمرات وخرجت المظاهرات تهتف من أعماقها بالجهاد والاستشهاد.
ومن المركز العام أيضا عقد الإمام البنا اللواء لكتائب الإخوان الذاهبين لفلسطين.
ثانيا : رحلات الإمام البنا:
من العوامل التى ساعدت على خلق جيل من الدعاة اتحدت قلوبهم وتوحدت كلمتهم وامتزجت مشاعرهم تلك الرحلات التى كان يقوم بها الإمام البنا رحمه الله فلقد كان يجوب البلاد مدنها وقراها من الإسكندرية حتى أسوان ومن بور سعيد على مرسى مطروح ولقد زار رحمه الله ما يقرب من ثلاثة آلاف قرية منذ بدء الدعوة فى الإسماعيلية عام ( 1927 م ) وحتى اغتياله عام ( 1947 م ) وفى كل لقاء كان رحمه الله يلهب المشاعر ويستجيش العواطف ويحرك القلوب فتهتف الجموع.
- الله أكبر ولله الحمد
- الله غايتنا والرسول زعيمنا
- والقرآن دستورنا
- والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا
- لا إله إلا الله محمد رسول الله
- عليها نحيا وعليها نموت وفى سبيلها نجاهد
- وعليها نلقى الله
وما زالت هذه اللقاءات رغم تقادم الزمن وتوالى الخطوب لها أريج الذكريات الطيبة وعبير الأثر الطيب ولقد كان رحمه الله ينفرد بعزيمة قوية تغلب بها على وعثاء السفر،
فلقد كان يسافر من القاهرة إلى المنيا بعد ظهر الخميس فيصلها فى الثامنة مساء ويغادرها نحو منتصف الليل إلى أدفو فيصلها صباحا وفى الظهر يسافر من أدفو إلى قنا فيصلها عند الغروب وفى نحو منتصف التاسعة يسافر إلى نجع حمادي فيصلها صباحا الأحد وبهذا الأسلوب كان رحمه الله يسيطر على شعب الإخوان سيطرة دقيقة ومنتظمة.
ثالثا: صحف الإخوان ورسائلهم:
من وسائل التربية الفكرية وتكوين الرأى العام المتفهم لدعوة الإخوان تلك الرسائل والمنشورات التى كانت تطبع فى رسائل صغيرة وتوزع على شعب الإخوان بجانب ما أصدر من صحف ومجلات إسلامية منها:
- صدرت عام ( 1933 م ) وهى أسبوعية واستمرت إلى ( 1938 م ) ورأس تحريرها المرحوم الشيخ طنطاوي الجوهري ومدير التحرير المرحوم الأستاذ محب الدين الخطيب وتعبر هذه المجلة عن المرحلة الأولى من مراحل الدعوة التى اتسمت بتوضيح الفكرة ووضع أسس التكوين والتربية وترقية العرف العام.
2- مجلة النذير:
صدرت عام ( 1938 م ) وكان رئيس تحريرها الأستاذ صالح عشماوي وسكرتيرها الأستاذ محمد عبد الحميد وتمثل المرحلة الثانية من مراحل دعوة الإخوان وهى مرحلة المواجهة لكل ما هو مخالف لمنهج القرآن واتخذ من اسم المجلة " النذير " تأكيدا لهذا المعنى واتسمت بتوجيه الرسائل إلى الملك والحكومة لتوضيح معالم المجتمع المسلم ولقد استمرت بتوجيه الرسائل إلى الملك والحكومة لتوضيح معالم المجتمع المسلم ولقد استمرت زهاء عام واحد إذ توقفت عام ( 1939 م ) لانشقاق صاحب الامتياز عن الإخوان المسلمين.
3- مجلة التعارف عام 1945 م واستمرت حتى عام 1947 م ) .
4- الإخوان المسلمون الثانية صدرت عام ( 1947 م إلى عام 1948 م ).
5- جريدة الإخوان اليومية والتي ظهر العدد الأول منها فى عام ( 1946 م ) ولكنها لم تعمر طويلا إذ تعرضت للمصادرة.
6- بجانب هذه الصحف السالفة الذكر فلقد استأجروا لفترة امتياز عدة صحف مثل التعارف والمنار والشهاب ، والطلبة.
ثم صدرت الدعوة عام ( 1951 م ) وتوقفت عن الظهور إبان محنة الإخوان عام ( 1954 م ) ثم صدرت عام ( 1976 م ) واستمرت تؤدى رسالتها ولقد نجحت نجاحا كبيرا وغدت فى هذه الفترة من أوسع المجلات الإسلامية انتشارا فى مصر والعالم الإسلامي وعملت على نشر مبادئ الإخوان ونفى ما ألصق بهم خلال أعوام المحن ونشرت ما تعرضوا له فى غياهب السجون والمعتقلات مما خلق رأيا عاما إن لم يكن منهم فهو متعاطف ومتأثر بما نزل بهم.
ونظرا لأهمية دور الصحافة فلقد أسس الإخوان فى حقبة الأربعينيات عدة شركات مساهمة وهى:
- 1- شركة الإخوان للطباعة.
- 2- شركة الإخوان للصحافة.
- 3- شركة الإعلانات العربية.
غير أن هذه الشركات لم يكتب لها البقاء فتعرضت للغلق والمصادرة عام ( 1948 م).
من خلال العرض السابق تتضح أسس التربية الفكرية ووسائلها ومدى التوافق والتنسيق فى التربية والإعداد والتكوين ومن خلال البحث يرى تفرد الإخوان بهذا المنهج التربوي ولقد استكمل بالتربية العملية والسلوكية التالية:
أولا: التربية العملية:
إن من عوامل نجاح الدعوة والدعاة أن يقترن المنهج الفكري بالتطبيق العملي وأن يكون سلوك المسلم فى الحياة صورة صادقة لما اعتقده وما تألق الإسلام والمسلمون إبان عهد النبوة وخلال الخلافة الراشدة إلا حينما طبق فى كل جوانب الحياة فالإيمان " ما وقر فى القلب وصدقه العمل" ولقد شهدت مسيرة الدعوة خلال القرن الرابع عشر الهجري الكثير من المقترحات والمشروعات الضخمة فكم من لجان شكلت ومؤتمرات انعقدت وتوصيات اتخذت وقرارات تلو قرارات ،
غير أن هذا كله لم يكن ذا بال ولم يحقق الفائدة المرجوة والأمل المطلوب إذا لم يكن له فى الحياة تطبيق ولم يترك فى سلوك الناس من أثر ولقد بذلت الجمعيات الإسلامية الجهد المحمود لتربية أفرادها وكان لكل جماعة أثر طيب فى سلوك أعضائها كما سبق،
إلا أن الإخوان المسلمين انفردوا بمنهج معين فى التربية ونمط خاص فى الإعداد والتكوين فبجانب التربية الفكرية المذكورة آنفا نجدهم بذلوا فى التربية السلوكية غاية جهدهم وبلغوا فى هذا شأنا جديرا بالدراسة حريا بالبحث واتضحت معالم التربية منذ فجر الدعوة فى الإسماعيلية وما تلا ذلك عبر مسيرة الجماعة واتجهت بالتربية السلوكية فى عدة ميادين منها:
1- مجال التعليم:
اتجه الإمام حسن البنا بالدعوة منذ إبان عهدها الأول إلى التربية والتعليم من المنطلق الإسلامي فأنشأ معهدي حراء وأمهات المؤمنين ،
ومع تطور الدعوة خلال حقبة الثلاثينيات والأربعينيات قاموا بإنشاء المدارس التالية:
- أ – عدة مدارس لمحو الأمية وتنمية الثقافة الدينية بالمجان.
- ب- مكاتب لتحفيظ القرآن الكريم نهارا.
- جـ- مدارس ليلية لتعليم العمال والفلاحين.
- د- أقسام خاصة للراسبين فى الامتحانات العامة.
- هـ- شعب لتعليم الغلمان الذين حرموا من التعليم لاشتغالهم بالصناعات.
- و- مدارس أمهات المؤمنين لتعليم البنات.
- ز- دور للصناعات ملحقة بالمعاهد يتعلم فيها الذين لا يستطيعون إتمام التعليم.
ولقد أحصى الأستاذ محمد شوقي فى رسالته " الإخوان المسلمون والمجتمع المصري " ما يقرب من إحدى وثلاثين مدرسة ومعهدا فى القاهرة والجيزة فقط.
2- الكشافة والجوالة:
الكشافة والجوالة نظامان قصد منهما تعميق فكرة الجهاد وكان هذا النظام النواة الأولى للجناح العسكري فى حركة الإخوان ومن أهم أسباب نشأته: أن الإنجليز سيطروا على الجيش المصري ومنعوا تطويره وتوجسوا خيفة من كل نظام يؤدى إلى القوة وحينما قامت الأحزاب السياسية بتكوين جماعات شبه عسكرية كجماعة القمصان الزرقاء للوفد،
وجماعة القمصان الخضراء لمصر الفتاة أصدرت الحكومة أوامرها بحل هذه الأجنحة العسكرية فى الأحزاب ولم يكن مسموحا بأي نشاط للشباب تشم منه رائحة الفتوة والشهامة سوى جمعية الكشافة وكان كبار الشباب يسمون الجوالة ولقد أنشأ الإمام البنا عام ( 1038 م ) فريقا سماه فريق الرحلات ولقد انضم رسميا إلى جمعية الكشافة الأهلية عام ( 1940 م) وفى عام 1949م بدأ تشكيل عام للحركة الكشفية فى محيط الإخوان وبلغ تعداد المنضمين لهذا النظام قرابة الخمسة والأربعين ألفا عام ( 1945 م ) واستهدفوا من هذا النظام احتواء الشباب المسلم وتربيته بين ظلال الإسلام وهدى ا لقرآن وتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم منذ نعومة أظفاره ولذلك حددوا الأهداف التالية:
- 1- تجديد نشاط الفكر والجسم بتنويع العمل وصقل حواس الإنسان وكسب العلم عن طريق الرحلات والمشاهدات.
- 2- خدمة البيئة وتقوية أواصر المودة.
- 3- محاربة الضعف والخنوثة وبعث العزة والرجولة فى كل شباب مسلم.
- 4- إعداد مجموعة من القادة يكونون نواة لقيادة وتدريب الشباب.
- 5- أن يصبغ المسلم بصبغة الإسلام.
ولكي ينتشر هذا الأسلوب من التربية لعملية شكلت فى الشعب مجموعات كل منها عشرة أفراد وسمح بانضمام خمسة أفراد لكل مجموعة كل شهرين.
ولإذكاء روح العاطفة الإسلامية الجياشة كان فتيان الكشافة والجوالة ينشدون نشيدها وهو من تأليف فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري عضو مكتب الإرشاد العام وكلمات هذا النشيد هى :
يا رسول الله هل يرضيك أنا
- إخوة فى الله للإسلام قمنا
ننفض اليوم غبار النوم عنا
- لا نهاب الموت بل نتمنى
إن يرانا الله فى ساح الفدا
- إن نفسا ترتضى الإسلام دينا
ثم ترضى بعده أن تستكينا
- أو ترى الإسلام فى أرض مهينا
ثم تهوى العيش نفس لن تكونا
- فى عداد المسلمين العظما
آن للدنيا بنا أن تطهرا
- نحن أسد الله لا أسد الثرى
قد قطعنا العهد ألا نقبرا
- أو نرى القرآن دستور الورى
ولقد أدت الجوالة والكشافة خدمات جليلة للمجتمع المصري ذكرها الأستاذ محمد شوقا فى رسالته : " الإخوان والمجتمع المصري".
3- الكتائب :
هو نظام أعد للتكوين الفردي المركزي والتربية العملية العميقة ويوكل إلى أفرادها بعد صقلهم مهام القيادة والتوجيه والإعداد.
وتكون كل كتيبة من أربعين فردا وتتسمى بأسماء إسلامية خاصة الرعيل الأول من الصحابة وأبطال الإسلام وتعد وتربى على الكيفية التالية:
- 1- تقضى الكتيبة ليلة فى الأسبوع فى المركز العام ويبيت معهم الأستاذ المرشد.
- 2- يصلون مع المرشد المغرب والعشاء.
- 3- يتناولون طعام العشاء طعاما رمزيا.
- 4- يتذاكرون معا ويتسامرون .
- 5- بعد صلاة العشاء بوقت ينامون على الأرض فى جرة واحدة وينام معهم المرشد على هذه الهيئة.
- 6- يستيقظون قبل الفجر بساعتين ويتوضئون ويتهجدون بعض ركعات فرادى.
- 7- تلاوة نحو جزء من القرآن الكريم.
- 8- الاستماع إلى درس من الأستاذ المرشد فى التكوين النفسي والروحي والعلمي للداعية مع عرض لتاريخ الدعوات.
- 9- تخصيص قبيل الفجر للاستغفار .
- 10- أذان الفجر ثم الصلاة خلف المرشد العام.
- 11- توزيع الورد القرآني على أعضاء الكتيبة وقيام الإمام بتفسيره تمهيدا لحفظه، وهذا الورد يجمع الآيات فى موضوع واحد وهدف مشترك .. فورد للإيمان وورد للأمل ، وورد للجهاد وورد لـ .... الخ.
- 12- إذا طلعت الشمس قرأ الجميع فى صوت خافض الوظيفة، وهى أدعية من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة كان يدعو بها النبى صلى الله عليه وسلم حينما يصبح.
- 13- إفطار بسيط ثم يتجه كل إلى عمله.
ومن الوسائل التى اتبعت فى إعداد جيل مسلم المعسكرات الإسلامية التى كانت تقام بين الفينة والفينة والمؤتمرات التى تعقد وتضم الآلاف من الإخوان، هذا بجانب المتابعة المستمرة وتوزيع جدول المحاسبة على الأعضاء ليحاسبوا أنفسهم أولا بأول وهذه التربية كما تتضح لم تكن مقصورة على دور العبادة كما يحدث الآن ولم تستأثر بها فئة من الفئات بل انتقلوا بالدعوة إلى عدة ميادين،
وحينما أبسط البحث فى هذا المجال إنما أهدف على وضع هذا النمط من التربية والإعداد أمام المعنيين بأمر الدعوة والدعاة، إذ إن الدراسات فى أقسام الدعوة ما زالت كما كان العهد بها رغم تطور وسائل الإعلام تطورا خطيرا، حيث أحكمت سيطرتها على عقل المجتمع وعواطفه وأصبحت توجهه كما تريد،
ويلاحظ أن وسائل الإعلام انتزعت من الدعاة الإسلاميين زمام القيادة والريادة ودفعت بهم بعيدا وحالت بينهم وبين العناصر المؤثرة فى الأمة ولم يبق للكثير من الدعاة سوى المسجد والمنبر وهما على خطورتهما وعلو شأنهما وقوة تأثيرهما لم يصمدا أمام وسائل الإعلام الحديثة، لأن بعض الدعاة يؤدون ما كلفوا على أنه وظيفة ى رسالة.
وغدا الكثير من المسلمين يؤدون شعائر الإسلام على أنها عادة لا عبادة هذا ولقد فطن الإخوان المسلمون لهذا مبكرا فأنشئوا بالمركز العام أقساما متعددة كل قسم يخطط وينفذ ويتابع ويخاطب كل فئة من مفهوم فكرها من خلال رؤية إسلامية صادقة ،
وحدد قانون الإخوان مهام هذه الأقسام تحديدا دقيقا ومنها ما يلي:
أولا : قسم نشر الدعوة:
- تحدد المادة ( 58 ) الغرض من إنشاء هذا القسم وهو تنظيم الدعاية لدعوة الإخوان تنظيما فنيا، ونشر الدعوة بكل الوسائل الى لا تتنافى مع روح الإسلام ومن ذلك:
- 1- إعداد الدعاة للخطابة والمحاضرات والكتائب على ألا يسمح لهؤلاء بأن يخطبوا فى المحافل العامة إلا بعد التأكد من صلاحيتهم.
- 2- إصدار ما تحتاج إليه الدعوة من وائل ونشرات علمية وثقافية ورياضية.
- 3- تنظيم إصدار الرسائل والكتب التى يصدرها الإخوان ولها مساس بالدعوة بحيث لا تطبع رسالة إلا بعد عرضها على القسم وإقرار نشرها.
المادة ( 59 ) : تنشأ فى دائرة كل مكتب إداري مدرسة للدعاة ويقوم قسم نشر الدعوة بوضع برنامج موحد لهذه الدراسة.
ثانيا: قسم العمال:
المادة ( 63 ) توضح عمل هذا القسم وأهدافه الآتية:
- 1- تنظيم نشر الدعوة فى محيط العمال وإيجاد جو إسلامي فى المصانع والشركات والنقابات العامة.
- 2-توجيه العمال إلى الاستفادة من النقابات والنشاط العمالي وإلى ما يحفظ حقوقهم.
- 3- تنظيم التعاون بين العمال والقيام على حاجاتهم ومطالبهم.
- 4 ـ دراسة مشاكل العمال وإيجاد الوسائل الصالحة لحلها والعمل على التقريب بين العمال وأرباب العمل .
- 5 ـ دراسة نظم العمل ومحاولة تصحيحها وردها إلى أصل إسلامي .
- 6 ـ تثقيف العمال ثقافة إسلامية وتوجيههم إلى ما يرفع مستواهم التعليمي والخلقي والاجتماعي والصحي ، ولقد بدأ اهتمام المرحوم حسن البنا بالعمال منذ أن وطئت قدماه الإسماعيلية .
فأنشأ شعبة في شركة جباسات البلاح وأسس بها مسجدا عهد بالإمامة والخطابة فيه إلى المرحوم الشيخ محمد فرغلي .
ثالثا : قسم الفلاحين :
- هذا القسم يقوم بنفس ما يقوم به قسم العمال ونظم العمل به المواد ( 66 و 67 و 78 ) من قانون الإخوان المسلمين .
رابعا : قسم المهن :
يقوم هذا القسم بالدعوة بين أرباب المهن المختلفة لتحقيق الأهداف التالية التي توضحها المادة ( 78 ) .
- 1 ـ نشر الدعوة في محيط أصحاب المهن وإيجاد جو إسلامي عام في بيئاتهم .
- 3 ـ الاستفادة من النقابات المهنية المختلفة والعمل على إيجاد جو إسلامي فيهم .
- 4 ـ إعداد المناهج المختلفة في شتى النواحي على أساس من الإسلام ، والعمل على تنفيذها بواسطة أصحاب المهن .
- 5 ـ توجيه الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي وصبغها بالصبغة الإسلامية .
خامسا : قسم الأخوات المسلمات :
أولت جماعة الإخوان المرأة عناية لا تقل عن عنايتها بالرجل بينما نجد معظم الجمعيات تناولت قضية المرأة من ناحية السفور والتبرج والاختلاط ووقفت منها موقف المهاجم فقط دون أن تتجه إلى التعليم والتربية وتثقيفها الثقافة الإسلامية التي توضح ما لها من حقوق وما عليها من واجبات،
ولقد ظن الإخوان إلى مدى خطورة تسلل الفكر الغربي إلى عقل المرأة وتجسم هذا فى محاولات التبشير والتنصير لبعض الفتيات المسلمات فى المنزلة عام ( 1351 هـ ) التى قامت بها مدرسة السلام البروتستانتية فما كان من شعبة الإخوان فى هذه البلدة إلا أن أنشأت مشغلا للفتيات بجانب مدرسة التبشير ،
وقبل هذا أسس الإمام حسن البنا معهد أمهات المؤمنين فى الإسماعيلية، ووضع له منهجا إسلاميا يجمع بين أدب الإسلام وتوجيهه السامي للبنات والأمهات وبين مقتضيات العصر ومطالبه من العلوم النظرية والعملية.
وفى عام ( 1932 م ) تكونت أول لجنة للأخوات المسلمات بمدينة الإسماعيلية ، ووضع حسن البنا لائحتها ، واستمر نشاط الأخوات المسلمات حتى عام ( 1944 م ) حيث تكونت لجنة تنفيذية واتخذت لها مقرا بالقاهرة، ثم انتشر هذا القسم واتسع نشاطه حتى وصلت السيدات عام ( 1948 م ) إلى خمسة وأربعين ألف سيدة وفتاة ضمتهم ما يقرب من خمسين شعبة.
ولقد نيط بهذا القسم تحقيق الأهداف التالية:
- 1- بعث الروح الدينية ونشر التعاليم الكفيلة بتكوين شخصيات من النساء مهذبات يستطعن الاضطلاع بما يناط بهم من أعمال وواجبات.
- 2- التعريف بالفضائل والآداب المزكية للنفس والموجهة للخير والكمال، وتعريفها بما لها من حقوق وما عليها من واجبات.
- 3- إرشادهن إلى طرق التربية الإسلامية الصحيحة النافعة التى تضمن لأبنائهن النمو الجسمي والعقلي السليم والإسلامي.
- 4- العمل على صبغ البيت بالصبغة الإسلامية وبث تعليم القرآن والسنة المطهرة وسيرة أمهات المؤمنين وفضليات النساء ممن حفل بهن التاريخ الإسلامي.
- 5- محاربة البدع والخرافات والأباطيل والترهات والأفكار الخاطئة والعادات السيئة التى تنتشر وتروج بينه
- 6- نشر الثقافة العامة والمعارف التى تنير عقولهن وتوسع مداركهن.
- 7- الاهتمام بالشئون المنزلية لتجعل من البيت مكانا سعيدا يضم أسرة هانئة على أساس فاضل سليم.
- 8- الإسهام فى المشروعات الاجتماعية النافعة بالقدر الذى يتناسب مع ظروفهن وجهدهن وفى محيطهن.
ولقد مارست جمعية الأخوات المسلمات أنشطتها فى الميادين التالية:
أ- عمل زى إسلامي للسيدات:
- ولقد نجحن فى هذا رغم الصعوبة التى واجهتهن فى حقبة الأربعينيات حينما طغت موجات التبرج والاختلاط وخروج المرأة من حصنها عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية كثمرة مرة من ثمرات الدعوة إلى تحرير المرأة فضلا عن غياب المرأة المسلمة عن ساحة التعليم الديني فى الأزهر الشريف ولم يمد الأزهر يده للفتاة المسلمة خلال هذه الفترة ومن ثم تلقفتها ذئاب البشر من كتاب الجنس وأدباء التحلل وأجهزة الإعلام المرئية والمسموعة مما أفقد المرأة المسلمة شخصيتها وأعجزها عن تربيج جيل مسلم،
- بل كان نتاج المرأة خلال هذا الجيل أبناء استنعموا الحياة ورضوا بالهوان أمام ضربات الصهيونية العالمية والاستعمار الشرقي والغربي ورغم هذا كله فإن حقبة السبعينيات والثمانينيات شهدت عودة الفتاة المسلمة للإسلام فى صورة الحجاب الإسلامي لا سيما بين طالبات الجامعات رغم حملات الإعلام المسموعة ضد الزى الإسلامي فإن ما يرى من هذه الظاهرة الإسلامية هو أثر طيب من آثار التربية الإسلامية فى قسم الأخوات المسلمات.
ب – التربية الدينية والثقافية للسيدات:
- وذلك بإقامة دروس عامة فى كل حى من الأحياء يحاضر فيها الوعاظ أو أخ من الإخوان ولكي تتم الفائدة قسمت السيدات إلى مجموعات متقاربة فى السن والثقافة وأطلق عليهن الأسرة ا لمسلمة ولقد سار على منهج الأسرة فى المركز العام.
جـ- إنشاء دار التربية الإسلامية للفتاة:
- وهدفها تربية الفتاة المسلمة تربية صحيحة.
د- نشر الثقافة الصحية:
- قام المركز العام بإلقاء محاضرات علمية وعملية فى وسائل الإسعافات المنزلية كتنظيم الجروح والحروق وتضميدها وتعليم المس وإعطاء الحقن.
