الإسلام خارج أرضه

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإسلام خارج أرضه


بقلم : الشيخ محمد الغزالي

هؤلاء الفرنسيون اختاروا الله

تحت هذا العنوان نشر الكاتب الفرنسي " تييري دي بومون " مقالأ عن الإسلام في فرنسا..

ولهذا المقال قصة ينبغي إثباتها، فقد كان صديقي المؤرخ الكبير الأستاذ محمد علي الغتيت يستشفى في باريس، ولما كان عند الطبيب ينتظربعض الفحوص وجد على المنضدة صحفا كثيرة فتناول إحداها يتسلى بالاطلاع، فإذا هذا العنوان يستوقفه فقرأه بعناية، ووجده جديرا بدراسة المسئولين عن الدعوة الإسلامية، فأمر ابنه بترجمته، وقدمه إلي لأستوعب ما به من حقاثق..

وقد طالعت المقال، وضبطت الترجمة العربية في نطاق البيان المأنوس- دون مساس بالمعنى- وأضفت تعليقات لابد منها.

والكاتب الفرنسي جيد الرد وقد اجتهد أن يكون محايدا في بحثه وحكمه، له نظرات صادقة وله كذلك كلمات لاذعة! فلنستمع إليه وهو يحدثنا قائلأ:

الكونت "دو.... " يمثل في نظري فرنسا القديمة بملوكها وكنيستها، إنه يمت لي بصلة القرابة عن بعد، وكان مصورآ فوتوغرافيا للبابا بولس السادس، وهو مغرم بعلم اللاهوت، وإلى جانب ذلك فهو من كبار الجامعين للمؤلفات الفنية.

اعتاد في ولائم الأسرة أن يصف لنا آخر صورة للسيدة العذراء التي أتم رسمها كما كان كثيرا ما يقودنا إلى تاريخ القساوسة الطويل، ويصف أعمال القديسين الباهرة...

وفي العام الماضي تفجرت بيننا مفاجأة مذهلة! كنا جلوسا حول المائدة عندما صاح الكونت " المسيح ابن الله "، ومريم أم الاله، هذا كلام ما عاد محتملأ! هيا.. دعونا من هذا فالله ليست له أم وليس له ولد! وفوق كل ذلك فهو ليس الكائن الذي أخبرونا عنه، بأنه ظهر في القدس يصنع المعجزات منذ ألفي عام، الله ليس هذا الإنسان!

قال الكاتب الفرنسي: " غلبتنا الدهشة لهذا التحول الخارق، بيد أننا لم نضطرب بعدما تكشفت لنا الحقيقة، وعرفنا أن الكونت "دو... " قد اعتنق الإسلام!

إن آخرين فعلوا مثله، فليس هو الوحيد الذي غير دينه.

هذا " روجيه جارودي " أعلن إسلامه، وهو مفكر فرنسي نابه، وعضو قديم في الحزب الشيوعي، والقاثد "كوستو" اسلم هو الآخر!

و "موريس بيجار" أسلم وانضم إلى المذهب الشيعي!

و " ديران سوفلان " مراسل جريدة " لومند" دخل الاسلام أيضآ.

ثم " فانسان مونتيل " المتخصص في الدراسات الإسلامية هو كذلك أحد المرتدين- يقصد الكاتب أنه ارتد عن المسيحية- وهناك عشرات من المفكرين والفنانين والمغامرين تحولوا من المسيحية إلى الإسلام، بل هناك أضعاف ذلك من الشبان الحدثاء الأسنان الذين عرفوا الإسلام في المغرب، والهند، والباكستان. أعمارهم بين الخامسة والعشرين والثلاثين، وقد قرروا أن يعبدوا الله وحده، ومضوا في الطريق الذي آثروه

وكنيسة باريس السيئة الظن بالأمور- هكذا يقول الكاتب- تحصى الذين اعتنقوا الإسلام من أصل فرنسي بمائة ألف مسلم، وهذا الإحصاء لم يجمد، فمنذ سنتين أوثلاث يزيد هذا العدد، هل زاد عشرين ألفا؟ أوخمسين ألفا، لا ندري!

ويستأنف " تييري دي بومون " حديثه قائلأ: إنني استطعت أن أفهم حركة المنضمين إلى المذاهب المنحرفة خلال السبعينات من أتباع "هن يونج مون " و " جوروماراجي " " وهاري كريشنا ".

بيد أنني كنت على مسافة مائة ميل من التفكير في أن فرنسيين يعتنقون الإسلام!

أتكون هذه القضية مغالطة تاريخية أخرى؟ أم ماذا؟

ورأيت إشباعا لفضولي أن أذهب لرؤ ية الكونت، أعرف شقته التي يقطنها إنها تشبه المتحف الذي يضم تراث الأجداد، وبها أخشاب مزخرفة، وأثاث من القرن الثامن عشر، وتماثيل غريبة..

ورأيت أمام المدفأة الموجودة بالصالون تمثالأ " لجان دارك " وهي تشير بيدها في اتجاه الدهليز، وبينما أنا غارق في التأمل سمعت الكونت يقول لي: ألا تحب أن تزور الغرفة التي أصلي فيها؟

وتبعته في ممر مظلم، ومررنا أمام حمام، فأشار إلى مغسل قديم- بانيو- من القصدير- وكان قطعة أثرية رائعة حقا- وقال: هنا أتطهر أولا للصلاة ثم انتقلنا إلى غرفة صغيرة بها كرسي، وسجادة، ولاحظت أن هناك خطا أبيض مرسوما على الأرض " الباركية"، لعله يحدد القبلة!

قال الكونت: في هذه الغرفة كان يجتمع رهط من كبار العلماء، ومن الشيوخ الصالحين، كنا نقيم الصلاة هنا خلف كنيسة "سانت جيرمان دي بري ".

قال الكاتب الفرنسي: عندئذ خامرني إحساس غريب، لقد تغيرت نظرتي للمتعصبين الفوضويين الذين يعلنون على الغرب حربا مقدسة، إن هذه النظرة تلاشت وحل مكانها شعور آخر! أساسه أن فرنسا إذا أسلمت فسيتم ذلك من الداخل، لا من غزو خارجي!

ومضى تفكيري في مجراه: إذن في الأوقات المختلفة فجرأ أو عصرأ سوف يفرش آلاف الفرنسيين سجاجيدهم، وسوف يركعون ويسجدون بعد أن يستمعوا إلى مؤذن منهم يصيح: الله أكبر الله أكبر..!! أما النساء فسيضعن على رؤوسهن مناديل من القماش، وينفردن في صفوف خاصة.

وتخيلت فرنسا كلها وقد اعتنقت الاسلام! ماذا سيحدث؟ لن تجد سكارى في الطرق ولن تبقى هناك تماثيل، ولا إعلانات جنسية، ولا برامج منوعات، وستتحول الكنائس إلى مساجد، ويعاد طلاؤها باللون الأبيض! والمحال التي تبيع لحم الخنزير ستغلق أبوابها!!

ومضى الكاتب في خياله يقول للفرنسيين: إن شيئامن ذلك لم يخطر ببالكم وأنتم ترون العمال المسلمين النازحين إلينا يخرون سجدا أمام مصانع السيارات التي يعملون بها وهم يؤدون صلواتهم.

وصحا الرجل من خياله على صوت الكونت يقول له: هذه نسخة من القرآن المجيد، إن الإسلام هو المولود الأخير بين الديانات الكبرى! وهو يقبل اليهودية والنصرانية لأنه جاء بعدهما..

وعاد الكاتب يحدث نفسه! يبدو أن الكونت مقتنع كل الاقتناع بالدين الذي ارتضاه، أما أنا... إنني أتساءل بجد: هل يجيب الإسلام عما يهجس في نفسي في هذا الشأن؟ لقد توقفت أبحاثي في العبادة عند تعاليم الدين المسيحي، وقد تلقيت دروسا إجبارية ومنفرة عن القانون الديني.. بيد أني لم أصدق يوما بها، ولم أعتقد في الإنجيل أو المعجزات أو قيامة المسيح!!

يمكن أن أعاود أبحاثي في العبادة التي انقطعت من عشرسنوات، لا سيما وأن أقراني الذين اشتغلوا بالسياسة أرتدوا خائبين، ومن حسن حظي أني لم أغامر بالدخول في ميدان السياسة! اليوم أستطيع استئناف نشاطي القديم، والذي رفضته في الكنيسة لن أجده في الإسلام! إن عبادة الصور المقدسة والصلبان نوع من التمثيل الخطر، هذا، وليس في الإسلام تفاوت بين العابدين، فالمسلمون جميعا متساوون.

أما المعجزات فلست أومن بها- هكذا يقول الكاتب الفرنسي- ولعلها في الإسلام إشارات أو أقوال- يجب ترديدها، وأعتقد أن القدرة الإلهية المطلقة تكفل لها الاحترام..!

أقول "أي الشيخ الغزالي": المعجزات هي خوارق العادات التي أيد الله بها أنبياءه، وقد انتهت النبوات يقينا بالرسالة الخاتمة وانتهت كذلك المعجزات، وبقى الاخبار عنها في آيات صادقة، إذ أن القدرة العليا لا تتهم، لعل ذلك ما يريده الكاتب الفرنسي، والعقل الأوربي أقام حضارته على احترام قانون السببية، فلنقطع ذلك الاستطراد ولنتابع الكاتب وهويرتاد الطريق ويحاول التعرف على الإسلام قال: يلزمني أولأ الحصول على ترجمة جيدة للقرآن...

وذهبت الى الحي الحادي عشر بباريس، ودفعت باب مكتب النجاح، وفي البداية لم أجد إلا كتبا باللغة العربية، وفي وسط المكتبة كان هناك جهاز مسجل يذيع تلاوات قرآنية، وسألت: هل عندكم ترجمة للقرآن؟

آه أجاب عامل المكتبة: لابد أنك مسلم؟ أليس كذلك؟ نحن لا نبيع المصحف إلا لمسلم! فالكتاب لا يمسه إلا المطهرون!

كان الرجل يرتدي الجلبات الأبيض، وقلنسوة من فرو الاستركان والبابوش والبلغة وهذا هو الزي التقليدي للمسلمين (!) وعلى الرغم من لحيته الملساء فقد تبينت سحنته الفرنسية، وأبديت ملاحظتي سائلأ: هل أنت عربي أم فرنسي؟ قال: أنا فرنسي اعتنقت الإسلام من اثنتي عشرة سنة، وكنت يومئذ في باكستان، هل تريد أنت أيضأ اعتناق الاسلام؟ أجبت: لا أعلم! إنني أبحث، ولي شكوكي!

قال: كي تدخل الإسلام لا تحتاج إلى تعميد، الإسلام عقلية مستقرة، تشبه حالتك الآن وأنت تبحث، وعلمت أن اسمه أيوب، واستطرد أيوب يقول: هناك بعض الكتب المترجمة عن العربية، أعطيك إياها هدية، وحين تتم قراءتها تستطيع أن تحصل على نسخة من القرآن الكريم..

قال الكاتب الفرنسي: ورجعت إلى مسكني شبه محموم، وقرأت بشغف جزءا من كتاب مطبوع في الدار البيضاء يشرح أركان الإسلام الخمسة التي لابد منها لمعرفة الإسلام والدخول فيه وهي (1) شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (2) إقام الصلاة (3) إيتاء الزكاة (4) صوم رمضان (5) الحج إلى بيت الله الحرام بمكة مرة في العمرلمن يقدر على ذلك...

وبعد قراءة هذا الجزء عدت إلى مجلة الاسلام في فرنسا، العدد رقم 1395 الذي ردني إلى القرن السابع بعد الميلاد وجاء في المجلة كلام عن الكعبة، وكيف بناها إبراهيم الخليل، وكيف نصب العرب الأصنام وعبدوها من دون الله... الخ

والمؤرخون النصارى لهم أخيلة يمتزج فيها الحق والباطل، وتبدو فيها كراهيتهم للإسلام وتصيدهم للشبهات يلصقونها به وبنبيه الكريم! على أن أي إنسان تحدثه نفسه باعتناق الإسلام أو بمجرد دراسته لابد أن يلم بشيء من المعرفة عن الكعبة التي يتجه المؤمنون إليها في صلواتهم. الم يتصور بعض الحمقى أن هذا لون من الوثنية الأولى؟ ولنترك هذا الاستطراد عائدين إلى الكاتب الباحث عن الإسلام، أو الذي يهم بالدخول فيه

قصص جديرة بالبحث

إن المصور المؤمن أيوب قاده إلى أحد المساجد ليعرف الصلاة عمليا ويحسن أداءها. ونسمع إليه يصف مشاعره عند أول صلاه أداها.

قال: رأيت قريبا من خمسين رجلأ أتوا لإقام الصلاة، كانوا لدى تلاقيهم يتصافحون بالأيدي أو يتعانقون ويحيي بعضهم بعضا! خلعت حذائي ثم وقفت بجوار أيوب أنتظر، واصطف الرجال ملتزمين خطوطا بيضاء مرسومة على الفراش.

وأشار إلي أحد المخلصين: انتبه فالصلاة ستقام! وتلا الإمام كلاما لم أفهمه! واكتفيت بترديد الكلمة العربية الوحيدة التي حفظتها " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " وكنت أركع وأسجد وأقوم متأخرا عن غيري. وحينما لمس جبيني الأرض لأول مرة اكتشفت الجانب الجسماني (!) في الإسلام، وسرى النشاط في أوصالي غامرآ وشعرت برأسي خاليا من الشواغل، بل عددت هذه اللحظة خارجا عن الزمن، وأنها فرصة لتقليب الحقيقة على وجوهها... وانتهت الصلاة، ونهض الجميع، ولاحظ جاري ما يبدو علي من ارتباك، فسألني:أأنت مسلم من زمن؟ فأجبت: إيه... لا إني لست بعد مسلما! إني لا أعرف إلا الشهادتين! فقال لي إنك بهذا مسلم الان...!

قلت: أهذا كل مافي الأمر؟ إذن يستطيع الناس كلهم أن يصبحوا مسلمين؟ قال: الأمر كذلك، وأعطاني مصحفا، ورفض قبول ثمنه!

زالت شكوكي السابقة أمام حرارة هؤلاء المسلمين الطيبين، وشعرت أنهم أعادوني إلى عالم العبادة الذي هجرته من أمد بعيد! ترى هل سأتحول إلى الإسلام؟ وينجح أيوب في ضمي إلى إخوانه؟ وددت لو عرفت الكثير عنه وعن المرحلة التي بلغها في تدينه! وحاولت إطالة الحديث معه فإذا هو يقول لي: ليس لدي إلا بضع ساعات أكرسها لك، فقد نويت الحج، وسأسافر هذا المساء، وأمامي مسافة 8500 كيلومتر أقطعها بالسيارة!

قلت له: أيستغرق الحج شهورآ؟ فشرع يشرح لي مناسك الحج وأطلعني على اللباس الذي سيرتديه فكان بدون حياكة، ولم يحمل إلا حقيبة واحدة وضع داخلها مصحفه..

ثم استطرد يقول لي بحزن ظاهر: إنني طلقت زوجتي! فسألته: لماذا؟ أهي التي طلبت الطلاق؟ قال: لا، إنها تخرج للعمل يوميا مكشوفة الرأس، وقد تعبت حتى أقنعتها بالاحتشام المطلوب، لكن الرجال يحتكون بها في العمل، وابننا في البيت يحتاج إلى وجودها معه، وهي ترفض البقاء لتربيته، وحاولت كثيرا أن تكرس وقتها لابننا فأبت...

قلت له: هل زوجتك فرنسية اعتنقت الإسلام مثلك؟ قال: لا إنها تونسية فهي مسلمة أصلا..!

وفكر أيوب مليآ ثم بدأ يتكلم، فأدركت أنه يروى قصة حياته.

قال: كان " جورج " موظفآ صغيرا في " بنك الكريدي دي ليونيه " لم تفده دراسته القانونية شيئآ إذ وجد نفسه يعمل خلف شباك التحصيل وتمكن من اقتصاد بعض المال فسافر إلى باكستان ليدرس الحضارات الشرقية ويتعلم اللغة العربية.

وهناك كان يلتقي ببعض الفرنسيين الذين يشقون طريقهم في الحياة بدأب ولا يعنيهم إلا مستقبلهم، وساقه القدر إلى أمريكي يعمل هناك، فقاده إلى المدرسة الإسلامية في كراتشي.!

وأعجبه جو المدرسة والتزام الطلاب فرغب في متابعة الدراسة، وتحول من دراسته القانونية السابقة إلى دراسة الشريعة الإسلامية وانتهى المطاف إلى اعتناق الإسلام وتغيير اسمه القديم إلى أيوب!

وأشرف أيوب على النظام الدراسي الصارم، وتابع أداء الطلاب لصلواتهم، ولدروس اللغة العربية، والقرآن الكريم والحديث الشريف، وكان البرنامج الموضوع يستغرق عشرة ساعات يوميا، ووجد أيوب في هذه الحياة الرتيبة الحافلة ما كان ينقصه في فرنسا..

وفي أحد الأيام وقع نزاع طائفى بين المسلمين وخصومهم، فدافع أيوب عن إخوانه في الدين بطلقات من بندقيته أرهبت المهاجمين، فلما عاد إلى المدرسة استقبله الطلاب بحفاوة وإعجاب! ولكن أحد الباكستانيين نصحه بأن يعود إلى وطنه وقال له: أنت في فرنسا أجدى على الإسلام منك هنا.

وعاد إلى باريس، ثم انتقل إلى مدينة " بلفيل " ليكون إماما لمسجد أقامه المسلمون هناك وقبل أيوب هذه الوظيفة، فرتب للأطفال منهاجآ يتعلمون منه الدين والقرآن، وتولى هو إلقاء الدروس، كما تولى توجيه المسلمين المهاجرين إلى فرنسا للعمل..

في هذه الفترة قابل فتاة تونسية قدمت إلى فرنسا تطلب عملأ تعيش منه..

كانت الفتاة كارهة لتقاليد بلادها، وضائقة بالأسلوب الذي تعامل المرأة به هناك.. وانطلقت مع الحياة الجديدة، فلبست الثياب القصيرة، ورقصت على أنغام الموسيقى وسعت لتجد عملأ يحقق لها حريتها ويؤكد شخصيتها... وأعجبها أيوب فرأت الحصول عليه جزء من أحلامها..!

غير أن الواقع صدمها صدمة جعلها تعيد النظرفي تفكيرها! فقد كان أيوب أصدق إسلاما من المسلمين القدامى، وأحرص على تنفيذ تعاليمه.

إنه اختار الإسلام عن وعي، وكرس له حياته، وامتنع عن الأهواء التي تعصف بمجتمعه ولقد قال لها يوما: إنك ستمكثين في البيت، فدخلنا يكفي لعيشتنا! بيد أنها ردت في عناد: انظر إلى الأوروبيات، إنهن لسن منعزلات، إن العمل هو الحرية، فإن أبيت إلا أن أغطى رأسي فسأرتدي " إيشارب " عند الخروج فأجابها أيوب: كي تخلعيه فور الذهاب إلى المكتب؟ لا ريب أن الطلاق أفضل عندي من قبول التبرج..

وأخيرا، انحلت عرى الزوجية، وذهب كل إلى وجهته!

إنها في نظري مأساة- هكذا يقول الكاتب الفرنسي لنفسه- لقد ودع أيوب الذاهب لأداء فريضة الحج، ثم عاد أدراجه إلى بيته مستغرقا في التفكير، والومضة الروحية التي تألقت في نفسه عندما كان في المسجد تؤنسه، وتشعره بقدرة الإنسان على التسامى، وهو في حضرة الله..

واستعاد ذكريات الوقوف والركوع والسجود، وكلمات التمجيد لله التي يرددها، والآيات التي أصغى إلى ترتيلها، والتي بقيت أصداؤها في رأسه، وهمس يقول: إن العبادات الأساسية في الإسلام عميقة الأثر... لكن مسلك أيوب مع امرأته كان نابيا، أوكان قاسيا، إنني أرفض هذا التعصب المستولى عليه، وأرى أنه كان مخطئا..

وضبطت موجة " الراديو " على 1, 107 ميجا هيرتز التي كانت تذيع أنغاما عربية! بيد أنني بدل أن أسمع الموسيقى العربية سمعت جدالا صاخبآ حول وضع المرأة في الإسلام وأسئلة وأجوبة أربكت ذهني..

كانت المجيبة هي السيدة " تقية " مندوبة جماعة أصدقاء الإسلام، أما السائلة فامرأة فرنسية عادية تريد التعرف على هذا الدين وموقفه من النساء.. هذا الحوار يهمني، إذ بين نحو مائتي ألف فرنسي اعتنقوا الاسلام يوجد نحو مائة ألف امرأة. والرجل لا يعتبر ملومأ إذا أعجبته امرأة وسعى إلى الزواج منها، واختار ما طاب له فهل تلام المرأة إذا سلكت المسلك نفسه فاختارت بنفسها زوجها؟؟

وإذا كانت لدى المرأة قدرات تحب أن تفيد منها أوتنفع قومها بها فهل تمنع من ذلك على حين لا يمنع الرجل؟ كيف يتسنى للمرأة الفرنسية أن تجتازهذه العقبات؟ أو كيف تعتنق دينا يقال عنه: إنه يزدري الجنس النسائي ويجمده؟ ولأعد إلى الحوار الذي دار، قالت السائلة: إنه من الصعب أن أحب الله من خلال الانزواء وراء رجل يخفى شخصيتي كل الإخفاء! إن هذا مخيف! أين عقلي وشخصيتي واستقلالي الفكري؟

قالت لها السيدة " تقيه " ما تقصدين باستقلال الفكر، والشعور بالذات؟ قالت: لنا شخصياتنا وغرائزنا ورغباتنا، إن نداء الجسد ونداء القلب مشاعر نملكها بلا ريب، ولا يستطيع أحد إنكار ذلك، ولا سلبنا إياه. فأجابت السيدة تقية: ليس خضوع المرأة لرجلها من منطلق حيواني أساسه الذكورة والأنوثة! ولوكان الأمر كذلك لرفضت وقاومت! إن هذا تنظيم إلهي نشعر بالرضا في قبوله ونحمب الله من خلال تنفيذه..!

ورأيت أن أقابل السيدة تقية، وحددت معها موعد اللقاء، واكتشفت أنها مثل أيوب غربية اعتنقت الإسلام، ولما ضمني مجلسها وجدتها نقلت الجو العربي إلى بيتها.

هذه مرتبة مفروشة على الأرض ألقيت عليها جسمي بعد ما خلعت نعلي! وهذه صحيفة معلقة على الجدار مكتوب فيها القرآن كله بخط دقيق، والسيدة نفسها ترتدي ثوبا واسعا، وكانت هادئة النظرة واللهجة، تتحدث بلا تكلف...

بدأت حديثها معي بوصف لأحوال النساء القادمات مع أزواجهن ابتغاء الرزق في فرنسا، قالت: إنهن يجئن وفي أفئدتهن كراهية للتقاليد التي عشن فيها أمدا طويلا، ويسعين على عجل للخلاص منها، إنهن متطلعات لجو أملأ بالحرية والثقافة والإحساس بالذات، غير أن الأزواج والآباء والإخوة يرفضون هذا التطلع ويريدون إبقاءهم داخل التقاليد التي تسود أقطار المغرب الكبير، أو العالم الإسلامي إجمالا.

قالت: تتملكني الرغبة أن أقول لهن: اعرفن الإسلام، وتعاليمه، وما شرع من علاقات بين الجنسين قبل أن ترمينه بالتخلف أو القسوة! وقبل إبداء الإعجاب بتقاليد الغرب...

المشكلة- في نظري- أنهن يصدرن الأحكام المبتسرة على دينهم متأثرات بما يسود بعض الأقطار من تشدد وغلو.. قالت لي إحداهن وهي تعمل مدرسة أطفال في الجزيرة العربية: إن النساء هناك ممنوعات من قيادة السيارات، ليس لهن هذا الحق العادي ولا حق مباشرة أعمال أخرى كثيرة!

وقالت لي سيدة قادمة من إيران: لا تجرؤ امرأة على الخروج من بيتها دون حجاب يخفي زينتها كلها..

وقالت لي فتاة من الجزائر: إن المرأة التي تسكن وحدها وتريد أن تختار بنفسها زوجها تعتبر فاجرة.

وهناك مئات من الاعتراضات على النهج المرسوم للمرأة في أرجاء العالم ا لاسلامي..

قال الكاتب الفرنسي للسيدة تقية- مقاطعا- هل ترتدين أنت الحجاب- أي النقاب- عند خروجك من البيت؟

فابتسمت في هدوء وأجابت إنني أسلمت من أحد عشر عاما، ومنذ تحولت إلى الإسلام وهذا السؤال أول ما يطرح علي! أقول: نعم لبسته مرة واحدة فقط عندما كنت في...*********

كان اسمي الأصلي " روزى " عندما سافرت مدرسة للغة الإنجليزية في مدرسة خاصة، وبدأت عملي خلال شهر رمضان، لم أكن أعلم شيئا عن الإسلام، لكنني ئأثرت كثيرا بتلميذاتي الصائمات، وقررت أن أصوم معهن، وقد رحبن بي وسارعن إلى تعليمي الدين، خصوصا الصلاة، وأهدينني قرآنا...

وكنت ألبس في حر البلاد الشديد ملابس قصيرة الأكمام، ولا أضع على رأسي غطاء! وعند عودتي إلى البيت لاحظت الأعين تتبعني باستنكار، وسمعت صوتا يقول: يا فاجرة احجبي وجهك... وأحسست صدمة شديدة، وذهبت إلى إحدى الصديقات وطلبت منها " إيشارب " أغطي به رأسي ووجهي.!

قالت: وتعذرت علي الرؤ ية من يمين وشمال فكنت أستدير استدارة كاملة لأتحاشى العربات المنطلقة في الطريق.. وفي حركة عاجلة سقط الخمار من على رأسي ووجهي، فطويته وناديت سيارة أجرة لأرجع إلى البيت..

وانتقلت إلى الجزائر، لأستأنف عملا آخر، وهناك تملكتني وحشة شديدة، وسيطرت علي رغبة بهجر كل شيء، واعتزال المهنة والأسرة وحياة المدينة، ومن باب أولى اعتزال أولئك الرجال الذين كانوا يسبوني في الشارع. وعللت تقية هذا المسلك الطارىء فقالت: كان ذلك لأني أجد نفسي في مكاني، إن القلق الذي انتابني حدث لأني غير منسجمة مع البيئة.. ولوتكيفت معها لكان لي شأن آخر..

والواقع أن الفتاة كانت في مأساة تثير الكآبة، إن دينها القديم لم يسد أي فراغ في نفسها، وعندما شاهدت في الإسلام بريقا يستهويها استوحشت من أهله! إنهم ما أحسنوا استقبالها ولا تلطف معها إلا القليل، إلى حين!! من أجل ذلك استقالت " روزى " من مدرستها وأغلقت شقتها، وجمعت بعض الملابس في حقيبة مستعملة، ولم تنس أن تضع المصحف فيها ثم استأجرت " كابينة " منعزلة على شاطيء البحر المتوسط، وإن كانت قريبة من بيوت لصيادين يعملون في البحر!

وأنست في هذه البقعه بمنظر الرمال والبحر والجبال التي تتراءى من بعيد، ثم رتبت حياتها على نحو سهل، في الصباح كانت تجري على الشاطيء، وفي الظهيرة كانت تصحب رعاة الأغنام نحو الجبل، وتستسلم للتفكير، فإذا جاء أوان العودة مع جنوح الشمس إلى المغيب كان الصيادون يعطونها سمكة تعيش عليها!

وكانت في بيتها الساذج تحيا بدون كهرباء أو غاز، ولم تكن تصل إليها المياه، واكتفت في طهو طعامها بوضع الآنية على نار المدفأة، وربما أوقدت في جنح الليل بعض الشموع!

إلى هنا أراني مدفوعا إلى التوقف عن نقل دراسة الكاتب الفرنسي للإسلام والداخلين فيه.. فقد ذكر كلاما عن هذه الفتاة ما أدري أكان في يقظة أم في منام؟ أكان رؤيا أم كان تخيلا؟

ولماذا أطوى ذكره؟ فلأنقل كل ما قيل لأعطي صورة كاملة عن فكرة القوم عنا أوعن رؤيتهم لنا..

قال: ابتدعت " روزى " لنفسها عالمآ يتكون من شطرين: أحدهما بلاد العدم والآخر بلاد الساعات!!

في بلاد العدم، حيث لا توجد شمس ولا قمر، تتحرك سلحفاة فوق جبل الفراغ كأنها تتنزه! لكن في هذه البلاد الصامتة توجد الحكمة! وعلى قمة جبل الفراغ يوجد هاتف الوحي!

وفي يوم من الأيام اتجهت السلحفاة إلى الهاتف المنفرد في قمته وسألته:

ماذا يوجد بعد بلاد العدم؟ قال: توجد بلاد الساعات! غير أني أنصحك ألا تذهبي إليها، فالساعات سوف تقفز فوق ظهرك، لأنك ستكونين دائما إما متقدمة و اما متأخرة!

ورفضت السلحفاة سماع هذه النصيحة، فمشت ثم مشت حتى بلغت بلاد الساعات، وهناك تحقق ما قاله لها الوحي، فإن الساعات أخذت تثب على عنقها وتنساب إلى ظهرها وبطنها، وتهاجمها من كل ناحية!

