الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة قضايا راهنة
د. إسماعيل الشطي
مكتبة آفاق
دار الأمان - الرباط
بيروت – لبنان
إن الآراء الواردة في هذا الكتاب لا تعبر بالضرورة عن رأي الناشرين
مقدمة
شهد تاريخ الغرب المعاصر حروبا متتابعة بين أممه وصل آخرها ما ورط العالم كله بنيرانها , وكان تاريخ الحروب هذا سببا أساسيا في الإصرار على البحث عن صيغة سياسية تحد من استخدام الحروب في التنافس على المصالح ومناطق النفوذ , ولقد جاءت هيئة الأمم المتحدة كصيغة معدلة عن سلفتها عصبة الأمم لتفرض حالة سلم دولية تتحكم بها الدول العظمي المنتصرة بالحرب ,
ولم يكن هناك ما يهدد هذه الصيغة سوى عودة الخاسرين ( النازية والخلافة ) أو نشوب حرب بين المنتصرين بسبب النزاع الرأسمالي / الشيوعي , وللحيلولة دون ذلك تم تقسيم ألمانيا وبناء قواعد عسكرية فيها ووضع تسلحها تحت المراقبة الدولية , كما تم إلغاء الخلافة وتقسيم الإرث العثماني إلى كيانات سياسية جديدة واستبدال الرابطة الدينية برابطة قومية , وإذا كانت الحرب الإعلامية والثقافية ضد النازية أخذت شكلا مباشرا وغير متسامح , فإن الحرب على الخلافة تمت بشكل هادئ ومدروس,
ولم يتبق على ما يهدد حالة السلم الغربية سوى الصراع الرأسمالي / الشيوعي , وهو ما دفع المعسكرين إلى الاتفاق على استبدال المواجهة العسكرية بالدبلوماسية والاستخبارات والحروب بالوكالة , ولقد حقق الغرب نجاحا باهرا في القضاء على النازية , وتهميش فكرة الخلافة , ومنع المواجهة العسكرية المباشرة بين المنتصرين خلال العقود الماضية , وهي العقود التي شهدت تصد غربي لكل محاولات الإسلاميين استلام الحكم طوال القرن الماضي وذلك على اعتبار أن مشروعهم لدولة الخلافة مناقض لمشروع النظام العالمي المتمثل بالهيئات والقوانين الدولية وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة ,ولقد ترجم هذا الموقف علاقات مرتابة ومتأزمة ومتفجرة – أحيانا – انعكست على علاقات الإسلاميين بالأنظمة المحلية , وانتهي كثير منها باغتيالات وإعدامات وزج بالسجون والمعتقلات لفترات يصل بعضها إلى عقود من الزمن ,
ورغم ذلك لم تخل بعض المراحل من استغلالهم – كخصم إيديولوجي للشيوعية – في الحرب الباردة أو المواجهة المسلحة ضد السوفييت في أفغانستان , مما أدى إلى التسامح مع إسلامي إيران بتأسيس جمهوريتهم لتشكل جدارا عرضه 900 كم يمتد بين الاتحاد السوفييتي ونفط الخليج , ويأتي هذا التساهل مع الشيعة لسببين اثنين هما :
- الأول , أن الخلافة مشروع سني لا يثير أية حماسة لدى الشيعة , بل يقابله من جانبهم مشروع ظهور المهدي , وهو مشروع ميتافيزيقي غيبي مؤجل , لا يشكل تهديدا آنيا ملموسا على النظام الدولي , ولا قوانينه , فضلا على أن الشيعة قد جمدوا مشروع تطبيق الشريعة وأحكام الجهاد لحين ظهور المهدي .
- الثاني , أن الشيعة يشكلون طائفة من الأمة الإسلامية لا يزيد تعدادها عن 15% من تعداد المسلمين , ومركزة في دائرة محدودة لا تبعد كثيرا عن منطقة جنوب غرب آسيا , بينما يشكل السنة النسبة الأكبر من الأمة الإسلامية وينتشرون في بقاع الأرض كلها , وهو ما يصعب الأمر على الجمهورية الإسلامية الشيعية لو فكرت في قيادة الأمة الإسلامية نحو مشروع بديل أو مشابه للخلافة , فالطائفة لا تقود الأمة , ذلك لأن مفهوم الطائفة مفهوم انعزالي .
غير أن الإمام الخميني فاجأ العالم كله بأحياء نظرية ولاية الفقيه التي تخرج الشيعة من حالة الترقب في المجهول إلى مسرح العمل السياسي , وتفكك القيود غير البشرية عن نظرية الإمامة لتقترب كثيرا من فكرة الخلافة السنية , وهو ما جعل الغرب يعيد حساباته في التعامل مع تلك الجمهورية التي أطلق عليها " المارقة " ويخلق لها معاناة متراكمة تعيقها من الانضواء الطبيعي في النظام الدولي .
مع إعلان هزيمة الشيوعية في العقد الأخير من القرن الماضي , واستقرار البيت الغربي وخلوه من حالة الصراعات الأيديولوجية ,برزت الآثار الجانبية السلبية لمثل هذا الانتصار وكان أبرزها الفراغ الناتج عن غياب العدو المكافي , والمناوئ في العقيدة العسكرية للجيوش الغربية , وهو فراغ له تبعات مدمرة على صعود القوة وتحفز الجيوش ونمو الاقتصاد والبحث العلمي والتكنولوجي وقضى الغرب عقد القرن الأخير كله يبحث عن شكل النظام الدولي الجديد في ظل غياب ثلاثة أمور :
- 1) نهاية القطبية الثنائية قائدة العالم ,
- 2) هيمنة السوق الحر على الاقتصاد وتحكمه في قوانينه .
- 3) غياب العدو العسكري المناوئ الذي تتشكل تجاهه العقيدة العسكرية الجديدة , حتى تم تفجير ناطحات السحاب في مدينة نيويورك بشكل دراماتيكي وضع العالم كله في حالة دهشة ووجوم , وتلاه بعد ذلك إعلان أسامة بن لادن ( الشخصية الغامضة ) مسؤولية جماعته عن تلك التفجيرات ليعلن المجتمع الدولي أن كل الأعمال المسلحة التي يقوم بها المسلمون خارج نطاق هيئة الأمم المتحدة إرهابا دوليا , متضمنة معها حركات التحرر والاستقلال , ويصبح العدو الجديد في العقيدة العسكرية الغربية هو الإرهاب الإسلامي , وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجياتها الجديدة لتكشف عن تصورها لشكل النظام الدولي الجديد , وأعلنت في هذه الاستراتيجيات أن الشرق الأوسط سيحظي باهتمام دولي يشابه الاهتمام بأوروبا إبان الحرب الباردة , أن للسلام مفهوما جديدا يتمثل في نشر الديمقراطية ومحاربة الفساد ولكي لا يفهم من الحرب على الإرهاب أنه مواجهة للإسلام وعودة للحروب الصليبية منحت فرصة حقيقية للإسلاميين في حكم الدولة المعاصرة في تركيا , وكان توقيت هذا السماح مواكبا لتوقيت إعلان الحرب ضد الإرهاب ,
وكانت هذه رسالة لكل الإسلاميين بإمكانية السماح لهم بحكم الدولة المعاصرة في ظل الالتزام بنمط الدولة واحترام مواثيق الأمم المتحدة والتعاون مع القوى الكبرى , وشهدت مراكز مستودعات الفكر الغربية ومراكز صناعة القرار وأجهزة الإعلام نقاشا هادئا وجديا حول هذا الموضوع , وهو ما دفعني لإثارة هذا الموضوع داخل أروقة الإسلاميين في منتصف العقد الماضي , والمطالبة بالحوار مع الغرب للتخفيف من حدة رفضهم للإسلاميين في تولي الحكم ونتج عن ذلك أن تبني الشيخ راشد الغنوشي ( ذو المكانة البارزة في صفوف الإسلاميين ) دعوة المهتمين بالشأن السياسي من الحركات الإسلامية في مختلف أقطار العالم الإسلامي إلى حلقة نقاش واسعة لمدة يومين في بريطانيا , وطلب مني إعداد ورقة حول ذلك الموضوع تكون محفزا للتفكير ومحورا للنقاش أثناء انعقاد الحلقة ولقد ركزت في ورقتي آنذاك على التالي :
- 1. هل هناك فرصة جادة لفتح حوار بين الإسلاميين والغربيين من أجل دفع الغرب لمراجعة مواقفه المتشددة والممانعة لتسلم الإسلاميين الحكم؟
- 2. الإشارة إلى التحديات التي ستواجه هذا النوع من الحوار , وذكر أهم الإشكالات الفكرية والسياسية العالقة بين الطرفين دون حسم واضح .
ولقد كانت هذه الحلقة الأولي من نوعها في تاريخ الإسلاميين العاملين بالشأن السياسي لضمها طيفا متنوعا من أقطار الأرض , واستطاعت أن تكسر الحاجز النفسي الذي صنعه الإسلاميون لأنفسهم خلال تاريخهم , وذلك بدعوى الحفاظ على الطهر السياسي من الاتصال بالغربيين , ورفض أى تورط يمنح الخصوم دليلا للاتهام بالعمالة , كما استطاعت – هذه الحلقة – أن تكشف المساحة الجرداء القاحلة ما بين الشعارات الإسلامية المرفوعة والواقع العملي الراهن , وأن تضع الإسلاميين أمام تساؤلات الغربيين المتعلقة بالفكر والسياسة , وتكشف غياب الإجابة الحاضرة والرأي المتفق عليه والموقف الموحد .
لقد جاء النقاش ثريا وجادا ومتفاوتا ما بين الرفض والقبول , إذ تكشف أن عقدة الطهر السياسي من الاتصال بالغربيين ما زالت تحكم البعض وتجعله يرفض المبدأ , وأن بعضا آخر لم يقتنع أصلا بوجود فرصة حقيقية تدفع لإثارة هذا الموضوع , بينما الغالبية رأت أن الحوار ضروري في كل الأحوال , وذلك لأسباب كثيرة وليست قاصرة فقط على موضوع التخفيف من حدة رفض الغربيين لتولي الإسلاميين الحكم .
واتفق المجتمعون على نقل هذا الحوار إلى المهتمين بالشأن السياسي الإسلامي في أقطارهم , والدعوة لحلقة نقاش ثانية من أجل استكمال هذا الحوار , وفي الحلقة النقاشية الثانية التي عقدت في تركيا كانت أجواء الحوار مختلفة إلى حد كبير , فصوت المعارضين والمتحفظين العالي خف كثيرا وتحول إلى مطالبة بشفافية ووضوح , أى حوار مزمع , وتركز النقاش حول نموذج الحكم الذي يمارسه الإسلاميون لإدارة الدولة المعاصرة ,
فإذا كان النموذج الإيراني فاشلا والنموذج الطالباني مرفوضا لدى الغرب , فإنهما كذلك نموذجين جدليين لدى كافة المشاركين في الحوار , أما إذا كان النموذج التركي هو النموذج المقبول لدى الغرب فإن كثيرا من المشاركين أبدوا ملاحظات نقدية لهذا النموذج تحول دون ترويجه بين جماهيرهم ,
وانتهي النقاش بتكليفي إعداد ورقة لحلقة أخرى تتم فيها مناقشة نموذج مقترح لحكم وإدارة الإسلاميين الدولة المعاصرة , ولقد شرعت في إعداد هذا البحث لكني توقفت عن ذلك بسبب دخولي في تشكيله الحكومة الكويتية عام 2006 وانشغالي بالمنصب الوزاري وكان ذلك أحد أسباب توقف المشروع نهائيا وعدم اكتمال نقاش هذا الموضوع , وكنت آمل أن يكمل غيري إعداد هذا النموذج ويضع أجوبة للأسئلة المثارة في وجه الإسلاميين عندما يتسلموا إدارة حكم الدولة المعاصرة .
والآن وقد أتت الفرصة التي جادل البعض بمجيئها آنذاك , لا يجوز القول أنها جاءت بغتة في ظل الحلقات النقاشية التي لم تكمل مهمتها في منتصف العقد الماضي , إنما جاءت في ظل استرخاء فكري وسياسي آثر فيه الإسلاميون عدم الخوض في الأسئلة الصعبة , والآن , وبعد أن خاض الإسلاميون الانتخابات لتولي الحكم مكتفين بعرض برامجهم الانتخابية , وأحيانا بنفس شعارات انتخاباتهم السابقة , ومن دون أن يبينوا للناس نموذج حكمهم , ودون أن يقدموا إجابات للأسئلة الصعبة في إدارة الدولة المعاصرة , وانتهت تلك الانتخابات بتولي الإسلاميين حكم إدارة دولة تونس , وإدارة حكومة المغرب , وإدارة الدولة في مصر , كلهم يمارسون الحكم دون أجوبة لكل الأسئلة المطروحة عليهم , ودون نموذج واضح لديهم لحكم ما يسمي بالدولة / القوم المعاصرة نموذج يبدد مخاوف الغرب ويستوفي زخم شعارات التعبئة الجماهيرية ويطمئن بقية الأطراف السياسية المنافسة من عدم تكرار تجربة اختطاف الثورة والدولة كما حصل في التجربة الإيرانية .
ولقد وجدت من اللائق اليوم أن يتم استكمال البحث والنقاش لهذا الموضوع في ظل تولي الإسلاميين إدارة الحكم في بعض الدول العربية , ذلك أن بعضا من التوقعات يراهن على فشل الإسلاميين وانفضاض الناخبين عنهم بعد إتاحة الفرصة لهم , وأن بعض التحليلات تعتبر السماح للإسلاميين بتولي الحكم بعد ثورات ما يسمي بـ " الربيع العربي " إنما هو مرحلة في ظل سيناريو واسع لمستقبل الشرق الأوسط , وبغض النظر عن مستقبل تجارب الحكم الثلاث في الشمال الأفريقي, فإن مناقشة الأسئلة الصعبة لحكم الإسلاميين الدولة المعاصرة تبقي ضرورية .
وأضع بين يدي القارئ هذا الكتاب , وهو يناقش خمسة نماذج حكم عرفها الإسلاميون خلال تاريخهم , الأول وهو النموذج التاريخي الذي بدأه رسول الله صلي الله عليه وسلم وأطلق عليه الفقهاء دار الإسلام والثاني هو النموذج النمطي للدولة المعاصرة والتي تنضوى تحته كل دول العالم اليوم , والثالث نموذج أسلمة الدولة المعاصرة والذي سلكته جمهورية إيران الإسلامية والرابع إعادة إنتاج دار الإسلام في ظل النظام المعاصر والمتمثل بدولة طالبان ,
والخامس نموذج أربكان الذي حافظ على النموذج النمطي للدولة المعاصرة وقام بتطويره للوصول به إلى مستوى الديمقراطية الغربية , وذلك بهدف حماية الدعوة الإسلامية في ظل ما توفره الديمقراطية الغربية من الحريات وأمان , كما أرفقت الورقة الأولي التي قدمتها عام 2005 كملحق لهذا الكتاب , وأتمنى أن يغذي هذا الكتاب والأفكار الواردة فيه الساحة السياسة والفكرية بحوار نافع , وينفع الإسلاميين في ممارستهم السياسية .
والله الموفق
الإسلاميون وحكم الدولة المعاصرة
بقدر ما أسهبت نصوص القرآن في تنظيم العلاقات بين مكونات الوجود ( الله والإنسان والكون والحياة ) تكاد تكون قد تغاضت عن كل ما ينظم العلاقات بين عناصر الدولة ( الأمة والأرض والسلطة السياسية ) ولعل ذلك يعود إلى أن النوع الأول من العلاقات تحكمه ثوابت خارج دائرة الإحاطة والإدراك الإنساني ,
بينما النوع الثاني متغير خاضع لتطور أو لتذبذب التجربة الإنسانية , وهو ما يفسر إحجام النبي صلي الله عليه وسلم عن حسم كثير من الأسئلة المتعلقة بالسلطة السياسية حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت انتقال روحه إلى بارئها , إذ كل ما جاء بعد وفاته صلي الله عليه وسلم حول تعريف السلطة وتحديد مكوناتها وتنظيم توليها وتشكيل علاقاتها هو في الغالب اجتهاد بشري , اجتهاد لم يخرج عن نماذج الحكم القائمة آنذاك داخل القرى والمدن والممالك والإمبراطوريات ,
ولذا فإن نموذج الدولة الإسلامية – الذي ولد مع بداية التاريخ الهجري – هو من صنيعة الاجتهادات الإنسانية – بهدى مبادئ الإسلام العامة – وليس من صنيعة النصوص الدينية , وهذه الحقيقة المفصلية تحكم موقفنا من هذا التراث المتراكم الذي خلفه لنا فقهاء القانون الإسلامي حول الدولة خلال الأربعة عشر قرنا المنصرمة , ومن حقه أن نحترمه وأن نتوقف عنده ونستفيد منه دون أن نقدسه ونسجن أنفسنا داخل أسواره , خاصة إذا ما أصبح عبئا يحول دون تعايشنا مع العصر وتقدمنا نحو الأمام ,
ولما كان نموذج هذه الدولة هو الوحيد الذي رصده التاريخ وحاز على صفة ( إسلامي ) فمن الحري أن نكوّن فكرة عامة عنه ونجرب عمليا تسكينه في النظام العالمي المعاصر , فإذا ما تعذر علينا ذلك قمنا بتسليط الضوء على محاولات المزاوجة ما بين الدولة النمطية المعاصرة وفكرة الدولة الإسلامية لنتقصى التحديات الفعلية التي تواجه هذه الفكرة , ولنتعرف على نموذج عملي يتيح للإسلاميين الاندماج في السياسة الدولية , والمشاركة في تداول السلطة في دول العالم المختلفة لتنفيذ ما يمكن تنفيذه من برنامجهم .
الفصل الأول
دار الإسلام ( النموذج التاريخي )
دار الإسلام هي الكيان السياسي الذي احتضن المسلمين خلال الأربعة عشر قرنا قبل سقوط الخلافة , كيف عرفها الفقهاء ؟ وما هي حقيقة هذا التعريف على أرض الواقع التاريخي ؟ ومن هم رعايا هذا الكيان ؟ وما هي حقوقهم وواجباتهم ؟ ومن هم الأجانب ؟ وما هو التنظيم المؤسسي لهذا الكيان ؟ وما هي السلطات الفاعلة ؟ وكيف يتم اختيار رؤسائها ؟ وما هو شكل الحكومة وشكل أجهزتها الإدارية ؟ وكيف تطورت ؟ هذا ما سوف نحاول في السطور القادمة التعرف عليه بعجالة .
دار الإسلام تعريفا وواقعا
الأصل الذي قامت عليه الدولة الإسلامية الأولي هو الجهاد , واعتبر أن أساس علاقة المسلمين بمناوئيهم هو الحرب انطلاقا ن تقسيمهم الدنيا إلى دارين , دار إسلام ودار حرب , وهو رأي جمهور فقهاء المذاهب السنية والشيعية في عصر الاجتهاد الفقهي بالقرن الثاني الهجري , ورغم أن التعريف الفقهي لدار الإسلام نص على أنها كل ما دخل من البلاد في محيط سلطان الإسلام , ونفذت فيها أحكامه وأقيمت شعائره ,
ووجب على المسلمين عند الاعتداء عليه أن يدافعوا عنه وجوبا كفائيا بقدر الحاجة وإلا فوجويا عينيا وكانوا كلهم آثمين بتركه ولقد انحصر النقاش حول النمط الذي ينبني عليه الحكم في تمييز دار الإسلام عن غيرها بأمرين , الغلبة والعصمة , والغلبة مفهوم سياسي يقصد منه انتقال السلطة بيد المسلمين , أما العصمة فمفهوم أمني يقصد منه ضمان أمن المسلمين ( أنفسهم ودمائهم وأموالهم ) إلا أن تعريفا كهذا يصعب إسقاطه على فترات كثيرة من تاريخ دار الإسلام الممتد إلى أربعة عشرة قرنا , فرغم أن الفقهاء المتأخرين اعتبروا تطبيق الشريعة الإسلامية شرطا لاكتساب الدار صفة الإسلام إلا أن ذلك لم يتحقق على أرض الواقع في فترات كثيرة ففي مرحلة الوحي تعامل النبي صلي الله عليه وسلم في كثير من الأحيان مع الآخرين كصاحب سلطة سياسية دون فرض قبول الدعوة عليهم مكتفيا بالاعتراف السياسي له ولسلطته , وفي زمن الفتوح الأولي اكتسبت أمصار كالعراق والشام ومصر صفة دار الإسلام رغم أن ديانة الأغلبية كانت النصرانية , تقرع في مدنها وقراها نواقيس وأجراس الكنائس وتنفذ فيها أحكام النصرانية , بينما كانت الأقلية المسلمة تقيم في معسكر على شكل مساحة يتوسطها مسجد يمثل مركز النشاط الاجتماعي والعمراني , وتحيطه الأسواق التجارية من كل جانب وتشاد مخيماته بأطرافه متجهة نحو الصحراء .
وفي عصر الأجيال الأولي من المسلمين , والذي يعتبره المسلمون نموذجيا ومعياريا , ولم يكن القانون الإسلامي يتجاوز أوامر الخليفة عمر المهتدية بروح القرآن من أحكام وقواعد متعلقة بإدارة الدولة والعائلة وأحكام الجنائية والشعائر الدينية وضبط عقوبة الزنا والسرقة ومنع زواج المتعة وحقوق الأطفال والإماء من أسيادهن , والتأكيد على الأحكام التي أعلنها الخليفة أبو بكر كحظر شرب الخمر وضبط عقوبته , ولعل هذه كانت البداية لتشكيل مفهوم الشريعة الإسلامية ,
ورغم أن تطبيق الشيخين لتعاليم القرآن أبرز مركزية القرآن في الدولة والمجتمع الناشئين , غير أن هناك جوانب كثيرة لم يوفر لها القرآن توجيهات وأحكام وبقي جزء من شرائع ما قبل الإسلام وعاداته سارية المفعول , بل بقيت حية داخل الثقافة التشريعية التي كانت آخذة بالتشكل , يقول د. وائل حلاق " إن التعيينات الأولي لمنصب القضاء كما تسجله المصادر يجب أن ينظر إليها على أنها ذات طبيعة تحكيمية صرفة , فالكثير من القضاة الذين وقع تعيينهم لم تتجاوز علاقتهم بالفقه سوى أنهم كانوا في الماضي محكمين يشهد لهم بالخبرة والتجربة والحكمة والكاريزما ,
وكان رجال القبائل يلجئون إليهم للتحكيم بينهم , ورغم أن أحكامهم لم تكن ملزمة بالمعنى الفقهي الدقيق , فإن المتنازعين عادة ما كانوا ينصاعون لها , ثم أن الكثير ممن أطلق عليهم اسم القضاة وقع تعيينهم من بين صفوف أولئك الذين حكموا فيما قبل ظهور الإسلام وتذكر المصادر أن بعض القضاة الأوائل كانوا أميين كما هو شأن عابس بن سعيد المرادي الذي عيّنه معاوية قاضيا على الفسطاط , غير أن أميته لا تعني افتقاره إلى التجربة والدراية لفض مسائل فقهية صرفة نابعة أساسا من سياق اجتماعي قبلي , ثم أن تلك التعيينات القضائية الأولي لم تكن موجهة لأهالي الأمصار المفتوحة , بل كانت موجهة إلى جنود المسلمين العرب وعائلاتهم من العناصر القبلية ,فسياسة السلطة المركزية بالمدينة المنورة كانت واضحة منذ البداية , هي : ترك المجتمعات المفتوحة تتولي تدبير شؤونها مثلما كان الأمر قبل مجئ الإسلام " لقد كانت دار الإسلام في مجتمع الرعيل الأولي من الصحابة تضم غالبية غير مسلمة ,
ولم يكن متاحا لها من الشريعة سوى الالتزامات التعبدية الفردية وحزمة من القرارات التي أصدرها أمير المؤمنين , ولم تعرف معظم ما أستكمل أو أضيف أو أدخل بعد القرن الثالث الهجري ضمن منظومة ما عرف فيما بعد بالشريعة الإسلامية .
وحتى بعد استكمال منظومة الفقه والتشريعات والقوانين المنظمة لعلاقات الفرد بالله وبالأفراد وبالمجتمع والدولة , وبروز مفهوم الشريعة الإسلامية شهدت دار الإسلام فترات مديدة من النأى عن تعاليم الشريعة واختراق تعليماتها , وبنظرة سريعة لأحوال الحكم في الممالك الأموية والعباسية والبويهية والفاطمية والإخشيدية والطولونية والمملوكية والعثمانية والصفوية , نري دار الإسلام تعج بالمسلمين دون التزام دقيق بالشريعة الإسلامية ,
وحتى بعد احتلال التتار لدار الإسلام واستبدال الشريعة بمنظومة قوانين تتارية تسمي الياسق ظلت دار الإسلام محتفظة بصفتها رغم انتقال الغلبة لغير المسلمين وتبدل الأحكام الشرعية بغير الشريعة ومن خلال المسح التاريخي لمسيرة دار الإسلام لا يبدو أن وجود غالبية مسلمة في بلاد ما , أو تنفيذ كامل أحكام الشريعة بصيغتها المتوارثة , شرطان لاكتساب الدار صفة الإسلام ,
كما لا يبدو أن انتقال الغلبة إلى محتل طارئ مدعاة لزوال شرط الإسلام من الدار التي يقطنها المسلمون , غير أنه من الواضح أن الدار لا تكتسب صفة الإسلام ما لم يكن للمسلمين فيها شكل من أشكال الغلبة إما سياسية كما هو حال المسلمين زمن فتوح الأمصار , أو غلبة ثقافية وسكانية كما هو حال المسلمين في زمن التتار .
الرعايا والوافدين
يشكل مجموع المسلمين القاطنين في دار الإسلام الأمة الإسلامية وهي أمة تستمد هويتها من الدين والعقيدة ولا تستمدها من الأرض أو الرقعة الجغرافية كما هو اليوم , إنما الأرض هي التي تستمد هويتها من القاطنين فوقها وتتغير إلى دار بمجرد ما تصبح تحت إمرتهم , فحدود دار الإسلام تتبدل وتتغير بناء على حركة الفتح والجهاد , وإذا كان تحديد الفقهاء لمهمة الخليفة ( رئيس الدولة ) هي إقامة شرع الله والذود عن بيضة المسلمين ,
فالبيضة لغة واصطلاحا ذات مفهوم اجتماعي أكثر منه جغرافي وتعني أساسا جماعة المسلمين , ولذا فإن حركة الفتح ومواقع الثغور وموجات استيطان المسلمين هي التي تحدد سيادة الدولة إذا ما أردنا أن نجرى مقاربة مع هذا المفهوم , ولا يحتاج المسلم وثيقة رسمية تثبت انتماءه لدار الإسلام فالتزامه بالحد الأدنى من الإسلام هي وثيقته التي تحفظ له كافة حقوقه على كل أراضي هذه الدار , وانتماؤه للإسلام يضمن له حرمة دمه وأهله وماله ما لم يكن على ذمة قضية ما ,
كما يضمن له حق التعبير والتجمع والتنقل والتجوال والإقامة وتملك العقار وغيره والتجارة والعمل في مشارق الأرض ومغاربها والتي تدخل ضمن سيطرة دار الإسلام ما لم يكن على خلاف سياسي مع أحد إمارات التغلب , وإذا ما أردنا أن نجرى مقاربة لمفهوم المواطنة المعاصر فإن الإسلام وحده لا يكفي لتساوى المراكز القانونية والحقوق والواجبات السياسية بين المسلمين عند فقهاء دار الإسلام , وخاصة بين الحر والعبد والأب وذريته والذكر والأنثي والقرشي وغير القرشي .
وقد اختلف الأمر بالنسبة لغير المسلمين بين تسامح وتعصب خلال تاريخ دار الإسلام , فمن الفقهاء من أجاز أن يكون غير المسلم ذميا له ما لبقية المسلمين وعليه ما على بقية المسلمين باستثناء أخذ الجزية , وعليه شهد تاريخ الإسلام تولي غير المسلمين مناصب قيادية عالية , كمنصب الوالي على المسلمين أو كوزير أو مقاتل بالجيش , كما شهد مشاركة المجتمع المسلم والاحتفال بأعيادهم ومناسباتهم وفي المقابل هناك من الفقهاء من قصر مفهوم الذمي على اليهود والنصارى ومنهم من قال بمعاملتهم على أساس الحيطة الحذر ( طابور خامس ) ولذا سعى لتمييز بيوتهم ولباسهم ومظهرهم عن بقية المسلمين , لذلك يصعب تحديد حقوق وواجبات الذمي في دار الإسلام , فالنصوص والاجتهادات والتراث الفقهي والتجربة والممارسة كلها تتفاوت بين التعصب والتسامح .
ولما كانت علاقات دار الإسلام مع خارجها تقوم على أساس الحرب , لذا نذر وجود رعايا دار الحرب في ديار المسلمين خلال العصور الأولي , ووجود هؤلاء الرعايا في دار الإسلام يدخل ضمن مفهوم الأمان , وتصبح مقاربة مفهوم الأجنبي بالنظام المعاصر هي أقرب لمفهوم المستأمن في نظام دار الإسلام , ونظام الأمان في الإسلام – كما يقول الشيخ وهبة الزحيلي – يتسع لكل أنواع الحماية والرعاية المعروفة حديثا لشخص الأجنبي وماله في بلاد الإسلام , تستمر معه العلاقات غير العدائية حتى وإن كانت الحرب مستعرة مع دار الحرب ,
وهو يوفر مناخا آمنا أكثر مما يوفره جواز السفر الحالي لأنه أقرب إلى عقد أو معاهدة مع فرد , ويرى جمهور الفقهاء والشيعة الإمامية والزيدية والإباضية أن كل مسلم مكلف مختار , حتى لو كان عبدا لكافر , أو فاسقا أو محجورا عليه , أو امرأة أو معوقا أو خارجا على الإمام , يحق لكل أولئك منح الأمان دون إجازة من أحد, ويقتضي هذا الأمان التزام دار الإسلام فتوفير الأمن والطمأنينة للمستأمن ( شخصا أو جماعة أو أهل بلدة أو حصن أو إقليم أو قطر ) فيحرم حينئذ القتل والسبي , والاستغنام للرجال والنساء والزراري والأموال , وكذلك يحرم الاسترقاق ولا يجوز ضرب الجزية على المستأمن , لأن فعل ذلك من الغدر , ويحق للمستأمن ممارسة الأعمال التجارية والتملك في حدود الشرع ,
ويحظر عليه شراء الأسلحة والعبيد وتعاطي الربا , كما يحق له الانتفاع بالمرافق والخدمات العامة التي توفرها دار الإسلام لرعاياها , ويحق له التقاضي أمام المحاكم , كما لا يعذر المستأمن جهله بقوانين وأحكام دار الإسلام إذا ما أخطأ ويلتزم المستأمن باحترام عقائد المسلمين والامتناع عن كل ما يشعر بإهانتهم , ولقد تفاوت التطبيق في دار الإسلام بين تضييق وتراخ , حتى وصل التراخي إبان الدولة العثمانية أن منحهم السلطان سليمان القانوني أمانا تحت بند الامتيازات الأجنبية جعلت الأجانب فوق سلطة القانون .
لا يمدنا النص الديني بأى مادة حول تنظيم الدولة وتوصيف السلطات وطرق توليها وأساليب إدارتها , لذا جاء نظام الحكم الإسلامي المبكر مقاربا لما هو معمول بالقرى والمدن الصغيرة بالمنطقة , حيث كانت معظم حواضر الجزيرة العربية لا تزيد عن قرى تتفاوت في أحجامها , وكانت مكة بينهم بمثابة أم القرى , وهو نظام حكم يقارب الديمقراطية المباشرة التي يرأسها شيخ أو زعيم ذو قدرات تحكيمية , وغالبا ما يدعو أفراد القرية إلى مكان فسيح للتشاور أو لتبليغ الأوامر والتوجيهات وهذا النظام المعمول به في الجزيرة العربية يكاد يكون أصل النظم السياسية التي انتقلت إلى بلاد الرافدين وبلاد النيل وبلاد اليونان , يقول ديورانت " ولم يكن هذا طرازا جديدا من النظم الإدارية فلقد رأينا أنه كانت في بلاد سومر وبابل وفينيقية وكريت ودول مدن قبل هومر وبركليز بمئات السنين أو آلافها , وكانت دولة المدينة من وجهة النظر التاريخية هي بعينها مجتمع القرية في مرحلة الامتزاج أو التطور أعلى من مرحلته القروية , وكان سوقها المشتركة ومكان اجتماعها , ومجلس قضائها للفصل في منازعات الأهليين الذين يحرثون الأرض وما جاورها من أرض زراعية , وكان أهلها من أصل واحد يعبدون إلها واحدا ,
ولعل هذا النموذج كان هو السائد في كل القرى والمدن الصغيرة بتلك العصور على اختلاف الثقافات وكان يتطور بتوسع نفوذ القرية على ما حولها ليتحول إلى نظام الدولة / المدينة وهذا ما واجهته قرية يثرب عندما تولي قيادتها رسول الله صلي عليه وسلم حيث توسعت وصارت مدينة , وهو ما لمحه أحد الباحثين " لم يكن في هذا التنظيم الاجتماعي شئ جديد أساسا , لقد كان عربيا بكل تأكيد , مستندا إلى تقاليد عربية موضوعا في قوالب وأشكال تشريعية , إن التجديد الحقيقي في ذلك يكمن في عبقرية الرسول التنظيمية وأنه باستخدام القوالب والأشكال والتقاليد العربية المقبولة نقل نقاط الثقل فيها بصورة تتيح لمبادئه في التعاون أن تعمل على خير وجه , هكذا ظلت القبيلة أساس الوحدة الاجتماعية ولو أنها كادت تذوب كليا ببناء الأمة الفوقي إن مواثيق الإيلاف وأحلاف الحمس فيما فيها من مضامين تجارية ودينية طرحت جانبا بازدراء ليحل محلها الإسلام أو " السلام الإسلامي " حيث ينتمي جميع الأعضاء إلى هيئة واحدة على قدم المساواة ,
وعند وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم لم يكن هناك وضوح في سلطات من يخلفه , فالرسول صلي الله عليه وسلم ( بالإضافة إلى قدراته القيادية الفائقة ) كان مدعما بسلطة دينية لا تتوفر لمن يخلفه , لذا جاء اختيار خليفته كزعيم أكثر منه رئيس لدولة , ولعل هذا يفسر الخليفة الأول وقته بين عمله الخاص ومهام زعامته , إذ قضي ستة أشهر يقود دار الإسلام الجديدة بما يمكن أن نطلق عليه نصف دوام , ورغم أن الخليفة الثاني رضي الله عنه , واجه التوسع المفاجئ في حجم الدولة بإدخال تعديلات على نظام الحكم المركزي من أجل السيطرة على المناطق البعيدة , وجمع رعاياه في مراكز عسكرية خاصة بهم كالكوفة والبصرة والفسطاط بهدف المحافظة على ثقافة القرية العربية وعزلها عن ثقافات شعوب البلاد المفتوحة , لكن دار الإسلام ظلت بدون جهاز إداري في العاصمة يتابع التطورات الجارية في الولايات الجديدة ففي كل ولاية كان القادة يتخذون قرارات هامة عند الحاجة والتي غالبا ما تراعي مصلحة فاتحي الولاية , وكان الولاة يكتفون بتبليغ أمير المؤمنين بهذه المقررات , عله كان يستطيع أن يقوم بدور الحكم إذا ما رفع إليه الخلاف ,
ولم يكن بوسع التقاليد العربية ولا الإسلام يقدّما أى توجيه حول موضوع الصلاحيات الملائمة التي يجب أن تمنح لرئيس دار الإسلام , ولعل أكثر ما يدعو للأسف هنا هو سرعة حدوث التطورات , مما كان يحول دون تطوير العرب لمؤسساتهم السياسية المحدودة لمواجهة وضع جديد غير منتظر , في الوقت الذي لم يكونوا قادرين أن يقلدوا البناء الإمبراطوري البيزنطي أو الساساني في مثل هذه المرحلة المبكرة , حتى لو أنهم أرادوا ذلك , لقد كانت إستراتيجية نظام الخليفة الثاني هي الإبقاء على فكرة أن العرب المسلمين أمة فاتحة مجاهدة لا تشتغل بمهنة غير الحرب والسياسة , إلا أن تنظيماته نجحت في الحروب , ولم تنجح كليا في تحقيق إدارة الولايات والمدن المفتوحة لقلة الخبرة التنظيمية والإدارية لدى الفاتحين الجدد .
إذ واجهت صعوبات جمة انتهت بفتنة ( ثورة ) قادها ثائرون من تلك المناطق ضد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ولم تستقر أمور دار الإسلام إلا بعد أن تولي معاوية بن أبي سفيان الحكم , ولعل تغيير أجراه هو توجيه منصب قيادة الدولة نحو الرئاسة السياسية نائيا بها قليلا عن الزعامة الدينية , فلم يقدم معاوية نفسه مرشدا روحيا كما كان الأمر مع الخلفاء الراشدين كما أجرى تعديلات جذرية في أنظمة وآليات إدارة الدولة المترامية الأطرف , مستفيدا من الخبرات المتراكمة في الشام والتي خلفتها الإمبراطوريات الرومانية والبيزنظية وحضارات ما بين النهرين خلال القرون الطويلة , ورغم أن ذلك تم على حساب بعض مبادئ الإسلام السياسية واللجوء إلى أساليب المكر والدهاء والبطش , إلا أن لمعاوية الفضل الأول في الخروج بإدارة حكم دار الإسلام الواسعة من نظام القرية إلى نظام الدولة ومن زعامة ثورة إلى إدارة إمبراطورية ولولاه لتغّير مجرى تاريخ الإسلام وداره .
ومثلما أن إدارة دار الإسلام خضعت للخبرة المتاحة في الجزيرة العربية والتي لا تتجاوز إدارة قري أو مدن صغيرة , فإن النصوص كذلك لم توفر لنا طريقة اختيار الحاكم وتحديد سلطاته , فتولي الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه جاء عفويا ومباغتا وباجتهاد آني لمواجهة فراغ قيادي ناشئ عن وفاة النبي صلي الله عليه وسلم وتولي الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء معدا بشكل مسبق ومبيت لمواجهة أى فراغ قيادي أما تولي الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء توافقا بين ستة مرشحين اختارهم الخليفة الثاني ,
أما الخليفة الرابع على بن أبي طالب رضي الله عنه فكان مجيئه تلقائيا بعد الثالث , إذ كان يحظي بتقدير واسع لدى كافة المسلمين بسبب تضحيته بفرصته ليكون ثالث الخلفاء التزاما بمبادئه , نظرا لأنه جاء بعد فتنة وانقلاب على الخليفة الثالث , تم اختصار إجراءات اختياره سريعا لمحاصرة آثار الانقلاب , أما الحاكم الخامس معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقد خرج على الخليفة الرابع وقاتله طوال فترة حكمه وتنازل له المرشح الخامس الحسن بن على رضي الله عنه للخلافة عن المنصب درءا للفتنة وحقنا لدماء المسلمين , وبعد ذلك تم تبني نظم الحكم الوراثي التي اختزنتها ذاكرة السوريين من حضارات ما بين النهرين والفينيقيين والإغريق والرومان , وتحولت دار الإسلام من نظام قبلي وراثي إلى نظام ملكي وراثي في عائلة بني أمية القرشية العربية وبعدها عائلة بني العباس القرشية العربية , وانتهت بعائلة بني عثمان التركية الأعجمية .
لكن دار الإسلام لم تدم موحدة تحت نظام حاكم واحد إلا في فترات متقطعة من عهد الأمويين , إذ بعد قيام دولة الأمويين بالأندلس إبان الدولة العباسية أصبحت دار الإسلام فضاء إسلاميا يضم كيانات سياسية متعددة أطلق عليها أبو الحسن الماوردي " إمارة الاستيلاء " وهي كيانات يحكمها سلاطين وتقوم على الاستقلال بالسلطة والسيطرة على بعض الولايات والمدن وأخذ ولاءات المجتمعات القريبة مع الاحتفاظ الشكلي برمزية الخلافة وفي العصر العباسي برزت نظرية لدى الشيعة الأمامية تقول بأن رئاسة الدولة منصب يوجبه الدين ويعين من يشغله ويتوارثه , بينما واجه المعتزلة هذه النظرية بقولهم أن رئاسة الدولة منصب يوجبه العقل وليس الدين ,
خرجت نظرية ثالثة لأبي حسن الأشعري أقرت بأن المنصب الرئاسي في الإسلام يوجبه الدين , على أن يكون الاختيار بيد الأمة , اتفقت النظريتان ( الشيعية والسنية ) على أن رئاسة المسلمين تتم وفق مبدأ التوارث في الحكم فحصره السنة في محيط العائلات القرشية دون سائر المسلمين , بينما قصره الشيعة على عائلة قرشية واحدة ( نسل الإمام على بن أبي طالب ) دون سائر العائلات القرشية , وتلاقت نظرية الأشعري مع هوى الخلفاء العباسيين الذين روجوا لها بشكل دعائي غير مسبوق لتصبح الأشعرية بعد ذلك عقيدة أهل السنة , واستطاع منصب الخلافة أن يحافظ على نفسه خلال التاريخ الإسلامي بسبب إضفاء طابع ديني عليه وتحويل عملية الاختيار إلى واجب شرعي , وبرغم الفترات العصيبة التي مر فيها هذا المنصب وفرغ فيها من محتواه , إلا أن الحفاظ عليه كان هدفا إسلاميا لتحوله إلى رمز وحدة دار الإسلام في ظل تعدد الأنظمة الحاكمة فيها ,
وحافظت هذه الرمزية على إبقاء دار الإسلام فضاء تجوال وإقامة لكل مسلم يقول آدم مينز " لم يكن من شأن هذا الانقسام وتعدد أمراء المؤمنين أن يؤدي إلى ضيق في معنى الإسلام أو في الوطن الإسلامي , بل صارت كل هذه الأقاليم تؤلف مملكة واحدة , سميت مملكة الإسلام تمييزا لها عن مملكة الكفر , وقامت وحدة إسلامية لا تتقيد بالحدود السياسية الجديدة وهذا عكس ما نشأ عن اتحاد الإمبراطورية الألمانية في القرن التاسع عشر .
الجهاز الحكومي
لم يعرف حكم الخلفاء الراشدين شكلا مقاربا لأشكال الحكومات المعاصرة ولم يكن هناك أجهزة حكومية واضحة المعالم , ورغم أن هناك من يميل إلى توصيف الحالة الإدارية في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم وخلفائه توصيفا تنظيميا مقصودا إلا أن بداية التنظيم الإداري أنطلق من عهد الفاروق , ثم تطور واستجاب لمتطلبات المملكة الواسعة في عهد معاوية ,
ثم أخذ يتطور خلال العهود المتعاقبة مع التوسع في المهام واتساع نطاق العمل وارتفاع عدد المرتبطين بالخدمة ومع مطلع الدولة العباسية لخص المنصور احتياجاته من الأجهزة الحكومية بالتالي " ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على باب أعف منهم ... هم أركان الملك , فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم , والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوى , والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية فإني عن ظلمها غني , والرابع ( ثم عض إصبعه السبابة ثلاث مرات في كل مرة يقل : آه ) صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة , ويشير هنا إلى أربعة أنظمة لإدارة الحكم , نظام قضائي نزيه , ونظام أمن داخلي منصف , ونظام مالي دقيق وعادل , ونظام معلوماتي واستخباراتي صادق ,
وفي عهد العباسيين تم تطوير مهمة الكاتب إلى وزير , وكان أبو سلمة الخلال أول من شغل المنصب في أول عهد العباسيين , وقد قسم أبو يعلي الفراء المناصب القيادية تحت رئيس الدولة إلى أربعة , وهي الوزراء وهم الذين لهم ولاية عامة في الأعمال العامة , والأمر للأقاليم والبلدان , وقاضي القضاة ونقيب الجيوش وحامي الثغور ومستوفي الخراج وجابي الصدقات , وهؤلاء لهم ولاية خاصة في الأعمال العامة ) القاضي ومستوفي الخراج وجابي الصدقات وحامي الثغر ونقيب الجند على مستوى بلد أو إقليم , وتكون ولايتهم خاصة في أعمال خاصة , رغم أن نصوص الوحي لم تتحدث عن واجبات الحكومة , إلا أن الماوردي وأبا يعلي في كتايبهما المسميين " الأحكام السلطانية " حددا عدة وظائف عامة للإمام وهي :
- حفظ الدين
- تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين
- حماية البيضة
- إقامة الحدود
- جهاد من عادى الإسلام
- جباية الفئ
- تقدير العطايا لمن يستحق
- استفتاء الأمناء وتقليد النصحاء مباشرة الأمور بنفسه .
عندما جاء العثمانيون اتبعوا تنظيما بسيطا لإمبراطوريتهم حيث ابتكروا جهازين إداريين للحكم , جهاز إداري مركزي وجهاز إداري محلي , وتم تنظيم الجهازين على أساس هرمي ينتهي برئيس الدولة ( الخليفة العثماني ) وقد أخذ العثمانيون بالكثير من العادات العربية والفارسية والبيزنطية في تنظيم للأجهزة الإدارية ودمجوا معها بعض العادات التركية القديمة وصهروها كلها في بوتقة واحدة مميزة , مما جعل الدولة العثمانية تظهر بمظهر الوريث الشرعي لجميع تلك الحضارات التي سبقتها يتكون الجهاز الإداري المركزي من السلطان وحاشيته , وهؤلاء جميعا يعرفون باسم " آل عثمان " ويعاونهم في الحكم ما يعرف باسم " الديوان " وهو جهاز إداري مضمن يتكون من الصدر الأعظم وأفراد الطبقة الحاكمة ومنصب الصدر الأعظم هو أعلي مناصب الدولة بعد منصب السلطان وكان من يتبوأ هذا المنصب يلعب دور رئيس الوزراء ورئيس الديوان , ومن صلاحياته تعيين قادة الجيش وجميع أصحاب المناصب الإدارية المركزية أو الإقليمية , أما الطبقة الحاكمة فكان يشار إلى أفرادها باسم " العساكرة " أو " العسكر " ومفردها " عسكري " وهي تشمل : الدفتردار , أى الشخص المكلف بالشؤون المالية وحساب موارد الدولة ومصاريفها الكاهية باشا , وهو الموظف العسكري الذي يتكفل بتسيير الشؤون العسكرية للدولة الشاويش باشا ( بالتركية العثمانية : جاويش باشا , نقحرة : تشاويش باشا ) وهو موظف ينفذ الأحكام القضائية التي يصدرها القضاة رئيس الكتاب , وشيخ الإسلام وطبقة العلماء ,
وكان السلطان العثماني هو صاحب القرار النهائي الفاصل في أغلب الأحيان , وقد استمر الأمر على هذا المنوال حتى عهد السلطان مراد الرابع , عندما ازداد نفوذ الديوان وأخذ السلاطين لا يشاركون في جلساته أكثر فأكثر وجرت العادة منذ العهد العثماني على إطلاق تسمية " الباب العالي " على الحكومة العثمانية , وهي تسمية تعني في الأصل قصر السلطان , ومع مرور الوقت أصبح المقصود بالباب العالي : أعلي سلطة تتجسد في قوة السلطان المستمدة من قوة جيشه .