هـ- إنشاء مدرسة للداعيات:
- يخترن من بين صفوف الأخوات المسلمات ليقمن بالوعظ والتدريس لسيدات ولقد افتتحت بالإسكندرية مدرسة للداعيات كان نواتها خمس عشرة أختا من الأخوات المثقفات.
و- الدعاية للفكرة الإسلامية فى المحيط النسائي.
سادسا: قسم الطلبة:
- امتد نشاط الإخوان المسلمين إلى الطلاب باعتبارهم أمل الغد ورجال المستقبل ولقد بدأ هذا الاهتمام مبكرا منذ فجر الدعوة ولقد حدد قانون الإخوان أغراض قسم الطلبة فى المادة السبعين كما يلي:
- 1- نشر الدعوة الإسلامية فى محيط الطلاب وإيجاد جو إسلامي بصفة عامة فى المعاهد الدراسية.
- 2- تقديم الثقافة الإسلامية المناسبة للطلاب على اختلاف معاهدهم وأعمارهم.
- 3- القيام على حاجات الإخوان الطلاب وتنظيم التعاون المدروس بينهم.
- 4- تنظيم الاستفادة من الطلبة فى العطلة الصيفية.
- 5- توجيه الطلاب إلى الاستفادة من النشاط المدرسي ولقد نجح هذا الأسلوب فى تربية أجيال من الطلبة تفهموا الفكر الإسلامي إلا أن قلة نادرة جنحت بفكرها عن جادة الصواب نظرا للضغوط المستمرة على الدعوة والدعاة وفقدان المثالية، مما أدى إلى ظهور الأفكار المتطرفة مما سأتناوله بالبحث والدراسة فى الباب الثالث إن شاء الله.
سابعا: قسم الاتصال بالعالم الإسلامي:
- بينما نجد بعض الجمعيات لا يتجاوز نشاطها الحي الذى تقطن فيه أو إذا اتسع نشاطها يمتد إل بعض المحافظات فى مصر باستثناء الجمعية الشرعية فإننا نجد الإخوان المسلمين يعبر نشاطها إلى العالم الإسلامي بل تشارك فى القضايا الإسلامية،
كحرب فلسطين ومؤازرة اليمن على الإمام يحيى عام ( 1948 م ) كما سيأتي عن آثارها ومن ثم أنشأت قسم الاتصال بالعالم الإسلامي وتحدد المادة الثالثة والسبعون أغراض هذا القسم فيما يلي:
- 1- العمل على ربط الأقطار الإسلامية بعضها ببعض وتوحيد السياسة العامة لها بتوحيد مناهج الثقافة الإسلامية وتوحيد القوانين والتشريعات ورفع الحواجز الجمركية وتسهيل إجراءات الوصول والإقامة فى هذه الأقطار.
- 2- تحرير الأوطان الإسلامية من كل سلطان أجنبي.
- 3- إقامة حكومات إسلامية دينا ودولة فى كل هذه البلاد وتكوين وحدة سياسية إسلامية ولقد أنشىء فى هذا القسم لجان تقوم على أوجه النشاط المختلفة التى تحددها المادة الرابعة والسبعون وهى:
لجنة الشرق الأدنى:
وتضم البلاد العربية وباقي الشعوب الإسلامية فى أفريقيا كما تضم تركيا وإيران. لجنة الشرق الأقصى :
- أفغانستان – تركستان- الصين- الهند- إندونيسيا- اليابان.
لجنة الإسلام فى أوربا:
- المادة ( 75 ) يدرس القسم قضايا العالم الإسلامي ويعد لكل قضية ملفا خاصا كما يعد لكل قطر ملفا خاصا يشتمل على كل ما تهم عن هذا القطر مما يتصل بأغراض هذا القسم.
وإن الباحث يقارن بين قسم الاتصال بالعالم الإسلامي وبين إدارة البعوث بالأزهر الشريف ليجد البون شاسعا.
- فالأهداف تتباين والوسائل تختلف فإن الجمع الغفير من مبعوثي الأزهر يوفدون على بلدان لا يعرفون عن عاداتها وقضاياها السياسية والاجتماعية شيئا بلا ولا حتى موقعها الجغرافي ولا تقام دراسات للمبعوثين للتعريف بتلك البلدان.
- وبهذا تقل الفائدة وينحصر النفع فى حدود ما يعود به المبعوث من كسب مادي أما التأثير فى مجالات الدعوة الإسلامية فهذا جهد ذاتي لمن لديه القدرة والاستعداد والتأثير وبجانب هذه الأقسام توجد أقسام أخرى منها:
- 1- قسم الصحافة والترجمة.
- 2- قسم التربية البدنية.
- 3- لجان الزكاة والحج.
وهكذا يتضح من خلال هذا المبحث " الرابع" وسائل التربية الفكرية وأساليب الإعداد الجيد والتنظيم الدقيق والاستيعاب الشامل.
وانضباطها من خلال الفكر الإسلامي المعتدل الذى يمثل الفطرة النقية التى عمل الإخوان من خلال التربية العلمية على إيقاظها فى وجدان المسلمين وهى أيضا لم تركز على قضية واحدة من قضايا الفكر الإسلامي ولم تعالج أمرا محددا كبعض الجامعات ولكن كانت رؤيتها للنهضة الإسلامية أعم وأوسع فشملت ميادين كثيرة اتضح بعضها من خلال هذا المبحث كما أن أسلوبها الفكري والعملي قد اختط منهجا وسطا يمسك بالأجنحة المتصارعة فى الجماعات الإسلامية لا سيما من أنصار التصوف وخصومه وكانت كلمات المرحوم حسن البنا: " نجتمع فيما اتفقنا عليه ويعذر كل منا الآخر فيما اختلف فيه".
معيارا لعلاقة الإخوان بين الاتجاهات الإسلامية المتباينة وهذا الفكر ثمرة من ثمرات الإعداد الفكري والعملي السابق الإشارة إليه.
ولعله يكون قد حان الوقت لتوضع مثل هذه الأساليب ضمن مناهج الدراسة فى أقسام الدعوة ليمكن بتوفيق الله إعداد جيل من الدعاة ينظر إلى الدعوة رسالة لا وظيفة وعبادة وتشريف لا تكليف وإنه لمن الواجب على الهيئات المهتمة بشأن الدعوة لا سيما الأزهر الشريف أن يضع التجربة الإخوانية فى مجال التربية الفكرية والتطبيق العملي موضع الدراسة والتقويم ولا يكون هناك حرج فى استقاء المناهج والأسلوب من هذه الجمعية أو تلك ما دام المقصد النهوض بالدعوة والدعاة.
خاصة فى هذا العصر الذى يواجه الإسلام فيه التحدي من قوى الشرق والغرب ومن بعض أبنائه الذين تمردوا عليه وولوا وجوههم بعيدا عنه،
وحينما يستفاد من تلك التجارب والأخذ بالمحاسن وترك السلبيات- إن وجدت- فإن هذا بلا شك سيؤدى بالدعوة على أن تتعمق فى القلوب وتهفو إليها الأفئدة ويتدارك المسلمون ما فاتهم من خير كثير فى غيبة الدعاة الصادقين، ويا حبذا لو كانت كليات الدعوة هى الرائدة فى هذا المضمار والمتنافسة فى تعميق تلك الأساليب التربوية والعملية للدعاة من أبنائها ولعل هذا – إن شاء الله – قريب وما ذلك على الله ببعيد.
المبحث الخامس أثر الإخوان المسلمين فى الدعوة الإسلامية
تركت دعوة الإخوان عبر تاريخها الممتد زهاء أربعة وخمسين عاما دلائل واضحة وعلامات بارزة ليس من الإنصاف تجاهلها أو إغماضها، فلقد كان عطاؤها كبيرا وجهادها وتجاربها كثيرة وتحملت فى سبيل الدعوة ما لم تتحمله جماعة دينية أو هيئة إسلامية وخلفت آثارا إيجابية على مسيرة الدعوة ما زالت تجنى ثمارها حتى الآن.
ويمكن إيجاز أثر الإخوان فى الدعوة الإسلامية فيما يلي:
1- تكوين جيل من الدعاة:
آمن بالفكرة الإسلامية إيمانا صادقا ملك عليه عقله وقلبه فانطلق يدعو إلى الإسلام لا من خلال دائرة ضيقة أو معالجة لبعض القضايا ،
ولم يؤثروا السلامة فى بحث أمور قتلت بحثا عبر مسيرة الفكر الإسلامي، ولقد استطاع الرعيل الأول الذى تربى فى مدرسة الإمام البنا أن يصوغ الفكر الإسلامي صياغة تجمع بين السلفية ولغة العصر وأعطوا تصورا عمليا للمجتمع المسلم فى الوقت الذى كانت بعض الجمعيات الإسلامية تفرغ جهدها فى الخلافيات وتمعن فى الجدل انتصارا لرأى تراه لا لحق تصل إليه ونجد أيضا الكتابات الإسلامية فى مطلع القرن الرابع عشر الهجري محدودة،
والكتاب الإسلاميين يعدون على أصابع اليد فضلا على انكباب بعض علماء الأزهر على تراث السلف شرحا وتعليقا وحاشية دون أن يمتد هذا الجهد إل معالجة القضايا الإسلامية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى طرقت أبواب الأزهر فوجدت باب الاجتهاد موصدا فولت وجهها شطر مدرسة العلمنة والتغريب وآراء المستشرقين والملحدين فزيفوا الحق وزينوا الباطل فكان من أمر الدعوة ما كان من بعد عن واقع الحياة وحصرها فى كلمات تقال من كتاب مسجوع أو خطب مدونة تدور فى فلك الوعد والوعيد فحسب،
وسط هذا المناخ المضطرب برز الإخوان المسلمون إلى ساحة الدعوة فأعطت للفكر الإسلامي تراثا جليلا تناول الكثير من القضايا الإسلامية يلاحظ هذا من خلال كتاباتهم ومؤلفاتهم التى أثروا بها المكتبة الإسلامية وتربى عليه عقل القارئ المسلم وفيما يلي عناوين تلك القضايا والكتابات وكتابها:
أولا : القرآن وعلومه:
- 1- فى ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب.
- 2- مشاهد القيامة فى القرآن.
- 3- التصوير الفني فى القرآن . للأستاذ سيد قطب.
- 4- تاريخ القرآن وآداب التلاوة. للأستاذ سيد قطب.
- 5- القرآن والعلوم الحديثة. أحمد كامل حنو.
- 6- القرآن والذرة . د/ محمود حامد.
ثانيا : السنة والسيرة النبوية:
- 1- فهرس الجامع الصحيح.
- 2- فهرس الأحاديث المرفوعة.
- 3- فهرس الأحاديث المعلقة.
- 4- فهرس الآثار.
- 5- تسعة آلاف حديث.
هذه المؤلفات للأستاذ رضوان محمد رضوان.
- 6- فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي.
ثالثا: العقيدة:
- 1- عقيدة المسلم للشيخ محمد الغزالي.
- 2- وحى العقيدة أحمد عبد الجليل.
- 3- إسلامنا للشيخ سيد سابق.
رابعا: الفقه:
- 1- فقه السنة للشيخ سيد سابق.
- 2- 16000 فتوى صحابي وتابعي " الأستاذ رضوان محمد رضوان".
خامسا: القانون والاقتصاد والقضايا الاجتماعية:
- 1- التشريع الجنائي فى الإسلام الأستاذ عبد القادر عودة.
- 2- الإسلام وأوضاعنا القانونية الأستاذ عبد القادر عودة.
- 3- المال والحكم فى الإسلام الأستاذ عبد القادر عودة.
- 4- الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية للشيخ محمد الغزالي.
- 5- الإسلام والمناهج الاشتراكية للشيخ محمد الغزالي.
- 6- العدالة الاجتماعية فى الإسلام للأستاذ سيد قطب.
- 7- الإسلام لا شيوعية ولا رأسمالية للأستاذ البهي الخولي.
- 8- الإسلام يحارب الفقر محمد فتحي عثمان.
- 9- الشيوعية والإسلام عمر هندي.
- 10- المرأة بين البيت والمجتمع للأستاذ البهي الخولي.
سادسا: تكوين الدعوة والدعاة:
- 4- مع الله دراسات فى الدعوة والدعاة للشيخ محمد الغالي.
- 5- أثر الدعوة الإسلامية فى الصحافة والأدب أنور الجندي.
وبجانب هذه المؤلفات العديدة نجد العديد من الصحف والمجلات التى كانت تفيض بالمقالات العديدة والآراء السديدة وتنمية الشعور الديني وإذكاء الحماس والغيرة على الإسلام.
- الآثار الاقتصادية:
- غدا الاقتصاد المصري خلال القرن الرابع عشر الهجري خاضعا للاحتكارات الأجنبية وأصبحت مصر سوقا رائجة لمصنوعات انجلترا وخضع المصريون لنظام الإقطاع والتفاتيش حيث يعيش العامل والفلاح على الكفاف يعصف بهما الفقر والجهل والمرض،
واستشرى رأس المال الأجنبي تحت مظلة الامتيازات الأجنبية وبهذا ارتبط الاقتصاد المصري بالنظام المالي العالمي الربو الذى لم يلق مقاومة تذكر من علماء الإسلام.
هذا ولقد فطن الإخوان المسلمون لذلك فنص قانونهم فى المادة ( 156 ) على : " تنمية الثروة القومية وحمايتها وتحريرها".
كما تنص واجبات الأخ على أن يزاول عملا اقتصاديا مهما كان غنيا وأن يقدم على العمل الحر مهما كان ضئيلا " وأن تخدم الثروة الإسلامية العامة بتشجيع الصناعات والمنشآت الاقتصادية الإسلامية ولا تأكل إلا من صنع وطنك الإسلامي".
ولقد أثمرت هذه التربية الآثار الاقتصادية التالية:
1- شركة المعاملات الإسلامية :
- أسست عام ( 1939 م ) وقامت بإنشاء خطوط نقل وأنشأت مصنعا كبيرا للنحاس ينتج وابور الغاز.
2- الشركة العربية للمناجم والمحاجر:
- أسست عام ( 1947 م ) .
3- شركة الإخوان المسلمين للغزل والنسيج:
- وكانت تنتج الأقمشة القطنية والشعبية.
4- شركة المطبعة الإسلامية والجريدة اليومية.
5- شركة التجارة والأشكال الهندسية بالأسكندرية.
6- شركة التوكيلات التجارية.
7- شركة الإعلانات العربية.
وهذه الشركات التى برزت فى فترة وجيزة استطاعت أن تنافس الشركات الأجنبية وأن تصبغ الاقتصاد المصري بصبغة إسلامية بعيدة عن الربا والاستغلال غير أن حل الإخوان عام ( 1948 م ) واستيلاء الحكومة على هذه الشركات ومصادرة ممتلكاتها جال دون استمرار البناء الاقتصادي الإسلامي ولعل ما يرى الآن على الساحة الاقتصادية من البنوك الإسلامية لهو ثمرة من آثار فكر الإخوان الاقتصادي.
ثالثا: أثر الإخوان فى الدعوة إلى الجهاد:
حينما سقطت مصر والعالم الإسلامي فى براثن الاستعمار ومزقت الديار الإسلامية شر ممزق بسبب سريان الضعف والهوان فى كيان الأمة الإسلامية فأغمضت الحكومات والشعوب أجفانها وغطت فى نوم عميق وسيطر الاستعمار وعملاؤه فخبت روح الجهاد وانطفأ حماس المسلمين الذى كان يتوقد حمية وشوقا حينما يعلن خليفة المسلمين الجهاد فى سبيل الله وغدت الانتفاضات ضد الاستعمار تصطبغ بصبغة القومية أو الوطنية أو الدفاع عن تراب الأرض وسيطرت الروح العلمانية على الأحزاب المصرية باستثناء الحزب الوطني إبان حياة الزعيم مصطفى كامل، وحزب مصر الفتاة ومن ثم صمت صوت الجهاد فى سبيل الله وضنت الأمة بحياة ودماء أبنائها دفاعا عن دين الله وما سقط خلال الانتفاضات الشعبية كان تحت رايات الحزبية الوطنية.
وحينما ظهر الإخوان المسلمون وتبلورت أهدافهم أيقظوا فى الأمة روح الجهاد فى سبيل الله وكان من شعارهم: الجهاد سبيلنا والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا،
ولقد ترجم هذا الشعار عمليا من خلال التربية والإعداد الجيد للجوالة والكشافة والكتائب كما سبق فى كتاباتهم عن الجهاد فى سبيل الله .
وترجم هذا الفكر عمليا من خلال المعارك التى خاضها الإخوان فى فلسطين من منطلق الجهاد والاستشهاد، وضربوا أروع الأمثلة فى التضحية والبذل مما لفت الأنظار إليهم وتوجس أعداء الإسلام منهم خيفة،
ولم يكن جهاد الإخوان فى فلسطين مقصورا على الجبهة المصرية فقط بل كان يشمل الجبهات العربية ففي الأردن كان الإخوان يجاهدون تحت قيادة عبد اللطيف أو قورة وفى سوريا بقيادة المرحوم مصطفى السباعي واو ذهبنا نجلو حقيقة جهاد الإخوان فى فلسطين لطال بنا المقام.
ولقد كتب الأستاذ إسماعيل الشريف كتابا بعنوان " الإخوان المسلمون وحرب فلسطين" سجل فيه جهاد هذه الجماعة التى انفردت به دون سائر الجمعيات ولقد كان للإخوان دور نضالي ضد الاستعمار الإنجليزي بدأ منن فجر الدعوة أثناء وجود الإمام حسن البنا فى الإسماعيلية،
ولقد وضع رحمه الله دعاء يتلى عقب الصلوات يبين مدى هذا العداء:
- " اللهم رب العالمين وأمان الخائفين ومذل المتكبرين وقاصم الجبارين تقبل دعاءنا وأجب نداءنا وأنلنا حقنا ورد علينا حريتنا واستقلالنا اللهم إن هؤلاء الغاصبين من البريطانيين قد احتلوا أرضنا وجحدوا حقنا فى البلاد وأكثروا فيها الفساد اللهم فرد عنا كيدهم وفرق جمعهم وخذهم ومن ناصرهم .. اللهم واجعل الدائرة عليهم وأذل دولتهم وأذهب عن أرضهم سلطانهم ولا تدع لهم سبيلا على أحد من المؤمنين".
ولقد اقترن هذا الدعاء بالكفاح المسلح ومقاومة مدارس التبشير وتطور هذا الجهاد لا سيما إبان إلغاء معاهدة ( 1936 عام 1951م ).
واستطاع الإخوان أن يقلقوا مضاجع الإنجليز فى القناة مما جعلهم يرصدون مكافآت لمن يرشد عن قادة الفدائيين أمثال المرحوم الشيخ محمد فرغلى ويوسف طلعت اللذين أعدما عام ( 1954 م ).
وبجانب الجهاد فى ميادين الوغى وساحات الاستشهاد فلقد كان لهم دور بار فى الصدع بكلمة الحق وهذا أسمى أنواع الجهاد ونالوا بسببه ما لم تنله جمعية دينية أو هيئة إسلامية وقدموا فى ميادين الجهاد بالنفس والكلمة: " مائتين وثلاثة وستين شهيدا فى فلسطين والقناة، وأحكام الإعدام وواحدا وسبعين ألف معتقل فى أعوام ( 48، 54، 65).
هذه آثار انفرد بها الإخوان دون سواهم من الجمعيات الإسلامية المعاصرة.
رابعا: أثر الإخوان على النهضة الإسلامية فى العالم العربي والإسلامي:
لم تكن دعوة الإخوان مقصورة على مصر فحسب بل تجاوز أثرها إلى العالم العربي والإسلامي وأصبح لها فى كل قطر دعوة وفى كل بلد رجال ويرجع انتشار أمرها على رعاية المركز العام بالقاهرة للطلبة المسلمين الذين يدرسون بمصر فلقد مد الإخوان يد المعونة إلى هؤلاء الطلاب الذين كانوا نواة لفكر الإخوان فى بلادهم فضلا عن اتصالات الإمام البنا بزعماء العالم الإسلامي ورجالات الفكر والنهضة فى هذه الأمصار.
فلقد اتصل رحمه الله بالسنوسيين فى ليبيا بواسطة المرحوم عبد الرحمن عزام أول أمين للجامعة العربية.
كما قامت مراسلات بين الإخوان والمفكر والمجاهد الجزائري عبد الحميد ابن باديس الذى كان يتزعم مقاومة الاحتلال الفرنسي.
كذلك اتصلوا بالمجاهد المغربي علال الناسى فضلا عن اتصالاتهم بمفتى فلسطين المرحوم الشيخ أمين الحسيني.
وفى عام ( 1348 هـ ) جاء إلى القاهرة السيد / محمد زيادة العامل اليمنى والتقى والمرحوم البنا واستمرت بينهما المراسلات كما كان للإخوان مساهمة فعالة فى ثورة ابن الوزير على الإمام يحيى حميد الدين باليمن عام ( 1948 م ) حيث سافر المرحوم عبد الحكيم عابدين والفضيل الوردانى إلى اليمن خلال قيام الثورة وحينما فشلت الثورة كرا راجعين إلى مصر.
كما انتقلت الدعوة إلى العراق عام ( 1941 م ) حينما انتدب للعمل بالعراق الأستاذ محمد عبد الحميد أول طالب جامعي انضم للإخوان المسلمين واستطاع هذا الرجل أن ينقل فكر الإخوان للعرق.
وفى [سوريا] والأردن تكونت شعب الإخوان بقيادة الأستاذ مصطفى السباعي فى سوريا والحاج عبد اللطيف قورة بالأردن.
وامتد نشاط الجماعة إلى السودان فأسس أول فرع بها عام ( 1946 م ) إثر تنصير فتاة مسلمة على يد الإرسالية الإنجليزية بأم درمان، ثم توالى إيفاد مندوبين من قبل المركز العام للسودان حتى أصبح فى السودان خمس وعشرون شعبة.
ولقد كان لأداء المرحوم البنا فريضة الحج عام ( 1946م ) والتقائه ووفود المسلمين من أنحاء العالم الإسلامي أثر مهم فى نشر دعوة الإخوان عبر العالم الإسلامي وما زالت الدعوة تعيش فى وجدان الكثير من الشعوب العربية والإسلامية وكلما ضيق عليها الخناق فى مكان تنفست الصعداء فى مكان آخر وجمعت من حولها الأنصار والأعوان فعلى الرغم مما نزل وينزل بهم فى كل قطر فإنهم ما زالوا يتصدرون العمل الإسلامي ويقودون حركة الإصلاح الديني والاجتماعي بخلاف الجمعيات الإسلامية المعاصرة والتي لا يتجاوز أثرها خارج مصر إلا قليلا.
خامسا: أثر الإخوان فى الحياة الأدبية:
اتصف الأدب خلال القرن الرابع عشر بصفات انحرفت بالكثير منه على الإباحية والانحلال وراج الأدب الساقط وغدا النثر والشعر والكتابات الأدبية تثير الغرائز وتشجع على الانحراف، يزكى هذا أجهزة إعلام تنمى الأدب الهابط والفن الرخيص تحت عناوين الحرية والانطلاق التقدم،
واستشرى هذا المستنقع الآسن اللهم إلا من ومضات مشرقة أضاء بصيصها الأزهر الشريف بعلمائه وأدبائه الذين ذادوا عن حياض اللغة العربية وأمسكوا بتلابيب الفصحى لكي لا تنحدر إلى العامية الركيكة،
ونموا الإحساس المرهف وترفعوا عن الأدب الساقط ولكن هذا الجهد لم يصمد أمام أدب الجنس وعوامل الإغراء فى الأجهزة المرئية والمسموعة والمقروءة.
