محيي الدين القليبي
بقلم / المستشار عبد الله العقيل
مولده ونشأته
وُلد في بلدة (اقليبية) في تونس سنة 1318هـ 1901 م) تعلم في جامعة (الزيتونة) واشتغل بالصحافة وتولى تحرير جرائد (الإرادة) اليومية و(الصواب) الأسبوعية و(لسان الشعب) الأسبوعية.
وترأس تحرير صحيفة (الزهرة) وهي أقدم صحف تونس العربية؛ وأدار أعمال الحزب الدستوري التونسي بعد سفر رئيسه (عبد العزيز الثعالبي) إلى الشرق.
وقد قال له الثعالبي: جعلت الحزب أمانة في عنقك.
اعتقـله الفرنسيون سنة 1934 م ونُفي إلى الصحـراء ثم أطـلق سراحه بعد سنتيـن تقريبـاً. وحج إلى بيت الله الـحرام سنـة 1947 م ثـم سـافر إلى مصر واستقر فيهـا مواصلاً العمل لقضية بلاده، وهـناك التـقى الإمام الشهيد حسن البنا ـ المرشد العام للإخوان المسلمين ـ الذي عاونـه وساعـده في التعريف بقضايا المغرب العربي من خلال صحف الإخوان المسلمين ومجلاتهم.
صفاته
هو الرجل الفذ والزعيم بحق والمجاهد بصدق، الذي يؤثر العمل على القول، ويجول في البلاد الإسلامية شرقاً وغرباً، معرفاً بقضية بلاده المسلمة تونس ، التي استعمرها الفرنسيون وأذاقوا شعبها ألوان البلاء وأنواع العذاب، ونشروا فيها الفسق والفساد، وأحلوا فيها الدمار والخراب، وعملوا على سلخها من دينها ولغتها، وتجريدها من أخلاقها وتقاليدها، لتحويلها إلى قطعة من فرنسا بمفاسدها ورذائلها ومباذلها.
اتصف هذا الزعيم التونسي الكبير بالالتزام الإسلامي في قوله وعمله، وأخلاقه وسلوكه، كما كان النموذج الصادق للمسلم المعتز بدينه المستعلي بإيمانه، المترفّع عن مراتع خفافيش الظلام وأشباه الرجال من أدعياء الزعامة الفارغة والأمجاد الكاذبة من الدمى المتحركة، التي يسلّط عليها المستعمرون أضواءهم، ليصنعوا منهم أبطـالاً يخدعون بهم الشعـوب وهم في حقيقة أمرهم عبيد للمستعمرين مسخرون لخدمتهم وترسيخ أقدامهم في ديار المسلمين.
معرفتي به
رأيت صورته المنشورة في صفحة التعارف الإسلامي ب([[مجلة الشهاب) الشهرية التي كان يصدرها الإمام الشهيد حسن البنا سنة 1947 م؛ وقرأت تعريف الإمام البنا بشخص الزعيم القليبي فتعلّق قلبي به وأكبرت جهاده وجهوده في سبيل الإسلام والمسلمين وبخاصة المغرب العربي؛ وحين سعدتُ بلقائه وجدته أكبر مما كنت أتصور؛ فهو شخصية فذّة وداعية مجاهد، صلب العود، قوي العزيمة، دائم العمل في الليل والنهار، كثير التجوال والترحال في سبيل الله والمستضعفين في الأرض.
جولاته ورحلاته
قام المجاهد المسلم محيي الدين القليبي بجولات أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات الميلادية في كل من مصر و سوريا و العراق و الأردن وغيرها من ديار العروبة و الإسلام ، التقى خلالها رجالات الإسلام وأعلام الحركة الإسلامية أمثال الإمام الشهيد حسن البنا بمصر والشيخ الصواف بالعراق والدكتور السباعي بسورية وغيرهم من قادة الفكر ورجال الدعوة وزعماء المشرق العربي والمغرب العربي على حد سواء، وكانوا يتدارسون الأوضاع في بلدان المغرب العربي بخاصة والعالم العربي والإسلامي بعامة، وكان الصراع المحتدم بين دعاة العروبة و الإسلام من جهة، وبين دعاة التغريب والفرنسة من جهة أخرى، وكان الاستعمار الفرنسي يمدّ الفريق المعادي للعروبة و الإسلام بكل وسائل الدعم والمساعدة والتأييد والمساندة والعون والتعضيد.