الاقتصاد والنظام المالي
في مجتمع القرية تتضاءل السلطة السياسية وتلعب المسؤولية الاجتماعية دورا أساسيا في صناعة الأعراف التي تنظم العلاقات المختلفة في المجتمع ويوم جاء النبي صلي الله عليه وسلم قرية يثرب لم يكن هناك سلطة سياسية واضحة ولا أجهزة تتولي مسؤوليات عامة فلقد اكتفي المجتمع بالأعراف السائدة التي تنظم علاقاته وأمره ومع مجئ النبي صلي الله عليه وسلم تشكلت أول زعامة في القرية ذات صفة دينية وسياسية وأول إنجاز سياسي لتحويل القرية إلى مدينة والقبائل إلى أمة كان إعلان وثيقة سميت " الصحيفة " تتضمن بنودا حول تضامن المؤمنين في إعطاء المعاقل ( السديات ) وفداء الأسري وإعانة المثقلين بالديون , " والصحيفة " بهذا نقلت الأفراد من الانتماء للقبيلة إلى الانتماء للأمة الإسلامية الناشئة , فالتضامن بين أبناء القبيلة الواحدة كان معروفا في الجاهلية , أما التضامن بين أبناء المدينة الواحدة الذين تربطهم رابطة العقيدة ,لا النسب , فأمر لم يطبقوه بينهم قبل ذلك , كما نظمت الصحيفة علاقات المسلمين بغير المسلمين ( اليهود ) في المجتمع الواحد , غير أنها لم تتضمن أية التزامات مالية سوى ما يتحمله الفرد من تجهيز نفسه في حالات الدفاع عن يثرب ,
وكانت الخطوة الثانية هي بناء مقر للاجتماع الديني والسياسي سمي مسجدا وأصر النبي صلي الله عليه وسلم دفع قيمة الأرض بشكل خاص , ورغم أنه صلي الله عليه وسلم خط للمسلمين سوقا إلا أنه لم يفرض جباية أو ضريبة أو رسما , وفي السنة الثانية من الهجرة فرضت الزكاة لتصبح هي البداية الحقيقية لواجبات المواطنة الجديدة لكنه صلي الله عليه وسلم استمر في تكريس المسؤولية الاجتماعية في تكافل المجتمع وحل مشاكله المالية بالتبرع الطوعي دون اللجوء إلى تحصيل إيرادات يؤمن فيها احتياجات المجتمع العامة و تمثل ذلك بتبليغ التوجيهات الإلهية لبذل المال في سبيل الله , والتصدق على الفقراء , وذوي الحاجات , وبذله جهادا لإعلاء كلمة الله تعالي , لم نجد حالة واحدة حوّل فيها الرسول صلي الله عليه وسلم الحث على العطاء التبرعي إلى إلزام وإجبار رغم أن الممالك المجاورة كانت تفعل ذلك وتفرض الضرائب بأنواع متعددة ,
وكان أول إيراد ذي بال دخل خزانة الدولة هو غنائم وأسري معركة بدر في السنة الثانية للهجرة و حيث وزع أربعة أخماسها على المقاتلة , وترك خمس الخمس للدولة تتصرف فيه حسبما ترى في مصالح المسلمين , ومع غنائم الحرب وفريضة الزكاة وضعت اللبنة الأولي للجهاز المالي في الدولة الإسلامية ورغم نشأة هذا الجهاز لكنه لم يعرف أن الرسول صلي الله عليه وسلم أجرى رواتب أو أعطيات دورية لموظفي الخدمة العامة , أى أن الخدمات العامة كانت تقدم تبرعا من قبل الناس , وبقي التبرع الطوعي يشكل مصدرا أساسيا في سد الاحتياجات العامة مثل إطعام الوفود القادمة , وبناء المساجد وإمدادها بالإنارة والمياه , وأمور الرعاية الاجتماعية كشراء أو حفر الآبار وتخصيصها للاستعمال المجاني للناس جميعا ,
ولم يستثن من ذلك تجهيز الجيوش والمهمات العسكرية , وأول تفكير لمواجهة الاحتياجات المستقبلية للمجتمع كان بتخصيص نصف أرض خيبر ثم فدك للنوائب , ثم جاءت الجزية كثالث إيراد عام للدولة بعد أن فرضها صلي الله عليه وسلم على نصارى نجران ومجوس هجر والبحرين , ونشأت الملكية العامة بعد التوسع في الوقف وبعد أن أمر بحبس ربقة أرض له في خيبر وجعل غلتها في سبيل الله , كما دعي عثمان رضي الله عنه , ليشترى مربدا كان بجوار المسجد ويضمه للمسجد النبوي وقفا لله تعالي , وأن يشترى بئر رومة ويجعلها سقاية للمسلمين وله أجرها , وليبدأ بذلك تشكيل الملكية العامة ,
كما ظهرت في هذه الفترة ممارسة الاقتراض العام , إذ اقترض النبي صلي الله عليه وسلم من أبي ربيعة ( غير مسلم ) أربعين ألف درهم وردها إليه من إيرادات بيت المال ويلاحظ من ذلك كله أن السياسة المالية للنبي صلي الله عليه وسلم لم تقم على التخطيط طويل الأجل للإيرادات العامة , حفاظا على روح القرية القائمة على المسؤولية العامة والتكافل الاجتماعي والمبادرة الذاتية , غير أن دخول معظم أجزاء الجزيرة العربية تحت طاعة النبي صلي الله عليه وسلم وبداية حقبة الفتوحات الإسلامية في عهد أبي بكر رضي الله عنه فرض على القيادة الإسلامية التخلي عن روح القرية والتزام طابع المدينة وإدارة الدولة فأصبحت يثرب " المدينة" عاصمة الدولة , وصار المهاجرون والأنصار جزءا من الأمة الإسلامية , ومع السيل المتدفق من الإيرادات العامة تمت مسؤولية الدولة في الإنفاق وتقلصت المسؤولية الاجتماعية والتبرع الطوعي , وبرز دور الرعاية الاجتماعية في العهد الراشد من صدر الإسلام فكثرت الجرايات والعطايا والرواتب على الناس , وأضيفت موارد مالية جديدة مثل الخراج والأصول الثابتة العامة " الصوافي , والعادية " واتسعت التجارة الدولية ونشأ معها مورد مالي آخر أشبه بالضريبة الجمركية على البضائع الأجنبية " العشور " غير أن السياسة التي انتهجها النبي صلي الله عليه وسلم يتقليص الادخار العام إلى أدني صوره وعدم الالتفات للتخطيط طويل الأجل للإيرادات العامة ظلت مستمرة كنهج في إدارة الحكم الراشد , يروى أن عليا رضي الله عنه دخل بيت المال وقال " لا أمسي وفيك درهم " ومع مجئ الدولة الأموية أخذت أجهزة الدولة طابعا تنظيميا هرميا يعتمد على الولاء للنظام الحاكم , وتلاشت روح القرية المشبعة بالمسؤولية الاجتماعية والتبرع الطوعي والرقابة الذاتية ,
وظهرت تنظيمات جديدة اقتضتها المرحلة السياسية الجديدة التي رسخت مفهوم الدولة وتمثلت بالأجهزة التالية : ديوان الخراج وديوان الجند , وديوان الخاتم , وديوان البريد , وديوان الرسائل , وديوان الإنشاء , وديوان العشر , وديوان المستغلات , وديوان العمال , كما ظهرت أنواع جديدة من الرسوم والضرائب بعضها كان معروفا أيام الملكيات ما قبل الإسلام مثل المكوس وهدايا النيروز وهدايا المهرجان , أو رسوم فرضتها الدولة لقاء خدمات مثل ضرائب الفدية وأجور الضرابين وثمن الصحف وأجور البيوت ودراهم النكاح , كما توسعت الملكية العامة للدولة وظهر اسم " المستغلات " وهي أراضي وعقارات ومباني تملكها الدولة ويديرها ديوان مستحدث سمي " ديوان المستغلات " وأصبح لدى الدولة جهاز وظيفي ونظام رواتب غير أن الدولة الأموية حافظت على نظام اللامركزية الذي اتبعه الخلفاء الراشدون , فكانت كل ولاية تصرف إيراداتها على مرافقها الخاصة , والباقي يحمل إلى الخزينة العامة بالمدينة أو دمشق , ويمكن القول أن الحكام الأمويين اعتنوا بالتنظيمات المالية عناية فائقة وأصبح ( بيت المال )
في الدولة الأموية يمثل أهمية عظيمة في تنظيم حركة الأموال داخل الدولة الإسلامية الواسعة , فقد كانت بيوت الأموال تشكل في مضمونها نظاما ماليا متكاملا من حيث توافر عناصره الرئيسية , وهي الإيرادات والمصروفات والإدارة المالية , مما يدلل على التقدم الإداري الذي تمتعت به الدولة في حينها وبمجئ الدولة العباسية لم تختلف مصادر إيرادات الخزينة العامة للدولة عن سابقتها , غير أن العباسيين أولوا التجارة الخارجية أهمية كبرى للخروج من شرنقة دار الإسلام ودار الحرب إذ سيطروا – والإمارات التابعة لهم في أطراف العالم الإسلامي - على الطرق التجارية البرية والبحرية بعد التحكم في شبه القارة الهندية , وتم تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة إسلامية , وهذا ما عبّر عنه عبد الرحمن ابن خلدون بقوله " صار البحر المتوسط خاليا من أى نفوذ للأمم النصرانية بشئ من جوانبه , ومن أجل تشجيع التبادل التجاري قام العباسيون بإرساء قواعد العمل الدبلوماسي مع دول الجوار ليحل مفهوم السلام بدلا من الحرب فقد حظيت الجالية التجارية المسلمة باستقرار في ميناء كانتون نتيجة اتفاقية السلم التي عقدت مع ملك الصين , وقد تمتعت برعاية السلطات الصينية وباشرت مهامها في الإشراف على التجارة في الشرق الأقصى,
كما أدت اتفاقية الصلح التي أبرمها هارون الرشيد مع بيزنطة إلى تدفق السلع الشرقية إلى بيزنطة وغرب العالم الإسلامي وعلى منوال ذلك قام الأغالبة بتوقيع معاهدات تجارية مع المدن الإيطالية رغم الاحتجاجات البابوية كما قام العباسيون بإصلاح النظام الجمركي وخففوا الرسوم المفروضة عليه , وفي المجال الصناعي استخدمت المعادن من النحاس والقصدير والذهب والفضة في الصناعات الخفيفة كما تمت العناية بالصناعات التحويلية لتصنيع المواد اللازمة للحياة اليومية كالمنسوجات والمصنوعات الجلدية والزجاجية والفخارية بالإضافة إلى صناعة الصابون والزيت والشمع وظلت الصناعة الثقيلة محدودة للغاية , واقتصر ما عرف منها على صناعة السفن والعتاد الحربي ,
بل أن لوازم تصنيع السفن كانت تجلب في غالب الأحيان من بيزنطة وما أن وصل الدور على العثمانيين في دار الإسلام حتى كانت مالية دولتهم وخزينتها أفضل وأكثر فعالية من أى دولة إسلامية سابقة , واستمر نظامهم المالي أفضل نظم عصره وفاق جميع النظم المالية لكل الدول من إمبراطوريات وجمهوريات وممالك وإمارات معاصرة حتى القرن السابع عشر , عندما أخذت الدول الأوروبية الغربية تتفوق عليها في هذا المجال , ويعزي ازدهار الخزينة العثمانية خلال العصر الذهبي للدولة إلى إنشائهم لوزارة خاصة تختص بالأمور المالية للدولة من إنفاق واستدانة , عرفت لاحقا باسم " وزارة المالية " وكان يرأسها شخص مختص هو " الدفتردار " الذي أصبح يعرف لاحقا باسم " وزير المالية " وكان لحسن تدبير بعض وزراء المالية أثر كبير في نجاح فتوحات السلاطين وحملاتهم العسكرية , إذ استطاعوا بفضل هؤلاء وسلامة سياستهم المالية التي رسموها للدولة , أن يصرفوا على الجيش ويزودوه بكامل المعدات اللازمة وأحدث أسلحة العصر .
وفيما يتعلق بالسياسات النقدية فقد عرف العرب أهمية النقد كوسيلة لتبادل السلع وممارسة التجارة , إذ سكت كل من مملكة البتراء والحضر وتدمر وسبأ وحمير نقودها , واعتبرت زنوبيا ذلك أمرا سياديا خاضت من أجله الحرب مع روما , وفي عصر رسول الله صلي الله عليه وسلم كان النقد المستخدم هو الدنانير الذهبية الرومية والدراهم الفضية الفارسية , وطوال حكمه في يثرب لم يغير العمل المتداولة رغم ما عليها من نقوش لملوك وأكاسرة وصلبان ونار وعبارات التثليث المسبحي ولعل ذلك يعود لخبرة النبي صلي الله عليه وسلم وبيئة موطنه ( مكة ) التجارية , مؤكدا بذلك أن النقود أداة حيادية طالما تقوم بوظيفتها كوسيلة لتبادل السلع والاحتفاظ بالقيمة , وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تم إضافة عبارة ( لا إله إلا الله ) على العملة الكسروية وعلى الوجه الآخر ( رسول الله ) أما عثمان بن عفان فقد اكتفي بنقش ( الله أكبر ) وفي الدولة الأموية تم اتخاذ نقش على الوجه لشخص واقف يمسك سيفا ويرتدي رداء طويلا , وغطاء رأس يدوى يغطي الكتفين ومن معان النحاس والفضة والذهب ويعتبر عبد الله بن الزبير أول من دوّر الدرهم أى : ضربها بصورة مدورة جيدة ,
وفي عهد عبد الملك بن مروان فقد تم تعريب العملة وجرى ذلك على عدة مراحل : نقد بدون اسم وبدون لقب الخلافة , ثم نقد يحوى لقب الخلافة فقط , ثم نقد يحوى اسم الخليفة ولقبه الخلافي , ثم نقد مؤرخ , ورغم أن الأمويين أول من سك العملة في دار الإسلام إلا أن العباسيين أولوا عناية كبيرة بضرب العملة , وأمروا بضبط معايير الضرب في دور السكة بدار الخلافة بغداد وفي الولايات ووقع التنافس بين دور السكة في تحسين جودة الدراهم والدنانير فكان التعامل بالدرهم في المشرق وبالدنانير في المغرب , ولم يشكل هذا الاختلاف في العمل أدني عائق في سيولة التعامل النقدي بين أطراف العالم الإسلامي , لاعتماد نظام تحويل من عملة لأخرى بالوزن والعيار حسب سعر الصرف السائد في مختلف المناطق , كما اكتسبت العملة الإسلامية شهرة طيبة في الأسواق العالمية بسبب تحكم المسلمين في التجارة البرية والبحرية وجرى تداولها في دار الحرب على نطاق واسع , كما تم التعامل بالصكوك بين التجار أما في العهد العثماني فكانت العملة العثمانية في بداية عهد الدولة تعرف أكحة ثم مانغر في عهد السلطان مراد الأول
وكانت البلاد الأوروبية المفتوحة تسك عملاتها وفق نظمها مما جعلها تستخدم جنبا إلى جنب مع العملة المحلية في حدود الدولة العثمانية ثم سكت عملة جديدة ( بارا ) هي أخف من العملة السابقة ( أكجة ) في زمن مراد الرابع وكانت تسك العملة في القسطنطينية والمدن الجنوبية فقط , وفي عهد سليمان الثاني سكت عملة سميت " القرش " لتعادل عملة أوروبا في ذلك الوقت إسمها " غروسو " وكانت تسك من معدن البرونز النحاس لكنها في أواخر عهد الدولة أصبحت " الليرة " مرادفا لاسم العملة العثمانية وكان يضاف إليها اسم السلطان الذي صدرت في عهده فكان يقال " ليرة مجيدية " وليرة رشادية " على سبيل المثال , وكانت الليرة العثمانية تساوى مائة واثنين وستين قرشا وأطلق عليها العرب اسم العثملية " وكانت الليرات العثمانية عبارة عن نقود ذهبية في بادئ الأمر ثم أصدرت الدولة في عهد الحرب العالمية الأولي أوراقا نقدية لأول مرة في تاريخ البلاد بسبب المبالغ الطائلة التي أنفقتها على الحرب ,
وكان هذا أول تجاوز في تاريخ الإسلام عن سياسة الإسلام في النقد وأكثرت من الكميات التي أنزلتها إلى السوق , فهبطت قيم هذه العملة بالنسبة للنقد الذهبي والفضي هبوطا كبيرا , وظلت الحكومة تصرّ على اعتبار الليرة الورقية مساوية لليرة الذهبية وتجبر الناس على قبضها وتداولها , مما جعل أهل الشام في أواخر العهد العثماني يلجئون للتعامل بالعملة المصرية , منها اكتسبت النقود بالشام تسمية " مصاري " ومصريات .
يتضح من هذا العرض الموجز النتائج التالية :
- النتيجة الأولي :
أن نشوء نموذج دار الإسلام جاء نتيجة تطور الأحداث السياسية داخل قرية صغيرة " يثرب " وأخذت هذه التطورات مسارا متذبذبا بين ثقافة القرى وثقافة الإمبراطوريات , وبين مبادئ الإسلام الأساسية والحصيلة التاريخية لتراث المنطقة الديني , وبين القوة والانتشار والضعف والانحسار ,
ولم يتشكل هذا النموذج نتيجة نصوص دينية مباشرة , بل ظل صناعة بشرية خضعت لمبدأ التجربة والخطأ وظلت إدارة الحكم طوال تاريخ دار الإسلام تتطور وتتغير ولم تأخذ نظاما واحدا ولا أسلوبا مكررا , فلقد مرت بمراحل مختلفة من أشكال الإدارة , بدءا من القرية إلى المدينة إلى الدولة المدينة إلى الإمبراطورية , كما مرت بمراحل قيادية مختلفة بدءا من النبوة ثم الزعامة ثم الرئاسة ثم الملك , ولا يمكن اقتطاع مرحلة من مسيرة تطور تلك الإدارة والادعاء بأنها تمثل النموذج الإسلامي لإدارة الحكم , بل لا يمكن القول بأن كل مسيرة إدارة الحكم ( على مدار تاريخ دار الإسلام ) تمثل النموذج الإسلامي لإدارة الحكم , ذلك لأن الوحي لم يقدم نموذجا محددا لإدارة الحكم بل تركه لاجتهاد المسلمين .
- النتيجة الثانية :
كل النظم والأساليب الإدارية التي اتبعها المسلمون منذ وفاة النبي صلي الله عليه وسلم كانت اجتهادات أملتها الخبرة المتاحة والظروف المحيطة والمصلحة العامة , ولم تكن استجابة لنص ديني , لقد كان دور الدين هو إضفاء القيم والمبادئ الجديدة على هذه النظم والأساليب , ويمكن القول أن المبادئ والقيم الإسلامية تم تنفيذها بشكل رائع إبان إدارة الحكم في عهد الخلفاء الراشدين أو غيرها , لكن تجاربها الإدارية ليست جزءا من الدين , وتبقي في إطار التراث الذي تتدارسه الأجيال وتستفيد منه ,
هذه النتيجة هي ما يفسر رفض الخليفة الرابع رضي الله عنه عرض الخلافة مقابل الالتزام بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما , فقال " بل على كتاب الله وسنة نبيه واجتهاد رأيي " وعندما رفض الالتزام بمنهجي الشيخين رضوان الله عليهما كان يدرك أن الخبرة تتزايد وأن الظروف تتغير وأن المصالح تتبدل وأن كل ذلك يحتاج اجتهادا جديدا وكان يريد أن يلفت الأنظار إلى الجانب الاجتهاد الفسيح في السياسة والدولة والحكم , لقد خسر فرصته المبكرة بالخلافة احتراما لموقفه وتكريسا لمبدأ مفصلي يحدد سلوك المسلمين بالمستقبل .
- النتيجة الثالثة :
إن هذه النظم في نشوئها وتكاملها وتتابعها واستمرارها لا يمكن اعتبارها قائمة بذاتها منفصلة عما حولها , إنما يجب أن ينظر إليها ضمن الظروف الدولية التي أحاطت بها آنذاك , ومن خلال ملابسات الاختلاط بالأمم الأخرى والاحتكاك بثقافاتهم , ولعل هذا يفسر احتفاظ الرسول صلي الله عليه وسلم بالنظام النقدي المعمول به في زمنه دون تبديل أو تغيير , كما يفسر إبقاء النظام القضائي ساريا في صدر الإسلام وفق ما كانت عليه القبائل قبل الإسلام مع تعديلات فرضها الدين الجديد , كما يفسّر اللجوء لتقسيم العالم إلى دارين , والذي لم يكن ليتم لو كان هناك سلم دولي , لقد جاء هذا التقسيم كنتيجة للنظام اللاسلمي العالمي الذي يسعى كل طرف فيه إلى توسيع رقعته الجغرافية ومد نفوذه إلى المدى الممكن و يقول الشيخ وهبة الزحيلي "
إن هذا التقسيم مراعي فيه حالة الواقع وليس تقسيما شرعيا قانونيا ولقد انتهينا إلى أنه مجرد أثر من آثار الحرب " كما جاء مفهوم المواطن والأجنبي والعبودية مقاربا لما هو معمول به دوليا آنذاك , ومتناسقا مع ظروف وإمكانات العصر , وهذا كله يؤكد الأثر الكبير للمرحلة والواقع اللذين تمر بهما الأمة في صياغة نظمها وتحديد سياساتها.
الفصل الثاني
الدولة المعاصرة
تأخذ الدولة المعاصرة شكلا نمطيا في كل أرجاء العالم بغض النظر عن الأيديولوجيات المختلفة , وأصبحت كل الدول – صغرت أم كبرت – تتماثل مع غيرها من حيث البنية والشكل ولقد تأسس هذا القالب النمطي بعد مجموعة تطورات تاريخية .
التطور التاريخي
خلال القرون الأربعة الأخيرة تطور العالم المسيحي في الغرب ولم يعد يضع حسابا كبيرا للسلطة الدينية المركزية في روما , وأدت حروب التنافس والأطماع في أوروبا إلى صلح وستفاليا 1648 , والذي أرسي مفهوما سياسيا جديدا يقوم على مبدأ سيادة الدول , وهو مبدأ قاد إلى نشوء ممالك ذات نزعة قومية انتهت ببروز فكرة الدولة القوم وبداية التنافس الاستعماري بينها ,
وصاحب كل ذلك تحرير العقل الغربي من أغلال السلطة الكنسية وبزوغ عصر التنوير والنهضة الفكرية والعلمية واستبدل الغرب في حربه مع الشرق الإسلامي فكرة دار الحرب بمشروع الاستعمار وهو مشروع بدأ باحتلال الأراضي ونهب الثروات وإقامة مستوطنات خارج أوروبا وانتهى بإعادة شاملة لصياغة الشعوب ولتكوين الأفراد ولرسم الخريطة السياسية بما يضمن الهيمنة الغربية على العالم , وقد جاء هذا المشروع في وقت انتهى به حال المسلمين إلى ارتهان مطلق لآليات بالية لصناعة المعرفة , والركون الاستسلامي إلى التراث المتراكم و الانزياح التدريجي عن روح القرآن ومبادئه الحيوية المتوقدة , لقد خاض الغرب معركته الأخيرة مع دار الإسلام مسلحا بتفوقه العسكري ودهائه السياسي وتقدمه الحضاري ونظامه المعرفي المبهر ,
واتضح عجز الخلافة عن حماية بيضة المسلمين عام 1830 عندما احتلت فرنسا الجزائر , وتلاها احتلال بريطانيا لعدن ومصر عامي 1839 و 1882 م وحسمت نتيجة الصراع بين دار الإسلام والمشروع الاستعماري ( دار الحرب سابقا ) لصالح الغرب , ولم يتبق على إعلان الهزيمة سوى تسوية الخلافات والنزاعات الغربية والتي بدأت محاولاتها عقب نهاية الحروب النابليونية , حيث حاولت القوى الأوروبية العظمي إقامة نوع من التوازن بينها في محاولة لتجنب الحرب , كما شهدت هذه الفترة بوادر نشوء القانون الدولي وذلك بتوقيع اتفاقية جنيف التي نصّت على بضعة قواعد تتعلق بالإغاثة الإنسانية أثناء الحروب , وباتفاقيات لاهاى من عاميّ 1899 , 1907 التي وضعت بضعة قواعد وقوانين تحكم سير الحروب , وتحدثت عن التسوية السلمية للمنازعات الدولية , ولعل أبرز المحاولات لوضع تصور موحد للدول الاستعمارية من أجل اقتسام الغنائم بالعالم هو المؤتمر الذي عقد في لندن عام 1905 واستمرت جلساته حتى 1907
, وذلك بدعوة سرية من حزب المحافظين البريطانيين وهدف هذا المؤتمر إلى إيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الدول الاستعمارية إلى أطول أمد ممكن , وقد تقدمت حكومة حزب الأحرار البريطاني في ذلك الوقت بمشروع مقترح حول تلك الآلية وضم المؤتمر الدول الاستعمارية في ذاك الوقت وهي : بريطانيا , فرنسا هولندا بلجيكا , اسبانيا , ايطاليا , وخرج المؤتمر في نهايته بوثيقة سرية سميت " وثيقة كامبل " نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنرى كامبل بانرمان , وتوصل المؤتمرون إلى نتيجة مفادها : " أن البحر المتوسط هو الشريان الحيوى للإستعمار , لأنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية وملتقي طرق العالم , وأيضا هو مهد الأديان والحضارات " . المشكلة في هذا الشريان كما هو مذكور بالوثيقة " أنه يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان " وتقصد الوثيقة بذلك الشعب العربي , وأبرز ما جاء في توصيات هذا المؤتمر هو إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة .
كما أدت الجهود التنسيقية لوقف الاقتتال – بين الدول الاستعمارية حول اقتسام الغنائم – إلى قيام منظمة السلام الدولية عام 1914 والتي كانت بمثابة اتحاد برلماني دولي , حيث كان ثلث أعضائها يمثلون الدول البرلمانية الأربع والعشرين القائمة في ذلك الزمن , وكانت أهداف هذه المنظمة تتلخص في تشجيع الحكومات على حل المنازعات الدولية بالطرق السلمية , بما فيها التحكيم , غير أن ذلك لم يمنع نشوب حرب – بين الدول الأوروبية – هي الأولي من نوعها , ففي الحرب العالمية الأولي تم لأول مرة تكريس المصانع ومنتجاتها لصالح الجيوش , وتسببت في مصرع أكثر من ثمانية ملايين ونصف مليون جندي , وحوالي 21 مليون جريح , ومقتل ما يقرب من 10 ملايين مدني و بعد أن وضعت الحرب أوزارها في شهر نوفمبر من سنة 1918 , تبين مدى جسامة الأضرار التي لحقت بأوروبا سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي فبرز تيار مناوئ للحروب بعامة حول العالم , ويرى أن هناك عدة أسباب يجب معالجتها كي لا تجر الدول إلى قتال بعضها البعض مجددا ,
ومن هذه الأسباب : سياق التسلح و التحالفات الدبلوماسية السرية , وحرية الدول ذات السيادة بالدخول في أى حرب طالما أنها ترى في ذلك تحقيقا لمصالحها , رأي أتباع هذا التيار أن معالجة هذه الأسباب تكمن في إنشاء منظمة دولية تهدف إلى منع قيام حروب مستقبلية عبر نزع السلاح , والدبلوماسية المفتوحة , والتعاون الدولي , تقييد حق الدول في إعلان الحرب , وتوقيع عقوبات صارمة على الدولة التي تقدم على إعلان الحرب الأمر الذي يجعل من الأخيرة منفرة بالنسبة للأمم المختلفة , ومن هنا جاءت فكرة عصبة الأمم التي تم الاتفاق عليها في مؤتمر باريس للسلام , والذي رفضت الولايات المتحدة الأمريكية التصديق على ميثاقها أو الانضمام لها , حيث رأت أن النظام التأسيسي للعصبة محاولة من الدول الأوروبية الاستعمارية الكبرى للإستئثار بغنائم الحرب العالمية الأولي , وهو ما تحقق فيما بعد حيث انتهى مؤتمر السلام بباريس إلى معاهدة فرساي واتفاقية سايكس بيكو , تلك التي أودت بتقسيم دار الإسلام إلى كيانات سياسية إما ذات صبغة قومية أو صبغة جغرافية كما جاء في معاهدة فرساى واتفاقية سايكس بيكو , كما تم تفتيت أمة الإسلام إلى قوميات وإثنيات وشعوب داخل هذه الكيانات الجديدة بالنهج الذي مهد له مؤتمر كامبل بلندن بين الدول الغربية الاستعمارية .
ولقد ثبت فيما بعد أن نهج الاستئثار أدى إلى أزمة اقتصادية عالمية عرفت بـ " أزمة الثلاثينات " وكان أبرز ملامحها التفاوت الاقتصادي الكبير بين الأنظمة الديمقراطية ( فرنسا , بريطانيا , الولايات المتحدة الأمريكية ) والتي كانت تحتكر بمفردها 80% من الرصيد العالمي للذهب وتملك إمبراطوريات استعمارية ومناطق نفوذ شاسعة , وبين الأنظمة الدكتاتورية ( ايطاليا , ألمانيا , اليابان ) التي اعتبرت نفسها دولا فقيرة وطالبت بإعادة تقسيم المستعمرات لضمان ما أسمته بالمجال الحيوى ,
وهو الأمر الذي أدى إلى تضارب المصالح وتزايد حدة التوتر في العلاقات الغربية وشكل تهديدا مباشرا للسلام الأوروبي, ولقد أدي التنافس – على القوة والتسلح والهيمنة والاستعمار – إلى فشل العصبة بسبب انحيازها للكبار , حيث علق الدكتاتور الإيطالي بينيتو موسوليني قائلا " أن العصبة لا تتصرف إلا عندما تسمع العصافير تصرخ من الألم , أما عندما ترى العقبان تسقط صريعة فلا تحرك ساكنا , وقاد هذا الفشل أوروبا من جديد إلى حرب عالمية ثانية تعد من أكبر الحروب الشمولية وأكثرها كلفة في تاريخ البشرية وذلك لاتساع بقعة الحرب وتعدد مسارح المعارك والجبهات شارك فيها أكثر من 100 مليون جندي , فكانت أطراف النزاع دولا عديدة والخسائر في الأرواح بالغة , وقد أزهقت الحرب العالمية الثانية زهاء 61 مليون نفس بشرية بين عسكري ومدني أى ما يعادل 2% من تعداد سكان العالم في تلك الفترة فضلا عن ملايين اللاجئين المشردين الذين دمرت الحرب مدنهم بالكامل , وانهار الاقتصاد الأوروبي ودمر 70% من البنية التحتية الصناعية لدوله المتحاربة ,
ولكن على عكس ما حدث في الحرب العالمية الأولي , فإن المنتصرين في المعسكر الغربي لم يطالبوا بتعويضات من الأمم المهزومة بل تصدت الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة ترتيب الوضع الدولي بصفتها دولة غير استعمارية فقد أعلن وزير خارجيتها جورج مارشال " برنامج التعافي الأوروبي " والمشهور بمشروع مارشال , وطلب من الكونجرس الأمريكي أن يوظف مليار دولار لإعادة اعمار أوروبا , وذلك كجزء من الجهود لإعادة بناء الرأسمالية العالمية ولإطلاق عملية البناء لفترة ما بعد الحرب وطبق نظام بريتون وودز الاقتصادي بعد الحرب ,
إذ يقوم هذا النظام النقدي الجديد على أساس " قاعدة الصرف بالدولار الذهبي " وعلى أساس " مقياس التبادل الذهبي " وبذلك تحوّل الدولار الأمريكي من عملة أمريكية إلى عملة احتياط دولية ربطت عملات دول العالم بها , مما أدي إلى سيطرة الدول المنتصرة فعليا على الشعوب الأخرى المنهزمة منها والضعيفة , غير أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت حذرة من هذا الانتصار في ظل بداية حرب جديدة وباردة بين الشيوعية والرأسمالية فكان هدفها من الإصلاحات بأوروبا هو كسب دعم الدول الأوروبية للقطب الغربي ومساهمتها في منع انتشار الشيوعية بأوروبا وجاء حماسها لإنهاء النهج الاستعمار بسبب خوفها من احتواء الشيوعية حركات التحرر الشعبية من الاستعمار خاصة بعد اكتشاف الغرب أن الشعوب المنبثقة من الأمة الإسلامية عصية وتتمتع بعدم قابليتها للاستعمار إذ أخذ كل شعب جديد ضمن الكيانات الجديدة يسعى للاستقلال والتخلص من الاستعمار .
وما كانت الدول الاستعمارية لتقبل سريعا بهذا النهج لولا فلسفة الدبلوماسية التي جاءت بها فكرة عصبة الأمم لتحل محل الجيوش في مناطق النفوذ والمصالح , فقد اختار الغربيون حروب الدبلوماسية والجاسوسية بدلا من الحروب العسكرية للحفاظ على المكتسبات الاستعمارية السابقة , وتعتبر هذه الفلسفة نقلة نوعية في الفكر السياسي الاستعماري الذي كان سائدا في أوروبا طيلة السنوات المائة السابقة , والتي طبقتها الولايات المتحدة الأمريكية من خلال إنشاء هيئة الأمم المتحدة بمؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945م.
لقد حافظت هيئة الأمم المتحدة على جوهر فكرة عصبة الأمم الهادفة إلى هيمنة الغرب على العالم مستخدمة القانون تارة , والدبلوماسية تارة , والأمر الواقع تارة أخرى , وتم ذلك من خلال إيجاد نظام دولي موحد يضم كل دول العالم ويحافظ على مصالح الدول الخمس الكبرى , خاصة بعد أن دخل عامل امتلاك وتطوير السلاح النووى حلبة المنافسة بين الكبار ليشكل حالة أطلق عليها " توازن الرعب "
ورغم أن أولي كلمات وثيقة الأمم المتحدة تنص على حفظ السلم والأمن الدوليين إلا أن المقصود بذلك هو السلم والأمن بين الكبار , حيث حفل نصف القرن الماضي بسلسلة من الحروب الدامية بين مختلف دول العالم باستثناء الدول الكبرى وجاء النظام الدولي بديلا معدلا للنظام الاستعماري ومحافظا على مصالح ونفوذ الدول الكبرى بشكل لا يستفز الشعوب الممانعة لظاهرة الإستعمار , كالتالي :
- أولا : اعتبار الدولة القوم الوحدة الأساسية التي تشكل البنية الهيكلية للنظام الدولي , أما المنظمة المتشكلة من تلك الدول والحاضنة لها فهي هيئة الأمم المتحدة .
- ثانيا : توحيد نمطية الدولة / القوم لكي تصبح الوحدة الأساسية متماثلة , ولا يتم الاعتراف دوليا بأى كيان سياسي وقبول عضويته في النظام الدولي ما لم يلتزم بالمعايير النمطية .
- ثالثا: تقع مسؤولية السلم والأمن الدوليين على مجلس الأمن طبقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وهو أهم أجهزة الأمم المتحدة وله سلطة قانونية على حكومات الدول الأعضاء لذلك تعتبر قراراته ملزمة للدول الأعضاء ( المادة الرابعة من الميثاق ) ويتكون المجلس من 15 عضوا .
- رابعا : منحت الدول المنتصرة بالحرب العالمية الثانية , وهي : الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وانجلترا وفرنسا العضوية الدائمة في مجلس الأمن وأضيف لهم الصين , كما منحت هذه الدول الخمس حق النقض ( الفيتو ) ضد أى قرار لا توافق عليه أى واحدة منهم , وأصبحت هذه الدول الخمس دولا عظمي تتحكم في مصير الصراعات والحروب والأزمات السياسية والاقتصادية .
القالب النمطي للدولة المعاصرة
النموذج النمطي للدولة الحديثة يتشكل من رقعة جغرافية تسمى وطنا , ويسمي الناس الذين يقطنون هذه الرقعة شعبا , وأفراد هذا الشعب مواطنون لهم وثائق تثبت شخصية الفرد منهم , ولا يستطيعون التنقل خارج وطنهم إلا بجواز سفر وموافقة الدول المزمع المرور فيها , أما الأجنبي فهو من لا ينتمي للوطن ويقيم وفق القوانين المعمول بها في البلاد , وعلى أرض الوطن يتم تحديد سلطات وعلاقات تسوس الشعب في إطار مؤسسي يسمي الدولة , والدولة تتكفل بحماية الوطن والشعب والحفاظ على سيادته وتنتج الدولة مؤسسات للقيام بالأدوار المناط فيها مثل الحكومة والجيش والشرطة والقضاء والسلك الدبلوماسي ,
وتتكفل الحكومة بتوفير الخدمات الأمنية والمعيشية والاقتصادية والتوجيهية , وتوفر للمواطنين التعليم والتدريب والوظائف والخدمات الصحية , وتنشئ القرى والمدن وتربطها بنظم اتصالات سلكية ولاسكلية وبشبكة مواصلات برية وبحرية وجوية ,ولهذا تنشئ وزارات لتقديم هذه الخدمات وللدولة رئيس يمثلها في المجتمع الدولي وعاصمة وسفارات خارجية وعلم ونشيد وطني وعملة وبنك مركزي ويوم وطني وتاريخ وطني ومنتخبات رياضية وطنية , وساعدت هذه النمطية على تسكين أى دولة في شبكة النظام الدولي بشكل يحافظ على نفوذ الدول الكبرى وعلى صدارتها السياسية .
هذه النمطية حمّلت الدولة مسؤولية الحفاظ على الثروة القومية وتطويرها وتنميتها ورعاية الأنشطة الاقتصادية من زراعة وصناعة وخدمات من أجل أن يصل عائد هذه الأنشطة إلى أعلي المستويات لتسويقها داخليا وخارجيا , مما ألزمها بتطوير المرافق والخدمات والبني التحتية والفوقية , وتنظيم تحصيل الضرائب والرسوم وزيادة مصادر الخزينة العامة , وأضاف إلى مسؤولياتها فتح الأسواق الخارجية للمنتج المحلي وضبط الميزان التجاري والحفاظ على قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأخرى وضبط معدلات التضخم ,
وأصبح لزاما عليها لمواكبة مقتضيات الدولة الحديثة أن تنضوى في ركب منظومة اقتصاد عالمية ( رأسمالية أو شيوعية أو اشتراكية ) وتخضع لميكانيكيتها , حتى يمكنها إدخال التكنولوجيا والنظم الحديثة في أنشطتها الاقتصادية والتجارية ولتطوير أنماط المعيشة , واستخدام الطرق التجارية الدولية التي تتحكم فيها الدول العظمي برا وبحرا , وجوا .
ولضمان استمرار القيادة الغربية للعالم , تم فرض نظام معرفي من نتاج الحضارة الغربية المعاصرة بشكل معياري بحيث يجبر أى معرفة سابقة على إعادة صياغة نفسها لتنجسم وتتوافق مع معايير النظام المعرفي المفروض , وما لم يتم استبعادها أو إعادة تصنيفها ضمن التراث الشعبي ( الفلكلور ) أو ضمن التراث الديني أو ضمن الأساطير , ولم يشمل هذا النظام تفسير الوجود والكون والإنسان والحياة فحسب , بل تخطاه لإعادة كتابة تاريخ البشرية وشعوبها المختلفة وتصنيفها وتسجيل صفاتها وسجاياها وفق المنظور الغربي صانع هذا النظام ,
ويسعي هذا النظام حتى اليوم لفرض معاييره في الأذواق , في الفن والثقافة والموسيقي والغناء والطهي واللبس والشعر واللغة , وبهذا تحول صانعو هذه المعرفة الغربيون إلى صانعي الحضارة ورواد المعرفة والعلوم والثقافة , وقد ضمن الغرب فرض هذه المعرفة من خلال المؤسسات التعليمية والأكاديمية والبحثية والثقافية التي لا تعتد بأى منظومة معرفية أخرى غيرها , وربط أنظمة العمل والتوظيف باجتياز اختبارات تبرهن على تلقي هذه المعرفة بشكل منهجي .
ومن الضمانات الأخرى لقيادة الغرب للعالم تشكيل الحياة الاجتماعية والمعيشية للفرد بشكل نمطي متشابه , فالأفراد في صغرهم يتلقون تعليما متشابها , ويتدرجون في سلم تعليمي موحد ويستقون من منظومة معرفية موحدة , وبهذا يكاد يتولي النظام الدولي تكوين الفرد وتشكيله من خلال الدولة النمطية , وترتبط معيشة الأفراد بالحصول على وظيفة ليتمكن من البدء بمشروع أسرة ولا يستطيع الفرد في الدولة المعاصرة تكوين أسرة ما لم يتوفر له دخل شهري يكفي للمسكن والملبس والمأكل والتعليم والرعاية الصحية , وتختفي الأسرة التقليدية التي تضم أربعة أجيال تعيش في بيت واحد ليحل محلها الأسرة الصغيرة المكونة من جيلين ( الوالدين والأبناء ) ويمضي أعضاء الأسرة حياتهم بالنهار خارج البيت ( الوظيفة أو المدرسة ) أو بالمواصلات ,
ولا يجتمعون إلا في وقت محدود من المساء ليمضي جميعهم إلى النوم في الليل , ويخصص يومان عطلة أسبوعية موحدة يرتاح فيها الناس من عناء الوظيفة , كما تخصص إجازات نصف سنوية وصيفية للمدارس والجامعات , ويتلقي الناس الأفكار والأخبار والترفيه والبهجة من شبكات إعلامية ومعرفية محلية أو عالمية تسهم في خلق عوالمه الروحية والرومانسية والأيدلوجية , ولهذا يبقي الفرد أسير النظام الدولي في تكوينه وتشكيله منذ مولده .
رغم النمطية التي تشترك فيها كل الدول المعاصرة إلا أنها تفاوتت في نظم الحكم , ويأتي هذا التفاوت من موقف أيدلوجي تجاه مفهومي الحرية والمساواة فالدول التي اعتبرت الحرية أساس الحكم وتبنت منهجا ليبراليا في الاقتصاد جاءت أنظمتها ديمقراطية تقدس وتضخم مفهوم حرية الفرد على حساب مصلحة المجتمع , وبشكل ذاب فيه مفهوم الأسرة التقليدي إلى أوهن صوره , وأصبح فيه الرأسمال هو الحاكم الفعلي الذي يمول الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة والبرلمان , والذي يتحكم في صناعة الفكر والرأي في خلال الشبكات الإعلامية والخزانات الفكرية التي يملكها أو بمول صناديقها ,
أما الدول التي اعتبرت المساواة هي أساس الحكم وتبنت منهجا اشتراكيا في الاقتصاد جاءت أنظمتها شيوعية تقدس مصلحة المجتمع إلى درجة إهدار قيمة الفرد بشكل تعسفي , وترتب على تفريطها بمفهوم الحرية بروز دكتاتورية الحزب الشيوعي وإقصاء الرأي المعارض وبصورة هيمن فيه على صناعة الفكر والثقافة والفن والرأى , وتلاشي الملكية الخاصة في ظل ملكية الدولة لكل مقدرات البلاد , وجاءت معظم دول العالم الثالث منحازة للحكم الفردي أو العسكرى بشكل تم فيه تقديس الفرد الحاكم على حساب الفرد والعائلة والمجتمع , وترتب على ذلك غياب الحريات والعدالة والمساواة جميعا , ولم يكن هناك نظرية حكم لمثل هذه الأنظمة سوى الاحتفاظ بالسلطة , ولذا جاء نظامها الاقتصادي خليطا غير متجانس من الاقتصاد الحر والاقتصاد المركزي , ومرتعا لشبكات الفساد والتنفع , ومرعي خصبا للبيروقراطية والروتين الحكومي .
تنطلق فلسفة النظام الاقتصادي الغربي في الدولة النمطية المعاصرة من مفهوم الندرة , وهي الندرة النسبية للموارد الاقتصادي إزاء احتياجات الإنسان وتطورها , فالناس يريدون أكثر مما هو متوفر , فلذلك لابد من اختيار الأهم فالمهم , والتضحية بما هو دون ذلك حتى تستمر الحياة وهي نظرة منبثقة من التصور الغربي للكون والحياة والإنسان ونتجت عنها مفاهيم جعلت الحياة حالة صراع دائم يكون فيها البقاء للأقوى , وهي نظرة بررت للاستعمار إبادة الشعوب للاستمتاع بخيراتها , فما هو على الأرض غير كاف للجميع ,
ولذلك تنحصر مهمة الاقتصاد بالدولة النمطية في قيام الأفراد والمجتمع باختيار وتوظيف الموارد النادرة والمحدودة والتي لها استخدامات بديلة متنوعة , لإنتاج السلع والخدمات المختلفة , وتأتي النقود كأساس في عمليات اختيار وتوظيف الموارد فهي ليست مجرد وسيلة لتبادل السلع والخدمات بل هي كذلك وحدة حساب لقياس القيمة الاقتصادية ومخزن للقيمة الشرائية عبر الزمن , ومنذ عام 1821 كان الذهب قاعدة لتحديد قيمة العملة حتى ألغتها الولايات المتحدة الأمريكية عام 1971 وتم استبدالها بنظام آخر يسمي التثبيت .
ويهتم الاقتصاد في الدولة النمطية المعاصرة كذلك بتوزيع المنتج حاضرا ومستقبلا بين الأفراد والجماعات في المجتمع , ويحلل العائد والتكلفة لتحسين نماذج تخفيض الموارد , غير أن الخلاف احتدم بين فلاسفة ومفكري الغرب حول توزيع المنتج , إذ ترى الرأسمالية انطلاقا من مبدأ الحرية أن السوق هو الذي يحدد الحاجة للمنتج , وبمقدار ما يملكه الفرد من ثمن يحصل على ما يمكن من إنتاج البلاد , وأن الربح هو الحافز للإنتاج ,
بينما ترى الشيوعية انطلاقا من مبدأ العدالة أن الإنتاج يتم بشكل جماعي فعليه يجب أن يكون التوزيع جماعيا وهو ما أدي إلى زوال طبقة الملاك بالدول الشيوعية وإلغاء الملكية الخاصة وهيمنة الدولة , وبعد تجارب استمرت سبعين عاما أعلنت الشيوعية إخفاقها وانسحابها من الساحة الدولية , لتتفرد الرأسمالية بشكل متوحش على كافة أرجاء المعمورة .
انطلاقا من مفهوم الندرة برز مفهوم النمو الاقتصادي الذي يسعى لتنمية عوامل الإنتاج وزيادته من أجل مواكبة الزيادة في السكان , ولما كان هذا النمو يحتاج إلى زيادة الاستثمار , الاستثمار يحتاج إلى تمويل , والتمويل يحتاج إلى مدخرات الناس , لذا نشأ نظام مصر في يشجع على إيداع المدخرات فيه مقابل فائدة مالية على المدخرات , وزيادة سعر الفائدة هي الحافز المهم لتشجيع ادخار الأموال في البنوك , ولكي يستطيع النظام المصرفي الالتزام بسداد الفائدة فلابد أن يكون هناك استهلاك للإنتاج حتى تستمر دورة الإنتاج , لذا أصبح الاقتصاد القوى مرهونا بالاستهلاك الكبير ,
ولما كان شعب الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر إنفاقا واستهلاكا وصرفا , لذا صارت بلادهم الأكثر تاثيرا وتحكما بالاقتصاد العالمي وصار الدولار الورقي عملة مرجعية لباقي العملات العالمية , وتم تثبيت سعر صرف الدولار مقابل الذهب , في ( الفوركس ) – سوق العملات – على أساس خمس وثلاثين دولارا للأوقية الذهبية , وعمدت المصارف المركزية في دول العالم إلى اقتناء الدولار بوصفه احتياطا نقديا كالذهب تماما , وصار النظام النقدي العالمي نظام الدولار , إذ ما زال رغم كل الأزمات هو العملة المهيمنة دوليا ,
وطالما بقيت عمليات طباعة الدولارات مكافئة لعمليات الإنتاج فإن الدولار سيظل يحظي بثقة دولية , وبمجرد أن تبدأ الحكومة الأمريكية بطباعة كميات لا مقابل لها من الإنتاج فإنها تخلق أموالا وهمية وتحدث خللا بالأسس الاقتصادية التي قامت عليها الرأسمالية كما هو حاصل اليوم .
التنوع في إطار النمطية
قامت الأنظمة الليبرالية على الركائز الأساسية للديمقراطية مثل تداول السلطة والانتخاب الحر والتعددية الحزبية , ولكنها أخذت صيغا مختلفة بعضها نظام رئاسي كالولايات المتحدة الأمريكية , يقوم على حصر السلطة التنفيذية بيد رئيس الدولة كما يقوم على الفصل التام بين السلطات فرئيس الدولة منتخب من قبل الشعب مالك السلطة ومصدرها , ويرأس رئيس الدولة الحكومة ويمارس سلطاته بنفسه وهو الذي يختار وزراءه الذين يقومون بتنفيذ السياسة العامة التي يرسمها لهم ,
ومن أهم مظاهر الفصل بين السلطات حرمان السلطة التنفيذية من حق اقتراح القوانين وحرمان الوزراء ورئيس الدولة من الاشتراك في مناقشات البرلمان وحرماتهم أيضا من حل المجلس النيابي , ويقابل ذلك حرمان البرلمان من حق سحب الثقة من الرئيس أو وزرائه , أما النظام البرلماني مثل المملكة المتحدة ( بريطانيا ) فتقوم العلاقة فيه بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ,على أساس التعاون وتبادل المراقبة ويتميز الجهاز التنفيذي بالثنائية من حيث وجود رئيس دولة منصبه شرفي وحكومة تختار من حزب الأغلبية في البرلمان تمارس السلطة الفعلية وتكون مسئولة عنها أما البرلمان ,
كما أن مسؤولية الحكومة تضامنية وهو مسؤولية سياسية تتمثل في وجوب استقالة كل حكومة تفقد ثقة البرلمان , وتقام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية علاقة تعاون وتوازن أبرزها حق الحكومة في الدفاع عن سياستها أمام البرلمان , والمشاركة في العملية التشريعية بما يمنحه لها الدستور من حق اقتراح القوانين والتصديق عليها , أما الرقابة المتبادلة فأبرز مظاهرها حق البرلمان في سحب الثقة من الحكومة ويقابله حق الحكومة في حل البرلمان ,
أما النظام المجلسي ( نظام حكومة الجمعية )كسويسرا فيقوم على رفض فكرة الفصل بين السلطات وذلك بتركيز السلطة ومظاهر السيادة في يد هيئة واحدة منتخبة من الشعب تتولي المهام التشريعية والتنفيذية والقضائية , ويقوم هذا النظام على أساس وحدة السيادة في الدولة وعدم قابلية السلطة للتجزئة , الأمر الذي يتطلب وجود مؤسسة واحدة تمارسها باسم الشعب صاحب السيادة , ونظرا لصعوبة مباشرة الجمعية النيابية لمهام السلطة التنفيذية بنفسها فإنها تختار هيئة تنفيذية من بين أعضائها لهذا الغرض , وتكون هذه الهيئة خاضعة للجمعية النيابية تعمل تحت إشرافها ورقابتها كما تكون
مسؤولة مسؤولية تامة أمامها عن جميع التصرفات , إن الحكومة في ظل النظام المجلسي لا تشكل سلطة تنفيذية تتمتع بالاستقلالية عن البرلمان بل مجرد جهاز تنفيذي يقوم بتنفيذ القوانين والقرارات الصادرة عن المجلس , ونظرا لتبعية الهيئة التنفيذية للسلطة التشريعية فإنها لا تملك نحوها أية حقوق كحق حل البرلمان أو دعوته للانعقاد أو تأجيل اجتماعاته ,
ويعتبر النظام السويسري النموذج المثالي والناجح للنظام المجلسي , أما النظام المختلط أو ( شبه الرئاسي ) مثل فرنسا , فهو يقوم على الجمع بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني وتنجلي فيه مظاهر النظام الرئاسي مثل أن يكون رئيس الجمهورية منتخبا من الشعب , وأن يتولي رئاسة مجلس الوزراء , وأن يعيّن كبار موظفي الدولة من مدنيين وعسكريين ويتمتع بالسلطة التنظيمية وخاصة إصدار القرارات ,
كما تتجلي فيه مظاهر النظام البرلماني مثل ثنائية السلطة التنفيذية إذ يوجد رئيس حكومة , وبرلمان يراقب نشاط الحكومة , وحكومة مسئولة أمام البرلمان ويستطيع أن يسحب منها الثقة , ويمكن للسلطة التنفيذية حل البرلمان , وتشارك السلطة التنفيذية في الوظيفة التشريعية باقتراح القوانين ومناقشتها داخل البرلمان .