ولقد نزل الإخوان إلى الساحة الأدبية بمفهوم إسلامي يجمع بين قوة الإيمان وفصاحة البيان وعفة اللسان فاتسم دعاتها بالأسلوب الأدبي الرفيع والتعبيرات اللغوية بفنونه المختلفة ليخدم القضايا الإسلامية ففى مجال الشعر والشعراء نجد ينبوعا فياضا من الشعر الإسلامي لا سيما ما قيل خلال فترات المحن ومن ذلك قصيدة الدكتور يوسف القرضاوى عقب خروج الإخوان من معتقل الطور عام ( 1950 م ) وما جاء فيها:
قالوا السجن قلنا : شعبة فتحت ليجمعونا بها فى الله إخوانا
قالوا إلى الطور قلنا جاء مؤتمر
- فيها تقرر ما يخشاه أعدانا
فهو المصلى نربى فيه أنفسنا
- وهو المصيف نقوى فيه أبدانا
حرموا التجمع منا فوق أربعة
- ضموا الألوف بغاب الطور أسدانا
ومن الشعر الذى يصور اللحظات الأخيرة فى حياة شهيد لفظ أنفاسه تحت وطأة التعذيب يقول الشاعر صلاح الصاوى:
لهفي عليه وقد أريق على الثرى
- لزمى يضوع منه شذاه
لهفي على الجسد الطهور وقد هوى
- مترنحا وتثاقلت جفناه
وتجمدت فى حلقه الكلمات دا
- مية وتاهت فى الفضاء رؤاه
وسؤله والموت فى أوصاله يسـ
- وتغتال المنون قواه
رباه دينك أنت إن لم ترعه
- فمن الذى بين الورى يرعاه
وللأستاذ المرحوم سيد قطب ديوان الشاطئ المجهول، وللأستاذ عبد الحكيم عابدين رحمه الله ديوان بعنوان " البواكير" وفى مجال ا لقصة نجد مؤلفيهم يترفعون بالقصة عن الإسفاف وإثارة الغرائز واتجهوا بها اتجاها إسلاميا يحرك المشاعر ويوقظ الوجدان ويعمق الإيمان ولقد نشر العديد من القصص ومن ذلك قصة ( القابضون على الجمر) لمحمد أنور رياض، وللمرحوم الأستاذ سيد قطب عدد من القصص الهادف مثل ( المدينة المسحورة) ، و( طفل من القرية)، و ( أشواك) ، فضلا عن نشر مجموعات من القصة القصيرة من خلال حياة الصحابة رضوان الله عليهم ومواقف الجهاد عبر مسيرة التاريخ الإسلامي.
كما نجد من أهم الآثار سيطرة الروح الأدبية فى الكتابات الدينية ، يلاحظ هذا فى كتابات المرحوم سيد قطب لا سيما الظلال وكتابات الشيخ محمد الغزالي ومن خلال رسائل الإمام حسن البنا كذلك لا ينكر أثرهم على فن الخطابة حيث كان منهم الخطباء الموهوبون الذين ملكوا نواصي القلوب، مما سبق يتضح أثر الإخوان على النهضة الأدبية.
سادسا: أثر الإخوان فى وضع تصور للمجتمع المسلم: كاد المجتمع المسلم يفقد معالمه منذ الحملة الفرنسية على مصر وإحلال القانون الفرنسي محل الشريعة الإسلامية فى عهد الخديوي إسماعيل وسيطرة صنائع الاستعمار والاستشراف على مقاليد الأمور،
ولم يسمع فى مصر صوت جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده ولم يعط أحد من المفكرين الإسلاميين صورة للمجتمع المسلم سياسيا واجتماعيا واقتصاديا فأبعد الإسلام عن واقع الحياة وما زالت فئة حتى الآن تزعم أنه ليس لدى علماء الإسلام تصور واقعي يعيد صياغة المجتمع المسلم وفق أسس الإسلام وهذا ما نطق به أحد زعماء اليسار فى مصر بحيث قال: " نحن الآن عام ( 1982م ) فى الساحة المصرية هل هناك برنامج سياسي مطروح اسمه البرنامج الإسلامي تتبناه الجماهير ويدافعون عنه ويقاتلون من أجله هل هذا موجود وطرح على الناس؟ " .
وهذا من المغالطات التى يستهدف منها نشر أفكار الإلحاد بحجة عدم وجود تصور محدد للمجتمع المسلم وللرد على هذا الزعم ونظائره .
نقول : إن من أبرز آثار الإخوان المسلمين أنهم وضعوا تصورا فكريا ومنهجا عمليا وتربويا لتكوين الأمة الإسلامية يتضح هذا من خلال فكر الإخوان ورسائل الإمام البنا إلى الملوك والرؤساء العرب ورؤساء الوزارات.
ومن ذلك رسالته التى بعنوان.. " مشكلاتنا فى ضوء النظام الإسلامي" ورسالته الشهيرة عام ( 1366م ) إلى الملك فاروق ودولة مصطفى النحاس بعنوان " نحو النور" التى أوضح فيها معالم المجتمع المسلم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وكان هذا هدفا من أهداف الإخوان المسلمين مما خلق رأيا عاما إسلاميا يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية وإن الإسلام هو المصدر الرئيسي للقوانين ،
ولا يجحد أن الكثير من المد الإسلامي المتدفق والشعور الديني الفياض هو ثمرة من ثمرات غرس الإخوان.
مما سبق تتضح الآثار الإيجابية لحركة الإخوان المسلمين على مسيرة الدعوة والدعاة خلال القرن الرابع عشر الهجري.
المبحث السادس الإخوان فى الميزان
من خلال موضوعات هذا الفصل الرابع اتضح فكر الإخوان وتبلورت أهدافهم وبرزت أسس تكوين الدعاة من الوجهة التربوية ثم انتهى المطاف فى المبحث قبل الأخير عن الآثار الإيجابية لدعوة الإخوان المسلمين وحينما يتعرض الكاتب لجماعة الإخوان بالتقييم الموضوعي فإنه يجد نفسه فى خضم مترامي الأطراف بين كتابات المغالين فى تقديرها والمفرطين فى الحقد عليها والحقائق دائما تحجب بين هؤلاء وهؤلاء .
ولهذا ضربت عن آرائهم صفحا خاصة تلك الكتيبات المغرضة التى لم تشرح الحقيقة وكان الدافع وراء هذه الكتابات مرضا فى القلوب وهوى فى النفوس وتزلفا لذوى السلطان، ومن ثم فإن التقييم يحتاج على التجرد والحيدة، والأناة وألا يقصد بالنقد ذم ولا مدح ولا انتقاض ولكن يقصد به وجه الله تعالى وأن تستقيم به مسيرة الدعوة ويرتفع لواؤها فى العالمين. ونستطيع أن نوجز الملاحظات التالية:
أولا: الانشقاق بين صفوف الإخوان:
كانت الدعوة فى بداية أمرها متحدة الصف متفقة فى ألأسلوب والهدف تسير بخطى حثيثة نحو الإصلاح الديني والنهوض بالمسلمين ،
ولكن ما لبث أن دب إليها الداء والمرض العضال... إنه التفرق والاختلاف وظهر هذا واضحا فى عنفوان مجدها وازدهار أمرها وكاد هذا الاختلاف يصدع البناء الداخلي للجماعة وكان تمهيدا للانقضاض عليها من الخارج ودون الخوض فى التفاصيل فقد بدأ الخلاف بين الرعيل الأول وذلك حينما نشب خلاف بين بعض الإخوان فى الإسماعيلية قبيل انتقال الإمام البنا للقاهرة بسبب اختياره نائبا عنه وكان يعمل نجارا فتصدى لهذا أحد الشيوخ الذى رأى نفسه أحق بهذا وحدث خلاف نقل إلى ساحة القضاء.
وفى القاهرة نشبت على مدار تاريخ الجماعة عدة خلافات ومن ذلك ما يلي:
1- انشقاق الأستاذ أحمد رفعت بسبب النقاط التالية:
- أ – يرى أن الإخوان تجامل الحكومة وتتبع معها سياسة اللف والدوران ويجب أن يواجهوا الحكومة بالحقيقة التى أقرها القرآن فى قوله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".
- ب- موضوع المرأة : ويعترض على إبداء النصح فقط ويرى أن يوزع الإخوان أنفسهم على شوارع القاهرة والتصدي لكل امرأة متبرجة.
- ورغم الشطط والغلو فى بعض هذه الآراء فإن هذا كان بداية التصدع، حتى إن المركز العام توقف النشاط به وانقطع جميع الإخوان عنه.
2- فى عام ( 1939 م ) حدث انشقاق آخر لجماعة تعجلت الحوادث وسمت نفسها " جماعة شباب محمد" صلى الله عليه وسلم والتي بدأت تكيل الاتهامات للجمعية الأم وللمرشد العام.
3- انشقاق الأستاذ أحمد السكري وكيل الإخوان المسلمين والصديق الحميم للإمام البنا وانضمامه لحزب الوفد ومهاجمته للإخوان والمرشد العام فى جريدة صوت الأمة، مثل هذه الانشقاقات انحرفت بالدعوة عن هدفها الأسمى وغاياتها المحمودة ودفعت بها إلى مزالق الأهواء الشخصية والمنافع الذاتية واستنفدت الكثير من جهد الإخوان وطاقاتهم وتركت صدعا فى البناء عملت الأحزاب والقوى المعادية على توسعته فنشرت صحف الوفد تحت عناوين ( هذه الجماعة تسقط) ، ( هذه الجماعة تهوى) مما مهد للانقضاض عليها بقرار الحل عام ( 1948م ) واغتيال البنا عام ( 1949م).
4- وفى أوائل الخمسينيات انشقت جماعة أخرى منها الشيخ محمد الغزالي والشيخ سيد سابق للاختلاف حول أسباب الدعوة حينذاك.
5- وأخيرا عام ( 1965م ) حدث انقسام داخل المعتقل تزعمه شكري مصطفى بآرائه المتطرفة وكان هذا نواة لتلك الجماعات التى اشتطت فى تفكيرها وغالت فى آرائها مما سنعرض له فى الباب الثالث إن شاء الله.
ثانيا: الجنوح بالدعوة إلى المعترك السياسي والحزبي:
اتسمت الدعوة إبان بدايتها عام ( 1347هـ - 1928م) بالإصلاح الديني والاجتماعي ثم ما لبث الإخوان المسلمون أن نزلوا إلى المعترك السياسي ومزاحمة الأحزاب وذلك منذ عام ( 1938م) وإن كان هذا الفكر لا أعترض عليه فمن بديهيات الإسلام أنه دين ودولة وعقيدة وشريعة ولكن ما يعترض عليه:
نزول الإخوان إلى مستوى المهاترات والخصومات بينهم وبين الأحزاب تارة والقصر تارة أخرى .. مرة يطلب القصر ودها ويستقبل الملك مرشدها وأحيانا الوفد يبسط لها جناح الود لتساعده فى مواجهة الملك والانجليز.
ثم اتسعت دائرة الصراع السياسي فشملت معظم الأحزاب ونزل الإخوان إلى مستوى من الهجوم مما ينأى عنه أدب الدعوة والدعاة، ومن ذلك ما نشر فى مجلة النذير فى ( 25 سبتمبر1938م) تهجو حزب الوفد بما لا يليق ومثال ذلك: قوم إذا صفع النعال وجوههم شكت النعال لأي ذنب تصفع ولم يسلم حزب من الأحزاب من مناوأة الإخوان له فضلا عن تسيير المظاهرات التى يندس فى وسطها الغوغاء وتضع الإخوان موضع الاتهام والمساءلة واشتد الصراع حينما أخفق مرشحو الإخوان فى الانتخابات العامة ولقد تناول هذا بالتفصيل الدكتور زكى البيومى فى رسالته " الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية فى السياسة المصرية".
هذا وإن الخوض فى المناحرات الحزبية ابتعد بهم بعض الشيء عن الاتجاه الديني والاجتماعي واتخذ هذا ذريعة لإلقاء التهم واللوم عليهم وتوجس الكثير منهم خيفة ومن ثم كان حل الجماعة فى عام (1948م ) واغتيال البنا فى عام ( 1949م ) ومحنة ( 1954 ، 1965م).
ولقد فطن المرحوم حسن البنا على مغبة الزج بالدعوة فى ساحة الأحزاب المصرية المتطاحنة فكتب رسالة له بعنوان" دعوتنا فى طور جديد" أبرز فيها الجانب الروحي والأخلاقي إبرازا قويا وأشار على الجانب السياسي إشارة عارضة ونستطيع أن نقول : إن الإخوان قد جانبهم الصواب فى الإصلاح السياسي واعتراهم ما اعترى جمال الدين الأفغاني من الإخفاق.
ثالثا: الدعوة لتحقيق الأهداف بالقوة:
إن المنطلق الذى تنطلق منه الدعوة الإسلامية قوله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هى أحسن ".
والدعوات فى إبان عهدها ينبغي أن تبتعد عن التلويح بالقوة والعنف حتى يؤمن جانبها ولا يظن بها الظنون لا سيما فى هذا العصر الذى غدا فيه الدعاة كالأيتام على مائدة اللئام وكان الأحرى بالإخوان أن يبتعدوا عن كل ما يشتم منه اللجوء للعنف لكيلا يكون هذا ذريعة للانقضاض عليهم ولكن ما حدث خلاف هذا .
فما كادت دعوتهم ينتشر أمرها والشعب تكاد تغطى القطر المصري بل تجاوزته كما سبق حتى بدأ التلويح بالعنف والوعيد بالقوة فأوجس أولو الأمر منهم خيفة،
قال حسن البنا: " إن الإخوان المسلمون سيستخدمون القوة العملية حيت لا يجدي غيرها وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان وهم حين يستخدمون القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولا وينتظرون بعد ذلك ثم يقدمون فى كرامة وعزة ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضا وارتياح" ولقد وصل الأمر بالتلويح باستعمال القوة على تحديد الوقت الذى يمكن فيه استخدامها فقال حسن البنا رحمه الله : " وفى الوقت الذى يكون فيه منكم معشر الإخوان المسلمين ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسيا وروحيا بالإيمان والعقيدة وفكريا بالعلم والثقافة وجسميا بالتدريب والرياضة فى هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحار وأقتحم بكم عنان السماء وأغزو بكم كل جبار فإني فاعل إن شاء الله".
قد يقال: إن هذا الكلام ونظائره من باب إذكاء الحماس وإيقاد العواطف والغيرة نحو الإسلام وربما كان هذا الكلام صحيحا، ولكن اقتران هذا القول بالعمل فى الكشافة والجوالة والكتائب ثم تكوين الجهاز السري بقيادة عبد الرحمن السندى وبروزه على رأس هذا الجهاز كقوة تناوئ الإمام البنا وتفرده ببعض الأعمال التى لم يقر البنا الكثير منها، كذلك مما نمى الشعور باستعمال القوة تلك الاستعراضات بشباب الإخوان فى الميادين العامة وخلال المظاهرات فضلا عن تورط عدد من الإخوان فى بعض حوادث الاغتيالات والعنف مما ساعد على تنمية الشعور بأن الإخوان يعملون لقلب نظام الحكم ،
رغم إصرار الإمام البنا فى رسائله على نفى هذا – مما كان سببا لما حل بهم خلال تاريخ الجماعة وكان من المفروض على جماعة الإخوان أن تستفيد من جراء الإشارة باستخدام القوة من بعد المواجهة الأولى عام ( 1948 م ) غير أنهم لم يعوا الدرس جيدا فما يكاد يسمح لهم بمزاولة نشاطهم إلا عادوا بنفس الأسلوب مما جعلهم عرضة للاتهامات وكما قيل: إن كل بيت من الشعر قيل فى مدح الخمر نسب على ابى نواس وإن لم يكن هو قائله وكل نادرة تنسب على جحا وإن لم ترو عنه" وكذلك فإن جل ما ألصق بالإخوان من اتهامات مرده على التوسل بالقوة والوعيد باستخدام العنف.
رابعا: التسرع لتحقيق الأهداف:
بعد أمد طويل من الضعف والانحلال والتدهور الذى أصاب الأمة الإسلامية خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر حتى أطلق على الخلافة الإسلامية " الرجل المريض " سارعت قوى الاستعمار تجهز على هذا الجسد الواهن لتتقاسم ميراثه وارتفعت صيحات تحذر وتنذر بالخطر ولكنها ذهبت أدراج الرياح.
حتى جاء الإخوان المسلمون فوضعوا المنهاج التربوي الفكري والعملي مما سبق ذكره.
وكان توفيق الله يصاحبها فى خطواتها كما وكيفا فى مجال الدعوة الإسلامية ومنهج التربية الذى وضع غرسه الإمام البنا، ولكي يؤتى ثماره يحتاج إلى جيلين أو ثلاثة أجيال لتعميق الفكرة فى وجدان الأمة ولتوجيه الرأى العام لتطبيق شرع الله خاصة أن أعداء الإسلام منذ الحروب الصليبية هو يخططون لإضعاف الإسلام واحتلال دياره واحتواء شعوبه، ولقد نجحوا فى هذا حتى غدا الفكر الإسلامي غريبا عن أهله وشرع الله وحدوده يكاد لا يعرف عنهما شيء مما جعل النظر لكل نهضة إسلامية أو حركة دينية تقوم على التوجس والخيفة ووأدها فى مهدها.
وكان يجب على الإخوان المسلمين السير بخطى حثيثة وفى هدوء وأن ينأوا بجماعتهم عن التيارات ولكنهم لم يفعلوا كما سبق بل تعجلوا النتائج وتسرعوا فى اقتطاف الثمرة وسط جو مكفهر بالاستعمار وعملائه والحكم وجبروته فأسقطت الثمرة قبل أوان نضجها ثم جرت محاولات غرس الفكرة حينما سمح لها رسميا بهذا إلا أنها غرست بنفس الأساليب السابقة ولم يع الخوان درس التجارب فى حقبة الأربعينيات فكان الإجهاض فى أعوام ( 1954، 1965 ، 1081 م ) مما كان سببا لتصدع الجماعة واتخذ هذا ذريعة لضرب التيار الإسلامي وإزهاقه، هذه الملاحظات التى ذكرت فى مجال النقد البناء لجماعة الإخوان والتي كانت سببا لفرض الرقابة والقانون رقم ( 66 لسنة 1951م) ،
والقانون رقم ( 834 لسنة 1956 م ) ، ثم القانون رقم ( 32 لسنة 1964 م) ولكي يأمن من يتوجسون خيفة من التيار الإسلامي فلقد أسندت رئاسة بعض الجمعيات والهيئات الإسلامية لأناس ليسوا من أرباب الدعوة مما حدا ببعض الشباب لتكوين جمعيات سرية بعيدة عن هيمنة هؤلاء مما سأوضحه إن شاء الله فى الباب الثالث والله أعلم.
الباب الثالث الفكر المتطرف
أسبابه – آثاره – واجب الدعاة نحوه
لقد اتضح خلال الباب الثاني فكر بعض الجمعيات الإسلامية التى كانت لها صفة رسمية زهاء نصف قرن أو يزيد وأبرزت آثارها إيجابا وسلبا على مسيرة الدعوة، وإنه لمن موجبات البحث أن نتعرض لبعض الأفكار التى اتسمت بالغو والتطرف لا سيما بين الشباب المثقف فإن هذه القضية من أهم القضايا التى تواجه الدعوة وترجع خطورة هذه القضية على الأبعاد الخطيرة التى تنجم عنها والتي حددها بعض الباحثين فيما يلي:
1- البعد الأول:
- ما يصيب المجتمع وأبناؤه ونظمه ومؤسساته من تعرض لآثار العنف الذى يصل فى حده الأقصى على درجة الهدم والتخريب الجماعي وما يصاحب هذا من هزات نفسية فى ضياع الأمن واهتزاز الاستقرار وانفتاح الباب لما لا يعلمه إلا الله من احتمالات الفوضى ومخاطر المجهول.
2- البعد الثاني:
- ما يصيب الشباب نفسه من محنة تزهق فيها أنفس وتراق دماء ويفجع فيها آباء وأمهات وتختلط على الآلاف فيها معالم الطريق وتصاب حولهم ملايين أخرى بالحيرة واضطراب الرؤية والضياع.
3- البعد الثالث:
- ما يصيب الدين فى كثير من النفوس من اهتزاز وما يؤدى إليه هذا العنف والصدام المتكرر بين فريق من المتدينين والدولة من الاعتقاد بوجود نوع من الحتمية بين الدخول فى طريق التدين والدعوة إلى الإسلام وبين الوصول للنهايات المحزنة.
- وهو اعتقاد من شأنه أن يلقى ظلالا مؤسفة من الشك وسوء الظن بالمتدينين عموما وأن يضعهم فى موضع نفسي واجتماعي شاذ متهمون حتى يثبتوا براءتهم.
- ورغم هذا فإن الكتاب والبحثين لا يتعرضون لهذا الفكر إلا إذا تعرض المجتمع لبعض مظاهر العنف فيناقشون أصحابه بين أقبية السجون والمعتقلات حينا وفى الندوات العامة حينا آخر، ثم تطوى صفحات التطرف والمتطرفين دون علاج حاسم ورأى سديد ،
- ولا تفتح ملفات هذا الفكر إلا على أصوات عنف جديد فيشارك فى الإدلاء بالرأي من يعي مشاكل الدعوة والشباب ومن لا يعيها ومن له بالإسلام صلة ونسب ومن لا صلة له بالإسلام سوى الاسم فقط، لذا رأيت أن أفرد هذا الباب لتلك الدراسة الموضوعية التى تحتوى على الفصول التالية:
الفصل الأول أسباب التطرف ومظاهره
هذا الفصل يتضمن موضوعات ثلاثة هى ما يأتي:
اليقظة الإسلامية بين الشباب:
- إذا ما أريد للأمة الإسلامية أن تتبوأ أزمة القيادة والريادة كما أراد الله لها وكما جاهد الرسول صلى الله عليه وسل وأصحابه رضوان الله عليهم من أجلها فلابد أن تعتمد على قاعدتين أساسيتين:
القاعدة الأولى:
- عقيدة تؤمن بها وإسلام تحافظ عليه وشرع الله تطبقه.
القاعدة الثانية:
- شباب يصون هذه العقيدة ويحييها ويرفع لواءها ويسترخص المهج والأرواح فى سبيلها.
فالعقيدة والشباب بينهما ترابط وثيق وازدواج كامل ولا يمكن الفصل بينهما.
والعقيدة بلا شباب نصوص تردد وتراث يحفظ وكلمات تلوكها الألسنة ليس لها فى دنيا الناس حياة، والشباب بلا عقيدة قوة طائشة وكيان متآكل ومتهدم لا يعرف له وجهة وليس له ولاء للدين أو الوطن.
هذا ولقد أتى على الشباب حين من الدهر خلال العقدين الخامس والسادس من القرن الرابع عشر الهجري فضل الطريق وتنازعه الأهواء وتلقفته أيد خبيثة وعقول ماكرة من شيوعية ملحدة وصهيونية غادرة وقادرة وصليبية حاقدة، فضلا عن أجهزة إعلام لم تحسن الرعاية والتوجيه الإسلامي .
