إلغاء القضاء الشرعي بمصر

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
إلغاء القضاء الشرعي بمصر
نموذج من محاربة جمال عبد الناصر مظاهر الإسلام

مقدمة

الغاء-القضاء-الشرعي.1.jpg
الغاء-القضاء-الشرعي.2.jpg
الغاء-القضاء-الشرعي.3.jpg
الغاء-القضاء-الشرعي.4.jpg
الغاء-القضاء-الشرعي.5.jpg
الغاء-القضاء-الشرعي.6.jpg
الغاء-القضاء-الشرعي.7.jpg

خلق الله سبحانه الناس على اختلاف فهمهم وقدراتهم وأمزجتهم فكانت أول جريمة قتل على الأرض في بداية الخليقة من نصيب قابيل الذي أردى أخوه هابيل قتيلا بسبب الغيرة، ومن ثم أوجد الله القصاص والحكم بين الناس بما شرعه الله، فمنهم من التزم به ومنهم من حاد عنه وعارض كل ما جاء من عند الله.

وما أن جاء الإسلام حتى شرع الأحكام لفض المنازعات وانصاف المظلوم وردع الظالم، فعمد لإيجاد مؤسسات قضائية تحكم بين الناس، وبين الشروط فيمن يتولى مهامه، وأرست أصوله، وشرع العلماء في تنزيل تلك الأصول وتحويلها إلى إطار مؤسسي له بنية داخلية محددة، وإجراءات تضبط عمله. والقضاء الشرعي أو الإسلامي يستمد أحكامه الشرعية من القرآن والسنة ومن المصادر المعتبرة شرعا في هذه الأحكام.

ويتميز القضاء الشرعي أو الإسلامي عن غير أن الشريعة هي مصدر القانون، وأنه يتسم بالعدالة والمساواة، كما أنه شامل فهو يشتمل على شئون الأموال والأعراض والدماء وشئون الأسر، وشئون الحكم، والحرب والسلام، والعقود والتحكيم وغيرها، وهذا الشمول مستمد من شمول الشريعة ذاتها، كما أنه مقتصر على الأمور الحياتية دون الأمور العبادية كون العبادات من يحاسب عليها هو الله وحده. (1)

ولهذه الخصائص والتي كانت سببا في نشر العدل حتى أن سكان سمرقند في خلافة عمر بن عبد العزيز دخلوا في الإسلام طواعية حينما رأوا عدل القضاء الإسلامي الذي أخرج جيش المسلمين المنتصر والمتسحوذ على المدينة بكامل عدته لمجرد أنه لم يدعوهم إلى الإسلام أو يطلب منه الجزية.

وهو ما عرض القضاء الإسلامي لحروب شعواء من قبل أعداءه وأعوانهم من بني جلدتنا في سبيل تنحية كل ما شرعه الله من أحكام واستبداله بقوانين وضعها الإنسان الغربي لتتوافق مع اتجاهاته ومصالحه فقط وهي لا تتناسب بأي حال مع طبيعة الشعوب العربية والإسلامية.

القضاء الشرعي تحت حكم المحتل البريطاني

جاء القضاء الشرعي إلى مصر مع الفتح الإسلامي واستمر – رغم محاولات الأعداء القضاء عليه أو استبداله- حتى الخلافة الإسلامية العثمانية.

يقول الدكتور حمادة حسني:

"كان النظام القضائى فى مصر منذ الفتح الإسلامى للبلاد، هو النظام القضائى الشرعى فكانت المنازعات تعرض على القاضى وهو يفصل فيها وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية ويقوم هذا النظام على "الإنابة"، فالخليفة يعين "قاضى القضاة" وهو بدوره يعين القضاة، ولكن لم تكن هناك درجات متعددة من التقاضى بل كان هناك ما يسمى بوحدة القاضى
وفى هذا النظام أيضاً نوع من القضاء الإدارى يتولاه "صاحب المظالم"، وقد كان ينظر فى الشكاوى التى يتظلم بها الناس من تصرفات الحكام، كما كان هناك فرع متخصص للنظر فى قصايا الجند يسمى قاضيه "قاضى العسكر" وهى وظيفة التى عرفت فى النظام القضائى الإسلامى من قديم، وبالإضافة لكل ما سبق كان هناك "المحتسب" الذى كانت وظيفته مراقبة الأسواق والطرق وقد طبق هذا النظام حتى الفتح العثمانى لمصر (1517م)، فأصبحت مصر ولاية وأنشئت فيها محاكم شرعية بعد تقسيمها إلى 36 ولاية قضائية" (2)

لكن القضاء الشرعي تعرض لكثير من الانتهاكات والحروب منذ أن ضعفت دولة الخلافة الإسلامية وقويت يد الدول الغربية التي طمعت في ميراث دولة الخلافة فسعت إلى تفكيكها والسيطرة عليها واحدة تلو الأخرى بمعاونة جندها وعتادها وبعض الخونة في نظم الحكم في الولايات التابعة لدولة الخلافة وعلى رأسهم مصر.

فما أن وطأ الاستعمار الفرنسي أرض مصر عام 1897م حتى كان هدفه الأول طمس الهوية الإسلامية ومعالمها ومنها القضاء الشرعي غير أن الاضطرابات والقلاقل وقصر مدة احتلاله لم تمكنه من اجتثاث القضاء الشرعي حتى خرج.