أما النظام الشيوعي فقد قام على ركائز الاشتراكية مثل ملكية المجتمع لأدوات الإنتاج والتوزيع وإلغاء التنظيمات الطبقية , والتخطيط المركزي , ويقوم نظام الاتحاد السوفييتي على هيمنة مؤسسة الحزب الوحيد على سائر المؤسسات , ولذا يعتبر الحزب قمة المؤسسات ويتصدرها في الدستور , ويقوم الحزب على تنظيمات دقيقة تمكنه من تجنيد أكبر عدد من الجماهير وتعتبر موقع العمل هي مجالات نشاط الحزب التي يشكل فيه خلاياه التنظيمية ويعتبر المؤتمر هو رأس الحزب , وللمؤتمر لجنة مركزية ومكتب سياسي تنبثق عنه سلطة تنفيذية هي سكرتارية الحزب المؤلفة من اثني عشر عضوا و يتألف الاتحاد السوفييتي من خمس عشرة جمهورية لها دساتيرها وحكوماتها ومؤسساتها المحلية ,
غير أن هذه الجمهوريات قد منحت أجزاء منها حكما ذاتيا متميزا بشرط أن تكون الدساتير المحلية منسجمة مع دستور الدولة الفيدرالية , ورغم أن المجالس تنتخب بالاقتراع العام إلا أن عملية الترشيح تخضع لعمليات تصفية والانتقاء داخل الحزب , والمؤسسات المقامة على الصعيد الفيدرالي لها نظير على الصعيد المحلي , وأبرز هذه المؤسسات جهاز سلطة الدولة الذي يتشكل بانتخاب شعبي بتوجيه من الحزب , ويمثل البرلمان في النموذج الغربي , ويتولد منه جهاز إدارة الدولة للقيام بالمهام التنفيذية , أما على المستوى الفيدرالي فيسمي البرلمان مجلس السوفيات الأعلي والذي يتألف من مجلسين اقتداء بالنظام الفيدرالي الغربي القائم على ثنائية المجلس , أحدهما مجلس القوميات الذي تتمثل فيه جميع الجمهوريات والمناطق المتمتعة بالحكم الذاتي وتنيب كل جمهورية أو منطقة عنها في هذا المجلس عددا معينا من الأعضاء والثاني مجلس الاتحاد فإنه يمثل السكان على نسبة عددهم في الدوائر الوطنية , ويمنح الدستور أعضاء السوفيات الأعلي حق التمتع بالحصانة البرلمانية ويسمح لهم فرادي وجماعات باستجواب الحكومة ومساءلة الوزراء والاتصال بمؤسسات الدولة للحصول على المعلومات ,
كما يمنحه حق تنقيح الدستور ومراجعة التشريعات وسن القوانين ويصادق على القانون المالي والتخطيط الفيدرالي ويراقب جميع أجهزة الدولة , ويفوض السوفيات الأعلي سلطاته خارج الدورات لمؤسسة أخرى تسمي البريزيديوم ( مجلس الرئاسة ) وينتخب لها من أعضائه أربعين عضوا يرأسهم شخص ( مثل لونيد برجنيف )
أما مجلس الوزراء فلا يمكن مقارنته بنفس الجهاز في الأنظمة الغربية , إذ أنه جهاز تنفيذي يتبع قرارات مجلس الرئاسة , أما السلطة القضائية فلها مجلسا أعلى على الصعيد الفيدرالي ينتخب أعضاءه مجلس السوفيات الأعلي ويتضمن رؤساء المحاكم العليا بالجمهوريات المتحدة , ويكون مسئولا أمام مجلس السوفيات الأعلي , يختلف النظام الشيوعي الصيني عن السوفييتي بارتكازه على دكتاتورية الطبقة العاملة من عمال وفلاحين , وعلى استمرار الثورة وعدم اكتفائها بالتمليك الجماعي لموارد الإنتاج ,
ورغم اتساع رقعة الصين فإن نظامها لم يتبن فكرة الفيدرالية , لذا جاء برلمانه ( المجلس الوطني الشعبي ) ممثلا لكل الصينيين بما فيهم العسكر , ويعتبر هذا المجلس هو أعلي أجهزة الدولة ويطلق على أعضائه اسم ممثلي الشعب , ويختص هذا المجلس بالشأن التشريعي بما فيه تعديل الدستور وتسمية الوزير الأزل على رأس الحكومة التي يسميها مجلس شؤون الدولة والوزراء وإقالتهم والمصادقة على الميزانيات السنوية والخطط الاقتصادية أما البريزيديوم الصيني فيسمي اللجنة الدائمة للمجلس , ومن اختصاصها تفسير القوانين واتخاذ المراسيم وتسمية الدبلوماسيين المعتمدين بالخارج وقبول اعتماد السفراء الأجانب والمصادقة على المعاهدات الدولية وإلغائها ,
أما الحكومة ( مجلس شؤون الدولة ) فهي تشرف على الإدارة وتسهر على تطبيق مقتضيات المخطط الاقتصادي وجميع الاختصاصات الأخرى التي يخولها بها المجلس الوطني ولجنته الدائمة , أما المؤسسات القضائية فيتكون من المحكمة الشعبية العليا والمحاكم الشعبية المحلية والمحاكم الشعبية الخاصة , ولا تأخذ المحاكم بنظام القاضي الفرد , بل يعمل القضاة بشكل جماعي , كما لا يشترط بالقاضي أن يكون محترفا ولا توجد في هذا النظام مهنة المحامي فالمواطنون يعطون حق الدفاع والترافع , أما الحزب الشيوعي فيأخذ دور التوجيه والقيادة للجماهير وللمؤسسات .
يعتبر النظام الشيوعي اليوغسلافي مختلفا عن كل من الصيني والسوفييتي ويعود أصل هذا الاختلاف إلى الخلاف بين تيتو وستالين , والنزعة الاستقلالية لدي تيتو ورفضه تبعية بلاده للإتحاد السوفييتي , نشأ عن ذلك مذهب يوغسلافي ينادي بتكافؤ الأنظمة الاشتراكية مع الاتحاد السوفييتي بدلا من التبعية , كما ينادي بنظام التسيير الذاتي للمجتمع في مواجهة مناهج العمل السوفييتي القائم على المركزية الإدارية والاقتصادية والثقافية فهذه المركزية ( من وجهة نظر يوغسلافية ) تفرض دكتاتورية بيروقراطية لطبقة الموظفين في الدولة والعاملين بالحزب , ولذا يأتي النظام اليوغسلافي بفيدرالية تمنح الجمهوريات المختلفة ممارسات من الحكم الذاتي واسعة الاختصاص , مثل إعطائها حق التمثيل في الحكومة ( المجلس التنفيذي الفيدرالي ) وحق النقض على أى قرار يتخذ , أى أن الحكومة تعمل وتقرر بشكل جماعي , وهي سمة تتميز بها الفيدرالية اليوغسلافية في العالم ,ويقف على قمة النظام اليوغسلافي المجلس الرئاسي الذي ينتخب أعضاؤه كل خمس سنوات , وهم تسعة ينتخبون من مجلس كل جمهورية وإقليم , أما الحكومة أو المجلس التنفيذي الفيدرالي فتتألف من خمسة عشر عضوا يعيّنهم البرلمان لمدة أربع سنوات باقتراح من مجلس الرئاسة وتتمثل فيه الجمهوريات بمندوبين عنها ,
وهذا المجلس مسئول أمام البرلمان أما المجلس الدستوري فهو الذي يراقب دستورية القوانين ويسهر على توزيع الاختصاصات على صعيد الجمهوريات أو الصعيد الفيدرالي , أما الحزب الشيوعي اليوغسلافي فيدعي عصبة الشيوعيين اليوغسلافيين , وتعتمد عليه الدولة في إحكام حلقات الربط بين المؤسسات وتحصّن بتدخله الكيان اليوغسلافي من التفتت ,
أما البرلمان فيتكون من مجلسين أحدهما المجلس الفيدرالي وينتخب بالاقتراع غير المباشر بنسبة ثلاث مندوبين عن كل منظمة من منظمات التسيير الذاتي لكل جمهورية وعشرين مندوبا عن كل إقليم متمتع بالحكم الذاتي , والثاني مجلس القوميات والأقاليم ويتكون من ثمان وثمانين نائبا بنسبة اثني عشر مندوبا عن مجالس الجمهوريات وثمانية مندوبين عن كل إقليم متمتع بالحكم الذاتي .
الفصل الثالث
تحديات الدولة الإسلامية في ظل النظام الدولي الحديث
تواجه فكرة الدولة الإسلامية مجموعة تحديات في ظل النظام الدولي المعاصر , أهمها الاختلافات الهيكلية في بنيان نموذج الإسلام التاريخي المعروف بدار الإسلام والذي يختلف عن الدولة النمطية المعاصرة , وحتى مع محاولات مزج مبادئ الإسلام السياسية مع النموذج النمطي للدولة الحديثة ( الأسلمة ) تبقي الصعوبات جاثمة تعيق نجاح المحاولات , فرغم أن الإسلاميين لا يملكون تجربة حية لمحاولة المزج هذه سوى نموذج جمهورية إيران الإسلامية إلا أن كثيرين منهم لا يعتد بتلك التجربة على اعتبار أنها تجربة مذهبية تعبّر عن طائفة من المسلمين ولا تعبّر عن الإسلام ,
لكن تبقي التجربة الإيرانية تجربة إسلامية رغم كل التحفظات فأصول الحكم في الإسلام لا تشكل موطنا واسعا للخلاف بين المذاهب , كما أن تجاوز السنة لموضوع الخلافة القرشية , بالانتخاب العام , وتجاوز الشيعة لمفهوم الإمام بولاية الفقيه , جعل الفوارق التاريخية بين النظريتين السياسيتين ضيقة وسوف نتناول هنا التحديات التي تواجه نموذج دار الإسلام والتحديات التي تواجه أسلمة النموذج النمطي للدولة الحديثة .
الاختلافات الهيكلية بين دار الإسلام والدولة النمطية المعاصرة
أن النموذج الوحيد الذي يعرفه التاريخ عن الدولة الإسلامية هو دار الإسلام , وهو نموذج نشأ في ظل نظام دولي مغاير , ولو جاءت إرادة ما لإعادة إنتاج هذا النموذج في ظل النظام الدولي الحديث فإنها ستصطدم باصطفاف عالمي ضده وذلك للتباين المتنافر بين النموذجين , من ثلاثة وجوه .
- الأول: التباين في التأصيل
الأصل الذي تقوم عليه دار الإسلام هو حالة الحرب , وهذا الأصل نابع لفهم تاريخي واسع الانتشار عن ديمومة الجهاد والذي يري أنها حالة مستمرة لا تتوقف مادام هناك موانع تقف ضد الدعوة للدين , ولذا تم تصنيف ما عداها بمصطلحات مستوحاة من نطاق هذا الأصل , كالقول بدار الحرب أو دار الهدنة أو غيرها , أما الأصل الذي بني عليه نظام الدولي الحديث فهو الخضوع إلى حالة السلم التي فرضتها الدول العظمي ضمن مواثيق هيئة الأمم المتحدة , هي في حقيقتها خضوع لإرادة الدول الخمس التي يشكل العالم المسيحي أربعة أخماسها ,
ولذا فإن أى دولة تسعي لإعادة تأسيسها وفق مفهوم دار الإسلام تعتبر خارج نطاق النظام الدولي وتمردا عليه , وتتعرض لاصطفاف دول العالم ضدها إذا ما عاندت وأصرت واستمرت وتصبح كيانا سياسيا معزولا , وحتى يتفادى أى كيان سياسي هذه العزلة ومواجهة الاصطفاف الدولي لابد أن يستوفي شروط العضوية الواردة في المادة الرابعة من ميثاق الأمم المتحدة , وهي أن تكون 1 ) دولة , ومفهوم الدولة عند واضعي الميثاق هو الدولة النمطية التي تم الإشارة إليها آنفا , وأن تكون2 ) محبة للسلام , ومفهوم السلام عند واضعي الميثاق يفسره الشروط الثلاثة الآتية , وأن 3 ) تقبل بالالتزامات المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة , وأن 4 ) يكون لديها القدرة على تنفيذ هذه الالتزامات , وأن 5 ) يكون لديها الاستعداد والقبول لتنفيذ هذه الالتزامات , وكما هو واضح أن ميثاق الأمم المتحدة قد وضع مفهوم السلم العالمي في إطار مصالح الدول الخمس الكبرى .
- الثاني : الاختلاف حول مفهوم السيادة
فكرة السيادة في دار الإسلام تقوم على مفهومي البيضة والعصمة , بمعني أن سلطة الدولة تمتد حيث يشكل المسلمون أغلبية سكانية في أى منطقة بالعالم لضمان عصمة أنفس ودماء وأموال المسلمين , وهو مفهوم أقرب إلى النطاق الديموغرافي منه إلى النطاق الجغرافي , فكلما تواجد مسلمون يمارسون شعائرهم بحرية داخلت مدنهم وقراهم ومزارعهم وشواطئهم وبحورهم ضمن دار الإسلام بينما تقوم فكرة السيادة في النظام الدولي المعاصر على الرقعة الجغرافية للدولة التي أقرت بحدودها هيئة الأمم المتحدة ,
فالدولة لا تمارس سلطتها على الأشخاص والممتلكات ولا تتصرف بالشؤون الخارجية إلا في حدود رقعتها الجغرافية المعترف بها دوليا , وترتب علي إعادة رسم الخريطة السياسية بعد سقوط دار الإسلام دخول كثير من المناطق ذات الأغلبية السكانية المسلمة ضمن سيادة دول ذات كثافة سكانية غير مسلمة ,
ولم يعد مسموحا لأى كيان سياسي الإدعاء في الحق بالتدخل في شؤون دولة ما عضو في هيئة الأمم المتحدة بدعوى الحق السيادي على الجاليات المسلمة لأن ذلك يقع ضمن المحظور في القانون الدولي الذي لا يجيز تدخل أى دولة في شؤون الدول الأخرى , إذ أن كل دولة حرة في اختيار وتطوير نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي دون التدخل من دولة أخرى .
- الثالث : غياب مفهومي الوطن والمواطنة
لا تتحدث أدبيات دار الإسلام مطلقا عن فكرتي الوطن والمواطنة , وذلك انسجاما مع مفهومها لمبدأ السيادة الديموغرافي , وعليه عرفت هذه الأدبيات الخاضعين لسلطة دار الإسلام وحددت حقوقهم وواجباتهم وفق الانتماء الديني فهي تتحدث عن حقوق وواجبات المسلم أو الذمي أو المستأمن إزاء دار الإسلام أو النظام الحاكم , بينما تقوم فكرتا الوطن والمواطنة في الدولة الحديثة على الانتماء القومي أو الجغرافي بغض النظر عن موقف الفرد من الدين ,
وعليه يكتسب المرء المواطنة في أى أرض – في الغالب – إذا ما أثبت استقراره فيها لجيلين أو ثلاثة , وتفترض هذه الفكرة تساوى الأفراد بالحقوق والواجبات بمجرد اكتسابهم المواطنة , تمنح المواطن وثائق تثبت ولادته وجنسيته وهويته وجوازا للسفر والتنقل خارج الوطن , وتعتبر كل من لا يتمتع بالمواطنة أجنبيا له حقوق وواجبات مختلفة عن المواطن إذا ما قرر الإقامة في الوطن ,
وإذا ما قامت دار إسلام في هذا العصر وحرمت بعض أفراد شعبها من حقوق المواطنة المتساوية لمجرد أنهم من ديانة أو مذهب مختلف فإنها تمارس ظلما من وجهة نظر المجتمع الدولي كما لم يعد مقبولا أن تفتح أبوابها لتجنيس رعايا دول أخرى لمجرد أنهم من المسلمين , بالإضافة لكل هذا , لا يمكن لها عمليا في ظل النموذج النمطي للدولة الحديثة أن تعمل بمبدأ الأمان المتعلق بإقامة الأجنبي , فالحق الذي يمنحه هذا المبدأ للفرد داخل دار الإسلام يخل بسلطات وزارة الداخلية ويتداخل معها في أى دولة حديثة .
تحديات أسلمة النموذج النمطي للدولة الحديثة
لا يتحدث الغالبية من الإسلاميين العاملين في المجال السياسي عن فكرة إعادة إنتاج دار الإسلام في ظل الظروف الدولية المعاصرة لكنهم في نفس الوقت لا يقدمون نموذجهم البديل لممارسة الحكم في ظل الدولة النمطية الحديثة وكأنهم يؤجلون ذلك إلى حين يستلمون السلطة لابتكار نموذجهم من فوق أرض الواقع ووفق ضغط الحاجة , لكن الأدبيات القليلة المتداولة والنقاشات عند جماعات العمل السياسي تشير إلى أن نموذجهم لا يخرج عن محاولة لأسلمة النموذج النمطي للدولة الحديثة , وأسلمة هذا النموذج عملية معقدة أصعب مما يتصوره الكثيرون , فلقد بني هذا النموذج ليضمن استمرار قيادة الغرب لبقية العالم بشكل تبدو فيه الأمم مستقلة ذات سيادة كاملة في قراراتها وعلى أراضيها ,
لكنه قيدها بأنظمة معرفية واقتصادية ومالية وأنماط من المعيشة وشبكات تواصل ونظم معلومات وقوانين ومعاهدات دولية , ولا تستطيع أى دولة نمطية تحت أى شكل من أشكال الأيدلوجية أن تتحرر من هذا القيد , ولهذا فإن أسلمة الدولة النمطية ليست سن تشريعات إسلامية فحسب ,
فإعادة إنتاج نظام معرفي إسلامي , وإعادة تشكيل أنماط المعيشة والعلاقات الاجتماعية بما يتوافق مع قيم الإسلام وابتكار آليات للسوق وأدوات مالية توافق مبادئ الإسلام كل ذلك يحتاج إلى تعبئة فكرية شاملة وقادرة على دمج قيم ومبادئ ومقتضيات الإسلام مع مقتضيات القانون الدولي واتفاقيات ومعاهدات الأمم المتحدة والحفاظ على الانفتاح العالمي والتواصل الأممي ,وهي عملية تسبق أى مشروع لسن قوانين الدولة المؤسلمة , وتحقيقها عملية صعبة معقدة يختصرها الكثيرون ببعض قوانين الجزاء ومنع التعامل الربوى .
علاقة الدين بالدولة
رغم الرفض الدولي لأى تمييز بين المواطنين في الدولة الحديثة على أى أسس من الدين أو العرق أو الطائفة أو الجهة , إلا أن ذلك لا يعني عدم مراعاة دين الغالبية , فمراعاة دين الغالبية تتم بشكل مباشر أو غي مباشر من جميع دول العالم , ويتفاوت مدى هذه المراعاة من دولة إلى أخرى , فهناك دول تنص صراحة في دستورها على دين الدولة الرسمي أو كنسية الدولة , وهناك دول تشير في قوانينها أو أحكامها القضائية إلى الدين أو الكنيسة الرسمية ,
وهناك دول تخصص بعضا من ريع الضرائب لدعم تدريس دين أو تعاليم كنيسة معينة , وهناك دول تعلن أنها علمانية ولا علاقة لها بدين معين ولكنها في نفس الوقت تتبني المناسبات الدينية لدين أو كنيسة ما وتجعلها مناسبات رسمية تعطل فيها الدوائر الرسمية ورغم هذا التفاوت في علاقة الدولة بالدين الرسمي فإن هذه العلاقة بقت غير مستقرة منذ نشأة الدولة الحديثة , فدساتير كثير من الدول تراجعت عن النص على دين الدولة ثم عادت ثم رجعت ,
فتجاهل دين الغالبية لدى شعب من الشعوب ضرب من التعسف , كما أن الانحياز الرسمي لدين ما في ظل وجود ديانات أخرى تهديد لمفهوم المواطنة , وبين هذين الاتجاهين يمكن تفسير التردد والحيرة في النص على الدين الرسمي وعدم النص .
وفي بحث في جامعة هارفارد أعده الباحثان روبرت بارو وراشيل ماكليري , بعنوان " أى البلاد لديها دين دولة ؟ كشف تردد بعض الدساتير لدى بعض الدول والتي نصت على الدين الرسمي ثم ألغته , وأخرى لم يتضمن دستورها نصا بذلك فغّيرته لينص على دين الدولة الرسمي , ووضع جدولا للدول التي غيرت دساتيرها لتنص أولا تنص على الدين الرسمي للدولة كالتالي :
بلدان تبنت دين رسمي للدولة
في فترة من فترات ما بين الأعوام 1900, 1970 , 2000
الكاثوليكية | الإسلامية | البروتستانتية |
اندورا | أفغانستان | بهاما |
الأرجنتين | الجزائر | الدنمارك |
بوليفيا | البحرين | فنلنده |
كولومبيا | برونوى | ايسلاند |
كوستاربكا | مصر | ليبيريا |
الدونيميكان | إيران | النرويج |
السلفادور | العراق | ساموا |
جوانتيمالا | الأردن | تونغا |
هاييتي | الكويت | المملكة المتحدة |
هندوراوس | ليبيا | الأرثوذكسية |
ايطاليا | ماليزيا | اليونان |
ايختسستاين | ماليف | البوذية |
لوكسمبورغ | موريتانيا | بوتان |
مالطا | المغرب | كمبوديا |
موناكو | عمان | سيريلانكا |
بنما | قطر | تايلاند |
برغواى | السعودية | الهندوسية |
بيرو | الصومال | نيبال |
برتغال | السودان | - |
اسبانيا | تونس | - |
فنزويلا | الإمارات | - |
- | اليمن | - |
وعلى العموم فإن الدول التي يعلن نظامها القضائي أن الكنيسة الكاثوليكية كنيستها الرسمية هي : كوستاريكا و مالطا وموناكو وليختستاين والفاتيكان , أما الدول التي يشير نظامها إلى الكنيسة الكاثوليكية دون النص في الدستور على أنها الديانة الرسمية هي : الأرجنتين والدومينكان والسلفادور وايطاليا وهندوراوس وهاييتي والبراجواى وبيرو والبرتغال وبولندا وسلوفاكيا وأسبانيا واندورا , ومعظم الكونتونات في سويسرا باستثناء جنيف ونوشاتل , أما الدول التي تنص على أن الكنيسة الأرثوذكسية هي كنيستها الرسمية فهي اليونان ووجورجيا وأرمينيا , وتمنح فنلنده وضعا خاصا للكنيسة الأرثوذكسية وخاصة في نظامها الضريبي أما الدول التي أشارت بشكل رسمي إلى الكنيسة البروتستانتية فهي الدنمارك وايسلاند والنرويج وفنلنده مثلما فعلت مع الكنيسة الأرثوذكسية ,
أما في المملكة المتحدة فالعاهل البريطاني يحمل لقب الحاكم الأعلي لكنيسة انجلترا , أما الدول التي أشارت إلى البوذية فكمبوديا والبوتان حيث اعتبرناه دين الدولة , وسيرلانكا ذكرت في الدستور أن لها المقام الأول , وتايلندا أشارت إليه كجزء من تراث الأمة التايلندية أما اليهودية فهي الأصل الذي قامت عليه إسرائيل ,
وتشير كثير من قوانينها إلى ذلك ويبقي كثير من الدول الإسلامية نص في دستوره على أن الإسلام دين الدولة الرسمي مثل : أفغانستان , الإمارات العربية المتحدة الكويت , المملكة العربية السعودية , مصر , الأردن , بنغلاديش , بروني , الجزائر , جزر القمر , ليبيا , ماليزيا , مالديف , موريتانيا , المغرب , باكستان , قطر , الصومال , تونس , إقليم أتشه في اندونيسيا , إيران , عمان , اليمن , البحرين , الصومال , أما بقية الدول التي لا تنص دساتيرها على إشارة للدين مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وغيرهم من الدول ,
فإنهم اتخذوا من الأعياد المسيحية عطلا رسمية للبلاد , ففي فرنسا يتم التعطيل في الأيام الدينية التالية : الجمعة المقدسة واثنين عيد الفصح ويوم الصعود , وعيد العنصرة ويوم الافتراض مريم ويوم كل القديسين, وعيد الميلاد , ويوم سانت إتيان , ومن بين ثلاث عشرة عطلة رسمية ثمان منها مسيحية والبقية وطنية , ناهيك عن التعطيل يوم الأحد والسبت , وهي أيام التعطيل في المسيحية واليهودية ,
بينما يعيش في فرنسا خمسة مليون مسلم ويتوقع زيادتهم إلى 20 مليون عام 2020 أما الولايات المتحدة الأمريكية فإن العطل الرسمية على المستوى الفيدرالي فهي عشر منها اثنتان مسيحيتان وهما عيد الشكر بينما عدد المسلمين هناك ثمانية ملايين , وكذلك في روسيا فإن العطل الرسمية على المستوى الفيدرالي هي عشرة مناسبات منها اثنتين مسيحيتين وهما عيد الميلاد الروسي , وعيد الفصح بينما يتفاوت عدد المسلمين في روسيا بين 20 مليون و25 مليون , أما الصين فإن العطل الرسمية هي سبعة مناسبات ليس بينها واحدة لها علاقة بالدين, وتعتبر الهند الدولة الأكثر عدالة في التعطيل الرسمي بالنسبة للمناسبات الرسمية , فهي تعطل في المناسبات الهندوسية والإسلامية والمسيحية , مما يدل – على الأقل رسميا – أنها تقف على مسافة واحدة من أديانها , بينما إسرائيل هي الأكثر انحيازا لديانتها غير الرسمية ( اليهودية ) إذ أن عدد أعيادها الرسمية معظمها دينية – بينما يشكل المسلمون ما يقارب 20% من سكانها .
وهناك دول لا تكتفي بذكر دين ما كدين رسمي في دستورها , بل تمنحه سلطة تشريعية أو حماية من النقد أو المراجعة , فبعض دساتير الدول الإسلامية يجعل الشريعة الإسلامية مصدرا وحيدا للتشريع أو أحد المصادر الرئيسية للتشريع , والدستور اليوناني على سبيل المثال ينص في المادة الثالثة على أن الدين السائد في الدولة هو " المذهب " الأرثوذكسي الشرقي ويقر بأن " إلهها " هو يسوع المسيح وأنه رأس الكنيسة ,
كما ينص على أن الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية تتحد في الإيمان مع كنيسة القسطنطينية ومع كل الكنائس الأخرى المتفقة معها في الإيمان , وأنها – الكنيسة اليونانية – مستقلة ويديرها مجمع الخدام الأساقفة المقدس , والمجمع الكنسي المقدس الدائم الناشئ منها , واتحادها على النحو المحدد في ميثاق الكنيسة القانوني , كما يتكلم على وجوب الحفاظ على نص الكتاب المقدس دون تغير ويحظر تغيير الترجمة الرسمية للنص إلى أى شكل آخر من أشكال اللغة , دون موافقة مسبقة من كنيسة اليونان المستقلة وكنيسة المسيح الكبرى في القسطنطينية , بينما عدد المسلمين فيها يقارب مليون ونصف نسمة , مما يشكل 15% تقريبا من تعداد السكان ,
ولهذا يمكن القول أن النظام الدولي الراهن منح مرونة واسعة في احترام دين الغالبية السكانية شريطة أن لا يخل ذلك بمبدأ العدالة والمساواة بين المواطنين , وينعكس ذلك بشكل جلي على كل الدول ذات الغالبية المسيحية بلا استثناء , ولهذا لن يجد الإسلاميون تحديا حقيقيا في وضع نص بالدستور يشير إلى أن دين الدولة الإسلام , أو حتى القول بأن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع .
تطبيق الشريعة الإسلامية
اختيار منظومة تشريعية معينة لدولة ما يعتبر من أعمال السيادة لهذه الدولة في عرف القانون الدولي , فهو يحظر تدخل الدول الأعضاء في شؤون بعضها طالما كل دولة حرة في اختيار وتطوير نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي دون تدخل من دولة أخرى ولذا لا يوجد ما يمنع دولة عضو في الأمم المتحدة من اختيار الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع لها , ولأول وهلة يبدو الأمر منتهيا لكن الواقع أكثر تعقيدا , فالغربيون يعلنون باستمرار قلقهم كلما أقدمت حكومة على التفكير بتطبيق الشريعة ,
ولأن اختيار منظومة تشريعية ما من أعمال السيادة فلذا لا تظهر المعارضة أو التحفظات الغربية صادمة مباشرة إنما تصاغ بأطر القانون والمعاهدات والاتفاقيات الدولية وعندما سألت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند عما إذا كانت واشنطن قلقة من صعود أحزاب إسلامية للحكم تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية ,
لم يأت رد المتحدثة مع أو ضد الشريعة إنما ذهب مباشرة إلى القضايا القانونية التي يضعها الغرب ضمن أولياته فقالت إن الأحزاب الإسلامية يتعين عليها أن تعمل على دعم حقوق الإنسان العالمية والمبادئ الديمقراطية وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين بمن فيهم النساء والتسامح والتنوع والوحدة وأكدت أن هذه العناصر ستكون أساسا للحكم الأمريكي على الإسلاميين .
لهذا فإن الجهات الغربية ستواجه تطبيق الشريعة بالمطالبة بالتزام القوانين والمعاهدات الدولية , ويتكشف من هذا أن الحق السيادي لاختيار المنظومة التشريعية ليس مطلقا , إذ قيده مبدأ في القانون الدولي يعرف بمبدأ الخضوع الفوري للقانون الدولي من لحظة ولادة الدول , حيث لا تصبح الدولة عضوا ذات سيادة إلا بخضوعها له ,
واعتبر مبدأ خضوع الدولة للقانون الدولي جزءا من مفهوم السيادة ولا يجوز قياسه على الخضوع لإرادة دولة أخرى , وبهذا جاء مضمون قرار المحكمة الدائمة للعدل الدولي سنة 1923 في قضية وممبلدون الذي نص على أن المعاهدات والاتفاقيات التي تلزم بها الدولة نفسها وتقيد بها سيادتها ما هو إلا تطبيق لمفهوم السيادة , وعليه فإن تطبيق الشريعة الإسلامية مقيد بالقوانين الدولية , وأن أى دولة إسلامية تسعي لتطبيقه سوف تعجز عن تطبيق مفاهيم وأحكام الجزء الخاص بالعلاقات الدولية من الشريعة الإسلامية طالما التزمت بالقانون الدولي , خاصة فيما يتعلق بالفكرة السائدة عن استمرارية الجهاد وارتباط هذه الفكرة ببيضة المسلمين , فالانضواء تحت مظلة الأمم المتحدة يعني القبول بضوابط الحرب والسلام كما وردت في وثائقها وقوانينها ومعاهداتها , أما ثانيها فاحترام الشؤون السيادية للدول الأعضاء الأخرى وعدم التدخل بشؤونها الداخلية بدعوى الانتصار للجاليات الإسلامية إلا بما تسمح به القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة , وثالثها الالتزام بمفهومي الوطن والمواطنة ومعاملة رعايا الدولة كمواطنين متساوين بالحقوق والواجبات دون أى اعتبار للدين أو المذهب أو الطائفة أو العرق أو الجهة , وغير ذلك من مقتضيات دار الإسلام ,
ولما كان هناك قطاع عريض في صفوف الإسلاميين ينظر إلى القانون الدولي الإسلامي الذي صنعته دار الإسلام كجزء أساسي من الشريعة الإسلامية , حيث يقول " أن أحكام الفقه الدولي من أبرز أحكام الشريعة الإسلامية, وأهم أجزاء الفقه الدولي الإسلامي ما يتعلق بتمييز الدور بعضها عن بعض , ومعرفة علاقة الإسلام بالملل والنحل , سواء ما يتعلق بموقف الإسلام من مخالفيه بالاعتقاد , أو ما يتعلق بموقف الإسلام من الدور التي هي خارجة عن سيادته وسلطانه ,
ولأن هذا الموضوع هو قاعدة الفقه الدولي الإسلامي ومنطلقه , فأحكام العلاقات الدولية , أو ما يسمي بالسير في الفقه الإسلامي يبني كثير من أحكامه على تلك القاعدة , ومن هذه الأحكام , الأحكام الخاصة بالجهاد والمغانم والخمس والفئ وما حازه الكفار من أموال المسلمين والأسري , والأمان والجزية والذمة , وأحكام المسلمين بدار الكفر , وأحكام المستأمنين بدار الإسلام " فإن هذه النظرة ستصطدم حتما بأى محاولة لأسلمة الدولة النمطية المعاصرة , وستقف عندها عاجزة عن التقدم والمضي في مشروع الأسلمة .
غير أن تحديات تطبيق الشريعة الإسلامية لن تقف عند خضوع الدولة الإسلامية لمقتضيات القوانين والمعاهدات الدولية الملزمة فحسب بل ستستمر الضغوط حول ما يطلق عليه الغرب قضايا حقوق الإنسان ويقصد من ذلك قضايا الأقليات والمرأة والمثلين وحرية الرأي والتعبير والبحث العلمي وتشكيل مؤسسات المجتمع المدني , ورغم أن كثيرا من الدول الأعضاء تناور دبلوماسيا وسياسيا لتفادي ومقاومة تلك الضغوط , مما يعطي لمشروع أسلمة الدولة فرصة للمناورة للحفاظ على ما يتفق مع الشريعة ,
إلا أن هذه الضغوط أخذت تنمو في مطلع العقد الثاني من هذا القرن ووصلت إلى حد التدخل الدولي في كثير من الأقطار , مما يضيق نطاق المناورة أمام المشروع إن مجرد القبول بالنموذج النمطي للدولة المعاصرة يعني التخلي عن مفاهيم سياسية إسلامية تبناها نموذج دار الإسلام خلال أربعة عشر قرنا من الزمان , واعتبرها البعض وكأنها جزء من مبادئ الإسلام السياسية , والقبول بالتنازل عن هذه المفاهيم بحد ذاته يثير تحديا بين الإسلاميين أنفسهم , خاصة الذين يعتبرون نموذج دار الإسلام والأصول التي قامت عليها جزءا من الدين , ومن نسيج الشريعة الإسلامية , وتصبح الإجابة على هذا الأسئلة المفصلية مستحقة , ما هي حدود هذا التنازل ؟ وما معاييره وضوابطه ؟ متى يسمح بالتنازل ؟ ومتى لا يسمح ؟ ويقفز هنا سؤال جوهري ؟ إذا تم قبول مبدأ التخلي عن بعض أحكام الشريعة الإسلامية , فما هو المدى الذي يتوقف عنده هذا المبدأ ؟
غير أن تحديات تطبيق الشريعة الإسلامية لا تنتهي عند مشاكل التقيد الفوري بالقانون الدولي ومناورة الضغوط الخارجية , إذ يبقي التحدي الأكبر في تطبيق الشريعة الإسلامية هو موقف الرأي العام الداخلي , وهو ما أشار إليه الباحثون الإسلاميون الذين تناولوا هذا الموضوع , وقد اعتبر أولئك أن النخب السياسية والمثقفة هي العائق الأساسي لتطبيق الشريعة الإسلامية نتيجة تأثرهم بالثقافة الغربية , غير أن الأمر أعمق من هذا الاتهام المتسرع , إذ تكمن المشكلة بالإسلاميين أنفسهم , والذين لم يقدموا مشروعا عمليا لتطبيق الشريعة الإسلامية على أرض الواقع , فبقدر التعاطف الجماهيري الذي تأكد من خلال الاستفتاءات الحرة التي عكستها انتخابات برلمانية في بعض البلاد العربية عام 2012 , وبقدر الاتفاق والوحدة دائما بين الإسلاميين حول الشعار , إلا أن رافعي الشعار ما زالوا يلبدون خلفه حتى لا ينكشف الغطاء عن الأزمة الحقيقية وراء تطبيق الشريعة الإسلامية , إذ بمجرد الانتقال من الشعار إلى المشروع سينكشف حجم الخلاف حول تحديد مفهوم الشريعة وكيفية تطبيقها , حيث لا اتفاق موحد حول مفهوم الشريعة ؟ هل هي فهم بشري ثابت لأحكام دين الله ؟ أم فهم متغير ؟ وما الثابت فيها وما المتغير ؟ وما المقدس فيها وما اللامقدس ؟ ما يجوز مراجعته وما لا يجوز؟
إن الانتقال إلى التطبيق سيعيد الخلافات بين مذهب أهل الفقه ومذهب أهل الحديث , وبين فقه المذاهب الأربعة والمذهب الجعفري , وبين المجددين والتقليديين , وبين الفهم المعاصر للدين والفهم السلفي , وبين المدرسة الأزهرية والمدرسة النجدية , وهي نفسها الخلافات التي تؤدي اليوم إلى تشرذم دعاة الإسلام إلى جماعات وأحزاب وفرق رغم اتفاقهم جميعا على شعار تطبيق الشريعة ,
فلقد كان الإسلاميون منذ مطلع الثمانينات يفوزون بمقاعد برلمانية تحت هذا الشعار , وكان يفترض أن تكون مهمة البرلمانيين منهم ( بصفتهم مشرعين ) تحويل الشعار إلى مشروع منذ ذلك الوقت , غير أنهم سلكوا مسالك ثلاثة ليس بينها واحد يحول شعار تطبيق الشريعة إلى مشروع عملي قابل للتنفيذ ,
- المسلك الأول : الاستمرار في معارك لصياغة مواد دستورية تلزم الحكومة بتطبيق الشريعة لإخلاء مسؤوليتهم أمام جماهيرهم , ورغم نجاحهم بمصر في إضافة مادة بالدستور تجعل الشريعة مصدر التشريع , إلا أن ذلك لم يغير من الواقع شيئا مما جعل الشعار مرفوعا بمصر حتى اليوم , وفي الكويت استطاع الإسلاميون حشد 95% من عدد النواب لجعل الشريعة الإسلامية مصدر التشريع وليس مصدرا رئيسيا للتشريع , إلا أن ذلك لم يتحقق وما زال الإسلاميون يكررون نفس المعركة في كل فصل تشريعي , إن إثارة معارك لتعديل الدساتير بإضافة مواد تلزم المشروع بالشريعة باتت نتائجها معروفة سلفا , والاستمرار بهذا المسلك بعد هروبا من مهمة تقديم مقترحات بقوانين مستوحاة من الشريعة , إذ أن عدم وجود مادة دستورية ملزمة بتطبيق الشريعة لا يمنع بتاتا من تطبيق الشريعة في ظل غالبية برلمانية تتعاطف مع المشروع
- المسلك الثاني : المطالبة بتحويل برامج الوعظ والإرشاد الدعوية إلى تشريعات وقوانين وهيئات رسمية , وهي برامج في الغالب لمواجهة السفور والاختلاط بين الجنسين واللهو والمعازف والرقص وغيرها من أمور تضعها الدولة الحديثة ضمن الحريات الشخصية , ورغم أن هذه المطالبات تمنح البرلمانيين الإسلاميين فرصة للانشغال بقضية إسلامية بعيدا عن مهمة تحويل الشعار إلى مشروع ,
ورغم أن إثارتها ضرورية ومهمة في مجتمعاتنا التي تتعرض لهجمات متكررة من موجات التفسخ والانحلال , وضرورتها تكمن بالتوازن الأخلاقي الذي تحدثه في مواجهة هذه الهجمات , إلا أن تحويل الموعظة إلى سلطة والدعوة إلى وظيفة رسمية توجّه يتعارض مع مبادئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإسلام , ويحيل الدعوة من فرض عين إلى فرض كفاية يقوم بواجباته أحد أجهزة الدولة المعاصرة كوزارة الداخلية أو ما يشابهها , إن استخدام سلطة لفرض برنامج أخلاقي على الناس قضية شرعية تستدعي النظر , فالأخلاق وتقويم السلوك والالتزام بآداب الإسلام لا تتم بسلطة القانون وقوة الحكومة , إن ظاهرة الحجاب التي تسري في أرجاء العالم الإسلامي لم تأت بفعل سلطة قانونية , بل بفعل تأثير الدعوة والإقناع والتي دفعت الكثيرات الالتزام به تقربا إلى الله وليس خشية من طائلة القانون ,
وإن استبدال الدعوة والموعظة الحسنة بالقانون هو بحد ذاته تجاوز للشريعة الإسلامية فلقد وضع الإسلام مكانا مرموقا وبارزا للدعوة يجعل المطالبين باستبدالها بسلطة القانون في موضع المساءلة الشرعية , وهم أشبه بأولئك الذين ثاروا على الأعرابي الذي بال بالمسجد , فنهرهم رسول الله صلي الله عليه وسلم , قائلا " دعوه , وأهرقوا على بوله ذنوبا من الماء فإنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين , واسكنوا ولا تنفروا " يقول الشيخ محمود شلتوت في كتابة الإسلام عقيدة وشريعة " إن إصلاح الباطن أساس لكل إصلاح ظاهري , ولا بقاء لإصلاح خارجي إلا إذا تركز , وكان نتيجة وأثرا للإصلاح الباطني , ويؤيده الدكتور يوسف القرضاوى في كتابه ( في فقه الأولويات ) " إن القوانين وحدها لا تصنع المجتمعات ولا تبني الأمم , إنما تصنع المجتمعات والأمم التربية والثقافية , ثم تأتي القوانين سياجا وحماية ,
- أما المسلك الثالث : فقد عبر عنه الشيخ الفاضل مناع قطان الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض , إذ اختزل مشروع تطبيق الشريعة بقوانين الأحوال الشخصية والجزاء والمدني والتجاري , يقول :" إن تطبيق الشريعة الإسلامية فيما يتصل بنظام الحكم يتعلق بجوانب ثلاثة :
- أحدها : الأحوال الشخصية , وهذا الجانب أقلها أهمية لدى الحاكم , لأنه يتعلق بحالة الأسرة ولا يتعارض مع صميم الحكم تعارضا مباشرا وهذا هو الذي يمكن أن نقول فيه أنه منطبق ونكون صادقين مع أنفسنا ومع الواقع .
- وثانيهما : المعاوضات المالية والتبادل التجاري وعماد ذلك في التعامل المصرفي , وأنظمة الشركات , وهو جانب له أهميته في معايش الناس , ويسميه الناس بالقانون التجاري أو القانون المالي , أو القانون المدني .
- وثالثها : العقوبات , في القصاص والحدود, القصاص في النفس والأطراف , وما يتبع ذلك من دية أو أرش , والحدود : عقوبة الردة , حد الزنا , حد القذف , حد السكر , حد السرقة , حد الحرابة , حفاظا على الكليات الخمس الضرورية التي لابد من حمايتها في حياة الإنسان الدين والنفس والعرض والعقل والمال , ويسمي الناس هذا القانون الجنائي أو قانون العقوبات .
ولما كانت معظم الدول الإسلامية لم تجر تعديلات جوهرية على قوانين الأحوال الشخصية المستقاة من الشريعة الإسلامية , لذا يتم التركيز على قوانين الجزاء من أجل أن تتوافق مع الحدود الإسلامية , كقطع يد السارق ورجم الزاني وجلد شارب الخمر , والتشدد بتعزيز الخارجين عن الأخلاق العامة , ورغم أن المضي في هذا الاتجاه يوهم الشارع الإسلامي بأن مهمة تحويل الشعار إلى مشروع عملية قائمة ومستمرة , إلا أن في ذلك كثيرا من الخداع الذي يضر بالإسلام نفسه ,
يقول الدكتور الشيخ عجيل النشمي في هذا الصدد في بحثه التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية " أن تطبيق التشريع الإسلامي يحتاج إلى وعاء إسلامي يزاوله فيه أحكامه بمعني أنه يحتاج إلى أوضاع أسرية واجتماعية إسلامية يعالجها ويضع الحلول لمشاكلها ...." ثم يقول :" في الحقيقة والواقع أن التطبيق لنصوص الشرع دون تهيئة ولا تدرج هو في الحقيقة تعطيل للنص , لأنه إعمال له في غير محله مما يترك آثارا سلبية ليست من غاية الشرع لا ريب , بل يعود على أحكام الشرع بالنقض "
لقد أمر الله بالحدود كإجراء أخير لمواجهة الجريمة بينما عالج الجريمة بتخفيف منابعها ضمن إجراءات اجتماعية وتربوية واقتصادية ومعيشية تسبق الحدود بكثير حتى إذا تم استيفاء ذلك جعل سبحانه الحدود كعلاج لمن لم تردعه الإجراءات السابقة , والذين يطالبون بتطبيق الحدود في غير ترتيبها وتدرجها الذي شرعه الإسلام إنما يسيئون إلى الإسلام نفسه دون قصد منهم .
إن تحويل شعار تطبيق الشريعة الإسلامية في ظل الدولة النمطية المعاصرة إلى مشروع عملي يعتبر بحد ذاته تحديا حقيقيا بغض النظر عن قبول الآخرين له , ولم يعد أمام الإسلاميين مجالا للتهرب من هذه المسؤولية وهم على أعتاب الحكم , إنهم مطالبون أن يبينوا للناس ماذا يقصدون بالشريعة بشكل واضح ؟ وكيف سيطبقونها في ظل الظروف الراهنة ؟ نقول ذلك لأننا نعلم أن الشروع عمليا بهذا الأمر يضع الإسلاميين أمام التحديات الفعلية .
ولعل أقرب التجارب التي تكشف حجم التحدي هي تجربة اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بالكويت , إذ قام أمير دولة الكويت السابق الشيخ جابر الأحمد رحمه الله عام 1991 عقب تحرير الكويت من الغزو العراقي بإنشاء هذه اللجنة , وجاء في مرسوم إنشائها ؟
تتولي اللجنة وضع خطة لتهيئة الأجواء لاستكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية مع مراعاة واقع البلاد ومصالحها ولها في سبيل ذلك دراسة القوانين السارية في مختلف المجالات واقتراح ما تراه بشأنها لضمان توافقها مع أحكام الشريعة الإسلامية " ولقد ضمت هذه اللجنة خبراء أفاضل بعضهم جاء من قلب الحركات الإسلامية السياسية المطالبة بتطبيق الشريعة وحظيت برعاية أميرية سامية في عهد الأمير السابق حيث وفر لها كافة أسباب النجاح غير أنها في خاتمة الأمر انتهت إلى التوافق مع الواقع الفعلي واقتراح تعديلات عليه , تقول اللجنة في هذا الصدد " بنيت الشريعة الإسلامية في أصل تشريعها على منهج في التنزيل يتعامل مع واقع الجاهلية بمنهج لا يقوم على الإلغاء المطلق , بل ينظر إلى أوضاع ذلك الواقع فرادي , فما كان منه باطلا أبطله , وما كان منه حقا استصحبه بإضفاء الشرعية عليه , حتى صيغت الشريعة في نظام متكامل أصبحت فيه المستصحبات جزءا منها , وقد كانت جزءا من واقع الجاهلية ,
وقد انتهج الأئمة المجتهدون هذا النهد الاستصحابي في تطبيق الشريعة الإسلامية على واقع الأمصار التي فتحها الإسلام وقد كان كثير منها ثريا بمكاسب حضارية واسعة , فأقروا كثيرا من الأعراف والنظم , اتخذ بعضهم من العرف والعادة مصدرا من المصادر الاجتهادية للتشريع , فتعاملوا بذلك مع الواقع الإنساني بميزان تصحيحي لا بميزان إلغائي ,
وفي ذلك حكمة غير خفية في أخذ الناس باللطف لتحويل حياتهم من الضلال إلى الهدى بدون انقلابية قد تبوء برفض الهداية والنفور منها . والمتأمل في النظام القانوني الكويتي يجد أنه استصحب نظما من هدي الشريعة ظل جاريا عليها دون أن ينالها الزمن بتحريف أو تعديل وذلك في مجالات العقائد والشعائر التعبدية والأحوال الشخصية وبعض مجالات التعامل الاجتماعي العام .
وبذلك تضافرت كل من الشريعة في بنائها الأول على الاستصحاب ومنهج الأئمة المجتهدين في تعاملهم مع الواقع بإقرار العادات والأعراف مصدرا للتشريع وحظ الواقع القانوني الراهن من الدين تضافرت كلها لمبررات للأخذ بأسلوب التطبيق الاستصحابي لأحكام الشريعة الإسلامية وذلك بالإبقاء على القوانين السارية وتنقيتها مما يتعارض منها مع أحكام الشريعة الإسلامية واستكمال ما لم يتم تطبيقه من أحكامها , وذلك تقديرا – للأسباب آنفة البيان – أن هذه القوانين لا تتعارض في جملتها مع أحكام الشريعة , وإذا كان ثمة خلاف فيما بينهما فهو في أمور قليلة لا تبرر ثورة أو انقلابا ضد النظام القانوني القائم , بل يلزمها اجتهاد سليم في ضوء معطيات العصر وظروف الواقع لضمان توافقها مع مع أحكام الشريعة الإسلامية "
أمام هذه النظرة الثاقبة والمفعمة بالحكمة لم تجد اللجنة ما تقدمه بعد أكثر من عشرين سنة من البحث المتواصل والعمل المضني سوى عشرة مشاريع , وحتى هذه المشاريع العشرة لم يلتفت لها البرلمانيون الداعون لتطبيق الشريعة بالكويت إلا في فترة ضيقة من الفصل التشريعي السابع لمجلس الأمة الكويتي .