فعادت السلحفاة إلى الهاتف تستنجد به! فقال لها: لقد حذرتك من قبل، إنك لن تعودي من بلاد الساعات إلا إذا أوقفت الزمن..!

قال الكاتب الفرنسي معلقا على ما سمع، الحقيقة أن " روزى " كانت تقص حكايتها هي، فبلاد العدم هي عزلتها التي رأت أن تعيش فيها زاهدة متجردة، وبلاد الساعات هي الحضارة ذاتها بكل ما تعنى وتضم! وهاتف الوحي هو الإسلام الديانه الوحيدة التي ألغت الزمن (!).

كيف؟ وتتحكم فيها الصلوات الخمس اليومية، وأما السلحفاه فهي " ر وزي " نفسها...

قال: وقررت " روزى " اعتناق الإسلام بعد روية واستبصار! ورأت فيه الدين الوحيد الذي سيعينها على تحمل جنون الغرب- أوسعاره المادي الغالب- ثم انضمت إلى جماعة المصلين، الذين أعطوها اسمها الجديد " تقية " وهو اسم له دلالة طاهرة!

قالت: وظهر في حياة تقية شاب اسمه احمد، ليس فرنسي الأصل، بل هو مسلم عربي، إنه يصلح زوجا لها، لكن هناك مشكلة واحدة، فهويريد استكمال دراسته الطبية في باريس! ماذا تصنع؟ لقد استسلمت لقدرها وعادت إلى محطة البداية، عند أقصى بلاد الساعات!!

قال مسيوتيري- صاحب هذا المقال- علامات استفهام كثيرة ترتسم أمام عيني لا أستطيع تجاوزها في دراستي للإسلام وبحثي عن تعاليمه بعد اعتناقي السريع له.

أريد اكتناه حقيقة الزواج الذي يربط بين المسلم وامرأته! ترى أهناك موضع للحب فيها؟ أنا لا أجد في هذه العلاقة كما تبدو لي إلا رباط القوة الغالبة التي تتيح للرجل أن يعتصر امرأته، ويتسلط عليها بما أوتى من حقوق، وما فرض عليها من استكانة (!) لذلك قلت لتقية متسائلأ: أين يوجد الحب في هذا الخضوع المهيمن؟ أتحبين أنت زوجك؟ أين الجو الذي تولد فيه عاطفة الحب؟ أو ينبني عليه عقد الزواج.

هذا ما يسأل عنه الكاتب فيما أتخيل.

وقد كانت إجابة تقية فوق مستوى السائل، أو لعلها مزيج من إجابة صوفية، وحقيقة فقهية قالت: الإسلام أن تحب الله من خلال من تحب! فليس زوجي موضوع الحب لذاته، بل لعقيدته الإسلامية، إن ارتباطه بالله هو الذي ربطني به، ثم إذا حدث ووقع في حب امرأة أخرى فلن انفصل عنه، سأبقى له زوجة!

قلت لها: هذا ليس عدلا، فإنك لا تستطيعين اتخاذ رجل آخر!!

قالت: لي حق طلب الطلاق منه، والتزوج بغيره! أستطيع أن اشترط لنفسي ذلك عند الزواج..

قلت: إن أكثر شيء احترمه في مجتمعنا الغربي هو" الرومانسية " وانطلاق العواطف! إنني أبحث عن الحب الذي يمتطى المخاطر، وليس ذلك الذي يزرع خلية أسرية (!) أو يتعرف على صاحبه من خلال عاطفة دينية، فهو يحبه لأنه يحب الله (!)

عودة الى الكونت المسلم

ورن جرس التليفون في مكتبي فإذا " الكونت لو.. " الذي أسلم، ودفعني إلى دراسة الإسلام، سمعته يقول لي ساخرآ: هل أنت تتقدم؟ فأجبته: لا أدري أين أنا، لم أستطع كتابة سطر واحد عن الإسلام إلى الآن! فقال لي: مر بي فلدي حديث معك..

ووصلت إلى شقته الواقعة في في " سان جرمان " وأوقدنا المدفأة، ورأيته

أخرج وثيقة قديمة تتضمن شجرة الأسرة التي ينتمي إليها ثم قال لي: أتعلم أن كثيرا من النبلاء الفرنسيين اعتنقوا الإسلام؟ وأن كثيرا من فرساننا الذين اشتركوا في الحروب الصليبية عادوا من البلاد العربية وهم معتقدون أن الإسلام حق؟ إنه لولا ظروف سيئة لانتشر الإسلام أكثر! وإني أفكر لماذا لا نؤسس جمعية تضم النبلاء الفرنسيين الذين اعتنقوا الإسلام؟

وشرع يسرد على مسامعي قصصا تتصل بالموضوع بعضها عربي والآخر فارسي! وبغتة سألني: هل تختنت؟ قلت: ليس ذلك لازمآ! قال: وأنا أيضآ لم أفعل! وقد استفتيت شيخأ كبيرأ في ذلك فقال لي. في مثل سنك لا داعي لختان، لكنك يا " تيري " مازلت شابأ فشاور نفسك، وضحكنا سويآ.

ثم اقترح علي أن أذهب معه إلى الأستاذ حميد الله...

وأجدني هنا مضطرا إلى قطع الحديث وإعطاء القاريء كلمة عن الأستاذ حميد الله، فقد التقيت به في ملتقى الفكر الإسلامي بالجزائر، وعندما وقع بصري عليه شعرت بأني أمام رجل من عباد الله الصالحين، هو نحيف هاديء صامت يبدو عليه النسك، وراقبته وهو جالس فرأيته يخفي وجهه تقريبا بورقة يرفعها عدة ساعات بذراعه! فقلت لصديق لي وله: لماذا يفعل ذلد؟ قال: يخشى من المصورين! فقلت له: ماذا يخشاه منهم؟ قال: هو يرى أن التصوير الشمسي حرام، ولا يريد أن يقع في هذا الإثم! فأبديت عجبي وقلت: لو صح ما يراه فإن الذنب على من يصوره وهو كاره، لا عليه هو!

وبدأت أشك في فقه الرجل، وإن لم أشك في تقواه، والتقوى شيء والفتوى شيء آخر!

وعندما ألقى محاضرته ذكر حديثا عن عدد لأنبياء وصل بهم إلى الألوف، والحديث يدور بين الوضع والضعف، ولم أنزعج كثيرا لهذا الخطأ، بيد أني اضطررت إلى التعقيب على محاضرته عندما قال: إن التوقيت الشمسي كان معمولا به عند العرب، وإن القرآن أشارإلى ذلك عندما رفض النسيء " إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا ".

ومعروف أن أيام النسيء التي تضم إلى السنة الشمسية شيء آخرمغايركل المغايرة للنسيء الذي كان يفعله العرب في جاهليتهم، ويؤخرون به أحد الأشهر الحرم عن وقته، ويحرمون مكانه شهرا آخر! وكل ذلك في السنة القمرية لا في السنة الشمسية!

إن الشيخ حميد الله رجل طيب عابد، ولديه معلومات كثيرة، وقدرة على متابعة الدراسة غير أنه بحاجة إلى مزيد من الفقه وإحكام العلم بالمرويات.. وتمنيت لوكنت مثله في التنسك والعبادة!

هذا هو الأستاذ الذي اقترح الكونت المسلم، والكاتب الفرنسي الراغب في معرفة أكثر عن الإسلام، أن يذهبا إليه، وقد وصفاه بهذه الكلمات " يقال إنه ثاني فقهاء العالم الإسلامي (!) فوزراء المسلمين يستشيرونه، وكبراؤهم يستضيفونه، وهو يعقد مؤتمرات دينية في العالم كله.. ".

قال الكاتب: " ودخلنا في قصر فخم أشبه بقصورألف ليلة وليلة، ثم صعدنا إلى الدور العلوي، وطرق الكونت بابا رمادي اللون يحمل رقم 25، فلم يجب أحد، ثم أعدنا الطرق فلم نسمع صوتا، ثم فتح الباب شيخ كبير ذو لحية، تبين لي أنه يسكن غرفة متواضعة من غرف الخدم في هذه العمارة، ليس لديه هاتف، استقبلنا بلونه الأسمر، وسمته الهندي، كأنه سادن في أحد المعابد! وكانت كتبه مبعثرة فوق المنضدة وتحت السرير، وفي كل جانب من الغرفة..

قال الكونت: إنني أقدم لك هذا الشاب- موجها الخطاب للشيخ الحكيم - فهو راغب في معرفة الإسلام بحماس!

ونظر إلي الرجل في تثبت وأناة ثم قال حسنا، وماذا تعمل في هذه الحياة؟ قلت: أنا أعمل مصورا فوتوغرافيا! قال: أتعلم أن الإسلام يحرم تصوير الإنسان والحيوان؟ تستطيع أن تصؤر النباتات والأحجار، (!) و تتخصص في ذلك (!).

قال الكاتب الفرنسي: لقد انهلت بأسئلة كثيرة على الأستاذ، أريد أن أتعرف بها على تعاليم الإسلام، فلم أسمع إجابة شافية لأغلبها، وقال لي الشيخ: إنني لست إلا طالبا متواضعأ في العلوم القرآنية، ماذا تريدني؟ واستتلى إن مدينه " كليرمونت فيران" المعقل الكاثوليكي القديم من أكثر المدن الفرنسية اعتناقا للإسلام! من هذه المدينة القديمة انطلقت الجيوش الصليبية 1095 م أي من نحو تسعة قرون كي تغزو الإسلام في عقر داره! واليوم فقط اعتنق خمسون من أهلها الإسلام، هكذا يقول الشيخ حميد الدين لزواره!

ويبدو أن هذه الكلمات حركت الكاتب الفرنسي مسيوتيري فقرر أن يزور " كليرمونت" ليرى ما حدث لها! يقول: وعلى متن الطائرة التي حملتني إلى المدينة- التي فشا فيها الإسلام- بدأت في تلخيص المعلومات التي حصلتها عن الإسلام من الشيخ حميد الله..!! إنني فهمت منه ما يلي.

(1) يرى القرآن أن المرأة يجب أن تحتجب عن الرجال، وليس ضروريآ في الحجاب أن تغطى الوجه، يبدو أن المقصود هو مجرد الاحتشام.

(2) المسلمة لا يجوز أن تتزوج مسيحيأ، وعلى العكس يستطيع المسلم أن يتزوج مسيحية، والأولى به أن يتزوج مسلمة مثله، وعلى كل حال فالأطفال جميعأ يجب أن يشبوا مسلمين..

(3) يرفض الإسلام رفضا تاما الإضرار بالآخرين ولا يتساهل في احترام هذه القاعدة.

(4) الذي يعتنق الاسلام لا يكلف جبرأ بتغيير اسمه، إلا إذا أراد الحج.. (!).

(5) التختن سنة وليس فريضة لازمة.

(6) الذين يتحولون عن الإسلام إلى دين سماوي آخر قد يعاقبون بالموت، وهذا عقاب يراه البعض (!) وإن لم يكن واردا في القرآن...

وأخيرا وصلت إلى " كليرمونت " مدينة المتحولين إلى الإسلام، ووليت وجهي شطر المسجد.

وهنا أخذ " مسيوتيري " يقمق علينا رواية أخرى نثبتها على علاتها، برغم ما تضمنته من أخبار مثيرة، وصور مهتزه للذين اعتنقوا الإسلام! قال: المسجد في البناية رقم 45 شارع " سانت هيلين " كان من قبل كنيسة، رأت بعض الراهبات منحها للمهاجرين المسلمين الذين كانوا يقيمون الصلوات في " جراش " للسيارات، وفور تسلمهم لها أخذوا يحورون القبة، ويصنعون القبلة في الجهة المناسبة، ويغيرون الزجاج ليكون غير شفاف، ويجعلون الطلاء باللون الأبيض وكتبوا عند المدخل كلمة مسجد باللغتين العربية والفرنسية.. وأدخلني حارس المسجد إلى الساحة الخالية، لقد كان من قبل صالة الهيكل، ثم نزعت الكراسي وفرشت الساحة بالسجاد الذي كان يتثنى في الحفر الصغيرة المتخلفة عن خلع الكراسي (!).

وإمام المسجد اسمه " عبدون نور" ولكي تكمل الصورة فهو أيضآ فرنسي اعتنق الإسلام..

ويظهر أن عبدون ليس هو الذي يقوم بالعمل فيقيم الشعائر، ويؤم المصلين، بل الذي يفعل ذلك الشيخ علي! وهوفرنسي أسلم، ونهض بهذا العبء في مسجد "كليرمونت "..

وأقبل الشيخ علي وفوق رأسه عمامة، ويرتدي جلبابأ أبيض، وقدماه حافيتان، وبيده عصا (!) ثم جلس، ولما علم بمقدمي أخذ يحدثني عن نفسه بصوت ضعيف، وكنت أصغي إليه باهتمام..

قال: إن اسمه الأصلي " برنارد " و في أحد أيام شهرمايوسنة 1970 م عاد من الخدمة العسكرية بعد أن أتمها وعمره أقل من المعتاد إذ كان في التاسعة عشره من عمره، ورفض أبوه أن يعوله! وفي أثناء تجواله بقهوات "كليرمونت" سمع عن مجالات طيبة للعمل في الهند، فقرر أن يسافر عن طريق تركيا، فإيران... وفي طهران حاول الارتزاق من بعض الحرف ففشل وأحس الجوع ينال منه! وعندئذ قال له أحد معارفه من الإيرانيين: إذا أردت أن ترتدي حذاء جديدآ، وتأكل جيدا إذهب إلى مسئول ديني، وقل له: إنك راغب في اعتناق الإسلام!

فأعجبت برنارد الفكرة، وصاح بسرعة: أريد أن أصبح مسلما.. (!).

ودلوه على المسجد، حيث قال الإمام له: تعال صباح الغد..

وفي الصباح كان برنارد مع ستة من الفقراء في المسجد، وكان الإمام ينتظر مقدمهم ومعة ثلة من الصحافيين والمصورين! وتوجه الإمام إلى الحضور قائلأ لهم: إخواني هؤلاء أرواح متفتحة للحق، تريد أن تنضم إلى عقيدتنا، إنهم شبان قادمون من، أوربا شرح الله صدورهم للإسلام...

والتقطت صور كثيرة لهم وهم يرددون الشهادتين، ويومئذ تسمى " برنارد " باسمه الجديد الشيخ علي، وجلسوا بعد ذلك في حفل شاي يأكلون قطع الحلوى!!

وعند انتهاء الحفل همس " برنارد " في أذن الإمام يذكره بالحذاء الذي وعده به! فأخذه إلى دكان أحذية واشترى له ما أراد، قال برنارد: وكنت أسير على الرصيف المقابل من شدة حيائي! لكن الشيخ علي- برنارد سابقا- لم يلبث طويلا في طهران، فقد اكتشف أن جواز سفره مزور، إلى جانب مخالفات أخرى ارتكبها، جعلته يقرر السفر إلى باكستان سيرا على الأقدام..

كانت رحلة قاسية، اجتاز خلالها بعض الغابات، قال وانضممت إلى أفواج من المسلمين الذين يحبون الأولياء ويزورون أضرحتهم، فكنت أمشي أثناء النهار، وأقطع مراحل طويلة، أما في الليل فكنت أنظر إلى السماء! وكنت أمام الأضرحة أدعو الله! كانت ثيابي تافهة وأكلي قليلأ، وتعبي كثيرا وفقدت الشعور بالزمن...

وفي باكستان لم أدر ما أصنع؟ ورآني أحد الناس وعرف أني غريب فاستضافني لأشرب الشاي معه في إحدى القهوات.. وخلال الحديث قال لي أرني جواز سفرك! فأخرج له الشيخ علي قطعة باقية من ورق أزرق وقال له هذا ما بقي منه!

فأخبره الباكستاني المضيف أنه من رجال الشرطة السرية، وألقى القبض عليه بتهمة التجسس، وعقوبة هذه التهمة السجن مدى الحياة!!

و رمي به في السجن، بعد ما وضعت في قدميه السلاسل، وتعرض في السجن للجلد، وسوء التغذية وقلة الماء (!) وكانت المعاملة بالغة الإهانة، ولم يكن قادرا على صنع شيء لنفسه، فبقي صريع الأحزان والمخاوف، ومضى عليه عام لم يقدم لمحاكمة، وجسده يمتلىء بالجروح وصحته تذوى يوما بعد يوم.

وفي أحد الأيام جاءه سجين أعمى وسأله: تقول: إنك مسلم؟- نعم نطقت بالشهادتين في طهران، لكني لم أتعلم الصلاة.. فقال له السجين الأعمى - وكان كبير السن- أتفق معك على أن أعلمك الصلاة والقرآن، وتقوم أنت في مقابل ذلك بتنظيفي، وقيادتي إلى المرحاض، وإعادتي إلى الزنزانة..! يقول الكاتب الفرنسي " تيري ": من أبعد أعماق المجهول عاش " برنارد " أغرب تجربة في حياته، لقد نهض بإخلاص لأداء عمله، وأخذ يتوضأ ويصلي خمس مرات كل يوم، وسرى في نفسه حماس غريب مع استدامة الركوع والسجود واستيقظ في فؤاده إيمان كان مخدرا، وتجسم أمام عينيه أن اسمه الشيخ علي! لقد كان في ظلمات السجن نسى اسمه الإسلامي وما يوحى به من معان.

يقول الشيخ علي: وفي صباح أحد الأيام، وبرغم الإعياء الشديد الذي أعاني منه، شعرث شعورا قويا بفكرة سيطرت علي، هي أن أحؤل السجن إلى مسجد!! فقمت، وأذنت للصلاة كما كنت أسمع المؤذنين في شوارع طهران، واعتقد من حولي أني جننت، بيد أني ثابرت على الأذان والصلاة صباحا ومساء، فلم يمض إلا أسبوع حتى أحسست أن المسجونين يتجاوبون معي، وكنت أسمع همسهم داخل الزنازبن وهم يكبرون معي..

إلا أن المرض ألح علي، فكنت إذا عجزت عن النطق أومأت بأصابعي، وبدوت في صمتي وكأني أسبح الله، وهنا أفرجت عني الشرطة، وأعطتني نقودا، واستضافتني مدة..

وطلبث منهم الإذن لي بالبقاء في باكستان، فمنحت تصريحا مؤقتا، وكان ذلك ما أريد لأني أحببت البقاء مع أصدقائي المسلمين..

غير أنه حدث ما جعلهم يأبون تجديد الإقامة، فقررت العودة إلى فرنسا..

غادرتها منذ سنين على قدمي، وأعود إليها اليوم على قدمي، ها أنذا أقترب من بيت أسرتي!

وتردد الشيخ علي قليلا، ثم دق الباب، وفتح له والده، وسرعان ما عرفه واحتضنه، إنه لم يره من عشرسنوات، وقد ظنه مات، ولكن سرعان ما قال " برنارد " إنني مسلم!!

فتأمل أبوه في منظره، وجلبابه وقلنسوته، ثم قال: أمن أجل ذلك ترتدي هذا " الكرنفال "- يعني الملابس المثيرة للسخرية- لكن لا بأس، لأن تكون حيا متدينا ولو بالإسلام أفضل عندي من أن تكون قد مت..

ولما خرج " برنارد " إلى شوارع " كليرمونت" فاجأ السكان بسمته الغريب وسألوه عن دينه الجديد؟ إلا أنهم تعودوا عليه خلال عام، وتقابل الشيخ على مع عبدون نور المسئول عن مسجد المدينة، وكان قد عاد مؤخرأ من باكستان، فقال للشيخ علي: إن المسجد يحتاج إلى إمام فقم بهذا العمل، ثم إن رواده تنقصهم الكتب..

وما هي إلا أيام حتى كان الشيخ علي يعمل إمامأ للمسجد وبائعأ للكتب، وأضاف إلى ذلك عملا آخر، فقد افتتح محلأ لبيع الخبز الذي كان يصنعه في بيته...

يقول الكاتب الفرنسي " تيري": هذه النماذج لتي عرضتها، الشيخ علي، وأيوب، وتقية والكونت وغيرهم من الفرنسيين الذين أسلموا، ما زالوا أعمق إيمانأ وأشد حماسأ للإسلام من المسلمين أنفسهم..

وذهبت مرة أخرى إلى الكونت لأسأله عن أحوال هؤلاء؟ فقال: لقد اجتمع معتنقو الإسلام مرة في المسجد الكبير يتباحثون في شئونهم، كان عددهم نحو الخمسين، وكان بينهم نسوة محجبات، وقال لهم رئيسهم الديني: إخوتي الأعزاء، لقد التقيت بكم لأسألكم: هل ترغبون في تكوين جمعية للفرنسيين المسلمين؟ وهل لكم مقترحات نسعى في تحقيقها؟

رب الأسرة قال: نريد تنظيم دروس لأطفالنا وضمان تعليم حسن لهم..

وربة الأسرة قالت نريد تهيئة محال لبيع اللحم المذبوح وفق تعاليم الشريعة.. وبعد حوار طويل قال أحد الرجال: إن الدين مسألة شخصية ولا داعي للتجمع!

ويبدو أن هذا الرأي هو الذي انتهى إليه الجمع!

قال الكونت: وأنت يا تيري، أين بلغت الآن من موقفك الديني؟ إني اقترح أن أسميك نور الدين، أي خادم النور..!!

فأجبت: لا أدري ما أقول! لم أصل لكتابة سطر واحد في الإسلام، ولا أدري ما النهاية..؟

قال الكونت- ولعله كان غاضبا- النهاية يوم الحساب معروفة لا سيما نهاية مصور فوتوغرافي فقلت متعجبأ: ولماذا بالنسبة إلى مصور فوتوغرافي؟

قال: نعم، حين تقف أمام محكمته سبحانه وتعالى فسوف يطلب منك إعادة الحياة في الصور التي رسمتها طول حياتك وعندما تعجز- وستعجز حتما- فإنه سوف يلقى بك في جهنم..!!.

هذه نهاية المقال المترجم، وقبل أن نبسط رأينا في الموضوع كله نلفت النظر

إلى خطأ الفتوى الأخيرة، فالذين يكلفون بنفخ الحياة في الصور هم صانعو التماثيل المجسمة! أما الرسامون على المسطحات فكيف ينفخون الروح في ظل على ورق؟

والكونت الفرنسي معذور في فهمه، فإن بعض المتعالمين الجرآء على الفتوى من المتحدثين في الإسلام يقولون هذا الكلام، ويسدون به الطريق أمام إسلام مصور فوتوغرافي! ولله في خلقه شئون..!

إن نفرا من الدعاة الإسلاميين يحملون في حقائبهم أساطير من عند أنفسهم، ينسبونها إلى الإسلام عن قصور وغرور، ويحجبون أشعة التوحيد عن العيون المتطلعة وهم يدرون أو لا يدرون...

أوهام في طريق الدعوة

شعرت بحزن وغضب بعدما انتهيت من قراءة هذا المقال! شعرت بأن الإسلام دين يتيم مضيم، ليس هناك من يحسن عرضه أويدفع عنه أويمحو القذى الذي يشوب حقائقه ويشوه ملامحه!

كأنه دين لا صاحب له..! الباحثون عنه يلتقطونه حيث وجدوه، لأن أفئدتهم فارغة، وما يلمحون من صدقه يجتذبهم اليه، ولا عليهم أن يعتذروا عما التصق به من دخل، فما سلم لهم من جوهره بعد ذلك أحظى لديهم مما ورثوا، وأدنى إلى الرشد مما عرفوا!

لكن أين أصحاب هذه الرسالة يقدمونها بيضاء نقية؟ أين حملة هذا الدين من العلماء الراسخين يشرحون فطرة الله التي فطر الناس عليها؟ أين المكلفون بالبلاغ؟ الشاهدون على الأمم؟

لا نراهم حين يطلبون! إن ألوفا من " الخواجات " يبحثون عن دين يملأ شعاب أفئدتهم، ويروي عطشهم الروحي ونهمهم العقلي فلا يجدون!

و اذا وجدوا أحدا يحدثهم عن الاسلام ويدخلهم في نطاقه السمح عادوا من لدنه يرتدون جلبابا أبيض، وعمامة فوقها عقال، أو ليس فوقها عقال !! ما هذا ؟؟

أهذه دعوة إلى الإسلام أم إلى تقاليد البادية العربية؟

لقد تأملت مرة بعد أخرى فيما يطلب من الأوربيات والأمريكيات لكي يسلمن! إنهن يعرفن جيدا ملابس الراهبات، هي بلا ريب ملابس سابغة، وإذا كلفن بصنع ملابس أقل كلفة منها، مع بقاء شعورهن دون حلق كما يفعل بالراهبات، يكفي أن تغطى بأي ساتر فماذا في ذلك مما يضيق به الإسلام أو تكرهه النساء الطبيعيات؟؟ هذا هو الحجاب الإسلامي.

ومن قال لامرأة سافرة الوجة: غطي وجهك يا عاهرة! يجب دينا أن يقاد إلى مخفر الشرطة ليجلد ثمانين جلدة، وتهدر كرامته الأدبية فلا تقبل له شهادة أبدا..

من من الفقهاء، والمحدثين زعم أن النقاب ضروري لاعتناق المرأة الإسلام؟ إن الإسلام مظلوم بهذه التقاليد...!

خذ مثلا " ليونارد " الذي تسمى الشيخ علي، ودخل بيته القديم بزي يثير السخرية! ماذا عليه لو بقى بزيه الأصلي، وتميز بين الناس بنضارة خلقه ووضاءة وجهه وبدنه، وطهارة ثيابه! ثم قال لأبيه مع إبداء الاحترام الواجب له: يا أبتاه، إنني وازنت بين التوحيد والتثليث فوجدت التوحيد أرجح! ووازنت بين مسئوليتي الشخصية عن خطاياي، وبين صلب المسيح فداء لها فرأيت أن نظرة الإسلام أقرب إلى العقل والعدل، فهو يقرر " أن لا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى". فأرجو الأ تضيق بي وبالدين الذي ارتضيته...

وماذا عليه بدل أن يرتزق من وظيفة إمام مسجد وبائع كتب للمصلين أن يلتحق بأي وظيفة مدنية، أو أي عمل حر ليكون فيه نموذجآ للرجل المنظور إليه باحترام، الجدير بالتقدير والمهابة؟؟ ثم يصلي بعدئذ متطوعآ بإخوانه المسلمين. إن المقياس الإسلامي في تقرير الكرامة العامة، للبشر كلهم، أيا كان جنسهم هو" خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا.. " وما كانت رسالة الإسلام في يوم من الأيام تنافسا بين الجلابيب الصحراوية والبدل الفرنجية!!

ومن المنكرات الغليظة إظهار الإسلام على أنه يحتقر المرأة، وينظر إلى الأنثى بازدراء، ويعدها إنسانا في المرتبة الثانية، والدعايات في أوربا وأمريكا ناشطة لإبراز الإسلام في هذا الإطار الظالم وإبراز المرأة المسلمة ومكانتها الإجتماعية صفر..

وددت لو أن السيدة " روزى " التي تسمت بعد إسلامها " بتقية " بقيت تؤدي وظيفتها الأولى مدرسة أطفال، وعرفت بين زميلاتها وتلامذتها بسعة الخبرة ودقة الأداء، وكان مظهرها جامعا بين الجمال! والوقار، إن الإسلام يأبى أن تكون المرأة متبرجة مثيرة ويأبى كذلك أن تكون منفرة دميمة.

وماذا عليها بعد إتقانها لعملها أن تقول لمن تلقى من رجال أو نساء: لا تصدقوا ما يشاع عن ازدراء القرآن للمرأة، إن القرآن يخبرنا عن الأصل الذي انبثقنا منه فيقول (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة... ! ويقول (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعويا وقبائل لتعارفوا.. )

وإذا كان نوح أفضل من امرأته فامرأة فرعون أفضل من زوجها، ومريم ابنة عمران أفضل من آلاف الرجال...

وقد تكون هناك تشريعات اقتصادية واجتماعية لترتيب البيت المسلم، وتحصين المجتمع المسلم، هذه التشريعات لا تخترق القواعد الأساسية القرآنية التي تجعل الجنسين بعضهما من بعض وإن بدت للنظر السطحي غير ذلك...

ولا مكان هنا للتفصيل، وإنما نضرب مثلا واحدا، فالمرأة تأخذ نصف نصيب الرجل في الميراث لأنها لا تكلف بالإنفاق على نفسها ولا تدفع المهر حين تتزوج.. فنصفهما باق لها على حين أن النصيب الكامل للرجل يذهب في النفقة وا لصداق..

قد تقول المرأة: أحب أن أنفق على نفسي! والجواب أن تكليف المرأة بالإنفاق على نفسها من سن النضج هو الذي فتح على أوربا أبواب الانحلال الخلقي والفوضى الجنسية..

ولنعد إلى مكانة المرأة في الإسلام لنقول آسفين: إن مآثر الجاهلية الأولى لا تزال باقية في بعض البيئات، فهي تكره البنات " وإذا بشرأحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهوكظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ".

وماذا نصنع لأناس يعصون ربهم ويكرهون أولادهم...؟

وقد وجد هذا الكره، وامتذ ليشمل عن عمد بعض تعاليم الدين.