لكن ما إن عاد محتل جديد يطأ أرض مصر وهو المحتل الإنجليزي عام 1882 إلا وقد سعى إلى تغيير كل المعالم والمظاهر الإسلامية لكن بالتدريج تارة وبالقوة تارة أخرى حتى لا يصطدم مع الشعب مباشرة، فعملوا تدريجياً على بسط نفوذهم على سائر وظائف الحكومة ومناصبها من خلال وظيفة "المستشار" المعين من قبلهم فى كل وزارة وهيئة وكانوا قد تركوا للخديو ثلاثة مجالات هى الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية

فلما تمت لهم السيطرة على جهات الحكومة المختلفة شرعوا عام 1899 فى العمل على النفاذ إلى المحاكم الشرعية، وأعد المستشار الانجليزى لوزارة الحقانية مشروعاً لإعادة تنظيمها، وكان هدفه الحقيقى إلغاءها لكنه لم يستطع، وظل القضاء الشرعي قائم بل وضع الشيخ محمد عبده نواة مدرسة للقضاء الشرعي

وأصبح لها كيان فعليا في فبراير 1907م والتي خرجت كثيرا من علمائها وقضاتها ومشايخها أمثال الشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد الخضري بك، الشيخ مصطفى عبد الرازق، وإبراهيم مدكور، وأحمد أمين، وعبد الوهاب عزام، والشيوخ: حسنين مخلوف، وعلي حسب الله، وعبد الوهاب خلاف، وغيرهم. (3)

لماذا ألغى عبد الناصر القضاء الشرعي؟

لا يختلف إثنان أن عبد الناصر كان لا يحب أى مظهر إسلامي وكان يعمد لتغليب القومية بشتى صورها على أن تسود الدولة التي يحكمها أو الدول المجاورة أى مظهر من المظاهر الإسلامية لكي يظل الحاكم الأوحد. ولقد كتب الكثيرين المنصفيين عما قام به عبد الناصر من تحجيم المظاهر الإسلامية في مصر سواء بتحجيم الأزهر أو العبادات أو الحجاب أو القضاء الشرعي أو غيرها من المظاهر التي تتسم بالإسلام.

لكن لماذا أجهز عبد الناصر بإصدار قرار بإلغاء المحاكم الشرعية رغم أنها محاكم ككل المحاكم العادية، وأن القضية التي أثيرت واتخذها عبد الناصر ذريعة كمثلها من عشرات القضايا، وأن فساد قاضيين مثلا – إن كانت صحيحة- ليست سببا في إلغاء نظام قضائي كامل.

لكن يبدو أن الأسباب التي دفعت عبد الناصر لالغاء المحاكم الشرعية كانت كثيرة ومنها:

في البداية حاول الكاتب عبدالرحمن الرافعي – عين بقرار من عبد الناصر نقيبا للمحامين بعدما حل مجل نقابة المحامين بعد الثورة لأن المجلس رفض حكم العسكر وطالب بعودتهم لثكناتهم- أن يضفي على قرار الألغاء قدسية وأنه كان لصالح المتقاضين ويلعب على نبرة المواطنة

حيث يقول:

الأصل أن يخضع جميع السكان على اختلاف جنسياتهم وأديانهم لقوانين البلاد ومحاكمها، ولجهة قضائية واحدة بصرف النظر عن نوع المسائل التى تتناولها خصوماتهم، أو القوانين التى تطبق عليها، ولكن جرى الحال على غير هذا القانون، فكانت جهات القضاء فى مسائل الأحوال الشخصية بالنسبة للمصريين أنفسهم متعددة، وكل جهة تطبق قوانينها وتتبع إجراءاتها الخاصة بغير أن تكون هناك صلة تربطها، أو هيئة عليا تشرف على قضاتها.
مصر ورثت نظام تعدد جهات القضاء فى مسائل الأحوال الشخصية عن الماضى، فقامت المحاكم الشرعية، وقام إلى جانبها القضاء الملى الخاص بالمسيحيين، وتعددت أيضا جهات القضاء الملى، فكان لكل طائفة قضاؤها الخاص، وقوانينها الموضوعية الخاصة، ما أدى إلى الفوضى والإضرار بالمتقاضين
حيث استتبع تعدد جهات القضاء رغبة كل جهة فى توسيع دائرة اختصاصها والاعتداء على سلطة غيرها، خاصة مع عدم وجود حدود دقيقة أو ثابتة لاختصاص كل منها، واستتبعت هذه الفوضى تنازع المحاكم بينها، وتعددت الأحكام التى تصدر فى النزاع الواحد، وكان المتقاضون ضحية تلك الفوضى، فجاء هذا القانون علاجا لتلك الحالة. (4)

لكن لن نتجنى على ما كتبه الرافعي فهو عنه مسئول لكن ارتماءه في حضن العسكر وقبوله منصب نقيب المحامين بالتعيين على حساب المجلس المنتخب الذي رفض حكم العسكر كان وصمة عار في سيرة وتاريخ الرافعي جعلت كثيرا من شهادته للتاريخ مجروحه.

لكن هناك أسباب أخرى كثيرة غير التي ذكرها الرافعي ومنها ما ذكره الدكتور إسلام عاصم، نقيب المرشدين السياحيين السابق بالإسكندرية والباحث في التاريخ وأستاذ التراث في المعهد العالي للسياحة:

"قضية الشيخ الفيل كانت ملفقة لإلغاء المحاكم الشرعية في مصر لأسباب سياسية تتعلق بخوف الرئيس جمال عبد الناصر في هذه الفترة تحديدًا من سيطرة الإخوان المسلمين وتمددهم في تلك المحاكم، متسائلا هل معنى وجود قاضيين فاسدين أن كل القضاء فاسد؟.
حيث أن المحكمة كانت معبرا للتحكم في قضايا الأوقاف والأحوال الشخصية، مشيرا إلى أن أجهزة الدولة هي من لعبت الدور للإشراع في غلقها بأمر رئاسي له بعد سياسي، حيث كان الأولى أن يحولها إلى قضاء مدني بدلا من غلقها" (5)

وأيضا ربما من الأسباب الرئيسية أن الشيخ عبد القادر الفيل – رئيس المحكمة الشرعية بالإسكندرية- كان معروفا بالتهكم على الحكام الجدد، وكان يحكى لأصدقائه عن الحاج عبد الناصر حسين والد الرئيس جمال عبد الناصر، وكيف كان الباشاوات يعطفون عليه، وكان والد الرئيس موظف بريد متواضعاً بالقرب من عزبة أحد الباشاوات، الذي كان يتحف موظف البريد الفقير في المواسم والأعياد ببعض الصدقات.