تأسست نظرية المعرفة في الإسلام على مبدأ التوحيد , فالله مصدر المعرفة اليقينية واحد , ولذا تصبح الحقيقية واحدة لا تتعدد , ولا يمكن أن تتعارض مع الواقع الذي نعيشه ويحيط بنا ما دام الله خالق الواقع وما وراءه , والحقائق التي تدخل في نطاق عمل العقل هي سنن الله في خلقه , يحثنا سبحانه على اكتشافها والاستفادة منها , وما نكتشفه منها نسميه حقائق , بعضه نفسره وفق المعطيات المتوفرة لدينا من معلومات وفرضيات ومناهج بحث ونسميه علما , ونظل نغير أو نطور هذا التفسير كلما توفرت معلومات إضافية , ولذا يصبح علمنا لا نهائي و لا يقيني , ويلتزم النظام المعرفي الإسلامي – كما يقول المفكر الإسلامي إسماعيل فاروقي – بثلاثة ركائز
- الأول : وحدة الحقيقة التي تقضي بأن كل ما يتعارض مع ما جاء به الوحي هو ليس من الحقيقة في شئ فخالق الكون ومنزل الوحي واحد لا شريك له ,
- والثاني : وحدة الحقيقة تقضي بأنه لا تعارض بين العقل والوحي , وأن التعارض إما أن يكون في سوء فهم ما جاء به الوحي أو وهم بالوصول إلى الحقيقة ,
- الثالث : أن الإنسان لم يمنح إلا قليلا من العلم لفهم وتفسير الحقائق , ولذا يظل الباب مفتوحا لمزيد من الاجتهادات والاستكشافات , ويصبح علمه لا نهائي ولا يقيني , ومن هذه النظرية ينتج نظام معرفة إسلامي يتضمن مقدمات منطقية وحقائق يقينية جاء بها القرآن دون لبس أو تشابه , معارف شتى ظنية نتاج حضارات المنطقة التي تسيدها الإسلام خلال الأربعة عشر قرنا ومن الطبيعي أن تقوم أية دولة إسلامية بتبني هذا النظام في مناهجها التربوية ومناهج البحث العلمي والأكاديمي وخطابها السياسي والإعلامي بخلاف النظام المعرفي الراهن الذي يتصادم مع الإسلام والفكر الديني عموما في كثير من جوانبه ,
ويأتي هذا الصدام المفتعل منذ أن أعلن إيمانويل كانت في القرن الثامن عشر أن المعارف الميتافيزيقية غير مجدية أو مفيدة , وأنه من الضروري أن تأخذ المعرفة البشرية شكلا عمليا ممثلا في النسق النيوتوني , وأن الفكر البشري مطالب بملازمة حدوده التجريبية ورغم أن النظام المعرفي المعاصر قد واجه تحديات حقيقية في تفسير الظواهر الميتافيزيائية والباراسيكولوجية إلا أنه ظل مصرا على موقفه بعناد , وكما يقول باشلار " أن العلم لا يمكن أن يتجنب الميتافيزيقيا , لكن في إمكانه استبدالها بأخرى , ولا تقتصر المشكلة بين النظامين في الموقف من الميتافيزياء , أو من نشوء الإنسان وتطوره , أو من نشوء الحضارات وتطورها , ولكن تمتد إلى منظومتي القيم غير المتوافقتين , وخاصة المتعلقة بالموازنة ما بين المحسوس والغيبي والسياسي والأخلاقي , والحرية والعدالة , والفرد والأسرة والجريمة والعقاب , والاستهلاك والادخار .
غير أن صانعي هيئة الأمم المتحدة يعتبرون أن وحدة النظام المعرفي بين أمم الأرض المعاصرة جزء لا يتجزأ من تماسك النظام الدولي القائم والسلام العالمي فهو ليس مجرد فلسفة تصنع تصورات حول الكون والحياة والإنسان والإله وتنظم علاقاتهما , بل هو نظام يولد قيما وموازين ومعايير ومنظومة أخلاق وجملة من المفاهيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية وقد تم استقاؤه من الثقافة الغربية المعاصرة حيث تستمد منه هيئة الأمم المتحدة مادتها عند سن القوانين الدولية أو إعلان الاتفاقيات والمعاهدات أو اتخاذ القرارات , منحازة بذلك لثقافة الغرب وقيمه وجاعله منها مسطرة معيارية يقاس عليها التزام الدول أو تقدم الأمم لقد تم تقديم النظام المعرفي المعاصر تحت عنوان العلم الحديث ورغم أنه ككل الأنظمة المعرفية التي تقدم نظريات عن المعرفة وتكون كفيلة بالإجابة على أسئلة مثل متى وكيف يكون المرء عارفا , إلا أنها في إطارها العلمي صورت كما لو كانت إجابات نهائية أو يقينية ومع أن الفلاسفة المتأخرين تخلوا عن فكرتي اليقين والكمال , إلا أن حراس هذا النظام يضفون عليه تبجيلا وقداسة باعتباره هو العلم دون الإشارة إلى ظنيته ونقصانه , معتمدين على الإبهار الذي تحدثه منتجات هذا النظام من تكنولوجيا متقدمة وجبارة ومستندين على أساليب التفكير المنهجية والتجريب والنمذجة الرياضية التي ظلت تتطور منذ أيام غاليليه ونيوتن ,
ولقد قدم هذا النظام نظريته عن القوى الطبيعية وغير الطبيعية , وعلاقة الإنسان فيهما , ونشأة الحياة ونموها , وظهور الإنسان وتطوره وتشريحه , وتاريخ الحضارات وتقدمها , وعلاقة الأرض التي نحيا عليها ببقية الكون , قدم نظامه اللايقيني وكأنه اليقين أو الحقيقة , ولأن جزءا من الحقيقة مطمور تحت ركام السنين احتكر قراءة التاريخ والوثائق والحفريات والآثار , وأهمل وتجاهل كل الأدلة المعارضة لقراءته .
تحافظ على وحدة هذا النظام شبكة دفاعية من المؤسسات والهيئات والجامعات والمراكز التي تدافع وتذود عنه , ولعل أبرز تلك المؤسسات هي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة المعروفة باليونسكو , وتتمثل رسالة اليونسكو كما هو معلن في وثائقها في الإسهام في بناء السلام , والقضاء على الفقر , وتحقيق التنمية المستدامة و إقامة حوار بين الثقافات , من خلال التربية والعلوم والثقافة والاتصال والمعلومات و إذ تعمل هذه المنظمة على تفادي المواجهة بين ثقافات الأمم المختلفة بتصنيف نقائض النظام المعرفي العالمي ضمن الفلكلور أو التراث الشعبي أو الأساطير أو العقائد الدينية , بينما تبقي النظام المعرفي الراهن في دائرة العلم والفنون وتعمل وزارات التربية والتعليم في العالم على الالتزام بالمعايير الدولية للمناهج التي تقرها اليونسكو , كما تقوم الجمعية العالمية للجامعات التابعة لهيئة اليونسكو وأعداد كبيرة من منظمات الاعتماد الأكاديمي الإقليمية والعالمية ( ###78) على حماية هذا النظام ,
وذلك بإلغاء اعتماد الجامعات التي تخرج عن إطار هذا النظام , بحيث تصبح شهادات خريجيها غير معترف فيها محليا وعالميا , وكما يقوم حراس النظام بحمايته من خلال التحكم بصناعة المعرفة وحجب أى جديد أو أكتشاف أو ابتكار يتعارض معه , فالنشر في المجلات العلمية لا يتم إلا من خلال أعضاء لجان تحكيم من داخل هذا النظام , بحيث لا يجد الخارجون عنه مجالا للنشر إلا في المجلات المغمورة أو غير المعتد بها علميا , كما لجأت الدول الصناعية الكبرى إلى إصدار قوانين تضبط إعلان المكتشفات والاختراعات , أو سريتها وهذا يعني أن جزءا كبيرا من المعرفة قد تم اكتشافه والتكتم عليه لأسباب مختلفة بعضه متعلق بالقضاء الخارجي وبعضه متعلق بالطاقة , وبعضه متعلق بالتاريخ والانثروبولوجيا , وبعضه يتعارض مع النظريات العلمية السائدة أو يفسر بعض الظواهر غير المفهومة ,
ففي عام 1951 أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية تشريعا حول سرية المكتشفات والاختراعات The Invention Secrecy Act of 1951 يحظر فيه الإعلان عن اختراع أو تكنولوجيا من شأنه الإضرار بالأمن القومي الأمريكي , والذي يحدد الضرر هي المؤسسات التالية : الجيش , سلاح الطيران , البحرية , وكالة الفضاء الأمريكية , وكالة الأمن القومي , وكالة الطاقة , ووزارة العدل وفي مجموعة الأوراق التي نشرتها جامعة كورنيل لورشة عمل حول " السرية إنتاج المعرفة , يسرد Steven Aftergood ستيفين آفترجود المعلومات التي يمكن للرسميين تصنيفها سرية هي : الخطط العسكرية , والأنظمة والعمليات القتالية , والمعلومات الرسمية عن الخارج , أنشطة وخطط ومصادر معلومات الاستخبارات العلاقات والأنشطة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية بما فيها مصادر المعلومات , الأمور العلمية والتكنولوجية والاقتصادية التي لها علاقة بالأمن القومي , برامج الحكومة المتعلقة بالحفاظ على المواد والتسهيلات النووية , ونقاط الضعف والقوة للأنظمة أو التركيب أو المشاريع أو الخطط المتعلقة بالأمن القومي وحتى المعلومات التي لا تقع ضمن هذه القائمة ولكن حين يري مسؤول رسمي أنها سرية ( متوقعا أنها قد تضر بالأمن القومي ) شارحا ومحددا مواضع الضرر ,
وفوق كل هذا حتى البحوث العلمية الأساسية التي لا علاقة لها بالأمن القومي وليست سرية يمكن أن تخضع للتصنيف " ويقول" الرقم الكلي لمجموعة القرارات المتعلقة بمنع المعلومات في السنوات الأخيرة يصل إلى 5.7 مليون " وهو ما يعني أن قدرا ضخما من المعلومات العلمية تم حجبه عن الناس , أما في بريطانيا فإن التشدد في سرية المعلومات العلمية يفوق ثلاثة أضعاف الولايات المتحدة وفق ما نشرته New Scientist , ولضمان قراءة التاريخ والانثروبولوجيا وفق المعرفة الرسمية أصدرت محكمة لاهاى معاهدة عام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية , كما أصدرت اليونسكو اتفاقية عام 1970 بشان الوسائل التي تستخدم لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة , واتفاقية أخرى عام 1972 بشأن حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي ,
وهذه كلها تضع الآثار والوثائق التاريخية في الإطار الرسمي الخاضع للنظام الدولي غير أن ظاهرة تضييق دائرة معرفة الحقائق ونتائج البحوث بدأت تثير ضجر العلماء والباحثين الذين يثيرون نقاشا منخفضا وهادئا حول الضرر الذي يلحق بالمعرفة نتيجة المبالغات في حجب نتائج الأبحاث أو الاستكشافات أو الابتكارات , وهذا ما عكسته ورش العمل التي نظمتها جامعة كورنيل بالولايات المتحدة الأمريكية حول سرية إنتاج المعرفة .
إن أى مشروع لأسلمة الدولة النمطية الحديثة لا يملك إلا أن تخضع وتلتزم بالنظام المعرفي القائم باعتباره العلم , إذا ما فعلت ذلك فإنها ستجد نفسها تعبئ عقول رعاياها بما يتناقض مع بعض جوانب المعرفة الإسلامية , مما يجعلها تعيش حالة ازدواجية ثنائية ولعل من أوائل من انتبه لهذه الثنائية في العالم الإسلامي د . إسماعيل الفاروقي حيث قال : إن أسلمة المعرفة لهي مطلب حتمي لإزالة الثنائية الموجودة في النظام التعليمي , التي هي بدورها مطلب حتمي لإزالة الثنائية من حياة الأمة ولعلاج انحرافاتها , إن " أسلمة المعرفة " فضلا عن أنها تعالج ألوان القصور التي انزلقت إليها المنهجية التقليدية فإنها تأخذ في الاعتبار عددا من المبادئ التي تمثل " جوهر " الإسلام ذلك أن عملية إعادة صياغة كافة فروع العلم في إطار الإسلام تعني إخضاع نظريات تلك العلوم ومناهج البحث فيها ومبادئها وغاياتها لتلك المبادئ والمفاهيم الجوهرية " إذن هناك مشروع ضخم لا يقل أهمية عن مشروع تطبيق الشريعة الإسلامية وهو أسلمة النظام العرفي القائم , وهو التحدي الأكثر جدية في سياق قيام دولة إسلامية ,
يقول د. الفاروقي " إن إعادة صياغة المعرفة على أساس علاقة الإسلام بها , بمعني أسلمتها , أى إعادة تعريف المعلومات وتنسيقها وإعادة التفكير في المقدمات والنتائج المتحصلة منها , وأن يقوم من جديد ما انتهي إليه من استنتاجات وأن يعاد تحديد الأهداف , على أن يتم كل ذلك بحيث يجعل تلك العلوم تثري التصور الإسلامي وتخدم قضية الإسلام – وأعني بها وحدة الحقيقة ووحدة المعرفة ووحدة الإنسانية ووحدة الحياة والطبيعة الغائبة للخلق وتسخير الكون للإنسان وعبودية الإنسان منه – أن تحل هذه محل التصورات الغربية , وأن يتحدد على أساسها إدراك الحقيقة وتنظيمها ".
لكن هل يقبل النظام الدولي المعاصر بتفتيت وحدة نظامه المعرفي ؟ وهل ستسكت تلك الشبكة الضخمة من الهيئات الأكاديمية والمؤسسات العلمية والمراكز الثقافية والأعداد الهائلة من المفكرين والأساتذة والباحثين والتربويين والعسكريين ورجال الأمن الذين يحرسون المعرفة ؟ لقد شهد القرن الماضي شراسة لا متناهية وغلظة وعنفا من حراس النظام المعرفي القائم ضد كل من يحاول شرخ هذا النظام ولقد حفظت مخترعات وابتكارات واكتشافات علمية وطمست آثار ولقي ووثائق , وتكتم على بعض الحوادث الخارقة , وعوقبت دول تسعي لكسر احتكار معرفة ما , كل ذلك للحفاظ على وحدة النظام المعرفي , فكيف سينصرف الإسلاميون ؟ هل سيتجرعون المعرفة الغربية كما جاءت ؟ أم يعيشون الحالة الازدواجية الثنائية ؟ أم سيتحدونه بعملية الأسلمة ؟
أسلمة اقتصاد الدولة النمطية المعاصرة
يمكن القول أن الجانب الاقتصادي هو التحدي الأكثر جدية وصعوبة أمام مشروع أسلمة الدولة المعاصرة , فقد قطع النظام الدولي الراهن شوطا بعيدا في تصميم آلية اقتصادية عالمية تنضوي تحتها كل اقتصاديات دول العالم يحتويها ويحولّها إلى تروس في عجلتها , آلية ترتهن فيها ثروات الشعوب وإنتاج السلع والخدمات وإصدار النقود وحركة الأموال وطبيعة الأسواق الحقيقية والافتراضية وأنماط الاستهلاك المعيشي والرسمي , وهي آلية تنطلق من فلسفة مادية لا تستند إلى الإيمان الإلهي , وبرغماتية تطوع الدين والأخلاق لمصلحتها , ولا يطوعانها , كما تستند إلى نظام نقدى ربوي فاحش يحيل النقود إلى سلعة تجارية والديون إلى أصل ريعي والأهم من ذلك ( من وجهة نظر المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية ) فإن هذه الآلية تجعل عصمة أموال المسلمين التي يلزم على الحاكم المسلم ضمانها بيد غير المسلمين .
هذا النظام الاقتصادي الراهن يوفر لشعوب شمال الأرض معيشة زائقة توفر قدرا أدني من الرخاء يتصاعد حتى يصل إلى قمته عند الأغنياء , ولذا فإن شعوب الجنوب اليوم تبحث عن حكومات تضمن لها عيشا كريما ومستقبلا آمنا مقارنة بما لدي الشمال , ولا يتم ذلك إلا من خلا برامج سياسية واقتصادية عملية ممكنة التنفيذ ومضمونة النجاح , وليس بالشعارات الفضفاضة التي تدغدغ العواطف آنيا وتتحول إلى خيبة أمل بعد حين , وفي أى برنامج يعد فيه الإسلاميون ناخبيهم أو مواطنيهم سيصدمون بتوفير الميزانية اللازمة له فكيف سيفعلون ذلك في ظل اقتصاد عالمي مهيمن يتعارض مع مبادئ الإسلام في عدة جوانب , وهي :
- أولا : نظام مالي ربوى
فالنظام المالي المطبق في المجتمعات الإسلامية – وهو مقتبس من النظام المالي الرأسمالي – يصطدم مباشرة مع مبادئ إسلامية حول الأموال وعمليات الاقتراض والبيع والشراء , ولعل أولها عصمة الأموال في بلاد المسلمين التي لا يضمنها إلا ولي الأمر , فهو يحميها ويعصمها أسوة بالدماء وفق ما جاء في رواية عن النبي صلي الله عليه وسلم حول هذا الأمر , ولا تجيز الشريعة الإسلامية أن تجعل سلطة غير المسلمين ضامنة لدماء وأموال المسلمين في بلادهم وضمن بيضتهم وبوجود ولي الأمر وهو ما قد تحقق في النظام المالي الراهن وعمليات إصدار النقد , ولكي ندرك هذه الحقيقة يجب أن نسأل كيف يتم إصدار النقود ؟
فقد حصرت معظم دول العالم إصدار النقود ضمن سلطات البنوك المركزية الخاضعة للدولة , ولا يتم إصدارها ما لم يكن لها مقابلا من الذهب أو الفضة أو العملة الصعبة ( في الغالب الدولار واليورو والجنيه الاسترليني ) ومع اتساع التبادل التجاري ومحدودية الذهب والفضة أصبحت عملية إصدار النقود تعتمد على ما تملكه الدولة من العملة الصعبة , وأصبحت عملة الغرب هي ضمان إصدار العملة في العالم كله تقريبا , وسيصطدم أى مشروع لأسلمة الدولة المعاصرة بهذه الحقيقة التي تجعل ثروات بلاد المسلمين كلها رهنا لعملات الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي أو المملكة المتحدة , بل ستجبره على اللهاث وراء كل سبيل لجمع أكبر قدر من هذه العملات لكي ينعش اقتصاده , غير أن تحديات أسلمة النظام المالي للدولة النمطية لا تتوقف عند هذا الحد ,
فالتحدي الثاني يكمن في المبدأ الذي تصدر على أساسه العملات الضامنة ( الدولار واليورو والجنيه ) ففي الإسلام تصدر العملة وفق مبدأ " المال يقابله قيمة والنقود والعملات تعبر عن قيم السلع والخدمات بقيمة مقابلة , فعلي سبيل المثال , كان الدولار الورقي إلى عهد ليس ببعيد عبارة عن سند يمكن استرداده مقابل كمية معينة من الذهب أو الفضة , لكن في الوقت الراهن , لم يعد ممكنا استبدال الدولار الورقي إلا بدولار أو رقمي آخر , وكذلك الائتمانات البنكية الخاصة التي كانت تخرج بصورة أوراق بنكية خاصة كان ممكن رفضها كما تفعل اليوم مع الشيكات , لكن اليوم صارت الائتمانات والقروض البنكية التي تصدرها البنوك الخاصة قابلة للتحويل وبشكل قانوني للعملة الإلزامية التي تصدرها الحكومة فعمليات إصدار النقود في الولايات المتحدة تتم داخل البنوك الخاصة , وليست محصورة بالبنك المركزي ,
وتتم بناء على كمية القروض التي تمنحها للمقترضين , وما تظنه الغالبية من أن البنوك تقرض الأموال التي أودعها العملاء إنما هو اعتقاد ساذج , فالحقيقة إن البنوك تخلق الأموال التي تقرضها , ليس عن طريق الأموال التي تربحها , ولا عن طريق الأموال التي تودع لديها , ولكن مباشرة من وعود المقترضين لها بالسداد , فتوقيع المقترض على ورقة القرض يعني التزامه بسداد قيمة القرض مع فوائدها لصالح البنك , وإلا سيخسر الضمان الذي ضمن به قرضه كالبيت أو السيارة أو أى أصل آخر ,
وهذا التزام كبير من المقترض مقابل أن يقرر البنك إنشاء رصيد من النقود مطابق للمبلغ المقرض ويضعه في حساب المقترض , " لذلك فإن الأصول المتداولة للأمة أصبحت تحت رحمة عمليات الإقراض من البنوك والتي لا تقرض الأموال ولكن تقدم وعدا بتوفير هذه الأموال التي هي أصلا لا تملكها " ويسعي هذا النظام المالي لامتصاص كل مدخرات الناس وممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة داخل النظام المصرفي , مقابل قروض لأموال لا أصل ولا قيمة لها سوى سلطة قانون الدولة ولذلك يكرس سياسة الانفاق والاستهلاك بشكل مرعب يصوره الكاتب الهندي . S. Gurumurthy بأنه مقصود ومستهدف يقول روبرت هيمفيل مدير الائتمان في البنك الاحتياطي الفيدرالي بأتلانتا ( جورجيا ) " إنه تصور مرعب , نحن معتمدون بشكل كامل على البنوك التجارية , فلابد أن يقترض شخص ما كل دولار متداول سواء كان سيولة أو وديعة ,
وإذا ما ضخت البنوك كثيرا من الأموال الافتراضية , فسوف نزدهر وإلا فسوف نجوع نحن بكل تأكيد بدون نظام مالي مستدام عندما يستوعب الشخص الصورة الكاملة فسوف يصطدم باللامنطقية المخزية لوضعنا اليائس غير المعقول , ولكنه الواقع " ويؤكد ذلك رئيس ومحافظ مجلس الاحتياطي الفيدرالي مارينر أكلس " , هذا هو نظامنا المالي إذا لم يكن هناك ديون في نظامنا المالي فإنه لن يكون هناك أموال " إن نظام النقد العالمي الذي ينبثق منه نقد الدول الإسلامية عبارة عن عملية خداع كبري لا يقبلها المواطن الغربي العادي لو علم بتفاصيلها , فكيف بشريعة تجعل أساس العملة العدل والإنصاف والوفاء ؟
يقول ريجنالد ما ككنا الرئيس السابق لمجلس إدارة بنك ميدلاند بانك اوف انجلاند " ما أخشاه أن المواطن العادي لن يرضي حين يعلم بأن البنوك تستطيع وتقوم بإصدار الأموال , وأنهم هم من يتحكم بثروة الأمة ويوجهون سياسة الدولة , ويحملون في أكفهم قدر الناس "
وهو ما جعل كثير من ناقدي الرأسمالية يتساءلون لماذا الكل ( حكومات وشركات وأفراد ) مدين للبنوك رغم ذلك الثراء الكبير من حولهم من الموارد والابتكارات والإنتاج , كيف يحدث هذا ؟ كيف يمكن أن يكون الناس هم الذين ينتجون الثروة الحقيقية بالعالم مدينين لأناس عملهم فقط إقراض الأموال التي تمثل الثراء ؟ إن العملات التي تصدرها الدولة هي فرع لأصل يسمي العملة الصعبة ( الدولار واليورو والجنيه الإسترليني ) غير أن هذا الأصل لا يصدر بناء على قيمة كما تستوجب الشريعة الإسلامية , بل بناء على وعد من جهة مرابية تعد بتغطية القيمة من خلال عمليات إقراض , ومن خلال حق رسمي لها من الدولة في إصدار مزيد من العملة مكشوفة الغطاء , وهذا لا يتفق مع الشريعة الإسلامية .
غير أن جهة داعية لأسلمة الدولة عندما تصل الحكم ستجد خزائنها خاوية في معظم العالم الإسلامي , واقتصادها يئن من الديون المحلية والخارجية وفي الغالب ستلجأ للاقتراض من الداخل والخارج من أجل تنفيذ برامجها وعلميات الإقراض السائدة اليوم داخليا وخارجيا تتم وفق فائدة بنكية ربوية فهل سينضم مشروع أسلمة الدولة إلى النظام المالي الراهن ويتحول ترسا في عجلته من أجل توفير المال المطلوب لتنفيذ برامج حكومته ؟
إن مشروع أسلمة الدولة المعاصرة سوف يصطدم بحاجته لتوفير المال في ظل نظام تمويل قائم على مبدأ الفائدة الربوية كما أن مشروع أسلمة الدولة سوف يصطدم بمبدأ السيادة الإسلامية " الإسلام يعلو ولا يعلي عليه " عندما يكتشف أن الدولار هو الذي بيده عصمة أموال المسلمين , وليس السلطة الإسلامية ,
كما أن مشروع أسلمة الدولة سوف يصطدم بمبادئ البيع والشراء التي أقرتها الشريعة الإسلامية بغض النظر عن طبيعة العملة , فأى عملة لا توفر العدل والإنصاف والوفاء بين الدائن والمدين والبائع والمشترى فهي مخالفة للإسلام فأى عدل في عمليات إصدار الدولارات التي ترتكز على عمليات الإقراض , وأى إنصاف يكمن في رهن أصل حقيقي أمام أموال وهمية , وأى وفاء يمكن ضمانه في ظل نظام مالي ينتظر لحظة انهياره .
- ثانيا : تنافر الفلسفتين
غير أن التنافر بين الرأسمالية والإسلام لا يقتصر على المخالفات الشرعية في النظام المالي العالمي , إن التنافر عمقا بين فلسفة الرأسمالية الليبرالية والإسلام وجوهر التنافر يكمن في دور الأخلاق بالاقتصاد , فالرأسمالية الليبرالية تقوم على فكرة أن الكون مادي أبدي آلي نشأ بمخلوقاته من خلال تطور عشوائي , وتتسم فيه موجبات العيش بالندرة , ويحكم البقاء فيه مبدأ " البقاء للأقوى "ولا يتم فيه الحصول على احتياجات البقاء " المتسمة بالندرة " إلا من خلال الصراع المتناحر , والفائز هو الأجدر بالبقاء لأنه الأقوى , وترى الرأسمالية الليبرالية أن القوانين الميكانيكية الآلية التي تنظم الحياة الطبيعية هي التي يجب أن تسود في الاقتصاد ويجب أن يخضع لها نشاط إنتاج السلع والخدمات وتداولها حيث يسعي الجميع لتحقيق مصالحهم الذاتية فالأقوى هو الأجدر بالبقاء في السوق ,
ويجب تنحية الدين والأخلاق والسلطة من الأنشطة والعلاقات والمحكومة بتلك القوانين الطبيعية , فتدخلها يفسد قيم التنافس والصراع مما يؤدي إلى بقاء واستمرار الضعفاء غير القادرين على المنافسة وينتهي بضعف السوق والاقتصاد وتخلص هذه الفلسفة إلى أن مصادرة الثروة ( بما فيها الثروة البشرية ) ووسائل الإنتاج يجب أن تكون مملوكة للأقوى والأجدر حتى يمكن استغلالها بكفاءة لزيادة الإنتاج وتحقيق الربح وتراكم الثروة , ولا يتم ذلك إلا من خلال نمو دائم لا نهائي ولإنجاز ذلك تسعي الرأسمالية الليبرالية إلى خلق منظومة سلوكية وأنماط حياة تكرس ثقافة الاستهلاك إلى أقصي مداها , وتعتقد أن آليات السوق قادرة على خلق هذه المنظومة ( بدلا من المعتقدات الدينية وغيرها ) متى ما تركت حرة ومطلقة دون تدخل حكومي لإنتاج تلك المنظومة بكفاءة وشكل قويم ,
وأن دور الحكومات يجب أن يتقلص إلى الحدود الإشرافية الدنيا , وينحصر في تهيئة البيئة المناسبة لانسياب آليات السوق بيسر ونعومة , مثل ربط مخرجات التعليم باحتياجات السوق حتى لا يبقي المرء خارج مؤسسات النظام الرأسمالي , وإلغاء قوانين حقوق العمال و حل الاتحادات العمالية وضغط الإنفاق الاجتماعي الحكومي وتخصيص كافة المرافق الخدمية في أجهزة الدولة و وخفض الضرائب على الشركات والأغنياء , ولا ترى الرأسمالية الليبرالية أية غضاضة في تشجيع كل السبل التي تحرك السوق وتحرك الاقتصاد حتى لو كانت حروبا أو بيع أسلحة دمار أو مجاعات أو ترويعا ينشر الأوبئة , ولعل هذا ما يكشفه الشكل الذي يظهر علاقة انتعاش الاقتصاد الأمريكي بالحروب .
- ثالثا : اقتصاد الأقوياء
الأساس الثاني الذي تقوم عليه فلسفة الرأسمالية الليبرالية هو مبدأ الاختيار فالاختيار في ظل مبدأ ندرة الموارد الطبيعية للإنسان يعني أن الموجود يكفي لبقاء واحد من اثنين وإلا فني الاثنان , ولما كانت تلك الفلسفة تؤمن بمبدأ البقاء للأقوى ولما كان الأقوياء يسكنون الأرض , لذا صارت الإشارة إلى الفقر والغني تتم بوصف الشمال بالأغنياء والجنوب بالفقراء ,
ولهذا انحاز النظام الدولي مبكرا لصالح الإنسان الأوروبي أينما وجد , ثم انحاز للأقوى في دائرة الغربيين وانحاز للأغنياء في دائرة الأقوياء الغربيين وقد عبر عن ذلك إبان الحقبة الاستعمارية رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل " يجب أن تؤمن حكومة للعالم تعبر عن الأمم التي لا ترجو لنفسها شيئا أكثر مما بحوزتها , فلو أن حكومة العالم كانت في أيدي شعوب جائعة سيكون الخطر دوما محدقا , وليس لدى أى منا دوافع للسعي لشئ أكثر مما نملكه , يجب أن يتم الحفاظ على السلام من قبل شعوب تعيش على طريقتها دون أن تكون لديها مطامع في الآخرين , إن قوتنا تضعنا فوق الجميع , فنحن أشبه برجال أغنياء يعيشون آمنين في مساكنهم , وكان نتيجة هذه النزعة الاختيارية أن أصر البريطانيون على حقهم في قصف الزنوج بسلاح الجو عام 1932 , وتمسكوا بحقهم في تجريب الغازات السامة ضد العرب المتمردين عام 1919 ,
ولم تتوان الولايات المتحدة الأمريكية لحظة في تجريب القنبلة الذرية على شعب آسيوى متقدم وغني في الحرب العالمية الثانية رغم أن حربه كانت مع ألمانيا النازية , انطلاقا من مبدأ الاختيار لقد أعطي الاقتصاد العالمي الراهن الأولوية للإنسان في الغرب , كما صمم هذا الاقتصاد لتؤول الثروة بيد أغنيائه , لذا حاز شمال الأرض على موقع الأفضلية باعتباره موطن الأقوياء الأغنياء الجديري بالحياة , وأصبح الجنوب موطن الضعفاء الجديري بالفناء , فأهل الشمال الذين يمثلون 20% من سكان الأرض يملكون ويستهلكون 86% من خيرات العالم , و65% من التجارة العالمية , 70% من الناتج الداخلي الخام , و80% من ميزانيات البحث العلمي , ويتمتعون بإنتاج زراعي ضخم يصل درجة الفائض في الكثير من المنتجات الزراعية ( وصل إنتاج القمح مثلا سنة 2006 إلى 51 مليون طن , والذرة 40 مليون طن كما وصل إنتاج الأبقار 37 مليون رأس ... الخ ) وذلك بفضل استعمال الأسمدة والمبيدات والاستفادة من مكننة العمليات الزراعية ومن نتائج البحث العلمي ووجود أراض صالحة ومناخ معتدل ,
كما يتمتعون بإنتاج صناعي كبير ومتنوع وتزايد الاهتمام بالصناعات العالية التكنولوجيا كصناعة الفضاء وصناعة الطائرات , ويرتفع معدل الدخل ليتجاوز 20000 دولار للفرد في السنة بعدة دول كفرنسا وإيطاليا وإسبانيا ثم ينخفض إلى أقل من 10000 دولار للفرد في السنة بألبانيا وتصل نسبة التعليم إلى 98% وتنخفض نسبة الأمية إلى إلى 2% كما تصل نسبة البطالة إلى 10% والمصاريف العمومية الخاصة بالصحة 7و7 % وعلى الجانب الآخر يوجد 3 مليار إنسان – نصف البشرية – يعيش الفرد منهم بأقل من 3 دولار في اليوم , وهناك مليار ونصف إنسان لا تصل إليهم مياه صالحة للشرب , ويعاني ملياران من الأنيميا بسبب سوء التغذية في حين أن مبلغ 15 مليار دولار كاف تماما لإنقاذهم , وهو ذات المبلغ الذي ينفقه الأمريكيون والأوروبيون على عطورهم كل عام , بالإضافة إلى أن 2,50 مليون طفل في هذا الجانب تقل أعمارهم عن خمسة أعوام يدفع بهم سنويا إلى سوق العمل .
إن التحدي الأكبر لأى مشروع أسلمة الدولة هو تحرك الحكومة وفق مبادئ الإسلام داخل آلة الاقتصاد العالمية الضخمة التي تكرس مفاهيم الرأسمالية فكيف يمكنها أن توازن بين الملكية العامة والملكية الخاصة في تيار جارف يسعي لهيمنة الملكلية الخاصة في الاقتصاد الراهن وتقليص دور الحكومة في المهام الإشرافية ؟ وكيف يمكن أن تحقق مبدأ الحرية الاقتصادية إذا ما أرادت الالتزام بمنظومة قيم وأخلاق إسلامية تراعي مصالح الناس ؟ كيف ستطبق هذه الحرية في مواجهة أولويات الإنتاج التي يفرضها السوق الراهن ولا تولي الحاجات الأساسية للقطاع الأكبر من المجتمع ؟
وكيف سيتم توفير الحد الأدنى من الحاجات الأساسية للمواطن كالمأكل والمسكن والمواصلات والتعليم والرعاية الصحية وغيرها من ضروريات العيش اللائق , إما بتوفيرها مجانا ودون مقابل أو بدعم السلع والخدمات الضرورية متحدية بذلك الاتجاه العالمي المتدفق لتحرير السوق من تدخلات الحكومة ؟ وكيف ستتعامل مع مفاهيم التنمية المستدامة السائدة والتي لا تهدف إلا إلى زيادة العائد المالي دون النظر إلى الاحتياجات الفعلية للسوق ؟ كيف ستواجه نزعة كاسحة للاستهلاك والإنفاق تقف من ورائها آلة دعائية طاغية تشجعها وتسوغ لها ذلك ؟
لقد صار الاستهلاك تبذيرا وإسرافا , وثمن ذلك كله استنزاف الثروات الطبيعية وحقوق الأجيال المقبلة فيها , كيف ستحقق القوامة بين التنمية المستدامة واستغلال الثروات الطبيعية ؟ " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ( الفرقان ) وكيف ستضمن الأجر العادل للعمالة , وعدم تركها لعوامل العرض والطلب كما يطالب السوق حاليا ؟
فترك الأمر لمفاوضات العامل ورب العمل في ظل الظروف القائمة لا يتم في أجواء تكافؤ بين الطرفين بسبب الوضع الاقتصادي ومستوى التقدم ودرجة النمو في البلد كلها , ما لم تكن الحكومة ضامنة لحق الضعيف أمام القوى , وكيف ستقدم نظاما نقديا مستقرا يستمد قوته من إنتاج حقيقي وأصول صحيحة وليست وهمية , ويضمن أموال المسلمين وقيم ممتلكاتهم دون إخضاعها لسياسات دول أخرى , ويؤدي دوره في إطار منظومة كاملة من المبادئ والقيم السلوكية الإسلامية السوية , حيث تتعمق المسؤولية الاجتماعية لدي الوحدات الاقتصادية ومن ثم تعاظم إحساسها المسؤولية العامة ؟
مجتمعات القرن الحادي والعشرين
ستواجه الجهود الساعية لأسلمة الدولة أنماطا معيشية استقرت في المجتمعات المسلمة فرضتها العصرنة ومن أجل العصرنة قطعت المجتمعات الإسلامية شوطا كبيرا من التغييرات , فأعادت بناء مدنها وفسق مخططات المدن الحديثة متبنية فكرة المباني العمودية بدلا من الأفقية , والمغلقة إلى الداخل والمفتوحة إلى الخارج بدلا من المغلقة إلى الخارج والمفتوحة إلى الداخل , وبعد أن كان المبني الأفقي تملؤه الأسرة بكل أجيالها , أصبح داخل المبني العمودي مجموعة من الأسر تفصلهم جدران أسمنتية , وأصبحت الشوارع واسعة فسيحة لا تتلاصق فيها المباني بعد أن كانت ضيقة تتلاصق فيها المباني ,
كما نشأ عن وجود وسائل نقل حديثة أن تمددت المدن أفقيا وأصبحت مساحاتها مئات الكيلو مترات المربعة , وصار الناس بكل أطياف المجتمع يتنقلون في الحافلات والقطارات والسيارات بين مناطق المدينة ونتج عن ذلك التكدس البشري في المباني العمودية ضغط شديد على شبكات الخدمات كالكهرباء والماء والهواتف والمجاري والنفايات , ومن أجل توفير هذه الخدمات نشأت وظائف ومهن جديدة في المجتمع لا تتاح إلا لمن تزود بالمعرفة المعاصرة وفتحت مدارس وجامعات لتلبية احتياجات الدولة المعاصرة من العمالة اللازمة المزودة بتلك المعرفة , وأصبح التعليم في تلك المدارس ضرورة لضمان وظيفة توفر دخلا ثابتا لسداد الالتزامات المالية غير المعهودة داخل العائلة , وتم التخلي عن المعرفة القديمة ومدارسها التقليدية باستثناء تلك التي تزود المجتمع بالوظائف الدينية ومع ارتفاع تكاليف المعيشة قبلت العائلة المسلمة ذات الأجيال المتعددة تفتيت نفسها إلى أسر صغيرة
وصار كل زوج ملزما بتوفير مسكن لزوجته تمهيدا لبناء أسرة صغيرة واضطرت الغالبية من الأسرة الصغيرة القبول بمبدأ عمل الزوج والزوجة خارج البيت وإيداع الأطفال بدور الحضانة والمدارس للقيام بالدور التربوي وفي ظل هذا التغير نشأت قناعات مجتمعية لا تقبل الاجتثاث , مثل وجود المرأة في العمل والأسواق والأماكن العامة وسفرها من غير محرم وحرية اختيارها بين السفور والحجاب , وضرورة توفير كافة ملتزمات السفور من أدوات وصالونات زينة وتجميل ومتاجر لملابس الموضة وعطور وغيرها كما صار جزء من الحياة العصرية أن تتجمع الأسرة أمام التلفاز وتشاهد وتستمع إلى كل ما يبث أو تخرج بكاملها لتتناول بعض وجباتها في المطاعم العامة , وصار الترفيه جزءا أساسيا من الحياة العصرية إما بالذهاب إلى الحدائق العامة أو ملاهي الأطفال أو التسوق بالشوارع والمجمعات التجارية أو الذهاب إلى السينما والمسرح وأصبحت الموسيقي ضرورة عصرية تعزف في السلام الوطني وفي المناسبات والأعياد وتصاحب نشرات الأخبار والتمثيليات والبرامج الثقافية , ولم تعد المعازف مرتبطة بالغناء واللهو بل صارت جزءا من الثقافة العامة ,
وصارت متابعة مباريات كرة القدم تحظي بالاهتمام الشعبي الأول لدى المجتمعات , وأصبح الرسم والتصوير لغة تعبيرية تنتج أعمالا فنية تتباهي بها الشعوب العصرية , ناهيك عن المسرح والسينما والأعمال الدرامية في التلفاز التي يتابعها الناس بشغف واهتمام كما أصبحت السياحة جزءا من الحياة العصرية حيث يسافر الناس للراحة والاستجمام أو اكتشاف ثقافات ومدن شعوب أخرى و ولذلك قامت الفنادق التي تأوى السائحين وتراعي ثقافاتهم أثناء إقامتهم ونتج عن كل ذلك آلاف المهن المتخصصة التي فرضتها العصرية وارتقت بعض المهن التي كانت مزدراة اجتماعيا إلى الرتب الرفيعة , وبالأخص المهن المتعلقة بالمسرح والسينما والغناء والموسيقي .
إن التحدي الاجتماعي المباشر الذي يواجهه مشروع أسلمة الدولة المعاصرة هو كيفية التعامل مع أنماط المعيشة المستقرة بين أجيال المعاصرة في مواجهة نمط المعيشة التي ترسمه النصوص الدينية أو الفتاوى الفقهية , وكيف ستخاطب مجتمعها المتعطش للرفاهية والرخاء في ظل ثقافة الزهد وحب الموت وكراهية الدنيا والإقبال على الآخرة ؟
كيف ستفكك شبكة الفتاوى المتورعة التي تتعارض مع هذه الأنماط كيف ستتعامل مع المرأة التي يصعب إعادتها للبيت في ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة ؟ وكيف ستتعامل مع حرية الاختيار بين السفور والحجاب بعد أن أصبحت حقا مكتسبا للمرأة ؟
وهل ستستخدم سلطة القانون أم لغة الدعوة والإقناع ؟ وكيف ستتعامل مع وسائل الترفيه المختلفة من رياضة ومسرح وسينما ؟ وما موقفها من الموسيقي والتمثيل والرسم والعاملين في مجالهما ؟ وكيف ستروج للسياحة في ظل لغة الورع والتقوى الفائضة من النصوص الفقهية ؟
أما التحدي غير المباشر فيكمن في عملية التغريب Westemization القادمة ببطء وثبات من الغرب عبر وسائل الثقافة والإعلام والتواصل الاجتماعي , والتي تتم بخلط متعمد بين مفهوم العصرية ومفهوم التغريب , فالعصرنة هي استخدام الإدارة والأساليب والتكنولوجيا الحديثة والمتطورة داخل المجتمعات بينما التغريب هو تبني التصور الغربي المعاصر للحياة والإنسان والوجود وما ينتج عنه من منظومة قيم وأخلاق وسلوك وخطورة التصور الغربي أنه منحاز لفلسفة الفرادنية على حساب الفلسفة الجماعية , وهي فلسفة تقود لتفتيت فكرة العائلة التقليدية فبعد أن تقلصت فكرة العائلة ذات الأجيال المختلفة كما حدث في مجتمعات الدول الغربية الكبرى جاء الدور على فكرة الأسرة الصغيرة المكونة من الوالدين والأبناء ونتج عن هذا التفتيت صور جديدة للأسرة مكونة من أحد الوالدين والأبناء , أو الوالدين وأبناء بالتبني , أو أسرة من مثليين , ولم يعد هناك ضرورة لأن ينتمي الأطفال لآبائهم , كما لم يعد مطلوبا من الأبناء رعاية آبائهم أو أجدادهم في ظل وجود دور لرعاية المسنين , وأصبح للفرج سن معين يكون فيه مسئولا عن نفسه دون أى تدخل أو وصاية من أحد من أفراد أسرته , فالفردية تعني حماية الفرد ضد استبداد السلطة واستعباد الأسرة والمجتمع ,
وصارت هذه الحماية هدف كافة التشريعات والقوانين والمعاهدات المحلية والدولية , فمن أجل حمايته لم تكتف بمنحه الحق في عدم إيقافه ولا اعتقاله ولا إعدامه , ولا إساءة معاملته بأى طريقة كانت نتيجة إرادة عشوائية لفرد أو عدة أفراد , ولم تكتف كذلك بمنحه حق التعبير عن رأيه واختيار صنعته وممارستها وحيازة الملكية والاجتماع بالآخرين إما للتعاون معهم حول مصالحه أو للتبشير بالعبادة التي يفضلها هو وشركاؤه , والذهاب والعودة بدون حصول على إذن بذلك , وبدون أن يقدم دليلا على دوافعه وأعماله , أنها لم تكتف بكل هذا القدر بل منحته حق الإفراط في استعمال ملكيته , وأن يملأ أيامه وساعاته بطريقة أكثر تطابقا مع نزعاته وأهوائه ,
وهي بذلك تلغي مقتضيات الانتماء العائلي والاعتبارات الاجتماعية جاعلة من القوانين الحدود الوحيدة التي تقف عندها حريات الفرد , ويري بنجامين كونستاتت أن نظرة كهذه للفرد تعطي معني ليبراليا للحرية وهو " الضمانات التي توفرها المؤسسات لهذه المتع " في مواجهة المعنى التقليدي وهو " تقسيم السلطة بين المواطنين في وطن احد " ولهذا يبني الغرب مفاهيمه الاجتماعية على أساس أن الفرد نواة المجتمع , بخلاف الفكر السائد في كل الحضارات السابقة , والذي يعتبر الأسرة أساس المجتمع لتمييز الإنسان عن الحياة البهيمية ولما كان المجتمع الذي يشكله أفراد خاويا من العلاقات الاجتماعية مما ينتج فراغا شعوريا , لذا يلجأ الغرب لترويج شكل آخر للمجتمع يطلق عليه المجتمع المدني في كتاب " تاريخ الأفكار السياسية " يقول الكاتب .
- " إذن كيف يجب معرفة الدولة الحديثة ؟ إن الطريقة المباشرة للوجود الجماعي هي الأسرة , فهذه تقدم نفسها كواقعة بيولوجية – قرابة الدم والعصبية – وكعلاقة عاطفية , بيد أن واقعها يكمن بالتراث , سواء تعلق بالملكية أو تعلق بحيازة الأولاد عند الفقراء , فإذا كانت الملكية كافلة للعيش فإن النسل يشكل أساس الوجود الاجتماعي الذي يوفر البقاء الطبيعي , وهذه الطريقة المباشرة يمكن تجاوزها بالعمل الاجتماعي يريد الغرب أن يستعيض تدريجيا عن شكل الأسرة التقليدي بعدد بطاقات العضوية التي يحملها الفرد في مؤسسات المجتمع المدني ويقدم مفهوم المجتمع المدني كبديل للمفهوم التقليدي للمجتمع .
ورغم أن مجتمعات الدول الغربية الكبرى قطعت شوطا كبيرا نحو هذا النموذج الاجتماعي إلا أن مفاهيم الشرق التاريخية حول الأسرة ما زالت تشكل عائقا حقيقيا بتعميم هذا النموذج , فالأسرة في الشرق هي وحدة المجتمع الأساسية والفرد عضو أسرة يتأثر ويؤثر في بنيانها وتماسكها , ولذا ينشأ في المجتمعات الإسلامية ما نطلق عليه بيت العائلة , الذي تجتمع فيه الأجيال المتعاقبة بزعامة الجد الأكبر , وتصبح الأقدمية جزءا من موازين المجتمع , ونحظى مفاهيم الأمومة والأبوة والعمومة والخؤولة والإخوة والبنوة والجيرة والعصبة والبر وصلة الرحم باحترام بالغ قد لا يقبله العقل الغربي إلا في حدود مراحل الطفولة والمراهقة , ثم لا يرتب بعدها أى التزامات أدبية تخل من مقتضيات الفلسفة الفردية ولأهمية الأسرة والحفاظ على بيتها منع الإسلام اختلاط الأنساب وحرم العلاقات الفردية المفتوحة بين الجنسين وندد بالخيانة الزوجية , وأكد على مفاهيم العذرية والشرف والعار , وهي كلها مفاهيم تلقي جدلا ومعارضة في المجتمعات الغربية وتعدّها تقييدا لحرية المرأة واضطهادا لها وانتهاكا لحقوق الإنسان ,
ورغم أنه لا يوجد نصوص دينية قاطعة وصريحة تحد من مشاركة المرأة في الحياة العامة وتولي كافة المسؤوليات , إلا أن الإسلام يفضل دورها داخل البيت لصيانة الأسرة وتنشئة الصغار وتوفير البيئة المناسبة للتربية انسجاما مع نظريته الاجتماعية , ولجلالة هذه المهمة وضعها في مقام يفوق الأب ثلاث مرات , كما وضع الإسلام العلاقات الاجتماعية في إطار تقديسي فهو يؤكد بشكل دراماتيكي على صلة الرحم , وينشئ القرابة لمجرد الرضاعة ويضع حقوقا للجوار ويوصي بالجار إلى سابع بيت ,
ورغم التغيرات التي أحدثتها العصرنة في المجتمعات الإسلامية فقد ظلت متمسكة – خلال القرن الماضي بفكرة بيت العائلة والصلة مع الجيران وأبناء الحارة لكنها تبقي مستهدفة من القيم الغربية المتسلحة بمعاهدات دولية حول حقوق الإنسان وبجيش عرمرم من مؤسسات المجتمع المدني وآلة إعلامية كاسحة جبارة , ودخلت ضمن صياغة نمط الحياة الاستهلاكي المعاصر داخل المدن الكوزموبوليتية ذات الإثنيات المتعددة من السكان والتي جعلت من عمل المرأة خارج البيت خيارا قسريا للوفاء بالالتزامات المعيشية فضلا على أنها حجمت ظاهرة بيت العائلة وقلصت من حجم الأسرة وقصرت دور الوالدين التربوي في أضيق نطاق مفسحة للمدرسة والإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي الدور الأوسع ,
في ظل ثقافة مدججة بكل وسائل الإقناع والتشويق تعطي للعلاقات بين الجنسين قبل الزواج عنوانا رومانسيا حالما وهو الحب , فأية حكومة إسلامية ستواجه تحديا حقيقيا في مواجهة الزحف البطئ لنتائج الفلسفة الفردية , والتي تعكسها الحالة الاجتماعية الغربية من تخلخل شكل الأسرة التقليدية وبروز بدائل مضطربة وتقليلا من أهمية الزواج التقليدي وتقليصا من نسبته , وإزاحة الهالة التقديسية لرابطة الزواج مما ضاعف نسبة الطلاق بشكل مطرد ونشوء طبقة كبيرة في المجتمع من أبناء الزنا , وبروز ظواهر كعنف الأطفال والعنف ضد المرأة والأزمات النفسية الحادة لكبار السن .
الفصل الرابع
نماذج الحكم الحديثة للإسلاميين
سعي الإسلاميون منذ سقوط الخلافة العثمانية لاستعادة الحكم باسم الإسلام وشهد القرن الماضي محاولات عديدة أخذت طابع الانقلاب العسكري تارة , وتارة سلكت طريق صناديق الاقتراع وأخري سعت لإعلان الجهاد أو الثورة الشعبية ومن بين المحاولات العديدة التي يمكننا التوقف عندها ثلاثة نماذج للحكم تستحق الدراسة والتحليل بهدف الوصول إلى النموذج العملي الذي يمكن للإسلاميين تحقيق فائدة منه مرجوة للإسلام , وهو نموذج حكومة طالبان بأفغانستان , ونموذج الجمهورية الإسلامية بإيران , ونموذج حزب العدالة والتنمية بتركيا , إذ تمثل هذه النماذج الثلاثة الفكر الإسلامي السياسي بأطيافه المختلفة من التشدد إلى الإفراط .
ونحن هنا لن نتوقف كثيرا أمام الظروف السياسية التي سمحت لهذه النماذج الثلاثة بالظهور والبقاء , رغم التشدد الدولي المعلن وغير المعلن ضد السماح للإسلاميين بالحكم , فالذي يعنينا في هذا الصدد هو كيفية استفادة الإسلاميين من الفرصة المتاحة لخدمة الإسلام ,دون النظر إلى الظروف التي وفرت هذه الفرصة أو الأغراض الخفية للدول العظمي التي دفعتها لإعطاء مثل هذه الفرصة .
النموذج الإيراني
وهو نموذج الدولة التي أسسها آية الله الخميني في إيران بإسم جمهورية إيران الإسلامية في أول إبريل عام 1997م.