وأذكرأنني حكيت في مكان آخرقصة صحافي جاء يسألني: هل تتولى المرأة القضاء؟ ما حكم الإسلام في ذلك؟ فقلت له: تريد حكم الإسلام؟ قال: نعم! قلت: ويسرك أن يبيح الإسلام للمرأة تولي هذا المنصب؟ قال: نعم! قلت له: إن شراثع الإسلام اليوم معطلة في القصاص والحدود فإذا تولت المرأة القضاء وأحيت ما مات من أمر الله فالإسلام يرحب بالمرأة قاضية!

وكان يسمعنا واحد من علماء الدين التقليديين فسألني على عجل: ماذا قلت؟ فأجبته: هوما سمعت فقال: لا.. تبقى الأحكام معطلة ولا تحييها امرأة (!).

قلت له: انك امرؤ فيك جاهلية، إن الأحناف قالوا يصح قضاء المرأة فيما تصح شهادتها فيه، والظاهرية قالوا: تشهد في الحدود والقصاص.. و لان ينتصرمذهب إسلامي أفضل من أن تعطل نصوص الكتاب والسنة، إنك ممن يكرهون النساء اتباعا لتقاليد أضرت بالإسلام وما نفعته..

غربلة المعارف قبل تقديمها للناس

إن احتقار الأنوثه لذاتها جريمة، أو بقية جاهلية كما قلت..

وعندي أن امرأة كأنديرا غاندي تتولى الحكم وتجرى انتخابات نزيهة تسقط هي فيها، أشرف من رجل له هامة وقامة يتولى الحكم ويزور الانتخابات ويطلع على الناس بوجه وقاح كأنه لم يصنع شيئا وهو قد أهلك الحرث والنسل. نحن لا نخترق أسوار النصوص، بل نحارب من يفعل ذلك، ولكنا نكذب أقواما يزعمون أن القرآن يحتقر الأنوثة، ولا يرى لها حقوقا...

وأراني مضطرآ لأن أقول: إن ثمت أفكار خاطئة وتقاليد عوجاء تسود المسلمين، لا صلة لها بكتاب أو سنة، وهذه الأفكار والتقاليد وراء الانحطاط العام الذي نكس رايتهم وألحق بهم هزائم مذلة في كل ميدان...

نسمع أحيانا كلمة "صواب مهجور وخطأ مشهور" ونحسب هذه الكلمة لا تقال إلا في ميدان اللغة! وعند التدبر والإنصاف نجد أن هذه الكلمة أصدق ما تكون في بعض القضايا الفقهية، وكثير من الموروثات الاجتماعية والسياسية.. غاية ما هنالك من فرق، أن الغلط اللغوي محدود الضرر، أما الخطأ في الأعراف والعادات والتيارات الاجتماعية فضرره لا يحد.. وكثيرأ ما وجدت الشارع يقول شيئأ، والشارح يقول شيئأ آخر!!

ولننظر في هذه الأمثلة ثم نرجع إلى أنفسنا مستبصرين...

صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد" وظاهرأن الرسول الكريم يعلم أمته الشجاعة ورفض البغي ورد العدوان.. فانظرما يقوله الشارح! محل ذلك إذا لم يجد ملجأ يتحضن فيه، أو لم يستطع الهرب وإلا وجب عليه الهرب (!).

قال صاحب " سبل السلام : لا أدري، ما وجه وجوب الهرب عليه..؟ قالوا: ولا يجب الدفاع عن المال! بل يجوزله أن يتظلم! إلا أن علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان (!) للآثار الواردة بالصبر على جوره، فلا يجوز دفاعه عن أخذ المال...".

أرأيت إلى أين يتجه الشارع وإلى أين يتجه الشارح؟؟ لست أشك في أن هذه الشروح دفعت إليها الرهبة الجبانة، وأن إرسالها على هذا النحو خدم الملوك الجورة والسلاطين المستبدين، وأتاح لهم فرض ما يشاءون من ضرائب ومصادرة ما يشاءون من أملاك، دون تهيب مقاومة أو توجس عصيان..

ورياضة الجماهير على قبول الضيم، بفتوى شرعية (!) أفقد الشعوب ملكة الشجاعة، ووطأ ظهرها للاستعمار الخارجي، وكان ذلك يقع في البلاد الإسلامية في الوقت الذي كانت الأمم الأخرى تصرخ بالدفاع عن الدم والعرض والمال، وتشرع الدساتير التي تقرر ذلك..!

أي أن قوانين الفطرة تستعلن هناك، وتموت عندنا بتمويت النصوص التي تدل عليها وتأمر بها..

ومن أمثلة تحريف الكلم عن مواضعه أن يجيء في القرآن الكريم " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي...) فإذا مفسر قاصر تائه يقول: بل هناك إكراه في الدين والآية منسوخة! من نسخها أيها المسكين؟

الواقع أن أجهزة الدعوة الرسمية والشعبية أصابها عطب رهيب، فلما نكلت عن أداء حق الله في البلاغ وتبين الرشد من الغي، أتى من يزعم أن السيف تغنى عن الإعلام، وأن القوة طريق الإقناع، وهذا من أكذب الكذب على الله ورسوله، ولم يقع قط أن صاحب الرسالة أكره أحدا على دينه..

الذي وقع أن السلاطين الجهلة لا تدري ما رسالة الأمة؟ ولا تحسن البيان والهداية، و ربما مالت إلى التوسع والسطو والغزو! ووجدت من علماء الدين من يعينها على ذلك..

وفي عصرنا، هذا متحدثون إسلاميون كأنما أصابهم سعار، فهم يرددون بالحاح منكر أن الحاكم لا يلتزم بالشورى.

ومعلوم أن الأمة الإسلامية تتدحرج إلى الهاوية من عدة قرون لما أصابها من الاستبداد السياسي! ومع ذلك فإن قوله تعالى (وأمرهم شورى بينهم)، يجيء إليه شارح ضرير فيقول: ذلك مع الاحتفاظ للسلطان بحق مخالفة الشورى، والمضي وفق هواه هو!!

هذا الكلام ليس نصحا لله ورسوله وكتابه وعامة المسلمين وخاصتهم! إنه قرة عين للجإبرة الذين ساقوا الجماهير بالسياط.!!

وهو السبب في أن المسلمين منكسرة نفوسهم في أوطانهم، وأن الأحرارمنهم يستوردون شارات الكرامة والحقوق الخاصة والعامة من الخارج، لأن الأفاكين لوثوا ينابيع الوحي..!

ومن عجيب ما قرأت في تعطيل النصوص ما راه البعض وهو يشرح حديث خروج النساء إلى مصلى العيد، والحديث المتفق عليه في هذا ما روته أم عطية " أمرنا أن نخرج العواتق والحيض في العيدين يشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصلى).

يعني بالعواتق الفتيات البالغات أو المقاربات للبلوغ، والحيض النساء عموما، واستخراج النساء من خدورهن لعلة مذكورة في الحديث، شهود الخير، والمشاركة في اجتماع الأمة لمناسبة طيبة..

قال الطحاوي وغيره: هذا الحديث منسوخ! ما الذي نسخه؟ لا كتاب ولا سنة ضد الحديث

إن دعوى النسخ مكذوبة! يقول الطحاوي: كان ذلك في صدر الإسلام، وكان في خروجهن تكثير لسواد المسلمين وإرهاب للعدو! ثم نسخ بعد ما قوى الإسلام (!).

والحق أن هذا كلام فارغ، وهو اعتذار مرفوض لترك التعاليم الإسلامية، وتغليب تقاليد أخرى على تقاليد الإسلام.

هذه التقاليد الأخرى محورها عزل المرأة عزلأ تامأ عن شهود الخير وعن دعوة المسلمين كما عبر الحديث الشريف!

ولا تزال الأمة العربية ميالة إلى تنفيذ هذا النسخ المزعوم ونشره في العالم كله باسم الإسلام..

إنني أطلب من أمتنا الإسلامية أن تحاكم تقاليدها هي إلى الإسلام، فما وافقه بقى، وما خالفه ترك، أما أن تطرق عواصم العالم الكبرى بتقاليد مزورة، وتزعم أنها تعرض الإسلام (!) فهذا ضرب من التزييف أخطركثيرا من تزييف النقود..

لقد ظل المسلمون ألف عام يمنعون تعليم المرأة، تنفيذا لحديث مكذوب يوصى بإلزامها الأمية وإسكانها السراديب لا الغرف..!

فهل هذا ما يريدرن نشره؟ وهم إلى الآن يمنعون النساء في العواصم المحافظة- كما تسمى- من حضور الجماعات في المساجد التي تقام فيها الصلوات الخمس، فهل ذلك ما يريدون نشره؟

إن النبي عليه الصلاة والسلام جعل للنساء بابا خاصا بهن يدخلن منه، ورعى صفوفهن في أداء الفرائض، وما رد امرأة قط عن الصلاة في المسجد، فمن أين تقرر منعهن البتة؟ قد يقول البعض: جاءت آثار تجعل صلاتهن في بيوتهن أفضل!

ولست أكذب هذه الآثار كما فعل ابن حزم، ولكني أشرح القضية بأناة للزوج والأولاد، إن ربة البيت لا ئقبل منها أن تتردد على المسجد سحابة النهار وبعض الليل على حساب التضحية بمطالب الزوج والأولاد.. من هنا صح لها أن تصلي في بيتها لكي تقدرعلى الوفاء بواجباتها تلك.. فإذا قدرت على الوفاء، وبعدت عن التقصير وبقى لها الوقت الذي يسمح لها بالصلاة في المسجد ما يمنعها أحد من ذلك..

فالإسلام يريد أن تصلى النساء في المساجد، لكن بعد أداء حق البيت.. أما حبسها في البيت وتحريم المسجد عليها، لأن ذهابها إلى المسجد ممنوع ابتداء، فهذا باطل، ومخالف للكتاب والسنة...

إن النساء الغربيات يفزعن عندما يذكر لهن الإسلام، يحسبنه سجانا غشوما مستهينا بحقوق المرأة ومجتاحا لشخصيتها، ونحن المسئولون عن شيوع هذه التهمة.!

وهناك عقلاء كثيرون من الرجال والنساء يكرهون الفوضى الجنسية الشائعة في الغرب ويتشاءمون من عقباها، بيد أنهم يتساءلون: ما البديل؟

إن البديل الحقيقي هو الإسلام، لوعرفوه!! أما التقاليد الشرقية التي يرونها فهم لا يحترمونها، وبرونها قناعا خادعا لسيئات مثل ما لديهم، وقد تزيد.!

والمثير للأحزان أن يقال لهم: هذه التقاليد هي الإسلام نفسه..

ويوجد في انجلترا نحو خمسة ملايين من المسلمين، كان في الإمكان أن يشرحوا بالإسلام صدورأ كثيرة، وأن يردوا شبهات منتشرة، أجل كان في المقدور أن يكونوا جسورا تعبر عليها الرحمة المهداة، ويشيم الأوربيون فيها أنوارا هم أحوج الناس إليها في عقائدهم وخلائقهم، لا سيما ما يتصل بالعلاقات الجنسية، والتفرقة العنصرية..

إن شيئا من ذلك لم يقع، إن القادمين للارتزاق، أو لأغراض أخرى يحسون أنهم أدنى من أرباب الحضارة الحديثة.. ومن ثم فهم تابعون لا متبوعون، ومقودون لا قادة، واليد العليا هنا ليست لأولئك المسلمين القادمين! والتخلف الإسلامي هنا ليس في ميدان الآلات والأجهزة المخترعة عسكرية كانت أو مدنية، كلا! إنه تخلف في القدرات الفكرية والعلمية وفي الميزات النفسية والخلقية، هناك عجز أو خلل في تكوين الشخصية الإسلامية يعجزها عن الصدارة أو الإمامة التي طلبها الإسلام من المنتسبين إليه ليكونوا هداة للخلق، وشهودا عليهم أمام الخالق...

المسلمون من آسيا أو أفريقية، بيضا كانوا أو ملونين، ليسوا نماذج معجبة لعقيدة التوحيد وما تنشئه من فضائل القوة والعفة والإقدام والرسوخ، ليسوا نماذج معجبة للإنسان الذي ينفع ولا يسيء، و يعطى ولا يمد يده، ويعاف الكسل، ليسوا نماذج معجبة للترفع عن الشهوات وتقديس الدماء والأموال والأعراض، ليسوا نماذج معجبة لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...

إن آباءهم الأولين سحروا المشارق و المغارب بشمائلهم وخشوعهم واخوتهم و تواصيهم بالحق والصبر، حتى أنسوا الأقطار المفتوحة تاريخها ولغتها، فتبنت الدين الجديد واللغة الجديدة، وسابقت العرب في هذا المضمار فسبقتهم، وتولت القيادة حين ضعف العرب عنها.

شخصية المسلم المعاصر هل تفيد الدعوة

أما هذة الخلوف المعاصرة فلها شأن آخر.! هناك من يرحل إلى أوربا وأمريكا طلبا للقوت، وهناك من يرحل طلبا للأمان. وفرارا بحياته، وهناك من يرحل طلبا للعلم وتعرفا على مفاتح الحضارة الحديثة، وهناك من يرحل طلبا للمتعة، واستكثارا من الفضائح في بلاد لا تعرف فيها...

والنظم الاجتماعية عند القوم تتيح فرصا سهلة لهؤلاء وأولئك، بل تتيح فرصا عظيمة للدعوة الإسلامية، لوشاء المسلمون وصحت لهم دعوة! فالحريات هنا لك لا حدود لها، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه، والمسلمون في بلادهم غرباء على دينهم فكيف يهدون إليه وماذا يقولون؟؟

الصورة التي ارتسمت في أذهان الغربيين عن الإسلام وأمته تبعث على الخجل، فطلاب المتع من أغنيائنا الجموا أفواهنا عن أي اعتذار..

المال الإسلامي يراق بسفه غريب في علب الليل، وموائد القمار والخمر، وأنواع التهتك التي تسبق الخيال!

والغربيون ليسوا أغبياء! إنهم يقولون: أما على هذا المال رقابة؟ من أين اكتسب؟ وفيم انفق؟ وهم يعلمون أن جماهير غفيرة من المسلمين ذهبوا ضحايا الجفاف والقحط، ومن بقى منهم في آسيا أو افريقية بقي جلدا على عظام، أو ملامح تصرخ بالبأساء والضراء!

أين المواساة التي يتحدثون عنها في دينهم؟ أين التواصى بالمرحمة؟ وقبل ذلك أين التقوى التي تحجز عن المحارم وتقهر هذا العهر السافر المشهود بالليل والنهارمن شباب العرب وشيبهم؟؟

الحق أن الصورة التي عرفت عنا لا تشرف دينا ولا تغرى بنظرفيه.

ولولا أن الحضارة الحديثة تحض على النظر والاستكشاف، ما عرف أحد الإسلام على حقيقته، أو على أجزاء مشرفة من هذه الحقيقة.

ويوجد متدينون من المسلمين النازحين إلى أوربا وأمريكا، وفيهم بلا ريب من هزم تيارات الانحراف التي تجره إلى السقوط، غير أن كثيرا من هؤلاء يحمل جراثيم العلل التي شاعت في بلاده الأصلية، في انجلترا دعاة للطريقة النقشبندية التقيت بأتباعهم من الإنكليز! وهناك مق اجتهد فترجم موطأ مالك! فهوالمذهب السائد في شمال إفريقية! وهناك من يحارب القباب والأضرحة في أمريكا وهناك من يرى وضع اللثام على الوجه، ويقرنه بكلمة التوحيد! وهناك من جعل شارة الإسلام الجلباب الأبيض كأننا في صحراء نجد!

وهناك من حلق رأسه وشواربه بالموسى وأطلق شعرلحيته على نحويشعرك بأن كل شعرة أعلنت حربا على جارتها، فهناك امتداد وتنافر يثيران الدهشة.. قلت في نفسي لم يبق إلا أن يحلق حاجبه بالموسى هي الأخرى لتكتمل الدمامة في وجهه ولم أرمساءلته لم فعل ذلك لأني أعلم إجابته: سيقول هذه هي السنة...!

ما عليه لوترك شعر رأسه مرجلا معطرا، وهذب لحيته لتكون أبهى من لحى أهل الفن كما يقولون أو كما يفعلون.

ثم هو- عندما يفعل ذلك- إنما يستكمل الشكل، وما يفيده شيئا إذا لم يكن هناك موضوع! أين النفس الإنسانية وتزكيتها وأين العقل البشري وحسن إدراكه للحقائق كلها؟؟

إن الأجيال المنتمية للاسلام في هذا العصرتنقصها التربية النفسية والفكرية التي برز فيها السلف الأول، وأضحوا بها قادة ترنو لهم الدنيا بإعجاب وحفاوة.. وكثيرا ما نبهت إلى أن الأوربيين يهتمون بالأصول لا بالفروع، وأنهم يزنون النهضات بثمراتها المادية والأدبية معا، هم لا يكترثون للياباني إذا أكل الأرز بالأقلام أو بالعصي! إنما يرمقونه بدهشة، وهو يبدع الأجهزة أو وهو يقلدهم في عمل، ويصل بعقله اللماح إلى أبعاده، ثم يسبقهم إلى إنتاجه..

لكن كثيرا من مسلمي العصر الحاضرجمعوا شعب الإيمان في خليط منكر، كبروا فيه الصغير، وصغروا الكبير وقدموا المتأخر وأخروا المتقدم وحذفوا شعبا ذات بال وأثبتوا محدثات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، فأصبح منظر الدين عجبا! لا بل أصبحت حقيقته نفسها حرية بالرفض!

ومن هنا صدف الأوروبيون عن الدين لا لعيب فيه، بل في معتنقيه وعارضيه.

إنني- بين يدي كلمات مهمة عن الدعوة الإسلامية- أريد توكيد أن القرآن الكريم نبض قلوبنا، وضوء عيوننا ويستحيل أن نفرط في حرف منه، وأن كل حديث تحدث به رسول الله صلى الله عليه و سلم هوحكمة غالية نحتفي بها ونحرص عليها.. إن ديننا نزل من السماء ولم يخرج من الأرض، لا واجب إلا ما أوجبه الله ولا حرام إلا ما حرمه!

ولا يقع إيجاب ولا تحريم إلا بنص قاطع، ودائرة الواجب تشمل جملة هائلة من العقائد والأخلاق والعبادات والأحكام، ودائرة المحرم تضم مجموعة كبيرة من المعاصي والرذائل والآثام والمعلوم من الدين بالضرورة لا يمكن التساهل فيه أو الغفق منه.

وهنا ننبه إلى أن وجهات النظر الفقهية، وأقوال الشراح وآراء المجتهدين لا يسمح لها أن تلتصق بالأحكام القطعية، وتفتقد مكانتها، ويطلب من الناس أن يلتزموا بها أجمعين..

لا، في هذه المذاهب ما يقبل وما يرد، وما يحمد وما يعاب، وإنها لجراءة قبيحة أن يفرض امرؤ لرأيه، ما للنصوص من عموم وخلود..

ونعوذ بالله أن نغض من شأن رجالنا ومجتهدينا، فإن هؤلاء الرجال المجتهدين أنفسهم ما نسبوا إلى أنفسهم عصمة ولا ألزموا الخاصة والعامة بما قرروه من آراء..

فكيف إذا كان ما يعرضه البعض على الناس باسم الإسلام تفسيرا غلطا أو تفكيرا شططا..؟؟ وأغلب ما راب الأوربيين من ديننا هو هذه الشوائب الدخيلة، وهذه التقاليد اللصيقة وهذه الفتاوى الذي يرسلها أدعياء معرفة وفتانون منفرون..

في إحدى كليات الشريعة التي درست فيها سأل سائل: هل يبيح الإسلام تحديد مدة رئيس الجمهوربة؟ وأسرع رويبضة يقول: لا، هذه بدعة، هذا حرام! قلت: من أين جئت بالتحريم؟

إذا قررت ذلك مجالس الشورى لمصلحة راجحة مضى رأيها وقام الحكم على هذا الأساس، لا تحريم إلا بنص، وليس كل جديد على عهد الرسالة والخلافة يوصف بأنه بدعة، ادرسوا قاعدة المصالح المرسلة تعرفوا القضية كلها...

وسأل آخر: أيقبل الإسلام تعدد الأحزاب، وصاح رويبضة آخر، لا، هذه بدعة مستوردة من الغرب.

قلت: ما يمنع الإسلام تعدد وجهات النظر، والاختلاف العقلي في مناهج الإصلاح الديني أو الدنيوي. فنحن في شئون الدنيا أحرار الفكر، لم يلزمنا الإسلام بشيء " أنتم أعلم بشئون دنياكم " وكذلك نحن في الوسائل التي تحقق غايات قررها الإسلام ولم يشرع لها طريقة خاصة، كرفع المستوى العلمي والخلقي للأمة، ولتحقيق العدالة الفردية والاجتماعية، وكإقدار البلاد عسكريا على الجهاد في البر والبحر والجو.. وأمور أخرى كثيرة تتفاوت الأنظار في أسبابها ولا تتفاوت في نتائجها.. ثم هناك مجال مهم تختلف فيه العقول كيف تستنبط الفروع من الأصول؟ لقد نشأت من ألف عام أويزيد مدارس شتى في ذلك، وقيل في تسويغ بقائها أنه لا يعترض بمجتهد على مجتهد مثله! إن تعدد الأحزاب في الغرب يشبه تعدد المذاهب عندنا...

تقولون: لا نقتبس من الغرب! وهذا كلام مرفوض فالعلم لا وطن له والتجارب الإنسانية النافعة لا وطن لها، والإسلام يوصى بالتماس الحكمة حيث كانت والتقاطها أنى وجدت...

تقولون: الأحزاب تقسم الأمة، وهذا اعتراض مضحك! إن الأمة تمزقها الشهوات لا وجهات النظر النزيهة وقد ولدت الأحزاب مع ميلاد الكيان الإسرائيلي على انقاضنا فماذا حدث لهم وماذا حدث لنا؟؟

إن هذا النظام لم يضر الغرب، وفقدانه لم ينفع الشرق الشيوعي، وإقحام الحل والحرمة هنا ضرب من السخف..

العجب أن الأجيال المتأخرة من المسلمين شغلت نفسها بألوان من الفكر أو شلت خطوها بأنواع من القيود آذت الإسلام كل الأذى!

يريد الإسلام أن ينطلق بأركانه السليمة ومعالمه الثابتة، فإذا ناس يقولون: ضموا إلى هذه الأركان والمعالم المقررات الآتية الشورى لا تقيد الحاكم إداريا ولا وزاريا ولا قضائيا!

وضموا كذلك إلى أركان الإسلام ومعالمه المقررات الآتية: لبس البدلة الفرنجية حرام، كشف وجه المرأة حرام، الغناء حرام، الموسيقى حرام، التصوير حرام، الكلونيا حرام، إعلاء المباني حرام، ذهاب النساء إلى المساجد حرام...

هذه الضمائم الرهيبة تضم إلى كلمة التوحيد، وقد تسبقها عند عرض الإسلام على الخلق، فكيف يتحرك الإسلام مع هذه الأثقال الفادحة.؟

إنه- والحالة هذه- لن يكسب أرضا جديدة، بل قد يفقد أرضه نفسها.

عودة الى منابع الثقافة

نحن نعيب الفقهاء الذين يعرفون من آراء الرجال أكثرمما يعرفون من السنن! وأرى أن علماء الحديث القاصرين في فقه الكتاب أولى من أولئك بالعيب..

فالقران الكريم هو المصدر الأول للتشريع، ومن تدبره يعرف الإطار العام للهدايات الإسلامية كما تؤخذ الأحكام الحاسمة في القضايا التي تعرض لها... وشراح الأحاديث المحصورون في مروياتهم يقعون في ورطات مستغربةعندما يذهلون عن هذه الأحكام..!!

قرأت حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن النذر، وأدركت من دراستي الفقهية المحدودة أن النذر المنهي عنه ما قصد به صاحبه معاوضة القدر بإعطاء شيء نظير مجيء شيء من عند الله ! أونذرمالا يعبد اللة به مما يخترعه الناس من أشياء لم يأذن بمثلها الشارع..

لكن صاحب سبل السلام يقول: النهى على ظاهره، وأقل درجاته أن

يكون مكروها! وقد استغربت كيف نسى الرجل الفاضل قوله تعالى: (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) في وصف الأبرار!

وأوغل في الخطأ ما جاء في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: " كل ذي ناب من السباع فآكله حرام) إن الشارح اتجه إلى الأخذ بظاهر الحديث.. فلما رأى عددا من الصحابة والتابعين لا يحكم بهذا الظاهر مستدلا بالآية (قل: لا أجد فيما أوحى إليّ محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة، أو دما مسفوحا، أو لحم خنزير فإنه رجس، أوفسقا أهل لغير الله به... ) قال: " أجيب بأن الآية مكية وحديث أبي هريرة مدني جاء بعد الهجرة فهو ناسخ للآية، عند من يرى نسخ القرآن بالسنة (!).

وهذا الكلام ينطوى على جهل قبيح وعدم توفيق في تقرير الحكم..

وقد رد عليه الشيخ محمد عبدالعزيز الخولي ردا علميا سليما فقال: (إن آيتي البقرة والمائدة مدنيتان، وهما مثل آيتي الأنعام والنحل المكيتين، تحصر المحرمات فى الأربعة المذكورة، فكيف تستقيم دعوى النسخ، أو دعوى القصر الإضافي؟ الظاهر أن الآيات جميعا محكمة، ويجوز أن تكون رواية الحديث بالمعنى، وأن الأصل نهى عن كذا، فظن النهي يفيد التحريم، فعبّر بالحرمة"! بتصرف يسير.

ونسبة الوهم إلى الراوي أخف من إلغاء أربع آيات بحديث آحاد! وقد شرح هذه القضية صاحب المنار شرحا مستفيضا فليرجع إليه من شاء. وأوصى الدعاة الذين يذهبون إلى كوريا ألا يفتوا بتحريم لحم الكلاب، فالقوم يأكلونها، وليس لدينا نص يفيد الحرمة، ولا نريد أن نضع عوائق أمام كلمة التوحيد، وأصول الإسلام! وقد رأيت بعض دعاة التبليغ حراصا كل الحرص على أن يذهبوا إلى أوربا فيأكلوا جميعا في إناء واحد، على الأرض، بأيديهم (!) فيظن الأوروبيون ذلك من شعائر الإسلام ويشمئزون من الدخول فيه!

وقد قلت لبعضهم: إن نص القرآن صريح على غير هذا " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعأ أو أشتاتا "، فإذا كان الأوروبيون يألفون تعدد الأواني فلماذا نزعجهم؟ وإذا كانوا يأكلون بأدوات شتى، على موائد عالية فلماذا نعترضهم؟ وبأي نص لدينا؟

إننا نبلغ الإسلام النازل من السماء، ولسنا مكلفين بنقل عادات العرب من بدو أوحضر!!

وفي حديث " لا يشربن أحدكم قائما " يقول صاحب سبل السلام: هذا دليل على تحريم الشرب قائما!!

ويقول الشيخ محمد عبد العزيز الخولي: لا يصح مطلقا أن يكون النهي للتحريم بعد أن ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم شرب قائما، وهل ينهى رسول الله عن محرم ثم يفعله؟

و لكن أصحاب الأمزجة السوداوية مولعون بالحظر والتضييق على الخلق! وأولئك يسيئون إلى الدعوة إساءة بالغة، فالدعاة مأمورون أن ييسروا ولا يعسروا، وأن يبشروا ولا ينفروا..!!

وعندما يرفض الناس التعسير والتنفير فهم يرفضون أمزجة بشر و نزعات أفراد معلولين، ولا يعصون أوامر الله.

إن هذه الضمائم المنضافة إلى الحق هي نتاج أزمنة جارت عن الطريق، وغلبتها أهواء سلاطين أو ميول عوام يتعصبرن لتقاليدهم أكثرمما يتعصبون لتعاليم الإسلام..

ولو فرضنا جدلا أن لها بالدين علاقة، فهي اجتهادات ناس لا حق لهم أبدا في فرضها على الآخرين ولا لوم أبدا على من رفضها.

كنت إذا درست لطالبات الجامعة بدأت محاضرتي بإلقاء السلام، ومكثت على ذلك ما شاء الله حتى قالت لي طالبة ذات يوم: ان الأستاذ الذي يعلمنا السنة أفهمنا أن إلقاء السلام على النساء حرام! فقلت مسرعا: هذا خطأ، فإني قرأت في السنن أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يلقى السلام على النساء، وقد ذكر البخاري في صحيحه بابا لسلام الرجال على النساء والنساء على الرجال يفيد إباحة ذلك، وعلى أية حال فسألقى زميلي وأتثبت منه فلعلي أنا مخطيء!

والتقيت بالزميل وهورجل غيور صالح دارس لعلوم الحديث، وقصصت عليه ما حدث..

فقال: نعم ذكرت للطالبات أن السلام عليهن لا يجوز! وما تسوقه أنت في باب الجواز من أحاديث تبيح ذلك إنما هوخصوصية للنبي عليه الصلاة والسلام! أو عند أمن الفتنة! أو إذا كان النسوة عجائز، أما إلقاء السلام على الفتيات الجميلات فلا...

قلت: دعوى الخصوصية مرفوضة، والسياق عند البخاري وغيره يبيح لنا إلقاء السلام دوق تصفح للوجوه هل هي جميلة أم لا!! ولا أدري من أين أتى الشارح بهذا التقسيم؟

قال: لابد من احترام قول الشارح!!