كما أن الشيخ عبد القادر الفيل رئيس المحكمة بالإسكندرية أصدر حكما ضد الصاغ صلاح سالم يلزمه بدفع نفقة شهرية لمطلقته التي طلقها، وراح يدور في ذيل الأميرة فايزة فؤاد التي سايرته في طيشه حتى ساعدها في تهريب جزء من ثروتها والهروب خارج البلاد، فلم يجد أمامه سوى الملكة فريدة التي طلبها للزواج فلقنته درساً لم يستطع نسيانه رغم التنكيل بالملكة السابقة. (6)

ومنها أيضا أن ضباط ثورة يوليو بادروا إلي إلغاء الوقف الأهلي في 14 سبتمبر 1952؛ وهو ما يسر للحكام الجدد من ضباط الانقلاب سهولة الاستيلاء علي 170 ألف فدان من أجود الأطيان من أوقاف المصريين (مسلمين ومسيحيين) أوقفها أًصحابها للإنفاق علي أعمال البر والمؤسسات التعليمية والعلاجية ولذا اختلقوا مثل هذه القضايا لاشغال الناس عن محاسبة الحكام عن هذه الأراضي التي استولوا عليها. (7)

أحداث التمثيلية

كان حكم عبد الناصر ملئ بالأحداث التمثيلية من أجل القضاء على خصومة بداية من تمثيلية حادثة المنشية والتي راح ضحيتها آلالاف من الإسلاميين ثم تمثيلية مذبحة سجن ليمان طره عام 1957م لتمثيلية قلب نظام الحكم ضد المستشار محمود عبد اللطيف، لتمثيلية رفاقه الضباط الأحرار عبد اللطيف البغدادي لكمال الدين حسين مختتما بقتل رفيقه عبد الحكيم عامر في تمثيلية دراماتيكية، ومنها أيضا تمثيلية رخيصة أوعز لأجهزته للقيام بها من أجل إلغاء القضاء الشرعي

حيث جاء من حيثيات أوراق القضية القصة كالتالي:

ذات صباح، اهتزت مصر، من أدناها إلى أقصاها، لخبر القبض على رئيس المحكمة الشرعية في الإسكندرية… ولأن تهمة القاضي كانت قضاء سهرة حمراء مع ثلاث مطلقات من أصحاب القضايا المنظورة أمامه، ولأن الصحف نشرت مع الخبر أحراز القضية، وصور صاحبة أول بلاغ، انتشر باعة الصحف في إرجاء مصر وارتفع صياحهم: "… إقرأ حادثة القاضي بتاع النسوان" … وتحولت الواقعة إلى فضيحة مدوية… لكن كيف بدأت؟
مساء 21 يونيو 1955، وقفت إحدى السيدات أمام المقدم عبد القادر محمود في مديرية أمن الإسكندرية تقدم بلاغاً كالقنبلة… قالت إن رئيس المحكمة الشرعية في المنشية، واسمه الشيخ عبد القادر الفيل، يراودها عن نفسها.
وسألها الضابط بدهشة وكانت تجيب ببرود وثقة:
  • كيف يراودك عن نفسك؟
    • طلب مقابلتي على انفراد… ولما سألت موظفاً بالمحكمة عنه قال لي إنه قاضٍ بتاع نسوان… وخلي بالك منه! أحمرّ وجه الضابط… حبس أنفاسه… تأمل السيدة من شعر رأسها إلى أصابع قدميها التي ظهر جانب منها داخل الصندل الذي تلبسه، ولا يتماشى لونه مع ما ترتديه من ملابس… ثم عاد الضابط يحاورها من دون أن يفقد دهشته بينما زادت هي من جرأتها وثقتها بنفسها:
  • ما اسمك؟
    • شفيقة شاكر!
  • ما علاقتك بالمحكمة والقاضي؟
    • أنا كنت رافعة قضية نفقة لي ولولديّ عطية وفريدة… وحكمت المحكمة برئاسة الشيخ الفيل لي بنفقة 240 قرشاً فقط، على رغم أن دخل زوجي 14 جنيهاً في الشهر، عملت معارضة في الحكم وقدمت المستندات المطلوبة… لكن القاضي ظل يؤجل القضية. وفي الجلسة الأخيرة طلب مقابلتي على انفراد وفهمت منه أنه يرشح لي موظفاً بالمحكمة ليشرح لي سبب المقابلة!
حرر الضابط محضراً بالبلاغ الخطير وضرب كفاً بكف من فرط الذهول الذي أصابه والأسئلة التي تحيره: هل يعقل أن يطلب الشيخ الوقور مقابلة إحدى المطلقات على انفراد… وفي نهار رمضان والناس صائمون؟ هل يمكن أن تكون السيدة مبالغة في ادعائها؟ هل يمكن أن تتلاعب المحاكم في مصر بالمطلقات وشاكيات أزواجهن مقابل سهرات حمراء وممارسات جنسية؟لم يكن ثمة وقت للدهشة أو التساؤلات.
أسرع الضابط إلى إبلاغ كمال الديب محافظ الإسكندرية الذي أشار إلى عرض الموضوع على النيابة العامة… وأن تتم التحقيقات بسرية تامة!داخل أروقة النيابة كانت الأوراق تنتقل بسرعة من مكتب إسماعيل حسن رئيس النيابة إلى مكتب محمود عباس الغمراوي وكيل أول النيابة الذي أسرع بدوره إلى استدعاء السيدة الشاكية شفيقة شاكر، لفحص بلاغها وبدء التحقيق فيه.
بعدها أمر المحقق أن تساير الشاكية القاضي وتتظاهر بقبول عرضه والاستجابة لرغبته في "الخلوة" التي يريدها… وفي الوقت نفسه تأمر النيابة بأن تعمل المباحث التحريات وما يلزم من مراقبات. وبالفعل كانت التحريات تتم على قدم وساق، كما جاء في الأوراق الرسمية؟ لكن بعد سبعة أيام فقط عادت شفيقة إلى مديرية أمن الإسكندرية لتفجر مفاجأة جديدة أمام الضابطين اللذين توليا عمل التحريات.
قالت السيدة إنها قابلت الشيخ الفيل فعلاً… واصطحبها لمقابلة زميله القاضي عبد الفتاح سيف بعدما اتفق الاثنان معها على اللقاء عند السادسة من مساء اليوم نفسه في مكتب المحامي الشرعي محمد كحيل… وهناك ستنضمّ سيدتان مطلقتان إلى السهرة المرتقبة في إحدى الفيللات…
ثم تقول أوراق القضية ما هو أغرب، فقد انتهى دور شفيقة، وقالت التحريات إن الشيخ الفيل وزميله القاضي سيف وثلاث مطلقات من أصحاب القضايا سيسهرون الليلة في فيللا تاجر معروف بشارع "الأولياء" في منطقة المندرة؟ هنا تهتز أسلاك الهاتف ويرتفع رنين الاستعداد في مكاتب كبار المسؤولين بوزارتي العدل والداخلية.
يُكلّف كبار المسؤولين بمتابعة الواقعة بدقة متناهية قبل إخطار القيادة السياسية بما يجري وسيجري داخل فيللا المندرة… بل يأمر رئيس النيابة بوضع الفيللا تحت الحصار الأمني من الاتجاهات كافة وعدم اقتحام المكان إلا بحضوره شخصياً ومعه باقي أعضاء النيابة العامة! قولوا للريس تقول أوراق التحقيقات ما هو أكثر إثارة وخطورة:
"… داخل مكتب المحامي الشرعي حضرت السيدات الثلاث وهن: جميلة فايد، وسعاد الدسوقي، وعزيزة منصور… واصطحبن وكيل المحامي في سيارة تاكسي "أجرة الإسكندرية" في اتجاه المندرة… وتوقفت السيارة عند مزلقان فيكتوريا حيث كان الشيخ الفيل وزميله القاضي الشيخ سيف في الانتظار، ثم اتجهت السيارة بعدما استقلها الشيخان إلى الفيللا القريبة من الشاطئ ونزل ركاب السيارة واتجهوا أفراداً إلى داخلها.
وهنا تعطي النيابة إشارة البدء المتفق عليها، فيهاجم البوليس الفيللا في وقت تأكدت فيه النيابة من أن كل شيء يجري في الداخل مخالفاً للآداب العامة. وما إن اقتحم البوليس الفيللا حتى تولى وكيل النيابة التفتيش والمعاينة بنفسه…
وثبت أولاً أن الفيللا من الداخل كانت معبأة برائحة الحشيش، وأن ثمة مائدة طويلة عليها سمك ولحوم وسبعة كؤوس ومنكرات، بالإضافة إلى "جوزة وماشة". وفي إحدى الغرف مرتبة من القطن مفروشة فوق الأرض وعليها ملاءة سرير فوقها آثار ممارسة جنسية حديثة… وفي إحدى الحجرات كان الشيخ سيف مع إحدى النسوة بينما كان الشيخ الفيل وابنا صاحب الفيللا مع سيدتين.
تقول الأوراق ألقي القبض على الجميع ونقلوا إلى نقطة شرطة المنتزة، وعلى الفور اتصل المحامي العام بوزير العدل الذي تولى بنفسه إخطار القيادة السياسية بعد أخذ رأي مساعديه الذين نصحوه بإبلاغ الرئيس. كان وزير العدل يتوقع أن يعقد مجلس قيادة الثورة اجتماعاً ليقرر إحالة القضاة للمحاكمة أو أن يكون له رآي آخر. لكن جمال عبد الناصر رأى الاكتفاء بأن يقدم القاضيان استقالتهما بهدوء.
إلا أن مصطفى أمين وصحيفة "أخبار اليوم" التي كانت سباقة في نشر الأسرار، مهما كانت توابع هذه المغامرات الصحافية، نشرا تفاصيل الواقعة المذهلة على صفحة كاملة تحت عنوان "قضية العصر".هكذا أصبحت القضية على كل لسان، وحديث الصباح والمساء في البيوت والأندية وأماكن العمل والتجمعات ووسائل النقل، ما دفع جمال عبد الناصر إلى التراجع عن قراره السابق وأمر بإحالة القاضيين إلى المحاكمة…
وتولى المستشار كامل البهنساوي، رئيس محكمة جنايات الإسكندرية، النظر في القضية وسط ذهول الرأي العام.إلا الشيوختم النظر في القضية في جلسات انعقد بعضها بسرية، وأصبح جميع المتهمين بمن فيهم الشيخ الفيل والشيخ سيف خلف أسوار سجن "الحضرة"
لكن سرعان ما تخلي النيابة سبيل المتهمين جميعاً ما عدا الشيخ الفيل والشيخ سيف فقد ظلا في السجن رهن المحاكمة! لم يكن الرأي العام متفقاً على رأي واحد. شعر كثر من أبناء مصر بأن شيئاً ما يدبّر للقاضيين اللذين نفيا في التحقيقات تورطهما في التهم المنسوبة إليهما… وقالا إنهما يعرفان بالفعل بعض النسوة المقبوض عليهن في القضية باعتبارهن من أصحاب القضايا المنظورة أمام محكمة المنشية الشرعية. لكن لم يحدث على الإطلاق… أن تم الاتفاق معهن أو مع إحداهن على سهرة حمراء أو سوداء.
وعن علاقتهما بفيللا المندرة التي قالت الأوراق الرسمية إنها كانت مسرحاً لممارسة الرذيلة، أقرّ القاضيان بأنهما بالفعل يترددان على هذه الفيللا لصداقة قوية تربط بينهما وبين صاحب الفيللا، وهو تاجر معروف. لكن الصحافيين لم يلتفتوا إلى دفاع القاضيين وتعمدوا إضافة التوابل الحراقة إلى السهرة التي تمت في فيللا المندرة.