الإرهاصات الأولي
لم تكن إيران مسرحا مرشحا لقيام دولة إسلامية بعد سقوط الدولة العثمانية , ذلك لأن الفكر الاثنى عشري قد جمد صورة المشهد السياسي الشيعي
منذ إعلان الغيبة الكبرى للإمام المهدي , واختصر العمل السياسي كله في فعل الانتظار إلى أجل غير مسمي , فطالما أعمال القيادة السياسية مرهونة بوجود الإمام المنتظر فلا شرعية دينية لشخص أو جماعة أو حزب ما يسعي لإقامة دولة أو يطالب بإعلان الجهاد وتطبيق الحدود وجبي الزكاة , وكانت نتيجة هذه العقيدة أن خرج الشيعة الإثنا عشرية من التاريخ السياسي للأمة وحصروا أنفسهم في دائرة الحوزة المدرسية واكتفوا بالعمل على تغذية التشيع بمقتضيات العزلة الشعورية في مواجهة المخاوف من الذوبان داخل كثافة الأغلبية السنية وانكفأت مرجعياتهم الدينية داخل الطائفة محافظة على استقلاليتها عن الأنظمة ومتنزهة عن مخالطة الحكام أو المشاركة بالأعمال السياسية , وهو ما غيب أسماءها وأعمالها عن بقية العالم الإسلامي لقد اكتفي قادة الإثنا عشرية يحمل همّ الطائفة وتجهيزها لظهور المهدي وتاركين للخلافة السنية حمل هم الإسلام في المجتمع الدولي , لكن مع سقوط الخلافة العثمانية لم يعد للإسلام راعيا دوليا يحمل همه ويذود عنه ,
ومع هذا المستجد المفصلي وجد الشيعة الإثنا عشرية أنفسهم ضمن حالة استنفار وتوتر ومواجهة عامة في العالم الإسلامي , أدى لبروز حركات سياسية وجماعات دينية ومؤتمرات إسلامية لدرء خطر الاستعمار الذي يريد ملء الفراغ السياسي بغياب الخلافة , ولما كانت مواجهة مثل هذه الحالة في العقيدة الإثني عشرية هي من اختصاصات الإمام الغائب , وجد الشيعة نفسهم في حيرة مربكة بين صرامة العقيدة والهزائم المتتابعة للأمة الإسلامية , مما أدي إلى زحزحة الموقف المتجمد واتخاذ مواقف سياسية كانت تعتبر من اختصاصات الإمام الغائب فيما مضي , ولعل أبرز هذه المواقف هي فتوى آية الله العظمي السيد كاظم اليزدي وغيره من علماء الشيعة بالنجف بإعلان الجهاد ضد الاستعمار في ليبيا والعراق وإيران , مما دفع عشائر العراق الشيعية تنخرط باندفاع في حركة المقاومة المسلحة ضد الاستعمار البريطاني في جنوب العراق , وتلا ذلك نشاط سياسي لأية الله السيد أبو القاسم الكاشاني ضد الاستعمار البريطاني والذي بدأه بالانخراط في المقاومة المسلحة بجنوب البصرة , ثم دعمه لأحمد شاه القاجاري الرافض للاتفاقية البريطانية التي اقترحها بيرسي كوكس عام 1919 م مما عرضه للسجن والتعذيب , وتحالفه مع مصدق وثورته ثم الاختلاف معه خشية قفز الشيوعيين على الحكم , غير أن قيام حركة فدائيان إسلام بقيادة السيد نواب صفوى تعتبر قفزة نوعية في الفعل السياسي الشيعي الإثنا عشري ,
فقد قامت هذه الحركة لتجنيد الشباب من أجل مواجهة النظام الشاهنشاهي تحت مظلة الإسلام السياسي وليس المدرسي وتعتبر أول حركة سياسية إسلامية في وسط إثنى عشري على غرار الجماعات والحركات الإسلامية السياسية في بقية العالم الإسلامي , وهو ما شجع – فيما بعد - على قيام تنظيم سياسي إسلامي سري آخر في الوسط الإثني عشري باسم حزب الدعوة يجمع بين العمل السياسي والتوجيه الفقهي المدرسي , فلقد كان المفكر الإسلامي والمرجع المتميز آية الله الإمام محمد باقر الصدر الأب الروحي لهذا التنظيم , ورافق ذلك ظهور مفكرين من خارج دائرة الحوزة العلمية تعرض الدين كأداة تغيير نحو الإصلاح السياسي , ولعل أبرزهم هو المفكر الإسلامي على شريعتي الذي تزامن ظهوره مع الحركة السياسية التي بدأها آية الله الخميني , لتنتهي بالدعوة لقيام حكومة إسلامية وفق نظرية ولاية الفقيه التي ما زالت تثير جدلا في الأوساط الإثني عشرية, لقد كان كل من محمد باقر الصدر والخميني وفق استثناء من الخط العام للفكر الإثني عشري الذي ظل محافظا على التدين التقليدي وفق أطر الحوزة المدرسية , حيث ظل مستمرا بتجميد حركته في المشهد السياسي والانكفاء داخل الطائفة وانتظار مجئ المهدي لتحريكه وتغييره .
لم تكن المفاجأة في إيران آنذاك الثورة ضد النظام الشاهنشاهي بل المفاجأة كانت في اقتطاف الخميني لثمرة الثورة , فمنذ عام 1977 م وإيران كانت تموج بالاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات بقيادة النخب المثقفة وأحزاب المعارضة , وكان علي رأسها حركة مجاهدي خلق اليسارية وحزب توده الشيوعي وحركة تحرير إيران الليبرالية , فلقد أثارت سياسة الانفاق الحكومية خلال مرحلة السبعينات غضب الغالبية من الإيرانيين , وهي سياسة سعت لتكريس هالة النظام الإمبراطور الفارسي أمام العالم الغربي , إذ شهدت احتفالات ذكري مرور 2500 عام على إنشاء الإمبراطورية الفارسية إنفاقا سخيا غير مسبوق في وقت رزحت فيه ولايات ومحافظات بلوشستان وسيستان وفارس – وهي المناطق التي أجريت فيها الاحتفالات – تحت وطأة جفاف وقحط وفقر , وصاحب ذلك خيبة أمل بالطفرة النفطية التي كان يؤمل منها أن تنتج " حضارة عظيمة " كما وعد الشاه وعلى عكس ذلك شهدت إيران حالة من التضخم والهدر " والفجوة المتسارعة " بين الأغنياء والفقراء والريف والمدينة في الوقت الذي شهد فيه الإيرانيون عشرات الآلاف من العمال الأجانب الذي يقبضون رواتب عالية من أجل تشغيل المعدات العسكرية الأمريكية باهظة التكاليف , والتي لم تحظ بدعم أو قبول شعبي ,
حيث أنفق الشاه عليها مئات الملايين من الدولارات , وتلا ذلك تأسيس الشاه لحزب خاص به أسماه " رستاخيز " لا ليتحول إلى الحزب الوحيد الذي يمكن للإيرانيين الانتساب إليه فحسب , بل ليكون لزاما على كل إيراني بالغ أن ينتسب إليه ويدفع رسومه , ولقد جاءت المحاولات التي بذلها هذا الحزب لاتخاذ موقف شعبي لصالح حملات " مكافحة الاستغلال بنتائج عكسية ذات ضرر اقتصادي , فمع تراجع النشاط التجاري وهجرة رؤوس الأموال وغضب التجار ظهرت السوق السوداء وبرزت ظاهرة الفساد المالي والإداري في إيران , مما أدي بالشاه لإعلان سياسة التقشف الاقتصادي لكبح حالات التضخم والهدر , وانعكس كل ذلك على البطالة الناجمة عن تلك السياسات وأثر سلبا على آلاف المهاجرين – من غير المؤهلين – إلى المدن و وفي الوقت الذي كان فيه الوضع المعيشي مترديا كان النظام يتعامل مع الغضب الشعبي بقوة ووحشية , واستخدم فيه جهاز الأمن ( السافاك ) لإسكات الأصوات وقمع المعارضة وتصفية الخصوم ,
ومع مطلع عام 1977م تراكمت صورة القهر والمعاناة – التي بدأت مع مطلع السبعينات – وانتهت إلى حالة غليان وانفجار استفادت منها القوى اليسارية في تعبئة الجماهير الغاضبة , وصاحب ذلك – في الوقت نفسه – استفزاز حفيظة علماء الدين وجمهور المتدينين عندما بدأ النظام سياسة التغريب تحت غطاء العصرية , كما جاءت محاولة إحياء النزعة الفارسية في مواجهة النزعة الدينية لتصب الزيت على النار , والتي تجلت في تلك الاحتفالات الباذخة وتغيير بدء التاريخ من الهجري إلى الفارسي , وأدي ذلك كله إلى انضمام تيار المتدينين إلى حالة الغليان الشعبي .
لقد آثار هذا الوضع المتفجر في إيران قلق الغرب وتخوفهم من المـآلات التي ينتهي إليها هذا الوضع , خاصة وأنه يجئ في وقت تجاوز فيه الاتحاد السوفييتي حدوده وغزا أفغانستان التي لم تكن ضمن دائرة نفوذه , وجاءت هذه التوسعة على حساب النفوذ الغربي الذي بات لا يثق في جدية واحترام السوفييت للأوضاع الدولية المستقرة , لقد أصبح الاتحاد السوفييتي يسيطر على أكبر جبهة حدودية لإيران , مما يشكل تهديدا وشيكا لخزان النفط الهائل الذي يقبع تحت منطقة الخليج العربي , فلو جاءت حكومة يسارية بإيران وقرر الاتحاد السوفييتي الزحف بجيوشه برا نحو شواطئ الخليج فإنه خلال أسبوع يستطيع أن يحشد بضع مئات الآلاف من جنوده بآلياته الثقيلة والمدججة مستفيدا من موقعه الجغرافي ,
وهو ما لا يتسنى للغرب أن يفعله في تلك الفترة القصيرة والبعد الجغرافي , ولما كان واضحا لدي الغرب أن الطرف المؤهل لاستلام السلطة – في حالة سقوط نظام الشاه – هو طرف يساري ( مجاهدي خلق وتوده ) وأقرب إلى موسكو منه إلى واشنطن ,لذلك لم يكن مجديا له المراهنة على الشاه والوقوف في وجه التيار , وكانت سياسته المضي مع التيار ودعم الطرف الأقل ضررا عليه , وكان التيار الديني هو الأقل ضررا , فرغم المعارضة الغربية لقيام دولة إسلامية عموما إلا أنها السبيل الوحيد لوقف الزحف السوفييتي , فهي ستشكل جدارا صلبا في وجه الشيوعية وتصفي أنصار اليسار ,
وهو ما لا يستطيع أن يحققه الليبراليون أو الوطنيون لم تسلموا الحكم , وسواء علم الخميني بهذا الدعم أو لم يعلم فإنه استفاد من هذا الوضع الاستثنائي إذ تسلم قيادة هذه الثورة مستفيدا من الضوء الأخضر الغربي وتركيز الإعلام الغربي عليه , بالإضافة إلى اعتماده على تاريخه النضالي وشخصيته الكاريزمية المهابة والمخزون الديني الشعبي للإيرانيين , وبمجرد وصوله للحكم وجد السوفييت أمامهم خصما أيدلوجيا عنيدا يقاومهم بضراوة من على شاكلة الذين يقاتلونه في أفغانستان , وتأكد لهم هذا الأمر بعد مضي فترة من الزمان حيث تمت تصفية أنصارهم من حزب توده وحركة مجاهدي خلق وزج بمن تبقي منهم في داخل السجون , لقد انتهت حسابات الغربيين إلى التالي : إذا كان ثمن وقف زحف السوفييت هو خسارة الشاه ومجئ حكومة دينية فليكن هذا الثمن , وهو ما تحقق فيما بعد .
الخلفية الفكرية للخميني
ينتمي آية الله الخميني إلى فكر الحوزة العلمية والحوزة العلمية هي مدارس تعليم العقيدة الإثني عشرية والفقه الجعفري في العالم , وهي ليست مجرد مدارس لتخريج طلبة العلم بل مراكز بحث ودراسات متقدمة للحصول على الدرجات والألقاب العليمة في هذه الحوزة وتنتشر الحوزات العلمية - خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة – حيث يتواجد الشيعة , لكن حوزة النجف الأشرف بالعراق هي الأهم والأشهر ويليها حوزة قم بإيران , أما العقيدة الإثنا عشرية فقد نشأت – في الأصل – نتيجة النزاع السياسي على منصب الخلافة ( الإمامة ) بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم لكنها تحولت إلى تيار ثأري بعد مقتل الحسين بن على رضي الله عنهما وتفرعت من هذا التيار فروع أحدها الفرقة الإثنا عشرية وهي فرقة صاغت نظريتها حول الإمامة وجعلتها أصلا من أصول الدين , حيث ترى أن رئاسة الأمة يجب أن تكون وراثية محصورة في نسل فاطمة الزهراء رضي الله عنها من الذكور , وأنها لا تكون بالاختيار بل بالنص والتعيين يعلن عنه الإمام القائم قبل وفاته ,
وأن هذا التعيين هو وحي من الله أخبر به نبيه صلي الله عليه وسلم ويتناقله الأئمة ضمن مجموعة معلومات أخرى عن أسرار الشريعة موحاة ولا يعرفها غيرهم ولما كان النبي صلي الله عليه وسلم معصوما من الخطأ والنسيان وارتكاب الفواحش لأداء مهمته الرسالية فإنه لا يوصي إلا لمعصوم مثله لتكملة المهمة , ولذلك يعتقد الشيعة الإثنا عشرية بأن الله أوصي بإثني عشر إماما من نسل فاطمة الزهراء رضي الله عنها وغير أن آخرهم ( المهدي ) اختفي وغاب في غار بسامراء وهو صبي صغير لتتجمد الإمامة بعده أكثر من اثني عشر قرنا ,
لكنه وعد أتباعه بالظهور في نهاية الزمان ليقيم العدل ويرفع الظلم لكن غيبة الإمام المهدي خلقت فراغا قياديا لدى الشيعة الإثني عشرية تم ملؤه بفكرة مؤقتة ومحدودة وهي النيابة العامة أو ولاية الفقيه , حيث منح لكل مرجع فقهي ولاية خاصة على مقلديه في الأحكام الشرعية , وهو ما حفظ لمعتنقي عقيدة الاثنى عشرية قيادات تصون معتقداتهم وفقههم طوال القرون الماضية , ويلاحظ أن معظم أفكار الاثني عشرية مستقاة من الفكر الصوفي الإسلامي ذلك الفكر الذي يؤمن بالأولياء الذين يتصرفون في الكون , ويتحكمون في كل صغيرة وكبيرة , وأن لكل زمان قطبا أعظم واحدا " واحد الزمان " وهو ما دفع فقهاء الشيعة الأوائل لتبني التنظيم الهيكلي للصوفية , فقد ألزمت الحوزة جمهورها من الشيعة بتقليد فقيه من الفقهاء الأحياء والتقيد بتوجيهاته وأوامره , وهذا ما يشابه علاقة المريد بشيخه في التنظيم الصوفي , ونشأ ما يسمي بمرجعية التقليد التي تحولت مع الزمن إلى قوة سياسية واجتماعية واقتصادية ذات حضور ملموس " حتى أصبح كل فرد من عوام الشيعة مقلدا لأحدا الفقهاء الكبار ( المراجع )
وساد اعتقاد بين العوام أن تدّين الفرد لا قيمة له ما لم يكن مقلدا لمرجع ما , وبذلك تمكن فكر الحوزة العلمية من إيجاد رابط قوى بين القيادة الدينية وجمهور الشيعة , واتضحت هذه الرابطة من خلال قيام جمهور الشيعة – عن طواعية – بدفع الزكاة والخمس للفقهاء باعتبارهم وكلاء الإمام خلال غيبته , ومن هذا المنطلق أصبح كل مرجع – الذي صار تقليده وجوبيا – رأسا لتنظيم هرمي مستقل عن الدولة النمطية ماليا وثقافيا له وكلاء – يعملون طواعيه من أجله – حيث يتواجد أتباعه ومقلدوه , وهؤلاء يمثلون القيادة الوسطي في الهرم التنظيمي الإثنى عشري , مهمتهم جمع الزكاة والخمس سنويا من المقلدين الذين يمثلون قاعدة التنظيم وتبليغ الإرشادات والإفتاءات التي يوجهها المرجع لهم , ولما كان التقليد نهجا ينتهي بتهميش عملية التفكير والتساؤل لدي المقلدين وإحالتها للفقهاء بالنيابة , وهو ما يشكل خطورة على المقلدين من جمهور الشيعة الذين يعيشون في عالم إسلامي ذات كثافة سنية ومجتمعات مفتوحة للحوار والنقاش المعارك الفكرية , مما يعرض الأفكار الإثني عشرية للنقد والهجوم دون قدرة المقلدين على الرد والتفنيد ,
لذلك سعت الحوزة إلى عزل جمهوريا عزلا شعوريا واعتبار بقية جمهور المسلمين مخالفين لا يؤمنون بالإمامة , مما استدعى مقاطعة صلوات الجماعة والجمع والأعياد والجنازة فنشأ عن ذلك قيام مساجد ومقابر خاصة بالشيعة , ومخالفة مواقيت أهل السنة في رؤية هلال رمضان وموعد للحسين رضي الله عنه يستعاد فيها مشاهد المأساة التي تعرض لها أحفاد النبي صلي الله عليه وسلم وصور الجريمة التي ارتكبها خصومه , ومنها زيارة قبور الأتقياء من نسل فاطمة الزهراء رضي الله عنه , والتي أطلق عليها العتبات المقدسة وشهد التاريخ الإسلامي احتكاكات عديدة بين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة كان لأتباع الطائفة الشيعية نصيب منها ,
وقد انتهى بعضها إلى القتل والإبادة , مما زاد من الغلو في المواقف بين الطرفين ,وولد ذلك نزعة غلو ضد الآخر طغت على المجتمعات الإسلامية آنذاك , فمن الجانب الشيعي ظهرت فتاوى وآراء تحل دماء وأموال المخالفين وجواز سببهم , وأخرى تشتم الخلفاء وبعض الصحابة المعارضين لعلي رضي الله عنه , وتسب عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها , وعلى مستوى الشعائر تمت إضافة الشهادة الثالثة في الأذان ( وأشهد أن عليا ولى الله ) وإجازة اللطم والعويل والتطبير في مجالس العزاء " الحسينيات " والحلف والذبح بأسماء الأئمة وآل البيت الهاشميين , ومع مرور الأيام أصبحت صور المغالاة واقعا يصعب على الحوزة مواجهته والحد من غلوائه , وتحول إلى مسلك ينتهجه كل من يريد كسب مقلدين جدد من طائفة الإثنى عشرية , وقاد إلى تكريس مبدأ التقية الذي يحتمي فيه علماء الشيعة وعامتهم من الإحراجات أمام الحكام أو أمام مخالفيهم .
نشأ بن مصطفي بن أحمد الخميني يتيم الوالدين بعد مقتل والده وموت أمه , وعاش في كنف الفقهاء منذ صغره حيث تتلمذ على يد آية الله الشيخ عبد الكريم الحائرى اليزدي ورحل معه إلى حوزة قم وهو دون العشرين من عمره , واجتاز كافة المباحث والدروس اللازمة ليصبح مجتهدا في الفقه ومعارف أهل البيت , ورغم شهرته – لدى زملائه وتلاميذه – بالضلوع في علوم التصوف إلا أن سلوكه كرجل دين اتسم بنزعته المعارضة الثائرة على الظلم والقهر وسعيه للتغيير , ولعل فجيعته بمقتل أبيه وابنه الأكبر ونشأته فقيرا حفزته للاهتمام بالقهر السياسي الذي يعيشه الإيرانيون , والسعى لإزالته , ورفع شعار نصرة المستضعفين فيما بعد ,
ويذكر أن الخميني لم يكن الأكثر فقها وعلما بين مراجع التقليد المعاصرين له , لكنه بالتأكيد كان لدية قدرة قيادية فائقة وذكاء وقاد لم تتوفر لأى مرجع في زمنه لقد برز نشاطه السياسي عام 1963 عندما دعا إلى التظاهر والإضراب أثناء الاحتفالات الشيعية بذكرى استشهاد الإمام الحسين في يوم عاشوراء , ويتجلي ذكاؤه في توقيت إعلان معارضته وتعبئته للجماهير , فقد اختار الفترة التي أعلن فيها الشاه عن ثورته البيضاء , والتي كانت تهدف في حقيقتها إلى إخضاع رجال الدين للدولة عن طريق سحب جزء كبير من الأراضي التي يمتلكونها من الوقف , وتهديد كبار الملاك الزراعيين بنزع ملكياتهم , وإعطاء حق التصويت للمرأة , فهو في هذا التوقيت ضمن دعم بقية المراجع ورجال الدين شعروا بالخطر الذي سيطال نفوذهم وامتيازاتهم كما اختار يوم عاشوراء حيث تصل حالة التدين ذروتها لدي الشيعة , واستجابت الجماهير لنداءاته وانقلبت مواكب عاشوراء إلى تظاهرات اصطدمت بقوات الأمن , وسقط ألفا قتيل من المتظاهرين , وأظهر ذلك تأتي الخميني البالغ في الجماهير , ورغم أن الشاة نجح في قمع المظاهرات دون اللجوء للجيش لكنه ما كان يستطيع ذلك لو لم يحد بقية المراجع ويتقدم لهم بنداء الإلتزام الهدوء ويتنازل عن مشروعه بتقديم وعد لهم بعدم المساس بأراضي الأوقاف ,
وهو ما جعل الخميني وحيدا بأرض المعركة ليلقي القبض عليه ثم يؤمر بنفيه إلى خارج البلاد لكن الخميني جعل من منفاه بؤرة تجمع لكثير من المعارضين المتدينين ولربما واجه بعض النقد حول تورطه المتكرر – كمرجع تقليد – في العمل السياسي المعارض وجدوى سعيه لتغيير حكومة الشاة حيث أن فكر الحوزة السائد حول الحكومات هو العزوف عنها ما لم تتحرش في شؤون الحوزة أما الإصلاح السياسي فيؤجل لحين خروج الإمام المهدي لتولي أمر المسلمين وإقامة العدل وربما يكون هذا النقد هو سبب رئيسي له في تأليف كتابه الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه , وقاده ذكاؤه لتوضيح موقفه باللجوء إلى فكرة ولاية الفقيه التي يؤمن بها كل المراجع كولاية خاصة للمرجع على مقلديه , غير أنه حاول توسيع هذه الولاية لجعلها عامة معتمدا على نظرية قديمة منذ العصر القاجارى حول ولاية الفقيه أسسها الشيخ أحمد النراقي فقيه ذلك العصر , ثم طور هذه النظرية ليحلحل الموقف المتحجر ضد قبول قيام حكومة إسلامية في ظل غيبة الإمام المهدي ,
وتقوم نظريته الخاصة في الحكومة الإسلامية على أركان أربعة , هي : أولا حاجة الإسلام إلى قيام الدولة من أجل تطبيق قسم كبير من أحكامه , ثانيا , أن إقامة الحكومة الإسلامية وإعداد مقدماتها – ومن بينها المعارضة العلنية للظالمين – من واجبات الفقهاء العدول ,وأن إتباع الناس لهم ومساندتهم هي من الأمور الواجبة ثالثا , أن الحكومة الإسلامية تعني ممارسة الفقهاء العدول المعينين من جانب الشارع المقدس لولايتهم في كل الجوانب الحكومية التي كانت تسري عليها ولاية النبي والإمام المعصوم , رابعا أن الحكومة الإسلامية والقوانين الصادرة عنها تعتبر من الأحكام الأولية وتتمتع بالأولوية والتقدم على جميع الأحكام الفرعية , وأن حفظ النظام واجب شرعي .
فكرة ولاية الفقيه لم تأخذ حظا كبيرا من النقاش والدراسة قبل أن يطرحها الخميني , فمن القلائل الذين قابلوها بالرفض أحد مراجع الشيعة الكبار الشيخ مرتضي الأنصاري , ويمكن تفسير انصراف بقية المراجع عنها لأنها اعتبرت في نظرهم ترفا فكريا ليست ضمن حدود الممكن في المدى المنظور , كما أن الخميني نفسه أثناء الثورة وفي خضمها لم يكن يدعو إلى حكومة إسلامية ,
بل كان على العكس يدعو لحكومة جمهورية واقعية مستندة إلى حقوق الإنسان كما ذكر المعارض الإيراني أكبر غنجي , ولم يتطرق لموضوع الحكومة الإسلامية إلا بعد ثمانية أشهر من انتصار الثورة , ويومها واجه معارضة صلبة من كثير من المراجع الذين آثر بعضهم الصمت أو التحفظ بعدما لقن الخميني أكبر معارضيه درسا قاسيا , حيث أرسل لأية الله شر يعتمداري كبير المراجع في قم آنذاك عشرة آلاف شخص من أتباعه يحملون العصي والهروات ويهتفون بعمالة شر يعتمداري ويشيرون إلى بيته كوكر للتجسس وحدث قتال بين أنصار المرجعين أدى إلى مقتل اثنين من المتقاتلين وبعدها بقي شريعتمداري في بيته تحت الإقامة الجبرية إلى أن مات ,
والمثال الآخر كان آية الله حسن الطباطبائي القمي في خراسان والذي عارض نظرية ولاية الفقيه بصلابة وعناد مما عرضه للإضطهاد والسجن لقد أعطي الخميني درسا لبقية المراجع الذين أرادوا الوقوف ضد ولايته ليعلموا أن مصير الإمام شريعتمداري سيكون مصيرهم إذا ما أرادوا الوقوف ضد رغبته وهو ما خفف من نبرة المعارضة لدى بقية المراجع , غير أن وجود مراجع خارج إيران أتاح الفرصة لنقد النظرية بحرية وصراحة , ففي حوزة النجف عارض آية الله أبو القاسم الخوئي كبير المراجع في الحوزة تلك النظرية وانتقدها , وفعل ذلك في لبنان كل من آية الله السيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدى شمس الدين , وتم نقد هذه النظرية وتطبيقها في الدستور الإيراني من جوانب شرعية وسياسية فمن الناحية الشرعية رأي الناقدون أنها تهدم معتقدا شيعيا يقول بأن الحكومة الإسلامية لا يقيمها إلا إمام معصوم من الأئمة الإثني عشر والذي تكون بيعته واجبة على كل المسلمين , ومن لا يبايعه يعتبر خارجا عن الطاعة يجب مقاتلته , كما أنها تشكل خطرا على مصير الطائفة في المدى البعيد فهي تخلخل تماسك فكرة الإمامة التي هي صلب المذهب الإثني عشري ,
كما تخلخلت فكرة قرشية الخلافة لدى أهل السنة بمرور الزمان , وتهدد الكيان الطائفي للشيعة بالذوبان في المحيط السنى الواسع , الأخطر من ذلك لدل المراجع الكبار هو استغلال هذه النظرية لإلغاء ولاية الفقيه الخاصة على مقلديه وتركيز المرجعية بيد الحاكم المسلم ولى الفقيه الجامع للشرائط أما الذين انتقدوها من الناحية السياسية وجدوا أن هذه النظرية تكرس الحكم الفردي وتمنحه سلطات مطلقة باسم الدين ليصبح حاكما بأمر الله , وتعيد فكرة سلطة الكنيسة المعروفة بالقرون الوسطى في أوروبا ولكن بثوب إسلامي .
وما بين النقد الشديد لهذه النظرية واستماتة مؤيديها للدفاع عنها , هناك حقيقة على أرض الواقع يجب الإشارة لها , فالرؤية التي قدمها الخميني للشيعة حول العمل السياسي تشكل إنقلابا جذريا في الفكر الإثني عشري , فهي تلغي حالة الإتكالية لديهم وتخرجهم من الحالة السلبية إزاء الأحداث السياسية إلى موقف إيجابي فاعل , وتضع الفكر الشيعي الإثنى عشري على جبهات المواجهة بدلا من موضعه التاريخي والانكفائي والاحتمائي , وتخرج الشيعة من إطارهم الطائفي المغلق إلى ساحات العالم الإسلامي المفتوحة , وتمنح جمهورهم ثقة عالية بالنفس بدلا من الحالة الاعتذارية أو الاتقائية التي مارسوها طوال تاريخهم .
إن المتتبع لفكر الخميني كفقيه يمارس ولاية عامة ويتزعم دولة كبيرة كإيران يجد فكرة مختلفا في كثير من الجوانب عن تلك الفترة التي مارس فيها ولايته الخاصة على مقلديه كمرجع ضمن مراجع الحوزة ففكر الخميني في مطلع مرجعيته كان تقليديا لا يختلف كثيرا عن بقية المراجع المتنافسين على كسب مزيد من الإتباع ومن ذلك النتاج المبكر يحاول يحاول خصومه إثبات غلوه ضد أهل السنة بنقل شواهد من كتابه " تحرير الوسيلة " وتكفيره للنواصب أو نقل شواهد من كتابه " كشف الأسرار " الذي يصف فيه أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بالمنافقين المتسلطين الظالمين الذين ظلما فاطمة الزهراء رضي الله عنها أو يصف عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه من الظلمة , وبغض النظر عن حقيقة هذه الاتهامات أو أو مدى تمسك الخميني بها في فترة ولايته العامة , إلا أن فكره كحاكم يختلف تماما عن هذا الغلو , فهو أفتي بجواز صلاة الجماعة مع السنة ,
واستشهد في فتواه بقول للإمام جعفر الصادق رضي الله عنه " صلوا في جماعتهم وعودوا مرضاهم وشيعوا جنائزهم حتى يقولوا رحم الله جعفر فقد أدب أصحابه , كونوا زينا لنا ولا تكونوا شينا علينا " في أول موسم حج بعد انتصار الثورة في إيران وجه بيانا للحجاج الإيرانيين ولجميع الشيعة طالبهم فيه بالمشاركة في صلاة الجماعة مع أهل السنة , واجتناب أى عمل يثير حساسيات الخلاف والتفرقة بين السنة والشيعة , قائلا " يلزم على الإخوة الإيرانيين والشيعة في سائر البلدان الإسلامية أن يتجنبوا الأعمال السقيمة المؤدية إلى تفرقة صفوف المسلمين ويلزم الحضور في جماعات أهل السنة , والابتعاد بشدة عن إقامة صلاة الجماعة في المنازل , ووضع مكبرات الصوت بشكل غير مألوف , وعن إلقاء النفس على القبور المطهرة , وعن الأعمال التي قد تكون مخالفة للشرع , وأكثر من دعوته لوحدة المسلمين جاعلا من القضية الفلسطينية والجهاد ضد إسرائيل المحور لوحدة المسلمين حيث يقول :" إننا جاهزون في جميع الأحوال للدفاع عن الإسلام والبلدان الإسلامية واستقلالها , إن برنامجنا هو برنامج الإسلام وتحقيق وحدة كلمة المسلمين واتحاد البلدان الإسلامية , وتحقيق الإخوة مع جميع طوائف المسلمين في كل العالم , والاتحاد مع جميع الدول الإسلامية في سائر العالم , والوقوف بوجه الصهيونية وإسرائيل , والوقوف بوجه الدول المستعمرة التي تريد نهب ذخائر هذا الشعب الفقير مجانا " غير أن شخصية الخميني المتأثرة بالتصوف جعلت منه زاهدا بمباهج الدنيا من جانب ومقاتلا عنيدا لتكريس زعامته من جانب آخر , وهو مسلك الزعماء الصوفيين الذين لا يريدون من مريديهم وأتباعهم سوى الانصياع التام والإيمان المطلق بزعامة الشيخ فالعقار الوحيد الذي كان باسم الخميني هو البيت المتواضع الذي كان قد اشتراه أيام دراسته المبكرة في الحوزة العلمية في محلة ( يختشال قاضي ) في مدينة قم , هذه المحلة التي كانت تعتبر في تلك الأيام كأبعد نقطة سكنية عن قلب المدينة, وعندما انتقل إلى طهران – حيث أقام لمدة عشر سنوات في منطقة جماران – سكن في منزل عبارة عن بيت قديم البناء يشبه بيوت الكثير من المستضعفين ليكون مقر إقامته , لكن هذا الزهد لم يتحل في عشقه للزعامة كبقية مشايخ الصوفية
, ولم يمنعه من التخلص من كل منافسيه على السلطة , حيث بادر إلى إعدام كبار جنرالات الجيش أولئك الذين وقفوا معه على الحياد طوال ثورته , كما أعدم أكثر من مائتين من كبار مسؤولي الشاه المدنيين بهدف إزالة خطر أى انقلاب وأجرى قضاة الثورة من أمثال القاضي الشرعي صادق الخلخال محاكمات موجزة افتقرت إلى وكلاء للدفاع أو محلفين أو إلى الشفافية , ولم تمنح المتهمين الفرصة للدفاع عن أنفسهم , أما الذين هربوا من إيران فلم يكونوا محصنين من الاغتيال , إذ بعد مرور عقد اغتيل في باريس رئيس الوزراء الاسبق شاهبور بختيار , وهو واحد من ما لا يقل عن ثلاثة وستين إيرانيا قتلوا أو جرحوا منذ الإطاحة بالشاه , وفرض الإقامة الجبرية على المراجع العلمية التي خالفته في نظريته أو اختلفت معه كما فعل مع آية الله كاظم شريعتمداري من قبل ومنتظري ( نائبه السابق ) من بعد ,
وفي مارس 1980 أعلن الخميني " الثورة الثقافية " لتصفية الحياة السياسية من بقية معارضيه من الأيدلوجيات المنافسة فأغلقت الجامعات التي اعتبرت معاقل لليسار مدة سنتين لتنقيتها من معارضيه , وفي يوليو فصلت الدولة البيروقراطية عشرين ألف من المعلمين وثمانية آلاف تقريبا من الضباط باعتبارهم " متغربين " أكثر مما يجب , كما استخدم الخميني أسلوب التكفير للتخلص مع معارضيه , وعندما دعا قادة حزب الجبهة الوطنية إلى التظاهر في منتصف عام 1981 ضد القصاص , هددهم الخميني بالإعدام بتهمة الردة " إذا لم يتوبوا " كما هاجم رجاله مراكز اجتماعية ومكتبات ومنابر مجاهدى خلق وعددا من اليساريين الذين يديرون النشاط اليساري في الخفاء , ولقد استطاع الخميني بكل جدارة أن يتفرد بالسلطة في بلد كان يزخر بالسياسيين والمفكرين والأكاديميين والإعلاميين .
جمهورية إيران الإسلامية
كانت إزاحة شاه إيران ونظامه هي الهدف المشترك لكافة فصائل الثورة الإيرانية , ولكنهم كانوا يختلفون فيما بعد ذلك اختلافا كبيرا , وهو ما دفع بذكاء الخميني إلى أن يؤجل البحث في التفصيلات – التي تفكك جبهة الثورة – حتى تحقيق الهدف المشترك , وكان يطمئن المتشككين بأن المراجع الدينية لا تتطلع للحكم وفي الفترة التي أعقبت سقوط نظام الشاه انكشفت الخلافات بين كافة التيارات الثائرة وبدأ التنافس بينها لتفسير أهداف الثورة , منهم من كان يقول أنها إنهاء للاستبداد ومنهم من كان يطالب بمزيد من الإسلام , ومنهم من كان يكتفي بالحد من التأثير الغربي الأمريكي , وآخرون يطالبون بالعدالة الاجتماعية والمساواة , غير أن كل هؤلاء لم يتوفر لهم ما توفر للتيار الديني من طريق ممهد لاستلام السلطة , إذ بادر الخميني في البداية لطمأنة الآخرين بتعيينه مهدي بازركان الليبرالي الإسلامي رئيسا للوزراء , الذي سعي لإنشاء حكومة إصلاحية ديمقراطية , كان الخميني يؤسس مركزا آخر للسلطة بديلا للحكومة وهي المنظمات الثورية التي اعتمد عليها لحماية سلطته , مثل الحرس الثوري والمحكمة الثورية والخلايا الثورية المحلية التي تحولت إلى لجان محلية ,
ففي الوقت الذي كان رئيس الحكومة يطمئن النخبة المثقفة والطبقة الوسطي كان الخميني يدرس ثلاثة خيارات , الأول هو الحفاظ على نمطية الدولة المعاصرة وتسليم السلطة للنخبة السياسية التي شاركته الثورة لتأسيس نظام وفق الديمقراطيات الغربية , والنأى بالمرجعية الدينية عن ممارسة السلطة وإبقائها كمرجعية روحية تضبط مسار القيم الأساسية للحياة , أما المسار الثاني فهو استلام السلطة وممارستها وفق نموذج دار الإسلام وتحويل إيران إلى دار هجرة للمناضلين الإسلاميين لإعادة الإسلام كقوة دولية من جديد أما المسار الثالث فكان المزج بين المسارين , بحيث ينشئ دولة قومية معاصرة ملتزمة بالنظام الدولي ومواثيقه , وفي نفس الوقت يستخدم إمكاناتها لإعادة الإسلام كقوة دولية بقيادة الإيرانيين , وكما يبدو أنه اختار المسار الثالث , وأخذ يجهز لدولته الإسلامية في إيران ويضع لها دستوره الذي صاغ شكل هذه الدولة كما يلي :
أولا : جمهورية إيران الإسلامية هي أول محاولة تطبيقية لأسلمة الدولة النمطية المعاصرة , فقد التزام الخميني حرفيا بقدر ما استطاع بالقوالب النمطية للدولة المعاصرة , ولم يبعد كثيرا عنها ولم ينشئ كيانا شاذا عن الوحدة الأساسية للنظام الدولي , لقد جاء دستوره ليؤكد فكرة الدولة القوم ويتبني القومية الفارسية ويرسخها في كثري من مواده , رغم أن بقية القوميات الأخرى في إيران تشكل أكثر من نصف السكان بقليل , لكن دستوره يتحدث عن الشعب الإيراني , والعلم الإيراني , وعن رئاسة الدولة والسلطات الدستورية الثلاث ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ) وتنظيم العلاقات بينهما , كما جاء نظامه ليطابق كل ما في الدولة النمطية من وزارات وجيش ومؤسسات إعلامية ,وسلام وطني ,
وبنك مركزي وعملة وطنية , وتاريخ وطني ومنتخبات وطنية وغيرها , وعندما أراد أن يختار صفة يسمي بها دولته المقترحة لم يلجأ إلى التاريخ الإسلامي لينقب له عن أحد المسميات التي استخدمها المسلمون كما فعلت دولة طالبان مثلا , بل استخدم مسمي من نتاج الحضارة الغربية المعاصرة , فأطلق على دولته جمهورية إيران الإسلامية ورغم أن نظامه الذي جاء به الدستور الإيراني ليس نظاما جمهوريا وفق المفهوم السياسي المعروف والذي يعني أن الحكم بالدولة جمهوري أى أن يكون الحكم بيد أشخاص ينتخبهم الشعب وفق نظام خاص , وأن يكون للدولة رئيس يعين بالانتخاب لمدة محدودة لا بالتوارث إلا أنه استخدم المصطلح كما تستخدمه كثير من أنظمة العالم الثالث التي يحكمها العسكر .
والدستور عكس التزام الخميني بالقومية الفارسية واحترام مقتضياتها , فقد نصت المادة من الدستور على أن اللغة والكتابة الرسمية والمشتركة هي الفارسية لشعب إيران ,
كما أن المادتين ( 41 , (42 ) تتحدثان عن الجنسية الإيرانية كحق للإيرانيين والحصول عليها بالنسبة للأجانب وفق قوانين متشددة ورغم أن الدستور يتبني التاريخ الهجري مما يتوافق مع التاريخ الإسلامي العربي , لكنه تبناه على الطريقة الفارسية , وذلك وفق التقويم الشمسي الذي يتطابق مع التقويم الفارسي لذا حلت الشهور الفارسية محل الأشهر الهجرية الإسلامية التي أجمع المسلمون على استخدامها والتي ترتبط بالشعائر والمناسبات الإسلامية ارتباطا وثيقا , وحظي عيد النيروز الفارسي بأهمية في التقويم الرسمي الإيراني , كما تشترط المادة ( 115 ) لمن يريد الترشح لمنصب رئيس الجمهورية أن يكون إيراني الأصل ويحمل الجنسية الإيرانية ,
كما تنص المادة ( 145 ) على منع انتساب أى فرد أجنبي إلى الجيش وقوى الأمن الداخلي في البلاد , وهذه كلها أمور تتوافق مع متطلبات الدولة النمطية المعاصرة , ولا تنسجم مع فكرة الدولة / العقيدة التي يؤمن بها الخميني , ولا مع نمط الدولة التي تحدثت عنها نصوص الفقه الإسلامي , إذ أن أدبيات الإسلاميين تعتبر كل التقسيمات السياسية التي أنشأت دول العالم الإسلامي المعاصرة هي من صنيعة الاستعمار , وأن الانتماء القومي ليس شرطا لحكم المسلمين , وأنه لا يجوز أن يحول دون لانتساب لجيوش المسلمين والقتال معهم , ولعل تلك الملاحظات كانت حاضرة في أذهان من وضعوا الدستور الإيراني آنذاك , ولعلهم تدارسوا صعوبة إقامة دولة وفق نموذج دار الإسلام في الوضع الراهن , وأنهم اختاروا محاولة أسلمة الدولة النمطية المعاصرة لتجنب المأزق السياسي ,
وهو ما يشير إليه أحد الدبلوماسيين الإيرانيين وهو يناقش ذلك في أحد مؤلفاته كما يلي " الدستور الإيراني – كمحصلة – حافظ على الدولة الأمة الإيرانية على رغم الدعوة للوحدة الإسلامية , والدليل على ذلك كما يقول الكاتب ما ورد فيه حول قوانين الجنسي الصارمة , لهذا فإن التقاطع بين المؤسسة الدينية وصناعة دولة حديثة بالمفهوم الغربي هو ما جنب الثورة الإيرانية مأزق الإسلام السياسي , ومشيرا بذلك إلى مأزق الفكر السلفي المتمثل بحركاته المعروفة وبعدم قدرته على تأسيس دولة عصرية وتشير الممارسات إلى أن الخميني لم يكن يوما يدع عاطفته الإسلامية تتغلب على نزعته القومية ,إذ ظل مخلصا لقوميته في كل حالاته فهو رغم إتقانه للغة العربية إلا أنه كان يصر على التحدث بالفارسية مع زوراه العرب تاركا لحفيده ترجمة أقواله كما أنه ككل الفرس أصر على تسمية الخليج العربي بالفارسي , رغم أنه اقترح أن يكون اسمه الخليج الإسلامي قبل أن يتولي زمام الأمور ,
وعندما تولي السلطة ذكروه بالتسمية التي اقترحها للخروج من مأزق المفاضلة بين الخليج العربي أم الفارسي فقال لهم ليذهب العرب إلى الجحيم وتحدث على أكبر ولايتي وزير خارجية إيران الأسبق عن النزعة القومية لدى الخميني فقال :" بعد فتح خور مشهر " المحمرة" التقي الخميني برؤساء السلطات الثلاث , حيث كان فرحا جدا لفتح خور مشهر " المحمرة " وجرى الحديث حول تسمية نهر اروند ( شط العرب ) فسأله أحدهم : هل نطلق مسمي شط العرب أم أروند رود على النهر ؟ فرد الخميني قائلا : أطلقوا أروند رود ( بدلا عن شط العرب )
وأضاف ولايتي :" إن تأكيد الإمام مسمي أروند يؤكد نزعته القومية لا محالة بالرغم من كونه كان قائد العالم الإسلامي " واستطرد وزير الخارجية الإيراني الأسبق قائلا : " كان للإمام حب خاص لإيران وللوطن وكان يقول لا يوجد أفضل من شعبنا ولا حتى شعب رسول الله في صدر الإسلام " إن بروز النزعة القومية في إيران الخميني دفعت البعض ليؤكد على أن الثورة في إيران كانت إيرانية وليست إسلامية كما هو معروف عنها , فلقد كتب أحد الأكاديميين الأتراك المتخصصين بالشأن الإيراني في كتابه " إيران : تهديد أم فرصة ؟" معللا ذلك باعتقاده أن العناصر والمظاهر الوطنية القومية كانت غالبة على العناصر الإسلامية في تلك الثورة , وهو ما يجعلها حقيقة ثورة إيرانية فقط وليس إسلامية , وبالدخول إلى موقع وزارة الخارجية الإيرانية على الانترنت لن يري الباحث حديثا عن الإسلام بل يلاحظ عبارات تزخر بتصوير مكانة إيران وعظمة حضارتها ومدى تميز الإيرانيين وتفردهم عن العالم والحضارات الأخرى , بحيث تقدم الإيرانيين بشكل يرمي إلى تعظيم الذات الإيرانية والرفع من شأنها .
إن التزام الخميني بالدولة النمطية المعاصرة يعني أنه كان يدرك تمام الإدراك طبيعة النظام الدولي الراهن , ويعرف أن علاقة الدولة القوم بذلك النظام علاقة الجزء بالكل , وأن الالتزام بمقتضيات الدولة المعاصرة شرط لقبول عضوية دولته الجديدة في المجتمع العالمي وتعاون النظام الدولي الراهن معها .
ثانيا : حاول الخميني في دستوره أن يصب قدر ما يستطيع من مبادئ ومفاهيم إسلامية في قالب الدولة النمطية المعاصرة , وذلك لتأكيد أسلمة الدولة والتعويض عن تجاوزه لصورة الدولة كما هي في بطون الفقه الإسلامي , فهو وصف دولته بالجمهورية الإسلامية بالرغم أنه لم يناقش فقهيا مفهوم الجمهورية وما إذا كان يتوافق مع الفقه الجعفري أو الشريعة الإسلامية عموما , وكان يفترض أن يتضمن دستوره مادة تؤكد أن الشعب مصدر السلطات طالما أنه اختار النظام الجمهوري , لكنه لم يفعل ذلك , بل تبني مفهوما يستخدمه كثير من معارضي الديمقراطية لتبرير معارضتهم لها , وهو أن الله مصدر السلطات وليس الشعب ,
فيقول في المادة (56) " السيادة المطلقة على العالم وعلى الإنسان لله , وهو الذي منح الإنسان حق السيادة على مصيره الاجتماعي , ولا يحق لأحد سلب الإنسان هذا الحق الإلهي أو تسخيره في خدمة فرد أو فئة ما , والشعب يمارس هذا الحق الممنوح من الله بالطرق المبينة في المواد اللاحقة ,
كما جاءت المادة ( 2) لتؤكد أن أسس التي تقوم عليها الدولة هي أركان الإيمان وفق العقيدة الإثني عشرية أما المادة ( 3 ) فقد جمعت بشكل لا يقبل المزايدة – معظم الأهداف التي يتحدث عنها الإسلاميون في مختلف العالم لدولتهم المرجوة , ولكنه لكي لا يتورط بالنص الشهير الذي يقول " الشريعة الإسلامية مصدر التشريع " يلجأ إلى استخدام مصطلح " الموازين الإسلامية " كأساس لجميع القوانين والقرارات المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها كما جاء في المادة ( 4 ) وهو هنا يخلص نفسه من إشكالية تعريف الشريعة الإسلامية , ويعطي لدولته مرونة أكثر في التشريع واتخاذ القرار ضمن محاولته للالتزام بصيغة الدولة النمطية المعاصرة و ويستثني من كل ذلك فكرة ولاية الفقيه حيث يؤكد على حتمية العمل بها في المادة ( 5 )
ولكي يعوض انحياز الدستور للمفاهيم القومية في الدولة يؤكد في المادة ( 11 ) على فكرة الأمة الإسلامية حيث تنص المادة " بحكم الآية الكريمة " ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) يعتبر المسلمون أمة واحدة وعلى حكومة جمهورية إيران الإسلامية إقامة كل سياستها العامة على أساس تضامن الشعوب الإسلامية ووحدتها , وأن تواصل سعيها من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي " كما يضع المادة التقليدية التي تتصدر معظم دساتير الدول الإسلامية بذكره في المادة أن دين الدولة الإسلام , ولكنه يؤكد من جديد على أنه إسلام وفق المذهب الجعفري الإثني عشري ويعتبر هذا النص أبديا غير قابل للتغيير
وكذلك يضع مادة أخرى لاحترام اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن وذلك للتعويض عن المفاهيم القومية التي يفرضها نموذج الدولة النمطية المعاصرة فيقول في المادة (16) " بما أن لغة القرآن والعلوم والمعارف الإسلامية هي العربية وأن الأدب الفارسي ممتزج معها بشكل كامل , لذا يجب تدريس هذه اللغة بعد المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية في جميع الصفوف والاختصاصات الدراسية " ولا أدرى مدى جدية الدولة في تطبيق هذه المادة من الدستور ؟
وفي المادة (17 ) بتبني التاريخ الهجري ( القمري والشمسي ) للتقويم السنوي معتبرا الجمعة هي العطلة الأسبوعية الرسمية للدولة , ثم بعد ذلك يمضي في ذكر المؤسسات الدستورية وكيفية وشروط عملها وتنظيم العلاقات بينها مثلما تفعل كافة الدساتير المعاصرة , لكنه مثلما زج بالدستور منصب " ولي الأمر وإمام الأمة والفقيه العادل " في نظام جمهوري وجعله فوق كافة المناصب الدستورية , كذلك وضع مؤسسة دستورية – تسمي " مجمع تشخيص مصلحة النظام " لتكون فوق المؤسسات الدستورية – تسمي " مجمع تشخيص مصلحة النظام " لتكون فوق المؤسسات الدستورية الأخرى ,
وفي المادة ( 144 ) يؤكد الدستور على أن جيش الدولة عقائدي حيث يقول " يجب أن يكون جيش جمهورية إيران الإسلامية جيشا إسلاميا , وذلك بأن يكون جيشا عقائديا وشعبيا , وأن يضم أفرادا لائقين , مؤمنين بأهداف الثورة الإسلامية , ومضحين بأنفسهم من أجل تحقيقها "
كما أنه في المادة ( 175) يحدد حرية النشر والإعلام وفق المعايير الإسلامية ومصالح البلاد , ويلاحظ أن المضامين الإسلامية الواردة بدستور جمهورية إيران الإسلامية هي التي تشكل أيديولوجيا الدولة , وجاءت بشكل ينساب بيسر في قوالب الدولة النمطية المعاصرة فهي إما إنشائية عامة مثل المواد (2, 3) أو مفاهيم غير محددة مثل موازين إسلامية معايير إسلامية ,
أو نصوص مبهمة قد تحدث فوضي مثل ما جاء في المادة ( 107) والتي تنص على التالي " على قضاة المحاكم أن يمتنعوا عن تنفيذ القرارات واللوائح الحكومية المخالفة للقوانين والأحكام الإسلامية أو الخارجة عن نطاق صلاحيات السلطة التنفيذية , وبإمكان أى فرد أن يطلب من ديوان العدالة الإدارية إبطال مثل هذه القرارات واللوائح , وبذلك فإن دولة الخميني لا تختلف عن أية دولة معاصرة تتبني النموذج النمطي للدولة وتمزج بنصوص دستورها من حيث الشكل العام بعض من متطلبات أيدولوجيتها.