في حديث خروج النساء إلى مصلى العيد أكد الرسول صلى الله عليه و سلم هذا الخروج بقوله " من لا جلباب لها تستعير جلبابا من جارتها وتخرج! ونص على أن الخارجات هن العواتق وذوات الخدور أي الشابات المكنونات، وجاء عن ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخرج نساءه وبناته في العيدين... ومع ذلك فإن شارح البخاري نبه إلى أن الخارجات المأذون لهم هن العجائز (!) وأن النساء الخارجات إذا خرجن بإذن أزواجهن فبملابس الخدمة، أي ملابس الطبخ والكنس (!)

لم هذا كله؟ ومن نتبع الشارع أم الشارح؟ لقد انتهى رأي الشراح بمنع خروجهن نهائيا، وغلبت تقاليد العرب تعاليم الإسلام..

والذي نلفت إليه الأنظار أن هناك علماء دين ورجال دعوة يعرفون قول الشارح وحده، فإذا انهزم هؤلاء وأولئك في ميادين الحياة فهل الذي انهرم السنة النبوية أم الذين أساءوا فهمها؟؟

إن حظ الإسلام تعيس بهذا التفكير المعوج...

بل إن الحملة على السنة كلها- وهي حملة نقاومها بقوة- تعود إلى قصور كثير من المشتغلين بالسنة، وإلى عجزهم المنكور في الارتباط بالقرآن الكريم والانسياق مع توجيهاته المرنة.

لا يظنن القاريء أنني بعدت عن موضوع الدعوة الإسلامية في فرنسا.

إنني في صميم القضية! فإن الكاتب الفرنسي الذي حلل بعض الشخصيات الإسلامية، غمزها، أو غمز تدينها، بإشعار الناس أن الإسلام يمتهن الأنوثة، ويضعها داثما في قفص الاتهام..

كان لزاما علي أن أشير على عجل إلى ضلال هذه الدعوى، وأن أسرد بعض النصوص في قضايا شتى كاشفا البعد الواسع بين مدلولها... وبين عوج العاملين بها..

وهنا سؤال أطرحه ليبدو فرق آخر بين أسلوب الدعوة عند سلفنا العظيم، وأسلوبها في الأيام العجاف من تاريخنا!

إن جر الحقائق من ذيلها يثير الضحك، وعرض الإسلام من فروعه البعيدة يثير الحزن.

أساس ديننا كلمة التوحيد، والبناء الأخلاقي الشامخ الذي ينهض عليها ويثبت للإنسان وللشعوب حقوقا في الإخاء والمساواة والحرية تنفى الجبروت والقسوة وتكسر القيود والسدود، وتبويء الانسان مكان السيادة في الكون.. وآيات القرآن في هذا المجال تهدر بالحق فلماذا أهملت؟

النبي الإنسان محمد بن عبدالله له سيرة تنضح بالشرف وعظمة النفس والخلق، وكلماته في الآداب الخاصة والعامة تنتزع البشر انتزاعا من طباثع الأثرة والإسفاف وتصقلهم صقلا يجعل منهم بشرا في مستوى الملائكة، كيف يسكت عن هذا التراث؟

العبادات عندنا معراج روحيئ يوثق علاقة الإنسان بربه، فهويعيش معه، ويعيش له، ويتعاون مع المؤمنين أمثاله لجعل آفاق الأرض محاريب لعبادة الله وحده، وذكر اسمه، والاستعداد للقائه!

بأي حق نذهل عن هذه العبادات ونجعل قصارانا لغطا حول أمور فقهية مطاطة، تتسلل إليها طبائع أفراد وعادات شعوب، وهي سلبا أو إيجابا معذورة الخطأ.

وإذا كان الأوربيون لا يألفون إلا أن يكون وجه المرأة سافرا فليسقط النقاب ولتمضي كلمة التوحيد في طريقها.

وإذا كانوا يرون أنها تلى منصب القضاء أو الوزارة، فمن يصدهم عن الإسلام لأن من فقهائنا من يمنع ذلك! ألا فليسلموا، ولتسقط العقبات التي تصدهم عن دين الله...!

من قال: إن الإسلام يشترط تبعية لمذهب فقهي معين في الفروع؟ إن في الدعاة فتانين يصدون عن سبيل الله، ويكرهون الناس على اتخاذ سبل اخرى.

سيطر علي وأنا في كندا شعور من الكآبة والمرارة لأن نزاعا حدث في أحد المساجد، أتقرأ سورة قبل خطبة الجمعة أم لا؟

إن النازحين إلى العالم الجديد حملوا معهم جراثيم العفن في عالمهم القديم! وبديه أن يكونوا صورة للأقطار التي أتوا منها! هل فكر أقلهم أو أكثرهم في أسباب تخلف الأمة التي ينتمون إليها؟

إن الفراغ الذي يسود النفس المسلمة كبير، وفي اتساعه يمكن أن تنتفخ أنبوبة كأنابيب الأطفال، فتمتد طولا وعرضا دون عاثق لأنه ليس ثمت الا الفراع، لا شيء ، يعوقها وتبدو" البالونة " المنفوخة شيئا ضخما ولا شيء فيها الا الهواء.

لو كان للعقائد، والأخلاق، وجواهر العبادات لا صورها، مكان عتيد لضاق المحل دون تضخم توافه كثيرة لكان من المستطاع أن تكون الأقليات الإسلامية في أوربا وأمريكا واستراليا رؤوس جسور يعبر عليها الإسلام- وكل شيء هنالك يتطلبه، ويهفوإليه- لوأن المسلمين يفقهون دينهم ويصنعون من أنفسهم ومسالكهم صورا وسيمة له.

أما الاشتباك في حرب حياة أو موت من أجل التصوير الشمسي أو من أجل نقاب المرأة، فضلا عن حقوقها الطبيعية، فلا نتيجة له إلا الفشل.

فليعرف العرب من هم و ما رسالتهم

للعرب خصائصهم النفسية والعقلية، ولهم تقاليدهم التي يتحركون في إطارها.

ولا أزعم أن هذه الخصائص والتقاليد ينقلها التاريخ من جيل إلى جيل، أو أنها تلتزم مستوى ثابتا على اختلاف الليل والنهار، وانما أستطيع القول أن العرب أيام البعثة المحمدية كانوا أجدر الناس بظهور النبوة فيهم، وكانوا أقدر الناس على حمل أعبائها وتذليل العوائق التي تعترضها!!

أي أن قوله تعالى "الله أعلم حيث يجعل رسالته " يعم الرسل والأمم التي تسمع منهم وتتلقى عنهم! كانت الخصاثص والتقاليد التي تميز بها العرب هي المرشح الأول لحمل الرسالة الخاتمة، والنفاذ بها من الأسوار الرهيبة التي أقامها الروم والفرس حول خرافاتهم وأهوائهم..!

وحمل الرسالات تكليف قبل أن يكون تكريما، وهومسئولية تعصي أصحابها، وتضعهم بإزار حمل باهظ، وتدبر قوله تعالى يصف أولى العزم من الرسل، "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا، ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما".

ما أعظم هذه المسئولية وأدق حسابها! إن الوفاء بها قد يرفع إلى الأوج والعبث بها قد يهوي إلى الحضيض!

ومعروف أن العرب هم الجنس السامي، وأن اليهود فرع من هذا الجنس الذي قاد العالم بالوحي أمدا طويلا.. أكان اليهود في شتى الأعصار مساوين أو مقاربين لآبائهم من حملة الوحي؟ كلا، لقد أسفوا كثيرا، وقيل لهم مرارا: "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم واني فضلتكم على العالمين".

وهيهات أن يرشدوا! إن أهواءهم الجامحة قذفت بهم بعيدا عن أماكن القيادة الخلقية.

والمكارم لا تورث، ولكن بقدرما يبذل الإنسان من جهد يحلق أو يهوى!

والعرب الأولون ساندوا نبيهم العظيم وهو يمحو الجاهلية، وخلفوه- بعد لحاقه بالرفيق الأعلى- في مقاومة الليل المخيم على الدنيا فقطعوا أوصال الاستعمار القديم، وأطاحوا بالامبراطوريتين الكبيرتين اللتين أذلتا الجماهير قرونا عددا...

العرب- بالإسلام وحده- دخلوا التاريخ وعرفتهم القارات المعمورة، ولولا الإسلام ما جاوزوا جزيرتهم، ولما كان لديهم شيء يقدمونه للناس! ففضل الإسلام على العرب لا ينكره إلا أفاك جريء.

أما الرومان مثلا فقد دخلوا النصرانية في القرن الرابع الميلادي، ماذا حدث لهم؟ لا جديد! كان حكمهم من قبل ومن بعد مكينا وسلطانهم واسعا.. واعتنق اليونان النصرانية، فما حدث لهم؟ كانوا أصحاب فلسفة مرموقة وفكر نابه! ما زادوا شيئا بمعتقدهم الجديد!

والعرب قبل محمد أو من غير محمد لا يزيدون عن قبائل أوشعوب تبحث عن رزقها فتجده بسهولة أو بصعوبة، أما بعد بعثته فقد تبدلوا خلقا آخر! لقد خرجوا من الظلمات إلى النور، وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور!

هذه الحقيقة الإجتماعية هدى إليها العلامة ابن خلدون بعد ما غاص في أعماق النفس العربية، وتابع السلطان السياسي للعرب مع اتساع الدائرة الإسلامية ودخول الناس في دين الله أفواجا..

لقد أكد أن العرب لا يقوم لهم ملك إلا على أساس نبوة ولا تنهض لهم دولة إلا على أساس دين، وأن الإيمان بالله وحده هو الذي ينظم ملكاتهم، ويصون مواهبهم، يجمع قواهم، ويوحد كلمتهم، ويجعلهم معمرين لا مدمرين، وحماة مثل لا أحلاس شهوات!

ونزيد هذه القضية وضوحا بإمعان النظر في خلائق العرب وفضائلهم الجنسية!

العربي شديد الاعتداد بنفسه قوي الإحساس بشخصه، وهذا خلق يعين على عمل العظائم وبلوغ الغايات العصية، غير أن هذا الشعور الإيجابي بالذات قد يتحول إلى كبرياء وجور على الآخرين وجحد لحقوقهم! ألا تلمح ذلك في شعر عمرو بن كلثوم وهو يقول:

ونشرب إن وردنا الماء صفوا

ويشرب غيرنا كدرا وطينا!

أو قوله:

إذا بلغ الرضيع لنا فطاما

تخر له الجبابر ساجدينا!

سبحان الله! لماذا هذا الغلو؟ إن هذا جنون، والغريب أن جنون الشعور بالذات يكمن وراء تقاليد كثيرة تصر عليها أفراد وأسر، وإن كان في صور أقل إثارة وأخفى دمامة...

ويقول مهلهل:

ولست بخالع درعي وسيفي إلى أن يخلع الليل النهار!

لم هذا التسلح الدائم؟ لمطاردة الفرس والروم الذين يحتلون شرق الجزيرة وشمالها؟

لا، إنه لمنازعات عاثلية ظلت أربعين سنة، وبدأت بقتل ناقة! الشعور بالذات هنا تحول من جهد يبنى ويعلى البناء إلى جهد يهدم وينشر الفناء!

والعربي يكره العار! حسنا ومن يحب العار؟ لكن كره العربي للعارجعل وجهه يسود إذا رزق بنتا! إنه يخاف عليها الأسر، ويخشى أن يصيبه من ذلك الذل! فليقتلها طفلة قبل أن تكبر وتؤسر..!!

فضائل ضلت طريقها فأمست رذائل! وما يهديها الطريق إلا الإسلام وحده، ولذلك يقول الله لهؤلاء: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم.. ". وقد نبأنا رسولنا عليه الصلاة والسلام بأن العرب سوف يستصحبون من خلال الجاهلية ما يشين مسيرتهم الدينية!، من ذلك الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب!

والواقع أن الانتماء العرقي له مكان واسع في تقاليدنا، بل إن من فقهاء المسلمين من اعتد به في عقد الزواج، وبنى عليه شرط الكفاءة الذي لابد منه في المصاهرة (!) ولا أدري أين ذهبت مكانة التقوى؟

والفخر بالنسب مشتق من الاعتداد النفسي، وإن كان هنا اعتدادا من الفرع بالأصل

وفي بعض البلاد تكونت نقابة للمنتمين إلى البيت النبوي! وعهدى بالنقابات أن تكون لأصحاب المهن الفنية أو اليدوية! والمروي عن نبينا أنه قال: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ".

ومع ذلك فإن التقاليد العربية أعني الجاهلية غلبت تعاليم الإسلام في كثير من الأحيان، فوجدنا من يحتقر الحرف، ويأبى تلويث يده الشريفة بالفلاحة، أو التجارة والحدادة، ثم يجلس بعد ذلك إلى مائدة ليس له شرف إنتاج شيء من أطعمتها ولا من أوانيها أو كارسيها!!

إنه يجيد الأكل والكبر، وحسبك من غنى شبع وري!!

من الخير أن نعرف على عجل أن الاسلام هو طوق النجاة في هذا البحر اللجي، وأن الابتعاد عنه أخطرالطرق إلى الغرق..

كان الإنتماء الإسلامي هو السياج الذي نجت به ثورة الجزائرمن شتى المؤامرات، ونجحت به في الوصول إلى بر الأمان.

ثم هو الآن وراء برامج التعريب التي تعمل حثيثة لترد الأمة إلى لغتها وثقافتها وشخصيتها المتميزة..

هذا الانتماء قهر دواعي الفرقة، واستبقى حرارة الإيمان، وحدد جبهة الأعداء، وأرهب المنافقين والمتخاذلين فلم يفلح لهم كيد..

وإني لمشفق على ثورات أخرى أبعدت شارات الإسلام وطوت أعلامه، فلم تجن بعد السنين الطوال إلا فداحة المغارم وقلة الثمرات....

كانت لي في جزيرة العرب وأقطار الخليج سياحات مفيدة، وأذكر أني يوما كنت على شاطيء إحدى الجزر فأبصرت مبنى لم أخطيء معرفته، إنه قلعة قديمة جاثمة بين البر والبحر في تفرد واعتزاز!

قال لي صاحبي: إن آباءنا كانوا يرابطون هنا ليردوا هجمات القراصنة في العصور الوسطى! قلت: اوصل الغزاة إلى هذه البقعة؟ قال: نعم جاء البرتغاليون هنا، وحاولوا إقامة مستعمرات لهم، ولكنهم ردوا على أعقابهم! ورجعت بي الذكريات إلى الحملات الصليبية الأولى، إنها دحرت عسكريا بعد قتال قرنين، غير أنها نجحت اقتصاديا في اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح بالدوران حول إفريقية، ونجح " كولمبس" في اكتشاف أمريكا، وثبت تاريخيا أنه كان يدور في المحيطات ليصل إلى الهند بالالتفاف بعيدا عن دار الإسلام كما أن المبشر (ماجيلان) أدى مهمته بنجاح، وقتل وهو يحاول أن يرفع علم الصليب حيث وصل، وكان قد بلغ هدفه عن طريق أحد الملاحين العرب...

وأيقظني من استغراقي صوت صاحبي وهويقول:

إن عهد القرصنة انتهى، وهذه القلعة القائمة أئرمن بقايا ماض بعيد!!

قلت له: كلا، إن أطماع الأقوياء في سلب العقائد، وسلب الأموال لم تنته، وما إخال أنها تنتهي يوما! إن القراصنة عادوا بعد ما جددوا وسائلهم وطوروا أسلحتهم..

أما طبائع الأثرة والسطو فهي هي... أما تعصبهم لمواريثهم، وسخائهم ضدنا، فما تزيدها الأيام إلا حزما..

إن اليهود لم يخفوا ملامحهم وهم يجتاحون أرضنا، إنهم يهجمون على فلسطين وكأنهم وصايا العهد القديم تنزلت عليهم الساعة! إن نداء الكتاب المقدس يرق في آذانهم! أما نحن فصوت الوحي يجيئنا من مكان بعيد، ونسمعه ونحن ذاهلون..

قص علي قادم من مدينة "الخليل" هذه القصة..

قتل العرب شابا يهوديا ينتسب إلى إحدى الجماعات المتطرفة، وكان هذا الشاب يتحدى التجار في السوق ويعالنهم بأن يوم استئصالهم قريب، وينذرهم بالاستعداد للجلاء عن أرض ليست لهم!!

وانتقمت السلطات اليهودية انتقاما لمقتل الشاب، فنسفت البيوت وخربت الدكاكين واصطادت العشرات بالرصاص ورمت أضعافهم في السجون وشمل الدمار الحي كله...

وبعد أسابيع من منع التجول، وبعد قرار يهودي بإقامة مستعمرة في أرض مختارة من الخليل، ذهب تاجر عربي يبحث بين الأنقاض عن دكانه السابق، وعرفه بعد لأى! ورأى أنه يقدر على ترميمه والعودة إليه وإن تكلف فيه الكثير! ومر به، وهويقيم ما تهدم، شاب يهودي فسأله: ماذا تصنع؟ قال العربي في استكانة: أحاول إصلاح الدكان كما ترى! فرد اليهودي في صلف: هذا الدكان ليس ملكك حتى تعود إليه!

ملك من إذن؟ فأجاب اليهودي: إنه ملك أبي، وأنا وارثه، ويوم تفتحه فستدفع إيجاره لي...!!

ولم يستطع العربي الإجابة لأنه يعرف ما وراءها...!

إن هذا الشاب اليهودي طوى ثلاثين قرنا بعد طرد ابائه قديما من فلسطين، وعد نفسه الوارث الفذ للأرض وما عليها! إنه باسم التوراة يحاور و يحارب ويفرض مشيئته على الزمان والمكان..!!

الإسلام، ولا شيء غير الإسلام، يقدر على كسر هذا الغرور!

والانتماء العربي المتجهم للإسلام أو المحايد بإزائه لن يكسب خيرا قط، ولن يزيد أهله إلا خبالا!

وأعداء الأمة العربية يعرفون هذه الحقيقة النفسية والتاريخية، وهم واجدون قرة أعينهم في جيل ينسى دينه، ويفخر بأرومته ويشمخ بدمه ولا يكترث بدينه ولا برسالته...

حسبهم أن يوقظوا خصائص العروبة قبل الإسلام، فالبقية تأتي حتما! سيأكل العرب بعضهم بعضا، ينادى أحدهم: يالعدنان! فيجاوبه الآخر: يالقحطان، ثم تلتهم الحرب هذا وذاك! ويخلو الجو للملل والنحل الأخرى! ومن الطرائف أن المستعمرين الجدد اخترعوا انتماء آخر هو الانتماء الإفريقي!

قلت وأنا أضحك: أن العالم مدين لأفريقية في تاريخه القديم والوسيط والحديث بالشيء الكثير، إذ لولا العبقرية الإفريقية لتأخرت الحضارة شوطا بعيدا...

ما هذا الهزل؟ إنه هزل مقصود! المراد إضعاف الانتماء الإسلامي بأية وسيلة، المراد أن ينسى المسلمون أنفسهم، وأن تلفهم غيبوبة تامة فلا يعرفوا لهم رسالة، ولا يخطرعلى بالهم دين!!

ذلك في الوقت الذي تمهد فيه الطرق لآلاف المبشرين القادمين من أوربا وأميركا.. كيما ينصروا المسلمين أويقودوا بعض الوثنيين إلى النصرانية بفنون المساعدات التي تسيل بها أكفهم..

فإذا نجح أولئك المبشرون في تكوين 3% أو 5% من جملة الشعب في قطر ما اعتبروا نصف السكان أو ازيد وحصر فيهم الحكم، ووقفت عليهم المناصب الكبرى، وقيل للمسلمين إذا احتجوا على ذلك إنكم متعصبون..!

ما أكثرما يكاد به الإسلام في هذا العصر، وما يكيده به المسلمون أنفسهم أدهى وأمر!

العقوق رذيلة تزري بصاحبها وتسقط مكانته، وإذا عرف امرؤ بأنه جحد حق أبويه تجاوزته العيون باشمئزاز، فإن كان ذلك في العلاقات الفردية فهو في العلاقات الإجتماعية أشوه وأسوأ، وقد أفاد الإسلام على العرب نعما لا تحصى، وشاد لهم مكانة ما كانوا ليبلغوها أبدا لولا الرسالة التي أخلص الآباء لها وعرفوا في العالمين بشعائرها وشرائعها..

فكيف يتبرأ البعض من الانتماء الإسلامي أويتبرم به ويقدم عليه غيره؟؟ تملكني الدهشة عندما يتبرأ البعض من الانتماء الإسلامي أويتبرم به ويقدم عليه غيره؟؟

تملكني الدهشة عندما أرى اليهود في المجامع الدولية يملؤون أفواههم بالانتماء إلى إسرائيل، وعندما تتغاضى هذه المجامع عن الآثام التي يقترفها أولئك الإسرائيلون لا في حق العرب (!) بل في حق الرجال الكبار الذين يمثلون هذه المجامع...

في سنة 1948قتل الكونت برنادوت وسيط هيئة الأمم لحل مشكلة فلسطين , وكان لاغتياله دوى واسع ,وعرف الناس أن اليهود هم قتلته لأن مقترحاته لم تعجبهم!

وفي العام الماضي نشرت صحيفة (أفتونبلات) السويدية تحقيقا دقيقا أكدت أن الوثائق التي جمعت بعد مقتل الوسيط الدولي (اسحاق شامير) رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي كان أحد الصهاينة الثلاثة الذين أطلقوا النار على " برنادوت " كما أن " مناحيم بيجن " رئيس الوزراء السابق اشترك مع آخرين في وضع خطة الاغتيال!!

وأوردت الصحيفة تصريحا لرئيس الحكومة السويدية "أولوف بالمه" قال فيه: إن السويد لن تنسى مهما طال الزمن أن وزيرخارجية اسرائيل الحالي- يقصد اسحاق شامير الذي أصبح رئيس الوزراء- كان وراء جريمة اغتيال " الكونت فولك برنادوث ".

وأردفت الصحيفة أن " شامير " اعترف أمام الحكومة الإسرائيلية المؤقته سنة 1948 م أنه قرر مع زملائه التخلص من الوسيط الدولي السويدي لأنه كان متعاطفا مع العرب!

لكن مصرع رجل الأمم المتحدة ذهب مع الصدى، فلم يرث له أحد، وطويت صحيفته ومقترحاته في سكون..

لماذا؟ لأن أقدام اليهود الراسخة في ميادين العلم والمال والفن والإعلام أخرست الأعداء، وخططهم المحكمة في سراديب هيئة الأمم المتحدة، وفي سراديب كل دولة على حدة، جعلت الانتماء الديني تقدما حضاريا في إسرائيل، وتأخرا إنسانيا بيننا!!

وهم لم يقاوموا سنن الله الكونية بمسالكهم، بل نحن الذين نقاومها!

تقول: كيف؟ وأقول: إن الجزائر البريطانية يسكنها نحو مليوني مسلم يحملون الجنسية الانكليزية ويسكنها كذلك نحو مائتي ألف يهودي أما المسلمون فليس لهم نائب واحد!!

إن طول باعهم في كل ناحية منحهم الصدارة.. وما طال باعهم إلا لأنهم يحترمون إنتماءهم ويغالون به ويريدون تشريفه!

أما نحن فانتماؤنا الإسلامي ضعيف! وإذا قوى فإن وسائله في الإبانة عن نفسه قاصرة فاترة.

يجب أن يبرز ولاؤنا لديننا، وأن يسبق انتماؤنا الإسلامي كل انتماء، فإن تشبثنا بما لدينا هو وحده طريق البقاء، والغلب على الأعداء.

لكي تنجح دعايتنا

كان لضعف الانتماء إلى الإسلام حينا، وفقدانه أحيانا أثركبير في كل ميادين التربية والتوجيه! فقد نمت أجيال غفيرة وهي مائلة العود، خالية البال من الروابط التي تشدها إلى مبدأ أو غاية!

وساعد التعليم المدني البحت على استمرار هذا العوج واستمراره.

ووقع ذلك في أيام تشبثت فيها الأقليات بمواريثها الروحية وعضت عليها بالنواجذ، فشب أولاد المسلمين سائبين، وشب الأولاد الآخرون مقيدين بتعاليمهم ومقوماتهم التاريخية والاجتماعية..

من أغرب ما سمعت أن عربيا في أحد البلاد الإسلامية تزوج امرأة وانجب منها غلامين، وفي يوم ما عاد إلى بيته فلم يجد أحدا، وبحث في جوانب البيت الخالي فوجد كتابا من زوجته تخبره أنها يهودية، وأنها سافرت إلى تل أبيب لتقيم بها مع ابنيها، وأن له الحق إذا شاء أن يلحق بها...

كان الزوج التائه يحسبها مسلمة! هل رآها يوما تصلي، أوتقرأ قرآنا؟ أكان هويصلي أويصوم؟ أما شعريوما بفجوة تفصل بين قلبين ونهجين؟

إن الاستعمار الثقافي نجح في إنشاء كثيرين من هذا النوع الخرب!..

وقد يصل هذا النوع إلى مناصب الحكم ودفة القيادة العليا، فماذا يكون موقفه من الدين والمنتمين إليه والعاملين في حقله..

إنني سمعت حاكما كبيرا يقول: إن علماء الإسلام يطعمون أكلة دسمة في بيت أحد الرأسماليين، ثم يصدرون فتوى بعدئذ لمصلحته!

وقال حاكم آخر متحدثا عن عالم انتقده: إنه الآن مرميّ في السجن كالكلب!

ولم أسمع في طول الدنيا وعرضها حكاماً يصفون علماء الدين الرسمي في بلدهم بهذه الكلمات الوضيعة...

إنني أثبت هذه المآسي ليستيقن الشاكون في أن نصف الأمة العربية فقد الولاء لدينه، أو فقد حرارة الغيرة في صونه والحفاظ عليه..

وعندما يذهب أولئك إلى الخارج حكاما كانوا أو محكومين فلن يفيد الإسلام منهم شيئا...

وربما قامت لهم مؤسسات ثقافية تحمل العنوان الإسلامي، غير أن العاملين بهذه المؤسسات موظفون لا يقدمون ولا يؤخرون، وأغلبهم طلاب عيش، يوثر السلامة ويرفض الصدام.

ويستحيل أن نوازن بين جهود هؤلاء وجهود آلاف المبشرين والمستشرقين والساسة والأساتذة والإعلاميين الذي يصلون الليل بالنهار لنصرة دينهم وترجيح كفته..

ويؤسفني أن أقول: إن رسالة الأزهر مشلولة في هذا الجو المكفهر، وإن علماءه يتحركون في أماكنهم، ومن ثلاثين سنة تقريبا والدراسة في الأزهر تذوى، والمستوى العام يهبط، وقادته خواتم في أصابع الرؤساء..

لقد درست في كليات الأزهر نحو ربع قرن، وراقبت الأمور من القاع إلى القمة وشعرت باليأس!

وفي البيئات التي تحمل عنوان السلفية علل من نوع آخر..

ومن الإنصاف الإشادة بالانتماء الإسلامي البارز، والنظر إلى الدين وأهله باحترام، وقد علمت نحو عشرسنين في هذه البيئة وأرسلتني رابطة العالم الإسلامي إلى " سري لانكا " وأرسلتني جامعة الملك عبد العزيز إلى انجلترا وكندا والولايات المتحدة، وبذلت وسعي في خدمة المسلمين بهذه الأقطار كلها، وحمدت الله أن أتاح هذه الفرص لي أناس لم يستثقلوا ظلي، ولم يروا حرجا في نفع الناس بي...

والانتساب إلى السلف شرف غالي الثمن، لانه انتساب إلى خير القرون في تاريخنا، ورفض للشهوات والخرافات التي حفت بديننا في عصور الضعف والهزيمة..

بيد أن التفكير السلفي المعاصر أعجز من أن يحقق أهدافه المنشودة! ولن تصح دعايته وتؤتي ثمارها إلا إذا استكملت العناصر التي نذكرها بإيجاز فيما يلي.

العلوم الإنسانية مزدهرة في الحضارة الحديثة، وقد توفرأهلها عليها ليسدوا النقص الملحوظ في التفكير الصليبي السائد هناك، إن العلوم الدينية التي تستند إلى المسيحية لا تقدر على السير بالإنسانية، لا سيما في هذا الطور الذكي من أطوارها..

وقد يصل هذا النوع إلى مناصب الحكم ودفة القيادة العليا، فماذا يكون موقفه من الدين والمنتمين إليه والعاملين في حقله..

إنني سمعت حاكما كبيرا يقول: إن علماء الإسلام يطعمون أكلة دسمة في بيت أحد الرأسماليين، ثم يصدرون فتوى بعدئذ لمصلحته!

وقال حاكم آخر متحدثا عن عالم انتقده: إنه الآن مرميّ في السجن كالكلب!

ولم أسمع في طول الدنيا وعرضها حكاماً يصفون علماء الدين الرسمي في بلدهم بهذه الكلمات الوضيعة...

إنني أثبت هذه المآسي ليستيقن الشاكون في أن نصف الأمة العربية فقد الولاء لدينه، أو فقد حرارة الغيرة في صونه والحفاظ عليه..

وعندما يذهب أولئك إلى الخارج حكاما كانوا أو محكومين فلن يفيد الإسلام منهم شيئا...