كانت الاتهامات الموجهة إلى القاضيين أثناء المحاكمة ووفقاً لقرار الإحالة تدور حول:

أولاً: قبول رشوة لأداء أحد أعمال الوظيفة، وهو الحكم لصالح الخصوم في القضايا المعروضة عليهم. وكانت الرشوة في صورة ملذات ومخدرات… وعقوبة هذه التهمة الأشغال الشاقة المؤبدة!
ثانياً: إحراز مخدرات بقصد التعاطي… وعقوبتها السجن مدة لا تتجاوز خمسة عشر عاماً.
ثالثاً: استغلال سلطة وظيفتهما لأغراض ذاتية وهي تهمة عقوبتها السجن.أما المفاجأة الجديدة فكانت أن أحد الأشخاص أقام دعوى الزنا ضد الشيخ الفيل… وظهر أن هذا الشخص هو زوج إحدى المتهمات… وما زالت في عصمته باعتبارها في فترة العدة التي لم تنته بعد.
وتراوحت اتهامات باقي المتهمين في القضية حول الرشوة وحيازة المخدرات.ظل الرأي العام متوجساً من تطورات القضية… لم يتخلص الناس من إحساسهم بأن شيئاً خطيراً يدبر للقاضيين اللذين ظلا مسجونين بينما أخلي سبيل باقي المتهمين.
أخيراً صدرت الأحكام في قضية العصر وسط ترقب الرأي العام المصري والعربي… وكانت الأحكام إحدى مفاجآت هذا الملف الخطير الذي عرفه الناس بقضية الشيخ الفيل، على رغم أن في الدعوى قاضياً ثانياً هو الشيخ سيف… لكن شهرة الشيخ الفيل كانت مدوية باعتباره أبرز قضاة المحاكم الشرعية الذي أصبح اسمه فجأة رمزاً لفضيحة كبرى! (8)

أكذوبة استقلال القضاء

وبعد أن استمعت النيابة إلى أقوال السائق خميس محمد مصطفى سائق السيارة الأجرة رقم 1165 أجرة إسكندرية، التي أقلت القاضيين والنساء وكاتب المحامي إلى الفيلا التي ضبطوا فيها، وبعد ورود نتيجة التحليل للنرجيلة والكئوس المضبوطة إلى النيابة، والتي أكدت وجود آثار الخمر ومخدر الحشيش

قرر الأستاذ مصطفى سليم وكيل النيابة الكلية بالإسكندرية:

  1. حبس القاضيين الشرعيين، وتم إيداعهما بالزنزانة رقم 22 بسجن الحدراء، كما قرر حبس كاتب المحامي وابني صاحب الفيلا.
  2. تكليف الأستاذ سعيد عبد الماجد (وكيل النائب العام) بتفتيش مكتب المحامي الشرعي محمد كحيل، والذي يعمل لديه كاتب المحامي المقبوض عليه ضمن المتهمين، والاطلاع على بعض الملفات والقضايا والأوراق بمكتبه.
  3. تكليف الأستاذ أمين أبو العلا (وكيل نيابة العطارين) بالانتقال إلى محكمة الإسكندرية الشرعية للاطلاع على بعض الملفات، وسؤال بعض الموظفين عن أحوال تتصل بسلوك القاضيين، وسماع أقوال محمد مختار حاجب المحكمة، الذي شهد بأن الشيخ الفيل كان يستقبل المتقاضيات في حجرة المداولة، وقد أدلى باشكاتب المحكمة والموظفون بنفس الشهادة التي تطابقت مفرداتها ووقائع أحداثها، كما لو كان الجميع شاهد وسمع الوقائع كلها في وقت حدوثها وبنفس ترتيبها ومن نفس المنظور الرؤية والسماع والإدراك، فجاءت وكأنها نسخ كربونية (.. وهو الأمر الذي لم تثبته بحوث الإدراك علمياً حتى الآن)!!. بما يؤكد أنهم وقعوا تحت وطأة إرادة قاهرة أجبرتهم على ترديد شهادة مُملاة!!
.. وتسببت الأحداث في إثارة حالة من الفوضى في المحكمة الشرعية على أثر تلقي النيابة، ومحافظة الإسكندرية للعديد من البلاغات التي قدمها متقاضون صدرت أحكام في مواجهتهم، ادعوا فيها أنهم كانوا فريسة للأغراض النسائية، وتضمنت اتهامات جديدة للقاضيين.
وأصدرت المحكمة حكمها برئاسة المستشار محمد كامل البهنساوي الذي قضى:
  • الأشغال الشاقة المؤبدة وغرامة ألفي جنيه للشيخ عبد القادر الفيل رئيس محكمة المنشية الشرعية، وبراءته من تهمة الزنا!
  • الأشغال الشاقة المؤبدة للشيخ عبد الفتاح سيف وكيل المحكمة وغرامة ألفي جنيه.
  • السجن خمس سنوات وغرامة خمسمائة جنيه لكل من الشابين أصحاب الفيلا.
  • السجن 7 سنوات وغرامة 500 جنيه لدرويش مصطفى كاتب المحامي الشرعي.
  • براءة جميع النساء! (9)

ومن العجيب بعد أن أصدر المستشار محمد كامل البهنساوي الحكم في القضية لقي مصرعه في حادث سيارة، بينما كان يسير على كوبري قصر النيل مع صديقه وكيل وزارة الداخلية بعد أن غادرا نادي الجزيرة وفر قائد السيارة وقيد الحادث ضد مجهول.. ليوارى الرجل التراب، ومعه الكثير من أسرار القضية!.