وكانت لقاءات القليبي مع القادة والزعماء المسلمين ذات مردود طيب وأثر نافع، حيث أقيمت المؤتمرات وعقدت الندوات وقامت المظاهرات الصاخبة وارتفعت الأصوات تدين فرنسا وتطلب منها رفع يدها عن تونس وغيرها من بلاد المغرب العربي، كما أصدرت مجلة (الإخوان المسلمون) الأسبوعية أعداداً خاصة عن شعوب المغرب العربي ومعاناتها من الاستعمار وجهادها ضد فرنسا وكشفت عن جرائمها البشعة بحق هذه الشعوب المسلمة.
بساطته وزهده
كان الأستاذ القليبي بسيطاً في مظهره غاية البساطة، حتى إن أحد الإخوة السوريين المكلّف بمرافقته اقترح عليه أن يرتدي ثياباً جديدة لمقابلة رئيس الوزراء الذي كان على موعد معه، فغضب القليبي غضباً شديداً وقال للأخ: إننا لا نقابل الناس بثيابنا ولكن بنفوسنا، والرجال بمخابرها لا بمظاهرها، فسكت الأخ وردد قول الشاعر:
وإذا كانت النفوس كباراً
- تعبت في مرادها الأجسام
واستقبل رئيس الوزراء السوري الأستاذ القليبي بكل احترام وتقدير وإكبار وتوقير، للمهابة التي يتميز بها والأخلاق العالية التي يتصف بها، وكان الرئيس أذناً صاغية لما يقوله هذا الزعيم المجاهد عن أحوال الشعب التونسي المضطهد ومعاناته من ظلم الاستعمار الفرنسي وصنائعه من العملاء المرتزقة.
توجيهاته
كان القليبي في أحاديثه للشباب المسلم الذين التقاهم في مصر و سوريا و العراق و الأردن و فلسطين ، يؤكد على ضرورة بناء الشخصية الإسلامية، المتميزة بصفاء العقيدة، وقوة الشخصية، ومتانة الخلق، ورجاحة العقل، والحكمة والتروي في محاكمة القضايا والأحداث، ويثير فيهم معاني الاعتزاز بـ الإسلام ، والانتساب لهذه الأمة، التي هي خير أمة أخرجت للناس، كما كان يؤكد على عالمية الإسلام ووحدة الشعوب الإسلامية وضرورة انصهارها في بوتقة واحدة، ترفع راية التوحيد، وتستظل في ظلال الإسلام، وتحكِّم شرعه بين الأنام.
كما كان يوضح بأن الطريق لتحقيق ذلك إنما يكون ببناء الرجال الأشداء الذي يسلكون مسلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين والسائرين على نهجهم دون التفات للمتخلفين أو المثبطين، لأن الحياة صراع بين الحق والباطل والكفر والإيمان، و الإسلام دين لا يهزم ألبتة، ولكن المسلمين ينهزمون إذا تخلوا عن منهج الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وينتصرون إذا تمسكوا بهما، وإن سنن الله ماضية لا تحابي أحداً، فمن زرع حصد ومن جد وجد ومن سار على الدرب وصل.
فعلى الشباب الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة ليوم النزال، فأعداء الإسلام لن يتوقفوا عن حرب الإسلام والمسلمين حتى يدع المسلمون دينهم ويسيروا في ركاب الكافرين: {ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
فخذوا حذركم يا شباب الإسلام فأنتم أمل هذه الأمة، وعليكم معقد رجائها، فلا تخيبوا آمالها فيكم وكونوا غدها المشرق وعدتها في الملمات.