وربما قامت لهم مؤسسات ثقافية تحمل العنوان الإسلامي، غير أن العاملين بهذه المؤسسات موظفون لا يقدمون ولا يؤخرون، وأغلبهم طلاب عيش، يوثر السلامة ويرفض الصدام.

ويستحيل أن نوازن بين جهود هؤلاء وجهود آلاف المبشرين والمستشرقين والساسة والأساتذة والإعلاميين الذي يصلون الليل بالنهار لنصرة دينهم وترجيح كفته..

ويؤسفني أن أقول: إن رسالة الأزهر مشلولة في هذا الجو المكفهر، وإن علماءه يتحركون في أماكنهم، ومن ثلاثين سنة تقريبا والدراسة في الأزهر تذوى، والمستوى العام يهبط، وقادته خواتم في أصابع الرؤساء..

لقد درست في كليات الأزهر نحو ربع قرن، وراقبت الأمور من القاع إلى القمة وشعرت باليأس!

وفي البيئات التي تحمل عنوان السلفية علل من نوع آخر..

ومن الإنصاف الإشادة بالانتماء الإسلامي البارز، والنظر إلى الدين وأهله باحترام، وقد علمت نحو عشرسنين في هذه البيئة وأرسلتني رابطة العالم الإسلامي إلى " سري لانكا " وأرسلتني جامعة الملك عبد العزيز إلى انجلترا وكندا والولايات المتحدة، وبذلت وسعي في خدمة المسلمين بهذه الأقطار كلها، وحمدت الله أن أتاح هذه الفرص لي أناس لم يستثقلوا ظلي، ولم يروا حرجا في نفع الناس بي...

والانتساب إلى السلف شرف غالي الثمن، لانه انتساب إلى خير القرون في تاريخنا، ورفض للشهوات والخرافات التي حفت بديننا في عصور الضعف والهزيمة..

بيد أن التفكير السلفي المعاصر أعجز من أن يحقق أهدافه المنشودة! ولن تصح دعايته وتؤتي ثمارها إلا إذا استكملت العناصر التي نذكرها بإيجاز فيما يلي.

العلوم الإنسانية مزدهرة في الحضارة الحديثة، وقد توفرأهلها عليها ليسدوا النقص الملحوظ في التفكير الصليبي السائد هناك، إن العلوم الدينية التي تستند إلى المسيحية لا تقدر على السير بالإنسانية، لا سيما في هذا الطور الذكي من أطوارها..

ومن هنا اتسع نطاق البحث في علوم النفس والإجتماع والاقتصاد والقانون والأخلاق والسياسة والتاريخ... الخ

وفي هذه الدراسات الإنسانية جوانب كشافة لأغوار النفس وطبائع الجماعات البشرية لا معنى لتجاهلها، وفيها جوانب تتفق مع وجهات نظرإسلامية ليست مما يرتضيه السلفيون اليوم، وهذه لا معنى للضراوة في محاربتها، وفيها جوانب محايدة لا ضد الدين ولامعه، فما قيمة مخاصمتها؟

وفيها جوانب ينكرها المسلمون كافة، وقد ينكرها أهل الأديان جميعا،فهذه تحارب بوسائل علمية لبقة ويصرف أهلها عنه بالإقناع لا بالسلاح حتى لو كان السلاح بأيدينا فكيف ونحن مستضعفون ؟

والدراسات الإنسانية والفلسفية قرعت أبوابنا، ودخلت دار الإسلام بإذن أو بغير إذن فما جدوى تجاهلها ومنع دراستها؟ إن الدروس التي تسمى دينية، تكاد تكون صفرا من الحقائق المثيرة، وما يكترث بها إلا الدهماء، ولو اطلع عليها قارىء متجرد لجعلها نتاجا عقليا للفكر الإسلامي من بضعة قرون!

وهذا التخلف يضر الإسلام ويلحق به هزائم شنعاء بين الطوائف المستنيرة..

وقد رأيت جهودا مخلصة للأستاذين محمد المبارك رحمه الله، وعبدالوهاب أبو سليمان عافاه الله في إضفاء الصبغة الإسلامية على العلوم الإنسانية، ولكن الأمر أكبر من جهود رجلين مهما كانت عبقريتهما..

وقادة الفكر السلفي يوم يجوسون أقطار الغرب وحصيلتهم فقيرة في الدراسات الإنسانية والفلسفية فلن يجدوا من يفتح لهم أقطار قلبه بل لن يجدوا من يفتح لهم نافذة صغيرة!!

إن زعيما غربيا مثل "رجاء جارودي" لا يلفته من ابن القيم مثلا إلا كتاب

" مدارج السالكين " أو كتاب " طريق الهجرتين "! وأكثر السلفيين يضيقون بالكتابين، ويهتمون بالجانب الفقهي وحده!

والسبب في ذلك فقر الغربيين المدقع في النواحي الروحية! فلم لا نعرف طبيعة العصر؟ ولم لا نستكمل أسباب النجاح في خدمة الاسلام؟ ولم نحمل الناس على الاكتفاء بقصورنا وجفافنا فإذا رفضوا أخذنا نشتمهم!

ألا فليدرس السلفيون كل الثقافات الإنسإنية إن صدقوا النية في خدمة الإسلام!!

وعندما كنت في ملتقى الفكر الإسلامي بالجزائر سمعت الدكتور" موريس بوكاي " يتحدث بحماس ظاهر عن الإسلام! إنه طبيب فرنسي مشغول بالدراسات الاستشراقية، وقد راعه أن القرآن يتحدث عن تخلقات الجنين في بطن الأم بدقة علمية تنادي بأنه من السماء نزل! وإلا فمن أين لمحمد هذه الحقائق الطبية المقررة؟

كما لفت نظره أن حديث القرآن عن بدء الخليقة لا يصطدم بما يؤكده العلماء المعاصرون على حين يجيء حديث العهد القديم محفوفا بشوائب كثيرة.

والريبة التي تكونت في النفوس من حديث الكتاب "المقدس" عن الكون والحياة، استخفت كل الاستخفاء في الأسلوب القرآني..

فماذا يحدث عندما يجيء دعاة مسلمون ينتمون إلى السلف ويؤلفون كتبا تزعم أن في القرآن نيفا وأربعين آية تقرر جمود الأرض في موقعها ودوران الشمس حولها.. وهو زعم كاذب لا ينطوي إلا على خليط من الجهالة والكبر!

وهو في هذا العصر فتنة عن الإسلام، وإساءة بالغة لكتابه الأول..!!

لو أن بدويا اعتنق هذا الفكر فليعش أو ليمت به إن شاء!

أما أن يقول باسم الإسلام كلاما يخالف أبجديات العلم الحديث وحقائقه المستقرة فمعنى ذلك أنه يفتن العلماء عن الحق، ويجعل جمهرتهم تحس هذا الدين بقية من خرافات القرون المتأخرة..

ومن ثم فإن تدريس الفيزياء والكيمياء والأحياء والجغرافيا وبعض الأوليات في الجيولوجيا والفلك أمر يحتاج إليه المشتغلون بالدعوة حتى لا يصعد مجنون منبرا ويكذب باسم الإسلام وصول الأميركيين إلى القمر!

ونصل إلى الحركة السلفية التي قادها في القرن الماضي محمد بن عبد الوهاب، إن كل غيرة على التوحيد مشكورة، وكل جهد لتنقية العقائد من الشوائب والأقذاء مقدور!

ونحن نأبى الإغضاء عن مسالك أقوام يرهبون الأموات أو الأحياء أكثر مما يرهبون الله، ويطلبون منهم ما لا يطلب إلا من الله سبحانه..

وما أعرف مسلما ذا عقل يخاصم هذه الحقائق أو يعترض أصحابها! ولو رزق محمد بن عبد الوهاب أتباعا ذوى حكمة وبصيرة لكانت الأقطار التي انفتحت له أضعاف مساحتها الآن..

إن الدعاة المصابين بضيق الفطن، واصطياد التهم، وشهوة الغلب يضرون أكثر مما ينفعون..

ولست أعتذر بذلك عن جهالات الدهماء وتعصبهم الأعمى لمواريث غبية، وإنما أطلب من حملة الحق أن يعرفوا كيف يسيرون به وكيف يجادلون عنه، فلا يكونوا كالطبيب الذي قتل مريضه بسوء العلاج..

ومن أبرز تعاليم السلفية- بعد صون العقائد من الدخل- رفض التقليد المذهبي، والعودة بالأمة إلى الكتاب والسنة! وهذا حسن، بيد أن تطبيقه يحتاج إلى تأمل..

فإن السلفيين لم يتركوا تقليد أحمد بن حنبل، وإيثارمدرسته! ومن حق غيرهم أن يفعل ذلك مع سائر الأئمة الباقين!

ثم إن الاجتهاد الفقهي ليس كلأ مباحا، فقد دخل في هذا الميدان من لا يؤمن على قراءة ورقة، وصدرت عنه فتاوى وأحكام تؤذي الإسلام وتنفر الخاصة والعامة منه..

والذي أرمي إليه من هذه المقدمة أمور لمستها في ميدان الدعوة، وأرجو أن نفيد منها..

عندما كنت في أوغندا على عهد عيدي أمين، جاءني من يطلب مني إلقاء درس ديني في المولد النبوي، فعرتني دهشة! وقلت لمحدثي: أظننا في شعبان؟ قال: نحن نحتفل بالمولد أكثر العام.!

قلت: حسنأ سآتي معكم، وتبسم وكيل الأزهر- وكنا مبعوثين معا- وقال: ماذا ستصنع؟ قلت له: هؤلاء يجتمعون على حديث في الإسلام أو على تلاقٍ لذكر الله، تحت عنوان المولد! ليس في حسابهم أكثرمن هذا.!

قال: إنك في مصر متهم بالوهابية؟ قلت: والوهابيون يتهمونني بالصوفية! وأنا طالب علم أبغي خدمة الإسلام وحده ولا أكترث بالعناوين، والله من وراء القصد..

وذهبت إلى الجمهور المحتشد، وألقيت درسا لا أذكر موضوعه، كان هدفي أن تحت التراب جمرا يوشك أن ينطفيء، ويجب أن أبقيه مشتعلا فتحدثت عن الله الواحد لأضع أسوارا عالية أمام زحف التثليث، وجليت بعض العقائد والأخلاق مستعينا بأحاديث نبوية كثيرة، وفي أثناء سرد الأحاديث قلت بلباقة: إن محمدا أعظم من أن يكون مولدا يقام في ليلة أوفي شهر! إنه رسالة يتصدى لها الآن شياطين الإنس والجن ونحن لهم بالمرصاد! ولابد أن نوصل رحمته إلى العالمين، وننفع بتراثه الناس أجمعين...

وبشرتهم بأن محبتهم لرسول الله ستقودهم إلى الجنة، وأننا سنلتقي كثيرا لنعرف كيف نتبعه ونحيي سنته.

أرجو أن يتضاعف هذا الجمع غدا لأننا سنشرح طائفة من شعب الإيمان .!

قال لي رفيقي: إنك ما حدثتهم عن بدعة الإحتفال بالمولد، وقال أحد المنسوبين إلى العلم: ولا عن خرافة التوسل!!

قلت: الحقائق التي آخذهم بها ستطرد في صمت ما عداها، كما يدخل الماء في الزجاجة فيطرد منها الهواء ليحل محله! إن مهمتي التنويرلا إلصاق التهم وحشد الادلة لاثباتها كي ألقي الناس بعد ذلك في جهنم، أنا مربٍ! لا مدّعٍ عام..

وقال آخر: لاحظت أن جمهرتهم يسدلون أيديهم في الصلاة! قلت: دعهم على ما ألفوا من مذهب مالك! إنني أريد شغلهم بالزحف الإستعماري على أرضهم ودينهم، ولن يعاقب الله أحدا أسدل يديه.

إن الدين هنا مهدد بالفناء، بل لقد تقلص عن بقاع واسعة، فعلقوا الناس بالأهم وخوفوهم من الأدهى.. أرجئوا الكثير مما يشغلكم الآن واكترثوا بالأركان ومعاقد الايمان والأخلاق والعبادات..

ويسوءني أنني تركت أوغنده، ثم ذهب بعد ذلك بسنين عيدي أمين، وتعرض المسلمون هناك لبلاء ماحق، وجاءهم من لا يحسن الكلام إلا في الأمور التي تعمدت البعد عنها، فكان هؤلاء الدعاة مع المبشرين الدهاة، ظلمات بعضها فوق بعض غطت مستقبل الإسلام وجرت عليه الهزائم...

وما يلقاه الإسلام من سوء حظ في أواسط إفريقية يتكرر في أقطار أوربا وغيرها! لماذا؟

لأن ناسا لهم أمزجة شاذة، ومعارف ضحلة هم الذين يدعون إليه ويعرفون به.

النيل وأقطار المغرب أنفتحت انفتاحا قويا على تفكير المدرسة السلفية، وقد رأيت جمعية العلماء في الجزائر- وهي الأساس الروحي والعملي لحرب التحرير- ورأيت جماعة الإخوان المسلمين في القاهرة ودمشق وغيرهما يجعلون الإطار السلفي ضابطا لأنشطتهم المدنية والعسكرية.

وكان التجميع المتصل لأعضاء هذه الهيئات قائما على أخوة وثيقة العرا، تتحاب بروح الله وترطب الألسنة بذكره، وتحول الإيمان النظري إلى مشاعر جياشة وعواطف فوارة... كأنها صدى للتربية التي رحب بها ابن تيمية عندما أثنى على الجيلاني والجنيد، أو التي تلبس بها ابن القيم وهويكتب طريق الهجرتين وغيره!

أي أنهم حكموا التصوف بالفقه وكرهوا الجلافة وبرودة النفس!!

والانتماء إلى السلف شرف يحرص عليه كل مسلم، ولوأمكن تحديد المفاهيم وتحرير الألفاظ وتحسين الظنون، وحمل أحوال المسلمين على الصلاح والخير لتحاشينا اللدد في الخصام، وتوصلنا إلى محو أغلاط كثيرة..

لا سيما ونحن أمة مزقها الخلاف وتربص بها الأعداء من كل حدب وصوب..!

سألني رجل عن قول البوصيري في مدح الرسول صلى الله عليه و سلم

فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم!

فقلت: هذا كلام لا يجوز، وهو إطراء نهينا عنه، وأرى أن التعبير خانه فجره إلى ما لا يليق، وقدر رسول الله صلى الله عليه و سلم عظيم، وكان يمكن الثناء عليه بخيرمن ذلك!

قال: هذا شرك، وصاحبه مرتد عن الإسلام!

قلت له: عندما تلتقيان عند الله يوم البعث، فاتهمه بالشرك، وسوف يتهمك بالافتراء، ويحكم بينكما علام الغيوب!

أما أنا الآن فلا أحب أن أجعل من هذه القضية علكا يمضغ، ولدي من شئون الإسلام والمسلمين ما هو أولى بالاهتمام.!

إن السب والتشفي لا يحلان مشكلة..

على أن مدح الرسول بهذا الأسلوب، والدفاع عن التوحيد بهذا الأسلوب لا يقدمان خدمة حقيقية لديننا، فهناك خطوات عملية أجدى، اتبعها أعداء الإسلام في نصرة عقائدهم، وفي تطويق رسالتنا، ألفت النظر إليها في الفصل التالي، لعلنا نرعوى!

موازنة بين مسلكين

كانت هزائم الصليبيين في العصور الوسطى حاسمة، لم تبق لهم أثرا في الأقطار التي احتلوها، وبعد مائتي عام من الكر و الفر ارتدوا من حيث جاءوا ، راضين من الغنيمة بالإياب...

لكن القوم استفادوا من هزائمهم، ولم نستفد نحن من انتصاراتنا، ومن هنا لم تمض قرون طويلة حتى تغيرت الأوضاع مرة أخرى ضدنا لا معنا.!

كيف أفادوا من هزائمهم؟ لقد تركوا الساحة التي عز عليهم اجتياحها، وطرقوا أبوابا أخرى كثيرة، وحققوا كشوفا جغرافية، وطفرات علمية رجحت كفتهم إلى مدى بعيد!

على حين بقينا نحن نكررأخطاءنا القديمة، ونتحرك في مواضعنا، ونفتن في إشباع شهواتنا..

اكتشف الأوربيون طريق رأس الرجاء الصالح، واستغنت تجارتهم مع الهند والشرق الأقصى عن المرور ببلادنا فعانينا نوعا من الكساد الاقتصادي، كما أن القراصنة الأوربيين تمكنوا من مهاجمة شرق إفريقية والخليج وأشاعوا الإرهاب في هذه البقاع..!

وأخذت دائرة الكشوف تنداح، واستطاع " كولمبوس " أن يكتشف أميركا، وهو يتلمس طريقا بحرية إلى الهند بعيدة عن سلطان المسلمين!

وقد ذكرنا في مكان آخر من كتبنا أصابع الفاتيكان في هذا التوجيه، والرغبة الصليبية في قرع أبواب الإسلام من الخلف بعد ما صعب اجتيازها من الأمام! واتسع الكشف بعد الوصول إلى العالم الجديد، ودخلت المسيحية أمريكا الجنوبية والشمالية وصبغت بعقائدها وألسنتها كل الدول التي أنشئت هناك، والمسلمون ينظرون مبهورين أو محسورين، كانت قشور من الفكر الإسلامي تسيطر عليهم وما زالت!!

وعرف الأوربيون قارة أخرى هي استراليا، وانتقلت إليه بداهة عقيدة المكتشف ولغته.

بل إن العداوة للإسلام تطفح بها هناك نفوس! والنصارى العرب الذين هاجروا إلى استراليا أسوأ الناس قولا، وأشدهم حملا على الإسلام، وتحريضا على تعطيل شعائره ورفض الحكم به

ولقد تحولت الهزائم العسكرية القديمة إلى انتصارات عزيزة في ميدان الكشوف الجغرافية.. وثم أمر آخر هو في نظري أهم من هذه الكشوف، إن الأوربيين نظروا إلى الحياة الإسلامية التي تفوقت عليهم ونقلوا عنها أعظم خصائصها..

ويبدو ذلك في ميدانين عريضين أولهما ميدان الاصلاح الديني الذي تمخض عن ظهور المذهب " البروتستانتي " وعن انكماش سلطات البابا الروحية والسياسية انكماشا كبيرا.

وأذكر أني قرأت رسالة في هذا الموضوع للشيخ أمين الخولي، وهورجل عقلاني كما يعبر البعض عن منهجه وفكره، أعني أن الحماس للإسلام لا دخل له في تأليف هذه الرسالة.

ولا ينكر العقلاء المحايدون أثر الإسلام في هذه الحركات الإصلاحية التي شملت أوربا كلها.

والميدان الثاني الذي ظهر فيه التأثر بالإسلام هو تيقظ العقل الأوربي بعد رقاد ظل بضعة عشر قرنا، وبدء عصر الإحياء، والمنطق التجريبي وإقصاء الظنون والأوهام وإيثار الحقائق والبديهيات..

وكان رجال الدين يعرفون أثر الإسلام في هذه النهضة، ويخافون أن تكون مهادا للترحيب بالإسلام، والتمهيد لعقائده، من أجل ذلك قاتلوها بشراسة وغضب.

وقتل عدد كبير من رواد عصر الإحياء، ووضعت الكنيسة عقويات صارمة للقضاء عليهم إلا أن الموجة كانت أكبر منها، فانتصر العلم المادي، وعرا الدين قي انكماش شديد وهوان أشد!

بيد أن رجال الكنيسة سرعان ما أفاقوا من غمرتهم، وواءموا بين مطالبهم والنجاح العلمي الغالب، وأسدوا خدمات جليلة للاستعمار، وأطماع الحكومات المدنية التي تملك أزمة الأمور... فلما كان القرن التاسع عشر الميلادي- الرابع عشر الهجري تقريبا- كان المسلمون في مواقف لا يحسدون عليها، بل كانت أمورهم كلها في إدبار!

عادت الأحوال النفسية والاجتماعية والسياسية التي أدت إلى سقوط بيت المقدس من ألف عام، وإزهاق أرواح الألوف في مذابح جماعية وحشية كان الدم الإسلامي فيها أرخص شيء في الدنيا..

وسيطر الجمود الفكري والحضاري على جماهير الأمة المنكوبة على حين كان غيرها يشق طريقه إلى عصر الفضاء.

و جد في مجال التبشير المسيحي ما يستحق التسجيل، فقد كان هذا التبشير قسمة منظمة بين الكاثوليك والبروتستانت وكان الأرثوذكس متجاهلين لا يكترث بهم، لكنهم أثبتوا جدارتهم بالمشاركة الفعلية، فسمح لهم أولا بحضور المؤتمرات المسيحية الكبرى على هيئة مراقبين، ثم منحوا جزءا من الغنيمة، ومكنوا من التبشير في جنوب السودان ووسط إفريقية، وقد رئي الأسقف " صموئيل "- الذي قتل مع أنور السادات- في أوغندا يؤدي واجبه الديني هناك! ولعل ذلك في الوقت الذي احتدم فيه النزاع بين بعض المسلمين والبعض الآخر حول مشروعية أحفال المولد النبوي...!!

وأطبقت ذراعا كماشة على الأمة الذاهلة ففي غرب العالم الإسلامي طوى الإسلام طيا من جزر البحر الوسيط، وأخذ ينسحب من البلقان انسحابا ذليلا. ومن تعاجيب الأيام أن دولة كألبانيا كثرتها مسلمة ابتلعتها الشيوعية دون أن يقول عربي مسلم كلمة واحدة احتجاجا أو رثاء، وتلك أولى بركات القومية العربية!!

كما دفع الإسلام بعنف ليترك أوربا رسمت خطط دقيقة ليضعف ويتلاشى جنوبي البحر الأبيض، فوق الصحراء الكبرى وتحتها، وهو الآن يقاوم أسباب الفناء ويحاول أن يستديم حياته يوما يوما.!

ذاك في غرب الأمة الإسلامية، أما في وسطها فقد تم تهويد فلسطين ووضعت سياسات ماكرة لجعل ذلك أمرا مرضيا!

فإذا مددت بصرك الى الشرق الأقصى رأيت أربعة أخماس الفلبين قد ضاعت، ويجرى الإجهاز الآن على الخمس الباقي..

ويستميت مسلمو أندونسيا في إنقاذ حاضرهم ومستقبلهم من ألوان الغزو الذي يتهددهم!

وقد وضعت الصليبية العالمية من مدة قريبة خمسين سنة لمحو الإسلام من هذه الجزر...!

والاستعمار الاستيطاني ماض في طريقه لتغيير معالم أقطار شتى في جنوب آسيا! وقد كانت سنغافورة بلدا شبه إسلامي لكثرة المسلمين فيه، وكانوا ظاهرين في الجهاز الحاكم، ثم جرفهم العنصر الصيني المتكاثر الولود! والمسلمون في أقطار أخرى يحددون نسلهم، وتشيع بينهم فتاوى من علماء مرتزقة بأن الشريعة تطلب منهم أن يتناقصوا، أويبقوا كما هم!!

وهذه الهزائم السياسية والعسكرية أثر هزائم عقلية وتربوية أنكى وأقسى.. فالعلوم الدينية التي تدرس لا يزكو بها قلب، ولا يسمو بها فكر، ولا تنمو بها جماعة، وعلوم اللغة يستحيل أن تصنع ناثرا أو شاعرا!

وآفاق الكون في نظر المسلمين لا تضبطها سنن، وخيرات الأرض تحت أقدامهم لا يستغلها عقل مكتشف أوجهد طموح..

أما الأوضاع الاقتصادية والسياسية فإن تعاليم الإسلام في الحكم والمال لا تكاد تعرف..

ومن بضعة قرون وأجهزة الدعوة الإسلامية معطلة، فلا منهج يوضع، ولا متابعة تكشف.

فلما ذهبت طوائف من العمال الذين يلتمسون الرزق، أو الطلاب الذين ينشدون العلم إلى أوربا وأميركا، وجدوا عالما آخر موارا بالسعي والقدرة والذكاء، دونه بمراحل ما خلفوا وراءهم من جماهير خاملة وسلطات تاثهة.. ماذا يقول هؤلاء وأولئك عن الإسلام؟ أو ماذا يعرفه الناس عن الإسلام الحق حين يتأملون أحوالهم وأعمالهم؟

لا طريق لأن يعرف الأجانب الإسلام إلا عن تأمل في تطبيقنا له! أو عن تفهم لحديثنا عنه، فإذا كانت تطبيقاتنا رديئة منفرة، وكانت كلماتنا تتضمن أخطاء شنيعة، فكيف يفهم هذا الدين؟ ولماذا يدخل الناس فيه؟؟

أبرز الصفات التي ينسبها العالم المتحضر لنفسه أنه حر، وسواء كان العالم الحر على مستوى هذا الوصف أم دونه عمليا، فذاك مثله الأعلى، فهل يرتضى الإسلام دينا إذا جاء من يقول له: ألغ نظام الأحزاب، وضع قيودا على الشورى تجعل يد السلطة مطلقة ويد الأمة مغلولة؟

إن إسرائيل طردت رئيس وزراء رأت في تصرف مالي له شائبة إدارية لا تحق النزاهة الخلقية، فماذا نقول نحن عن الحكم الإسلامي الذي يتولاه الصعاليك حينا من الدهر فيخرجون وخزائنهم مثقلة؟ من حوسب منهم؟ ومن جرد من مال الحرام؟

ثم أترك هذا الجانب الذي نلح عليه معذورين، وخذ جوانب أخرى.. هل العظات العابرة السطحية تنشيء أخلاقا مستقرة دائمة؟ هل رسوم العبادات تنشيء يقينا راسخا وتغذيه ليقوى على مواجهة أزمات الحياة ومشكلاتها المعقدة؟ هل وجهات النظر الفقهية راجحة أو مرجوحة يمكن أن تكون الصورة الأولى والأخيرة للإسلام؟ أعني هل تغنى الفروع عن الأصول؟ هل التقاليد التي شاعت بيننا في أفراحنا وأحزاننا أو في ملابسنا وصلاتنا هي التي تصدر إلى الخارج على أنها شعب الإيمان ومعالم الإسلام؟؟

إذا كان اليهود قد حولوا شتاتهم إلى تجمع، والصليبيون قد حولوا انهزامهم الى نصر، فلماذا نكون نحن دون غيرنا، فلا نحسن الاستفادة من الماضي الطويل؟ ولا نحسن الاقتباس من تجارب الآخرين الناجحة..

وثم ملحظ أريد التنبيه إليه عند الحديث عن الفروع الإسلامية، لعله يتضح من هذا الحوار!

سألني رجل: لماذا ترجح مذهب ابن تيمية في رفضر الطلاق البدعي وعدم الاعتراف بآثاره؟ قلت: لأمرين: قوة دليله أولا، ولأنه أرفق بالناس وأرعى للأسرة.

قال: دعني من الأمر الثاني... فقاطعته: كلا! إن المصلحة العامة لها دخل كبير في قبول اجتهاد أو رفضه..! إن الله تبارك اسمه جعل من خصائص الحق الأولى أنه ينفع الناس، فقال: " فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ".

فإذا رأيت اجتهادا لإمام يتسبب في متاعب نفسية أو إجتماعية، فمن حقي رفضه، واستبدال غيره به من الآراء الاسلامية الأخرى!

وقبول الطلاق البدعي سبب مخازى ومآسي كثيرة للأسرة المسلمة فما الذي يرغمني على الارتباط به؟ وهذه النظرة تطرد في عشرات من القضايا الاقتصادية والسياسية.

مع إدراك أنه لا اجتهاد مع النص بداهة أومع إدراك أن الاجتهادات المعتبرة تتجاوز الأئمة الأربعة. على نحو ما سارت فيه موسوعة الفقه الإسلامي بالقاهرة...

وما أكثر العقائد والعبادات والأخلاق المجمع عليها، فلم نهجرها أو نهون من شأنها ونربط الدعوة الإسلامية بفروع قد تبقى وقد تذهب؟

أرى أن المسلمين في الأعصار الأخيرة بحاجة إلى إدامة النظر في ثقافاتهم المختلفة أي إلى الغذاء الفكري الذي يقيهم ماديا ومعنويا، وأذكر الحقائق الآتية إيماء سريعا إلى المقومات الأساسية لدعاة على مستوى الإسلام العظيم..

نظرة في ثقافتنا الاسلامية

عندما تخرجت من الجامع الأزهركان لدي نصيب لا بأس به من علوم الدين واللغة، فلما شققت طريقي في الحياة وتعرضت للتيارات الفكرية التي تعصف من حولي أحسست أن ما نلته من معرفة قليل، وأنني فقير إلى المزيد من علوم الدين واللغة نفسها، ثم إلى مزيد من علوم أخرى تدعم صلتي بالحياة ورب الحياة..

وتكونت لدي أفكار عن ثقافتنا الإسلامية عامة أحب أن أطرحها على الآخرين علها تقيم من عوج وتكمل من نقص! ولعل الأجيال الجديدة تفيد من تجارب الاباء ما يجعلها تسدد أو تقارب..!