وكتب ياسر بكر يكتب :

القـاضيان الفيل وسيف على مذابح الفضيحة! السبت : 9 يوليو 1955 صباح ينذر بيوم شديد القيظ من أيام صيف القاهرة، .. زاد من سخونته نداءات باعة الصحف : " اقرأ الحادثة، القاضي بتاع النسوان، فضايح فيلا السيوف !! "، كانت النداءات صادمة وغير مألوفة خاصة أنها متعلقة بشخص قاضيين جليلين هما صاحبي الفضيلة الشيخين عبد القادر الفيل وعبد الفتاح سيف، ومقترنة بأبشع اتهام !!
ومع المساء وكعادة سكان القاهرة، خرج بعضهم إلي شاطئ النيل لاستنشاق نسماته، والجلوس علي المقاهي، لتصدم مسامعه نكتة ظهرت للتو حول الواقعة، وانتشرت انتشار النار في الهشيم، كانت النكتة تقول : " أن شخصا قابل صديقة وسأله مداعبا :: How do you feel ?أي ماذا تشعر، وكلمة تشعر الانجليزية هيfeel وتنطق في العربية (فيل) وهو اسم أحد القاضيين المتهمين
فيرد الآخر قائلا: I feel safe وهي عبارة تعني بالانجليزية: أشعر بالأمان، لكنها في النطق تجمع اسمي القاضيين المتهمين فلفظ feel هو عبارة كما سلف ينطق "فيل" ولفظ safe الانجليزي ينطق "سيف" وهو في لغتنا يعني الأمان" . .. كانت النكتة وطريقة انتشارها السريع وتداولها في وسائل المواصلات والمحافل العامة ، ..
وأسلوب صياغتها، تشي بمؤلفها، وتنبئ عن ما تخفيه وراءها من غرض، .. وعزز هذا الاتجاه مسارعة رسام الكاريكتير بصحيفة "الأخبار .. الممولة بالدولارات الأمريكية " إلي مواكبة زفة "التجريسة " بابتكار الشخصية الهزلية " الشيخ متلوف"، في إسقاط واضح علي الرجلين، ففي إحدى رسوماته صور " الشيخ متلوف" يسير علي شاطئ البحر وقد رفع راية سوداء فوق عمامته
وعلي الجانب الأخر من الرسم زوج يقول لزوجته التي ترتدي المايوه البكيني : ـ لو كان البحر هو اللي هايج بس .. كنت سيبتك تنزلي البلاج . وفي رسم آخر بعنوان : " الشيخ متلوف في عيد الأضحى " ، صور الرسام الشيخ متلوف أمام محل الجزارة وهو يقول للبائع : ـ اديني خمس أرطال من الفخذة .
أدرك الشعب المصري بحسه الفطري أن وراء تلطيخ الرجلين شيئاً ما، خاصة أن ضباط انقلاب 23 يوليو 1952 قد بادروا إلي إلغاء الوقف الأهلي في 14 سبتمبر 1952؛ وهو ما يسر للحكام الجدد من ضباط الانقلاب سهولة الاستيلاء علي 170 ألف فدان من أجود الأطيان من أوقاف المصريين (مسلمين ومسيحيين) أوقفها أًصحابها للإنفاق علي أعمال البر والمؤسسات التعليمية والعلاجية ...
لم تطل الحيرة كثيراً، فسرعن ما أفضت الأحداث عن طبائعها، ففي سبتمبر 1955 صدر قرار بإلغاء المحاكم الشرعية، ودمج قضاءها وقضاتها ضمن القضاء العادي، ولم تكن تلك الحادثة التي تم تلفيقها بإحكام سوي تهيئة المناخ الملائم لإلغائه عبر الإساءة لهذا القضاء ورجاله، .. وبتنحية القضاء الشرعي أفلح ضباط الانقلاب فيما فشل فيه الاحتلال الفرنسي وحكام أسرة محمد علي والاحتلال الانجليزي لمصر. (10)

الصحافة في خدمة السلطة التنفيذية

لم تكن الصحافة في معظم أوقاتها وسيلة للأخبار الصحيحة بل كانت إما مروجة لأخبار المستعمر أو أرباب السلطة في كل عصر خاصة في عصور الديكتاتوريات.

وفي حادثة الشيخ الفيل كانت الصحافة سوط يزيد الأمور اشتعالا حتى صدر قرار إلغاء القضاء الشرعي، فقد صدرت صحف القاهرة في صباح السبت 9 يوليو والأيام التالية وفي صدر صفحاتها العناوين الآتية:

  • تحقيق خطير مع قضاة شرعيين.
  • تطور مأساة القاضيين وحبسهما، قاضي المنشية كان يجتمع بالسيدات في غرفة المداولة، محاكمة القاضيين أمام محكمة عسكرية.
  • اتهام القاضيين الشرعيين بالرشوة والمخدرات واستغلال النفوذ، 3 اتهامات للقاضيين الشرعيين: الرشوة والمخدرات واستغلال النفوذ، حبسهما عسكرياً على ذمة المحاكمة.
  • مفاجآت في قضية القاضيين الشرعيين، تفتيش المحكمة الشرعية ومكتب المحامي الشرعي، 24 شاهداً يدلون بأقوال خطيرة في التحقيق، البحث عن إحدى السيدتين اللتين ضبطتا في الفيلا. .. وجاء في متون الأخبار التي توالت تباعاً أنه: "في منتصف ليل الجمعة 8 يوليو، وفي تمام الساعة الثانية عشرة والنصف، هاجمت قوة من ضباط أمن الإسكندرية بقيادة البكباشي عبد القادر محمود مفتش مباحث غرب الإسكندرية إحدى الفيلات بشارع الأمناء بمنطقة السيوف بدائرة نقطة بوليس المندرة. وقد رافق قوة الضبط الأستاذ محمود الغمراوي وكيل أول النيابة.
وقد أسفرت الواقعة عن ضبط القاضي عبد الفتاح سيف (رئيس دائرة الاستئناف) جالساً في حجرة الصالون مع السيدة سعاد الدسوقي حول مائدة عليها نرجيلة وثمانية كئوس وقطعة من مخدر الحشيش وطبق فاكهة من الكريز وزجاجة من خمر الزبيب وأخرى من البراندي، ومعهما في نفس الغرفة الحاج درويش مصطفى صالح (كاتب محامي)
وابنا صاحب الفيلا عوض محمود بسيوني وصبري محمود بسيوني (أصحاب شركة بسيوني للملاحة النهرية)، وقد اعترفت المدعوة سعاد الدسوقي أن القاضي عبد الفتاح سيف قد اتصل بها جنسياً بإرادتها لرغبتها في أن يصدر حكماً لصالحها ضد مطلقها بعد أن تأجل نظر القضية أكثر من مرة، وقد عثر الصاغ علي لطفي في إحدى الحجرات على ملاءة سرير مفروشة على مرتبة بها بقعة معينة، يرجح أنها من آثار اتصال جنسي، وقطعتين كبيرتين من مخدر الحشيش في ورق مفضض.
وتم ضبط القاضي عبد القادر الفيل (قاضي محكمة المنشية) يحتضن السيدة شفيقة حامد شاكر (المُبلّغة) بالفراندة الموجودة في مقدمة الفيلا، بعد أن انتهى من اتصال جنسي بالمدعوة جميلة علي حسن فايد (حسبما جاء بمحضر الضبط وأقوال شفيقة في التحقيقات)، وكانت شفيقة قد أرجأت اتصال الفيل بها جنسياً لحين وصول القوة معتذرة بأن رائحة الحشيش قد أثرت عليها. (11)

ونشرت الصحف المصرية يوم 26 سبتمبر تهنئات من كبار الشيوخ، ونشرت "الأهرام" فى 28 سبتمبر 1955 خبرا مع صورة للإمام الأكبر شيخ الأزهر عبدالرحمن تاج، وهو يشكر الرئيس جمال عبد الناصر على هذه الخطوة التحررية.

ولقد كتب المستشار محمد سعيد العشماوى (ذو توجه ماركسي وواحد من المعاديين للفكر الإسلامي، وأحد الذين حققوا فى هذه القضية): رد على هذه المزاعم بشهادة أكد فيها صحة الاتهامات الموجهة للشيخين، وقال شهادته رغم أنه أحد المعارضين لثورة يوليو

ومما جاء فيها بالنص:

"بدأت تنتشر، فى الآونة الأخيرة، مقالات فى الصحف والمجلات عن إلغاء المحاكم الشرعية فى مصر، ممن لا يعرف ما يكتب ولا يعى ما يقول، تدعى رجما بالتقول وزعما بالتعمّل، أن هذا الإلغاء الذى حدث سنة1955، كان لأسباب سياسية، أو لانفعال أحد ضباط "انقلاب عام 1952" من حكم صدر ضد رغبته من هذه المحاكم، وتتعدد الأسباب، لتوهم ظنا بغير الحقيقة
وقولا يلقى بغير دراسة، أن هذه المحاكم كانت مثالية ومنضبطة، وأن إلغاءها كان ظلما وبهتانا، ويترتب على ذلك - فى الظن العليل والفهم الكليل- أن الإسلام كان هو المستهدف الحقيقى من وراء ذلك ومن جراء ما حدث، ولما كنت الوحيد الباقى على قيد الحياة، من هيئة المحكمة
وتشكيل النيابة العامة، وأعضاء الدفاع عن المحامين، ورجال الشرطة، الذين قاموا بالضبط، وشهدوا فى المحاكمة، فى قضية تُعرف باسم قضية "الفيل سيف"، كشفَتْ عن الفساد الذى كان يجرى على ألسنة الناس، من المتقاضين أمام المحاكم الشرعية، وبذلك رؤى إلغاء هذه المحاكم ودمج قضائها وقضاتها ضمن القضاء العادى.
لما كان ذلك، وكنت على ما أنف، الوحيد الباقى على قيد الحياة، من كل من له صفة رسمية فى هذه المحاكمة، فقد رأيت أن أكتب شهادتى من واقع ما قرأت فى أوراق الدعوى وما رأيت أثناء إجراءات المحاكمة، حتى تكف الشائعات التى تطلق بغير علم ودون فهم" (12)

إباء قاضي

كان الشيخين الفيل وسيف لها مكانتهما وسط العلماء ولم يصدق أحد ما أثير حولهما، ففي صباح يوم الثلاثاء 12 يوليو، تحددت جلسة للنظر في طلب المعارضة في أمر حبس المتهمين الخمسة، وعندما وقع نظر الشيخ الفيل على ابنه وكيل النيابة يغالب دموعه، انفعل بشدة وقال بصوت مرتفع وكأنه يريد أن يدفع عن الشاب شراً مستطيراً، ويحميه من خطر داهم، ويبعده عن مرمى نيران قد تطول حاضره ومستقبله: " يا ابني.. أنت بريء مني، اذهب الآن، وأعلن في البوليس أنك تتبرأ مني، ومن أبوتي.. أنا فاسد، ولا أستحق أن أكون والداً لمثلك".

وفي صباح يوم المحكمة ثار الشيخ الفيل ثورة عارمة، وأخذ يردد: "أعوذ بالله.. ما هذه الأخلاق!! ". وكان المتهمون قد أُحضروا من السجن، وتم إدخالهم إلى البدروم المخصص في دار المحكمة لحجزهم ريثما يحل موعد نظر القضية، والتف حول القاضيين بعض المتهمين أحدهم قاتل زوجته وآخر من ذوي السوابق متهم بكسر أنف محام، وثالث متهم بتزوير توقيع أحد كبار رجال الدولة، وفجأة همس صاحب السوابق في أذن الشيخ بكلمات غير مسموعة، وثار الشيخ ثورة عارمة، وعندما سأله الحراس عما أثار غضبه قال: " تصوروا هذا الرجل يطلب مني أنا.... قطعة حشيش ".