فأفرغت عقول الشباب من الدين فأصبح التدين رجعية والإسلام جمودا والإلحاد تحررا والعبث بالمقدسات انطلاقا والانغماس فى الرذيلة مدنية وتطورا،
وأريد لهذا الشباب أن ينضوي تحت شعارات جديدة وبراقة وكان يدفع به ليهتف " شباب جيل جديد – حرية – اشتراكية وحدة ولكن ما لبث هؤلاء الشباب أن استيقظوا على الحقيقة المؤلمة وهى :
أن ما ألقى فى روعهم كان سرابا خادعا لم يسفر عما يجيش فى صدورهم من آمال عراض فها هى ذي الأوطان تحتل والهزائم تتوالى، والحرية تسجى والوحدة العربية تنفصم عراها والأزمات الاقتصادية تشتد وطأتها ولم يحصد الشباب سوى الندامة وخيبة الأمل ومن ثم استيقظ من داخله داعي الإسلام يأخذ بيده وسط الركام والحطام وكان الشباب بين الأمواج الهادرة المتلاطمة يمد يده لمن ينشله قبل أن يغرق ولكنه لم يجد اليد الحانية التى تنشله من وهدة الانحراف وتضعه بين ظلال الإسلام وهدى القرآن وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يعثر على ا لدعاة الصادقين المخلصين ليضيئوا له الظلمات فلم يجد بدا من تكوين جماعات إسلامية بين أروقة الجامعات ومن أوائل هذه الجماعات.
جماعة شباب الإسلام بكلية الهندسة جامعة القاهرة:
أسست فى نوفمبر عام ( 1972 م ) ثم انتشر التيار الإسلامي فى معظم الجامعات المصرية فأصبح لكل كلية جماعة إسلامية نشطة،
ولقد نجحت تلك الجماعات فى الميادين التالية:
- 1- الالتزام بالسنة والتأديب بأدب النبوة فى السلوك والمظهر.
- 2- إحياء سنن إسلامية كادت تندثر كصلاة العيد فى العراء وسنة الاعتكاف، والسواك واقتفاء السنة فى العبادات وتجنب البدع والخرافات.
- 3- تطويع الأنشطة الطلابية فى الجامعات للخير العام ومن ذلك طبع الكتب والمذكرات الجامعية وإقراض الطلاب الفقراء وطباعة سلسلة من الكتيبات الإسلامية بسعر فى متناول أيدي الطلبة والطالبات.
- 4- إنشاء المعسكرات الإسلامية التى تختلف عن المعسكرات الترفيهية التى كانت تبتعد عن الخلق الإسلامي.
- 5- إقامة أسابيع إسلامية يحاضر فيها الدعاة، وتعرض فيها الكتب الإسلامية.
- 6- انتشار الحجاب حيث استجابت الفتاة الإسلامية لداعي الإسلام فتركت التبذل والسفور بعد طول عهد به وترويج له منذ مطلع القرن الرابع عشر الهجري.
- 7- استطاعت الجماعات الإسلامية أن تتصدى للفكر الشيوعي ولدعاة العلمنة والتغريب الذين تربوا على موائد الاستشراق والتبشير.
- 8- نجحت تلك الجماعات فى تنمية الشعور الإسلامي وخلق رأى عام إسلامي مستنير بين أروقة الجامعات فى فترة وجيزة لم تحققه العديد من الجمعيات الإسلامية التى طال عمرها وعملها فى حقل الدعوة.
غير أن هذه الجامعات كان ينقصها القيادة الواعية والخبرة والتريث، وكان الواجب على دعاة الأزهر وأجهزة الإعلام أن يسارعوا إلى الشباب ليوجهوهن إلى الخير ولكنهم تركوا الشباب يندفع بقوى وتهور فاتجهوا إلى النقد اللاذع والتهكم الصارخ والتطاول على السلطة فضلا عن بعض الأعمال التى اتسمت بالتسرع والاندفاع مما أدى إلى تقييد أنشطتها ، ثم وصل الأمر إلى إلغائها مما دفع بعض الشباب إلى الانتماء لجمعيات سرية كانت تباشر نشاطها خيفة واستتارا.
ومن أشهر تلك الجماعات جماعة أطلق عليها " جماعة التكفير والهجرة" وأطلقت على نفسها الجماعة المؤمنة أو جماعة المؤمنين ثم وجد على ساحة الدعوة جماعات كثيرة كجماعة الجهاد والتبليغ، القطبيين ، الفرماوية مما يعجز عنه الحصر.
بعد هذا العرض الموجز لنشأن الجماعات الإسلامية بين أروقة الجامعات فإن من موجبات هذه الرسالة أن نقف على أسباب التطرف الذى يؤدى إلى ظاهرة العنف وإراقة الدماء لا سيما أن هذه الظاهرة فى نمو واطراد فبينما كان المشتركون من الشباب فى قضية العسكرية عام ( 1974 م) عددا قليلا يتضاعف هذا العدد فى قضية التكفير والهجرة عام )( 1977 م) ثم يصل فى عام ( 1981م ) إلى ما يربو على الألفين ممن انطبق عليهم قرار التحفظ والاعتقال.
وهذا نذير للدعاة لكي يتحركوا ( لا سيما كليات الدعوة) لدراسة تلك الظواهر وأسبابها وطرق احتوائها.
وإنني إذ أتجه لهذا بتوفيق الله فإنما أضع اللبنة الأولى فى مضمار الدراسات العليا لهذه الدراسة أملا أن يتجه الباحثون إلى هذا الميدان الذى ما زال بكرا رغم أهميته وخطورته.
أسباب التطرف:
قبل أن نذكر أسباب التطرف تبرز الأسئلة التالية:
- 1- لماذا يتجه الشباب لتكوين جماعات سرية رغم وجود جماعات رسمية فى ساحة الدعوة كالجمعية الشرعية وأنصار السنة، والشبان المسلمين؟
- 2- لماذا لا يتحرك الشباب المتدين فى ساحة تلك الجمعيات.
- 3- لماذا تنصرف جموع الشباب عنها بل ويضطر البعض للتورط فى جماعات سرية؟
أجاب عن هذا الأستاذ فهمي هويدى المحرر بجريدة الأهرام فقال:
- " إن استعراض قائمة المؤسسات الدينية فى مصر يكشف عن حقيقة بالغة التأثير فى فاعليتها وهى أنها فى مجموعها تحولت إلى مؤسسات قطاع عام كلها تتبع الدولة بصورة أو بأخرى بل إن بعضها يتولى قيادتها ضباط سابقون،
كلها صارت أجهزة رسمية بينما نشاطها الاساسى فى الشارع وسط الجماهير، ترتب على ذلك أن هذه المؤسسات تبنت دون اتفاق فكرا واحدا وشغلت نفسها بمخاطبة السلطة أكثر مما شغلت نفسها بالتحرك وسط الشباب بوجه خاص حتى أولئك الذين اتجهوا إلى الشباب ف‘ن بعضهم كان يستهدف استخدام هؤلاء الشباب لأدوار معينة لهذه الأسباب عجزت تلك المؤسسات أن تتحول إلى ساحة حوار يتضح بالفكر الديني يشد الشباب المثقف الذى يرفض السلبيات .
ثم يستطرد قائلا:
- لنصحح وضع المؤسسات الدينية ونعاملها بصورة تختلف عن معاملة المجمعات الاستهلاكية".
وبجانب ما ذكره الأستاذ فهمة هويدى بجريدة الأهرام ف‘ن هناك أسبابا عديدة تحول بين الكثير من الشباب وبين تلك الجمعيات الرسمية ومنها:
- 1- أن كل جمعية اهتمت ببعض الأمور دون أن تأخذ بعين الاعتبار كل القضايا الإسلامية.
- 2- الخلافات بين تلك الجماعات حتى إن كل جمعية تعتقد أن رأيها الصواب ورأى غيرها خطأ.
هذا وإن التطرف فى الفكر والغلو فى الرأي قد اختلف الباحثون فى توضيح أسبابه، فالبعض يرجعه إلى أمور اقتصادية كأزمة الإسكان وارتفاع أعباء المعيشة وعدم قدرة الشباب على الزواج .
وهذا السبب سطحي يبتعد عن لب المشكلة وجوهرها، فالشباب المتدين لا يأبه بمظاهر الحياة بل إن الكثير منهم لا يتكلف شططا فى ملبسه أو مسكنه حتى اقترانه بالزوجة يرهقه ماديا ولا نفسيا، والبعض يرجعه إلى العقد النفسية والانطواء.
يقول الدكتور جمال أبو العزايم : هناك مظهران من مظاهر الشخصية : انطواء وانطلاق والظاهرتان مرضيتان.
ويذهب إلى هذا الرأي الشيخ محمد زكى رائد العشيرة المحمدية فيقول : " بالبحث والتجربة ثبت ان الأكثرية الغالبة من أصحاب هذه الدعوة والمنضمين إليها مصابون بعقد نفسية وأزمات عصبية، وأنهم يجدون فى التشدد ومخالفة المجتمع والحقد عليه ما تطمئن إليه أزماتهم وعقدهم" ٍ
وهذا الرأي وسابقه يجانبهما الصواب فإن الشخص المعقد نفسيا والمنطوي لا يؤثر فى الآخرين ولقد نجح هؤلاء الشباب فى التأثير على الكثير وأصبح لهم أتباع ورواد عديدون.
ومن الآراء التى تبعد أسباب التطرف عن حقيقتها وواقعها ما يذكره الدكتور إبراهيم العدوى حيث يقول: " إن التطرف وافد علينا".
وهذا السبب والأسباب السابقة مجتمعة أسباب واهية فالمشكلة أعمق من هذا وأجل خطرا وإنني أرجع التطرف فى الفكر والغلو فى الرأي والجنوح عن حد الاعتدال واللجوء إلى العنف إلى الأسباب التالية:
أولا: التباطؤ والتسويف فى تقنين الشريعة الإسلامية وتطبيقها:
- منذ الغزو الفكري والاحتلال الأجنبي والشريعة الإسلامية بعيدة عن مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والتربوية ولقد أفلس الفكر الغربي والشيوعي فى تحقيق العدالة والأمن والرخاء،
- وباء دعاتها فى البلاد الإسلامية بالفشل الذريع وخرجت الشعوب من التبعية للشرق أو الغرب خاوية الوفاض صفر اليدين، ومن ثم أصبحت الشريعة الإسلامية محط آمال المسلمين أفرادا أو جماعات ومؤسسات ومع إلحاح الأمة فى المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية غير أننا نجد التسويف والمراوغة والتعلل بأعذار واهية والتذرع بأسباب مختلفة للحيلولة دون التطبيق الفوري،
- أو حتى على مراحل واكتفى فى هذا المجال باللجان تعقد والتوصيات تتخذ والقرارات تعلن والوعود والآمال حول تطبيق الشريعة تعلن بين كل آونة وأخرى ولكن مع وقف التنفيذ مما يثير حماس الشباب وغيرتهم وإذكاء عواطفهم لتطبيق الشريعة الإسلامية فيؤدى هذا إلى ثورة الشباب ويلجئهم إلى الثورة والعنف والتطرف بدعوى جدية ما يقال عن تطبيق الشريعة الإسلامية.
ثانيا: الفرق الشاسع بين مثالية الإسلام وأوضاع المسلمين:
- حينما يطالع الشباب المسلم تاريخ الإسلام لا سيما إبان حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلال تاريخ الصحابة وعبر التراث الإسلامي العظيم يجد البون شاسعا والاختلاف كبيرا بين هذا التاريخ المتألق فى عظمة وشموخ وواقع المسلمين المزري، حيث تنتشر المحرمات وتهتز القيم وتسوء العلاقات بين أبناء الأمة ويضرب الفساد أطنابه وتعمق جذوره فضلا عما نزل بالمسلمين من هزائم متوالية واقتطاع أجزاء من ديار الإسلام فى فلسطين ولبنان وأفغانستان وغيرها حتى غدا المسلمون كالأيتام على مائدة اللئام .
- ويتلفت الشباب فيجد دعاة العلمانية والإلحاد وأجهزة الإعلام نعابهم يصك الأذان وتبارك الانحراف من خلال قصص الحب وأفلام الهوى ومسلسلات الرعب، ومما يزيد الأمر سوءا استشراء الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي وظهور أصحاب الملايين من المغامرين وسماسرة السوق السوداء ويقارن هذا كله يقرؤه ويعرفه عن الإسلام فيصطدم وجدانه وتتمزق نفسه بين مثالية الإسلام وواقع المسلمين فيضيق ذرعا بهذا الواقع ويتبرم به ويثور عليه وقد يدفعه الحماس إلى العنف مستندا إلى بعض النصوص التى يساء فهمها والأدلة الشرعية التى لا يحسن فهمها فمن ثم يلجأ إلى التطرف والعنف.
ثالثا : تضييق الخناق على الدعوة والدعاة:
- إن المتتبع لمسيرة الدعوة الإسلامية خلال القرن الرابع عشر الهجري يجد محاولات إجهاض اليقظة الإسلامية كلما اشتد ساعدها وصلب عمودها ومن أشهر تلك المحاولات ضرب التيار الإسلامي النشط فى أعوام ( 1948 ، 1954 ، 1965م) ثم التحفظ على معظم العاملين فى الحقل الإسلامي عام ( 1981م) وحظر الجماعات الإسلامية فى الجامعات المصرية،
فضلا عما شهده بعض الدعاة من ألوان التعذيب فى غياهب السجون والمعتقلات وإن النواة الأولى للتطرف نشأت بين أقبية السجون عام ( 1965 م ) حينما زج بالآلاف بمجرد الشبهة والمظنة وكان من بين هؤلاء شكري مصطفى الذى عانى مما نزل به ومن معه من ألوان القهر والتعذيب فتطرف هو وجماعة معه وأعلنوا كفر الدولة لأنها سامتهم العذاب، وكفر الأمة لرضائها بهذا القد تمكن شكري مصطفى من أن يستقطب مجموعة من الشباب مما أدى إلى أحداث عام ( 1977م) الدامية وتم إعدام هذا الشاب وبعض رفاقه، وبين كل آونة وأخرى يصدر من القرارات ما يوغر صدر الدعاة ومن ذلك المادة ( 201 عقوبات من القانون 29 لسنة 1982 م ) .
والذي ينص على ما يلي: " كل شخص ولو كان من رجال الدين أثناء تأديته وظيفته ألقى فى بعض أماكن العبادة أو فى محفل ديني مقالي تضمنت مدحا أو ذما فى الحكومة أو فى قانون أو فى مرسوم أو قرار جمهوري أو فى عمل من أعمال جهات الإدارة العمومية، أو أذاع أو نشر بعض نصائح أو تعليمات دينية أو رسالة مشتملة على شيء من ذلك يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد على خمسمائة جنيه أو بإحدى العقوبتين".
فمثل هذا القانون يكمم أفواه الدعاة فلا يبدون نصحا ولا يقاومون منكرا بألسنتهم فتفتقر ساحة الدعوة من الدعاة ولن يبقى إلا من يتخذ الدعوة وسيلة للارتزاق .
وفى نفس الوقت الذى يضيق فيه على الدعاة نجد دعاة العلمانية والإلحاد ورجالات الفن والأدب الرخيص وبائعات الهوى يصولون فسادا ويجولون عبثا دون رقيب أو حسيب بل ينظر إليهم على أنهم القدوة حيث تحوطهم أجهزة الإعلام بهالة كاذبة من النفاق مما يوغر صدور الشباب ويثير حفيظتهم إلى التطرف.
والعنف لا يولد إلا العنف، وإن توجس الحذر والخيفة من التيار الإسلامي لهو من أهم أسباب العنف والتطرف وستتكرر ظاهرة الغلو والجموح كلما نظر إلى المد الإسلامي نظرة وريب. ومما يزيد الخوف لدى الشباب ما ينشر فى بعض الكتب والمجلات من وثائق خطيرة ضد الدعوة والدعاة ،
هذه الوثائق حينما يقرؤها المسلم حتى لو كان لا يحمل من الإسلام سوى اسمه فقط فإن الدم يغلى فى عروقه والغيظ يتملكه ويستيقظ فى الصدور غريزة البقاء وكوامن الفطرة " فطرة الإسلام" فتنتابه عوامل كثيرة تدفع به إلى التطرف والعنف ومن هذه الوثائق:
- 1- ما نشر فى مجلة الدعوة العدد الثاني والثلاثين صفر 1391 هـ عن تقرير للمخابرات الأمريكية يفصح بخطة جديدة لتصفية الحركات الإسلامية.
- 2- ما نشر فى كتاب الشيخ محمد الغزالي " قذائف الحق" عن وسائل غسل مخ الإخوان المسلمين عام ( 1965 م ).
- 3- ما نشر فى كتاب المستشار على أبو جريشة " دعاة لا بغاة" وأخطرها الوثيقة المؤرخة فى عام ( 1978م) بعنوان مكافحة تسييس الدين أو تدين السياسة،
ومع احتمال أن مثل هذه الوثائق مزيفة أو مبالغ فيها غير أن نشرها فى أكثر من كتاب على لسان علماء أجلاء وطبعها ونشرها والتزام الصمت حيالها وعدم إنكارها رسميا يوحى بأن نصيبا من الحقيقة يرشح هذا ما أعقب نشر تلك الوثائق من أحداث أكدت ما ذكرته هذه الوثائق ومنها:
- أ- دعوة لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة.
- ب- قرارات التحفظ على كثير من الدعاة عام ( 1981م ) هذه الأمور مجتمعة تتفاعل داخل كيان الشباب فتجنح به إلى الغلو والتطرف ومن ثم يتجه إلى العنف.
رابعا: التحرك الصليبي ضد الإسلام:
- لقد عاش المسلمين فى كنف الإسلام عيشة وارفة الظلال ينعمون بالحرية الدينية لا ينقض لهم عهد ولا تخفر لهم ذمة وحينما يقارن بين الأقليات الإسلامية فى ديار الكفر وما يتعرضون له من إبادة جماعية وبين ما يهنأ به غير المسلمين فى ديا ر الإسلام من منزلة كريمة وعيش آمن يحمد القوم الله لما هم فيه من نعمة يغبطون عليها غير أن الصراع بين الإسلام وأعوانه لا ينطفئ لهيبه ولا تخمد جذوته فالحقد المرير والغل الدفين ينفثان سمومهما بين كل حين وآخر، والمسلمون بين ظلال الإسلام السمح الكريم يتقبلون هذا بصدر رحب أحيانا،
وقد يضيقون به حينا ويصل الأمر إلى التآمر والفتنة بين طبقات الأمة وأن تنتزع الأقلية من الأكثرية المسلمة حقوقها بل وتعدها غريبة عن ديارها.
وبلغت الإثارة لدى الشباب منتهاها حينما نشر أمر المؤتمر المسيحي الذى عقد فى الإسكندرية فى ( 5/ 3/ 1973 م ) ولقد أذاع أمر هذا المؤتمر وما اتخذ فيها من قرارات وتوصيات لتنصير الأمة المصرية ولقد سرى أمر هذا المؤتمر سريان النار فى الهشيم لحوادث الفتن الطائفية وجنوح الشباب للعنف والتطرف.
خامسا: الفراغ الديني لدى الشباب:
سبق أن ذكرت فى التمهيد لهذا الفصل أنه ما من نهضة تؤسس إلا على قاعدتين : العقيدة ، الشباب .
يرى هذا واضحا فى رسالات الأنبياء والمرسلين ومن خلال التربية الإسلامية للشباب، ولكن ما حدث ويحدث لأبناء هذا الجيل أنه ينشأ على مناهج تعليمية صلتها بالدين صلة مقطوعة من ذ بدء المرحلة الابتدائية وحتى انتهاء الحياة الجامعية لا أدل على ذلك من أن مادة التربية الدينية ينظر إليها بعدم الاهتمام والاكتراث وتوضع فى ذيل قائمة المناهج المقررة فتتساوى مع مادتي التربية الموسيقية والتدبير المنزلي يضاف إلى ذلك ما تقوم به بعض أجهزة الإعلام من وضع المسرحيات الهزلية التى تسخر من المدرس خاصة مدرس اللغة العربية فينهزم من داخله فيضعف تأثيره فى طلابه ،
وليت المدرسة فحسب كانت من أسباب الفراغ الديني لدى الشباب ولكن هناك أمور كثيرة أحدثت هذا الانفصام بين الشباب والتدين منها:
- 1- الأسرة وعدم رعاية أبنائها دينيا.
- 2- أجهزة الإعلام التى ساعدت بنصيب أوفر فى خلق الفراغ الديني حيث نجحت فى احتواء الشباب واستقطابه نحو متابعة الأفلام والمسلسلات مما يدفع الشباب إما إلى الانحلال الخلقي أو إلى التطرف الفكري.
سادسا: خلو الميدان من الدعاة:
يعانى حقل الدعوة نقصا خطيرا فى عدد الدعاة نظرا لانصراف الناس عن الدراسات الدينية لعوامل كثيرة أهمها :
- 1- طول الدراسة فى الأزهر وازدواج التعليم فيه.
- 2- انقراض حفظة القرآن الكريم.
- 3- عدم الاهتمام بالدعاة ماديا وأدبيا.
- 4- تناول أجهزة الإعلام رجل الدين بالتهكم والسخرية وذلك من خلال المسرحيات كمسرحية ( الشيخ مخلوف) ، ( حلمك يا شيخ علام) وغير هذا كثير وكثير...
هذه العوامل دفعت بالشباب بعيدا عن الأزهر وكاد يغلق أبوابه لولا أنه فتح الباب على مصراعيه للطلاب الذين أوصدت فى وجوههم أبواب التربية والتعليم لضعف المستوى وقلة المجموع فيتحملون أعباء الدعوة مرغمين،
ومن ثم أصبحت الدعوة وظيفة لا رسالة بل إن العديد من العاملين فى ميدان الدعوة لا يوسعون معارفهم بالاطلاع وذلك بسبب أعباء الحياة المرهقة وارتفاع سعر الكتاب ارتفاعا يجعله ليس فى متناول الدعاة والشباب،
فضلا عن عدم إجادة الكثير لحفظ القرآن الكريم. هذه العوامل مجتمعة أحدثت فجوة بين الدعاة والشباب فعزف الشباب عن الدعاة ورضي العلماء بهذا العزوف واستراحوا له ومن ثم جنح الشباب إلى الغلو والتطرف.
سابعا: عدم فقه الأدلة الشرعية:
- كذلك من أسباب التطرف عدم الفهم الصحيح للأدلة الشرعية والأخذ بظاهر النص دون التعمق فى أسبابه ومقاصده، وتغير ظروفه أوأن يعكف الشباب على قراءة بعض كتب السلف قراءة سطحية بدون معلم أو مرشد فيفهمون النص الشرعي من غير تعمق بل ويقطعونه عن سابقه ولاحقه لتبرير تطرفهم.
وبجانب الأسباب السابقة فهناك أسباب أخرى تزيد من حدة التطرف ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- 1- عدم فهم أسرار اللغة العربية والوقوف على أوجه البلاغة وأسرار البيان.
- 2- استنفاد الجهد فى القضايا الفرعية فكم من جدل ينشب وخلاف يشتد حول حلق اللحية أو الأخذ منها أو إسبال الثياب أو تحرك الأصبع فى التشهد أو مصافحة المرأة الأجنبية وعدم مصافحتها- واقتناء الصور الفوتوغرافية ، فى الوقت الذى يواجه فيع الإسلام بتكالب الأعداء عليه من كل حدب وصوب.
- 3- الإسراف فى التحريم. يقول الدكتور يوسف القرضاوي.
" كان السلف لا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه جزما فإذا لم يجزم بتحريمه قالوا نكره كذا أو لا نراه أو نحو ذلك من العبارات ولا يصرحون بالتحريم.
أما الميالون إلى الغلو فهم يسارعون إلى التحريم دون تحفظ.. هم دائما مع شدائد ابن عمر ولم يقفوا يوما مع رخص ابن عباس".