إننا أمة ذات رسالة، جعلنا الإسلام من قرون طوال فنمونا به ونما بنا، وتشابك تاريخنا وتاريخه.. وتركنا في العالم آثارا بعيدة الآماد، وسوف يبقى هذا التأثير قويا محسوبا- برغم الكبوة التي اعترضتنا- فما هو أولى الكبوات ولا آخراها! وعلينا أن نراجع أنفسنا من الناحية العلمية لنقدرما لنا وما علينا من نحن؟ وما رسالتنا؟ نحن المسلمين الآن نملأ مساحات شاسعة من الأرض تقع شرقا وغربا بين المحيطين الهادي والأطلسي، وأطرافنا شمالا تبلغ سيبيريا في آسيا وتتغلغل في أفريقيا حتى دولة البيض في الجنوب.. بداهة لم نبدأ بهذا العظم، فقد لحق رسولنا العظيم بالرفيق الأعلى والاسلام لم يتجاوز حدود الجزيرة العربية، وقد علمنا منه أن أمتنا ستبلغ ما بلغ الليل والنهار، أي أنها ستغلف الكرة الأرضية بعقائدها وشرائعها، وسيظهر ديننا على الدين كله، ويستحيل أن يتم ذلك من فراغ، بل لابد من ظهير علمي رائع، وسبق إنساني أروع.. وهنا ألقي على نفسي وإخواني ثلائة أسئلة تتصل بكياننا الديني، وعالمنا الإسلامي المعروف.. ما هو تاريخنا الذاتي؟ أعني تاريخ دخول الدعوة الإسلامية كل قطر من أقطار عالمنا المديد، حتى أخذ آخر الأمر هذا الشكل الملحوظ.. ما هو تاريخنا السياسي، وأطوار امتداده وانكماشه وعلل هبوطه ورفعته حتى هذا القرن؟

ما هو تاريخنا الحضاري؟ لقد ظفرنا بالعالم ماديا وأدبيا، وغيرنا منطقه في الفهم والاستدلال، ووضعنا الدعائم لمدينة عالمية أرقى من مدنيات اليونان والرومان، ونقلنا نهر الثقافة العالمية من مجرى بال تافه إلى مجرى آخر واع معمر.. ثم أطبق علينا إغماء يشبه الموت فنسينا من نحن؟

أهملنا تاريخنا:

فهل نحاول الآن أن نجيب على هذه الأسئلة؟ إن ماضينا بشعبه الثلاث لا يدرس الآن..! أما عن الدعوة الإسلامية وكيف دخلت كل بلد، ومن نقلها؟ فلم أقرأ تاريخا متصلا لهذا الموضوع إلا ما كتبه المستشرق الإنكليزي توماس ارنولد، ويحتاج كتابه إلى تصحيح وتكملة وتوسيع. فمن يقوم بهذا العبء

وأما عن تاريخ حضارتنا. فإن كتابات المسلمين العرب أو الأعاجم قليلة، والذين اهتموا بالحضارة الإسلامية جماعة من المؤرخين الأوربيين المنصفين، إنهم هم الذين حدثونا عن أنفسنا والدين الذي في أعناقهم لآبائنا!! وآخر المؤلفات التي ظهرت في هذا الميدان كتاب المؤلفة الألمانية "زجريد هنجه" "شمس الإسلام تسطع على أوربا". وأذكرأنه وقع في يدي كتاب لطيف الحجم عن . " أبي القاسم الزهراوي" أول طبيب جراح في العالم، فخيل إلي أن المؤلف الدكتورعبد العظيم الديب كان يحدثنا عن عالم المريخ! لا عن رجل من عظمائنا ! انتفع الأوربيون كثيرا به ونوهوا باسمه!!

والمعاهد التقليدية عندنا لا تعرف شيئا عن تاريخ الحضارة الإسلامية، وفاقد الشيء لا يعطيه..!

فإذا جئنا إلى تاريخنا السياسي فسنجد العجب، وكيف لا تعجب من أمة لا يعرف بعضها بعضا؟ تصورأن الصحراء طغت على فرع رشيد أو دمياط، وأن النسيان طوى عمرانه الزاهر، وأمسى يدرس للطلبة أن ليس للنهر فروع، إلا ما نرى هكذا فعلنا بأنفسنا، أوكما نحب التهرب هكذا فعل الاستعمار بنا..

فاحتلال هولندا لمائة مليون مسلم في أندونيسيا لا يظفر من تاريخ الإسلام السياسي بشيء، وكذلك الاحتلال الصليبي لما سمي بعد جزر (الفلبين)!

واحتلاله الدول الاسلامية الكبرى في غرب إفريقية ووسطها، والدول الإسلامية وسط آسيا، وجنوب القارة الكبيرة، والدول الاسلامية جنوب أوربا وعلى شواطيء البحرين الأبيض والأسود.

إن نصف تاريخنا الأخير مجهول، والنصف الأول تتجاور فيه الحقائق والشائعات والمفتريات، ويستحيل- إذا أردنا البقاء- أن نترك تاريخنا السياسي في هذه الوهدة، ولست مجازفا إذا قلت: أنه بحاجة إلى جراحة من النوع الذي يسمى في عصرنا زراعة الأعضاء، لكن الأعضاء المستجلبة هنا قديمة لا جديدة..!!

إن معاهدنا التقليدية الشهيرة تجهل القيمة العلمية والإيمانية لدراسة التاريخ الإسلامي، ثم الإنساني وهذه سوأة قبيحة يكفي في التشهير بها أن نقرأ قوله تعالى (أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم؟ إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون) ما السبب في ذلك؟ هنا نجيب على التساؤل الثاني في صدر هذا المقال: من نحن وما رسالتنا؟؟

كيف نتعلم الإسلام:

إن الإسلام هو الدين الذي ارتضيناه لنحيا به في الداخل ولنحمل شارته ورايته في الميدان الدولي! فكيف نتعلمه، ونعمل به؟ لقد لاحظت أن القضايا الدينية تدرس (مفردات مفكوكه) أوأجزاء منفصلة فمثلا هناك باب للنكاح وآخر للطلاق، وآخر للحضانة وآخر للمواريث، تعطي تصورات سليمة أو أقرب إلى السلامة عن الأحكام الشرعية.. هذه الأبواب يلمها جميعأ عنوان محدد هو نظام الأسرة! ولوأننا استصحبنا هذا العنوان وجعلناه المحور الذي تدورعليه البحوث الشرعية كان خيرا فإن نتؤات كثيرة سيضبطها الإطار الثابت، وحكما مقصودة ستظهر، ولغوا متداولا سيختفي..

وفرق كبير بين عرض السيارة في شكلها العام، وعرض السيارة إطارات وأجهزة وآلات ومصابيح ومقاعد.. ومع عنوان نظام الأسرة يمكن إحكام الحديث عن الإرادة الحرة، والولاية والكفاءة والمهر والأولاد والنفقات، كما يمكن الموازنة الرشيدة بين الطلاق السنى والبدعى، والنظر في الإشهاد على الطلاق والرجعة، وحذف الكلام الفارغ عن "أنت طالق نصف تطليقة" وما أشبه هذا السخف، كما يمكن التحقيق العلمي في الوصايا للوارث ولغير الوارث.. إن الاهتداء إلى محور ثابت لجملة من الأحكام المبعثرة أفضل من إفراد كل حكم بنظرة خاصة لا تأخذ في الاعتبار صلته بغيره..

ونتجاوزنظام الأسرة وما يندرج تحته من أحكام إلى نظام الحكم، واختيارولي الأمر وقضية الشورى وأهل الحل والعقد، أو أهل الذكر، وقاعدة الأمر والنهي، وحراسة الحق والتواصى به، والتعاون على البر والتقوى، إن هذه العناصر كلها تدرس مبعثرة مع أنها جميعا معالم الحكم الإسلامي، ومحور علاقة الأمة بالدولة، ونشأ عن بعثرتها غموض في فهم وظيفة الدولة، وقصورفي فهم كل عنصر على حدة.. ووجد عندنا من يفهم الشورى داخل إطار الإستبداد الفردي، ومن يفهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدرة على إلقاء عظة! ومن يتصور حراسة الحق لا تعدو النكير على بعض البدع! ومن يحسب التعاون بين مستهلكين أو منتجين عملا مستوردا من الخارج.. ودراساتنا لمئات النصوص من الكتاب والسنة خضعت لهذه الرؤ ية الجانبية المبتورة ومن ثم تخرجنا غير كاملي التسليح في مواجهة الغزو الثقافي الذكي الذي قدم برامج جيدة التصنيف والترتيب، سريعة في تلبية التقدم الحديث، وكم سرني أن وضع إعلان إسلامي عالمي لحقوق الإنسان أستند في مواده كلها على نصوص بينة من كتاب الله وسنة رسوله، بذل فيه أخونا الأستاذ سالم عزام ورفاقه جهدا مشكورا.

الإسلام مظلوم:

أعرف من يقول: إن كشف النصوص ليس عبقرية، وإن كشف أميركا والعالم الجديد ليس عبقرية، غير أننا محتاجون إلى أصحاب هذه العبقريات المنكورة، إن مكتشفي النفط لم يخلقوه من عدم، و انما عرفوا مكانه وأحسنوا تقريبه ونفع العالمين به... والاسلام مظلوم مع أصحاب النظر القصير والرؤية المحدودة، لأنهم يقرون ما يعرفون وينكرون ما يجهلون.. الفلاح يرى الدنيا مروجا خضراء، والبحار يراها أمواجا زرقاء والبدوي يراها رمالا عفراء.. والدنيا أوسع مما يرى هذا وذلك، ولم أعجب عندما بلغني أن عالما ضليعا في الفقه أنكر غزو الفضاء، وظنه احتيال خبثاء، لأن الدنيا في عالمه الدراسي لا تعدو التقعر في بعض العبادات، والغفلة عما وراء ذلك.. وقد غبرت قرون على المسلمين وهم داخل السجن أنفسهم ورسالتهم، فلما صحوا آخر الأمر وجدوا أنفسهم غرباء على الدين والدنيا معا! ويجب توفير عناصر النجاح للصحوة الإسلامية الحاضرة فان المتربصين بها والحاقدين عليها كثيرون، وأول ما نصنعه بناء الأجيال الجديدة على قواعدها الدينية وتقديم زاد ثقافي غني يكفل لها القوة والعافية..

في مقدمة المواد الثقافية علم العقيدة وأرى انتقاء عدة فصول من كتابي العلم يدعوإلى الإيمان و الله يتجلى في عصرالعلم، مع ضميمة حسنة من الآيات والسنن تعرض أركان الإيمان على منهج السلف وأجدني مسوقا إلى إعلان كراهيتي لأغلب المتون والحواشى، ويستطيع المدرس الذكي أن ينتقي منها ما يصلح لعصرنا مع إطراح الباقي..!!

ثم هناك علم الأخلاق والتربية والآداب النفسية وهو علم جليل الشأن، غايته بناء النفس الإسلامية على الكمال الذي يرشحها لعبودية الله تبارك اسمه ! وإرساء علاقة الانسان بغيره على ضوابط من الصدق والوفاء والحياء والحب والرحمة..،يحزنني أن الناس في هذا العمر- والمسلمون منهم- هبطوا كثيرا عن هذا الأفق، لانتشار النزعات الحيوانية والفلسفات المادية. والتربية التي أنشد تتناول الخصائص النفسية والعقلية معا وحبذا لوأخذنا فصولا من مدارج السالكين لابن القيم، وإحياء علوم الدين للغزالي، وصيد الخاطرلابن الجوزى، والتفكير فريضة إسلامية للعقاد، والدين والعلم للمشير أحمد عزت..!

ثم ينبغي عرض (التكافل الإجتماعي) في الإسلام، على أن يضع العارض نصب عينه إعطاء كل ما يسد مسد الاشتراكيات الحديثة، ويشعر الباحث بالغنى عنها.. ولما كانت البحوث في وظيفة المال الإجتماعية جديدة، وتتناول قوانين خلقية واجتماعية وسياسية، وتتحدث عن عمل الدولة ونشاط الجماعة فإن على الدارس أن يتصرف بلباقة، ومن الخير أن يدرس كتاب الزكاة ليوسف القرضاوي ويختار منه ما يكشف اتجاه الإسلام إلى منع البأساء وا لضراء..

دين ودولة:

والإسلام دين ودولة، ولا يمكن البتة جعله علاقة فردية خاصة، والدولة في ديننا تخدم على سواء أمرين مهمين: الرسالة التي تمثلها، والأمة التي تحملها، وهي خدمة منزهة عن الأثرة والاستعلاء تساندها شورى صحيحة لا مزورة، وضمانات لحقوق الإنسان تحميه من كل ضروب الظلم.

والولاء للإسلام لا للجنس! والأخوة الإسلامية هي الرباط الأول وإن تباعدت الأمكنة والأزمنة، ولغير المسلمين جميع الحقوق التي للمسلمين وعليهم جميع الواجبات ما داموا في ذمتنا..

وفي الخلافة الراشدة نموذج للحكم الإسلامي النزيه. ويمكن التوسع في التطبيق، وابتداع الوسائل التي تحقق المقررات الإسلامية! وليس الحكم الديني عندنا تنفيسأ عن شهوات فرد، ولا ستارا للإستبداد المطلق، بل أساسه بيعة حرة، وشورى ملزمة، ومثل دينية واضحة وليست الدولة لخدمة الفرد أو الفرد في خدمة الدولة، بل الكل لاعلاء كلمة الله، وتنفيذ وصاياه بين الناس، وهي وصايا تصون الدماء والأموال والأعراض، وتحقق الخير والمعروف وتأمر بها.. و قد ألفت كتب كثيرة عن نظام الحكم في الإسلام، عن حقوق الإنسان، وعن الخلافة والشورى، وأرى في كتاب " الشورى " للدكتور عبد الحميد الأنصاري ما يؤكد المعاني التي أومأنا إليها آنفا.

والمشخصات الأدبية والمادية لأمتنا تتعرض من قرون طوال لحرب شعواء، وظاهر أن استئصال الإسلام وأمته هدف حقيق لملل شتى! فإذا لم يتيسرالإفناء الحسي، فلتقم حرب المفتريات بتشيويه معالمه وتنفير العالمين منه.. وهذا الموقف يفرض علينا جهدا مضاعفا للحفاظ على أنفسنا وتاريخنا ومقوماتنا كلها، ولا يسوغ أن نكون عونا لعدونا في إهالة التراب على حقائقنا وآثارنا، ويتقاضانا ذلك إعادة النظر في تاريخنا العلمي والحضاري والسياسي، وجعل دراسته ركنا ثقافيا لا نافلة عارضة..

هناك مؤلفات عربية للعقاد، وكرد علي، ومحمود منتصر، وعادل مظهر، تحدثت عن الحضارة الإسلامية بإفاضة. ينبغي أن تدرس بعناية في جامعاتنا كلها.. وهناك إخفاء لا أدري عن غباء أوتعمد لدور الصليبية العالمية في مهاجمتنا على امتداد تاريخنا كله بدءا من مؤته وتبوك إلى أن انهارت الخلافة التركية في القرن الرابع عشر الى الآن، لماذا لا تبرز هذه العداوات في أثناء تدريس التاريخ؟ ولحساب من يتم! إخفاؤها؟ وصاحب الغزو العسكري الحديث نشاط تبشيري واستشراقي هائل، ما يجوزإهماله ولا الغض من خطره، وقد ألف عمر فروخ وغيره كتبا قيمة في هذا المجال يجب توزيعها على نطاق واسع حتى نحصن الثغرات الكثيرة التي تسلل منها الغزو الثقافي!

نظرة في ثقافتنا الاسلامية

إعادة نظر:

وأرى أن علومنا التقليدية بحاجة إلى اعادة النظر في طريق تدريسها، فالتفسير مثلا يفسح الميدان فيه للتفسير الموضوعي، إلى جوار التفسير الفقهي واللغوي والأثري والعقائدي، ووددت لو قدمت تفسيرا موضوعيا لسورة براءة، وأبعادها المحلية والدولية.. كما وددت لو فسح المجال لدراسات جديدة في السيرة والسنة، تبرز الشمائل النبوية، وتضع الأحاديث تحت عناوين أقرب إلى طبيعة العصر.. ولاحظت أن كتب النحو القديمة- وهي التي درسناها- تشتغل بالاستدلال على القواعد، وسوق الشواهد من أدبنا القديم.. إن عصر الاستدلال انتهى، وعلينا أن نسوق من الأدب الرفيع قديمه وحديثه تطبيقات لهذه القواعد، ثم علينا أن ننشيء أمثلة لها كثيرة من دنيا الناس، حتى تلين بها الألسن، وتألفها الطباع.

هذه خواطر عجلى في ثقافتنا الإسلامية، يغلب عليها الاجمال، والتفاصيل يمكن أن يوفر عليها الأخصائيون، لعلنا نصل بهذه الخواطر ما انقطع من حياة أمتنا الفكرية والأدبية.

فوارق لها آثارها

الانتماء إلى الإسلام فريضة محكمة، لا يجوزأن يرجحه شيء مما تواضع الناس على تقديمه قديما أو حديثا..

والعرب عندما ينظرون إلى جنسهم أو أرضهم ويدحرجون ما وراء ذلك الى الضياع أو إلى مرتبة أدنى فهم يخونون الله ورسوله، وينسلخون عن مقومات شخصيتهم ومواد حضارتهم وأسباب بقائهم ""ومن يكفربالإيمان فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين"".

وعندما يرفع العرب راية التوحيد ويدعون إلى الإسلام بحماس وذكاء فإن أقل ما يظفرون به مكانة مرموقة في الأرض عدا ما يدخره الله لهم يوم اللقاء.. وليست الدعوة المطلوبة عبئا يثقل الكواهل، أو لغزا يتطلب النبوغ.

لا شيء يطلب أكثرمن الإخلاص لله، والتنازل عن شهوات النفس... ثم الانطلاق في الطريق بعين مفتوحة وعقل مكتشف..

وهنا تكمن المشكلة فيما أرى! فالإسلام دين قوفي تكمن قوته فيما يشتمل عليه من حقائق، معقول لا يأباه فكرسليم، جميل لا يصد عنه ذوق لطيف.. هنا تظهر المأساة! فإن نفرا كبيرا من الداعين إليه جهال به، ومعادنهم النفسية والعقلية بالغة الرداءة، فهم بدءا لا يجوز أن يقفوا في هذا الميدان، كما لا يجوز أن يدخل الأعرج سباقا في سرعة الجري..!!

وقد تأملت في الطريقة التي يخدم اليهود بها قضاياهم فوجدت الفروق شاسعة.. هنا باطل يحتال الأذكياء المخلصون على انجاحه. وهنا حق يخفق القاصرون الهابطون في الصمود به والدفع عنه!

خذ هذا المثل في قضية فسلطين التي خاض اليهود معاركها مسلحين بدينهم، وخاضها العرب مبتعدين عن الإسلام كارهين الانتماء اليه!

وانظر كيف بدأ اليهود الكفاح لاستعادة أرض الأجداد، أو أرض الميعاد كما يقولون:

كتب الأستاذ درويش مصطفى الفار تحت عنوان الكيمياء والسياسة يقول:

في الثاني من نوفمبر، يطل علينا العام السابع والستون منذ أن صاغ أرثر جيمس بلفور (1838-1930) وزير خارجية بريطانيا العظمى، وعده الغني عن التعريف، وقدمه هديه باسم السياسة، الى علم الكيمياء، في شخص اليهودي الروسي الصهيوني حاييم بن عيزر وايزمان 1874-1952. الذي كان يعمل أستاذا للكيمياء العضوية في جامعة مانشستر بانجلترا، وذلك مكافأة وتقديرا لعبقريته في اختراع طريقة، سنة 1916، لصناعة سائل الأسيتون من دقيق الذرة "بضم الذال المعجمة وفتح الراء"، فانقذ المجهود الحربي للحلفاء الذين كانوا حينذاك في حاجة ماسة لكميات كبيرة من ذلك السائل العجيب الذي يستخدمونه في إذابة النتروجلسرين وقطن البارود لصناعة مادة الكوردايت، المفرقعة الدافعة، التي يحشون بها الرصاص وقنابل المدافع...

أبى وايزمان أن يقبل مكافأة مادية ليشتري له ضيعة أويبني فيلا، ينقرشها بأنواع الفسيفساء و الديكور، لأن إيمانه بباطل قومه، كان عنده بمثابة العقيدة التي يلتزم العالم الحق بالتضحية بكل الماديات في سبيل العمل لها، وأصرعلى أن تكون مكافأته " مجرد " وعد، من حكومة بريطانيا العظمى:

لاقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، دون مساس " بحقوق " السكان الأصليين من غير اليهود... مجرد وعد...

لأنه كان يعرف من إلمامه بأصول علم الكيمياء، أن التفاعل بين المجموعات البشرية خلال التاريخ، تحكمه قوانين ومعادلات وضوابط دقيقة كتلك : التي تحكم تفاعلات الذرات والجزيئات في علم الكيمياء..

وكان يدرك أن قوانين التفاعلات الكيماوية لا مجال فيها " للفهلوة " والارتجال والعنتريات والكذب وخداع النفس، وأن الزمان الذي كان الكيماويون فيه يضيعون الوقت والمال والجد والسياسة للحصول على الاكسير، الذي يحول الفلزات الحقيرة الى ذهب، زمن قد ولى وانقضى الى غير رجعه...

فكان مجرد الحصول على "وعد" بمثابة تفاعل كيماوي مدروس يمكن البدء منه وارتياده كافة المظان والسبل والأساليب والحيل والدسائس للوصول به إلى النتيجة المطلوبة والمخطط لها أصلا، بعلم واصرار...

ولم تكن الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها بعد، عندما طلب وايزمان ذلك الوعد من بريطانيا العظمى في شخص وزير خارجيتها بلفور، ولم يك انتصار الحلفاء مقطوعا به مائة بالمائة، ولذلك كان أمثال آخرون لوايزمان، يسعون نفس المسعى لدى الألمان وحلفائهم، دون أن يصطرع الفريقان من اليهود أو يقتتلا...

وكان علم السياسة في دماغ الداهية بلفورقد ارتقى أيضا إلى مستوى قدرة الكيماوي العالم بأسرار التفاعلات، فوافق شن طبقا، كما يقول المثل عندنا، " وما أكثر الأمثال عندنا والحكم " فوجد في الموافقة خيرا كثيرا لصناعة السياسة البريطانية، فأصدر ذلك الوعد وهو متأكد من كيفيات مسيرة الأحداث به لقرن من الزمان...

فهذا الوعد، وعد بلفور، الذي يعيش الوطن العربي والاسلامي، اليوم أثاره وذيوله وشجونه، من نسج عالم كيماوي خبير عرف معنى السياسة وكيف تؤكل الكتف، وداهية سياسي شيطان إرتقى تفكيره إلى مستوى فهم المعادلات والقوانين البالغة التعقيد والعمق... الخ

هذا العالم اليهودي خدم ملته وعشيرته بما رأيت! لقد ذكر قومه ولم يذكر نفسه، وخدم عقيدته ولم يخدم شهوته، وتوسل بعبقريته العلمية ليجمع شتات أمته..

فماذا كان يحدث في الطرف الآخر؟ هناك عبيد جاه ينشدون الحكم على أنقاض دولة الخلافة! هناك طلاب علم لا دين لهم يريدون به جمع المال لأنفسهم وأولادهم وحسب! هناك طلاب دين تتصبب عرقا لتقنعهم أن الكيمياء علم جليل، وأن الإمامة فيه من أخصر الطرق لخدمة الإسلام، فإذا هم يهربون منك كي يتقعروا في بحث عن حرمة الذهب للنساء أو عن ضرورة قراءة الفاتحة وراء الإمام أو عن وجوب الوضوء على من لمس امرأة!!

فإذا عدت به إلى الميدان الذي هرب منه اكتفى بأخذ إجازة علمية صحيحة أو مزورة ولم يعشق البحث والكشف والاستنتاج والاختراع! ثم تراه بعد ذلك في جلباب أبيض كأنما يستعد لحفل من أحفال " الزار" ثم يزعم بتبجح أن هذه هي السنة!

إن العقل الأوربي من أقرب العقول إلى الإسلام، وقد فقد ثقته فيما لديه من مواريث روحية أو مدنية، بيد أنه ليس مغفلا حتى يفتح أقطار نفسه لأناس يعرضون عليه باسم الاسلام قضايا اجتماعية أو سياسية منكرة!

إن الأوربيين بذلوا دماء غزيرة حتى ظفروا بالحريات التي ظفروا بها، فهل يقبل أحدهم أن تعرض عليه عقيدة التوحيد مقرونة بنظام الحزب الواحد، ورفض المعارضات السياسية، ووضع قيود ثقيلة على مبدأ الشورى وسلطة الأمة؟؟ والمسلم الذي يعرض دينه بهذا اللون من الفكر، أهو داعية لدينه حقا؟ أم جاهل كبير يريد أن ينقل للناس أمراضا عافاهم الله منها؟

إن هذا المتحدث الأحمق فتان عن الإسلام! ويشبه في الغباء من يعرض عقيدة التوحيد مقرونة بضرب النقاب على وجوه النساء! من يسمع منه؟ وكيف يريد فرض رأي من الاراء أو تقليد من التقاليد الشرقية باسم الإسلام؟

ما أكثر القمامات الفكرية بين شبابنا! لقيت جامعيا متدينا يقول: إن فلانا جمع نحوسبعين دليلا على أن النقاب من الإسلام! فقلت له: وأنا انتهيت الآن من قراءة كتاب جمع نيفا وأربعين دليلأ على أن الأرض ثابتة والشمس تدور حولها..

إنها فوضى مقصودة في ميدان العلم الديني، ولابد من تطهير هذا الميدان على عجل حتى ينقذ المسلمون أنفسهم من هلاك محقق!!

وتوجد الآن طوائف غفيرة تذهب إلى عواصم الغرب لتعرض الإسلام، وأنا أشعر بغضاضة شديدة من الأسلوب الذي تحيا به، هذه الجماعات، والآثار التي تعقبها، والكلمات التي تقولها! ولا أنتظر ثمرة حلوة لهذا النشاط القاصر المرتجل!

وقد نكون كسبنا- مائة ألف فرنسي، أومائة ألف انكليزي! فهل هذه الأرباح تغنى عن الملايين التي خسرناها في البلقان وشرق أوربا وجزر البحر المتوسط وجنوب آسيا وشرقها أو الأقطار والأجيال التي خسرها الإسلام بين الفلبين شرقا والأندلس غربا...؟

إن الغيبوبة التي احتوت الأمة الإسلامية منذ قرون لا تزال مستولية على أعصابها وأجهزتها العليا والدنيا! ولا تزال تلوث ينابيعها الثقافية وتدوخ حركاتها السياسية، وتخدر كل ما يتصل بالدعوة والدعاة فلا دراسة ولا رصد ولا متابعة وكأن أمتنا نسيت أنها تحمل رسالة للناس أو كانت كذلك قديما..

التعاليم التي ندعوإليها هي الأركان المتفق عليها والنصوص المقطوع بها أما ما يحتمل عدة أفهام فلا دخل له في ميدان الدعوة! وإذا كان المسلمون أنفسهم في سعة أمام هذه الأفهام العديدة، وإذا قالوا: لا يعترض بمجتهد على مجتهد آخر، فكيف نلزم الأجانب بفقه خاص؟

إننا نضع العواثق عمدا أمام الإسلام حين نفرض على الراغبين فيه تقاليدنا في الحكم والاقتصاد والمجتمع والأسرة وأغلب هذه التقاليد ليس له سناد قائم، بل أغلبه وليد عصور الانحراف والتخلف..

و من الممكن بعد اقتناع الراغبين في الإسلام من اعتناقه، أن تترك لهم حرية الاختيار من الفروع التي لا حصر للخلاف فيها، ولا ميزة لرأي على آخر..

إننا ندعوإلى الإسلام، لا إلى الاقتداء بالمسلمين! ندعوإلى الكتاب والسنة، لا إلى سيرة أمة ظلمت نفسها ولم تنصف تراثها.

ذلك أن دين الله جدير بالاتباع أما مسالكنا نحن فجديرة بالنقد، والبعد...!

مع النازحين عن دار الاسلام

للمسلمين في الخارج آلام ومشكلات لا مساغ لتجاهلها.. ولست محاولا التماس الراحة لكل ما يعانيه إخوان العقيدة الذين تركوا أرض الإسلام، واحتواهم مستقبل غامض..

فمن هؤلاء فارون من الطغيان السياسي وجدوا طمأنينتهم في أوربا أو أميركا إلى حين!

ومن هؤلاء من تبعه الطغاة في مهجره وقضوا على حياته!

ومن المهاجرين ناس تنازلوا عن "جنسياتهم " الأولى وحملوا جنسيات البلاد التي انتقلوا إليها، وأكثرهم نسى دينه الموروث، أو بقى عليه وهو زاهد فيه!

ومن المهاجرين طلاب أرزاق لم ينقطعوا عن دينهم ولا عن وطنهم ولكن استغرق أوقاتهم وأعصابهم طلب القوت لأنفسهم وأهليهم..!

وفيهم من كان اسمه محمدا ولكن الكنديين أو غيرهم يبغضون هذا الإسم أشد البغض ويستحيل أن يفتحوا لحامله باب رزق فهو يتنازل عنه إلى اسم آخر كي يحيا على أي وجه!

وفيهم طلاب علم انتسبوا إلى جامعات معروفة، وكانوا من قبل غير متشبثين بالتعاليم الدينية، فلما وجدوا التعصب المقابل اعتصموا بدينهم والتزموا حدوده!