كان القاضي عبد الفتاح سيف يبتسم في لامبالاة بما يحدث، ويردد بين الحين والآخر: " يا فرج الله "، وعندما سأله الحراس عما يقصد قال: " إن الله وحده هو الذي يعلم سرائر الناس.. سامح الله بعض الناس". (13)

حقيقة القضية

بنظرة فاحصة لأوراق القضية، ينفك لغزها ويتضح أمران هما:

  1. أن خيطاً واحداً يربط بين جميع أطراف القضية، وهو درويش (كاتب المحامي).
  2. أن هذا الرجل تم تسخيره ببراعة شيطانية من قبل إرادة شريرة للإيقاع بالقاضيين بإحكام شراك المؤامرة عليهما، ليبدأ دور امرأة تحوطها شبهة، في إضفاء الشرعية لتقنين إجراءات التلفيق لجريمة قذرة ببلاغ افتقد منطقية دوافعه!! .. لكن كيف بدأ دور (كاتب المحامي) في استدراج القاضيين؟! تقول أوراق الدعوى، وكما ورد في أقوال القاضيين، إنه علم بحكم تردده على المحكمة أن القاضيين يبحثان عن منزل لاستئجاره لأقارب أحدهما لقضاء فترة المصيف، وأنهما كلفا بعض موظفي المحكمة بتلك المهمة، فأوهمهما كذباً بأن لديه الفيلا المناسبة، واتفق معهما على موعد لمعاينتها. وفي ذات الوقت أوهم النساء اللاتي لهن قضايا في مكتب المحامي الشرعي الذي يعمل لديه بأنه يستطيع ترتيب مقابلة لهن مع القاضيين بعيداً عن جو المحكمة يستطعن خلالها الحصول على كل ما يردنه. وفي نفس الوقت أوهم ابني صاحب الفيلا بأنهما يستطيعان الحصول على حكم لشقيقتهما المطلقة (سعاد) يقصم ظهر مطلقها، ويجعله يعود إليها راكعاً يعض أصابع الندم مقابل أن يجهزا قعدة مزاج للقاضيين!! (14)

وانتهى القضاء الشرعي بمصر على يد عبد الناصر

تحت عنوان (انتهاء القضاء الشرعي)، كتبت سعاد القاضي في مجلة روز اليوسف عام 1956 اليوم 1 يناير 1956 ينتهي العمل بالقضاء الشرعي بعد أن انتقل إلى عالم آخر بعد حياة حافلة بالمنازعات والخلافات وشهادات الزور وبيوت الطاعة والحضانة والطلاق.

في هذا اليوم، أزيلت اللافتات المثبتة على أبواب المحاكم الشرعية، واستبدلت بلافتات مكتوب عليها "محاكم الأحوال الشخصية"، وأصبح القاضي الشرعي يدعى القاضي الوطني، وأصبح له حق رئاسة المحاكم الجزئية. وأصبح المحامون الشرعيون سابقا، يستبدلون الجبة والقفطان ببدلة وطربوش بعد أن أصبح من حقهم المرافعة في المحاكم الوطنية ومحاكم الأحوال الشخصية.

وقد توقفت في ذلك اليوم، المحاكم الكلية عن العمل لتقوم بتنظيم العمل فيها في ظل الوضع الجديد، أما المحاكم الجزئية فقد أجلت جميع القضايا التي عرضت عليها حتى يتم إخطار ممثل النيابة بهذه القضايا؛ لأن القانون الجديد ينص على جواز تدخل النيابة في الأحكام الجزئية. (15)

ويقال أن الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر قد استقال من منصبه اعتراضا على ما أقدم عليه عبد الناصر من إلغاء القضاء الشرعي.

المراجع

  1. محمد فاروق النبهاني، النظام القضائي في الإسلام، الرياض: التضامن الإسلامي، 1972م.
  2. حمادة حسني: القضاء الشرعى فى مصر، 8 سبتمبر 2008
  3. محمد عبد الوهاب غانم: أثر مدرسة القضاء الشرعي على الفكر الإسلامي المعاصر، طـ1، دار المقاصد للطبع والنشر والتوزيع، 2018، صـ34 وما بعدها.
  4. محمد عامر: أغلقتها قضية "الفيل".. حكاية "محكمة النسوان" في الإسكندرية، 6 فبراير 2019
  5. سعيد الشحات: ذات يوم.. 21 سبتمبر 1955.. إلغاء المحاكم الشرعية والقضاء المُلى وشيخ الأزهر يصفها بالخطوة التحررية، 21 سبتمبر 2020
  6. طارق بدرواي: القاضي الشرعي، يوليو 2018
  7. ياسر بكر: القـاضيان الفيل وسيف على مذابح الفضيحة، 8 مارس 2013
  8. القضاء الشرعي في مصر
  9. وسيم عفيفي: قصة ملف الدعارة الذي ألغى المحاكم الشرعية في مصر وسجن شيخين في الأزهر، 11 يناير 2018
  10. ياسر بكر: القـاضيان الفيل وسيف على مذابح الفضيحة، مرجع سابق
  11. ياسر بكر: القـاضيان الفيل وسيف على مذابح الفضيحة، مرجع سابق
  12. دكتور عبدالفتاح عبد الباقى يرد على اكذوبة الإخوان أن جمال عبدالناصر الغى القضاء الشرعى: 8 نوفمبر 2018
  13. ياسر بكر: القـاضيان الفيل وسيف على مذابح الفضيحة، مرجع سابق
  14. وسيم عفيفي: قصة ملف الدعارة الذي ألغى المحاكم الشرعية في مصر وسجن شيخين في الأزهر، مرجع سابق.
  15. نهاية القضاء الشرعي في مصر: 5 يونيو 2015