جـ- مظاهر التطرف:
إن للتطرف مظاهر سلوكية تبرز من خلال تصرفات الإنسان وعلاقته بالآخرين ولقد عدد الدكتور يوسف القرضاوي مظاهر التطرف فى النقاط التى أوجزها فيما يلى:
- 1- التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر.
- 2- إلزام جمهور الناس بما لم يلزمهم الله به.
- 3- التشدد فى غير محله.
- 4- الغلظة والخشونة .
- 5- سوء الظن بالناس.
- 6- السقوط فى هاوية التكفير.
هذه المظاهر جعلت البعض يتوجس خيفة وحذرا من التدين والمتدينين وكانت سببا رئيسيا فى الإحجام عن التطبيق العملي للإسلام ولقد كان أهم أثر من آثار التطرف وظواهره أنه اتخذ ذريعة لإحباط وتطويق التيار الإسلامي عامة المعتدل منه وغير المعتدل وهذا انتكاس لليقظة الإسلامية المعاصرة وتعويق للدعوة والدعاة فلقد حرم ميدان الدعوة من آلاف من الشباب الذين التزموا الإسلام التزاما عمليا طيبا وكانوا طلائع النهضة الإسلامية الحديثة ومحط آمال الإسلام والمسلمين، ولكن هذه الآمال تبددت بسبب فئة تطرفت وتعسفت فى عدد من القضايا الفكرية التى سنتناولها بالبحث والدراسة فى الفصل التالي.
الفصل الثاني القضايا الفكرية التى تطرف فيها الشباب
قبل أن نلقى الضوء على القضايا الفكرية التى دفعت الشباب إلى الغلو والتطرف فإنه مما تجدر الإشارة إليه أن هذا الفكر ليس وليد اليوم ولا الأمس القريب ولكنه ضارب فى أغوار الزمن وممتد فى أعماق التاريخ منذ فجر الإسلام، ويكاد المؤرخون والباحثون يجمعون على أن الخوارج هم اللبنة الأولى لصرح المغالاة وذلك منذ خروجهم على الإمام على كرم الله وجهه بعد قضية التحكيم حيث قالوا قولتهم المشهورة : " لا حكم إلا لله".
ورتبوا على هذا القول كفر الإمام على كرم الله وجهه والحكمين أصحاب الجمل وكل من رضي بالتحكيم كما أفرزت ساحة الصراع رد فعل لأعمال الخوارج وهو ظهور فئة تشيعت لآل البيت وتغالوا فى هذا غلوا أبعد الكثير منهم عن ساحة الإسلام الحق، ولقد انقسم الخوارج إلى نحو عشرين فرقة يجمعهم مذهب واحد وهو تكفير أصحاب الذنوب وشذ عن ذلك الأباضية: ( حيث قالوا: إن العمل شرط لإتمام الإسلام ولا يرون كفر العصاة من المسلمين ومن سماهم كفارا فإنما أراد كفر النعمة المرادف عند غيرهم لكلمة الفسق والمعصية).
وعلى مدار التاريخ الإسلامي تظهر بين حين وآخر جماعة تشتط فى فكرها وتغلو فى آرائها ومن ذلك ما ظهر فى عصر المأمون من جماعة القرامطة والباطنية الذين تأولوا فى الدين تأويلات أسقطت الفرائض وأباحت المنكرات كذلك ظهرت فرق وجماعات كثيرة يطول المقال إذا ما تعرضنا لها بالبحث.
وعلى هذا فالفكر المتطرف روافده فكر الخوارج والأفكار الأخرى برزت خلال مسيرة الدعوة والدعاة عبر التاريخ الإسلامي وهو فكر متداخل ومتفرع تفريعات عديدة يصعب تناولها فى فصل واحد خلال ثنايا هذه الرسالة ولهذا فقد حصرت ذلك الفكر فى أمهات القضايا الرئيسية قبل أن أتناولها بالبحث والدراسة فإنه يجدر التعريف لغويا بالكلمات التالية:
1- الغلو 2- التطرف 3- التشدد
الغلو جاء فى لسان العرب.
غلى الشيء غلولا وانغل وتغلل دخل فيه، يكون فى الجواهر والأعراض وغل بصر فلان حاد عن الصواب.
وجاء فى المصباح المنير غلا فى الدين غلوا من باب قعد تصلب وتشدد حتى جاوز الحد وفى التنزيل " لا تغلوا فى دينكم".
2- التشدد جاء فى لسان العرب "الشدة الصلابة وهى نقيض اللين وكل ما أحكم فقد شد وشدد والمشادة المغالبة. والمشادة فى الشيء التشدد فيه".
3- التطرف: " الطرف بالتحريك الناحية من النواحي وتطرف الشيء صار طرفا وطرف كل شيء منتهاه" وأصله فى الحسيات كالتطرف فى الوقوف والجلوس ثم انتقل إلى ا لمعنويات كالتطرف فى الدين أو الفكر أو السلوك.
وعلى هذا فالغلو والتشدد مجاوزة حد الاعتدال والنأي عن التوسط فى الأمور والأدلة الشرعية من القرآن والسنة تنهى عنه وتحذر من مغبته هذا ومما تجدر ملاحظته أن التطرف والتشدد تختلف النظرة إليهما والحكم عليهما باختلاف البيئات فمن نشأ فى بيئة متدينة فإنه يعتبر أقل تقصيرا وذنبا عظيما وجرما كبيرا، وأن حرصه الشديد على استكمال أعمال الإسلام فى نفسه ليس تطرفا بل هو الحق الذى يلتزم به ويدعو الآخرين إليه.
ومن نشأ فى بيئة صلتها بالدين شبه منقطعة فإنه يعتبر أى تمسك بالدين تطرفا حتى إنه يعد من يلتزم بالسنة فى المأكل أو الملبس أو إطلاق اللحية أو ارتداء الفتاة المسلمة للحجاب تطرفا ومن يطالب بتطبيق الشريعة مغاليا ومتشددا، وهذا خلط للأمور ومزج بين الخطأ والصواب.
هذا ومن المسائل التى تطرف فيها الشباب ما يلي:
- أولا: الإعراض عن العلماء وعدم الأخذ عنهم.
- ثانيا: عدم العذر بالجهل.
- ثالثا: تكفير المجتمع واعتزاله والهجرة منه.
- رابعا: الخروج على الحاكم وقتاله.
هذا ولقد راعيت فى الترتيب السابق التسلسل الفكري، فإن كل مسألة تأخذ بسابقتها وتمهد لما بعدها.
فهذا الفكر يبدأ بالنأي عن العلماء وينتهي إلى الخروج عن الحاكم وقتاله وسوف أستعرض كل قضية من هذه القضايا فى ضوء الأدلة الشرعية متوخيا الحقيقة العلمية المجردة والانتصار للحق ايا كان وجهته فى إيجاز غير مخل إن شاء الله تعالى:
أولا: الإعراض عن العلماء: وهو أولى خطوات التطرف حيث لا يأبه الشباب برأى عالم أو يسترشدون بأقوال فقيه بل يقرأون النص من الكتاب والسنة يعملون فيه رأيهم دون أخذ أو مناقشة أو مراجعة للعلماء بل إنهم أسقطوا جهود الفقهاء عبر العصور المتتالية مع ملاحظة أن علماء السلف والخلف رضوان الها عليهم لم يتركوا مسألة فى العقيدة أو التشريع إلا أدلوا فيها برأيهم.
فكيف استساغ أحداث السن أن يدلوا بدلوهم فى أمور خطيرة تمس العقيدة دون الرجوع إلى هؤلاء الأعلام؟
يقول قائلهم : " إن الله سبحانه أنزل لنا كتابه وأوحى إلى النبي صلى الهف عليه وسلم ما أوحى فأصبح القرآن والسنة هما الحجة على العالمين وأنه لا رأى لفقيه أو لعالم أو لهيئة فوق كلام الله سبحانه وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا كلام ونظائره من أقوالهم مقبول بل ومجمع عليه فيما فيه نص وفق القاعدة الأصولية.
لا اجتهاد مع ا لنص" زكما اشتهر عن أئمة المذاهب يقول كل منهم إذا صح الحديث فهو مذهبي... الخ . ولكن ما لا نوافق عليه ولا نقبله إغفال آراء العلماء عبر التاريخ الإسلامي فهذا يلغى عقل الأمة وفكرها وقد قال تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"
ومن عوامل حفظه أن الله قيض له العلماء والفقهاء العاملين بعلمهم بحيث لا يخلو قرن من القرون من عالم حجة أو فقيه مجدد أو داعية مرشد، والقرآن الكريم يأمر بتخصيص جماعة يرجع إليها فى العلم والمشورة والفتوى: قال الله تعالى : " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون".
ويحث القرآن على الفهم والاستنباط قال تعالى: " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم".
وإن لهؤلاء المعرضين عن العلماء والمتأففين منهم فى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فلقد كان فى الإمكان أن يتلقى مباشرة من اله سبحانه،
ولكن جبريل عليه السلام كلف ليكون المبلغ والمعلم عن الله لرسوله صلى اله عليه وسلم.
ولقد أشاد القرآن بفضل جبريل وعلمه فقال تعالى: " علمه شديد القوى " وإن مجيء جبريل وجلوسه بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم على الهيئة التى روى بها حديث عمر بن الخطاب " الإسلام والإيمان والإحسان" مما يشير إلى وجوب التزام المتعلم بالمعلم والخضوع له والتأدب معه. وموسى عليه السلام غم نبوته وأنه كليم الله تلقى العلم من رجل يصفه القرآن الكريم بقوله تعالى " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما" .
ويلازمه موسى عليه السلام ويتشدد العبد الصالح فى إلقاء الأوامر مما يرشد بجواز تلقى الفاضل من المفضول.
ثم هناك قدرات خاصة لمن يريد أن يأخذ من الأدلة الشرعية مباشرة دون الرجوع للعلماء ومن هذه القدرات: أن يكون على إلمام باللغة العربية وأسرارها ويميز بين الألفاظ الحقيقية والكنايات وأن يفرق بين العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمفصل، وأن يقف على حقيقة الواجب والمندوب،
وهذا كله لا يمكن للشباب أن يحصله بدون معلم أو أن يسبر أغواره من غير موجه ويقف على أسرار البيان فى معاني القرآن.
هذا وإن النأي عن العلماء لهو غرور بين وانحراف واضح لا سيما وأننا فى عصر التخصص والمتخصصين وإذا كان القانون والعرف يدينان من يزاول مهنة وهو ليس من أهلها فكيف يترك الدين لكل شارد ووارد من أحداث السن الذين يضيقون ذرعا بالعلماء وينهون عن التلقي منهم وينأون عنهم بل وينالون منهم ولقد كان السلف والخلف يفخرون بأنهم لم يأخذوا العلم من الصحف وإنما أخذوه عن أساتذة لهم وكلما كثر هؤلاء الأساتذة عد الآخذ عنهم أنه أصبح مأمون الخطأ مقبول القول لدى الآخرين فكانت توجد الإجازات العلمية بحيث لا يسمح للعالم بأن يجلس للتدريس أو أن يتصدى للفتوى إلا إذا أجيز من شيوخه وما الإجازات العلمية الموجودة الآن إلا نماذج للأخذ عن العلماء ولهذا قالوا: لا يؤخذ القرآن من مصحفي ولا ا لعلم من صحفي".
يعنون بالمصحفى الذى حفظ القرآن من المصحف دون أن يتلقاه بالرواية والمشافهة من شيوخه وقرائه المتقنين ويعنون بالصحفي الذى أخذ العلم من الصحف وحدها من غير أن يتتلمذ على أهل العلم ويتخرج على أيديهم. مما سبق يتضح أن البعد عن العلماء كان أولى خطوات التطرف ومن أهم الأسباب التى دفعت الشباب إلى المسائل التى سأتناولها فى الأبحاث التالية إن شاء الله.
ثانيا: عدم العذر بالجهل:
اتضح من خلال العرض السابق أن الإعراض عن العلماء كان سببا فى انحدار الشباب إلى متاهات الغلو والتطرف والخوض فى أمور جنحت بهم بعيدا عن الفهم الصحيح للإسلام ومن هذه الأمور: عدم العذر بالجهل الذى اتخذ ذريعة لتكفير المسلمين والانعزال عنهم واستباحة دمائهم وهذه القضية تبارت فيها عقول مفكري الإسلام قديما غير أنها برزت على ساحة الفكر فى الآونة الأخيرة، فيثور الجدل ويحتدم النقاش كلما برز هذا السؤال.
ما حكم من أتى ذنبا وهو جاهل بأحكام الشرع؟ هل يأثم أم يعذر بجهله؟
تعددت الآراء وتضاربت وكثرت الاستدلالات والرد عليها. وقبل أن نستعرض أدلة القائلين بعدم العذر بالجهل وتوضيح مدى خطورة هذا الفكر فمما يجدر ملاحظته أن توجد عوارض تعترى الإنسان تسقط عنه التكليف سواء بصورة كلية أو جزئية وهى تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول : عوارض ليست من قبل المكلفين أنفسهم مثل:
1- الجنون
2- العته
3- النسيان
4- الإغماء
5- النوم.
وهذا القسم يرفع الحرج والتكليف عمن أصيب به.
القسم الثاني: عوارض تأتى من قبل المكلفين أنفسهم مثل:
1- السفه
2- السكر
3- الإكراه
4- الخطأ.
5- الجهل وهو موضوع بحثنا:
ولقد استدل القائلون بعدم العذر بالجهل بأدلة نذكر منها ما يلي:
1- قول الله تعالى : " وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون".
فاستدلوا بهذا على عدم العذر بالجهل وفق هذا الميثاق .
قال الشيخ رشيد رضا: " الآيات تدل على أن من لم تبلغه بعثة الرسول لا يعذرهم يوم القيامة بالشركة بالله تعالى ولا يفعل الفواحش والمنكرات التى تنفر منها الفطرة السليمة وتدرك ضررها وفسادها العقول المستقلة وإنما يعذرون بمخالفة هداية الرسل فيما شأنه ألا يعرف إلا منهم وهو أكثر العبادات التفصيلية ، وبهذا لا يقبل من الخلق الاعتذار بالجهل وبمثل هذا التفسير ونظائره استمدوا آراءهم وبالغوا فيها".
2- روى مسلم فى صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: " قلت : يا رسول الله ، ابن جدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال : لا ينفعه إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".
3- روى الإمام أحمد عن طريق ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" دخل الجنة رجل فى ذباب ودخل النار رجل فى ذباب قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا فقالوا لأحدهما: قرب قال: ليس عندي شيء أقرب قالوا: قرب ولو ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار.
وقالوا: للآخر فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة".
فاستدلوا بهذا الحديث بكفر من أتى شيئا على سبيل الإكراه والجهل.
فاستنتجوا من ظواهر هذه الأدلة ونظائرها- واستندوا أيضا إلى ما يراه المعتزلة القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين - أن الإنسان جبل على معرفة الخير من الشر وأنه لا يعذر لجهله ولقد ترتب على هذا القول عدم نجاة أهل الفطرة ، وكذلك من لم تبلغهم الدعوة ولم يعذروا عوام المسلمين الواقعين بين براثن الأمية والجهل فأعلنوا أن المسلمين فى هذا الزمن فسدت عقيدتهم وخرجوا عن دين الله لجهلهم جل أحكام الإسلام.
وهذا الفكر جد خطير فهو يؤدى إلى إخراج الجم الغفير من المسلمين من حظيرة الإسلام وهو مخالف لفكر جمهور أهل السنة والجماعة الذين يقررون ما يلي: " أن من ثبت له عقد الإسلام بالشهادتين أو كونه ولد لأبوين مسلمين فإنه لا يزول عنه الإسلام وإن خالف الشرع فى أمر من أمور الدين إلا أمرا حكم الشرع بكفر فاعله ويكون عامدا عالما بالتحريم" أما من خالف الشرع من الجهل فإما أن يكون بدار الإسلام حيث تتوافر مظنة العلم ويسهل طلبه، أو ليس بدار الإسلام بحيث لا تتوافر مصادر العلم والمعرفة.
فإن كان الجاهل فى دار الإسلام بحيث يتمكن من السؤال والمعرفة فإنه يكون عاصيا ولا عذر بجهله ولكن هذا العصيان لا يخرجه من حظيرة الإسلام ويعذر على تقصيره.
وإن كان الجاهل ليس فى دار الإسلام أو نشأ ببادية أو مكان منعزل أو شوه له الإسلام بحيث لا يعرف عنه شيئا إلا ما يلقى من أباطيل وأكاذيب ينشرها أعداؤه ولم تتوافر مصادر المعرفة فإنه بجهله حتى تقام عليه الحجة فإن أقيمت الحجة فأنكر كفر بذلك.
وهذا الرأي أرجحه وأختاره للأدلة الكثيرة التى أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1- قال الله تعالى :"وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" .
قال بن كثير فى تفسيرها: " إخبار عن عدل الله وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسل إليه".
وقال القرطبي: " وفى هذا دليل واضح على أنه لا يجب شيء من ناحية العقل". 2- قال تعالى: " رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما".
يقول الإمام الشنقيطى: " إن الله جل وعلا لا يعذب أحدا من خلقه لا فى ا لدنيا ولا فى الآخرة حتى يبعث رسولا فينذره فبعصي ذلك الرسول ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والاعذار".
3- قال تعالى: " وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ، ذكرى وما كنا ظالمين".
فعد الله من يعذب بدون إرسال الرسل ظلما ونفاه عن ذاته عز وجل ثم هناك آيات كثرة يضيق المقال عن ذكرها.
ومن السنة الشريفة يستدل على العذر بالجهل بأدلة كثيرة نذكر منها:
1- ما روى عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني فى اليم فقال الله له ما حملك على ما فعلت قال خشيتك – فغفر له".
فهذا الرجل شك فى قدرة الله وفى إعادته إذ ما ذرى جسده وهذا كفر باتفاق المسلمين لكن كان الرجل جاهلا لا يعلم ذلك.
2- روى قتادة عن عبد الأسود بن سريع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يعرض على الله سبحانه وتعالى الأصم الذى لا يسمع شيئا والأحمق والهرم ورجل مات فى الفطرة فيقول الأصم: رب جاء الإسلام وما أسمع شيئا، ويقول الأحمق: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، ويقول الذى مات فى الفطرة: رب ما أتاني لك من رسول فيأخذ الله مواثيقهم ليطيعنه فيرسل الله تعالى أليهم : ادخلوا النار فوالذى نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما".
فيؤخذ من هذا الحديث أن الله تعالى لا يكلف أحدا بما ليس فى طاقته.
قال تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها".
كذلك ممن يرى العذر بالجهل الإمام ابن تيمية فلقد جاء فى كتاب الفتاوى ما يلي: " هذا مع أنى دائما ومن جالسني يعلم ذلك منى أنى من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب إلى معين تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا قامت عليه الحجة الرسالية التى من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى،
وعاصيا أخرى وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ فى المسائل الخبرية والقولية والمسائل العملية وما زال السلف يتنازعون فى كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية".
ويزيد ابن تيمية الأمر إيضاحا لتنقطع حجج المتأولين والمفترين عليه الذين ينسبون إليه أصول آرائهم وتطرفهم الفكري فيقول رحمه الله : " وحقيقة الأمر فى ذلك أن القول قد يكون كفرا فيطلق القول بتكفير صاحبه ويقال: من قال كذا فهو كافر لكن الشخص المعين الذى قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التى يكفر قائلها.
ويستطرد رحمه الله قائلا: ثم الشخص المعين ينتفي حكم الوعيد فيه بتوبة أو حسنات ماضية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة.
فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لكن قد يكون الرجل حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة وقيل هذا لا يكفر يجحد حتى تقوم عليه الحجة وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئا".
مما سبق عرضه من كلام الإمام ابن تيمية يتضح أيما إيضاح أنه من القائلين بالعذر بالجهل خلافا لما ألصق به. هذا ومما يقطع حجج القائلين بعدم العذر بالجهل أن الرسول صلى الله عليه وسلم تقبل أعذار المسلمين الذين ارتكبوا أعمالا عن عمد فلم يكفرهم بهذه الأعمال ولم يطلب منهم إعادة النطق بالشهادتين والأمثلة عديدة غير أنني أسوق بعضا منها فيما يلي:
أولا: عن عبد الله بن أبى أوفى قال : " لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا يا معاذ ؟ قال : أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت فى نفسي أن أفعل ذلك لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تفعلوا فلو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها".
ولقد استدل الإمام محمد بن على الشوكانى فى أن من سجد جاهلا لغير الله لم يكفر.
فما أقدم عليه معاذ رضي الله عنه أمر يمس أهم شيء فى الإسلام وهو التوحيد.
ثانيا : ما رواه البخاري عن أبى واقد الليثى قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خيبر ونحن حديثو عهد بكفر والمشركين سدرة يلتفون حولها وينوطون بها أسلحتهم فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط فقال : الله أكبر قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة... الخ الحديث فلم يعلن الرسول صلى الله عليه وسلم كفرهم ولم يطلب منهم إسلاما جديدا.
ثالثا: روى الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الهه عنهما: " أن رجلا أهدى لرسول الله رواية خمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل علمت أن الله حرمها؟
فقال : لا فسار الرجل رجل آخر نال صلى الله عليه وسلم فبم ساررته؟
قال : أمرته ببيعها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الذى حرم شربها حرم بيعها ففتح الرجل المزادة " القربة" حتى أذهب ما فيها. فيستدل بهذا الحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل عذر الرجل لأنه جهل تحريم الخمر وبين له الحكم بدون تعنيف أو تكفير.
مما سبق يتضح أن العذر بالجهل مبدأ من مبادئ الإسلام اتفق عليه جمهور العلماء من أهل السنة، وإذا كان الأمر كذلك فإن من موجبات البحث تصحيح فكر القائلين بعدم العذر بالجهل وأن نرد على ما ساقوه من أدلة لم يحسنوا فهمها. فمن هذه الأدلة.
أولا: قول الله تعالى: " وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشههم على أنفسهم" ..الخ الآية فيستدلون بهذه الآية على مذهبهم بالعهد المأخوذ على بنى آدم منذ الأزل وعلى هذا فتوحيد الله والإيمان به ومعرفة الفضائل والرذائل تدرك بالعقل وفق هذا الميثاق ولا عذر بالجهل سواء وجدت مظنة العلم كدار الإسلام أم لم تثبت وهذا شطط فى القول وغلو فى الفكر، إذ أن العهد المأخوذ على بنى آدم ليس عهد تكليف وقطع أعذار ولكنه عهد الفطرة التى فطر الله الناس عليها، وميثاق مودع فى كيان الإنسان بحيث لو استنطقت كل خلية لنطقت بالخالق الله سبحانه وتعالى.
غير أن العهد المأخوذ على البشر لا يتذكرونه ولا يعرفون عنه شيئا إلا عن طريق الوحي بدليل قول الله تعالى: " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا".
قال القرطبي فيها ثلاثة أقاويل:
- أحدها: لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق فى أصلاب آبائكم.
- الثاني: لا تعلمون شيئا مما قضى عليكم من السعادة والشقاء.
- الثالث: ولقد نفى الله سبحانه وتعالى المؤاخذة والتعذيب إلا بعد إقامة الحجة بإرسال الرسل قال تعالى : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا:
جاء فى أضواء البيان: " الآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى يقين عليه الحجة بإنذار الرسل وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة وما ركز فى الفطرة وقد قال الله " نبعث رسولا" ولم يقل نخلق عقولا وننصب أدلة ونركز فطرة".
فالذي تقوم عليه الحجة وينقطع به العذر هو إرسال هذا ولقد أوضح الله سبحانه وتعالى أن جميع من فى ا لنار قد قطع عذرهم فى الدنيا بإرسال الرسل ولم يكتف بالعهد أو الأدلة المبثوثة فى الكون على وجود الخالق قال تعالى: " كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا".