وفيهم من أمره فرط، وشهواته جامحة، وجد المجال هناك ميسورا لفنون اللذات فأخذ يركض فيه كأنه حيوان مسعور!

وفيهم من انتقل إلى الخارج ببدنه وبقى روحه معلقا بمواطنه وشعائره، فهو يحن إليها أبدا، ولا يسليه عنها شيء.

وفيهم من كان وثيق الصلات بالإسلام، عارفا بعلل الأديان الأخرى، فبدأ جريئا يأخذ ويرد ويهاجم ويدافع وقد يستطيع أن يجتذب آخرين إلى دينه بالجدال الحسن والاستعراض الجميل.

وفيهم من بقى عزبا، وفيهم من تزوج، وفيهم من أنجب ونشأ أولاده على دينه، وفيهم من فقد نفسه وزوجته وأولاده واستقر في القاع... الخ

وما أغالط نفسي فأهون خسائر الإسلام في هذه الهجرات المتتابعة، لقد خسر الكثير بلا ريب! فهل المسلمون في الوطن الأم، أعني دار الإسلام الرحبة يعرفون شيئا عن هذا؟ وهل لديهم أجهزة ترصد وتسجل؟ كلا إنهم في رقاد عميق!

ومن المقطوع به أن جماهير المسلمين المهاجرين- وهم ألوف مؤلفة- يمكن استبقاؤهم على دينهم، بل يمكن جعلهم طلائع لنشره، لو أرادت الأمة الاسلامية ذلك وعملت له...

والحاجة ماسة إلى مدارس كثيرة لتعليم اللغة العربية، وتنشئة الأجيال الجديدة مرتبطة بالإسلام وفية له، ولا أدري لماذا فرطت الأمة في ذلك وهي تعرف خطورته؟

إننا بهذا العجز نعين على الإرتداد عن الاسلام، ونمهد طرقه!..

و رأيت في الخارج بعض أسر كبرت بناتها، ومع التقاليد الغربية أصبح زواج هؤلاء المسلمات بشباب غير مسلم أمرا سائغا (!) أو لا مناص منه. والنتائج معروفة، تسود لها الوجوه! وقد أفتيت بأن من كان بقاؤه في الخارج سيهدد دينه أو دين أولاده يجب عليه أن يعود فورا إلى وطنه، وإلا فعليه وزر الانسلاخ عن الدين والخروج من الإسلام..

ومن يبق في اليم وهوعاجزعن مقاومة التيار يعد منتحرا، ويبوء بإثمه.. وقد صح قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين.

وقال: " لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو"، فمن أحس أنه سيفقد إيمانه في بلد ما، لم يجز له أن يمكث فيه! بل عليه أن يرسم خطته بالتحول إلى بلد مسلم يأمن فيه على عقيدته ويطمئن فيه على زوجته وولده.!

وقد يعود المسافر يوما، وقد يرجع المهاجر النازح من بلده بعد ما تزول أسباب نزوحه.. لكننا نود لو تكونت مجتمعات إسلامية متكاملة تكون معابر - للإسلام في شتى القارات...

ويحتاج ذلك إلى جهود مزدوجة من الحكومات والشعوب الإسلامية، جهود صاحية جادة مثمرة، فإن ما يسمى بالمراكز الإسلامية في بعض البلدان الأوربية والأمريكية لا يصنع شيئا له قيمة!

إن الإسلام لا يحرسه موظفون، وإنما يحرسه دعاة مخلصون ينشدون وجه الله سرا وعلانية، إن مصعب بن عمير يكاد يكون فتح المدينة قبل الهجرة، ونقل الإسلام الى كل بيت..

وحجر الزاوية في المجتمعات المطلوبة مدارسة تقدم علوم اللغة والدين على نحو سائغ، يستبقى رباط الغرباء بتراثهم وتقاليدهم وعباداتهم، فكأنه ما تغير في حياتهم إلا المكان فقط، وتكون لغة التخاطب في هذه المدارس العربية وجوبا، وتكون الصلوات الجامعة جزءا من اليوم المدرسي لا يتخلف عنه أحد..

ثم يجيء من بعد ذلك دور المسجد أوالنادي، أوأي ملتقى يتم فيه التعارف، وتتقارب فيه الأسر، وتتصافح الوجوه في جو إسلامي مشبع بالإخاء والمحبة..

وبذلك يمكن أن يتزوج المسلم بمسلمة، وأن لا يذوب الفرد في بيئة عاصفة بالشهوات..

والغريب أن الكتاب ليس له موضع عتيد في البيت الإسلامي مع أننا الذين علمنا الغرب كيف يقرأ ويتثقف! ينبغي أن تكثر الكتب العلمية والأدبية والتاريخية والدينية في بيوتنا، وأن يكون الكتاب سفيرا متجولا في عواصم العالم يعرف بنا ويتحدث عنا...

والمسلمون في الخارج أحوج الناس إلى الكتاب العربي المختار يصلهم بجماعة المسلمين الكبرى، ويوثق علاقتهم بماضيهم المشترك، ورسالتهم العامة، ذلك عدا المجلات والصحف الشريفة!

وأرى أن كل بذل في هذا المجال يعذ جهادا تهيأ له منابعه من الزكوات و النفقات المفروضة لاعلاء كلمة الله.

إنني خائف على الإخوة المسلمين الذين يعيشون بعيدا عن دارالإسلام، أن يصيبهم ما أصاب الأقليات الإسلامية ولا يزال يصيبها من خسف وهوان.!

إن المذابح مألوفة بين مسلمي الفلبين والهند وغيرهما..

وقد كان عدد المسلمين كبيرا في أنحاء البلقان عندما انسحب الأتراك من هذه الأرضين، ثم هبط عددهم إلى النصف تقريبا في حروب الإبادة والتنصير التى شنت عليهم طوال نصف قرن..

ولكن بقية السيف أنمى كمايقول العرب، وسنن الله الكونية أن يتزايد المضطهدون مغالبين دواعي الفناء! ومن ثم تضافرت عفة المسلمين وتزاوجهم المبكر المستمر إلى أن تتجه أعدادهم إلى الزيادة وإذا مضت الأمور في مجراها فإن المسلمين سيعودون أكثر من ثلث الروس، وشعوب البلقان..!!

هل يقبل الآخرون ذلك؟ لقد تكونت في غرب أوربا أحزاب تطالب بطرد الغرباء (!) وأهل الكتاب بعامة يضيقون أشد الضيق بالمسلمين، ولا يستبعد غدرهم في أية لحظة!

ومن هنا نرى وجوب توثيق العلاقات بين كتلة المسلمين الكبرى في أرض الإسلام وبين إخوان العقيدة الذين يحيون مبعثرين في أماكن شتى، ما يجوز تركهم أبدا ليواجهوا وحدهم مستقبلا حافلا بالنذر..

ونحن نستطيع أن نصنع الكثير إذا أردنا، أو إذا استيقظنا من هذا الرقاد العميق، وما قيمة الأخوة إذا لم تكن تساندا وتناصرا؟

وقد كتبت كلمة لمؤتمر الدعوة الإسلامية المنعقد للمرة الثانية بالمدينة المنوره أرى أن أثبتها هنا، لصلتها الوثقى بموضوعنا...

أهل القرآن و أهل الحديث

ظهرت في هذه الأيام النكدات فرق من الناس تحمل أفكارا مستغربة، لم تعرفها أمتنا في تاريخها الطويل، ولا تستقيم مع طبيعة الرسالة الخالدة التي عرفنا أصولها وفروعها ومصادرها! وما أجمع المسلمون عليه، وما اختلفوا فيه، وما انعقد حوله شبه إجماع وما تساوت فيه- على وجه التقريب- وجهات النظر..!

من أولئك الناس من تسموا أهل القرآن (!) وهم ينكرون السنة إجمالأ وتفصيلا، ويزعمون أن الإسلام يقوم على القرآن وحده، وعلى ما تأخذه أفهامهم منه..

وقد التقيت بنفرمنهم ف!ا وجدت لهم فقها، ولا أحسنت بهم ظنا، والخط

الذي بدؤوا منه ينتهي حتما بانسلاخهم عن الملة! وباطلهم ينكشف من ناحيتين.

أولاهما: أن العبادات الرئيسية في الإسلام أجملها الكتاب العزيز، وفصلتها سنن متواترة، فما نعرف كيف نصلي مثلا إلا من الأحاديث الشارحة لهيئات هذه العبادة وأوقاتها وأعدادها... الخ

واختراع عبادات أخرى غير ما تواتر بيانه في السنة جنون، وإنكار التواتر مدرجة لإنكار القرآن نفسه، فإن العمدة في إثباته على هذا التواتر الذي يريدون الإفلات منه!

الثانية: أن محمدا عليه الصلاة والسلام أحق بشر بتبيين ما أنزل إليه، وأحق إنسان بأن يعرف تراثه كله من قول وفعل وحكم وتقرير وخلق وسيرة! وإذا أهدرنا هذه الحياة الخصبة الزاكية فيجب أن تطوى صحائف العظماء كلهم، وألا تؤثرعن أحدهم كلمة!

إن محمدا ليس رسولا عاديا! ولا قائدا يشبه قواد العالم المرموقين الجديرين بالدراسة والإعجاب والمتابعة والتأسى! إنه أفق وحده لا يدانيه أفق!

ويوم تترك سيرة محمد وسنته فيجب إهالة التراب على تراث النبيين والحكماء من بدء الخلق إلى آخر الدهر!

من هنا ندرك سر اتفاق الأمة على جعل الكتاب والسنة معا المصادر الأولى للإسلام!

فإذا نجمت فتنة في هذا العصرتريد استبعاد السنة، فإن المقصود في الواقع إضاعة الكتاب والسنة جميعا، والإتيان على الإسلام من القواعد!!

وهناك صنف آخر كثر في هذه الأيام بعد اشتداد الحملة على التقليد المذهبي، ورغبة أولى الألباب في اقتفاء آثار السلف، وهذا الصنف أطلق على نفسه أهل الحديث.!

وطبيعي أن هؤلاء القوم لا يتنكرون للقرآن، بيد أن بصرهم إليه حسير، وتدبرهم له قليل، وفقههم لكلماته ودلالاته أقل...

وقد سمعت بعضهم يقول: نحن نتبع الوحيين! قلت: ماتعني؟ قال:

الكتاب والسنة! فلم أتطفق لعبارته، وقلت: إن النبي صلى الله عليه و سلم معصوم، وكلامه متبوع، ولكن السنة تجيء بعد القرآن، ولكي تعرف مكانتها بدقة يجب أن تعرف أمرين مهمين:

أولهما: أن القرآن قطعي الثبوت حرفا حرفا، أما السنة ففيها المتواتر والصحيح وفيها الحسن والضعيف، وفيها الحديث المنكروالمتروك والموضوع.. و إطلاق عنوان الوحي على هذا التراث كله، ليس بسائغ..

الثاني: أن القرآن يستحيل أن يروى شيء منه بالمعنى، فلفظه ومعناه كلاهما من عند الله ولا كذلك السنة فإن روايتها بالمعنى شائع، ولا يقدح هذا في صحة حديث..

والراوي عندما ينقل المعنى ينقل ما فهمه هو وقد تتفاوت الأفهام، ثم يتم تحرير المعنى المراد بالموازنة والجمع بين شتى المرويات..

ونحن نود لأهل الحديث هؤلاء أن يبصروا قصدهم، فلا يسووا بين آحاد ومتواتر، وأن يستمكنوا من فقه الكتاب قبل أن يشتغلوا بفقه السنة، وأن يعلموا أنه من المستحيل أن يبيح الكتاب وتحرم السنة، أوأن يتجه الكتاب يمينا وتتجه السنة شمالا...

وقديما ضل الخوارج لأنهم كفروا الناس باحاديث لم يفهموها، وضل المرجئة لأنهم يسروا ترك أركان من الدين ما يجوز تركها لأحاديث لم يفهموها كذلك...

هناك (120) عشرون ومائة آية تجعل انتشار الإسلام بالبلاغ المبين وترفض الإكراه في الدين، ومع ذلك فإن من المشتغلين بالحديث من يقدم عليها كلها حديث (بعثت بالسيف بين يدي الساعة)!

وهو- مع ضعفه- يدل على أن الإسلام دين المرحمة و دين الملحمة، أي أنه لا يستبعد السيف حين لا يجدى الندى!

أو حديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله...) وهو حديث باتفاق الفقهاء مقول في أناس معينين فليست كلمة " الناس" على عمومها المادر يقينا.

ومشكلة أهل الحديث هؤلاء أنهم يفهمون الحديث على نحوما، ثم يجعلون فهمهم هو مراد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ويتطاولون بعد ذلك على مخالفيهم، وربما كفروهم واستباحوهم..

واشتغال هؤلاء بالدعوة الإسلامية أثار فوضى محزنة في الداخل والخارج على ما شرحنا في فصول سابقة، وكان صلاح القوم يتم في التفاتهم الى القرآن والسنة معا واستبانتهم معالمهما. ثم في فهم الضوابط التي وضعها المفسرون والمحدثون والمجتهدون الكبار لاستنباط العقائد والأحكام..

وليتهم فعلوا، أو ليتهم يفعلون لمنع الفوضى في الصحوة الإسلامية المعاصرة.

ومن المفيد أن نثبت هنا نقلا طويلا للشيخ محمد الخضري في كتابه تاريخ التشريع، ثم نعقب عليه بما يزيد الموضوع وضوحا قال:

(1) روى الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ قال: ومن مراسيل ابن أبي مليكة أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: انكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه.

(2) قال الحافظ روى شعبة وغيره عن بيان عن الشعبى عن قرظة ابن كعب قال لما سيرنا عمر إلى العراق مشى معنا عمر وقال أتدرون لم شيعتكم؟ قالوا:

نعم مكرمة لنا، قال: ومع ذلك فإنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوى النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا القران وأقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم، فلما قدم قرظة قالوا حدثنا فقال نهانا عمر.

(3) روى عن الدراوردى عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة وقلت له أكنت تحدث في زمان عمرهكذا فقال لوكنت أحدث في زمان عمرمثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته.

(4) روى عن معن بن عيسى قال أنبأنا مالك عن عبدالله بن إدرشى عن شعبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه أن عمرحبس ثلالة ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري فقال قد أكثرتم الحديث عن رسول الله !.

(5) روى عن ابن علية عن رجاء بن أبي سلمة قال بلغني أن معاوية كان يقول عليكم من الحديث بما كان في عهد عمرفإنه كان قد أخاف الناس في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم !.

(6) قال السيوطي في تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك أخرج الهروى في الكلام من طريق الزهرى قال أخبرني عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن واستشار فيه أصحاب رسول الله فأشار عليه عامتهم بذلك فلبث شهرا يستخير الله في ذلك شاكا فيه ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال إني كنت ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم ثم تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله وإنى والله لا ألبس كتاب الله بشيء. فترك كتابة السنن.

وقال ابن سعد في الطبقات أخبرنا قبيصة بن عقبة أنبأنا سفيان عن عمرعن الزهري، قال: أراد عمر أن يكتب السنن فاستخار الله شهرا ثم أصبح وقد عزم له، فقال: ذكرت قوما كتبوا كتابا فأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله،. "من التعليق الممجد على موطأ الإمام محمد".

(7) روى البخاري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي قال ما عندنا من كتاب يقرأ إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنثرها فإذا فيها أسنان الإبل وإذا فيها المدينة حرم من عير إلى كذا فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وإذا فيها ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وإذا فيها من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا.

(8) ذكر في ترجمة عبدالله بن مسعود أنه كان يقل من الرواية للحديث ويتورع في الألفاظ (ولعل هذا من آثار عمر) وروى عن أبي عمرو الشيباني قال كنت أجلس إلى ابن مسعود حولا لا يقول قال رسول الله ! فإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم استقلته الرعدة وقال هكذا أو نحو ذا أو قريب من ذا أو أو.

والنظرة العجلى في هذه الروايات التي رويت عن هؤلاء وهم أئمة الفتوى وقادة المسلمين ربما تبقى في الذهن أثرا غير حقيقي من جهة تمسكهم بالسنة واعتبارها مكملة لتشريع القرآن فإنا إذا نظرنا إلى ما يروى عنهم من جهة اعتبارهم السنة ندرك حقيقة ما كانوا يرمون إليه في طلبهم من الصحابة إقلال الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهاك طرفا منها:

(1) روى الحافظ في تذكرة الحفاظ قال روى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت الى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال ما أجدلك في كتاب الله شيئا وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكرلك شيئا ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يعطيها السدس فقال هل معك أحد وشهد

محمد بن مسله، بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه.

(2) وقال روى الجريري عن أبي نضرة عن سعيد أن أبا موسى سلم على عمرمن وراء الباب ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع فأرسل عمرفي أثره فقال لم رجعت. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع. قال لتأتين على ذلك ببينة أو لأفعلن بك فجاءنا أبوموسى منتقعا لونه ونحن جلوس فقلنا ما شأنك، فأخبرنا وقال فهل سمع أحد منكم فقلنا نعم سمعناه فأرسلوا معه رجلا حتى أتى عمر فأخبره.

(3) وقال روى هشام عن أبيه المغيرة بن شعبة أن عمر استشارهم في إملاص المرأة "يعني السقط" فقال المغيرة قضى فيه رسول الله بغرة فقال له عمرإن كنت صادقا فائت واحدا يعلم ذلك قال فشهد محمد بن مسلمة أن رسول الله قضى به.

(4) وذكر أن عمر قال لأبي وقد روى له حديثا لتأتين على ما تقول ببينة فخرج فإذا ناس من الأنصار فذكر لهم قالوا قد سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عمر أما إني لم أتهمك ولكني أحببت أن أتثبت.

(5) وروى عن عثمان بن المغيبرة الثقفي عن علي بن ربيعة عن أسماء ابن الحكم الغزاري أنه سمع عليا يقول: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا نفعنى الله بما شاء أن ينفعني به وكان إذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال: سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول:

ما من عبد مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ئم يستغفر الله إلا غفر الله له

فهذه الأحاديث تدل على أن أئمة المسلمين وقادتهم في ذلك الدورإنما كانوا يشيرون بتقليل الرواية خشية أن ينتشر الكذب والخطأ على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولذلك كانوا يتثبتون فيما يروى لهم فلم يكن أبو بكر ولا عمر يقبلان من الأحاديث إلا ما شهد اثنان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى طلب أبو بكر من يقوى المغيرة بن شعبة في روايته، وطلب عمرمن يقوى المغيرة وأبا موسى وأبيا، وهم ماهم في الثقة بهم لرفعة مقامهم وعلو كعبهم وكان علي يستحلف الراوي، وإذا تثبتوا واطمأنوا عملوا بمقتضى ما يروى لهم عن رسول الله ولم يخالفوه.

وكان عملهم هذا داعيا إلى التقليل من رواية السنة في هذا الدور والاقتصار منها على ما ثبتت روايته بشهادة شهادتين عند وجود الحادثة الداعية إلى ذكر الحديث.

وكلام الشيخ الخضري جيد السياق والنتيجة، وهو يصورأغلب الحقائق في صلة الأمة بالكتاب والسنة، إنه في فجرتكوين الدولة الإسلامية الكبرى، وعند مسيرة الجيوش لمقاتلة جبابرة الأرض من أكاسرة وقياصرة، لا ينبغي شغل الناس بالتفاصيل الكثيرة والفروع المتشعبة هنا وهناك.

حسب الناس كتاب الله، وما ارتبط به من سنن عملية متواترة، ففي ذلك غذاء كاف لعقائدهم وعبادتهم، وما ينبغي أن يتعاملوا به من أمهات الأخلاق، ومعاقد الفضائل..

بل إن تكوين اليقين الحار والفداء الصادق والرغبة في الاستشهاد والصبرعلى لأواء الجهاد، وإعطاء الأمم الأخرى صورة جميلة عن أتباع هذا الدين والدعاة إليه، إن ذلك كله ما يجمل الا عند عرض الحقائق القرآنية "تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين" فمن زهد في ذلك فلا هداه الله، ولا بشره بخير!!

أما أن ينشغل المجاهدون والدعاة بنشر سنن العادات- وهي لا تنشر- أو بنشر وجهات مختارة من الفقه وإلزام الناس بها- وهي لا تلزم- فهذا شرود عن الدعوة وفتنة عن الدين..

وأهل القارات الأخرى يعرض الإسلام عليهم بهذا الأسلوب المريب الغريب. أي عرض سنن الآحاد دون فقه، أو سنن العادات.

ومن أجل ذلك جادلوا فيه بقوة وانصرفوا عنه بصلف..!

إن أحاديث الآحاد تحتوي على تفاصيل كثيرة، وتتفاوت الأنظار في تقويمها سندا ومتنا ومكانها الطبيعي في المجالس المتخصصة، وبين الأئمة الأصلاء في الفقه..

أما أن يتناولها العوام، ويستخلصوا منها أحكاما، ويجعلوها محور الدعوة أو القنطرة إلى الإسلام فهذا عبث بالدين!

وماذا يكسب الإسلام عندما تكون الدعوة إلى تحريم التصوير الشمسي في بلاد يسودها هذا التصوير؟ أو في تحريم " البدلة " الفرنجية في بيئات لا يصلح لها إلا هذا اللباس؟

وليس لدينا ما يفيد هذا أو ذاك إنما هو رأي " البعض "!

خذ هذا الحكم المقرر في من مات من أولاد الكفار، فقد اختلف العلماء فيهم على أربعة أقوال أحدها: أنهم في الجنة، واحتج من رأى ذلك بما رواه أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " المولود في الجنة" وبما رواه البخاري أن رسول الله رأى في المنام مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين! وآختلف بعد ذلك أيكونون خدما لأهل الجنة أم يكونون مثل غيرهم؟؟..

القول الثاني أنهم مع ابائهم في النار (!) لما رواه أحمد في مسنده (!) أن رسول الله قال: " هم تبع لآبائهم " " أو هم مع آبائهم ".

القول الثالث: التوقف في تحديد مصيرهم لما في الصحيحين أن رسول الله سئل عن أطفال المشركين؟ فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين "!

القول الرابع: أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرضات فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار!

وطريقة الامتحان كما جاء في عدة أحاديث أنه يؤتى بنار يوم القيامة ويؤمرون بدخولها فمن دخلها نجا، ومن نكل عنها هلك (!) 0. (1) ". للشيخ مناع القطان

هذه قضية غيبية من مسائل الآخرة تضاربت فيها أحاديث الآحاد على ما رأيت، فما العمل إذا كانت القضية من عالم الشهادة أو من مسائل العيش التي تعرض للناس كل يوم؟ أنجعل كل رأي دينا ندعوإليه؟ ونشاكس الآخرين عليه؟ أم نجعل الدعوة للأمور المقطوع بها، ونترك للناس حرية الاختلاف والاختيار فيما وراء ذلك..

إن المأساة التي طالما نبهت إليها هي انشغال العقل الاسلامي بالهامشيات، وتعويل الدهماء على أمور ليست بذات بال والذهول عن مشاكل العالم الكبرى في سياسة الحكم والمال.. ودعوة الناس بعد ذلك إلى إسلام يأباه أولو الألباب، وأصحاب الطبائع العادية من البشر.

وهل يقبل الناس إسلاما الحاكم فيه فوق الشورى، فهي لا تقيده، ولا يسأل عما يفعل؟ ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء لأن الإسلام يجعل الخليفة ظلا لله في الأرض؟؟

الواقع أن الكتاب والسنة معا هما مصادر الاسلام الأولى، وأن أهل الذكر لا أهل الغفلة هم، الذين يتحدثون عنه ويدعون إليه، ولا نقبل في هذا المجال من يتسمون أهل القران، ولا من يتسمون أهل الحديث..! إنما نقبل دعاة فقهاء في مصدري الدين، يعرفون القطعي والظني، والأصل والفرع، والرأي والأثر، أي لهم باع طويل في المعقول والمنقول على سواء.

الذين غزوا في عقر دارهم

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال:

" جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم "

ظاهر من الحديث تضافر الجهاد الاقتصادي والعسكري والإعلامي لمواجهة الكفار بكل أسباب المقاومة، وعدم إدخار شيء من القوى المادية والمعنوية لإحباط مكايدهم (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد باسا وأشد تنكيلا..)!

وقد تغيرت أدوات القتال تغيرا بعيد المدى، واتسعت ساحاتها لتشمل البر والبحر والجو..

وكذلك تغيرت وسائل الإعلام وصناعة المشاعر والأفكار، وأضحت الكلمة والصورة والخبر والتعليق والكتاب والصحيفة والراديو والتلفاز، بل الأغاني والفكاهات، أضحى كل ذلك موجها ببراعة إلى غايات مرسومة ووفق خطط موضوعة..

وقد نجح خصومنا في غاراتهم على الأمة الإسلامية واستعانوا بآخر ما بلغه العقل الإنساني من إبداع كي يفتنونا عن ديننا ويسرقوا أرضنا منا..

ترى ماذا أعددنا للدفاع عن مقدساتنا؟ والذود عن مواريثنا؟ وعن دنيانا وآخرتنا؟

لا شأن لي بالحروب الساخنة فلست من رجالها! دائما أهتم هنا بالإعلام دفاعا وهجوما وبالاقتصاد توجيها وهيمنة، فإن الاستعمار العالمي ملح في اغتيال ديننا والإجهاز عليه روحا وبدنا، ومستغل للضوائق وأزمات الجفاف وسنى القحط والمسغبة ليساوم المستضعفين على بيع ضمائرهم وترك عقائدهم...

والأخبار التي تأتينا من إفريقية وآسيا تثير الفزع، وتطير النوم من العيون النائمة!

كانت الدعاية الإسلامية قديما تعتمد على الجهد الفردي وعلى المستوى العالي للسلوك الإسلامي بين التجار والمتصوفة، وعلى البذل الدائم لأغنيائنا كي يساوا الثغرات ويتألفوا القلوب..

وقد أحرزوا أنصبة رائعة من النجاح مدت الإسلام إلى أعماق القارتين القديمتين...

بيد أن هذه الوسائل القديمة وهت، وبعدت نتائجها...

ذلك أن الدعايات المضادة تستخدم الجهد الجماعي لا الفردي! والخدمات المسداة للفقراء والمساكين فوق الحصر، ومن ورائها سياسات بصيرة..! والدول الاستعمارية لا تدخر وسعا في ذبح الإسلام بغير سكين غالبا، أو بالسكين اذا اشتدت المقاومة، وتشبثت الضحية بالحياة!

لابد إذن من أن نعيد النظر في الطرق التي نعرض بها ديننا أو التي ندفع بها عنه!

وقد لفت النظر في الفصول السابقة إلى آراء فلسفية أوفقهية متطفلة على شعب الإيمـان وحقائق الإسلام يجب استبعادها فورا من ميدان الدعوة..

وألفت النظر الآن إلى أن الدعوة لا تنتهي بخطبة بليغة أوحوارناجح! فقد دخل ميدانها أطباء ومهندسون وكيماويون وزراعيون تساندهم هيئات متخصصة. وتمهد أمامهم الطريق.

والرجال والنساء سواء في خدمة الغرض المحدد، ونحن ذاهلون أو مشغولون بما لا يجدى..

قرأت في أخبار العالم الإسلامي (17- 2- 1403 هـ) هذا الخبر تحت عنوان " من أساليب التنصير الماكرة":

راهبة فرنسية الجنسية اسمها أمانويل. نشرت بعض الصحف العربية بأنها تسعى في القاهرة لاقامة مصنع تحيل به الصحراء إلى بساتين وجنات. وتفكرفي إقامة المصنع لاستغلال الزبالة، وتحويلها إلى أسمدة زراعية ليعود ريع هذا المشروع الضخم إلى زبالي مصر. وقد قامت مؤسسة الأرض الخيرية الفرنسية بالتبرع بمبلغ 85 الف دولارمن أجل تنفيذ هذا المشروع الذي بلغت جملة تكاليفه 300 ألف دولار. وتقوم هذه الراهبة بجولة في الدول الأوربية الأخرى لجمع المزيد من التبرعات لتتعجل تنفيذ مشروعها " الإنساني " هذا.

ان الشيء المؤسف أن تشيد هذه الصحف التي أوردت النبأ بتلك الراهبة "الخيرة" وبمشروعها " الانساني "، قائلة عنها أنها تقوم "بمعجزات" لمساعدة زبالي مصر و رفع مستوى معيشتهم بعد أن عايشت فقرهم ومعاناتهم، مؤكدة أنها ستحول أرض مصر إلى جنات خضراء تنتج الخضر والفاكهة وتجلب الرخاء لعشرات الآلاف من أبناء مصر. اذ كيف يفوت على ذكاء هذه الصحف مثل هذه الأساليب الماكرة وهذه الخطط التنصيرية البعيدة المدى رغم أن صاحب الفكرة ومهندسها ومنفذها راهبة، والشيء المؤسف أن تلك الصحف العربية الإسلامية لم تسكت على إيراد النبأ مجردا فحسب، إنما أخذت تمجد هذه " البطلة " وتشيد بمشروعها " الإنساني" وتصفها " بالأخت".

عندما قرأت هذا الخبر لم يستوقفني خداع المخدوعين في الثناء على المشروع المقترح، فربما كان هذا الثناء عن غفلة! والغزو الثقافي صنع الألوف من الغافلين، وربما كان عن تواطؤ متعمد! والغزو الثقافي صنع كذلك الألوف ممن يخدمون المنصرين على حساب الإسلام والمسلمين...!