محبة الشباب له
كان للقليبي مع الشباب المسلم بمصر و العراق و سوريا و الأردن و فلسطين جلسات وسهرات، وأحاديث وندوات، ومحاورات ومساجلات، استفادوا فيها من خبراته وتجاربه، وتوجيهاته وتوصياته، فأحبوه كما يحب الابن أباه والتلميذ أستاذه، وعاهدوه على أن يكونوا رجال الإسلام وحملة دعوته، ولقد صدق الكثير منهم فيما قالوا، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
نعم لقد احتلّ الأستاذ القليبي سويداء قلوبنا، وأحببناه من أعماقنا ووجدنا فيه الأب الحاني والأستاذ المربي، والداعية الحكيم، والعامل المخلص والرجل الشجاع، لأنه من نوادر الرجال الذين آثروا ما عند الله على ما عند الناس، وخرجوا من الدنيا الفانية وليس لهم من متاعها إلا الجهاد والمجاهدة والصبر والمصابرة، فكان الدرة الثمينة في جبين الحركة الإسلامية ، ومهما حاول الأقزام وأشباه الرجال أن يسدلوا الستار على ذكره وأن يعفوا على رسمه، فإن أصحاب الحق في كل مكان يعرفون من هو الزعيم المجاهد محيي الدين القليبي، كما أن المخلصين من أبناء الشعب التونسي المسلم والأوفياء من الرجال يدركون الدور العظيم الذي قام به من أجل دينه وأمته ووطنه، والعالم الإسلامي يعرف للرجل مواقفه المشهودة في المؤتمرات وجهاده في سبيل الإسلام والمسلمين سواء في تونس أو غيرها من ديار المسلمين.
شهادة بحقه
يقول الأستاذ عصام العطّار:
«رأيته أثناء انعقاد المؤتمر الإسلامي في القدس سنة 1953 م وقد طلع بقامته الطويلة الهزيلة المحنية قليلاً عند الكتفين ووجهه المستطيل الحزين وجبهته الواسعة وعينيه الصغيرتين المفكرتين ولحيته القليلة وخطها الشيب، كان يجلس وراء الصفوف في الحفلات والاجتماعات حيث يتقدم الآخرون، وكنا نفتقده في مجالات المجاملة والظهور، كما نفتقد بعضهم في مجال العمل المستور.. وإذا كان هناك من حضر المؤتمر لإبراز شخصه، فقد حضر هذا الرجل لخدمة قضيته فهو يطلب دوماً العمل المنتج ويؤثر السبيل المثمر، فلا تراه إلا حيث النظر الجاد والتنظيم العملي والتنفيذ السريع.. لقد كان رائعاً هذا (الشيخ) الطويل الهزيل الحزين، كان أعظم من المظاهر التي استولت على بعض الحضور؛ وكأنما كان به يأس من جيل مضى وأمل في جيل أقبل.
لقد امتاز القليبي بنظرة إسلامية خالصة، تكلم مرة في جمهور ضخم في قاعة الجمعية الغراء في دمشق بمناسبة حل جماعة الإخوان المسلمين بمصر سنة 1954 م فأعلن أنه لا يقبل أن يقال: هذه قضية داخلية لا يتكلم فيها غير مصري وأنه لا يعترف بحدود الأرض ولا اللغة بين المسلمين ولا يؤمن إلاّ بوطن واحد هو وطن (الدين) لا وطن العصبية و(الطين).
ثم عرض لحل الإخوان المسلمين فوصل هذه القضية بالمشكلة الإسلامية الكبرى وعاد بنا إلى جذور هذه المشكلة في الزمان والمكان وإلى ظواهرها في الماضي والحاضر وإلى نتائجها المنتظرة في المستقبل.. ثم أشار إلى السبل الصحيحة في العمل.
زرته في بيت محمد كامل التونسي وكان مريضاً ممدداً على السرير متورم الأطراف مصفر الوجه بادي الإعياء. وذهبت بعد ذلك بأيام لزيارة الأستاذ المرشد حسن الهضيبي في بلودان أثناء زيارته التاريخية لسوريا سنة 1954 م فسألني: كيف حال الأستاذ القليبي؟ فأخبرته باشتداد المرض عليه، فقال: إذا رجعت إلى دمشق فأبلغه سلامي وقل له على لساني: إن المسلمين لا يريدون منك الآن إلا أن تهتم بصحتك وزرته في المستشفى الجراحي في (دوما) وقد نقلوه إليه لاشتداد المرض، وأبلغته سلام المرشد الهضيبي وأنه حملني إليه رسالة.. قال: وما هي؟ قلت: إنه يقول لك: إن المسلمين لا يريدون منك الآن إلا أن تهتم بصحتك وتترك ما تقوم به.