وبهذا تسقط دعاوى من يستدل بآية الأعراف على عدم العذر بالجهل.
ثانيا: استدل أصحاب هذا الرأي بما روى عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: " يا رسول الله إن ابن جدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه قال لا ينفعه ... " الخ الحديث.
فليس فى هذا الحديث دليل على ذهبوا من عدم العذر بالجهل فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر ابن جدعان فى النار ولكنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ما قدمه من عمل لا يفيده ولا يثاب عليه قال تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا"
ثالثا: ما رواه الإمام أحمد عن طريق ابن شهاب من حديث دخل الجنة رجل فى ذباب ودخل النار رجل فى ذباب إلى آخر الحديث فيجاب عن ذلك الحديث بأمرين:
الأول: أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة وأن هذا من الإصر الذى رفع عن أمة الإسلام يشهد بهذا دليل المخالفة فى قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه".
فإنه يفهم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم " تجاوز عن أمتي" أن غير أمته لا يتجاوز عنه الإكراه.
وبهذا ولقد استثنى الله الإكراه من المؤاخذة قال تعالى: " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان". وبهذا يحمل الحديث على أنه من خصائص الأمم السابقة.
الأمر الثاني : يرد عليهم بأنه يفهم من الحديث أن الأول رفض تقديم شيء لأنه لا يملك وحينما دل على ما يقربه ولو ذبابا قدمه مطمئنة بها نفسه.
والثاني رفض التقديم بحجة أنه لا يقدم لغير الله فصارت له الجنة. وعلى هذا فلا يستدل بهذا الحديث على عدم العذر بالجهل أو الإكراه.
ومما يقطع حجج القائلين بعدم العذر بالجهل أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يقيموا الحد على من ارتكب كبيرة على سبيل والأدلة فى هذا كثيرة غير أنني أسوق الدليل التالي لكيلا تبقى أدنى شبهة فى موضوع العذر بالجهل: حدث هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : ( توفى عبد الرحمن بن حاطب وأعتق من خلى من رقيقه،
وكانت له نوبية قد صلت وصامت وهى أعجمية لم تفقه فلم يرعه إلا حبلها وكانت ثيبا فذهب إلى عمر بن الخطاب فحدثه فأرسل إليها عمر فسألها فقال: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
وبهذا يتهاوى أهم صرح من صروح التطرف وأخطره وهو عدم العذر بالجهل الذى بنوا عليه جل مسائلهم ومنها تكفير المجتمع واعتزاله الذى سنتناوله إن شاء الله فى المبحث الثاني.
ثالثا: تكفير المجتمع واعتزاله.
من المسائل التى تطرف فيها بعض الشباب مسألة تكفير المسلم وما ترتب على هذا من مقاطعة المسلمين واعتزالهم وهذه القصة قديمة ترجع إلى صدر الإسلام حينما ظهر الخوارج على ساحة الدعوة وقالوا بتكفير مرتكب الكبيرة مخالفين فى ذلك أهل السنة والجماعة مما حدا بالمعتزلة على أن يقولوا: إن مرتكب الكبيرة فى منزلة بين المنزلتين ولقد كان يظن أن مثل هذه الآراء طويت واندثرت ولكن برز هذا الفكر من جديد وجاء من يعتقد أن المجتمع كافر وأنه قد رجع القهقرى إلى الجاهلية التى كانت سائدة قبيل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثم فالمسلمون كافرون وإن صاموا وصلوا ووجد من يضيف إلى ذلك الفكر بدعة المفاصلة الشعورية وهى: " مجاراة المسلمين فى عباداتهم ومعاملاتهم مع الاعتقاد بكفرهم وتأولوا ذلك بأنهم فى عصر الاستضعاف".
هذا وقبل أن نأتي على هذا الفكر فنجلو ظلمته ونبدد شبهته فينبغي أن نقف على معنى الكفر فى اللغة العربية فلقد جاء فى لسان العرب ما يلي: " أصل الكفر لغة تغطية الشيء تغطية تستره "
قال الليث: " إنما سمى الكافر كافرا لأنه غطى قلبه كله وكل من ستر شيئا فقد كفره وكفره والكافر الزارع لستره البذر فى التراب".
الكفر شرعا: جحد ما ثبت من الدين بالضرورة.
أنواع الكفر:
الكفر صنفان أحدهما الكفر بأصل الإيمان وهو أربعة أنواع:
1- كفر إنكار:
- وهو أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد.
2- كفر جحود :
- أن يعترف بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس وأمية أبى الصلت ومنه قوله تعالى: " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" يعنى كفر جحود.
3- كفر معاندة:
- وهو أن يعرف الله بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به حسدا وبغيا ككفر أبى جهل وأضرابه.
4- كفر نفاق:
- وهو أن يقر بلسانه ويكفر بقلبه فمن لقي الله سبحانه وتعالى بشيء من هذه الأنواع لن يغفر الله له قال تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء".
- ثانيهما: ما يطلق عليه كلمة الكفر مجازا فقد وردت بعض النصوص ظاهرها يفيد الكف أو الشرك بقصد الزجر والتخويف من الوقوع فى المعاصي ولا يقصد من تلك النصوص الخروج على الإسلام وذلك لورود أدلة عديدة لا تنفى الإسلام عمن ارتكب ذنبا من الذنوب التى أطلق لفظ الكفر على من اقترفها فمن الأحاديث النبوية التى تصف بعض الذنوب بالكفر على سبيل المجاز ما يلى:
1- جاء فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
- " من حلف بغير الله فقد أشرك وفى رواية فقد كفر".
2- قال صلى الله عليه وسلم : "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " رواه البخارى ومسلم.
3- قال عليه الصلاة والسلام " من أتى حائضا فقد كفر".
4- قال صلى الله عليه وسلم عن النساء:" فرأيت أكثر أهلها " النار " النساء لكفرهن قيل أكفرن بالله ؟ قال صلى ا لله عليه وسلم : لا ولكن يكفرن الإحسان ويكفرن العشير".
فهذه الأحاديث أطلقت كلمة كفر والشرك وقصد بهذا الزجر والوعيد الشديدين.
القواعد التى يبنى عليها تكفير المجتمع:
هذا الفكر المتطرف يرتكز على قواعد منها ما يلي:
- 1- الحاكمية ومعناها: الخضوع لحاكمية الله وحده، لأن المسلمين فى عصرنا لا يدركون معنى شهادة أن لا إله إلا الله وبالتالي لم يدخلوا الإسلام وهى نفس الكلمة التى ترددت إبان الفتن بين الإمام على ومعاوية حينما صاح الخوارج بكلمة " الحكم لله".
- 2- لا إيمان بلا عمل.
- 3- من لم يكفر الكافر فهو كافر.
- 4- الفهم المباشر للأدلة الشرعية دون الرجوع لعلماء السلف أو الخلف.
- 5- عدم العذر بالجهل والذي بحث فى فصل سابق.
- 6- البيعة لإمام الجماعة وهى شرط أي جماعة إسلامية بل الجماعة التى ينتسبون إليها فقط.
ومن لم يبايع إمامهم وينخرط فى جماعتهم فهو كافر، وإن صلى وصام وكان فى جماعة أخرى وذلك اعتقادا منهم بأن جماعتهم هى جماعة المسلمين أما غيرها فهي تساعد على استمرار الجاهلية بسبب عدم مفاصلة المجتمع وإعلان كفره.
تحديد أصحاب هذا الفكر: إن من المتعذر حصر هذا الفكر فى جماعة إذ إنهم جماعات شتى ولك جماعة أمير يبايعونه ومنهج يلتزمون به، ومما يزيد البحث صعوبة ووعورة أن هذا لا ينتشر فى كتب تطبع وتوزع ولكن يتناقله الأعضاء فحسب بمذكرات بخط اليد توزع على أفراد الجماعة أو بواسطة أشرطة تسجيل أو من خلال ندواتهم واجتماعاتهم التى ينأون بها بعيدا عن الأعين،
والكثير من أعضاء تلك الجماعات يتخذون مبدأ الكمون والتستر هذا وإن الجهة الوحيدة التى تقف على مبادئهم وتعرف الكثير عن تلك الجماعات هى أجهزة الأمن وهى بدورها تشارك فى هذا الغموض فلا تطلع علماء الأزهر ورجالات الفكر على مطبوعاتهم وآرائهم وأدلتهم التى يعتقدونها ليتمكن العلماء من مناقشتهم والأخذ بيدهم إلى الصواب.
ولهذا سأرجع إلى التقسيم الذى قسمه المستشار البهنساوى فلقد قال : " انقسم أصحاب هذا الفكر إلى طائفتين: 1- طائفة أظهرت أنها لا تقول بكفر من خالفهم وبالتالي فإن الذين لا يؤمنون بهذا الفكر ليسوا كفارا وتجوز الصلاة خلفهم وأيضا زوجات أصحاب هذا الفكر لسن كافرات ولا ضرورة لفسخ عقود زواجهن.
2- طائفة تمسكت بالمفاصلة الصريحة، وأعلنت كفر إخوانهم الذين لا يقولون بكفر من خالفهم ولو كانوا من الآباء والأمهات.
ولقد قسموا المسلمين إلى عدة أقسام:
- 1- من آمن بالفكر واتبعه فهو المسلم الذى له الولاء الكامل.
- 2- من آمن بالحاكمية فقط ولم يؤمن بالجماعة أو لم ينخرط فيها لسبب ما فلا ولاء له وحكمه حكم الكافر.
- 3- من لم يؤمن بالعقيدة ولم يحاربها ووقف منها موقفا سلبيا تبلغ إليه الدعوة فإن التزم بمفهومها الكامل فهو المسلم له الولاء الكامل وإن آمن بالمفهوم دون الالتزام فلا ولاء وحكمه حكم الكافر.
- 4- كل من حارب الفكر فهو كافر والعداء له صريح.
أدلة القائلين بتكفير المسلم:
استدلت تلك الجماعات على فكرها بأدلة نذكر منها ما يلي:
- 1- أن إبليس – أعاذنا الله منه – لم يجحد الله عز وجل وإنما هو عصى وأصر على المعصية فحكم الله بكفره وعلى هذا يقاس المسلم غير الجاحد لله المرتكب للمعاصي.
- 2- قال تعالى: " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد لع عذابا عظيما".
- فقالوا: إن قاتل النفس عمدا لم ينكر وجود الله وإنما ارتكب كبيرة فحكم الله بخلوده فى النار ولا يخلد إلا الكافر.
- 3- قال صلى الله عليه وسلم: " لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهيبة يرفع الناس فيها أبصارهم وهو حين ينتهبها مؤمن".
قالوا: لقد نفى الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن ارتكب الكبائر ومن انتفى إيمانه فهو كافر.
هذه النصوص بعض ما ساقوه من أدلة لإثبات نفى الإيمان عمن ارتكب معصية من الكبائر وترتب على هذا القول تكفير المجتمع.
ويرد على هذه الأدلة بما يلي:
- 1- القول بأن إبليس لم يجحد الله عز وجل هو خطأ واضح لأن إبليس جادل فى صواب حكم الله فقال معترضا على أمره بالسجود كما أخبر الله تعالى: " لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون" فاعتراض إبليس اللعين على أمر الله عز وجل له بالسجود هو جحد لصواب حكم الله وهو توهم الخطأ فى جانب الله عز وجل فقد نفى عن الله الكمال وجعل من نفسه ندا لله عز وجل يصوب ويخطى أحكام الله تعالى وهذا هو الكفر بعينه،
أما آدم عليه السلام فيختلف عن ذلك تماما فلم يجادل فى صواب حكم الله ولكنه سارع إلى الإقرار بخطئه حينما نسى فقال كما أخبر الله تعالى: " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" سورة الأعراف آية ( 23) . وهذا هو الفرق الذى يجب أن يلاحظ بين من يأتي المعصية وهو مقر بحكم الله معترف بتقصيره ومن يستحل مخالفة أمر الله تعالى والخروج على شرعه، ولا خلاف بين المسلمين على أن من استحل المعاصي فقد جحد أمر الله ومن يجادل فى أمر الله فهو كافر. وبهذا يسقط الاستدلال الذى استدلوا به على جواز تكفير المسلم بالمعصية.
- 2- أما الاحتجاج بخلود قاتل النفس المؤمنة عمدا فى النار فهو احتجاج مردود بأمرين.
الأمر الأول: أن هذا النص خاص بقتل النفس المؤمنة عمدا وليس عاما يشمل كل المعاصي حتى يحتج به دعاة التطرف على أن مرتكب الكبيرة كافر.
الأمر الثاني: أن الخلود ليس خلودا كخلود الكافرين ولكنه كناية عن المكث الطويل بدليل ورود الكثير من الأدلة التى تؤكد خروج كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله من النار قال ابن كثير: " والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات وعوض المقتول عن ظلامته وأرضاه".
قال تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فلقد أوضحت هذه الآية أن الله يغفر كل الذنوب إلا الشرك بالله.
- 3- أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ... الخ فإن الإيمان المنتفي إيمان المستحل لهذا الفعل جاحدا لأمر الله عامدا عالما بالتحريم.
أما من يعلم بحرمة هذا الفعل غير أن ضعف الوازع الديني فى نفسه وانعدام المسئولية الدينية لديه فهذا مؤمن عاص، إما أن يقام الحد عليه فى الدنيا أو يحاسبه الله على ذنبه يوم القيامة ولا يخرجه الذنب من حظيرة الإسلام ولا يحكم عليه بالارتداد عن الدين بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام حد الزنا على ماعز والغامدية وحد السرقة على المرأة المخزومية ولم يعتبرهم كفارا ولم يقم عليهم حد الردة بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن سبهم وقال عن الغامدية " والله لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لشملتهم".
وبعد سوق هذه الأدلة التى تزيل ما علق بذهن البعض عن تكفير المسلم فيبرز سؤال هام:
هل يجوز تكفير المسلم؟
لقد اتضح خلال المباحث السابقة جواز العذر بالجهل وأن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ومن ثم بداهة لا يجوز أن ينسب إلى مسلم كفر وفسوق، غير أنني أسوق بعض النصوص التى تحذر من التشكيك فى إيمان المسلم وتنهى عن تكفيره ومن ذلك ما يلي:
1- روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله ليه وسلم قال :
- " ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله ولا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل".
2- عن أبى ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
- " لا يرمى رجل رجلا بالفسق أو يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك".
3- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
- " أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما".
4- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
- " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر وحرمة ماله كحرمة دمه".
- اعتزال المجتمع والهجرة منه: من أخطر مظاهر التطرف اعتزال المجتمع والهجرة منه،
ولقد اتخذ هذا الفكر عدة أنماط من السلوك الشاذ منها:
- 1- عدم الترشيح للانتخابات العامة، لأن المجالس النيابية تشرع من دون الله والإسهام فى ذلك كفر بواح لأنه تباع للكفر أو رضاء به.
- 2- مقاطعة المساجد لأن الصلاة فيها خلف أئمتها تتضمن الشهادة لهم بالإيمان وهم كافرون.
- 3- الهجرة على الصحراء أو الكهوف والجبال لأن ذلك هو السبيل الذى سلكه الرسول لإقامة دولة الإسلام.
- 4- التوقف عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لأن المجتمعات كافرة وليس بعد الكفر ذنب، وعدم المساهمة فى أى إنتاج لأن ذلك يؤدى على تماسك المجتمع الجاهلي.
- 5- مقاطعة المدارس والجامعات وإخراج الأبناء منها.
- 6- ترك الوظائف بالحكومة والشركات وممارسة أعمال التجارة والزراعة.
وهذا النمط من السلوك تدمير للمجتمع المسلم وهزيمة وجدانية وعقلية للشباب ويتيح لأعداء الإسلام من مختلف التيارات والاتجاهات أن يتملكوا أزمة الأمور ويتحكموا فى مقاليد الأمة بينما الشباب المسلم يعيش فى الصحراء غارقا فى متاهات الجدل والسفسطة وهذا فرار من ساحة الدعوة وهروب من مواجهة قوى التحدي للإسلام وانطواء على النفس،
ولقد غاب عن عقول هؤلاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم خلال مراحل الدعوة فى مكة والمدينة لم يعتزل الناس بل كان يرتاد أنديتهم ويتجول فى أسواقهم ويبتاع ويشترى منهم وإبان العهد المدني لم ينعزل صلى الله عليه وسلم عن القبائل غير المسلمة أو اليهود بل عقد معاهدة لتنظيم حياة المسلمين مع غيرهم فهل بع هذا يأتي من يوجب الهجرة ويدعو للاعتزال مستدلا بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ويرد عليهم: بأن الهجرة فى صدر الإسلام كانت فرضا على المسلمين لتأمين الدعوة والانطلاق حتى انتهت دوافع الهجرة.
فلقد روى أن مجاشع بن مسعود قد جاء بأخيه مجالد ابن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هذا مجالد جاء يبايعك على الهجرة فقال النبي صلى الله عيه وسلك :" لا هجرة بعد فتح مكة ولكن أبايعك على الإسلام والجهاد" ، كما روى البخاري أن السيدة عائشة رضي الله عنها سئلت عن الهجرة فقالت: لا هجرة اليوم كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله مخافة أن يفتن فأما اليوم فقد اظهر الله الإسلام والمؤمن يعبد ربه حيث يشاء" .
إذن فدوافع الهجرة الآن من المجتمع الإسلامي غير موجودة والاعتزال ضرب من العبث الفكري والسلوك الشاذ وتقطيع لأواصر المودة والقربى وترك ساحة الدعوة شاغرة ينعق فيها دعاة الإلحاد والعلمانية وإذا كانت المجتمعات الإسلامية الآن قد انحرفت فى بعض أمورها وانتشرت بين ربوعها البدع واقترفت الآثام والمحرمات جهارا فإن هذا ليس مبررا للاعتزال والهجرة، لأنها رغم هذا كله فإنها تسمى دار الإسلام.
هذا وقد يحتج دعاة الهجرة والاعتزال بقول الله تعالى: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا". ويجاب عن هذا الاستدلال بأن هذه الآية نزلت فى شأن بعض المسلمين الذين أسلموا خفية فى مكة وأخرجهم المشركون يوم بدر لتكثير سوادهم.
قال الإمام ابن كثير : " هذه الآية الكريمة عامة فى كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع".
ويرد أيضا على الذين يعتزلون أهلهم ويهجرون بيوتهم بحجة أنهم مرتكبون لبعض الآثام بأنه ما من صحابي من صحابة رسول الله أسلم إلا وكان معه فى منزله أب أو أم أو أخ يناصبه العداء ويذيقه ألوان العذاب فما هجر أحد أسرته ولا ترك بيته بل جاء القرآن يوضح أن اختلاف العقيدة لا يمنع من صلة الأهل والإنفاق عليهم ومصاحبتهم بالمعروف قال تعالى: " وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا".
مما سبق يتضح أن تكفير المجتمع واعتزاله والهجرة منه فكر بعيد عن الفهم الصحيح للإسلام وانحراف بالدعوة الإسلامية إلى العزلة والانطواء ويوقع المجتمع المسلم فى فتن لا يعلم مداها إلا الله حيث يتخذ هذا الفكر ذريعة لضرب التيار الإسلامي عامة وتقييد حركة الدعوة والدعاة.
رابعا: الخروج على الحاكم وقتاله:
- من المسائل التى تطرف فيها بعض الشباب جواز الخروج على الحاكم وقتاله. وهذه القضية من أخطر قضايا التطرف فهى تفتح باب الفتن التى لا تبقى ولا تذر. ويتذرع أعداء الإسلام بهذا الفكر لضرب الحركة الإسلامية والحيلولة دون تقنين الشريعة وتطبيقها.
- ومسألة الخلافة والإمامة والعلاقة بين الراعي والرعية تحظى من الإسلام والمسلمين باهتمام كبير، ولا أدل على أهميتها وخطورتها من أن الصحابة رضوان الله عليهم حينما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ورغم الذهول وفداحة الخطب الجلل والحزن العميق الذى انتاب المسلمين جميعا لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي فإن هذا كله لم يشغل بال المسلمين عن التفكير فى أمر الخلافة والبيعة فحسم هذا الأمر فى سقيفة بنى ساعدة قبل مواراة جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك فعل أبو بكر الصديق وهو يجود بأنفاسه حينما عهد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتولي أمر المسلمين وحينما طعن أبو لؤلوة المجوسي عمر بن الخطاب فلم يمنعه تمزق أوصاله من تدبير أمر إمارة المسلمين فكلف ستة من الصحابة وضم إليهم ابنه عبد الله وظل يتابع أمر الخلافة وهو يعالج سكرات الموت حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى ، ومن ثم اختير عثمان ابن عفان رضي الله عنه.
" فالإمامة موضوعة لخلافة النبوة" .
وحراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها واجب بالإجماع" .
هذا وإن تنظيم الإسلام للعلاقة بين الحاكم والمحكوم يحتاج إلى رسالة خاصة وليس موضوع بحثي غير أنى سأجتزئ من قضية الحكم فى الإسلام ما يثيره البعض من الاعتقاد بجواز الخروج على الحاكم وقتاله وقبل مناقشة هذا الفكر فما تجدر ملاحظته: أن الإسلام يوجب طاعة الإمام ما دام لا ينهى عن معروف ولم يأمر بمنكر ويستدل على ذلك بما يلي:
1- قال تعالى: " يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم".
2- عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني".
3- وعن أم الحصين الأحمسية أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي ما أقام فيكم كتاب اله عز وجل".
4- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا طاعة" فهذه الأدلة الشرعية توجب طاعة الإمام.
أدلة القائلين بكفر الحاكم والخروج عليه:
استدل القائلون بجواز كفر الحاكم والخروج عليه الذى لم يلتزم بشرع الله ولم يطبقه بأدلة أهمها تلك الآيات الكريمات من سورة المائدة والتي تختتم بقوله تعالى :
- أ – " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" الآية 44 ، " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" الآية 45 "، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" الآية 47 .
- فاستدلوا بهذه الآيات على أن من لم يحكم بما أنزل الله فهو إما كافر أو ظالم أو فاسق مما يستوجب ردته عن الإسلام ووجوب قتاله .
- ب- استدلوا بفتوى ابن تيمية حينما سئل عن قرية " ماردين" التى كانت تحكم بالإسلام ثم تولى أمرها أناس أقاموا فيها حكم الكفر.
- جـ - ما جاء فى تفسير ابن كثير فى قوله تعالى: " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون".
- قال ابن كثير رحمه الله : " ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والمصطلحات التى وضعها رجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم.
- د – كذلك استدلوا بكتابات المرحوم أبى الأعلى المودودى والمرحوم الأستاذ سيد قطب عن الحاكمية والجاهلية فاستنتجوا من هذه الأدلة القول بكفر حكام المسلمين فلقد جاء فى كتاب الفريضة الغائبة تأليف المرحوم محمد عبد السلام عن الحاكم ما يلي:" وحكام هذا العصر قد تعددت أبواب الكفر التى خرجوا بها عن ملة الإسلام بحيث أصبح الأمر لا يشتبه على كل من تابع سيرتهم هذا بالإضافة إلى قضية الحكم" ويقول فى فقرة أخرى: فحكام هذا العصر فى ردة عن الإسلام تربوا على موائد الاستعمار وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي.
ثم يعدد مؤلف هذا الكتاب صفات التتار من خلال فتوى ابن تيمية ويعقب على فتواه بقوله: " أليست هذه الصفات هى نفس صفات حكام العصر هم وحاشيتهم الموالية لهم الذين عظموا أمر الحكام أكثر من تعظيمهم لخالقهم" .