ثالثا : تبني الدستور الإيراني فكرتي أمير المؤمنين وأهل الحل والعقد الواردتين في نموذج دار الإسلام , حيث أن إمام الأمة ولي الأمر هو نفسه أمير المؤمنين , وأن مجمع تشخيص مصلحة النظام هو نفسه مجلس أهل الحل والعقد , مع العلم بأن حدود سلطاتهما غير واضحة لا في كتب الفقه المعاصرة ولا في تاريخ الخلافة الراشدة فسلطات الخلفاء الأربعة كانت مطلقة لا يقيدها سوى القرآن وما سنه النبي صلي الله عليه وسلم , ومدة حكمهم أبدية لا تنتهي إلا بالوفاة , وهناك خلاف بين الفقهاء حول قرار أهل الشورى ( أهل الحل العقد ) فيما إذا كان معلما أم ملزما ؟
أى هل أهل الحل والعقد هيئة استشارية أم سلطة تشريعية ؟ ولقد استفاد الخميني من تلك الفكرتين ليصوغ سلطاته على منوالهما ولكن وفق فهمه للعقيدة الإثني عشرية حول نائب الإمام الغائب , وانسجاما مع تأثره بالفكر الصوفي ومنصب الشيخ بين مريديه , حيث أسبغ صفات يندر توفرها في حاكم بهذا العصر , لقد وصفه بالفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر , الشجاع القادر على الإدارة والتدبير والذي تتوفر فيه الشروط المادة (109) والتي تنص على الشروط اللازم توفرها في القائد وصفاته هي :
- 1. الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء في مختلف أبواب الفقه .
- 2. العدالة والتقوى اللازمتان لقيادة الأمة الإسلامية .
- 3. الرؤية السياسية الصحيحة والكفاءة الاجتماعية والإدارية والتدبير والشجاعة والقدرة الكافية للقيادة , وعند تعدد من تتوفر فيهم الشروط المذكورة يفضل من كان منهم حائزا على رؤية فقهية وسياسية أقوى من غيره .
من كان منهم حائزا على رؤية فقهية وسياسية أقوى من غيره
ويبدو هنا أنه حاول تفصيل هذه الشروط لكي تنطبق على المراجع الدينية العليا للشيعة بمعني أنه فصلها لكي يبقي هذا المنصب مخصصا للمراجع العليا من بعده , إذ أنه لم يكن بحاجة لتفصيلها على نفسه حيث أن الدستور نص على اسمه صراحة كولي للأمر دون الحاجة لمطابقة سيرته الذاتية على الشروط فقد جاء في المادة (107 ) التالي بعد المرجع المعظم والقائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية سماحة آية الله العظمي الإمام الخميني ( قدس سره الشريف ) الذي اعترفت الأكثرية الساحقة للناس بمرجعيته وقيادته , توكل مهمة تعيين القائد إلى الخبراء المنتخبين من قبل الشعب " وتفصيل الشروط بهدف حصرها في المراجع يعني أنهم لن يخوضوا عمليات ترشيح وانتخاب شعبي فمنصب المرجعية أصلا لا يأتي دفعة واحدة , بل يأتي متدرجا بين الإجازة العلمية للحوزة وحلقات العلم والقدرة على الإفتاء وتوافق عليه بين مقلدين مات مرجعهم .
لقد منح الدستور كل الصلاحيات والسلطات ذات الطبيعة المصيرية لولي الأمر مضافا لها حق النقض والاعتراض على بقية القرارات , وجعل مدة شغل هذا المنصب مدى الحياة لمن يتولاه , مع ضمان حمايته من المسائلة السياسية , ولقد جاءت وظائف القائد وصلاحياته لتتضمن التالي :
1. تعيين السياسات العامة لنظام جمهورية إيران الإسلامية بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام .
2. الإشراف على حسن إجراء السياسات العامة للنظام .
3. إصدار الأمر بالاستفتاء العام .
4. القيادة العامة للقوات المسلحة .
5. إعلان الحرب والسلام والنفير العام .
6. نصب وعزل وقبول استقالة كل من :
- أ. فقهاء مجلس صيانة الدستور .
- ب. أعلي مسئول في السلطة القضائية .
- ت. رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في جمهورية إيران الإسلامية .
- ث. رئيس أركان القيادة المشتركة .
- ج. القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية .
- ح. القيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي .
7 - حل الاختلافات وتنظيم العلائق بين السلطات الثلاثة .
8- حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية من خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام .
9- إمضاء حكم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب , أما بالنسبة لصلاحية المرشحين لرئاسة الجمهورية من حيث الشروط المعينة في هذا الدستور فيهم , فيجب أن تنال قبل انتخابات موافقة مجلس صيانة الدستور , وفي الدورة الأولي تنال موافقة القيادة .
10 – عزل رئيس الجمهورية مع ملاحظة مصالح البلاد , وذلك بعد صدور حكم المحكمة العليا بتخلفه عن وظائفه القانونية , أو بعد رأي مجلس الشورى الإسلامي بعدم كفاءته السياسية على أساس من المادة التاسعة والثمانين .
11- العفو أو التخفيف من عقوبات المحكوم عليهم في إطار الموازين الإسلامية بعد اقتراح رئيس السلطة القضائية , ويستطيع القائد أن يوكل شخصا آخر أداء بعض وظائفه وصلاحياته .
وهذه الصلاحيات التي منحها الدستور لولي الأمر تفوق سلطات أمير المؤمنين في دولة الخلافة , فأمير المؤمنين يبقي مقيدا بمقتضيات أحكام القرآن وما سنه النبي صلي الله عليه وسلم , ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه , " أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لى عليكم " وهو برهان على أن الأمة رقيبة على أداء أمير المؤمنين وأنه لا سلطات بلا مسؤوليات في الإسلام , ودليل على مشروعية المسائلة والاحتجاج على مخالفات الحكام , ويؤكد ذلك قول سلمان الفارسي رضي الله عنه لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه " لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا "
إن الصلاحيات التي منحها الخميني لنفسه - ولمن يحتل منصبه من بعده – لم تتوفر لأحد سوى للأنبياء وللأئمة المعصومين في العقيدة الاثني عشرية , ولهذا يعتقد بعض المفكرين الشيعة الذين انتقدوا هذه الصلاحيات أن الخميني كان يعتقد أن منصب القائد العام للدولة أو المرشد الروحي ما هو إلا منصب نائب الإمام الغائب وليس مجرد ولاية فقيه " ويعود جذر المشكلة إلى أن الإمام الخميني لا يعتبر شرعية الفقيه في الحكم مستمدة من الأمة , وإنما هو منصوب ومجعول ومعين من قبل الإمام مسألة وله الحق أن يعمل بما يتوصل إليه في اجتهاده , وعلى الأمة أن تطيعه بلا مناقشة أو تردد , و ما يمنحه صلاحيات مطلقة أخرى , لذلك كان يعتقد أن منصبه يمنحه السلطة على كل الشيعة في العالم ,
ولهذا تعجب من موقف الشيعة بالعراق إبان الحرب العراقية الإيرانية , إذ أنه أصدر في شهر يناير 1981 فتوى شيعة العراق لم يتحركوا , مما جعله يتساءل باستغراب ويقول لبني صدر " عجيب أمر هؤلاء العراقيين ألا يوجد بالجيش العراقي شيعة ؟!" واستمر الخميني يوجه نداءات شبه أسبوعية للعراقيين مستخدما نفس اللغة التي كان يستخدمها ضد الشاه دون جدوى , ونصحه بني صدر بوقف إصدار الفتاوى للشعب العراقي طالما أن الفتاوى والبيانات السابقة التي أصدرها لم تجد استجابة من العراقيين لكن الخميني ظل يمارس دوره كقائد للشيعة بالعالم ونائب للإمام الغائب .
ومن جانب آخر , فإن التفرد بهذه الصلاحيات دون أى مسؤولية سياسية وضع غير مسبوق في النظام الدولي المعاصر , فلا الإمبراطور شاه إيران كان يملك مثل هذه الصلاحيات , ولا الرئيس صدام حسين سطر لنفسه سلطات كهذه بهذا الشكل المكشوف , وسلطات بلا مسؤولية سياسية أحرج كل المتحمسين للثورة الإيرانية والنظام الإسلامي فيها ,
وأثار سؤالا مرتبطا بالعقيدة الإمامية يقول : إذا أعطينا الفقيه الصلاحيات المطلقة والواسعة التي كانت لرسول الله صلي الله عليه وسلم وأوجبنا على الناس طاعته , وهو غير معصوم , فماذا يبقي من الفرق بينه وبين الرسول ؟ ولماذا إذن أوجبنا العصمة والنص في الإمامة وخالفنا بقية المسلمين وشجبنا اختيار الصحابة لأبي بكر مع أنه كان أفقه من الفقهاء المعاصرين ؟
رابعا : تبني دستور جمهوري إيران الإسلامية مفهوم المواطنة المعاصر, فأفراد الأمة الإيرانية مواطنون متساوون في الحقوق وبدون تفاضل كما جاء في المادة (19) التي تنص على التالي " يتمتع أفراد الشعب الإيراني – من أية قومية أو قبيلة كانوا – بالمساواة في الحقوق ولا يعتبر اللون أو العنصر أو اللغة أو ما شابه ذلك سببا للتفاضل "
وتأتي المادة ( 20) لتؤكد ذلك مرة أخرى لتقول " وهم يتمتعون بجميع الحقوق الإنسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ضمن الموازين الإسلامية "
والمواد من (28 ) إلى (35) تسرد بعضا من هذه الحقوق المتعلقة بالمهنة والتعليم والسكن والضمان الاجتماعي والحقوق القانونية ,
ثم تأتي المادة (41 ) لتؤكد حق كل إيراني بالحصول على الجنسية الإيرانية , بل أنه يتشدد في مفهوم المواطنة على حساب الفهم الإسلامي عندما يحصر في المادة ( 145) الانتساب للجيش والقتال معه فقط بالمواطن الإيراني , غير أن المستغرب في نصوص الدستور أنها جعلت المساواة كاملة بين الإيرانيين من أبناء القبائل والقوميات دون إكتراث للون أو عنصر أو لغة , ولكنها لم تشمل في ذلك أبناء الديانات والطوائف الدينية الأخرى , فهل لأن الدستور الإيراني يعتبر أولئك مواطنين من الدرجة الثانية ؟
إذ ما أن يقترب الدستور من السلطات والمناصب القيادية حتى يبدأ بالتمييز بين المواطنين وفق الدين والطائفة فتقول المادة (64 ) التي تتحدث عن تشكيل مجلس الشورى ما يلي " وينتخب الزرادشت واليهود كل على حدة نائبا واحدا وينتخب المسيحيون الآشوريون والكلدانيون معا نائبا واحدا , وينتخب المسيحيون الأرمن في الجنوب والشمال كل على حدة نائبا واحدا , نطاق الدوائر الإنتخابية وعدد النواب يحددهما القانون "
وفي المادة (91 ) التي تتحدث عن تشكيل مجلس صيانة الدستور , تعطي حق العضوية بهذا المجلس للمسلمين فحسب دون سائر الديانات ,
كما تأتي المادة (107) لتحصر منصب القائد بين المسلمين الشيعة الاثني عشرية الذين تبوأوا درجة المرجعية وهو ما يعني أن هذا المنصب لا يحق لغير الشيعي الاثني عشري , ومما يلفت النظر ويثير الاستغراب أن هذا المنصب الوحيد الذي لم يشترط فيه الدستور أن يكون شاغله إيرانيا رغم أنه أعلى منصب بالدولة
أما المادة ( 115 ) والتي تتحدث عن شروط الواجب توافرها في رئيس الجمهورية فإنها تنص على أن يكون شيعيا إماميا اثنى عشريا " مؤمنا ومعتقدا بمبادئ جمهورية إيران الإسلامية والمذهب الرسمي للبلاد " وهو ما يعني كذلك أن المواطنين الإيرانيين من المسلمين غير الاثني عشرية أو اليهود أو المسيحيين أو غيرهم ليس لهم الحق في شغل هذا المنصب ,
أما المادة ( 144 ) والتي تنص على التالي " يجب أن يكون جيش جمهورية إيران الإسلامية جيشا إسلاميا , ذلك بأن يكون جيشا عقائديا وشعبيا , وأن يضم أفرادا لائقين, مؤمنين بأهداف الثورة الإسلامية , ومضحين بأنفسهم من أجل تحقيقها " ومقتضي هذا النص أن غير المسلمين غير لائقين للانضمام للجيش , فالنص لا يريد للجيش أن يكون وطنيا ولا إيرانيا , بل يريده عقائديا يضحي بجنوده من أجل الثورة وليس من أجل الوطن ,
أما فرصة انضمام غير الشيعي الاثني عشري للسلطة القضائية فيحكمها نص مبهم كما جاء في المادة ( 163 ) إذ تقول " يحدد القانون صفات القاضي , والشروط اللازم توفرها فيه طبقا للقواعد الفقهية "
فهذه المادة تحيل الصفات والشروط الواجب توفرها في رجال القضاء إلى القواعد الفقهية , ومن الطبيعي أن يكون المقصود بالفقه هنا هو الفقه الجعفري , فما هي الشروط اللازم توفرها برجال القضاء في الفقه الجعفري ؟ خاصة وأن ولاية القاضي في الفقه الجعفري هي امتداد لولاية الإمام التي هي بدورها امتداد لولاية النبي , إذ تري العقيدة الإثني عشرية أن نصب وتعيين القضاة في زمن حضور الإمام يتم من قبله , ويسمي هذا في عرف الفقه الجعفري بالجعل الخاص والإذن الخاص والنصب الخاص لأنه يتحقق في حق شخص معين معروف بذاته , أما في زمن غيبة الإمام فيكون تعيين القاضي من جهة الإمام تعيينا غير مباشر , وذلك بذكر مواصفات معينة متى توافرت في شخص كان له حق القضاء ,
ولما كانت المادة (167) تطلب من القاضي أن يسعي لاستخراج حكم القضية من القوانين المدونة " فإن لم يجد فعليه أن يصدر حكم القضية اعتمادا على المصادر الإسلامية المعتمدة أو الفتاوى المعتبرة " فإن الدستور يكاد يجعل رجال السلك القضائي من المسلمين أو من الإثني عشرية إذ كيف يتوقع من غير المسلمين استخراج الأحكام من المصادر الإسلامية المعتمدة أو الفتاوى المعتبرة ؟
لقد حاول دستور جمهورية إيران الإسلامية أن يلتزم بمفهوم المواطنة كما تقتضي الدولة النمطية المعاصرة , إذ دشن نفسه بمجموعة مواد عامة في مطلع الدستور حافظت على مقتضيات هذا المفهوم , لكنه لم يستطع أن يحافظ على التزامه عندما دخل في تفصيلات المواد المتعلقة بمفاصل الدولة , إذ أنه اضطر للتعامل مع المفهوم الإسلامي الإثنى عشري المتعلق برعايا الدولة , وهذا التعامل أوجد في إيران مواطنين من الدرجة الأولي " إيرانيين شيعة إثنى عشرية " لهم حقوق كاملة ويتكافئون في الفرص , ومواطنين من الدرجة الثانية " إيرانيين من غير الشيعة الإثنى عشرية " ليس لهم فرص في المناصب القيادية بالدولة على الأقل , وهذا ما أكدته الممارسة , فتجربة الجمهورية الإسلامية بإيران لم تشهد وزيرا أو وكيل وزارة أو قائدا للجيش أو ضباطا من ذوى الرتب الرفيعة أو رجال قضاة أو حتى سفراء أو دبلوماسيين ذوى رتب رفيعة من الطائفة السنية الإيرانية , رغم الإحصاءات شبه الرسمية لحكومة إيران تقول أنهم يشكلون 10% دبلوماسيين ذوى رتب رفيعة من الطائفة السنية الإيرانية , رغم الإحصاءات شبه الرسمية لحكومة إيران تقول أنهم يشكلون 10% من السكان , وأن بعض مصادر السنة تؤكد أنهم يشكلون 30% وهو يوافق – كما يقولون – الإحصائية القديمة التي أجريت أثناء حكم الشاه , ومصادر مستقلة تقول أن السنة يشكلون من 15 إلى 20% من سكان إيران , ولم يسمح للسنة الإيرانيين ببناء مسجد لهم في العاصمة طهران هذا فيما يتعلق بأكبر طائفة غير شيعية , فما بالك بالأقليات الدينية الأخرى كالمسيحيين واليهود والبهائية والزرادشت .
خامسا : رغم التزام جمهورية إيران الإسلامية بمفهوم السيادة كما جاء بميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي , غير أن التزامها جاء مبهما كما هو بالمادة (154) من الدستور , حيث تقول " تعتبر جمهورية إيران الإسلامية سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله قضية مقدسة لها , وتعتبر الاستقلال والحرية وإقامة حكومة الحق والعدل حقا لجميع الناس في أرجاء العالم كافة وعليه فإن جمهورية إيران الإسلامية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم وفي الوقت نفسه لا تتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى , فالمادة تضمنت نقيضين , فهي تدعم نضال المستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة بالعالم , مما يعني أنها أعطت للنظام الإيراني حق التدخل في أية منطقة تعتبرها ساحة نضال ضد الاستكبار , وفي نفس سياق النص أكدت المادة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى ,
وهذا التناقض في هذه المادة يعكس حيرة واضعي الدستور بين الالتزام بوثيقة الأمم المتحدة وبين الواجبات الشرعية تجاه الأمة الإسلامية فالخميني لم يقدم نفسه للعالم كقائد إيراني للطائفة الشيعية , بل كان يعتبر نفسه قائدا إسلاميا في خدمة أمة الإسلام , كما يعتبره الشيعة الإثنا عشرية في العالم مرجع تقليد يلتزم مقلدوه – في كل الدول – بأقواله وأوامره وتوجيهاته مما 125يعني أنه له سلطة فعلية على مواطني بعض الدول الإسلامية ولذلك لا يقبل أن يقيده الدستور لكونه سياسيا بينما هو كفقيه يمنحه الدين الحق في مخاطبة كل المسلمين وتوجيههم
لذلك جاءت المادة ( 11) من الدستور لتحفظ له دوره الأممي حيث تقول " بحكم الآية الكريمة ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) يعتبر المسلمون أمة واحدة وعلى حكومة جمهورية إيران الإسلامية إقامة كل سياستها العامة على أساس تضامن الشعوب الإسلامية ووحدتها , وأن تواصل سعيها من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي " وتوكيدا لهذا المعني جاءت المادة (152) لتنص على أن الدفاع عن حقوق جميع المسلمين أحد الأسس التي تقوم عليها السياسة الخارجية للجمهورية , وهو ما يعتبر نقضا لوثيقة الأمم المتحدة ومخالفة لمبدأ السيادة في القانون الدولي , وبرز هذا الارتباك المتردد بين احترام النظام الدولي والعمل بمقتضيات الدعوة والجهاد في أقوال الخميني وممارساته ,فعندما ينفرد بأنصاره وأتباعه ومؤيديه وأجهزته الرسمية يتحدث عن حملة لتصدير الثورة إلى العالم الإسلامي ,
ففي بيانه بمناسبة بدء السنة الإيرانية الجديدة عام 1980 قال " علينا أن نسعى لتصدير ثورتنا إلى العالم , وأن نتخلي عن فكرة الامتناع عن تصدير الثورة , لأن الإسلام لا يميز بين مواطن المسلمين , ويرى الخميني أن تصدير الثورة عملية مرتبطة بظهور المهدي , فهي تهيئة الأجواء لمقدمة " .... وأن تعملوا على إعداد الأرضية لظهور منقذ البشرية وخاتم الأوصياء ومفخرة الأولياء حضرة بقية الله – روحي فداه – وذلك من خلال تجليكم بالاستعداد الدائم للتضحية وتصدير الثورة وإبلاغ نداء دماء الشهداء , ويوجه أنصاره نحو دول الجوار في الخليج العربي قائلا " بيد أن الأنظمة الحاكمة في دول الخليج الفارسي ( يقصد العربي ) وغيرها تجهد أن لا يخطو الإسلام خطوة واحدة خارج إيران , ولكنه واصل وسيواصل تقدمه رغم أنفهم "
أما عندما يواجه ممثلين للمجتمع الدولي ونظامه , كسفراء الدول والمبعوثين , فإنه يقدم تفسير مخففا ومسالما لمفهوم تصدير الثورة حيث يقول ": إننا عندما نتحدث عن تصدير ثورتنا نتطلع إلى أن تكون حكومات العالم الإسلامي وجميع البلدان التي يعاني فيها المستضعفون من المستكبرين , حكومات عادلة تعمل لخدمة الشعب , والشعب أيضا لا يكن عداء لحكومته , أننا نتطلع إلى إيجاد مصالحة بين الشعوب وحكوماتها , عندما شرعت حكومة الخميني بحملتها لتصدير الثورة بدأت بمحاولة كسب الأنصار والمؤيدين حيث يتواجد المسلمون في كافة بقاع الأرض , واستغلت بجدارة التعاطف الجياش في العالم الإسلامي مع أول ثورة شعبية ناجحة باسم الإسلام , واستخدمت سفاراتها بكفاءة عالية ودعمتها بميزانيات مالية سخية , ونظمت سلسلة حاشدة من الندوات والمؤتمرات واللقاءات لدعوة كافة الفئات من ناشطين وسياسيين وكتاب وإعلاميين ومفكرين وأكاديمين ورجال دين ودعاة ووعاظ حتى كادت طهران أن تصبح قبلة المصلحين والثوار في مطلع الثمانينات , وقدمت الدعم المال لكثير من المراكز الإسلامية والمساجد بالغرب , ثم بدأت بإيفاد بعثات دينية تعليمية لنشر العقيدة الإثني عشرية في المجتمعات الإسلامية المهمشة والمهملة بأفريقيا وآسيا , وأحتضنت كافة التنظيمات الشيعية السياسية التي تتصارع مع أنظمة دول الجوار ,
غير أن هذا الجهد كله واجه تعثرا كبيرا , فبعض الدول صارت تشكو من تبشير إيران بالمذهب الشيعي في بلدان لا تعرف العقيدة الإثني عشرية ولم تسمع بها , والأغلبية السنية الكاسحة في العالم اصطدمت بمضمون العقيدة الاثني عشرية التي تتهم التاريخ الإسلامي برمته , بل تتحاشي إضفاء الاحترام على صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم ممن اختلفوا مع على رضي الله عنه , أما التنظيمات الشيعية العربية اللاجئة إلى إيران فكانت تشكو من النزعة الفارسية في التعامل مع العرب , وكانت صدمتها تكمن في أن نظرتها لإيران الخميني بمثابة دار هجرة للمسلمين الشيعة على الأقل , غير أنها لم تكن أكثر من بلد مجاور يأوى لاجئين سياسيين هاربين من نظام معاد , لقد استخدمهم النظام الإيراني خلال الحرب مع العراق , وأعتبرهم عبئا يجب التخلص منه بعد الحرب , إذ قام مجلس الشورى الإيراني بإلزام الحكومة بالتخلص منهم في مدة أقصاها ربيع 2001م .
سادسا : يحتل البرنامج الأخلاقي مرتبة الأولوية عند الجماعات الإسلامية بالعالم حتى وهي منغمسة بالعمل السياسي , ومن المفروض نظريا , عندما تؤول السلطة إليها , تسعى بكل إمكاناتها لتكوين مجتمع فاضل ملتزم بمكارم الأخلاق , ولذا جاء دستور جمهورية إيران الإسلامية مؤكدا على هذا المعني من خلال المادة (3) التي تؤكد على خلق المناخ الملائم لتنمية مكارم الأخلاق على أساس الإيمان والتقوى , ومكافحة كل مظاهر الفساد والضياع والمادة (8) التي تعتبر الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية جماعية ومتبادلة بين الناس فيتحملها الناس بالنسبة لبعضهم بعضا , وتتحملها الحكومة بالنسبة للناس , والناس بالنسبة للحكومة
والمادة (10) التي ترى أن الأسرة هي الوحدة الأساسية في المجتمع الإسلامي , فيجب أن يكون هدف جميع القوانين والقرارات والبرامج المرتبطة بالأسرة تيسير بناء الأسرة والحفاظ على قدسيتها وتمتين العلائق العائلية على أساس الحقوق والأخلاق الإسلامية , غير أن تجربة أى زائر للمدن الكبرى في إيران لا تمنحه قناعة بأن الشارع الإيراني يتجاوب مع نداءات الوعظ الدينية المتعلقة بالالتزام بالمظهر الديني كما يريده الوعاظ . حيث أن الدراسات تشير لما هو أخطر من المظهر , فطبقا لتقرير المخدرات العالمي لعام 2005 – الذي أصدرته الأمم المتحدة عن مدمني الأفيون في العالم – تحتل إيران أعلي نسبة من المدمنين في العالم , إذ يشير التقرير إلى أن 2,8 % من السكان الذين تزيد أعمارهم عن 15 سنة مدمنون على نوع من المخدرات , وإذا صح ما أفصحت به بعض الإدارات الحكومية عن عدد المدمنين الذي يصل إلى 4 ملايين شخص , فإن ذلك يضع إيران على قمة عدد السكان المدمينين في العالم على المواد المخدرة بما في ذلك الهيروين , ويعتبر الكثيرون في إيران أن الفراغ والملل من وقع الحياة اليومية سبب رئيسي للإدمان ,
وعلى الرغم من تخفيف حدة القيود المفروضة خلال السنوات الثلاث الأخيرة , إلا أن مدينة مثل طهران – التي يبلغ تعداد سكانها 10 ملايين نسمة – يخيم على شوارعها صمت القبور خلال عطلة نهاية الأسبوع , ويعلق مدير مركز بيرسيبوليس لعلاج مدمني المخدرات " أن المثير للارتباك والتناقض في إيران أن الأشياء تبدو في ظاهرها ذات سمة دينية صرفة فيما تستهوى كثيرين أشياء مثل قناة " ام تي في " التلفزيونية للموسيقي والثقافة الغربية " ويأتي – بعد الإدمان – تعاظم مشكلة الطلاق في إيران كظاهرة للأزمة الاجتماعية التي يعانيها المجتمع الإيراني في ظل حكومة إسلامية , إذ تفيد الإحصاءات الرسمية – لإدارة الأحوال المدنية التابعة لوزارة الداخلية الإيرانية – أن محافظة طهران هي الأعلى فيما يخص معدلات الطلاق , إذ تبلغ نسبة حالات الطلاق إلى إجمال حالات الزواج فيها 17,18 % ثم تأتي محافظة قم في المرتبة الثانية – على الرغم من انخفاض الكثافة السكانية فيها – وذلك بنسبة 12,8% ثم محافظة كردستان التي تبلغ نسبة الطلاق فيها 10,6% إلى إجمال حالات الزواج ,
وتعكس تقارير الطلاق أزمة مجتمعية مركبة تتمثل في الإنهيار لعدد كبير من الأسر , وفي التداعيات الخطيرة لمثل هذا الانهيار التي تنعكس على أبناء هذه الأسر , وعلى نساء فقدن عائلهن ( الزوج ) وعلى عدد كبير من العائلات التي صارت إحدى بناتها مطلقة مع ك ما يعنيه هذا الوضع في مجتمع شرقي مسلم مثل المجتمع الإيراني , وستكون عاملا أساسيا لحدوث زيادة قوية في أعداد أطفال الشوارع التي بدأت تسود المدن الإيرانية , وأعداد الأطفال المقبلين على احتمالات تعرضهم للإدمان , وأعداد الأطفال الذين يمكن أن يتسربوا من التعليم نتيجة فقدان العائلة وزيادة أعداد الأطفال الذين يدخلوا في سوق العمل الحرفي واليدوي دون أن يكونوا قد بلغوا بعد السن الصحيحة لمثل هذا التصور الحياتي وتعاظم أزمة الطلاق في المجتمع الإيراني يطرح عددا من الأسئلة على اعتبار أن نظام الدولة ذو طابع إسلامي , مما يخلق تصورا مثاليا في ذهنية وعقلية أى متتبع لهذا النظام ,
وفي دراسة نشرت نتائجها عام 2007 استطلعت آراء ألف شخص من المسئولين والمدراء وأصحاب الخبرة لتحديد مكان 28 مشكلة اجتماعية في سلم ترتيبي من حيث الأكثر إلى الأقل أهمية, فجاء الإدمان على رأس هذه المشكلات وفق ما قاله (81%) من العينة (56,6%) قالوا البطالة , كأهم مشكلتين يواجههما المجتمع الإيراني , وجاءت مشكلتا الترمل (4.1% ) والتشرد (4%) في قاع السلم , ويضاف إلى المشكلات السابقة مشكلة الدعارة , وهي مشكلة تشير الدراسات إلى ارتفاعها المستمر , حيث تأتي الأرقام بشأنها متناقضة بصورة تستوقف الباحثين فالعدد يتفاوت من ثلاثة آلاف إلى ثلاثين ألف امرأة ,
وفي بحث أجرى في مدينة طهران كشف رئيس قسم علم النفس في جامعة تربيت مدرس كاظم رسول زاده طباطباي أن الدعارة وبعد أن كانت منتشرة بين الفئة العزباء أصبحت منتشرة بين المتزوجات , كما أن سن البدء بالدعارة انخفض ليصل إلى 15 عاما , في حين كان السن في العقدين الثامن والتاسع من القرن العشرين 30 عاما فما فوق , وكشفت الدراسة أيضا أن أسباب الدعارة كانت في السابق لسد احتياجات أساسية للمرأة في حين أصبحت اليوم لسد احتياجات ثانوية , وتذهب دراسات أخرى إلى أبعد من ذلك وتقول إن السن انخفض إلى ( 8 -10 سنوات ) وهو ما أثار ردود فعل غاضبة في مجلس الشورى الإسلامي ,
وتأتي ظاهرة الفقر بالمجتمع الإيراني كمصدر رئيسي للأمراض الاجتماعية الأخرى , بدرجة يصفها أحد علماء الاقتصاد والاجتماع الإيرانيين " تسونامي الفقر " الذي يهدد الجمهورية الإسلامية , وتتضارب الأرقام ما بين 10 ملايين فقير إلى 15 مليون فقير , ويصطف مع هذه الظاهرة مشكلة " سكان العشوائيات والحواشي " في إيران كأحد مأسي الفقر في المجتمع , وتتفاوت التقديرات لأولئك السكان ما بين 5 ملايين نسمة إلى 20 مليون نسمة , وهذا ما يثير تساؤلا عن مصروفات تلك الدولة النفطية الثرية التي تتمتع بمصادر طبيعية متنوعة مثل إيران , وعن مفاهيم التكافل الاجتماعي القرآنية وأثرها في سياسات الدولة والمجتمع الإيراني , وعن أموال البر – مثل الزكوات والصدقات والخمس - التي تتجمع سنويا بالملايين من إيران والعراق وباكستان ودول الخليج الغنية عند المراجع الدينية , والتي هي موجهة أصلا لمثل هذه الفئات ,
إن وجود نسبة عالية للفقر في دولة إسلامية غنية ووجود عشوائيات متزايدة تعني غياب التنمية المتوازنة للمجتمع , فإذا كان الفقر يهدد الكيان المجتمعي في إيران , فإن العشوائيات تشكل عبئا على سكان المدن بسبب ارتفاع نسبة الجريمة بين هذه الفئة , وتشير دراسة أجريت على هذه الفئة في المناطق القريبة من مدينة كرج غرب طهران إلى أن 59% منهم هم من مرتكبي الجرائم , ورغم الإقرار الرسمي بوجود هذه المشكلات الاجتماعية الخطيرة إلا أنه لا يوجد مركز علمي واحد على صعيد الحكومة أو الجامعات أو المجتمع المدني تكون وظيفته توثيق الإحصاءات والأرقام المتعلقة بهذه الأمراض والمشكلات الاجتماعية وهو ما يفسر الاختلاف في وجهات نظر الباحثين بشأن هذه القضايا , وغياب بنك معلومات وطني للمعضلات الاجتماعية يبقي الإحصاءات الخاصة بشأنها مسألة محرمة يتم تبادلها في الرسائل السرية للمسؤولين و يحرم منها الباحثون ,
ويعلل البعض تفاقم المعضلات الاجتماعية بفشل السياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي حكمت الجمهورية الإسلامية لأكثر من ثلاثة عقود , حيث تواجه بالتعتيم والإنكار مما دفع علماء الاجتماع الإيرانيين إلى تسجيل اعتراضات عديدة حول التضييق على البحث العلمي وخاصة فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية وتحاول الحكومة الإيرانية معالجة تلك المعضلات من خلال تركيزها على محورية الدين في المناهج وأساليب التعليم للسنوات المقبلة , كما لجأت إلى الأسلوب السعودي في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر من خلال تعزيز قوات التعبئة الشعبية " بسيج الفعال والخاص " و" بسيج مجتمع النساء " – والتي يصل عددها إلى مليون ونصف نسمة بموجب قانون أقر نهاية 2011 م في مجلس الشورى ,
وذلك ضمن برنامج التنمية الخامس الذي حدد مجموعة أهداف أهمها : " تقوية ودعم المستضعفين كما ونوعا " وتسجيل حضور أكبر لدور " القوى الشعبية في الأمن الاجتماعي " ونشر " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " أما " بسيج مجتمع النساء " فسيكون مكلفا بالتصدي للمشكلات الاجتماعية , ونشر " ثقافة العفاف والحجاب " وتحكيم بنيان العائلة , غير أن أزمة إيران تتفرد بما يسمي ب " ضعف القواعد الأخلاقية في العلاقات الاجتماعية " والتي تضعها دراسات عديدة على رأس الأمراض الاجتماعية في إيران , وهي تتمثل في خيبة الأمل في الدين ورجاله – الذين يحكمون إيران – بالصدق مع الناس , ويرى د. حميد رضا جلابي بور أنها منتشرة على مختلف المستويات , ومتمثلة في " السلوك غير الأخلاقي للحكومة " بتعاملها مع المجتمع ( مثل الكذب في الإحصاءات والأرقام ) والمتمثلة كذلك في " السلوك غير الأخلاقي للمجتمع " بتعامله مع الحكومة ( التهرب من دفع الضرائب والمستحقات المالية ) وعلى الصعيد ذاته يسجل جلابي بور " ضعف رعاية القيم الأخلاقية بين أعضاء المجتمع , العائلة والأصدقاء , وزملاء العمل وأبناء الوطن "
سابعا : حاولت الجمهورية الإسلامية أن تبني اقتصادا مستقلا – وفق المبادئ والمفاهيم الإسلامية – يتحاشي معضلات الرأسمالية , وجاء في البند العاشر من المادة (3) من الدستور ما يلي " بناء اقتصاد سليم وعادل وفق القواعد الإسلامية من أجل توفير الرفاهية والقضاء على الفقر, وإزالة كل أنواع الحرمان في مجالات التغذية والمسكن والعمل والصحة , وجعل التأمين يشمل جميع الأفراد " وتؤكد المادة (43) هدف الاستقلال الاقتصادي حيث تذكر .
" من أجل ضمان الاستقلال الاقتصادي للمجتمع , واجتثاث جذور الفقر والحرمان , وسد ما يحتاج إليه الإنسان في سبيل الرقي مع المحافظة على كرامته , يقوم اقتصاد جمهورية إيران الإسلامية على أساس القواعد التالية ...."
ولقد ظن الإسلاميون الإيرانيون أنهم إذا صنعوا اقتصادا يضع إيران في مستوى الاكتفاء الاقتصادي فإن اقتصادها سيكون مستقلا , أى أن تتوصل إلى مرحلة لا تضطر فيها إلى مد يد الحاجة للدول الغنية للحصول على مساعدات مالية أو عينية كالسلاح والطائرات وغيرها , ويمنحها القدرة على الصمود من خلال الإنتاج المحلي , لأن الخلل في ذلك يقود الدولة إلى قفص التبعية للخارج , ويدفعها ذلك إلى تقديم تنازلات سياسية وأمنية لها عواقب وخيمة ,
مما يهدد وجود الكيان القومي ككيان سياسي مستقل قابل للنمو , غير أن صناعة اقتصاد مستقل في وضع دولي متشابك عملية معقدة , فعندما شرع الإسلاميون الإيرانيون بذلك وضعوا كتاب " اقتصادنا " لأية الله محمد باقر الصدر - ذي النزعة الاشتراكية – مرشدا لهم في بناء اقتصاد ما بعد الثورة , وهو ما شجعهم على تأميم كثير من القطاعات الحيوية مثل القطاع المالي والصناعي والسلع الاستهلاكية , وساهم في بناء قطاع عام ضخم ومهيمن على الاقتصاد الإيراني , بالإضافة إلى الهيئات الخيرية الإسلامية التي تعمل بالسوق وتحظى بدعم الدولة ,
ورغم أن الاقتصاد الإيراني يعتمد بدرجة كبيرة على الإنتاج من النفط والغاز , إلا أنهم استطاعوا بنجاح أن يطوروا قطاعاته الصناعية والزراعية فعلي مستوى الصناعة تمكنوا من توفيرها ما يزيد عن أربعين صناعة متداولة بسوق الأوراق المالية , منها تصنيع سيارات " سماند " بالاتحاد مع شركة " بيجو " الفرنسية , ومنها قيام وزارة الصناعة بتأسيس شركة أخرى أسمها " سببتان " بالاتحاد مع شركات " مرسيدس " بيجو , نيسان " لتصنع ( لونج رينو ) C4 وتجمع ( ميجان ) ومنها صناعة السلاح التي صارت تبيع منتجاتها على أكثر من 40 دولة بعضها دول في حلف ( الناتو )
كما استفادوا من انهيار الاتحاد السوفييتي لتوطين صناعة الصواريخ البالستية و T72, وامتلاك تكنولوجيا الأقمار الصناعية والصواريخ الحاملة لها بالإضافة إلى امتلاك إيران لصواريخ شهاب , 1, 2, 3 , 4, 5 وهناك توجه للتطوير شهاب 6 وصواريخ أخرى مثل " زلزال " و" الفاتح " فضلا عن امتلاكها للأسلحة الكيماوية والبيولوجية , وتصنيع الغواصات , كما طوروا الطاقة الشمسية والطاقة النووية للإنتاج الكهربائي , كما تم تطوير جزيرة " كيش " كمنطقة حرة " واحتلت إيران – بذلك – المرتبة 40 في الإنتاج العلمي والأول في العالم بالنمو العلمي لعام 2011 , وتحظي بالمرتبة 19 بالبحوث الطبية على مستوى العالم , ويتوقع لها التقدم بالمرتبة العاشرة من عام 1012 م ,
كما تحظي بالمرتبة 25 على مستوى العالم في تطوير النانو تكنولوجي , ووفق تقديرات مجلة الأيكونومست البريطانية , فإنها تحتل مرتبة 39 بين الدول الآخذة بالتصنيع , حيث بلغ إنتاجها الصناعي عام 2008 ما يقارب 23 بليون دولار , وما بين عامي 2008 , 2009 قفزت إيران من المرتبة 69 إلى المرتبة 28 في نمو الإنتاج الصناعي السنوي , أما على المستوى الزراعي , فإن إيران تولي زراعة المواد الغذائية الأساسية وذات الطابع الاستراتيجي أولية في خططها لكي تطعم نفسها ذاتيا دون الحاجة للآخرين , ويؤكد ذلك مؤشر الاكتفاء الغذائي الذي يشير إلى أن إيران توفر 96% من احتياجاتها الغذائية , فهي تعتبر في مرتبة 12 لمنتجي القمح في العالم حسب تقديرات منظمة الغذاء الدولية , حيث تنتج 14 مليون طن ,
وفي غير مواسم الجفاف تتحول إلى دولة مصدرة للقمح , أما على مستوى إنتاج الرز فهي تغطي 2, 2 مليون طن سنويا من استهلاكها البالغ 3 مليون طن سنويا , بينما تواجه صعوبات في زراعة السكر نتيجة الأسعار التنافسية في السوق العالمي وارتفاع تكلفة زراعته في إيران , كما تنتج من المحاصيل البستانية ما يقارب 19 مليون طن , وتصدر إلى 39 دولة حولي 35 طن من الفواكه ولقد صنفت منظمة الأمم المتحدة إيران كدولة شبه صناعية SEMI- DEVELOPED COUNTRY, وحسب تقديرات مجموعة جولدن ساش فإن إيران ستصبح من أكبر الاقتصاديات في القرن الحادي والعشرين غير أن هذه الإنجازات المتميزة جاءت محصنة نتيجة الحماية التي يوفرها الإنتاج النفطي للاقتصاد الإيراني , وهو ما جعل هذا الاقتصاد خاضعا لتقلبات أسعار النفط وردود فعل السوق ,
لكنه في نفس الوقت جعل اقتصاد جمهورية إيران الإسلامية ترسا من تروس الرأسمالية تتحكم فيه اقتصاديات الدول الكبرى , وهو ما كشفته سلسلة القرارات الاقتصادية التي فرضها المجتمع الدولي ضد إيراني بسبب برنامجها النووي , إذ تبين أن تلك الإنجازات عرضة للضعف والتهاوي بسبب فعل خارجي ولقد انعكس ذلك على العمل الوطنية " الريال " الإيراني الذي ظل أسير النظام المصرفي العالمي , يستمد قوته الشرائية من ما يملكه من عملات أجنبية وذهب في البنك المركزي الإيراني , أى أن الدولة الإسلامية في إيران تخضع كليا في عملتها المتداولة ( الريال ) لعملات دول الاستكبار والاستعمار , لقد عجزت الدولة عن الحفاظ على قيمته بالأسواق رغم إمكاناتها الهائلة فهي دولة نفطية لديها من الاحتياطي النفطي المؤكد ما يقارب 150 بليون برميل , أى ما يعادل 15000 بليون دولار تحت ترابها , وتملك احتياطي نقدي أجنبي ما يقارب 109700 مليون دولار , واحتياطي من الذهب ما يساوى 320طنا من الذهب , إلا أن عملتها أخذت بالتدهور منذ قيام النظام الجمهوري الإسلامي فبعد أن كان الدولار الأمريكي يعادل ما يزيد عن 70ريال إيراني في عام 1980 م أصبح اليوم يعادل ما يزيد عن 12000 ريال إيراني ,
ومن جانب آخر ازداد معدل البطالة بين الإيرانيين إلى ما يقارب 15 . 3% حسب التقديرات الرسمية لعام 2011 , أى تطال ما يزيد عن 11 مليون نسمة نصفهم من فئات الشباب , علما أن أدني نسبة للبطالة في إيران خلال العقدين الماضيين تزيد قليلا عن 9% وأن متوسط معدل البطالة خلال العقدين الماضيين يصل 12,6% ووصل معدل التضخم ( أسعار المستهلك ) إلى 22,5% حسب التقديرات الرسمية لعام 2011 , وهو ما يقارب ضعف المعدل في عام 2010 , غير أن متوسط معدلات التضخم خلال العقدين الماضين يقارب 20% وعلى مستوى صناعة السيارات التي كانت تفتخر بها إيران على اعتبار أنها المنتج الأول للسيارات بالشرق الأوسط , تراجع الإنتاج إلى ما يفوق 36% بعد قرارات المقاطعة الدولية – بسبب نقص الأموال لدى الشركات ,
ويتزامن هذا الانهيار في الإنتاج مع توقف شركة بيجو الفرنسية عن إرسال قطع غيار إلى إيران بسبب العقوبات الغربية المفروضة على هذا البلد , وشركة بيجو هي شريك لـ " إيران خودرو " أبرز شركة إيرانية لإنتاج السيارات هذه الأرقام دفعت قائد الدولة الإيرانية " خامنئي " للتذمر حول مدى تأثير الأزمات الداخلية والخارجية – خاصة التضخم المالي والتدهور الاقتصادي – على مصير النظام , إذ لم تعد أصوات الشعب تعلو – هذه المرة – للمطالبة بنيل الحرية والعدالة والديمقراطية , بل صارت تعلو للحاجات الأساسية للإنسان صارت تعلو لمجرد تأمين الوجبات الغذائية , لقد اكتشف الإسلاميون في إيران أن السياسات الاقتصادية التي كانت تهدف لاستقلال إيران الاقتصادي لم تفلح في حماية كافة الانجازات , فالاحتياطات التي اتخذوها لحماية جمهوريتهم ما زالت هشة , فالتشابك المفصلي بين الدولة النمطية المعاصرة والنظام الدولي شديد التعقيد مما يصعب فيه تفادي العقوبات التي يقررها .
وإذا كانت التبعية الاقتصادية لها مبرراتها القسرية التي قادت لتبعية إيران الإسلامية للغرب , فإن مبررات تبعية إيران للنظام المعرفي الغربي ليس له ما يبرره إذ لم تبذل جمهورية إيران الإسلامية جهدا ملحوظا لتغيير النظام المعرفي المعاصر من أجل أسلمة المعرفة واكتفت – كبقية الدول الإسلامية – بتقديم مزيد من الثقافة الإسلامية كخط مواز للمعرفة العصرية , لكنها بذلت جهدا أكبر في أسلمة التعليم للحفاظ على القيم والموازين الإسلامية , خاصة وأنها ورثت نظاما تعليميا غريبا لقد كان أبرز إنجاز في هذا الصدد هو إصدار الخميني لمرسوم عام 1980 م بتشكيل مجلس للثورة الثقافية غرضه ( تمحيص جميع البرامج والمشكلات التعليمية , وصياغة استراتيجيات وسياسات تعليمية على أسس ثقافية إسلامية , وإعداد مناهج علمية في جميع جوانب الدراسة تعتمد على متطلبات واحتياجات المجتمع وتدريب واختيار هيئة التدريس المؤهلة والملتزمة بقضية الثورة )
ولنقل هذه الأفكار من حيز النظرية إلى أرض الواقع اختار الخميني هيئة من خبراء التعليم الإسلامي للإشراف على تجسيد الخطة التي حدد معالمها في المرسوم المذكور , وقد قامت هذه الهيئة – التي أطلق عليها اسم " المجلس الأعلي للثورة الثقافية " – على الفور بإجراء إصلاحات هائلة , ولقد ركز مشروع أسلمة التعليم على ترسيخ مبادئ وتعاليم الإسلام في إطار المذهب الشيعي الإثني عشري , ووضع الأشكال والأنماط التي تسير الحياة السياسية وفقا لمبدأ إطلاقية السلطة لله على العباد بحيث يتولي السلطة الشخص الأقرب للتعاليم الإلهية ( الولي الفقيه ) ومقاومة جميع أشكال الظلم والاضطهاد والدفاع عن المستضعفين في الأرض أفرادا أو شعوبا , والتركيز على مبدأ الاكتفاء الذاتي وغرس الإيمان به في القوى البشرية العاملة وزرع قيم ومبادئ تخدم الخطط التنموية الاقتصادية مثل الوسطية في الاستهلاك وعدم الإسراف في الإنفاق , وتشجيع الادخار , والعناية باللغتين الفارسية والعربية لتثبيت الروابط التراثية للشخصية الإيرانية , ولتحقيق فهم أعمق للقرآن والمبادئ الإسلامية , وإعلاء قيمة الأسرة والعلاقات الاجتماعية المستندة على المعايير الإسلامية , وترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية وتحقيق تكافؤ الفرص بين المواطنين .
لقد ظن الإسلاميون في إيران أنهم بذلك فعلوا شيئا فارقا في التعليم والتربية لصالح الإسلام , غير أن ما فعلوه لا يتجاوز زيادة في جرعة نظام معرفي قديم للإسلام ينوء بثقل التراث , بينما ظل النظام المعرفي الغربي يواصل مسيرته في إكساب الإيرانيين المعارف والعلوم الحديثة على أساس المادية ونظرية التطور وتمركز الغرب حول ذاته , وهذه عبارة عن ثنائية معرفية تسير عليها معظم الدول الإسلامية في أنظمتها التعليمية , وتمثل التزاما كاملا بالنظام المعرفي الغربي المعاصر , ولكنها تتفاوت بالقدر الذي تضخه من النظام المعرفي القديم لدار الإسلام في التعليم الرسمي أو التعليم الموازي , وأن كل الجهد الذي بذلته جمهورية إيران الإسلامية هو ضخ أكبر كمية من النظام المعرفي القديم الخاص بدار الإسلام .
تقييم مشروع أسلمة دولة إيران
لقد كان أسلمة دولة معاصرة مشروعا نظريا يتحدث عنه الإسلاميون السياسيون في أدبياتهم دون ذكر المنهجية أو الكيفية التي سيتم فيها تنفيذ هذا المشروع على أرض الواقع , وأول محاولة لتنفيذ هذا المشروع جاءت على يد رجل دين يقضي معظم وقته في حوزته العلمية ويلتقي بأقرانه أو مقلديه أو أنصاره , معرفته بالسياسة الدولية محدودة وخبرته بصناعة الأنظمة السياسية وإدارة الدولة قليلة لذلك جاءت محاولته مليئة بالمآخذ , غير أن كل ذلك لا يقلل من أهمية تلك المحاولة ولا من ريادة صاحبها , فيكفي الإمام الخميني أن يكون له – على مستوى التاريخ – شرف السبق والمحاول بغض النظر عن كل ما يذكر عنه من سلبيات أو إيجابيات , نريد من الملاحظات – التي نوردها هنا في تقييم تجربته – الفائدة للمسلمين , وبالأخص العاملين منهم في المجال السياسي .