فانتفض انتفاضة شديدة وقال: وما هي فائدة حياتي وصحتي إذا لم أؤد حق الله عليّ وأقم بواجبي.
إنني أعيش للعمل في سبيل الله، فلا أقبل أبداً أن أترك العمل للعيش. ثم قال بصوت رزين عميق وقد ترقرقت في عينيه الدموع: إنني لأشعر باقتراب نهايتي ولديَّ أشياء أريد أن أقولها للمسلمين وأشياء أريد عملها لهم ولم يعد في العيش فسحة للانتظار، فلا بد إذن أن أجهد نفسي لتحقيق ما أريد قبل حلول أجلي، إنني لن أترك خدمة عقيدتي للاحتفاظ بهذا الجسد الفاني، ولن أؤثر سلامتي على أداء رسالتي، فإذا قتلني الإجهاد ـ كما تخشون ـ فمرحباً بالموت في طاعة الله.
وبعد عدة أيام حُمل الأستاذ القليبي إلى مستشفى المجتهد في الميدان بدمشق وفي الساعة العاشرة من آخر ليلة في شهر نوفمبر سنة1954 م زرته مع الدكتور مصطفى السباعي وكان غائباً عن الوعي، فدعونا الله بقلوبنا الواجفة أن يكون مع هذا الرجل العظيم.
وفي اليوم الثاني كنت أسير في جنازة المرحوم القليبي وتكلم د. سعيد رمضان وتكلم الأستاذ التونسي وتكلمت فقلت: «ما فقدنا الأستاذ القليبي.. لقد انتقل من عالمنا الخارجي إلى عالمنا الداخلي؛ لقد انطوت عليه الجوانح قبل أن ينطوي عليه القبر، واشتمل عليه التاريخ قبل أن يشتمل عليه التراب، إنه مثل رائع للنظرة الإسلامية الخالصة والقيادة الواعية والاستشهاد في الجهاد رحمه الله» انتهى.
آثاره
كان الجانب العملي والطبيعة التنفيذية هي الطابع الواضح للأستاذ القليبي وكان يؤثرها على ما عداها ورغم أنه صحفي في الأساس ولكن حركته في أوساط الجماهير ودعوته العامة لنصرة الإسلام والمسلمين حيثما كان هي المحرك لكل نشاطاته، ومع هذا فقد أصدر بعض الكتب منها على سبيل المثال لا الحصر:
مأساة عرش.
رسالة عن التعليم في تونس.
ذكرى الحماية.
وغير ذلك من البحوث والمقالات والمحاضرات في مختلف الصحف والمجلات العربية بتونس وغيرها.
وشباب الصحوة الإسلامية في تونس يعرفون رجالها من أصحاب السابقة وذوي الفضل والرواد الأوائل الذين شقوا الطريق، ورسموا معالمه، وبينوا للأمة دورها وأهابوا بها للسير فيه إلى مواطن النصر.
وإنني لأدعو قادة الحركة الإسلامية المعاصرة في تونس لتقديم سيرة القليبي لإخوانهم العاملين معهم، ليقفوا على الجوانب المشرقة والصفحات المضيئة من سجل جهاده الدائب، وعمله الموصول ومواقفه الصلبة وآرائه السديدة، وهذا أقل ما يجب من الوفاء لمثل هذا العالم العامل، والمجاهد الصادق، الذي جاد به الزمان في أحرج الفترات، فكان طليعة الركب وقائد المسيرة وبطل الأزمات ورجل المواقف.
نسأل الله العلي القدير أن يجزي أستاذنا الكبير محيي الدين القليبي خير ما يجزي عباده الصالحين وأن يوفق العاملين في حقل الدعوة الإسلامية بتونس وغيرها إلى الثبات على الحق والصبر على البلاء واستشراف النصر من واهب النصر: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُه} [الحج: 40].