ولكني تساءلت: هذه راهبة أخلصت لوظيفتها إخلاصا فتق لها الحيلة، و كشف لها الميدان الذي تدعم به دينها، فأين كنا؟ ولماذا لم نسبق إلى أداء واجبنا؟

إن هذه السيدة لها أخت في الهند نهضت بأضعاف هذا الجهد المثمر، وقد نالت جائزة " نوبل" وذهبت إليها ملكة انجلترا لتقلدها أرفع وسام إنكليزي تقديرا لها..

إننا غزينا في عقر دارنا! لا غزوا عسكريا ولكن غزوا عقائديا، ومن العجز القاء تبعات فشلنا على الآخرين...

وأمتنا ملأى بنفوس مؤمنة حافلة بالنشاط والذكاء، بيد أن الأبواب أمامها موصدة! من أوصدها؟ أعرف نساء أرجح من الراهبات الآنف ذكرهن، أعياهن الاعتقال والابتذال والتعرض لما لا يقال!

وأعرف منهن من تقدرعلى الكثيرولكنها لو خرجت لمثل مانجحت فيه تلك الراهبات لقال لها ثرثار سليط: ارجعن مأزورات غير مأجورات!!

وأعرف رجال الهم قرائح مكتشفة نافذة! لكنهم فقراء، فإذاعرضوا ما لديهم على الأغنياء، لم يجدوا جوابا إلا الحقوق كثيرة، وليس لدينا فضل نوجهه ،. فيما تقترحون...

إن مصاريف اللهو والمتاع لا تبقى عندهم شيئا..

وأعرف وأعرف... والكلمة الأخيرة لأمتنا: إن الملل الأخرى حتى ، الوثنية طامعة فيكم! والذي يغزى في عقر داره يذل، فإلى متى تنتظرون؟ تشبثوا بالإسلام وأصلحوا أجهزته العلمية والإدارية، وأروا الناس حقائقه ! تظفروا بالحسنيين...

خطوات نحو توثيق الاخاء و تصحيح الانتماء

تنتمي إلى الإسلام اليوم أمم كثيرة، وهو انتماء يحتاج إلى تقديرو وزن دقيق كي تعرف حقيقته وقيمته! ومعاذ الله أن نشك في إيمان مؤمن، فالمسلمون حيث كانوا من أحرص أهل الأرض على التمسك بدينهم، وتوكيد الانتساب إليه!

في عملهم بدينهم، ولقائهم بإخوانهم، وأدائهم لرسالتهم.

هناك مسلمون يعيشون في ظل حكم علماني ليست له- ولو في الظاهر- صبغة دينية، وهوحكم يرفض الارتباط بالإسلام، أو الاعتراف بأثره على الدولة، أو هو يسوى بين الإيمان والالحاد ويستبعد الشريعة الإسلامية من قوانينه الداخلية وعلاقاته الخارجية جميعا..

وربما كان المسلمون في ظل هذه النظم العلمانية كثرة مطلقة أو ذاتية أوكانوا أقليات مرهقة!

وثلث مسلمي العالم تقريبا من هذا القبيل، ويجب أن نذكر وضع هؤلاء حين نتكلم عن الدعوة الإسلامية، ووحدة الأمة الكبرى...

وهناك مسلمون أعلنت حكوماتهم ولاءها للشيوعية العالمية، وقررت في الداخل والخارج والارتباط بالكتلة الشرقية، وهي تحكم رعاياها على أساس التمهيد لهذا المذهب، وتقديم الولاء له على كل ولاء! وقد تذكر الإسلام بشر أو لا تذكره، وقد تجتهد في تطويع تعالميه لفلسفتها المادية.. وما يجوزأن يغيب عنا هذا الوضع سواء كان في روسيا أو الصين أو بعض البلاد العربية...

وهناك مسلمون رفضت حكوماتهم أن يكون الاسلام دستور الدولة، ووضعت خطتها على أساس الخلاص منه على مر الزمن، كما أن هناك حكومات أقل خصاما، إستبقت العنوان الإسلامي على تشريعات وتوجيهات مجلوبة من الدول الاستعمارية، وهي تحرس هذه وتفك بسلطاتها الكثيرة وتأبى تغييرها..

وهناك مسلمون مخلصون لدينهم معلنون الولاء له، بيد أن تطبيقهم له رديء الفقه مثير للاعتراض والقلق وأعداء الإسلام التقليديون يتهمون هؤلاء بالتخلف الحضاري والميول العدوانية (!) ولعل الحرب المعلنة على الصحوة الإسلامية المعاصرة تنظر إلى مسالك هؤلاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم!

ونسارع إلى القول بأن هذه الملاحظات على أوضاع المسلمين لا تعني تصنيف جماهير الأمة في المشارق والمغارب، وإقامة فواصل بينها، فلا تزال الأمة متماسكة الإيمان، ولا تزال الروافد التي تصون وحدتها جياشة حية، ولا يزال الحنين إلى الجامعة الإسلامية، والخلافة العظمى قارا بالأفئدة، مخامرا للنفوس...

أن نقصى أسبابه، ونغلق أبوابه..

إلى أواسط القرن الرابع عشر الهجري كانت للمسلمين خلافة كبرى، فقد بقى الأتراك قرابة خمسة قرون يقودون العالم الإسلامي! ثم تظافرت الفتن الداخلية والمؤامرات اليهودية والنصرانية على الدولة العجوز فنالت منها شرمنال،. وجاء انتقاض العرب على دولة الخلافة إبان الحرب العالمية الأولى، فأجهز على وجودها..

وبدا كأن القومية التركية والقومية العربية هما السبب في إنتهاء الخلافة وذهاب ريحها، وما ينكر عاقل أن هذه النزاعات الجنسية المريبة أوهنت الأمة الإسلامية وزلزلت كيانها وأصاب الإسلام منها شر مستطير..

ولما كان الإسلام رسالة عالمية، ولما كانت الأجناس التي اعتنقته كثيرة ولما كانت حضارته العظيمة من صنع هذه الأجناس كلها، فإن إثارة النعرات العرقية صدع للبناء الإسلامي وعود للجاهليات الأولى..

ومن ثم يجب في دعوتنا لإحياء وحدتنا أن نميت صيحات الجاهلية وأن نبرز العنوان الإسلامي وحده أساسا للنهضة والبعث والانطلاق إلى مستقبل أفضل. ومعلوم أن القوميات الكبرى تحمل في أحشائها قوميات صغرى! وقد انتهت هذه وتلك- تحت وطأة ظروف شتى- إلى جعل المسلمين مقسمين على سبعين جنسية سياسية، ونحن لا نصادم الواقع المؤسف، وإنما نبغى حصره داخل سياج المصالح المدنية والعمرانية على أن يكون ولاء المسلمين الأول لدينهم، وإحساسهم الأقوى بأخوتهم الإسلامية، وتساندهم جميعا في وجه قوى تبيت لهم الشر، وتسعى لتأتى على الإسلام من القواعد...!

ولكي نعمق الولاء للإسلام، ونردم الوهدة التي تفصلنا عن ماضينا الزاهر، نشرح الحقاثق الآتية:

لا يمكن تصورتضامن إسلامي ناجح بين سلطات، بعضها يكره الإسلام، وبعضها الآخر يرفض تعاليمه في ساحات كثيرة أو قليلة..

وقد رأينا دويلات " إسلامية " تغمض العين على اجتياح الروس لأفغانستان المسلمة، لأن ذلك يغضب سادتها الحمر!

إن أي وحدة منشودة أوتساند مقترح ينبغي أن يتفق في الوسيلة أو في الغاية، ووحدة الصف أو الهدف تعتبر وهما مع هذا الخروج على المقررات الإسلامية البديهية..

وما قيمة تضامن إسلامي يقبل ابتلاع الشيوعية لقطر إسلامي؟ وما معنى هذا التضامن إذا كان البعض يأبى بعنف أن يكون الجهاد الإسلامي عنوانا لاسترداد فلسطين مثلا؟

إن الإسلام الذي نسعى لإنصافه يتطلب ابتداء التحقق من طبيعة الأجزاء التي يتكون منها عالمه الكبير! لكننا لا نحب أن نتغاضى عن الجماهير الطيبة المغلوبة على أمرها والتي تخضع كارهة لسلطات زائفة...

وقد يفرض هذا علينا مسلكا معنتا محيرا، بيد أننا لا نعجزعن تحضير مواد ثقافية وإعلامية تعين جماهير المسلمين المحرجين على الثبات حتى يأتي الله بالفرج! فما تكون هذه المواد المطلوبة؟

إن تحديدها يتم عندما نعرف مراد أعداء الإسلام، وخططهم للنيل منه! فلنكن صرحاء في مواجهة أوضاع المسلمين المعاصرين! إن القوى المعادية للإسلام شرقية كانت أو غربية، علمانية أو دينية بعدما اقتسمت العالم الإسلامي بينها شرعت في محوعقيدته بعد محو دولته، وفي تحقير شعائره بعد استبعاد شرائعه، وفي طي معالم الحلال رالحرام والمعروف والمنكر، وجعل الشعوب العزلاء المهزومة تحيا وفق منطق آخر، وتسير نحوهاوية حفرت بخبث ودهاء..

وعلى المسلمين الذين نجاهم الله من هذا البلاء أن يدركوا إخوانهم، وأن يقدموا لهم العون الروحي والعلمي الذي يستبقى إيمانهم، ويحبط محاولات التكفير والتنصير والتهويد التي يتعرضزن لها...

وهنا يجب إبراز ثلاثة أمور...

الأول:

إشعار الأقليات الإسلامية، والجماعات الساعية لاستعادة الحياة الإسلامية الكاملة أن التمزق الحالي للمسلمين هو محنة عارضة، سبق أن تعرض الكيان الإسلامي لها ثم تغلب عليها ونجا منها، وأن الاستسلام للهزيمة خطأ وفقدان الثقة في المستقبل إثم.!

وعلى المسلم في أي بقعة أن يناشد إخوانه التجمع على الصلوات الخمس، وإرسال المستطيع لأداء فريضة الحج، كما يجب الاهتمام بالقضايا الإسلامية كلها ومقاومة الشتات الذي يوهى الأخوة الدينية، ويدفع الفرد إلى الاهتمام بشئونه وحدها..

إن الهزيمة تجيء من داخل النفس قبل أن تجيء من ضغوط الأعداء، ولسنا أول أمة ابتليت، وفرض عليها أن تكافح لتحيا كما تريد.

الثاني:

عقيدتنا أساسها التوحيد، وهو في الإسلام موضوع وشكل، وفرع وأصل، وعقل ونقل! ويستحيل أن يكون التثليث النصراني أو التجسيد اليهودي أرجح منه في الميزان أو أولى منه بالقبول!

والمحاولات الآن دائبة لصدع هذا التوحيد ونسيان كلمته، ويوجد نحومائة ألف " مبشر " للفاتيكان يعملون بجد ضد عقيدة التوحيد، ذلك فضلا عن سماسرة الكنائس الأخرى، ولهم رسائلهم بل إذاعاتهم التي تخرق الآذان صباحا ومساء، والتي يكثر فيها الحديث عن عقيدة الصلب والفداء...

وواجبنا نحن المسلمين المتمتعين بالعافية أن نلقي هذه التيارات بتيارات أشد، وأن ندمغ الباطل بما أوتينا من حق، وأن ننقذ الألوف المؤلفة من هذه الغارات المتتابعة..

إن هذه الغارات أحرزت بعض النجاح لتهاوننا في ردها، واستنقاذ البؤساء من مخالبها، ولو أبدينا اليقظة المطلوبة لباءت بالفشل الذريع..

لقد اشتغلنا بفضول علمية عن هذه الفريضة! فلنعلم أن البحوث والخلافات الفقهية الشاغلة عن صون أساس الدين جريمة بشعة...

كما إنه ينبغي لفت المسلمين إلى الحقوق الإنسانية، الاجتماعية والاقتصادية التي يتضمنها الإسلام، والتي تعجز عن تقديم مثلها المذاهب المحدثة كلها، وبذلك ينصرف المخدوعون عن اتباع فلسفات باطلة، ويعلمون أن دينهم فيه الوفاء التام لأشواقهم النفسية والاجتماعية والسياسية...

والأمر الثالث:

أن تكون ثقافتنا المذاعة والمنشورة قائمة على التقريب لا المباعدة، والرتق لا الفتق! إن الألف مليون مسلم تشيع بينهم أخطاء فكرية وخلقية فاحشة، وهل استمكن منهم أعداؤهم إلا لهذه الأخطاء المستقرة؟ والناصح المسيء كالطبيب الطائش قد يقتل مريضه بدل أن يحييه! وعلينا أن نعالج برقة، وألا نسترسل مع العناد، وأن يتسع أفقنا لوجهات نظركثيرة، فإن مسلما يتبع أي مذهب معتبر أقرب إلينا من غيره.

وسوف نرى نزاعا بين مسلمين مخلصين وبين الحكومات التي يخضعون لها، إن هذا النزاع لابد أن يدرس بأناة وصدق، وأن نحدد موقفنا منه بما يرضي الله، مع بذل الجهد في عدم إحراج السلطات التي تعيش في ظلها..

لنفرض جدلا أن نفرا من المؤمنين رفضوا في بلادهم قانونا بتحليل الخمر، أوقانونا بتسوية الذكوروالإناث ني الميراث، إن هؤلاء الرافضين يعدون في بلادهم متمردين أومتطرفين! فهل نعدهم نحن كذلك؟ ونحث في وجوههم التراب؟ أم نفتح لهم قلوبنا و نوسع لهم بيننا؟

إن العلاقات الرسمية بين الدول لا يجوزأن تكون سببا في تقويض الإسلام ونقض دعائمه!

والتضامن الواجب بين المسلمين جميعا يفرض علينا أن نتصل بالمجاهدين من كل نوع لنرشدهم إلى أنجع الوسائل، ولننهضهم إذا كبوا، و نؤنسهم إذا استوحشوا، وندعمهم إذا استضعفوا

وثم سؤال لأغنياء المسلمين؟ إن أميركا لا تمنح عونها إلا من يتجاوبون معها، ويقبلون سياستها! وكذلك يفعل الروس! فما هو الأساس للعون الإسلامي الذي يبذل لكثيرين دون سبب واضح؟

هناك دول تقتل المجاهدين، أو تقيد حرياتهم، أو تتبنى معتقدات إلحادية، وتغرسها بالسلاح! كيف ينال هؤلاء قليلا أو كثيرا من المال ا لاسلامي؟

ونحن نعرف أن الدول التي تشجع الهجرة إلى أرضها تغلق الأبواب في وجوه المسلمين الوافدين، فلماذا لا نعاملها بالمثل؟ أما آن الأوان لوضع قوانين أو تقاليد للعمالة المنتشرة بين دول الخليج كلها، حتى تشعر الدول التي تكثر فيها المذابح بين المسلمين أنها مؤاخذة بهذه الهمجية؟

إننا- دون تشريع قائم- كان يجب أن نوثر إخوان العقيدة، وأن نهدم المعابر التي أقامها التبشير في بعض الأقطار عن طريق الأيدي العاملة غير المسلمة، لكن الذي يقع يستدعى العجب، فالعامل الأجنبي يجيء إلى أي بلد عربي، فبدل أن يتقن لغة القوم الذين ضمنوا معايشه، يريد بوقاحة أن ينقل الناس إلى لغته الأصلية أو إلى اللغة الانجليزية التي استعمرت بلاده، وقد يبقى سنين طويلة لا يفكر أبدا في تعلم العربية أو احترامها واحترام الناطقين بها.!!

وأختم كلمتي باقتراحين وجيزين:

الأول:

إنشاء مكاتب في وزارات الخارجية العربية للعناية بالقضايا والأقليات الأسلامية واتخاذ مواقف إيجابية فيها.

الثاني:

مضاعفة الجهد في وزارات الإعلام لجعل البرامج الموجهة على درجة من الكفاية الثقافية لتستطيع خدمة اللغة العربية، وتعليمها لمن يجهلونها وكذلك لدعم القيم الدينية، ورد الشبهات التي تثار حولها...

ختـــــــام

ما أكثر الميادين الممهودة أمامنا لوأردنا خدمة الإسلام عن طريق الدعاية والتثقيف وتوعية غيرنا بما عندنا..

أمامنا تعليم لغتنا، وإضفاء الصبغة العالمية عليها، وتحسس الطرق المستطاعة لإيلاف الأجانب النطق والكتابة بها..

إن ذلك يتطلب مجالس متخصصة كثيرة لاختيار الأفعال والمصادر والجموع التي يمكن ضبطها تحت قواعد سهلة..

وإحصاء ما يحتاج إليه الأجنبيئ من كلمات منتقاة بحكمة لتسد الحاجات

المادية والمعنوية والروحية التي لابد منها..

ولكن المسلمين- أعني العرب خاصة- منهزمون نفسيا، وهم أعجزمن أن يتعلموا لغتهم فكيف يعلمونها للآخرين؟ وأكسل من أن يهيئوها لألفاظ الحضارة المحدثة فكيف يقدمونها لأمم ربما كانت أوسع آفافا، وأغزر معرفة؟؟

وأمامنا- بعد تعلم اللغات الأخرى- أن نودعها أصول رسالتنا ومعالمها العامة- وهذه مهمة تتطلب هي الأخرى مجالس متخصصة، فإن المسلمين إبان هزائمهم الحضارية الأخيرة ابتلوا بمن قلب لهم شعب الإيمان رأسا على عقب، وجعلها ركاما فوضويا اختفت منه أصول، وبرزت فروع..

وعلينا أن نغلغل البصر في أحوال الشعوب وتاريخها وعاداتها وميولها وأشواقها حتى نحسن الوصول إلى فطرتها وعندئذ نصلها بالاسلام من أخصر السبل.. إن اختلاف الألسنة حقيقة كونية وآية إلهية، وما دمنا حملة رسالة عالمية فلا معنى لانحصار هذه الرسالة في اللسان الذي نزلت به!

والكسل لا يسوغ الكسل، والتفريط لا يستتبع التفريط..

إن عشرمعشار ما ملك العرب من أموال كان حقيقا بأن يسد هذا الخلل، ولكن فقر النيات والمواهب قعد بنا ونال منا، وحسابنا عند الله عسير... وعندما نبدأ جهاد الدعوة عالميا فستقوم مؤسسات شعبية ومبادلات ثقافية تتوزع عليها جهود شتى وتستغرق أنشطة جماهير من الرجال والنساء...

وقد تشتبك المجالات العلمية مع مجالات اقتصادية وسياسية أخرى، والمهم أن نعرف: من نحن؟ وما رسالتنا؟ ثم تتدافع التيارات كلها لتحقيق الغاية المنشودة...

وقد قرأت للدكتور حسن المعايرجي بيانا عن ضرورة انشاء مجمع لترجمات تفسير القرآن الكريم! وذلك لوقف الفوضى الرهيبة فيما يسمى ترجمات القرآن، وما تتركه في نفوس القراء من آثار مضادة للإسلام أو مضللة عن منهجه..! قال:

ينتشر الإسلام دون توقف منذ أن بلغ سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم رسالته الى البشرية كافة. ويبلغ المسلمون الآن حوالي المليار نسمة ينتشرون على مساحة متوسطة من العالم تزيد على ربع مساحة المعمورة وتقدر هذه المساحة ب 37 مليون كم 2 من أصل 136 مليون كم 2 من اليابسة.

ويعيش ثلث المسلمين على شكل أقليات تحت حكومات شيوعية أو وثنية أو مسيحية أو يهودية، وبلغ ما أمكن حصره من اللغات التي استعملها المسلمون في ترجمة أو محاولة ترجمة معاني القرآن الكريم حوالي 124 لغة وهذا العدد لا يمثل الا جزءا صغيرا من اللغات التي يستعملها المسلمون، حيث أن هناك شعوبا اسلامية كثيرة ليس لديها تفسير مطبوع للقرآن ا لكريم بلغاتها حتى الآن و ان كانت بعض الشعوب الإفريقية لديها تفاسير غير مكتوية تتناقلها الألسن مشافهة.

وكان يصاحب انتشار الإسلام في الصدر الأول انتشارمواز للغة العربية بحيث أن الحاجة إلى تفسير للقرآن الكريم بغير العربية كانت قليلة أو غير واردة ولم يبدأ ظهور تفاسير باللغة الفارسية إلا في عام 315 هـ حيث تم ترجمة تفسير الطبري.

وفي عام 734 هـ تم ترجمة نفس التفسير إلى التركية، أما الأردية وهي لغة أحدث من السابقتين فقد ظهرت أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم عام 1190 هـ والتي قام بها مولانا شاه رفيع الدين.

وقد كانت التفاسير و ترجمة المعاني تنبع من حاجة إسلامية وبايد إسلامية أمينة على تبليغ رسالة الإسلام ومعاني القرآن الكريم لمن لا يحسن العربية

وبعد فتوحات المسلمين في أوروبا والأندلس واحتكاك المسلمين والمسيحيين في الحروب الصليبية وغيرها بدأ المسيحيون في ترجمة معاني (القرآن الكريم) في محاولة للتعرف على كتاب محمد أو التعرف على القانون التركي أو على قرآن محمد كما أطلقوا عليه وقد ترجم إلى اللاتينية بمعرفة رهبان ديركلوني عام 508 هـ وحفظت هذه الترجمة لدراسات الرهبان للتعرف على دين المسلمين ولم تطبع الترجمة إلا في عام 950 هـ ومن هذه الترجمة نقلت ترجمات الى الفرنسية والألمانية والإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية حيث أن المترجمين لم يكونوا على علم باللغة العربية فوجدوا الترجمة اللاتينية أقرب منالا. وبعد هذا التعرف المبدئي بالإسلام عن طريق هذه التراجم اشتد ساعد الأوروربيين في حربهم للإسلام وظهرت حركات التبشير والاستشراق وانقضوا على تراثنا الإسلامي اما بحرقه في أسبانيا أو بنهبه وحفظه في مكتباتهم وجامعاتهم أو بدراسته واثارة الشبهات كلما أمكنهم ذلك، وكانت ترجمة معاني القرآن الكريم وسيلتهم لتحريف الكلم عن مواضعه أو لصرف أقليات إسلامية سقطت تحت حكمهم عن النص القرآني الكريم وتحويلهم إلى ترجمة ميسرة بلغتهم كما حدث في بلغاريا إذ قام المبشر الألماني هوبه و فريق من الدارسين بعمل ترجمة باللغة البلغارية لشعوب البوماك المسلمين وكان حدثا اعتبره المبشرون عيدا، وكالترجمة التي قام بها القس جودفري ديل بالسواحيلية ووزعها على مراكز التبشير ومدارس الأحد في شرق أفريقيا حتى يمكن محاجة المسلمين عن علم ومناقشتهم عن معرفة. وهكذا نجد أن ترجمة معاني القرآن استخدمها أعداء الإسلام لمحاربته.

واقترح الدكتور حسن المعايرجي بعد مقدمات وافية ما يأتي:

حصر ترجمات معاني القرآن الكريم بشتى اللغات..

جمع نسخ من هذه الترجمات لتكون مكتبة كاملة يستعين بها الباحثون و المحققون.

تمحيص تلك التراجم لتعميم الجيد منها والتحذيرمن السيء والمشبوه.

اختيار تفسير حسن للقرآن الكريم وترجمته إلى اللغات الأساسية وتوزيعه على جماهير المسلمين..

والدكتور معذور في اهتمامه بـ "الأعاجم المسلمين" فهم أكثر من أربعة أخماس الأمة الإسلامية الكبيرة! وإن كان العرب المسلمون ما أحسنوا تيسير العربية لهم، ولا نقل الثقافة الإسلامية بألسنتهم!

بم اشتغل العرب؟ ولماذا ينتظرون أن يجيء الناس إليهم بدل أن يذهبوا هم إلى الناس؟ أليست هذه خيانة لأمانات الدعوة وتفريطا في جنب الله؟ وماذا كسب العرب من تنازعهم على السلطان؟ وعشقهم للرياسات؟ وتقاتلهم على الحطام والبريق الخادع؟

لا شيء إلا ضياع الدين والدنيا معا

نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا مانرقع

أمامي الان خبران غريبان، لكل منهما إيحاؤه واثاره.

الأول نشرته جريدة الراية القطرية تحت عنوان " أكبر عالم اقتصاد في العالم يعتنق الإسلام".

قالت: أعلن منذ أيام رجل الاقتصاد البريطاني " أحمد كريستوفر شامونت" أنه دخل في الإسلام، قال: لقد وجدت في الإسلام ما كنت أبحث عنه! فأي مشكلة يعاني منها المرء في حياته سوف يجد حلها في القرآن الكريم.!

ثم يقول أشهر إقتصادي إنجليزي: إن الإسلام يخاطب العقل الإنساني، ويضعه على مشارف الطريق الحق، ويضمن له سعادة الدنيا والآخرة! ويقول: إنني حتى الآن قرأت ست سور من القرآن الكريم، وقد شعرت بأن الإسلام يملك أسباب التقدم الحضاري والتفوق العلمي، ولكن المسلمين متقوقعون (!) يعيشون بعيدا عن هدى دينهم، وهو ما جعل غيرهم من الشعوب يسبقهم، ويرجح عليهم.. ولم يكن المسلمون الأوائل على هذا النحو السيء! لقد كانوا أول سالك لطريق الحضارة والتقدم في شتى الميادين العلمية والإجتماعية والإقتصادية..!

هذا الخبر ناطق بأن الإسلام يشق مستقبله بقواه الذاتية وخصائصه العقلية ونستطيع أن نؤكد أن العقل الأوربي أسرع شيء إلى قبول الإسلام والابتهاج به يوم يعرفه معرفة صحيحة..

إن هذا العقل المتفتح الذكي لا يستسيغ الإلحاد! والالحاد في الحقيقة مرض نفسي وليس يقظة فكرية.

كما أن هذا العقل الأوربي المستقيم يأبى التعدد والتجسد وسائر المتناقضات التي حفلت بها أديان أرضية وسماوية! ولا ريب أن المفهوم الإسلامي للألوهية مشرق المعنى والدليل، ولا يصد عنه امرؤ سليم الفطرة..!

فلننظر إلى الخبر الآخر الذي جاءنا من أميركا! لقد قالوا: ان سلطات الأمن في واشنطن أمرت بإغلاق المسجد في المركز الثقافي الإسلامي (!) لماذا؟

الان القوم هناك يضنون بحرية التبليغ على أتباع الإسلام؟ كلا، فحرية الدعوة مكفولة.. لكن الذي حدث أن المسلمين من رواد المسجد أنقسموا على أنفسهم انقساما شائنا، ووقعت بينهم فتن عكرت صفو الأمن، فرأت الدولة أن تستريح من هذا الشغب!

ترى ماذا قسم المسلمين هناك، وأفسد ذات بينهم، وانتهى بإغلاق مسجدهم؟؟

قالوا: نزاع بين أتباع السلف وأتباع الخلف تفاقم حتى أوقد بينهم حربا لا تؤمن عقباها!!

وتصورت أنا ما حدث، يصلي إمام شافعي المذهب فيجهربالبسملة، ويقنت في الفجر، فيقول له مأموم من السلف: الجهربالبسملة لم يرد، والقنوت في الفجر بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار!!

ثم يحاول هو ومؤيدوه أن يصلوا على مذهبهم هم، وهنا يتشابكون، ويكون النزاع بالأيدي ويخاف نصارى واشنطن أن يتحول إلى تشابك بالنعال أو بالنصال فيغلقون المسجد!

وربما كان الخلاف: هل يجهربختم الصلاة أويسر؟ هل تقرأ سورة الكهف قبل الصلاة أم سورة أخرى أم لا قراءة البتة؟

وهذه الخلافات الهائلة يمكن تصعيدها إلى مجلس الأمن، ولكن من يدري! ربما استعمل الروس حق الاعتراض الفيتوا فخذلوا السلف، أوهزموا الخلف!!

إن المسلمين القادمين إلى العالم الجديد يحملون معهم كما قلت من قبل أدرانهم الفكرية، وجراثيم العفن الخلقي الذي أزرى بهم وبدينهم على سواء!! أترى الاسلام يحرز نصرا في ميادين الدعوة بهذا التفكير؟ ماذا لو عولجت هذه القضايا الثانوية على مكث، وتركت وجهات النظر الغالبة أو المغلوية تحيا كيفما اتفق، وتعاون الجميع على خدمة العقائد والأخلاق والعبادات المجمع عليها- وما أكثرها- وبقيت الأمور الخلافية معفلة، أو ماضية على أي وجه؟ إنني بعد ما بلوت أصحاب هذه القضايا استقر عندي أن القوم يتعصبون لأنفسهم! وأن العناد واللجاج مظهر للغلب الشخصي تحت ستارمن اسم الله، وحقائق الدين!!

إنهم يفقدون نكران الذات، وإيثار الله، ومصلحة الإسلام العليا!

إن هؤلاء الناس محتاجون إلى مزيد من التربية الخلقية والزكاة النفسية والتعلق بالآخرة.

أما عناوين السلف والخلف فهي قشور.. وحاجة الإسلام إلى الفقه الذكي مثل حاجته إلى النية الصالحة، ولن يفيده مخلص أحمق، ولا عالم مفتون!!