- الملاحظة الأولي : إن مشروع أسلمة الدولة المعاصرة هو محاولة لدمج فكرتين متناقضتين في تكوين الدولة , أحدهما تقوم على أساس العقائد والديانات الأخرى تقوم على أساس الرقعة الجغرافية والقوميات , وأثبتت التجربة أن أى دمج لهما سوف يؤدي إلى التخلي عن بعض مقتضيات أحد الأساسين , وهو ما تكشفه بوضوح محاولة الخميني في جمهوريته في إيران فلقد كان مرتبكا ما بين مقتضيات الإسلام وبين مقتضيات القومية الفارسية كما كان مترددا ما بين الالتزام بمقتضيات عضويته بالأمم المتحدة واحترامه للقانون الدولي وبين مقتضيات النصرة للمسلمين في الدول الأخرى , وكان كذلك حائرا أمام مقتضيات العزة والاستعلاء الإيماني ( النزعة الاستقلالية ) وبين تبعيته الاقتصادية والمعرفية والمعيشية للغرب ودول الاستكبار , وكل ذلك يعود لتناقض الفكرتين اللتين تشكلان عقدة أمام أية محاولة لأسلمة الدولة النمطية المعاصرة .
- الملاحظة الثانية : إن مادة الإسلام التي وضعت في دستور جمهورية إيران الإسلامية جاء معظمها لخدمة تركيز السلطة بيد القائد , فلقد استخدمت فكرة أمير المؤمنين السنية أو فكرة نائب الإمام الغائب أو الفقيه الولي الشيعية لتكرس النظام الدكتاتوري باسم الإسلام , فتلكا الفكرتان تنصبّان شخصا آمرا تجتمع بيده كل السلطات والصلاحيات ويمتد منصبه إلى مدى حياته كلها , وتجعل من هذا التكريس شأنا فقهيا غير قابل للجدال لأنه – كما يزعمون – من عند الله , غير أنها عكست الاختلاف بين فكرتي إمارة المؤمنين والنيابة عن الإمام الغائب وذلك بأن جعلت قائد الدولة فوق المسائلة الشعبية , إذ أن نائب الإمام معين من الإمام الغائب وليس من الشعب , ولذا فهو مسؤول أمام الإمام نفسه وليس أمام الشعب , كما استخدمت فكرة أهل الحل والعقد المعينين لتهميش فكرة التمثيل الشعبي بالنظام الديمقراطي واعتبرت أن تفعيل مبدأ الشورى القرآني هو بتشكيل مجلس الحل والعقد من المعينين ( مجمع تشخيص مصلحة النظام ) ووضعت هذا المجلس رقيبا على مجلس ممثلي الشعب المنتخبين المسمى مجلس الشورى .
- الملاحظة الثالثة : إن مشروع الأسلمة أخذ منحي طائفيا في دستور جمهورية إيران الإسلامية بإلزام الدولة بعقيدة الطائفة الشيعية الإثني عشرية ومذهبها الجعفري , ولذا تحول إلى مشروع تشييع بدلا من أسلمة , وانحاز إلى الطائفة في مقابل الأمة , مما خلق صعوبات بالغة أمام القيادة الإيرانية في قيادة العالم الإسلامي ومخاطبته , ورغم أن الخميني بذل سعيا كبيرا لكسر الحواجز ما بين الطائفة الشيعية وبقية الأمة السنبلة وتصدى لقضية فلسطين بشكل أحرج القيادات السياسية السنية في العالم الإسلامي , إلا أن ذلك كله لم يمكنه من قيادة الجماهير الإسلامية بالعالم , لكنه في المقابل , كان هذا الانحياز سببا أساسيا ليصبح قائدا متوجا للطائفة الشيعية وبدون منازع ,
وفي ظل وجود مرجعيات أكثر علما منه مثل السيدين الصدر والخوئي , بل أحدث مجموعة تطورات غير مسبوقة داخل الطائفة , فقد وحد صفوف الشيعة بعد أن كانوا عرضة للتشتت بين ثلاثة تيارات إثنى عشرية ( الأصولية والإخبارية والشيخية ) إذ تضاءلت أعداد الإخبارية والشيخية لصالح الأصولية مذهب الغالبية الاثني عشرية , وأدت قيادته إلى تطور في تكوين الشخصية الشيعية المعاصرة تطور يقوم على نسق سيكولوجي قوامه الثقة بالنفس والمبادرة والإقدام في مواجهة السيكولوجية التاريخية القائمة على التقية والانكفاء , وهذه السيكولوجية دفعتهم لحمل المذهب الشيعي والدعوة له داخل مجتمعات السنة الواسعة ودفعت كثيرا من الأحلام المدفونة تحت هواجس التقية لتبرز إلى العلن وتحدث صدمات مدوية في الأمة الإسلامية .
- الملاحظة الرابعة : إن قسر الناس على مشروع تجريبي – مثل أسلمة الدولة دون معرفة تبعاته ومآلا ته ومطالبتهم بالتضحية والصبر لهو ظلم مركب , ظلم لأنه قسر , وظلم لأنه مجهول , ومحاولة وضع المطالبات بالتضحية والصبر في إطار وعظي وربطها في الجزاء الأخروي لهو استغلال وتبديد لأوقات وأرواح الناس مقابل المخاطرة بالمستقبل , وقسر الناس على رأي أو اعتقاد هو أمر محرم بنصوص القرآن الصريحة , فقد قال الله تعالي ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )
وقرر قاعدة ثابتة للتعامل مع عقائد الآخرين ( لا إكراه في الدين ) ذلك لأن المجبرين على أى نظام مفروض بالقسر يتحينون أية فرصة يزول فيها الضغط ليثوروا ضد النظام أو يغيروه على أقل تقدير , ولقد أدرك الخميني هذه الحقيقة ( الثورة المضادة ) فاحتاط لها من عدة وجوه لقد صفي الساحة الإيرانية من كل التيارات السياسية المخالفة , وأنشأ مؤسسات تحرس النظام ممثلة بالحرس الثوري وجهاز الفافاك للإستخبارات والبسيج وغيرها , وأعاد تشكيل الجيش ليصبح عقائديا مؤمنا بفكرة الدولة المؤسلمة , وفصل الدستور بحيث لا يصل إلى مؤسسات صنع القرار سوى المؤمن بمشروعه , وأودع القرارات المصيرية بيد القائد العام , ووضع جهات رقابية مختلفة مثل مجمع تشخيص مصلحة النظام ومجلس صيانة الدستور على المؤسسات الدستورية المنتخبة , ناهيك عن المواد الدستورية الاحترازية التي تضيق الخناق على أى محاولة لتغيير النظام , لقد أحكم الخميني حلقاته على الشعب الإيراني ليبقيه أسيرا لنظامه ,
ورغم أنه نجح وحقق مبتغاه لكنه سبب خسارة فادحة لكل الإسلاميين السياسيين بالعالم , إذ لم تعد الأطياف السياسية في العالم الإسلامي تثق بالتيارات الإسلامية السياسية بعد تجربة الخميني , فقد استغل الخميني ثقة الأطياف السياسية به وبتسليمه زمام الأمور ليغدر بها ويختطف الثورة والوطن معا , إن تجربة الخميني حفرت الشك العميق في نفوس النخب السياسية ضد الإسلاميين ونواياهم ومدى جديتهم في التعايش مع الآخر , إذ أصابت صدقيتهم وموثوقيتهم لدى الأخرين بمقتل غائر , وهو ما برز خلال ثورات – ما أطلق عليه – بالربيع العربي .
- الملاحظة الخامسة : السياسة الخارجية التي اتبعتها جمهورية إيران الإسلامية سياسة براغماتية بحتة , وهو ما يؤكده الرئيس الأسبق وفسنجاني مبررا اللجوء إلى هذه الدول الكافرة حيث يقول " يجب ألا نفرض على أنفسنا قيودا تجاه الدول التي تستفيد منها علميا , ولا ضير أن نتعامل مع أى دولة لسد حاجة بلدنا " هذه البراغماتية تصل أحيانا إلى انتهازية تتعارض مع مبادئ الإسلام , بل يصفها البعض – بشكل مبالغ فيه – بأنها تصل إلى معاداة قضايا المسلمين ,
ويدلل هذا البعض على مقولته بالشواهد الكثيرة , منها : حروب جمهورية إيران الإسلامية التي كانت موجهة للمسلمين وليس لإسرائيل ودول الاستكبار , منها حربها مع العراق التي دامت ثمان سنوات لتكون بذلك أطول نزاع عسكرى في القرن العشرين وواحدة من أكثر الحروب دموية في التاريخ , وانتهت دون حسم النصر لصالح أحد الطرفين المتقاتلين وبخسائر تقدر بنحو مليو قتيل مسلم ومبالغ تصل إلى 400 مليون دولار أمريكي وتخللها حرب استهدفت ناقلات النفط التي تحمل الكميات المصدرة من دول الجوار الإسلامية والتي عرفت بحرب الخليج بالإضافة إلى تحريك الخلايا النائمة في دول الخليج للقيام بأعمال تخريبية واغتيالات سياسية , وناهيك عن تعاملها مع القضايا الإسلامية التقليدية بدون إكتراث ,
ففي غمرة الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفييتي كانت إيران تعقد صفقات كبيرة مع السوفييت ولم تقدم أية مساعدة عسكرية تذكر لصالح الجهاد الأفغاني , بل كانت تلجأ إلى وصف المجاهدين هناك بالتطرف والتمرد , ولم يعرف عنها موقف إيجابي لصالح مسلمي الشيشان ضد روسيا , ولا لصالح قضية كشمير ضد الهند , بل على العكس , عقدت تحالفا موجها ضد دولة باكستان المسلمة مع الهند , كما يذكر " أولئك " أن إيران تقف مع أرمينيا المسيحية التي تحتل 20% من أراضي أذربيجان المسلمة نكاية بتركيا التي تؤيد أذربيجان ضد أرمينيا المعتدية , وتؤيد إيران اليونان المسيحية في صراعها مع تركيا المسلمة وتعارض التدخل التركي في شمال قبرص الذي جاء حماية للمسلمين من التطهير العرقي والمجازر التي كانت ترتكب ضدهم , كما أنها ترفض أن يكون للمسلمين دولة في قبرص بحجة معارضتها تقسيم هذه الجزيرة .
ورغم أن إيران تبنت القضية الفلسطينية بدعم يفوق ما قدمته كثير من الدول العربية , إلا أنها لم تسلم من الشكوك التي وصفت هذا الدعم بأنه مشروع لاحتراق العالم العربي والتدخل في شؤونه وسياساته الخارجية , حيث يتساءل أولئك عن السبب الذي منع إيران من أية مبادرة لدعم الفلسطينيين واللبنانيين ضد البطش الصهيوني عام 1982 عندما كانت الجبهات مفتوحة ؟ ففي ذلك الوقت كانت القضية الفلسطينية في نظر الخميني مسألة ثانوية وحربها " صغيرة " كما وصفها , يجب ألا تلهي المسلمين عن الحرب " الكبيرة " ضد العراق , فقتال العراق – بنظر الخميني - أهم من قتال اليهود , لكن التهمة الأخطر هي تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية " الشيطان الأكبر " في القضاء على دولة إسلامية أخرى تقودها طالبان والمساعدة على احتلال أفغانستان والعراق ,
حيث يؤكد رفسنجاني بأنه " لولا إيران لما استطاعت أمريكا غزو أفغانستان والعراق " وهو ما يشير إليه الرئيس الإيراني أحمدي نجاد معبرا عن فرحه عندما قال " قد وضع الله ثمارا احتلال البلدين المجاورين لإيران وهما العراق وأفغانستان في سلة إيران , ومعاتبا عندما قال " لقد تم مساعدة الأمريكان في احتلال العراق وأفغانستان وبعد ذلك يأتي بوش وبكل وقاحة ينادي إيران بمحور الشر , كما أكد عليه محمد على أبطحي نائب الرئيس خاتمي الأسبق عندما قال :" إن بلاده قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربهم ضد أفغانستان والعراق , ومؤكدا " لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد ويري المشككون أن المساعدة الإيرانية لاحتلال أفغانستان والعراق حققت مكاسب كثيرة لم تكن في الحسبان , فبعد أن كانتا العراق وأفغانستان بلدين مشاغبين تسببان متاعب جمة لإيران تحولتا إلى جارتين مهادنتين , بل أصبح العراق كله في قبضة إيران وسمح لحزب الله اللبناني – لأول مرة في تاريخ لبنان – بأن يشكل حكومة بعد أن كان متخوفا أن يدرج ضمن قائمة المنظمات المحظورة دوليا كما حصل مع حماس الفلسطينية , بل استطاعت الهيئات والأموال الخيرية الشيعية أن تستثني من التجميد أو الرقابة الصارمة كما يفعل اليوم المجتمع الدولي مع الهيئات والأموال السنية الخيرية .
ورغم أن وجهة النظر هذه انتقائية تختار مع يتفق مع مرافعة الاتهام , حيث أن هناك جوانب إيجابية كثيرة في علاقات إيران مع باكستان وتركيا وغيرها من الدول الإسلامية لكننا نورد ذلك لنؤكد على براغماتية السياسة الخارجية الإيرانية .
- وأخيرا : إن مشروع أسلمة الدولة كما تم على أرض الواقع يشير إلى صعوبات بالغة تواجه نجاح هذا المشروع , فالدولة المؤسلمة لم تستطع أن تصبح دولة طبيعية في المجتمع الدولي ولا دولة إسلامية كما يحددها الفقه الإسلامي , وهو ما تشير إليه تجربة جمهورية إيران الإسلامية فلقد بذل الإسلاميون الإيرانيون قصارى جهدهم لبناء دولة عصرية تستجيب لمبادئ الإسلام مستغلين بذلك إمكانات إيران العديدة من بعد جغرافي واستراتيجي , وتعداد سكان كبير , وعمق تاريخي يمتد لمئات القرون , وثروات بشرية وطبيعية متنوعة , إلا أن ذلك كله لم يخرجها من التصنيف الدولي كدولة مارقة , ولم يخترق الحصار الدولي المفروض عليها حتى من أقرب حلفائها
نموذج حكومة طالبان
وفي الحكومة التي أسستها حركة طالبان الأفغانية على أغلب مساحة أفغانستان عام 1996م ولم تسع للاعتراف الدولي لكن اعترفت بها ثلاث دول وأسقطتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو بحرب شاملة تم فيها احتلال أفغانستان عام 2001م .
الإرهاصات الأولي
مقاومة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان تمت باسم الإسلام وتحت شعار الجهاد , ولذلك كانت قيادات هذه المقاومة شخصيات إسلامية من مشارب شتى , بعضها ينتمي إلى الإسلام الحركي السياسي مثل برهان الدين رباني وقلب الدين حكمت بار وعبد الرسول سياف ومحمد مسعود شاه , وبعضهم ينتمي إلى الإسلام المدرسي الديوبوندى مثل محمد يونس خالص وجلال الدين حقاني , وبعضهم ينتمي إلى الإسلام الصوفي والرسمي مثل محمد نبي محمدى وسيد أحمد جيلاتي وصبغة الله مجددى , وعندما انسحبت القوات السوفيتية نشأ صراع بين تلك القيادات الممثلة للاتجاهات المختلفة , ووقفت دول إسلامية حائلا دون وصول خط الإسلام الحركي السياسي للحكم من خلال تغذية التوتر بينهم وخلق الفتن , غير أن استمرار الفوضى وغياب الأمن عجلا بتشجيع طرف من خارج الصراع يمثل خطا إسلاميا مدرسيا وهم طالبان .
جاءت حركة طالبان من المجهول لتقطف ثمار جهاد دام أكثر من عقد من الزمان ضد الاتحاد السوفييتي وحكومته العميلة بكابول , فطوال عقد الثمانيات الذي شهد مقاومة شرسة وعنيدة من المقاتلين الإسلاميين لم يبرز اسم لطالبان ضمن الجماعات المقاتلة ضد الاحتلال السوفييتي ولم يسمع باسم الملا عمر , إذ لم يكن من المألوف في العمل الإسلامي الحركي خلال تاريخه أن يخرج مفكر أو داعية أو زعيم إسلامي على شكل طفرة أو بشكل مفاجئ فالحركة الإسلامية السياسية احتفظت بشكل أو بآخر بنظام شبيه بالجرح والتعديل لمن يدور في فلكها لحماية صفوفها من المدسوسين أو الدخلاء , وبناء على هذا النظام تمتعت الجماعات المقاتلة وقياداتها بتاريخ في العمل الإسلامي أو جذور في الحركة الإسلامية لا تتوفر لطالبان وقيادتها
مثل بعض تلك الأسماء المذكورة آنفا وبغض النظر عن التقييم الايجابي أو السلبي لهذه الشخصيات إلا أنها تظل معروفة في دائرة العمل الإسلامي لقد ظهرت طالبان عندما بدأ تشكيل دولة إسلامية بواسطة جماعات الجهاد المتنافسة والمتناحرة فيما بينها , وكانت هذه الدولة ستنشأ وفق فكر الجماعة الإسلامية بباكستان مما يجعلها خارج نطاق سيطرة النظام العالمي , ولولا الخوف الذي ساور المجتمع الدولي من قيام دولة باسم الإسلام السني خارج نطاق سيطرة النظام العالمي لظلت طالبان على مقاعد الدراسة حتى اليوم
فلقد انحازت المخابرات الباكستانية لطالبان بشكل مندفع لأنها في النهاية تمثل نموذجا دينيا قوميا غير وافد للمنطقة وتتأثر قراراتها بعلماء المدارس الديوبوندية الذين يملكون علاقات مميزة مع الرسميين الباكستانيين ولم يكن لباكستان ان تبقي متفرجة وبعيدة عن تكوين تلك الدولة الجديدة فباكستان تنظر إلى أفغانستان كعمق استراتيجي يؤثر علي مصالحها القومية بشكل لا يقل عن المسألة الكشميرية , فبالإضافة إلى الحدود المشتركة والممتدة بين البلدين , فإن هناك تداخلا إثنيا ولغويا ومذهبيا واستراتيجيا واقتصاديا بين شعبي البلدين فضلا عن وجود أكبر تجمع من اللاجئين الأفغان في بيشاور وما حولها وترافق ذلك مع رغبة الغرب بتوفير قدر من الأمن يتيح إنشاء خط أنابيب نفط يمتد من بحر قزوين ويمر في أفغانستان ويصب في بحر العرب , ذلك الأمن الذي أخفقت حكومة المجاهدين بعد انسحاب الاتحاد السوفييتي في توفيره بالبلاد بل دفعت نزاعاتهم وخصوماتهم إلى بث الفوضي والذعر في أرجاء البلاد .
لقد جاءت حركة طالبان نتيجة الحاجة نتيجة الحاجة الإقليمية الملحة لطرف يمكنه وقف الفوضى وتوفير الأمن ولا ينأى بعيدا عن الاستراتيجيات العسكرية الباكستانية , ففي عام 1994 تم توجيه أعداد غفيرة من طلبة المدارس الشرعية ذات الاتجاه الديوبندى للانتظام في قوات طالبان وتحت إمرة الملا محمد عمر لتحقيق هدف الأمن , وذلك عبر تقويض نفوذ قطاع الطرق والعصابات المسلحة المتناحرة ومكافحة إنتاج المخدرات وتهريبها , وكان لنجاح طالبان الباهر في تحقيق الأمن الدافع القوى لتمكينها من حسم المسألة السياسية , إذ تمكنت بجدارة من إنهاء سنوات من الصراع الضاري في العاصمة كابول وعدد من المناطق الأخرى في البلاد بين الفصائل الأفغانية المتناحرة وتسلم السلطة .
الخلفية الفكرية
تنتمي طالبان إلى فكر المدرسة الديوبندية , وهي مدرسة نشأت في الأصل لمواجهة المنهج التربوي البريطاني الذي عبر عنه اللورد ماكوليه بقوله " إن الفرصة من خطتنا التعليمية هو إنشاء جيل من الهند يكون هندي النسل واللون , وأوربي الفكر والذهن " فكان رد مؤسس المدرسة الديوبندية " إن غرضنا من التعليم هو إيجاد جيل يكون بلونه وعنصره هنديا , يتنور قلبه وعقله بنور الإسلام وتموج نفسه بالعواطف الإسلامية , ثقافة وحضارة وسياسة " لقد جاءت هذه المدرسة بعد أن أخفق المسلمون الهنود في ثورتهم المسلحة ضد الانجليز عام 1857م, فاتجه العلماء لمقاومة المحتل بتكريس الثقافة الإسلامية من خلال إنشاء المدارس والمعاهد والجامعات , وكانت البداية هي تأسيس مدرسة دينية صغيرة بقرية ديوبند في ( مايو 1866م , ثم أصبحت من أكبر المعاهد الدينية العربية في شبه القارة الهندية وبعدها تم إنشاء البناء الخاص بالجامعة , بعد بقائها تسع سنوات بدون بناء وكانت الدروس تقدم في ساحة المسجد الصغير وفي الهواء الطلق ,
وخلال فترة قصيرة بعد تأسيس دار العلوم بديوبند اشتهرت وتقاطرت إليها قوافل طلاب العلوم الإسلامية من أطراف القارة الهندية , وانتشرت بعدها المدارس الشرعية التابعة لها في أقطار عديدة منها الهند وباكستان ومكة والمدينة , ويمكن القول أن هدف هذه المدرسة هو المحافظة على التعاليم الإسلامية ونشر الإسلام ومقاومة المذاهب الهدامة ومحاربة الثقافة الأجنبية والاهتمام بنشر اللغة العربية باعتبارها أداة فهم الشريعة الغراء , ولقد حرصت هذه المدرسة على الحفاظ على الثقافة الإسلامية الهندية كما ورثها أهل المنطقة وشكلت هويتهم الإسلامية الهندية المتوارثة وذلك بشكل منحاز ومقصود وقاومت أى تغيير في هذه الثقافة سواء كان داخليا قادما من المذاهب والمدارس الإسلامية الأخرى , أو خارجيا وافدا مع الثقافات الأجنبية , لقد اختارت من الشريعة الإسلامية الفقه الحنفي مذهب القارة الهندية وما جاورها كما اختارت من فقه العقائد المذهب الماتريدي مذهب غالبية الأحناف , ولم تتنكر للحركات الصوفية بل تركت لطلبتها اختيار طريقة من الطرق الجشتية والسهوردية والنقشبندية والقادرية والصوفية في مجال السلوك والإتباع .
لم يكن فكر المدرسة الديوبندية حركيا قادرا على ترجمة التلقي الديني كفعل على أرض الواقع , وصناعة حركة إيجابية لإصلاحه أو تحسينه , بل كان فكرا مدرسيا تلقينيا ساكنا مصبوبا في قوالب جامدة يقود معتنقيه إلى إجازة علمية في أحد العلوم الإسلامية , غير أن هذا الوضع المدرسي الساكن كان كثيرا ما تدب فيه الحياة والحيوية ليحيل بعضا من خريجي المدرسة إلى دعاة أو ثوار أو مفكرين أو مصلحين حالما ينتقلون من الدائرة المدرسية إلى الواقع ومخالطة المجتمع فالشيخ محمد قاسم المؤسس كان ممن ثار ضد الانجليز وقاومهم , وكذلك الشيخ حسين أحمد المدني الذي سجنه الاستعمار الانجليزي ,
ومن أشهر دعاة هذا العصر ومفكريه الشيخ أبو الحسن الندوى رئيس جامعة ندوة العلماء , والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي , كما أن أغلب رجال جماعة التبليغ المشهور في الهند والعالم الإسلامي هم من خريجي دار العلوم مثل الشيخ محمد يوسف مؤلف كتاب حياة الصحابة والشيخ محمد إلياس مؤسس الجماعة , ولهذا لعب الزعماء البارزون في المدارس الديوبوندية في باكستان دورا مؤكدا في صعود الحركة ودفعها باتجاه الإمساك بزمام السلطة في أفغانستان وهنا يبرز تحديدا دور مولانا سميع الحق الذي قاد جماعة علماء الإسلام الباكستانية وأدار الجامعة الحقانية القريبة من بيشاور والتي تعد محضنا لقيادات طالبان .
لقد كان ملا محمد عمر زعيم طالبان ومؤسس الدولة الإسلامية في أفغانستان نموذجا لطلبة المدارس الديوبوندية وفكرها , فلقد صاغت فكره بطون الكتب والفصول الدراسية , وعاش في تاريخ أمته أكثر مما عاش في حاضرها , فهو لا يعرف من السياسية سوى السياسة الشرعية كما ناقشها ابن تيمية أو ابن القيم , ومن نظام الحكم سوى ما يمليه عليه الجويني والماوردي والفراء , ومن النظام الدولي ما يمليه عليه الشيباني في شرح السير الكبير أو ابن عابدين في حاشيته المشهورة لذلك عندما تسلم السلطة لم يكن أمامه نموذج إسلامي يتفق مع ثقافته وفكره سوى نموذج الخلافة الراشدة والإضافات التي أضافها الفقهاء له فيما بعد ضمن فكر الأحكام السلطانية , ويقول عنه أحمد رشيد الخبير الباكستاني في شؤون طالبان " بدأ عمر كرجل دين بسيط من البشتون ليس لديه أى فكرة أو رؤيا عن مستقبل الدولة الأفغانية ,زهد في سلطة الدولة وأراد فقط تخليص أفغانستان من أمراء الحرب وكون هذا الرأي بمساعدة بن لادن "
غير أن ممارسته العمل السياسي وإدارة البلاد ثم الهزيمة التي لحقته بعد الهجوم الأمريكي على أفغانستان كلها وسعت مداركه وحولته من نموذج إسلامي مدرسي إلى حركي ضمن دائرة فكرة القاعدة , فهو يري أن معركته ستنطق من صراع ديني بينه وبين اليهود والنصارى , إذ يقول " إن المسألة ليست الحكومة العراقية أو الإرهاب الدولي أو القاعدة الجهادية أو الأسلحة التقليدية وإنما المسألة حقد صليبي ومصالح اقتصادية وأحلام يهودية وحرب دينية " ويؤكد ذلك في تصريح آخر له " سبب عداء المجتمع الدولي لطالبان أنها النظام الإسلامي الحقيقي في العالم وليس اعتداءات 11 سبتمبر ( أيلول ) الماضي "
وبدأ يستشهد بالتاريخ كما يفعل السياسيون ويقتبس منه " أن المحتلين يجب عليهم أن يطالعوا تاريخ أفغانستان بدءا من غزو الإسكندر وجنكيز خان إلى يومنا هذا , وليعتبروا من مصير المحتلين فيه وإذا كانوا لا يرغبون في مطالعة التاريخ الغابر فلينظروا إلى ما شاهدوه في السنوات الثمانية الماضية , وما كسبوه فيها ! وإن كانوا يعجزون عن تقدير خسائرهم في هذه السنوات فلينظروا إلى نتيجة العمليات القوية التي أجروها منذ ثلاثة أشهر في ولاية هلمند والتي كانوا يسمونها بعمليات ( الخنجر ) و( قبضة النمر ) ... ماذا جنوا منها ؟ ألا تكفيهم هذه الهزيمة التاريخية عارا وخزيا ؟! وبدأ يدرك أهمية الإعلام في معركته ويعترف بتقصيره في هذا الجانب " العصر هو عصر الإعلام , فمن كانت له وسائل إعلام كثيرة فسيجد آذانا صاغية , ويجد قبولا عند الناس لكلامه , ولكن وسائلنا الإعلامية قليلة ومحدودة واعتمادنا هو على عون الله لنا , ولم نتوجه كثيرا إلى الإعلام لأن الحركة طالبنا ونظامهم قوة روحانية وأثرا معنويا "
دولة طالبان الإسلامية
أسس جماعة طالبان دولتهم في أفغانستان عام 1996بعد الاستيلاء على مناطق عديدة من البلاد ومبايعة الملامحمد عمر أميرا للمؤمنين , وبعد خمسة أشهر من هذه المبايعة سقطت العاصمة كابول بيد جماعة طالبان شكل بعدها أمير المؤمنين ملا محمد عمر لجنة لإدارة البلاد ( بمثابة مجلس وزراء ) بقيادة نائبه الأول ملا محمد رباني واستمرت هذه الدولة خمس سنوات ونيف في ظل حروب داخلية بينها وبين خصومها ومنافسيها من التيارات الأفغانية الأخرى , إلى أن جاءت الولايات المتحدة الأمريكية بقوات الناتو وأسقطت دولتهم .
خلال الخمس السنوات التي قامت بها دولة طالبان لم يصدر عنها دستور أو نظام أساسي أو وثائق منشورة تقدم لنا الفكر الذي تأسست عليه دولتهم ومحاولتنا لمعرفة ودراسة هذه الدولة تعتمد بدرجة كبيرة على ممارسات حكومة طالبان والتصريحات الشحيحة التي صدرت عن الملا محمد عمر زعيم حركة طالبان خلال السنوات الخمس من حكمهم , ثم بعد ذلك الدستور الذي أصدروه عام 2006 بعد زوال حكمهم .
وتأتي أهمية نموذج حكم طالبان بأنه المحاولة الوحيدة المعاصرة التي سعت لإعادة إنتاج دار الإسلام ونهج الخلافة الراشدة , فلقد استخدمت القوالب التاريخية لنموذج دار الإسلام لتصب فيه معطيات الدولة القومية على عكس النموذج الإيراني الذي استخدم قوالب الدولة القومية المعاصرة ليصب فيها المعطيات الإسلامية وليس أمامنا من وثائق سوى ما نشرته الحركة عن أهدافها في عام 1996 على النحو التالي :
- إقامة الحكومة الإسلامية على نهج الخلافة الراشدة .
- أن يكون الإسلام دين الشعب والحكومة جميعا .
- أن يكون قانون الدولة مستمدا من الشريعة الإسلامية .
- اختيار العلماء والملتزمين بالإسلام للمناصب المهمة في الحكومة .
- قلع جذور العصبيات القومية والقبلية .
- حفظ أهل الذمة والمستأمنين وصيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ورعاية حقوقهم المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية .
- توثيق العلاقات مع جميع الدول والمنظمات الإسلامية .
- تحسين العلاقات السياسية مع جميع الدول الإسلامية وفق القواعد الشرعية .
- التركيز على الحجاب الشرعي للمرأة وإلزامها به في جميع المجالات .
- تعيين هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع أنحاء الدولة .
- قمع الجرائم الأخلاقية ومكافحة المخدرات والصور والأفلام المحرمة .
- استقلال المحاكم الشرعية وفوقيتها على جميع الإدارات الحكومية .
- إعداد جيش مدرب لحفظ الدولة الإسلامية من الاعتداءات الخارجية .
- اختيار منهج إسلامي شامل لجميع المدارس والجامعات وتدريس العلوم العصرية
- التحاكم في جميع القضايا السياسية والدولية إلى الكتاب والسنة .
- أسلمة اقتصاد الدولة والاهتمام بالتنمية في جميع المجالات .
- طلب المساعدات من الدول الإسلامية لإعمار أفغانستان .
- جمع الزكاة والعشر وغيرهما وصرفها في المشاريع والمرافق العامة .
ومن هذه الأهداف التي رافقت نشأة دولة طالبان يمكننا بالكاد فهم نموذج الدولة الإسلامية التي أنشأتها طالبان عام 1996م , وهي تختلف كثيرا عن تلك الدولة التي تسعي لها نفس الجماعة بنفس القيادة عام 2012 م كما ورد في دستور طالبان المعلن عام 2006م
- أولا : مشروع الدولة التي أقامتها جماعة طالبان هو دولة إسلامية كما تشير بوضوح أهدافهم المعلنة , والتي لا تؤكد على إسلامية الحكومة فحسب , بل على نهج الخلافة الراشدة بشكل قاطع , ولا تكتفي بذلك بل تعيد نفس الهدف بصيغة أخرى كالتالي " أن يكون الإسلام دين الشعب والحكومة جميعا " كما تعيد على تأكيد هيمنة الإسلام حين ذكر قانون الدولة العام " أن يكون قانون الدولة مستمدا من الشريعة الإسلامية " وتحصر المناصب الرسمية المهمة بالدولة في العلماء والملتزمين بالإسلام فقط , تفعل ذلك غير عابئة بكل الاعتراضات التي قد تصدر عن المجتمع الدول ضد التمييز بين المواطنين على أساس الدين , أو على أساس المدى – بالالتزام فيه , فهي تعتبر أن غير المسلمين إما أهل ذمة أو مستأمنين بشكل لا مواربة فيه , وتعلن أن لهم حقوق في الشريعة الإسلامية ستقوم بحفظها " حفظ أهل الذمة والمستأمنين وصيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ورعاية حقوقهم المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية " ومشروع الدولة وفق تلك المقدمات هو محاولة لإعادة إنتاج نموذج دار الإسلام , خاصة وأن لقب رئيس الدولة " أمير المؤمنين " هو نفس لقب رئيس دولة دار الإسلام إبان الخلافة الراشدة .
- ثانيا : تصعب معرفة تفكير الملا عمر في توصيف نظام حكمه عندما بويع كأمير للمؤمنين , هل كان يعتقد أن دولته صارت دار هجرة وحكمه خلافة راشدة ؟ أم أنها إمارة تغلب وفق تنظير المارودي ؟ فالأهداف المعلنة التي أشرنا إليها لحركة طالبان تؤكد على أن نهج الحكم الواجب اتباعه لدولتهم هو الخلافة الراشدة , وكنتيجة تلقائية لهذا النهج حصل الملا محمد عمر على لقب أمير المؤمنين بإجماع علماء طالبان , ولعل علماء طالبان كانوا على دراية بمقتضيات هذا اللقب ومستحقاته ,
وكذلك كانوا على علم بالمشكلة التي واجهت فقهاء دار الإسلام عندما برزت ظاهرة إمارات التغلب التي تتمتع باستقلال عن إدارة أمير المؤمنين , وعلى علم بالحيرة التي أصابت الفقهاء في منح لقب رئاسي للمتغلبين لا يتعارض مع مقتضيات ومستحقات لقب أمير المؤمنين , وعلى علم كذلك بالمخارج التي قدمها أولئك الفقهاء من خلال توفير ألقاب للمتغلبين مثل ملك وأمير وسلطان وأخشيد وأمير المسلمين لتفادي التسمي بأمير المؤمنين , فاستحقاقات هذا اللقب تؤدي إلى زعامة حامله لكل مسلمي العالم ولزوم بيعتهم له , كما تلزم المسلمين جميعا الهجرة إلى موطنه ( كما تقرر معطيات الشريعة الإسلامية ) ومبايعته , وهذا أمر يستحيل تطبيقه في ظل ظروف النظام الدولي الراهن , ولعل استحقاقات منصب أمير المؤمنين كانت في ذهن الملا عمر عندما أعلن أنه أمير للمؤمنين , فوفق شهادة مصطفي حامد المعروف بأبي الوليد المصري التي تؤكد أن الملا عمر كانت ينتظر قدوم بن لادن والعرب الذين معه لمبايعته بفارغ الصبر , كما يؤكد أن تردد أولئك في البيعة خلق نوعا من الجفوة بين بن لادن والملا عمر مدة طويلة كما لا تشير ممارسات دولة طالبان إلى أنها تبنت القومية الأفغانية لدولتها بل يؤكد أحد أهدافها على قلع جذور العصبيات القومية والقبلية , وهو ما يرجح أن طالبان لا تعتبر نفسها زعيمة للأفغان فحسب , بل مشروع لزعامة المسلمين كافة.
- ثالثا : رغم أن أهداف طالبان لم تشر إلى الجهاد , إلا أن هذه الأهداف أصلا وضعت لمشروعهم الجهادي , فهي أهدافه والثمرة المرجوة منه , فضلا على أن واقع الحال يؤكد أن دولة طالبان ظلت في حالة قتال مستمر منذ إعلان تأسيسها حتى هذه اللحظة , مما لا يستدعي المزيد من التأكيد على أن أساس قيام دولتها هو شعيرة الجهاد أسوة بنموذج دار الإسلام , ورغم أن تأسيس الدولة على مفهوم الحرب والقتال ينتهي باعتبار المجال الدولي خارج دولة طالبان ساحة حرب قائمة أو مشروع ساحة حرب مستقبلية , إلا أن ذلك لم يظهر جليا في تصريحات أو ممارسات دولة طالبان , فقد حرصت دولة طالبان على حصر الصراع مع خصومها المحليين لتستكمل السيطرة على الأراضي الأفغانية ,
غير أن أهدافها المتعلقة بالعلاقات الخارجية حافظت على لغة حيادية مع بقية الدول الإسلامية مع الاحتفاظ بمسافة بين الطرفين لنفسها , فأهدافها تذكر أنها تسعي لتحسين العلاقات السياسية مع جميع الدول الإسلامية وفق القواعد الشرعية , وعليه تكون القواعد الشرعية هي المسافة التي كانت احتفظت بها طالبان بينها وبين بقية العالم الإسلامي , وذلك دون تحديد أو تعريف لتلك القواعد , أما العالم غير الإسلامي فلم يأت ذكره بين أهداف دولة طالبان على الإطلاق , وهي ملاحظة تستدعي التوقف والتأمل , فهو يشير ذلك إلى اعتبار الدول غير الإسلامية دار كفر أو حرب ؟
ففي مجال المساعدات حصرت الأهداف طلب المساعدات لإعمار أفغانستان بالدول الإسلامية دون غيرها , فهل جاء هذا نتيجة لحضور نموذج دار الإسلام في ذهن من أعد هذه الأهداف ؟ وفي العموم تشير ممارسات دولة طالبان خلال السنوات الخمس من عمرها أنها لم تعبأ كثيرا النظام الدولي القائم .
ولا بالحصول على اعترافه والحصول على عضوية هيئة الأمم المتحدة , ولم تول أى جهد لإقامة علاقات خارجية مع الدول الأخرى , فهي لم تقم علاقات سوى مع باكستان والمملكة العربية السعودية ودول الإمارات العربية المتحدة , بل دخلت مرات في تحد شامل مع النظام العالمي كله عندما قررت هدم تماثيل الديانة البوذية ( باميان ) المنحوتة على جبال أفغانستان منذ قرون بعيدة ومرة أخرى طالت مجموعة بوذا في المتحف الوطني بكابول والمجموعات الموجودة في أقاليم هرات وقندهار ونانغرهار وغزني , فهي تعتبر أن القرآن الكريم والسنة النبوية هما مرجعيتا النظام الدولى , وهذا ما جاء في أهدافها بشكل صريح " التحاكم في جميع القضايا السياسية والدولية إلى الكتاب ( القرآن والسنة النبوية )
- رابعا : لقد حرصت دولة طالبان أن تبقي تنظيماتها الإدارية للدولة مقاربة لتلك التنظيمات التي كانت إبان دولة الخلافة الراشدة ولقد أبرزت أهدافها المجالات الأساسية ذات الأولوية التي تتصدر اهتمامات الدولة , وهي الحرب والدفاع , الأمن ومكافحة الجريمة , الاقتصاد وجمع الزكاة والعثور , العلاقات الخارجية مع العالم الإسلامي القضاء , الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , الحجاب الشرعي , التربية والتعليم , وجعلت دولة طالبان أمير المؤمنين يرأس كافة السلطات وتنتهي إليه القرارات ويقر كافة التعيينات للمناصب القيادية بالدولة وجعلت بجواره مجلسا للشورى يضم أهل الحل والعقد لتزويد أمير المؤمنين بالرأي والمشورة لكنها في نفس الوقت جعلت قرارات مجلس الشورى غير ملزمة للأمير على اعتبار أن الشورى معلمة وليست ملزمة لدى فقهاء دار الإسلام , ويعين أمير المؤمنين نائبا له يترأس إدارة عمومية نظامية ( أشبه بمجلس الوزراء ) للعناية بالمجالات الأساسية ذات الأولوية للدولة , وقد تم تعيين القائد العسكري ملا محمد رباني لرئاسة هذه الإدارة والتي ألغت القوانين الأساسية من عهد حكومة داود وحافظت على بعض تشكيلات إدارية من عهد حكومة داود , لكن التشكيل الوزاري لم يعكس كل الاهتمامات التي جاءت بها الأهداف ,
فقد عكس هذا التشكيل الاهتمام بالأمن والقتال والشؤون الخارجية والتعليم والتخطيط , وهذا ما يشير إليه التشكيل الذي تم على النحو التالي : وزير استخبارات منولاية غازني وزير للحدود والقبائل جلال الدين حقاني من بكتيا , وزير تخطيط دين محمد من بدخشان , ووزير لأمور المهاجرين عبد الرقيب من تخار , ووزير التعليم غياث الدين أغا من فارياب , ووالي لكابل عبد المنان نيازي من هيرات , ووزير الدفاع عبد الرزاق أخوند من قندهار وزير الخارجية أحمد متوكل من قندهار , وهكذا تم تعيين وزراء أخرين , ورغم أن هذا المجلس كان يدير شؤون الدولة من العاصمة كابول إلا أن أمير المؤمنين أصر على البقاء في قندهار لأسباب غير معروفة .
- خامسا : استطاعت هذه الدولة خلال السنوات الخمس التي حكمت فيها معظم أفغانستان من تحقيق إنجازات على مستوى أهدافها وعلى مستوى حاجات الشعب , فعلي مستوى أهدافها أقامت نظامها الذي تعتقد به وطبقته بالشكل الذي تنادي به , واقتربت كثيرا من نموذج دار الإسلام , غير أن النظام العالمي الراهن قد صاغ المجتمع الدولي في قوالب لا تستوعب نموذجا كدار الإسلام , وهو ما جعل دولة طالبان معزولة تماما عن بقية الدول بما فيها الإسلامية , العزلة ليست شيئا جديدا في النظام العالمي الحالي , فالكتلة الاشتراكية عزلت نفسها وشعوبها عن بقية العالم , وعاشت ألبانيا تحت ستار حديدي منذ منتصف القرن الماضي حتى نهايته , غير أن عزلة تلك الدول جاءت بإرادة حكوماتها على عكس دولة طالبان التي جاءت عزلتها بإرادة المجتمع الدولي ,
ورافق ذلك كله إهمال من الطرف الطالباني بالسياسة الخارجية والنشاط الدبلوماسي الذي كرس من تلك العزلة , وكان لخلو دولة طالبان من أى نشاط إعلامي يذكر أن صارت صورة هذه الدولة منفرة وخاصة فيما يخص الحياة الاجتماعية وحرية الأفراد ووضع المرأة , لقد ظلت هذه الدولة نشازا مرفوضة من هيئة الأمم المتحدة وكل الهيئات الدولة وخارج إطار القانون الدولي , لذلك بني العالم موقفه منها كوضع مؤقت وطارئ آيل للزوال , ولم تشغل المنظمات الدولية نفسها بإصدار قرارات أو عقوبات ضد هذه الدولة من أجل ردعها أو الضغط عليها رغم التجاوزات – من وجهة نظر القانون الدول – المكومة بالأطنان .
- سادسا : أما على مستوى احتياجات الأفغانيين فقد حققت حكومة طالبان ما عجزت غيرها عن تحقيقه وهو الأمن فقد جمعت الأسلحة من المواطنين وجردت المقاتلين غير المنضوين تحت فصائلها من السلاح , مما أدي إلى تأمين أكثر من 90% من البلاد , وبثت الطمأنينة بين المواطنين وأشعرتهم بالأمان على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم بعد فوضى الجرائم التي شاعت قبل مجيئهم , وحافظت على وحدة أفغانستان وقضت على أخطار التجزئة والانقسام , ومنعت زراعة وتجارة وتهريب المخدرات بعد أن صارت التجارة الرائجة والمربحة ,
ورغم كل ما قيل عن قسوة النظام الطالباني على النساء إلا أن الحقيقة أن هذا النظام ضمن النساء حقوقا لم تكن مضمونة من قبل , فقد كانت الأعراف والتقاليد القبلية تعتدي على حقوقها وتنتكها بشكل صارخ , فأوقفت طالبات كل أشكال الزواج الذي يتم رغما عن الفتيات واعتبرت القسر بمثابة جريمة , وضمنت لهن حقوقهن بالميراث بعد أن ظللن في مناطق شتى من أفغانستان يحر من منه , ورغم أن النظام تشدد معها في لباس الحجاب الأفغاني التقليدي إلا أنه فتح لها مجالات التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي في مجال الطب والتمريض , كما أنه أعاد إعمار المناطق بقدر ما توفرت له من الإمكانيات والعوائد الداخلية ,
ومن أمثلتها أنه بدأ العمل في تعبيد طرق كابل جلال آباد , كابل / قندهار / سبين بولدك , كم قام بإعادة إعمار وبناء المباني التي دمرت في سنوات القتال في أكثر ولايات البلد بما فيها العاصمة كابل , وقام بإصلاح محولات الكهرباء التي دمرتها الحرب , وتمكن من إنشاء شبكة اتصال هاتفية في معظم الولايات لربط الشعب الأفغاني بالعالم الخارجي وعقد مع تركمنستان اتفاقية لتوريد الكهرباء إلى الولايات الشمالية من البلاد , وأوصل الكهرباء حتى منطقة أندوخي في كابل .
غير أن نظام طالبان شغل نفسه ببعض المسائل الشكلية التي تتعلق بنمط المعيشة العصرية مما زاد من تعتيم صورته المنفرة , فمثلا حظر استيراد الآلات الموسيقية وهوائيات التقاط محطات التلفزة الفضائية , في الوقت الذي كان قادة الحركة يتابعون أخبار العالم عبر أطباق الاستقبال , وكذلك منع استيراد كاميرات التصوير والتجهيزات السينمائية وشرائط الفيديو وآلات التسجيل أو أشرطة الأفلام , وحظر أيضا استيراد ورق اللعب والشطرنج وكافة الألعاب المسلية وطاولات البلياردو والأسهم النارية وطلاء الأظافر ومجسمات عرض الأزياء التي يستخدمها الخياطون في واجهات محالهم وكاتالوجات الألبسة , كما حظ النظام الحاكم أيضا استيراد ربطات العنق والدبابيس المزينة لها وبطاقات المعايدة الخاصة بعيد الميلاد وكل أنواع البطاقات التي تتضمن صورا لأشخاص .
- سابعا : لم تستطع دولة طالبان أن تقدم نظاما بديلا للاقتصاد الرأسمالي , فلقد كان اقتصادها داخليا منغلقا يعيش على الواردات القادمة من باكستان دون أن يخلق صادرات حقيقية , بل أوقف أبرز صادرات أفغانستان وهي المخدرات دون أن يوجد لها بديلا , وكان لغياب بنك مركزي يشرف على إصدار النقد الأفغاني أن غرق السوق المحلي بأوراق نقدية أفغانية مطبوعة في الأقاليم التي خارج سيطرة طالبان , ولقد ساهمت روسيا بذلك سعيا لإضعاف طالبان , ولقد أدركت طالبان في سنواتها الأخيرة أن الاقتصاد ليس كالقتال , فهو نظام دولي يشكل شبكة تغطي كل دول العالم وذات طبيعة مفصلية ومتشابك بشكل معقد مع الاقتصاديات المحلية ومحاولة بناء اقتصاد مستقل في بلد فقير كأفغانستان ليست ممكنة , فالاقتصاد المستقل لا يحتاج ليد عاملة فحسب بل ليد ماهرة ,
ويحتاج لمصادر طبيعية لازمة لقيام الصناعة , ورأس مال كاف لتمويل المشاريع وقنوات لتصريف الإنتاج ,وتكييف الصادرات مع الواردات , وإيجاد ركائز الصناعة من آلات وتخطيط وخبرة لذا اضطرت طالبان أمام هذا الوضع إلى كسر حاجزها الديني مع غير المسلمين وسعت لهم بشكل ملح لتوقيع إتفاقية مع بعض المؤسسات الأمريكية حول عبور خطوط أنابيب غاز تبدأ من تركمنستان وتنتهي بباكستان مرورا بالأراضي الأفغانية , ولكن الولايات المتحدة الأمريكية أوقفت التنفيذ , وكذلك وقعت إتفاقية مع المصارف العالمية الكبرى لاستثمار أموالهم داخل أفغانستان , وهي تعلم تماما أن تلك الاستثمارات تقوم على مبدأ الربا المحرم دينيا , ورغم ذلك فشلت تلك الاتفاقية بسبب الضغوط الاقتصادية , كما تم إبرام عقد اتفاقية مع ألمانيا لطبع العملة الأفغانية الجديدة خاضعة بذلك لنظام النقد الدولي غير أن حكومة طالبان سقطت بعد ذلك مباشرة .
إخفاق النموذج الطالباني
أخفق نموذج طالبان بعد أن شنت الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو على دولتهم حربا ضارية , انتهت بسقوط هذه الدولة وفرار أمير المؤمنين الملا محمد عمر وحيدا على دراجة نارية , ولقد كان الباكون على سقوط هذه الدولة قلة محدودة نتيجة العزلة التي شملت المسلمين عموما والساعين لقيام دولة إسلامية بالعالم و يأتي هذا الإخفاق نتيجة الأسباب التالية :
- أولا : الدخول في خصومة ومعاداة أطراف كثيرة على الساحة الأفغانية والإسلامية والعالمية , فلقد عادت طالبان المجاهدين الأفغان الذين اكتسبوا تأييدا عريضا من مسلمي العالم خلال سنوات الجهاد , وقد يكون لطالبان مبرر في مخالفتهم وعدم التعاون معهم طالما انغمس أولئك في الصراع على السلطة وعرضوا أمن الأفغانيين للخطر , لكن ليس لهم مبرر طالما تحقق لهم النصر وآلت الأمور لهم في مقاتلة المجاهدين السابقين واتهامهم بالخيانة , ولقد أدى ذلك إلى عدم اكتراث وفتور في العلاقة مع الحركات الإسلامية العالمية الساعية لإقامة دولة إسلامية , كما دخلت في خصومة مع جيرانها باستثناء باكستان واستفزت الدول الإسلامية في الوقت الذي فرض عليها المجتمع الدولي عزلة , لقد أوجدت رغبة أممية واسعة في زوالها , وعندما زالت لم تجد لها باكيا ينعيها .