ثم يستطرد فى كتابه حتى يقول : " فلا شك فى أن ميزان الجهاد الأول هو اقتلاع القيادات الكافرة واستبدال نظام إسلامي بها استبدالا كاملا ومن هنا تكون الانطلاقة" وهذا الفكر جد خطير إذ هو يفتح باب الفتن على مصراعيه وقد تسبب فى وقوع أحداث دامية روعت فيها الأمة وأزهقت فيها أرواح بالآلاف على غياهب السجون والمعتقلات وتوجس الكثير خيفة من اليقظة الإسلامية.
الرد على من يرى قتال الحاكم: الحاكم فى الإسلام متى انعقدت له البيعة من أهل الحل والعقد المعبرين عن رأى جموع المسلمين أو يعهد له من الحاكم الذى قبله وجبت طاعته. هذا ويرد على ما استدلوا به من قوله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".
فإن ملخص ما قيل فى تفسير تلك الآيات ما يلي: " إذا رجعنا إلى المأثور فى تفسير الآيات نراهم نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنه أقوال منها قوله: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون ،
ومنها أن الآيات الثلاث فى اليهود خاصة ليس فى أهل الإسلام منها شيء وروى الشعبي أن الأولى والثانية فى اليهود والثالثة فى النصارى وهذا هو الظاهر ولكنه ينبغي أن ينال هذا الوعيد كل من كان منا مثلهم وأعرض عن كتابه إعراضهم عن كتبهم".
وما فعله صاحب المنار هو ما نطمئن إليه ونعتقد أنه الصواب لقول على بن أبى ظلمة عن ابن عباس : " من جحد ما أنزل الله فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فايق".
وعلى هذا فإذا جار الحاكم وضاعت الحقوق ولم يأمن الناس على حياتهم ولم يأخذ بمبدأ الشورى فيجب على الهيئة التى اختارته أنتقدم له النصح وتقومه فإن أبى تقيله وليس يحق لفرد من الأمة أو لمجموعة من الأفراد أن يخلعوه من الحكم وإلا انقلبت الأمور إلى فوضى اجتماعية وثورات دامية، لهذا جاءت السنة المطهرة بالصبر على هنات الحاكم درءا للفساد وخشية الفتن.
1- فعن عرفجة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
- " ستكون بعدى هنات وهنات من أرد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان".
2- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
- " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإن من مات مفارقا الجماعة شبرا مات ميتة جالية".
3- وعن عرفجة أيضا قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول:
- " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يسق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه".
4- بل إن الإسلام لا يجيز بحال من الأحوال أن تمتد يد لقتل الحاكم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حدد قتل المسلم فى أمور ثلاثة فقال:
- " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" فإذا ما أقام الحاكم الصلاة ولم ينكر ما علم من الدين بالضرورة فلا نحكم بكفره قال صلى الله عليه وسلم : " إنه يستعمل عليكم أمراء فمن كره فقد برىء ، ومن أنكر فق سلم ولكن من رضي وتابع قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال لا ما أقاموا فيكم الصلاة".
وإذا كان الظالم والفاسق تجوز إمامته فى الصلاة فقد سبق عند البحث فى الجمعية الشرعية فى الباب الثاني- الفصل الأول أن أفردت بحثا عن جواز إمامة الفاسق والمبتدع مستدلا بما جاء فى صحيح البخاري تحت باب ( إمامة المفتون والمبتدع) وما ذكره ابن حزم فى كتابه الفصل فى الأهواء والملل " تحت عنوان ( الكلام فى صلاة الفاسق) .
فإذا كان العلماء قد ارتضوا إمامة الفاسق والمبتدع فى الصلاة أفلا يرتضى بالحكام المتكاسلين العاصين عن تطبيق شرع الله مغبة الوقوع فى الفتن؟
5- روى أحمد وأبو يعلى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يكون عليكم أمراء تطمئن لهم القلوب وتلين لهم الجلود ثم يكون عليكم أمراء تشمئز منهم القلوب وتقشعر منهم الجلود فقال رجل : أنقاتلهم يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم : لا ما أقاموا فيكم الصلاة".
مما سبق يتضح – والله أعلم – أنه لا يجوز الخروج عل الحاكم المسلم إلا إذا أنكر ما علم من الدين بالضرورة . فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وعلى أن نقول الحق لا نخاف فى الله لومة لائم".
وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة ومن مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".
هذا وإذا كانت الأدلة الشرعية توجب على الرعية طاعة الإمام وعدم الخروج عليه فإن الكثير من نصوص القرآن والسنة تلزم الحاكم أن يطبق شرع الله ويعدل بين الرعية وألا يجنح إلى الظلم والبطش والاستبداد بالرأي واتباع الهوى وأن يلتزم الشورى وبهذا تستقيم الأمور وتجتمع القلوب على هدى وبصيرة من شرع الله قال تعالى: " ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون".
وبعد: فلقد اتضح من خلال موضوعات هذا الفصل المسائل التى تطرف فيها بعض الشباب ، وظهر عبر الدراسة لفكرهم ومناقشة آرائهم أنهم اشتطوا فى القول وتغالوا فى الرأي وجانبهم الصواب فى تأويل بعض النصوص التى ساقوها تأييدا لما ذهبوا إليه وهذه الأمور التى بحثت تعتبر أهم قضايا هذا الفكر،
وهناك مسائل أخرى لجماعات إسلامية كثيرة عرفت بعض أفكارها وخفي الكثير منها ولكن هذه القضايا المتنوعة والمتفرعة تفريعات عديدة ترجع جميعا إلى تلك الأمور التى أثيرت على بساط العرض والدراسة السابقة.
لهذا اكتفى بذلك دون الاستطراد فى باقي مسائل التطرف والمتطرفين ونختتم هذا الباب بالفصل التالي إن شاء الله .
الفصل الثالث كيفية احتواء هذا الفكر وعلاجه
إن احتواء هذا الفكر وعلاجه يحتاج إلى دراسة متأنية وأبحاث هادئة وهادفة وسوف أحاول جاهدا بتوفيق الله أن أضع بعض الوسائل لعلاج تلك الظاهرة والأمر ليس أمر وضع حلول وطرح مقترحات على بساط العرض فما أكثر تلك المقترحات وما أكثر من تعرضوا لهذا الفكر موضحين أبعاده ومشخصين مواطن الداء وما أسهل هذا لدى الباحثين والمفكرين غير أن الأمر الصعب الذى ليس فى وسع الكاتب هو أمر التنفيذ وإبراز هذه الآراء وتلك المقترحات على ميادين الحياة العملية بحيث لا تبقى حبيسة القلم والقرطاس.
وأنى للكاتب تحقيق ما يتمناه من رؤية أفكاره تحيا مع دنيا الناس؟
وسوف أحاول جاهدا –بتوفيق الله – فى إيجاز أن أوضح أسلوب الاحتواء والعلاج واضعا هذه المقترحات نصب أعين المسئولين خاصة علماء الأزهر الشريف لعل هذه الأفكار تجد بصيصا من النور يبدد ظلام التطرف ويأخذ بالشباب إلى ظلال الإسلام وهدى القرآن.
وقبل أن أستطرد فى بيان كيفية احتواء هذا الفكر فمما يجب ملاحظته أن هناك عدة أخطاء ارتكبت لعلاج تلك الظاهرة،
كانت سببا فى تفاقم أمر التطرف وبروز بعض الأعمال الطائشة والتي تسببت فى تعويق اليقظة الإسلامية المعاصرة ومن هذه الأخطاء ما يلي:
- أولا: خلق شعور عام بانعدام الثقة بين الشباب المتدين والدولة وكذلك بين الشباب وعلماء الأزهر مما أدى إلى نفور كل فريق من الآخر وإنشاء هؤلاء الشباب لأنفسهم دولة داخل الدولة وأسقطوا عن أتباعهم بفتوى من أنفسهم واجب الالتزام بالمجتمع والقانون ،لأنه فى نظرهم مجتمع جاهلي وكافر وانتقل حق الأمر والطاعة داخل هذه الجماعات من سلطان أولى الأمر فى الدعاة إلى سلطان الأمراء الذين نصبوهم على أنفسهم" .
- ثانيا: محاولة استئصال هذا الفكر بالعنف وقوة القانون وبطش السلطان وكلما ازدادت الدولة فى وسائل العنف والقهر تولد لدى أصحاب هذا الفكر شعور عميق بأنهم أصحاب رسالة يلاقون المحن فى سبيلها كالأنبياء والمرسلين.
- ومعالجة الفكر بهذا الأسلوب جعله يتوارى ويكمن ويترقب لحظة يبرز فيها من جديد هو اقوي عنفا واشد شراسة.
- ثالثا: معالجة هذا الفكر بين أقبية السجون.
إن هذا الفكر يتوارى ويستتر خشية البطش به ولا يعرف الدعاة عنه شيئا وبعض الدعاة لا يقوى على مواجهة هذه الأفكار حينما يفاجأ بالمناقشة بدون اطلاع على أصول هذا الفكر،
وأجهزة الأمن بدورها لا تنسق بينها وبين الدعاة فتطلعهم على ما لديها من كتب ودراسات حول هذا الفكر وحينما يتفاقم الأمر وتحدث المواجهة المريرة والدامية بين الشباب والسلطة تقام ندوات ومحاضرات بين أقبية السجون وغياهب المعتقلات.
ومثل هذه الندوات تعطى نتائج سلبية إذ كيف يناقش إنسان وهو مكبل بالقيود والأغلال ؟
ثم إن هذا الأسلوب يزيد الجفاء وانعدام الثقة بين بعض الشباب وعلماء الأزهر ، إذ يشعرون من خلال تلك المحاضرات أن العلماء قد دفعوا باسم السلطة لمحاكمة أفكارهم وتمهيدا للأحكام التى ستصدر عليهم وتشويه صورتهم أمام الأمة.
ولقد ثبت خطأ هذا الأسلوب فعقب اعتقال الكثير من جماعة الإخوان المسلمين عام ( 1965 م ) أقيمت محاضرات وندوات ولم تثمر شيئا سوى مزيد من التطرف والعنف فى أعوام (74، 77، 1981 م ) .
رابعا: المبالغة والتهويل والخوف من المتطرفين : فمن أخطاء معالجة هذا الفكر المبالغة فى شأنه وإبراز بعض الشباب فى صورة أناس فقدموا كل معالم البشرية وأن حياتهم تآمر وتخريب وأسلحة ومفرقعات وخطط ووثائق وعمالة لهذه الدولة أو تلك وتسلط أجهزة الإعلام لتشويه سيرتهم والتنديد بسلوكهم وإذا كان البعض القليل انحرف فى فكره وأقدم على عمل طائش فما جريرة القاعدة الشبابية لكي تأخذ بجرم هؤلاء بينما نجد المتطرفين نحو الرذيلة ينغمسون فى مستنقعات الفاحشة ولا يتعرض لهم أحد فيلحق بهم أذى بل ينظر إليهم على أنهم دعاة التقدم والتحرر وهم نجوم المجتمع وقدوته المثلى.
يقول الدكتور القرضاوى: " هل من الإنصاف أن ننحى باللائمة ونصب جام غضبنا على الشباب الذى يعيش للإسلام وبه محافظا على الصلوات هاجرا للمنكرات محصنا فرجه غاضا بصره حافظا لسانه يتحرى الحلال ويتوق الحرام حريصا كل الحرص على ما يعتقد أنه أدب الإسلام ننكر على هذا الشباب الناشئ فى طاعة الله مهما يكن متشددا أو متزمتا على حين نسكت عن الشباب الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات من المائعين الذائبين الذين لا يكاد يميز الفتى فيهم من الفتاة؟
هل من الإنصاف أن ننكر على الفتاة التى تلبس النقاب على وجهها ونسخر من زيها وهى لم تفعل ذلك إلا إرضاء لربها واتباعا لدينها حسبما فهمت أو أفهمت، على حين نرى الصنف الآخر من الفتيات المميلات المائلات الكاسيات العاريات فى الشوارع والشواطئ ولا يحرك أحد ساكنا ولا ينبس ببنت شفة؟ هل من الإنصاف أن يتعالى الصراخ ويشتد النكير على ما سمى بالتطرف الديني وأن يلوذ الجميع بالصمت تجاه التطرف اللادينى".
خامسا: المزج والخلط بين التطرف كظاهرة بين بعض الشباب وبين اتجاه الشباب عموما نحو الإسلام فما تكاد تنحرف جماعة وتقدم على عمل طائش إلا ويتحمل التيار الإسلامي عامة تبعة هذا العمل وتوضع الصحوة الإسلامية فى قفص الاتهام فتجمد أنشطة الجمعيات وتصادر مجلاتها وتلغى الأنشطة الدينية بين أروقة الجامعات ويزج بالآلاف على السجون بمجرد الظن والشبهة ويشعر كل شاب متدين أنه قد يؤخذ بين لحظة وأخرى مما يولد شعورا بالمقاومة والعنف والإقدام على أعمال غير مسئولة ويائسة ولقد تعددت تلط الظاهرة فى فترات زمنية متلاحقة، حدث هذا كما سبق فى أعوام ( 48، 54، 65، 77، 1981م ) مما أشاع جوا من انعدام الثقة بين الشباب والدولة.
سادسا: استمرار إثارة الشباب:
- من أخطاء التصدي للفكر المتطرف دوام إثارة الشباب واستعداء السلطة عليهم فحينما تبرز بعض الأفكار الخاطئة إذا بأقلام النفاق وألسنة كل حاكم تغمس أقلامها فى لحوم هؤلاء الشباب وسلوكهم وتنظم المسيرات تؤيد حملات التحفظ والإجهاز وتنشر الكتب بعنوان" رأى الدين فى إخوان الشياطين" ومعالم على طريق الخيانة والرجعية ،
ودعوة لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة، والمحاولات المستمرة فى الاعتداء على قانون الأحوال الشخصية وفصل الدين عن الدولة وتتبارى ألسنة وأقلام فى هذا الهراء الفكري الذى لا صدى له إلا عند أصحابه ومن الكتب التى نفثت سمومها كتاب الدكتور فرج على فودة بعنوان " الوفد والمستقبل" هذا الكتاب يوضح موقف الأحزاب عموما وحزب الوفد خاصة نحو التيار الإسلامي فيقول فى ص 75 : " إننا نؤمن بالمبادئ التالية:
أولا : نرفض رفضا تاما أى دعوة لإنشاء دولة دينية تحت أى شعار. إن بلادنا ليست فى حاجة إلى تكرار تجربتها مع الحكم المستتر خلف شعار الدين لأكثر من ألف عام.
ثانيا: إن الولاء للوطن يسبق الولاء لأي عقيدة.
ثالثا: إن رفع الشعارات الدينية هو المدخل السهل لأي جذب لاجتذاب مشاعر البسطاء وهذا يمثل مدخلا سهلا إلى تفكك الوحدة الوطنية للبلاد والإرهاب الفكري للمواطنين.
رابعا: إذا كنا نرفض تدخل الدين فى السياسة فإننا ندين تدخل السياسة فى الدين. إن تسييس الدين أو تدين السياسة وجهان لعملة واحدة هى انهيار للوحدة الوطنية فى مصر.
خامسا: لا تأثير لديانة الفرد أو معتقداته على موقفه الحزبي أو السياسي أو الوظيفي فى الدولة وثبوت عكس ذلك جريمة يجب أن تقنن ويعاقب من يرتكبها. لقد شهدت بلادنا دوائر انتخابية أغلبيتها مسلمة ويفوز فيها مرشح قبطي أو يهودى بإرادة شعبية حقيقية،
وشهدت بلادنا منصب رئاسة بل ورئاسة المجلس النيابي يتولاها قبطي دون أن يثير حرجا أو جرحا لمشاعر المواطنين وكان شعار الحزب الدين لله والوطن للجميع.
هذا الهراء الفكري المسموم والخبيث ينشر بدون استحياء أو خجل ولست فى مقام الرد عليه، لأنه فكر هش وضحل لا يقوى على مواجهة أو يصمد أما دليل ولكن أعرض صورة لاستعداء التيار الإسلامي وإثارته وعدم احترام مشاعر الأمة فى أعز مقدساتها وهو الإسلام دينا ودولة ثم بعد هذا نملأ الدنيا صياحا من التطرف والمتطرفين.
ثم تتحدث بعض فقرات هذا الكتاب المطبوع طباعة أنيقة ويوزع مجانا عن الصراع الحتمي بين حزب الوفد واليقظة الإسلامية فيقول: " سوف يكون الصراع حتى نهاية القرن فى مصر بين الوفد والاتجاه السياسي الديني المتطرف.. يجب أن يتبين للجميع وأن يدركوا أن الحزب الوحيد المؤهل لقيادة هذا الصراع لمصلحة التقدم هو الوفد بكل قواعده".
كان هذا هو اتجاه من يتطلعون لحكم مصر وليت العداء الأحمق لليقظة الإسلامية مقصور على أمثال هذا الدكتور فحسب ولكن هناك الشيوعيون الذين يضمهم حزب التقدم الوحدوي وهناك الكتاب الملحدون وهم ضروب شتى وأهواء متنازعة لا يجمعهم سوى الحقد والكيد للإسلام وهذا يخلق رد فعل لدى الشباب المسلم أشد عنفا وأكثر تحديا.
هذه بعض الأخطاء فى معالجة الفكر المتطرف.
آراء ومقترحات لاحتواء الفكر المتطرف وعلاجه:
- قبل أن نعرض ما نراه علاجا لقضايا التطرف فإنه مما يجدر ملاحظته ولا يخفى عن عين الكاتب وعقل المفكر أنه ما دام هناك انفصال تام بين الإسلام كدين ينظم العلاقة بين أفراد المجتمع فى كل شئونه وبين واقع المسلمين اليوم الغارق فى دياجير الظلام ويترنح تحت وطأة المشاكل السياسية والاقتصادية واجتماعية واستجداء الحلول من نظم الشرق والغرب فإن التطرف لن تغرب شمسه ولن يتوارى مهما اشتدت الضراوة به بل سوف يزداد ويلاحظ هذا من خلال تتبع هذا الفكر وأنه فى نمو واطراد رغم كل وسائل قمعه أو معالجة أفكاره هذا وإنني أضع فى إيجاز وسائل العلاج فيما يلى:
أولا: القضاء على كل أسباب التطرف:
- سبق فى الفصل الأول من هذا الباب ذكر أسباب التطرف وأن أولى خطوات العلاج تكمن فى القضاء على ت لك الأسباب السابق ذكرها، لأنه إذا ما انتهت تلك الدوافع فلن يجنح أحد إلى الغلو والتطرف.
ثانيا : المعالجة الفكرية والسياسية والاجتماعية.
- يلاحظ أن ظاهرة التطرف تبدو مركبة ومتداخلة وكذلك يجب أن يكون العلاج مركبا ويشمل ميادين ثلاثة حددها الدكتور أحمد كمال أبو المجد وهى:
أ – الجانب الفكري :
- " يحتاج الجانب الفكري إلى علاج فى المدى القريب وعلاج على المدى البعيد ففي المدى القريب يحتاج الأمر إلى الكشف عن الأخطاء العلمية التى يقع فيه أكثر هؤلاء المتطرفين فلابد من مناقشة المسائل التالية:
1- أسلوب الأخذ من المصادر الإسلامية وقواعد الاستدلال والترجيح بين الأدلة وقضية الأولويات فى عرض الإسلام على المسلمين وتوحيد الجهد الفكري والحركي لخدمة الإسلام.
2- تصحيح الفكر فى قضية الإيمان والكفر والجاهلية ومعناها وحاكمية الله وما يقصد بها، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من يملكه؟ وما وسائله؟
وأين تنتهي حدود الممارسة ؟ وقضية جماعة المسلمين التى أمرت الأحاديث النبوية بلزومها وعدم مفارقتها من هى ؟ وما شروطها؟ وهل تصدق على كل تجمع صغير أو كبير؟ وما علاقة المسلم بالآخرين؟
ومسألة اعتزال المجتمع ومؤسساته: على تجوز؟ وهل لهذا الجواز حدود؟
وتصويب هذا الفكر وتصحيحه ووضعه فى إطار الفهم الصحيح للأدلة الشرعية يحتاج على جهد علمي كبير وليس سوى الأزهر الشريف هو الذى يستطيع أن يقوم بأعباء هذا الجهد لهذا أقترح ما يلى:أن يضم منهج كلية أصول الدين – خاصة قسم الدعوة- دراسة عن هذه الموضوعات لا تقتصر على الطلاب فحسب ولكن تطبع على الشباب مجانا والعلاج على المدى البعيد هو: 1- يجب إعادة النظر فى قضية التعليم فى مصر خاصة التربية الإسلامية فى مختلف المراحل.
2- تعميق دور الأزهر وعلمائه وتوضيح علاقة الدعاة بالدولة والأمة.
3- وضع أجهزة الإعلام فى القالب الإسلامي الصحيح وأن تخضع كل البرامج للتوجيه الأخلاقي للمسلمين وأن يتم التنسيق بين تلك الأجهزة والأزهر والقائمين على أمر الشباب بحيث يعمل الجميع فى تناسق وتعاون بهدف وضع المسلم على الطريق الموصل لسعادة الدارين.
كما يجب إعداد دعاة متخصصين يعينون فى المدارس والجامعات والمصانع وكل موقع فيه تجمعات كثيرة خاصة القوات المسلحة ويتولى هؤلاء الدعاة الإشراف الديني ويعطون من الصلاحيات ما يجعل رأيهم محل احترام كالمحتسب فى صدر الإسلام.
هذا خير من أن يتحرك جهاز الدعوة فى الأزهر والأوقاف صوب المساجد فقط حيث لا يقصدها سوى العجزة وكبار السن وبهذا الأسلوب يتم احتواء هذه الظاهرة فكريا.
ب- الجانب السياسي:
- يجب على الأجهزة الرسمية والقيادات الشعبية أن تكف عن القطيعة بينها وبين الجامعات الإسلامية وألا تتوجس الدولة خيفة من أصحاب هذا الفكر وهذا يتحقق بأمرين:
الأول : الانفتاح الفكري والسياسي الذى يتيح الفرص للتعبير عن هذه الأفكار التى تتفاعل فى كيان الإنسان ومشاعره وإذا لم يجد لها متنفسا فى التعبير عنها فإنه يتحول إلى طاقة حقد وغضب على المجتمع فالانفتاح الفكري هو العاصم الحقيقي للشباب من حمى التعصب.
يقول د. أبو المجد: " إن غياب لغة الحوار وغياب الشباب عن ممارسته منذ الصغر ، وإغلاق منافذ التعبير عن الآراء والمواقف المخالفة كل ذلك هو الذى يغرى باللجوء على الوسائل الانقلابية".
الثاني: تحقيق قدر من الثقة المتبادلة بين الأفراد والدولة ووضع حد لأزمة التصديق والثقة التى عانت منها الحياة السياسية وذلك بسبب الشعارات البراقة والوعود الكاذبة الفارغة مما يدفع الشباب إلى اليأس من كل إصلاح والجنوح إلى التغيرات بوسائل بعيدة عن أعين الدولة ومؤسساتها وحينما تعطى الثقة للمتدين وتوكل إليه بعض الأمور ويتقلد بعض المناصب ليس على سبيل الإغراء أو الاحتواء ولكن ثقة فى تدينه واطمئنانا إلى مسلكه الملتزم بآداب الإسلام فلا ريب أن هذا سيعود بالخير على الأمة،
فإن الانحراف فى الجهاز الحكومي وانتشار الرشوة والسرقة والإهمال واللامبالاة هو سبب إسناد الأمر لأناس ماتت ضمائرهم وضعف إسلامهم ولله در الشاعر الإسلامي إقبال حينما قال:
إذا الإيمان ضاع فلا إيمان
- ولا دنيا لمن لم يحي دينا
جـ الجانب الاجتماعي:
- لا يمكن فصل التطرف عن الظواهر الاجتماعية والأحوال الاقتصادية ولقد مرت الأمة خلال النصف الثاني من القرن العشرين بمرحلتين اقتصاديتين نتج عنهما الكثير من الآثار على السلوك الاجتماعي.
المرحلة الأولى:
- الانغلاق الاقتصادي واتخاذ الأسلوب الاشتراكي منهجا وتطبيقا فحدثت تجاوزات وإهدار للقيم من خلال التأميم والحراسة ومصادرة الحريات وضرب التيار الإسلامي بقسوة فى عامي (1954 ، 1965 م ) وتغلغلت هذه الأمور فى وجدان الشباب الذى كان يطلق عليه جيل الثورة حتى كان التمزق النفسي إبان هزيمة يونيه ( 1967 م ) مما جعل الشباب يبحث عن هويته الإسلامية التى غاب عنها ردحا من الزمن.
المرحلة الثانية :
الانفتاح الاقتصادي الذى ترتب عليه ما يلي:
- 1- فتح الباب على مصراعيه تحت شعار الانفتاح مما نتج عنه تفاوت اجتماعي رهيب يصل لدرجة الاستفزاز الذى يتحول على الغضب والثورة، فضلا عن ظهور فئة أثرت ثراء فاحشا بطرق غير شريفة ومعاونة بعض ذوى السلطان مما جعل الشباب يتبرم ويضيق بالنظام كله.
- 2- تسببت هذه الفئة الطفيلية والمتسلقة والتي أثرت فى فترة وجيزة على خلق نوع من الترف الاستهلاكي دون مراعاة لشعور جموع الأمة التى لا تملك حد الكفاف مما يولد شعورا بالحقد الاجتماعي ولا يجد متنفسا له سوى الانغماس فى القراءة الدينية بدون معلم مما يؤدى على تأويل النصوص وفق ما يعانيه من ثورة كامنة فيثور على هذا الواقع ويعمل على تغييره معتقدا فى قرارة نفسه أنه مجاهد فى سبيل الله وأنه يبغى إحدى الحسنيين إما نصر على النظام الجاهلي كما يعتقد أو الشهادة.
ولهذا سيظل الفكر المتطرف ما بقى النظام الاقتصادي المتهالك والمخرج من هذا تخليص هذا النظام من كل ما يغضب الله من ربا ورشوة واختلاس..ز والعقاب الرادع لكل من تسول له نفسه استغلال الأمة.
وإذا ما كنا بصدد علاج الظواهر الاجتماعية التى تدفع بالشباب على التطرف فلنحي فى النفوس الحياة الاجتماعية الإسلامية فىالزواج من حسن الاختيار وعدم التغالى فى المهور والبساطة فى المسكن والملبس وهذا هو الحل الإسلامي والذي به يسهل احتواء أى فكر شارد أو رأى متطرف وتصان دماء وأرواح الشباب وهناك فى الجعبة الكثير من المقترحات ولكنى أمسك عن ذكرها منعا للاستطراد لأن الاتجاه إلى العمل الجاد ولو باقتراح واحد أجدى وأنفع من آلاف المقترحات التى تظل حبيسة فى بطون الكتب وخزائن المكتبات.
وبعد فهذه وسائل الاحتواء والعلاج لظاهرة التطرف وبدون هذه المعالجة وعدم احتواء الشباب والعناية به ولين الجانب له سيبقى التطرف ظاهرة متجددة تقرع سمع المجتمع وتهز كيانه بين كل حين وآخر مما يؤدى إلى فتن كقطع الليل المظلم لا يعلم سوى الله متى تنقشع.
وبانتهاء هذا الباب نكون قد قدمنا دراسة للجمعيات الإسلامية فى مصر ودورها فى نشر الدعوة ونذيل تلك الأبواب بخاتمة عن الآثار والنتائج والمقترحات إن شاء الهل .
الختام
خاتمة
لقد تمت – بحمد الله وتوفيقه – تلك الدراسة الموضوعية عن بعض الجمعيات الإسلامية فى مصر ودورها فى نشر الدعوة خلال القرن الرابع عشر الهجري ولقد اتضحت خلال أبواب الرسالة وفصولها: أسباب نشأة الجمعيات الإسلامية وألقى ضوء البحث والدراسة على تاريخها ومنهجها الفكري والعملي وأثر كل منها فى الدعوة إلى الله .
ثم وقفت من كل جمعية موقف الناقد الأمين الذى لا يهدف سوى ابتغاء مرضاة الله تعالى ثم النهوض بالدعوة الإسلامية. ومما تجدر ملاحظته أن تلك الجمعيات – موضوع الكتابة والدراسي- ليست هى الجمعيات الوحيدة العاملة فى ميدان الدعوة. بل هناك جمعيات وجماعات كثيرة تساهم فى اليقظة الإسلامية المعاصرة مساهمة بناءة ،
ولها جهد لا يتنكر ونشاط لا يجحد فى ميادين كثيرة ففي ميدان التربية الروحية مثلا توجد جمعية العشيرة ذات المنهج الصوفي، وفى مجال القرآن الكريم نجد جمعيات المحافظة على القرآن الكريم التى تنتشر فى طول البلاد وعرضها، وجمعيات تعمير المساجد المنبثة فى ربوع البلاد،
ومن أبرزها جمعية الهداية الإسلامية وجمعية مجد الإسلام وجمعية أبى بكر الصديق فضلا عن تلك الجمعيات الخيرية التى تساهم فى دعم النهضة الإسلامية الحديثة وهذه الجمعيات والجماعات الإسلامي فى تطور دائم ونمو مستمر فبينما نجد الجمعية الخيرية الإسلامية التى أسسها الإمام محمد عبده عام ( 1878 م ) وكان الدافع إليها دينيا ووطنيا ثم تتابعت الجمعيات فبلغت فى الربع الأول من القرن العشرين ما يقرب من مائة وخمس وتسعين جمعية ثم قفز هذا العدد حتى وصل فى عام ( 1978 م ) على ستمائة وثمانية آلاف جمعية ثم فى عام ( 1981 م ) تصل الجمعيات الدينية على خمسمائة وتسعة آلاف جمعية،
منه ما يربو على خمسمائة وألف جمعية دينية إسلامية وهذا مما يدل على العواطف الدينية المتدفقة واليقظة الإسلامية التى لا تهن ولا تضعف رغم عوامل التحدي من كل أعداء الإسلام.
ولقد كانت محصلة البحث والدراسة فى هذا الموضوع . أن توصلت إى آثار إيجابية وجوانب سلبية للجمعيات موضوع الكتاب.
أوجزها فيما يلي:
أ- الآثار الإيجابية والسلبية للجمعيات
أولا: الآثار الإيجابية للجمعيات الإسلامية:
- 1- خلقت رأيا عاما إسلاميا يفهم الإسلام فهما صحيحا مستمدا من القرآن والسنة وفكر السلف مما كان له الأثر فى اليقظة الإسلامية المعاصرة.
- 2- وقفت إلى حد ما فى وجه الاستعمار الفكري وتصدت لمحاولات الشيوعية كما حذرت وأنذرت من مخططات اليهودية والصليبية وكشفت محاولات العلمنة والتغريب.
- 3- نجحت فى تعميق الولاء لله ولرسوله وللإسلام وحاربت دعاوى الوطنية والقومية وتراب الأرض فقط.
- 4- أثرت المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات التى أسهمت فى ا لنهضة الإسلامية الحديثة كما برز العديد من الدعاة المخلصين والخطباء الموهوبين والشعراء والأدباء الذين ارتقوا بتلك المعارف لتخدم قضايا الإسلام والمسلمين.
5- حاربت البدع والخرافات فى مجال العقيدة والعبادات وعرضت الإسلام بصورته الصحيحة.
- 6- هذه الجمعيات حافظت والتزمت- معظمها- بهدى الرسول صلى الله عليه وسلم فى العبادات والسلوك وأحيت العديد من السنن التى كادت تندثر.
- 7- نجحت الجمعيات والجماعات الإسلامية فى إقناع المرأة المسلمة – خاصة فتيات الجامعة- بالالتزام بالزى الإسلامي والتخلق بآداب الإسلام.
هذه هى أهم الآثار الإيجابية الإسلامية وقد ذكرت بإسهاب بيت ثنايا الكتاب.
ثانيا : الآثار السلبية للجمعيات الإسلامية
على الرغم مما بذلته الجمعيات الإسلامية فى ميدان العمل الإسلامي المنظم فإن هذه الجمعيات قد جانبها بعض الصواب وقصرت فى العديد من الأمور مما خلف آثارا سلبية عاقت تلك الجمعيات عن إتمام رسالتها وبلوغ أهدافها.
وإذا كان عمرها قد بلغ أكثر من نصف قرن فلا ينبغي أن يمر هذا العمر بدون دراسة ونقد وتقييم وتقويم لكي تعيد كل جمعية محاسبة نفسها ووزن أعمالها ولقد مضى بين ثنايا الكتاب النقد الموضوعي لكل جمعية على حدة غير أنه من موجبات ومتممات الختام أن نعدد سلبياتها مجتمعة وهذه السلبيات هى إحدى النتائج التى تبلورت واتضحت أثناء البحث والدراسة ونوجزها فيما يلي:
- 1- عفوية السير والارتجال وعدم التخطيط مما حال دون تحقيق معظم أهدافها.
- 2- عدم التنسيق بين دعاة الجمعيات الإسلامية مما أفقد الحركة الإسلامية المعاصرة القدرة على الأخذ بزمام المبادرة والاحتواء.
- 3- عدم التعاون بين الأزهر الشريف والجمعيات الإسلامية أفقد الحركة الإسلامية القدرة على التأثير الفعال.
- 4- تعميق الخلافات فى القضايا الفقهية والأمور الفرعية.
- 5- الاقتصار على الأسلوب النظري فقط وافتقار بعضها فى مجالات الإعداد والتكوين والتربية العملية لأبناء الإسلام.
- 6- عدم مشاركة العديد من الجمعيات فى القضايا السياسية والكفاح الديني والوطني وتجنبها توجيه الاقتصاد وجهة إسلامية.
- 7- انخراط ذوى الثقافات المحدودة وغير المتخصصين فى ميدان الدعوة.
- 8- عدم بذل أي جهد لنشر الإسلام والتعريف به لدى غير المسلمين.
هذه بعض الجوانب السلبية للجمعيات الإسلامية وقد سبقت بشيء من التفصيل عبر أبواب الكتاب وفصوله والقصد من ذكر تلك الأمور تبصير العاملين فى ميدان الدعوة بتلك الثغرات ليعملوا على علاجها والنهوض بالعمل الإسلامي إلى مراقي الكمال والمجد.
ب- كيفية النهوض بالجمعيات الإسلامية
إن الدعوة الإسلامية تعيش فى منحنى خطير فالأعداء متربصون بها من كل جانب وقد نجحوا فى تطويق ديار الإسلام واحتوائها كالأخطبوب سياسيا واقتصاديا وثقافيا والإسلام فى هذا العصر أشبه ببيت شب فيه حريق هائل فلا يعقل أن يترك أصحاب المنزل الحريق يدمر كل شيء ويتبادلون الاتهامات حول من أشعل الحريق، ولكن الواجب أن يبادر كل فرد ليطفئ ما يستطيع من لهب تلك النار التى لا تبقى ولا تذر،
فالواجب على الدعاة أن يتلقوا بدعوتهم خلال القرن الخامس عشر الهجري بعقلية ومنهج يختلف عما كانوا عليه خلال القرن الرابع عشر الهجري.
هذا وإذا كان هذا الكتاب- بحمد الله وتوفيقه- قد قارب على الختام فإنني أتوج هذا الختام بأن أضع بين يدي العاملين فى حقل الجمعيات الإسلامية بعض الآراء والمقترحات التى أراها لو توافر الإخلاص فى الدعاة – إن شاء الله – كفيلة بالنهوض برسالة الجمعيات الإسلامية ولتحقيق ما يناط بها من آمال تشرئب لها أعناق المسلمين وتهفوا لها قلوبهم.
وهذه المقترحات أوجزها فيما يلي:
أولا: يجب على الجمعيات أن تقف من تاريخها الماضي موقف الحساب ولتسأل كل جمعية نفسها الأسئلة التالية:
- 1- وما الذى تحقق ؟ وما الذى لم يتحقق من الأهداف؟
- 2- ما الموانع والعوائق التى حالت دون تحقيق الأهداف؟
- 3- ما الأمور التى قامت بها الجماعة وكان الأجدر بها ألا تفعلها؟
- 4- ما الأهداف التى يمكن تحقيقها على الفور؟ وما الآمال التى سوف تتحقق على المدى البعيد؟
- 5- المتابعة المستمرة للأعضاء والوقوف على مدى التزامهم بمبادئ جمعيتهم وما الأثر المترتب على تلك العضوية؟
ثانيا: أن تنأى الجمعيات العاملة فى ميدان الدعوة عن الخلافات الفرعية التى انغمست فيها طوال القرن الماضي وصرفتها عن عظائم الأمور التى اجتاحت الإسلام والمسلمين وأن تضع نصب أعينها منهج " نلتقي فيما اتفق عليه ويعذر كل منا الآخر فيما اختلف فيه".
ثالثا: ألا تقتصر الجمعيات الإسلامية فى دعوتها على الخطب والمواعظ فحسب ولكن ينبغي عليها أن تقتحم ميدان العمل الاجتماعي من خلال رؤية إسلامية ومخلصة وأمينة وذلك فى المجالات التالية:
- 1- الاهتمام بالطفولة والشباب بأن تنشئ كل جمعية فى فروعها مدارس إسلامية تربى الطفل والشاب على العقيدة الإسلامية وتغرس فى عقله وقلبه معاني الخير وأن تنمى فيه آيات الولاء لله والرسول والإسلام، وإذا نجحت الجمعيات فى هذا فسوف ينتزع الآباء أبناءهم من مدارس التربية والتعليم ويسلمونهم لمن يحسنون أدبهم وتعليمهم.
- 2- أن تشارك الجمعيات الإسلامية مجتمعة فى وضع برنامج إصلاح سياسي ينبع من تعليم الإسلام الذى لا يعرف النفاق السياسي ولا المكائد التى تحاك فى مضمار السياسة العالمية.
- 3- تستطيع الجمعيات من خلال فروعها المنتشرة فى أنحاء البلاد أن تساهم مشتركة فى بعض المشروعات الاقتصادية التى تنأى عن الربا والاستغلال وتدار بعقلية إسلامية ومن محصلة أرباح تلك المشروعات تساهم الجمعيات فى رفع المعاناة عن جماهير المسلمين كحل مشكلة الإسكان وتحسين مستوى الأداء والمشاركة فى توفير احتياجات المسلم فى مأكله وملبسه، وإذا ما تحقق ذلك – إن شاء الله – فإن الجمعيات الإسلامية تكون قد نجحت فى رسالتها على الوجه الذى يرضى الله ورسوله والمسلمين.
رابعا: أن يتم التنسيق والتعاون والتكامل بين الجمعيات الإسلامية:
اتضح خلال تاريخ الجمعيات الإسلامية أن كل جمعية كانت تولى ظهرها للأخرى وتتربص بها وتظهر الشماتة إذا ما نزل بإحداها بلاء أو محنة وإذا ما أريد لتلك الجمعيات أن تساهم فى اليقظة الإسلامية المعاصرة فلابد من توحيد صفوفها والتنسيق فيما بينها.
وها هى ذى بعض المقترحات التى تساعد على التنسيق والتعاون والتكامل:
- 1- أن يشكل مجلس ليضم رؤساء الجمعيات الدينية لوضع سياسة مشتركة للنهوض بالدعوة والدعاة.
- 2- التنسيق فى ميدان الدعوة بحيث تعتبر كل جمعية نفسها على ثغر من ثغور الإسلام فلا تؤتى من قبلها وتكمل كل منها الأخرى فى ميدان الدعوة.
- 3- أن يكون هناك مسح شامل لبلاد القطر بحيث لا تخلو مدينة من المدن من جمعية من الجمعيات وهذا أفضل مما هى عليه الآن إذ قد توجد أكثر من جمعية فى مدينة واحدة بينما تخلو بلاد كثيرة منها.
- 4- أن يشكل فى عواصم المحافظات الإسلامية أن يلتقوا فيما بينهم فى الخلافات ويعملوا على رأب الصدع والتقريب بين وجهات النظر المتباينة وصولا للحق لا ابتغاء للمجادلة وحب الانتصار وأن يكف العاملون فى مضمار الجمعيات عن أساليب الإثارة والتشهير . س
- 6- أن تشترك الجمعيات الإسلامية فى إصدار جريدة يومية تكون لسان حالها مجتمعة حيث تعرض الفكر الإسلامي على القارئ المسلم من خلال رؤية صادقة وواعية وأمينة للقرآن والسنة وفكر السلف كما تعرض تلك الجريدة للجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من خلال ينابيع الإسلام.
هذه بعض المقترحات للنهوض برسالة الجمعيات الإسلامية فى مصر خلال القرن الخامس عش الهجري.
جـ - ما يجب على الأزهر الشريف نحو النهوض بالجمعيات الإسلامية
لقد وقف الأزهر خلال القرن الرابع عشر الهجري من الجمعيات والجماعات الإسلامية موقف المتفرج فلم يبد لها نصحا ولم يقوم لها فكرا فحدث ما يشبه الجفوة والقطيعة بينها وبين الأزهر ومما زاد الشعور بانعدام
الثقة أن الأزهر لم يعر اهتماما للقضايا الفكرية التى كانت تدعو لها لجمعيات والجماعات الإسلامية ولم يعمل الأزهر على وقف وحسم المعارك الفكرية بين العاملين فى ميدان الدعوة،
بل وجد فى كل جمعية بعض علماء الأزهر يهاجم فكر الجماعة الأخرى والمسلمون حائرون بين هؤلاء وهؤلاء يستغيثون بالأزهر أن يحسم الأمر وينطق بكلمة الفصل غير أنه لم يفعل مما أدى إلى عقوق بعض الجمعيات له بل بلغ الأمر أن تطاول البعض على علمائه ووصفوهم بأنهم دعاة السلطة.
هذا ولقد تصدرت بعض الجمعيات والجماعات الإسلامية – خطأ – أنهم سدنة الدعوة وحراس العقيدة مما نتج عنه الجنوح إلى الغلو والتطرف وحدوث ما لا تحمد عقباه فى ساحة الدعوة كما سبق أن ذكر ذلك خلال الباب الثالث.
لهذا فإنني أضع تلك المقترحات التى تمكن الأزهر الشريف من تحمل مسئوليته نحو الجمعيات الإسلامية وليمد لها يد العون والنصح وهذه المقترحات نوجزها فيما يلى:
- أولا: أن يكون هناك تعاون وثيق بين الأزهر والجمعيات الإسلامية بحيث يكون الأزهر هو الشجرة الوارفة الظلال التى يستظل به العاملون فى ميدان الدعوة.
- ثانيا: أن تهتم كلية الدعوة بالأزهر بدراسة فكر ومنهج وأسلوب الجمعيات الإسلامية للطلاب ليكونوا على علم وبصيرة بفكرها فلا تحدث الفرقة والتنافر إذا ما نزل هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم إلى ساحة الدعوة..
- ثالثا: أن يعقد الأزهر دورات دراسية للدعاة من الجمعيات الإسلامية على غرار ما يعقد للوعاظ والأئمة يوضح لهم فيها آداب الدعوة والدعاة ويبصرهم بالقضايا التى يتطرف فيها البعض وبهذا يتم الربط بين دعاة الجمعيات والأزهر وتزول الفجوة بين العاملين فى ساحة الدعوة.
- رابعا: إذا ما نشب خلاف فكرى بين بعض الجمعيات أو الجماعات الإسلامية فليكن الأزهر هو الحكم والفيصل فى شأن هذه الخلافات فيوضح رأى الإسلام مدعما بالأدلة الشرعية مصطحبا هذا بالقوة التنفيذية التى تتيح للأزهر وقف وحسم مثل هذه الخلافات.
- خامسا: يجب على الأزهر أن يبدى رأى الإسلام فى كثير من الأمور التى تسبب نزاعا بين العاملين فى ساحة الدعوة وأن يقف بجانب الحق يؤيده وينصره ويشجب الباطل ويفنده وأن يحمل علماءه على ذلك، لأنه من الواضح أن الأزهر لا يتابع دعاته ويتركهم فى ساحة الدعوة دون رعاية أو توجيه أو إلزام ولا يزودهم بالمراجع الدينية والكتب العلمية التى تنمى ثقافتهم وتجعلهم على مستوى القيادة والريادة لأكرم رسالة واشرف أمة.
- سادسا: يجب أن يكون للأزهر جهاز إعلامي مستقل – إذاعة ، تلفاز ، صحف – بحيث يكون هذا الجهاز هو صوت الإسلام ومن خلاله تنطلق الدعوة فى كل مجالات الحياة وتتغلغل بين طبقات الأمة، تربى السلوك وتنظيم الحياة وفق شرع الله وتستطيع الجمعيات الإسلامية أن تجد لها فى هذا الجهاز الإعلامي الإسلامي المقترح مكانا تعرض فيه فكرها وأسلوبها جهارا وبهذا لا تتاح فرصة لفكر يتسلل فى الظلام وتحاط من حوله الشكوك والشبهات.
وحينذاك ستعود للأزهر مكانته ويتصدر مسيرة الدعوة كما كان العهد به وبعلمائه وتتعاون الجمعيات والجماعات الإسلامية على رفع لواء الإسلام فى العالمين وبذلك تنطلق الدعوة الإسلامية خلال القرن الخامس عشر الهجري بفكر ومنهج وأسلوب يختلف عما كانت عليه اليقظة المعاصرة من خلال القرن الرابع عشر الهجري الذى تناولناه بين ثنايا هذا الكتاب بالعرض والدراسة.
أما بعد فبحمد الله وتوفيقه فقد تم هذا الكتاب عن " الجمعيات الإسلامية فى مصر ودورها فى نشر الدعوة خلال القرن الرابع عشر الهجري".
ولقد كان الفراغ منه لثلاث ليال خلت من رمضان المعظم عام أربعة وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية.
وهذا من تمام الفضل وحسن الختام . وإنني إذ أتقدم بهذا الجهد المتواضع أسجد لله شكرا فقد هيأ لي أسباب التأليف وذلل لي صعوباته وألان لى القلوب والنفوس التى مدت لى يد العون الصادق والجهد المشكور.
وأخص بالشكر أستاذي الفاضل فضيلة الأستاذ الدكتور محمد الطيب النجار رئيس جامعة الأزهر – فرغم أعبائه الجسام ومهامه الكثيرة – فلقد قدم لى التوجيهات والإرشادات التى كانت نبراسا لى فى سبر أغوار الكتابة والدراسة حتى أتى الكتاب على تلك الصورة والتي آمل بها خيرا وفتحا مبينا للدعوة والدعاة.
فإن أكن قد وفقت فى مؤلفي هذا .. فهذا ما أجوه . وأتمناه وإن تكن الأخرى فإن الكمال لله وحده. وحسبي أنني بذلت غاية جهدي المتواضع ابتغاء مرضاة الله تعالى وليكون به التماس شفاعة محمد لي الله عليه وسلم " يوم لا ينفع نال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم "
بلبيس – شرقية
" محمد عبد العزيز إبراهيم داوود"
ليلة الثالث من رمضان عام 1404 هـ