- ثانيا : اكتفت طالبان بالقوة والسيطرة في ميدان القتال كمسوغ لها لممارسة السلطة , واعتبرت تأييد علماء الدين الديوبونديين ودعم المخابرات الباكستانية كافيان لإدارة دولة في القرن العشرين , وكانت تفتقد الخبرة في العمل السياسي المعاصر ولم تسع لاستكمال هذا النقص من الخبرات المتاحة , ولم يكن لها علاقات دولية تهئ لها مكانا في المجتمع الدولي وتخفف من الضغوط المختلفة عليها , وأصرت على بناء كيانها السياسي بشكل يتعارض مع القانون الدولي ولا ينسجم مع الدولة النمطية الحديثة , ورغم أنها وفرت الأمن لرعيتها لكنها أخفقت في توفير الحاجات الأساسية الأخرى والخدمات الضرورية للإنسان المعاصر , وكان ذلك بسبب غياب أى تصور لها حول حل المشاكل الاقتصادية التي تواجه الدولة .
- ثالثا : لم نتتبه طالبان إلى نوايا أصدقائها الداعمين من الاستخبارات الباكستانية وبعض الدول العربية , فقد كانت طالبان في نظر تلك الاستخبارات عبارة عن مرحلة إنتقالية لبناء دولة نمطية حديثة علمانية في أفغانستان , فبناء دولة علمانية كان أمرا يتعذر في ظل جماعات إسلامية – تنتمي لمدرسة الجماعة الإسلامية الباكستانية – قادت الجهاد ضد السوفييت تحت شعار بناء دولة إسلامية , كما كان ذلك صعبا لإقناع شعب – قدم مئات الآلاف من الشهداء باسم الجهاد في سبيل الله – ببناء دولة علمانية , فكان لابد من تقديم بديل منفر باسم الإسلام يسعي الناس للتخلص منه دون أن يكون له بواك , لقد تم استغلال النوايا الطيبة لطالبان ودفعت للصعود إلى المقدمة بسرعة فائقة , وتعمدت تلك القوى الداعمة من حجب المشورة النافعة التي قد تخفف من الصورة المنفرة لدولة طالبان ,
بل ربما كانت هذه القوى تدفعها – من خلال تأثير العلماء الباكستانيين وغيرهم – للمواقف المتطرفة والمستفزة , لم تنتبه طالبان لنوايا الأصدقاء الداعمين لتحويلها إلى قنطرة , ولهذا تم التخلي عنها في اللحظة التي شعرت القوى الكبرى أن التخلص من طالبان لن يستفز أحدا من المسلمين أو غيرهم , وفي اللحظة التي يتطلع فيها الشعب الافغاني إلى الاستقرار والنمو دون الإصرار على إسلامية الدولة , وعندما شرعت الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو في تأسيس دولة نمطية علمانية في أفغانستان كان الطريق أمامها يسيرا وسهلا , ولم تجد معوقات داخل الشعب الأفغاني , سوى فلول طالبان المندحرة .
وأخيرا : لم تستسلم طالبان رغم هزيمتها من الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو , فلقد ظلت تقود المقاومة المسلحة ضد عدوها , ولقد استفادت من الصراع الإقليمي الذي انتهى لصالح الهند على حساب باكستان , إذ ظلت تحظي بدعم خفي تارة وعلني تارة من باكستان, غير أن هذه المرة قدمت نفسها بشكل مختلف , فلقد تصالحت مع كثير من خصومها الإسلاميين الذين يتفقون معها في حمل السلاح , وبدأت تتحدث بلغة العصر , فصار ملا عمر يصرح بعد أن كان صامتا إبان إمارته للدولة وصار يدرك أهمية العلاقات الخارجية فيقول " نريد علاقات شرعية مع بلدان العالم , ولا تمثل حركة طالبان تهديدا إلى أية جهة في العالم ,
إن أمريكا تصور طالبان كتهديد لبلدان العالم , ويمثل هذه الدعاية , تريد استغلال بلدان وحكومات العالم بحثا عن مصالحها الخاصة " وصار يعبر عن إحساسه الوطني ويتغني بجمال موطنه فيقول " لم أكن وقت حكومة طالبان مثل بقية حكام العالم أصحاب الجاه والمال , واعتبر جبال بلادي وغاباتها الجميلة من أفضل الأماكن إليّ, كما أنني أتلذذ بالعيش في هذه الجبال الوعرة وأحس فيها بالراحة , وحاليا أجاهد ضد المحتلين ومواليهم وفي هذا أقضي أيام عمرى , وصار يدفع عن نفسه تهمة التطرف والغلو ويتهم الدعاية المضادة فيقول " إن الإسلام يرفض الغلو , وإذا استطاع أحد أن يثبت أن لدينا غلوا فليثبت ذلك بالأدلة الشرعية , فالدعاوى لا تثبت بمجرد الكلام , بل تثبت بالأدلة الشرعية والحجج... تقول أمريكا وروسيا بأننا متطرفون , فنحن لسنا كذلك ,فالإفراط والتفريط كلاهما مذموم في الإسلام, ثم إن ضابط الإفراط والتفريط يحدده المسلم الذي يعرف أحكام الإسلام ,
أما الكافر فأني له أن يحدد الإفراط أو التفريط في أمور الإسلام ؟ كما صار يدافع عن موقف طالبان من المرأة قائلا " الإمارة الإسلامية بذلت جهودا كبيرة في حماية حقوق المرأة الشرعية , وهي جهود لا ينكرها إلا مكابر , ومن ذلك – على سبيل المثال – القرار رقم ( 104 ) الصادر بتاريخ 8 /5/ 1419هـ الذي يمنع أن تورث المرأة من قبل أهمل الزوج الميت – كما كان سائدا من قبل – أو أن تجبر على الزواج من أحدهم , وهي كارهة , وهو قرار لم يسبق له نظير في تاريخ أفغانستان , أما تعليم المرأة فنحن لا نمنع النساء من التعليم , وإنما نريد أن يكون هذا التعليم مضبوطا بالضوابط الشرعية , ومراعي فيه ما تجب مراعاته من الستر والاحتشام والآداب الشرعية , لقد برز هذا التطور في فكر طالبان جليا من خلال الدستور الذي أصدرته عام 2006م والذي يعكس شكل الدولة الذي تسعى إليها ويعكس التطور الكبير الذي وصلت إليه ,
فقد لجأت طالبان – هذه المرة – إلى قوالب الدولة النمطية المعاصرة وصبت فيها مفاهيمها الإسلامية كما تم في النموذج الإيراني , وتخلت تماما عن نموذج دار الإسلام الذي سعت – إبان حكمها – لتطبيقه , فقد اعتبرت أفغانستان إمارة , ذات قومية أفغانية , لغتها الرسمية البشتو والفارسية , ولها علم رسمي موصوف بالدستور يرأسها رئيس أفغاني الجنسية سني على المذهب الحنفي , وينص دستورها على تساوى المواطنين ( يسميهم أتباع ) أمام القانون , وينص على احترام الحياة الخاصة والحرية الشخصية في حدود القانون , ويجرم الممارسات البوليسية ضد المتهمين ,
ويعتبر التعليم الابتدائي إجباريا , ويؤسس للسلطات الثلاث ( التشريعية والقضائية والتنفيذي ) وينظم العلاقات بينها , كما يحدد صلاحيات رئيس الدولة المسمي ( أمير المؤمنين ) وينص دستورها على نظامها الاقتصادي الذي ينسجم مع النظام الاقتصادي العالمي بصبغته الإسلامية المطبقة في بعض الدول الإسلامية ويأتي دستورها ليفرد للعلاقات الخارجية فصلا كاملا والذي ينص على دفاع إمارة أفغانستان الإسلامية عن الوثيقة التأسيسية لهيئة الأمم المتحدة , ومنظمة المؤتمر الإسلامي وحركة عدم الانحياز وميثاق حقوق الإنسان وتنضم الإمارة إلى برنامج نزع أسلحة الدمار الشامل , ورغم أن الدستور تضمن كثيرا من الاشتراطات الإسلامية ونص على إسلامية الدولة ونظامها , لكنه في النهاية تقيد بقالب الدولة النمطية الحديثة والتزم بالقانون الدولي ومقتضيات العضوية في هيئة الأمم المتحدة .
النموذج التركي
ويتكون النموذج التركي من ثلاث تجارب شقيقة بينها بعض التباين , الأولي حكومة نجم الدين أربكان منذ عام 1996 , والثانية حكومة تورغت أوزال عام 1983م , والثالثة حكومة رجب طيب أردوغان منذ عام 2003م.
الإرهاصات الأولي
تركيا هي الدولة الوحيدة التي لم تخضع لاستعمار أو وصاية من دولة أجنبية فقد استمرت حتى مطلع القرن الماضي دولة عظمي ضمن النظام الدولي السابق , وظلت حتى وهي في أنفاسها الأخيرة مصدر تهديد وقلق بالنسبة للغرب , وخاصة بعدما أعلن الخليفة " السلطان " عبد الحميد الثاني دعوته للجامعة الإسلامية , ولم تسقط عاصمة الخلافة إلا بعد تجريد الخليفة من سلطاته وانتقال الحكم إلى يد حزب الاتحاد والترقي القومي الذي تورط في الحرب العالمية الأولي , ليتم احتلال موطن الخلافة لأول مرة ويفرض عليها شروط مذلة , مما دفع قائد الجيش مصطفي كمال أتاتورك لعقد مؤتمرين في أضروم وسيفاس لوقف الخضوع التركي لغطرسة الحلفاء التي تمثلت في معاهدة " سيفر" وهو ما لاقي تأييدا واسعا من البرلمان واختير بعدها رئيسا للجنة التنفيذية بالحكومة التركية , وقبل أن يتفاوض مع الحلفاء حول تلك المعاهدة المجحفة بدأ مسيرة دموية لسحق الأرمن والأكراد حتى يقطع دابر المطالبات بفصل مناطقهم عن الدولة التركية ,
ثم توجه لمقاتلة الفرنسية – في كيليكيا – والذين منحوه انتصارا بدون قتال , وتوجه بعد ذلك إلى تحرير الأراضي التي استولي عليها اليونانيون وخاض معهم معارك طاحنة بين كر وفر ودمار وقتلي تكللت بانتصاره – في النهاية – وتحرير أزمير , ثم توجه إلى اسطنبول كآخر ميدان قتال لمواجهة البريطانيين والذين – كذلك – منحوه انتصارا دون قتال , و من هذا السجل البطولي والمنطلق القوى أرسل وفدا تركيا برئاسة عصمت إينونو وعضوية رضا نور والحاخام ناحوم ( حاخام اسطنبول الأعلي ) إلى لوزان بسويسرا من أجل إعادة النظر في معاهدة " سيفر"
وشهدت بداية المفاوضات خلافات حادة بين وزير الخارجية البريطاني اللورد كيرزون وعصمت إينونو حول إلغاء الخلافة بإعلان الالتزام بالعلمانية , وطرد الخليفة وأسرته من البلاد , والإبقاء على الموصل بعيدة عن تركيا , ومع فشل الجولة الأولي من المفاوضات دعيت الوفود مرة أخرى إلى لوزان للبحث من جديد في بنود معاهدة سيفر , ووافق الأتراك على الشروط الإنجليزية فألغيت السلطنة في (30 نوفمبر 1923م) وأعلنت الجمهورية , واختير أتاتورك رئيسا لها , وكانت مهمته الرئيسية تثبيت دعائم ومبادئ وشروط معاهدة لوزان .
زاد نظام أتاتورك من تعسفه بإلغاء التعليم الديني , ومنع الكتابة بالحروف العربية وفرضها بالحروف اللاتينية , وتغيير الأذان من الكلمات العربية إلى الكلمات التركية , وإلزام الناس بوضع القبعة الغربية كغطاء للرأس , وجعل يوم الأحد يوم العطلة الرسمية بدلا من يوم الجمعة , كما استبدل نسخة القرآن بنسخة مترجمة إلى اللغة التركية ووزعها على المساجد , وحرم الاحتفال بعيدي الأضحى والفطر , وألغي التقويم الهجري ,
وأحدث تغييرات في نظام المواريث , وحاول تغيير نمط الحياة محتذيا بعادات الغرب وتقاليده وقيمه واهتماماته , وسعي لطمس العقيدة الإسلامية في نفوس الناس بالعموم والناشئة بالخصوص , ولم يجرؤ أحد من خصومه في العاصمة في معارضته بسبب قسوته وعنفه ودمويته التي لا ترحم , بينما انتفضت مناطق أخرى ضد هذه الإجراءات , فقاد الشيخ سعيد بيران البالوى النقشبندي عام 1925م ثورة ضده بلغ أتباعها حوالى 700 ألف , غالبيتهم من الأكراد وبعض من العرب والشركس , وقد تصدت الحكومة التركية لهذه الثورة فداهمت الثوار وحاصرتهم وضيقت عليهم الخناق ,
واضطر الثوار إلى التراجع والاتجاه إلى الجبال والأحراش وثبتوا هناك مدة طويلة , واستطاع الجيش أن يضع يده على بعض رؤساء الثورة وقتلهم في أماكنهم , أما البعض الآخر فقد أسر وأعدم بعد محاكمة صورية قصيرة في 30 مايو من تلك السنة , وكان أبرزهم الشيخ سعيد والدكتور فؤاد بيك و46 شخصا آخر , وقال الشيخ سعيد أمام حبل المشنقة :" إن الحياة الدنيا تقترب من نهايتها , ولم آسف قط عندما أضحي بنفسي في سبيل شعبي , إننا مسرورون لأن أحفادنا سوف لن يخجلوا منا أمام الأعداء"
وآثر آخرون المعارضة الصامتة بتحدي السلطة في نشر الثقافة الدينية , وعلى رأس هؤلاء الشيخ سعيد الدين النوروسي , الذي رفض العمل المسلح ضد النظام والعمل بالسياسة متخذا شعاره " أعوذ بالله من الشيطان و السياسة , واتجه نحو الدعوة إلى حقائق الإيمان وتهذيب النفوس بين الناس ليشكل تيارا كبيرا في تركيا عرف بالنورسية , لكنه – رغم هذا – اتهم بالعمل على هدم الدولة العلمانية وإثارة روح التدين في تركيا وتأليف جمعية سرية , والتهجم على مصطفي كمال أتاتورك ونفي – على أثرها – مع الكثيرين إلى بوردور في شتاء عام 1926,
ثم نفي وحده إلى ناحية نائية وهي بارلا جنوب غربي الأناضول وقضي هذه الفترة في تدبّر معاني القرآن الكريم وفي تأليف رسائل النور حتى عام 1950م وظل ينقل من سجن إلى آخر ومن محكمة إلى أخرى , وطوال ربع قرن من الزمن لم يتوقف خلاله من التأليف والتبليغ حتى أصبحت رسائله أكثر من 130رسالة جمعت تحت عنوان كليات رسائل النور , ولم يتيسر لها الطبع في المطابع إلا بعد عام 1954م , وكان النورسي يشرف بنفسه على الطبع حتى أكمل طبع الرسائل جميعها , وكانت تدور مواضيعها حول تفسير آيات القرآن بأسلوب علمي , وتوفي سعيد النورسي في مارس 1960 م فدفن في مدينة أورفة , ولكن السلطات العسكرية الحاكمة لتركيا لم تدعه يرتاح حتى في قبره إذ قاموا بعد أربعة أشهر من وفاته بهدم القبر ونقل رفاته بالطائرة إلى جهة مجهولة وبعد أن أعلنوا منع التجول في مدينة أورفة , فأصبح قبره مجهولا حتى الآن لا يعرفه الناس .
وفي ظل بطش السلطة لجأ المتدينون من الشعب التركي وعامتهم إلى الحركات الصوفية لتلبية حاجاتهم الروحية , وكانت الطريقة النقشبندية والحركة النوروسية ملاذا لكثير منهم , وإذا كان بطش السلطة مدعاة لصمت الناس , فالانتخابات البرلمانية جديرة بأن تكشف توجهاتهم الرافضة للانسلاخ من عقيدتهم وتاريخهم , وهو ما اكتشفه رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس الذي خرج من تحت عباءة أتاتورك , فقد خاض حملته الانتخابية عام 1950 على أساس وعود بإلغاء الإجراءات العلمانية الصارمة التي اتخذها سلفه إينونو , والتي كان من بينها إعلان الأذان وقراءة القرآن بالتركية , وإغلاق المدارس الدينية ,
وقد قام – بعد فوزه – بإلغاء هذه الإجراءات حيث أعاد الأذان إلى العربية وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة وفتح أول معهد ديني عال إلى جانب مراكز تعليم القرآن الكريم , كما قام بحملة تنمية شاملة في تركيا شملت تطوير الزراعة وافتتاح المصانع وتشييد الطرقات والجسور والمدارس والجامعات و ولم يكن مندريس في أى من هذه الإجراءات إسلاميا أو مؤيدا للإسلاميين بل كان يسعي بذلك للتنفيس عن الاحتقان الديني المتصاعد وحماية التراث العلماني الأتاتوركي والذي كرسه بوضع تركيا في قلب العالم الغربي حيث انضمت تركيا في عهده إلى حلف شمال الأطلسي وأصبحت المتراس المتقدم للغرب خلال الحرب الباردة ,
وأقام علاقات قوية مع الولايات المتحدة وساند مخططاتها في المنطقة وخارجها بما في ذلك إرسال قوات تركية إلى كوريا ووضع تركيا في مواجهة حركة القومية العربية الصاعدة آنذاك بزعامة عبد الناصر , غير أن كل ذلك لم يعفه من تهمة قلب نظام الحكم العلماني وتأسيس دولة دينية , فقام الجيش بأول انقلاب عسكري خلال العهد الجمهوري, وأحال 235 جنرالا وخمسة آلاف ضابط بينهم رئيس هيئة الأركان إلى التقاعد واعتقل رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء عدنان مندريس وأوقف نشاط حزبه ,
وبعد محاكمة صورية تم سجن رئيس الجمهورية مدى الحياة فيما حكم بالإعدام على مندريس ووزير خارجيته فطين رشدي زورلو ووزير ماليته حسن بلاتقان , ورغم صرامة العسكر وتشددهم في الحفاظ على نموذج الحكم الأتاتوركي , وبطشهم بمندريس ورفاقه , إلا أن ذلك لم يوقف تنامي الرغبة الشعبية الكاسحة في إعادة الإسلام لدوره الطبيعي في المجتمع التركي وتم التعبير عن هذه الرغبة بأشكال متعددة منها ترشيح على فؤاد باشكيل ذي الميول الدينية لرئاسة الجمهورية , ومنها حركة ترجمة الكتب الإسلامية المعاصرة للغة التركية ,
وتصاعد أعداد الإسلاميين بالحركة الطلابية ,وتزايد أنشطة المساجد , وظهور صحف إسلامية محدودة , حتى إذا ما انقضي عقد الستينات كان الطريق ممهدا لإعلان حزب النظام الوطني الذي ضم جناحي المعارضة الإسلامية : الحركة النقشبندية بزعامة الشيخ محمد زاهد كتكو , والحركة النورسية التي أنشأها المجاهد سعيد النورسي , وبعد أشهر لم يتحمل العسكر طريقة الحزب الجديد في العمل , وفي أبريل 1971م قدمت السلطة أعضاءه للمحكمة التي أصدرت أمرا بإلغاء الحزب – الذي لم يستمر سوى (16 شهرا - ومصادرة ممتلكاته ومنع شخصياته من العمل السياسي , ومنعهم من تأسيس أى حزب آخر , ومع ازدياد موجة العنف والاضطراب في تركيا في أوائل 1971 م ,
أيقنت الحكومة أن عودة الإسلاميين إلى الساحة قد يوازن الأمور , فسمحت – على مضض – بتأسيس حزب السلامة عام 1972 , والذي خاض الانتخابات وحصل على خمسين مقعدا في البرلمان التركي , وشكل أول حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري بزعامة بولنت أجاويد ولقد بدا واضحا بعد فوز حزب السلامة الوطني أن هناك تيارا إسلاميا صاعدا ومتناميا يتجه نحو الهيمنة على الساحة السياسية بتركيا , وأن زعيما إسلاميا اسمه نجم الدين أربكان يشق صفوف السياسيين في تركيا ويتقدم ليتصدر الحياة السياسية , مما جعل الخصوم يولوا هذا الأمر اهتمامهم لوقف أو الحد من نمو هذا التيار ,
لذلك جاءت أول ضربة للتيار بانسحاب الحركة النورسية من حزب السلامة واصطفافها مع المعارضين له بسبب التحالف مع حزب الشعب , ولم تدم وزارة التحالف سوى تسعة أشهر ونصف لينضم حزب السلامة من جديد إلى حزب الحركة وحزب العدالة لتشكيل الائتلاف الوزاري الجديد في 1977م , وبعد سنة ونيف من هذا الائتلاف طالب المدعي العام التركي فصل نجم الدين أربكان عن حزبه بدعوى أنه يستغل الدين في السياسة , وهو أمر مخالف لمبادئ أتاتورك العلمانية , جاء ذلك مع تطورات خطيرة بمنطقة الشرق الأوسط تمثلت في الغزو السوفييتي لأفغانستان , مما أثار مخاوف غربية على مناطق النفوذ الغربي المتاخمة لحدود الاتحاد السوفييتي في ظل وجود يسار تركي نشيط ,
ومما أثار المخاوف كذلك – في تلك الفترة – اندلاع ثورة شعبية في إيران وتبعها قيام جمهورية إسلامية وعند هذا الحد أدرك العسكر أن علمانية أتاتورك في خطر بسبب الديمقراطية وما تجلبه نتائج الانتخابات فقاد الجنرال كنعان ايفرين في 12 / 9 / 1980م انقلابا عسكريا تسلم الجيش بموجبه زمام الأمور في البلاد وأسس قادة الانقلاب ما يسمي بمجلس الأمن القومي , ليتولي الجيش بموجبه مباشرة تصحيح الأمور بما لا يتعارض مع اتفاقية لوزان , واعتقل نجم الدين مع ثلاثة وثلاثين من قادة حزبه ورجالاته البارزين وقدموا لمحكمة عسكرية , وأصدرت هذه المحكمة قرار الإعدام بحق خمسمائة وسبعة عشر شخصا , وقد نفذ القرار على خمسين شخصا بالفعل بينما لقي مائة وواحد وسبعون شخصا مصرعهم من جراء التعذيب , بالإضافة إلى الوضع القمعي التي عاشته تركيا بعد الانقلاب وأدي إلى مئات المفقودين وتوقيف وسجن الآلاف ومحاكمة الكثيرين وفرار عشرات الآلاف من تركيا .
وبدا واضحا أن العسكر كانوا قلقين من أمرين , الأول : نهج أربكان السياسي الصادم للرأسمالية والغرب , وأن أى تضييق أو اضطهاد سيزيد من شعبيته ولن يوقف صعوده , خاصة في ظل أجواء الأفغاني والثورة الإيرانية , والثاني استفادة اليسار من خلو الساحة السياسية من الإسلاميين لجر تركيا إلى الكتلة الشرقية في ظل قيام الاتحاد السوفييتي بغزو أفغانستان لذلك كان لابد من تفهم جديد لدور الإسلاميين المعتدلين بالسياسة , خاصة في ضوء الاطمئنان لرسوخ تركيا بالعلمانية وتحول دول العالم الإسلامي كله إلى علمانية متساهلة وهذا الفهم الجديد هو الذي سمح بعودة تيار إسلامي بديل يسعي لتحويل العلمانية التركية المتشددة إلى علمانية متساهلة , لذلك تم تعيين تورغوت أوزال أحد أعضاء حزب السلامة مستشارا للانقلابيين ووزيرا للخارجية ونائبا لرئيس الوزراء ومسئولا عن ملف الاقتصاد وظل في هذا المنصب حتى يوليو 1982 , واستطاع أوزال – الإسلامي العلماني – بمؤازرة أخيه كوركوت أوزال أن يستقطب أعدادا كبيرة من القاعدة الانتخابية لحزب السلامة ,
كما بدأ بالاتصال بمراكز التأثير الإسلامية في تركيا وخارجها للإقناع بفكرة تشكيل حزب بديل طالما العسكر لا يقبل بشخصية أربكان ونهجه , وروج لمقولة تبديل الوجوه من أجل الحفاظ على مشروع الحزب مستغلا وجود أربكان وراء قضبان السجن , وخلال السنوات الثلاث من الانقلاب تمكن العسكر من إعادة ترتيب الحياة السياسية بما يتناسب مع وجود الأخطار التي تهدد الأتاتوركية , وذلك بحل البرلمان وإلغاء الأحزاب وإدخال تغييرات على الدستور وإيجاد مجلس أمن قومي لحراسة الأتاتوركية , وتم إعلان الدعوة لتشكيل أحزاب جديدة لخوض الانتخابات وعودة الحياة النيابية , وقام التيار الإسلامي بإعادة تشكيل حزبه تحت مسمي حزب الرفاه عام 1983 , كما استطاع أوزال بتوليفته الجديدة اكتساح الانتخابات والفوز بالأغلبية من خلال حزبه الجديد المسمي حزب الوطن الأم , بينما لم يفز حزب الرفاه – الذي كان زعيمه مسجونا إلا بنسبة واحد ونصف بالمائة من الأصوات , ولقد ظهرت بوادر العلمانية المتساهلة في عهد أوزال من خلال حرصه على أداة صلاة الجمعة بحضور عدد من وزرائه واستقطاب مريدى الطرق الصوفية - الذين كان لهم دور مؤثر في فوزه للمرة الثانية في انتخابات عام 1987 – إلى جانب حزبه , كما أفسح المجال للحركات الإسلامية بالانتشار العلني , بل ضم في قيادات حزبه الحاكم وجوها إسلامية سياسية معروفة كان بعضها جزءا من حزب السلامة الوطني ,
كما توسعت في عهده المدارس الدينية ودخل الإسلاميون مجال الثقافة والإعلام وأصدروا صحفا وأسسوا دورا للنشر ومحطات خاصة للإذاعة والتلفزة واندمجوا بشكل كبير في البيئة الليبرالية الجديدة , وعندما تولي رئاسة الجمهورية عام 1991 وصل بسلوكه الإسلامي الذروة حينما قام قصر الرئاسة باستضافة احتفالات دينية صوفية بمناسبة المولد النبوي الشريف وكان ذلك من المشاهد التي لم تشهد تركيا نظيرا لها منذ تأسيس جمهوريتها العلمانية .
وفي الأشهر الأولي من عام 1985 م خرج أربكان من السجن ووضع تحت الإقامة الجبرية التي استمرت حتى أواخر العام ذاته , ثم عاود نشاطه من جديد من خلال حزبه الجديد المسمي بحزب الرفاه , ولقد استطاع بصبر وعزيمة وأناة النهوض بحزبه من نسبة 1,5 إلى 6,5% ليفوز في أوائل 1996 بنسبة 21,3% ويتحقق ما كان يتخوف منه الخصوم , إذ استطاع الحزب اكتساح منافسيه في الانتخابات التشريعية في البلاد ليتولي البروفيسور نجم الدين أربكان رئاسة الوزارة للمرة الثانية , ولكن ضمن شروط مقيدة ورغم تلك الشروط لم يتحمل العسكر نهج أربكان الذي يسعي لإعادة تركيا كدولة رائدة في محيطها الشرقي الإسلامي , بدلا من أن تبقي في المحيط الأوروبي الغربي دولة بلا هوية يستخدمها الغرب لقضاء مصالحه خاصة بعد أن أعلن عن تشكيل المجموعة الثمانية الاقتصادية ( الإسلامية ) بالإضافة إلى ما قام به من إجراءات إصلاحية للاقتصاد التركي دون الاعتماد على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي , مما يساعده على تحقيق الاستقلال الحقيقي الذي يسعي إليه ,
وفي تلك الفترة فاز مرشح الحزب رجب طيب أرودغان برئاسة بلدية اسطنبول عام 1994 وعمل على تطوير البنية التحتية للمدينة وإنشاء السدود ومعامل تحلية المياه لتوفير مياه شرب صحية لأبناء المدينة وكذلك قام بتطوير أنظمة المواصلات بالمدينة من خلال أنشطة شبكة مواصلات قومية وقام بتنظيف الخليج الذهبي ( مكتب نفايات سابقا ) وأصبح معلما سياحيا كبيران كما انتشل بلدية اسطنبول من دوينها التي بلغت ملياري دولار إلى أرباح واستثمارات وبنمو بلغ 7% الأمر الذي أكسب الحزب شعبية كبيرة في عموم تركيا ,
ورغم حرص أربكان على عدم استفزاز الجيش وتكريس انطباع بأنه لا يريد المساس بالنظام العلماني , ورغم أنه وقع على الاتفاقيات المتعلقة بإسرائيل , إلا أن ذلك لم يكن كافيا لطمأنه العسكر , إذ تقدموا إليه بمجموعة طلبات من أجل تنفيذها على وجه السرعة وتتضمن ما وصفوه بمكافحة الرجعية ووقف كل مظاهر النشاط الإسلامي في البلاد سياسيا كان أم تعليميا أم متعلقا بالعبادات , مما اضطره إلى الاستقالة من منصبه , ولم يكتف العسكر بذلك , بل تم حظر حزب الرفاه – في عام 1998م - وأحيل أربكان إلى القضاء بتهم مختلفة منها انتهاك مواثيق علمانية الدولة , ومنع من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات , لكن أربكان لم يغادر الساحة السياسية فلجأ إلى المخرج التركي التقليدي ليؤسس حزبا جديدا باسم الفضيلة بزعامة أحد معاونيه , وبدأ يديره من خلف الكواليس , لكن هذا الحزب تعرض – من جديد – للحظر أيضا في عام 2001 م , لكي يتكرر من جديد نموذج تورغوت أوزال بعد تعديلات ضرورية استفادت من التجربة السابقة ,
ففي 14 مايو 2001 انشق جناح كبير بزعامة رجب طيب أردوغان وعبد الله غول من حزب الفضيلة المنحل ليؤسسوا حزبا جديدا يحتفظ بنفس روح الفضيلة لكنه يلبس ثوبا جديدا لا يثير الاستفزاز والنقمة , وهو حزب العدالة والتنمية ولثاني مرة يشهد أربكان تكرار نفس السيناريو الذي رسمه له العسكر في عام 1980م حيث يتم حل حزبه وسجنه وشق جماعته وتكوين حزب جديد للمنشقين يفوز بالانتخابات ولقد تمكن حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان من تسلّم السلطة بعدما حصد 393 مقعدا من أصل 550 من مقاعد البرلمان عام 2002 م , ورغم الانتصار الساحق والنجاح الساحق الذي حققه أتباعه السابقون إلا أن أربكان لم يستسلم رغم تقدمه بالعمر ومحدودية حركته الجسدية , فقد أسس حزب السعادة بمن تبقي معه وذلك بعد انتهاء مدة الحظر عام 2003 م , على أمل أن يكرر سيناريو النجاح الذي حققه بعد انشقاق تورغرت أوزال ,
لكن خصومه من العلمانيين , تربصوا به ليجري اعتقاله ومحاكمته في نفس العام بتهمة اختلاس أموال من حزب الرفاه المنحل , وحكم على الرجل بسنتين سجنا وكان يبلغ من العمر وقتها 77 عاما , لقد كان يمكن للزعيم الإسلامي أن يستمر في العمل السياسي إلى النهاية , رغم الضغوط الشديدة والمتكررة التي تعرض لها من قبل التيار العلماني , والتي أخذت أشكالا مختلفة من الانقلابات العسكرية إلى استخدام القضاة والصحافة و شق صفوف أتباعه , لولا أن المنية وافته عام 2011 م ليسدل الستار على سيرة مؤسس الإسلام السياسي المعاصر في تركيا .
غير أن نجاح حزب العدالة والتنمية في تخطي الصعاب , وتجاوز هواجس العسكر , وطمأنة الغرب و تحقيق الانجازات , وإعطاء تركيا دورا قياديا في المنطقة واستمراره بالحكم حتى اليوم , كل ذلك نقل الأضواء من أربكان إلى أردوغان و المقارنة بين أسلوبيهما في تنفيذ النموذج التركي ..
الخلفية الفكرية
لقد كان هذا السرد التاريخي الموجز – للتاريخ السياسي بتركيا المعاصرة – ضروريا لتتبع نمو الحركة الإسلامية السياسية بعد سقوط الخلافة العثمانية , فقد كان واضحا أن المجتمع التركي لم يعد يقبل قسره على النمط الأتاتوركي من العلمانية , فالتاريخ يكشف قلقه واضطرابه طوال الفترة الماضية , وإذا كانت ثورة النقشبندية وحركة النورسية رد فعل مباشر, فإن انتخابات 1950م مثلت استفتاءا شعبيا على القهر الأتاتوركي , إذ كان انتصار الحزب الديمقراطي برئاسة عدنان مندريس إعلانا ببوادر تيار شعبي عريض ناقم على مقتضيات اتفاقية لوزان وتطبيقاتها المتوحشة , ووجد في مندريس وحزبه الجرأة المعلنة للتمرد على الاتفاقية , ولقد استمر هذا التيار ينمو حتى غدا حاكما فعليا لتركيا .
ويمكننا القول أن الطريقة النقشبندية الصوفية هي المهد الأول لهذا التيار وإطارها الروحي , فهي طريقة تختلف عن مثيلاتها من الطرق الصوفية بالتزام الصمت في أذكارها وأورادها , إذ لا تعتمد على الصوت المرتفع أو ملء المحيط بأصوات الذاكرين , بل يحصر الذكر داخل القلب , وإعمال الجوارح للحضور مع الله , يقول كتاب ( الطريقة النقشبندية وأعلامها ) الواقع أن كافة الطرق الصوفية يبدأ المريد فيها يذكر اللسان ثم يرتقي الذكر بالجنان , أما الطريقة النقشبندية فإن بدايتها ذكر القلب ونهايتها الحضور الدائم مع الله تعالي , لذلك فإن بدايتها نهاية بقية الطرق " فالنقشبندية إذن نهج يقود صاحبة إلى النمو الصامت بلا إثارة , وبقليل من الثرثرة بجانب الكثير من العمل , والطرق الصوفية – بما فيهم النقشبندية – تعتبر نفسها نهجا أو طريقا يسلكه العبد للوصول إلى الله ومعرفته والعلم به , وذلك عن طريق الاجتهاد في العبادات واجتناب المنهيات وتربية النفس وتطهير القلب من الأخلاق السيئة والتحلي بالأخلاق الحسنة , ولا تقيس الأعمال بمظهرها وحركتها , إنما بنتائجها وثمرتها النهائية ولهذا تقسم الدين إلى ثلاثة أركان هي الشريعة والطريقة والحقيقة , فالشريعة عندهم هي الأساس , والطريقة هو الوسيلة , والحقيقة هي الثمرة , وهذا نمط من التفكير يركز على المآلات النهائية ويقود إلى النتائج الملموسة , كما أن النقشبندية التركية تتبع المذهب الماتريدي في العقائد , وهو مذهب يمنح العقل سلطانا أكبر ومجالا أوسع في فهم العقيدة والدين , وأنه وإن كان قد شن هجوما عنيفا على المعتزلة , ولكنه هو أقرب إلى منهجهم من منهج الإمام الأشعرى , وهذا يعني أن النقشبندية بشقيها الصوفي والماتريدي تصوغان تفكيرا سياسيا واقعيا يقترب من البراغماتية .
غير أن كثيرا من الجماعات الصوفية – رغم جنوحها للزهد والرقاق والبعد عن الدنيا – خاضت حروبا دامية من أجل الإسلام بعضها ضد الاستعمار والمحتل الأجنبي , وأخرى ضد مؤامرات داخلية تستهدف الإسلام , ففي الشمال الأفريقي قادت الحركة السنوسية حربا ضد الاستعمار الإيطالي مسطرة ملاحم بطولية في سجلات التاريخ , وكذلك قاد الشيخ عبد القادر الجزائري حركة مقاومة ضد الاستعمار الفرنسي ,
وفي السودان أعلن المهدي الجهاد ضد الاستعمار البريطاني , ومثلهم في شمالي نيجيريا والنيجر وتشاد حيث قاد الشيخ عثمان بن فودي – وهو من كبار شيوخ الطريقة القادرية – حركة جهاد ضد الاستعمار , وكذلك الزعيم المسلم الشيخ محمد الأمين في بلاد التكرور , والمجاهد محمد عبد الله حسن في الصومال وهو من أبرز خلفاء شيخ الطريقة الصالحية , والشيخ عبد الله مرسل وأتباعه من أبناء الطرق الصوفية في الصومال , والشيخ الصوفي المحدث العلامة ضياء الدين الكمشخانوى من كبار رجال الطريقة النقشبندية الذين حاربوا الروس , والإمام منصور رافع راية الجهاد في القوقاز , والشيخ شامل في الشيشان والشيخ العلامة إسماعيل الشهيد من الهند , والشهيد الشيخ عز الدين القسام شيخ الزاوية الشاذلية في جبلة الأدهمية في فلسطين وتأتي ثورة الشيخ سعيد بيران البالوى النقشبندي عام 1925م ضد أتاتورك انسجاما طبيعيا مع ذلك التاريخ الحافل للصوفية من أجل الإسلام , تلك الثورة التي أخمدت بعد سنة من مولد نجم الدين أربكان .
هذا كله يكشف لنا الإطار الفكري والنهج السلوكي الذي نهل متهما أربكان وتلميذاه أوزال وأردوغان , وهو إطار يعتبر التربية الروحية وقود للفرد أثناء انخراطه بالمجتمع ومشاكله , وليس سببا لاعتزاله أو تخاصمه معه , ولهذا اتسم بالصبر والأناة والنفس الطويل والروح القتالية العالية , كما أنه مسلك فيه قليل من المثالية وكثير من الواقعية , يحقق أهدافه بشكل تراكمي بطئ وبحركة صامتة لا تعلن عن مراميها وغاياتها , يبحث عن ثمرة جهده على أرض الواقع , ولقد انعكس ذلك على حركة أربكان وجماعته , فالتربية الروحية التي استقاها أربكان من الطريقة النقشبندية لم تجعله يعزف عن العمل السياسي, ولا يعتزل المجتمع وهمومه , بل دفعته للانخراط بمشاكل وهموم الأمة كلها وعلى أعلي المستويات , وكانت هي حافزه المتدفق بدلا من أن تكون سبب عزوفه , وهي التي منحته خصائص الاستقامة والنزاهة وسلامة الذمة المالية , وعبأته بجاهزية قتالية لخوص الحرب مع شبكات الفساد المالي والإداري بتركيا ,
أما التدرب على بناء الذكر الصامت فهي التي قادته لتكوين حزبه بشكل تراكمي بطئ فلقد كان يخرج من الانتخابات في أول أمره بنسبة ضئيلة , تتزايد تراكميا في انتخابات لاحقة ثم التي تليها , حتى توصله إلى الأغلبية المطلوبة , ورغم السجن والعزل والضربات المتتابعة والمتلاحقة ضده , والتي تعود به في أكثر من مرة إلى نقطة البداية , إلا أن تربيته الروحية منحته روحا قتالية نادرة , مع كثير من الصبر والأناة والنفس الطويل جعلته لم يستسلم حتى الرمق الأخير من حياته , ولم يغرق أربكان الساحة السياسية بشعارات الإسلام المبهمة ولا حتى بشعارات اقتصادية وهمية ولقد كان يخوض الانتخابات وفق برامج اقتصادية وتنموية واضحة يمكن قياس النجاح والإخفاق فيها , وهذه الواقعية التي اكتسبها من خلفيته الفكرية هي التي ميزته عن كثير من الإسلاميين .
ولقد صنع أربكان تيارا سياسيا واسعا أطلق عليه حركة " مللي جوروش " ( فكرة الأمة ) عام 1969م , وهي حركة تعكس أفكاره ورؤاه, فقد أفرزت هذه الحركة كافة الأحزاب التي ألفها أربكان خلال نضاله السياسي , بدءا بحزب النظام وانتهاء بحزب السعادة , وحركة " مللي جوروش " هي أول حركة إسلامية ذات آلية تنظيمية حقيقية قامت في تركيا بعد سقوط الخلافة العثمانية , وهي إسلامية صميمة تتبني الإسلام في منهجها وتدافع عن قضايا المسلمين في أنحاء العالم , بالإضافة إلى دخولها العمل السياسي , والذي يعد من أهم إنجازاتها , حيث استطاع رائدها أن يصل إلى سدة الحكم , ويقدم نموذجه الإسلامي القائم على الاستقلال الاقتصادي وإعطاء أهمية كبيرة للتربية .
وتقوم هذه الحركة على ثلاثة أعمدة أساسية لها , وهي : المعنويات , واعتلاء الحق , وتربية النفس , والمعنويات تقوم على أساس أن العمل في الحركة هو الارتباط بالله عزوجل , هو شكل من أشكال الجهاد , والسياسة أداة من أدوات الحركة .
وتستخدم كأداة للعمل لخدمة الإسلام , أما فكرة الاعتلاء بالحق فتنطلق من أن الحضارة المعاصرة تحتل صدارتها بالقوة لا بالحق , ولذلك يجب إعادة ميزان الصدارة والعلو ليكون بالحق , أما فكرة تربية النفس فتنطلق من التسليم بأوامر الله عزوجل والمحاسبة الدائمة للنفس , والاستعداد ليوم القيامة .
ويعتقد أربكان أن هذه الأعمدة الثلاثة هي كيمياء الحركة , وهي التي تمنح الأفراد الملتزمين بها الهداية بمعرفة الحق والباطل , والفراسة بالفصل بينهما , والدراية بطرق الدفاع عما تؤمن أنه حق , ويعتقد أربكان أن الشخص الذي يمتلك تلك الهوية يستطيع أن يؤسس حضارة
النموذج التركي
أول محاولة من الإسلاميين للمشاركة بالحكم كانت في حكومة الائتلاف بين حزب الشعب الجمهوري بزعامة بولنت أجاويد وحزب السلامة الوطني بزعامة أربكان عام 1974م , ورغم أن هذه المحاولة أفرزت تحولات جديدة في السياسة التركية التقليدية إلا أنها لم تتح لهم السلطات والإمكانات الكافية لصناعة القرار السياسي التي تتاح عادة لرؤساء الحكومات التركية , لذلك فإن النموذج التركي الذي نقصده يتمثل في فترات حكم أربكان في الفترة 1996 /1997 , وحكم أوزال في الفترة 1983 /1993 , وحكم أردوغان منذ 2003 حتى اليوم.
أولا : يعتبر نموذج الحكم الذي مارسه كل من أربكان وأوزال , وأردوغان في تركيا إسلاميا , وذلك – ببساطة – لأن صانعيه دخلوا مجال السياسي بنيّة خدمة الإسلام , فكلهم سعوا لزحزحة العلمانية المتشددة ضد الإسلام باتجاه موقف أكثر تساهلا, وكلهم سعي لإلغاء التمييز بين المواطن المتمسك بمظاهر الإسلام والمواطن غير المتمسك بها في الأجهزة الرسمية , وكلهم حاول بناء اقتصاد قوى ليجعل تركيا في مصاف الدول الغنية , وكلهم حاول بناء صلات لتركيا مع محيطها الإسلامي, ورغم التفاوت في الأداء والانجاز والحماسة ,إلا أن ذلك يؤكد أن الثلاثة ينطلقون من نموذج حكم واحد , ولا يضير هذا النموذج إن كانت مكونات تركيبته فقيرة إسلاميا , فذلك يعود للفقر في المكونات الإسلامية المتاحة ضمن مكونات التركيب في الدولة التركية فالتمسك بالعلمانية وإقصاء الدين الإسلامي تماما من الدولة التركية واحترام مبادئ أتاتورك والإلتزام بالاتفاقيات المبرمة والاحتفاظ بالانتماء الغربي , كلها مكونات أساسية غير قابلة للإهمال لدى أى جهة سياسية تريد حكم تركيا ,
ولقد أثبتت التجارب أن أي محاولة لتجاوز تلك المكونات الأساسية يكون مصيرها الإلغاء والسجن والأحكام القضائية الصارمة وأى إسلامي بتركيا يريد خدمة الإسلام في السياسة ليس أمامه خيارات سوى الالتزام بمكونات الدولة التركية المعاصرة التي أرسي دعائمها أتاتورك , وإلا عليه أن يبحث عن مجالات أخرى غير السياسة ليخدم من خلالها الإسلام وهذه الحقيقة الحارقة كانت شاخصة أمام نجم الدين أربكان عندما قرر خوض غمار العمل السياسي مع حزبه , ولذا التزام بها حتى ولو كان مرغما , وأبرز شاهد على ذلك التوقيع على الاتفاقيات المتعلقة بإسرائيل – إبان رئاسته للحكومة – بعد تأخير لمدة 10 أيام تعرض فيها لضغوط عسكرية شديدة وصلت للتهديد بالانقلاب العسكري ولكنه – مع كل ذلك – لم يعهد عليه أنه زار أو طلب زيارة إسرائيل .
ورغم الاختلاف في السياسات – التي يجب أن تتبع في تطبيق النموذج – بين أربكان وتلميذته أوزال وأردوغان , والتي أدت إلى انشقاقهما وتأسيس أحزاب منافسه لحزب أربكان , إلا أن القواعد الأساسية التي قامت عليها أحزاب أربكان وأوزال وأوردغان واحدة ومتساوية , وهو ما أكده مستشار نجم الدين أربكان الأستاذ عمر فاروق المعروف بعمر كازوك ماز عندما سئل عن الفرق بين حزب السعادة وحزب العدالة والتنمية فقال " هم ( أى حزب العدالة والتنمية ) انطلقوا من منطلق آخر , لكن القواعد واحدة "
ثانيا : أن أربكان هو مهندس النموذج التركي , وأنا ما قام به أوزال وأردوغان من رفض السياسات أو التعديلات – التي أضافها أربكان بعد اتصاله بالإسلام السياسي المشرقي – ما هي إلا للحفاظ على القبول المحلي والدولي للنموذج .
ويقوم النموذج الذي بناه أربكان على قراءة تاريخية لواقع العلاقات التركية الأوروبية في القرن العشرين حيث يري أن تركيا مصنفة في المقررات الأوروبية الاستعمارية ضمن الفئة الثالثة من الدول كما جاء في مقررات مؤتمر كامبل الذي عقد في لندن عام 1905م , والفئة الثالثة هي الدول التي لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضاري معها وتشكل تهديدا بتفوقها والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أى اتجاه منها لامتلاك العلوم التقنية , ويرى أربكان أن اتفاقية لوزان جاءت لتفصّل مقررات مؤتمر كامبل على تركيا باعتبارها الدولة الأقوى بين الدول الإسلامية بعد الحرب العالمية الثانية ,
ورغم أن أتاتورك حاول بصرامة اجتثاث الإسلام من جذوره في تركيا بالعلوم التقنية وتطبيقاتها التكنولوجية كما تم مع بقية دول المحور المهزومة لذا جعل المهندس أربكان قاعدته الأولي – في بناء نموذج حكم تركيا – تقوم لتحقيق هدف اقتناء العلوم التكنولوجية والصناعية والمعارف العلمية , والتي تؤدي إلى اقتصاد صناعي بالدرجة الأولي , وهو ما جعله يضع الربط بين مخرجات التعليم ومدخلات الاقتصاد هدفا أساسيا لنموذجه حتى يمكن القول أن نموذجه يقوم على التعليم والاقتصاد , ولقد رفض أربكان إبقاء الاقتصاد التركي قائما على الزراعة والسياحة حيث عبر عن ذلك بقوله " لا يمكن التقدم من خلال السياحة والزراعة , من يقول ذلك يكون غافلا عن الحقيقة , أن ما يلزمنا هو ثورة صناعية لتطوير الصناعات الثقيلة , فإن لم نصنع نحن محركاتنا , ولم نصنع مصانعنا فلن نتمكن من مقارعة الغرب "
وطالما أن الحالة التركية تقوم على العلمانية المتشددة ضد الإسلام و فقد جعل القاعدة الثانية لنموذجه تقوم على هدف زحزحة التشدد العلماني المطبق بتركيا نحو العلمانية التقليدية المعتادة والمطبقة في دول العالم , والوصول بمستواها إلى العلمانيات الموجودة في بقية العالم الإسلامي , فنموذجه لم يتبّن أهدافا كإلغاء العلمانية أو إعادة الخلافة حتى لو باعتبارها جزءا من التراث التركي , ولم يسع لتطبيق الشريعة الإسلامية أو حتى أسلمة الدولة التركية , إنما اكتفى بهدف متواضع يضمن له زحزحة العلمانية التركية ليصل إلى منح الثقافة الإسلامية حريات مضمونة أسوة ببقية الثقافات وإلغاء التمييز الرسمي ضد الملتزمين بالمظهر الإسلامي .
أما القاعدة الثالثة لنموذجه فتتمثل بتوطيد العلاقات التركية الإسلامية والتي تراجعت بسبب الادعاء المتكرر بأن تركيا هي جزء من أوروبا , وكان يرى أن ذلك يتم من خلال دخول أسواق الدول الإسلامية وزيادة التبادل التجاري معها وبناء المشاريع المشتركة معها .
ثالثا : عندما شرع أربكان عمله السياسي والسعي لتطبيق نموذجه, لم يضع في حسابه حساسية الطبقة العلمانية والعسكر من المساس بمقتضيات الإنتماء لأوروبا فشرع يعبر عن أفكاره بشكل صادم , إذ لم يتوان عن الإفصاح بهوية حزبه الأول عام 1971 م عندما قال في خطاب الذكرى الأولي لتأسيسه " إن أمتنا هي أمة الإيمان والإسلام , ولقد حاول الماسونيون والشيوعيون بأعمالهم المتواصلة أن يخربوا هذه الأمة ويفسدوها ,ولقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد , فالتوجيه والإعلام بأيديهم , والتجارة بأيديهم والاقتصاد تحت سيطرتهم , وأمام هذا الطوفان , فليس أمامنا إلا العمل معا يدا واحدة وقلبا واحدا , حتى نستطيع أن نعيد تركيا إلى سيرتها الأولي , ونصل تاريخنا المجيد يحاضرنا الذي نريده مشرفا " كما حاول أثناء وجوده في حكومة أجاويد أن يفرض بعض قناعاته فيما يتعلق بالقرار السياسي التركي , محاولا ضرب أخطر مراكز النفوذ الداعمة للنهج العلماني , فقدم بعد تشكيل الحكومة بقليل مشروع قرار للبرلمان بتحريم الماسونية في تركيا وإغلاق محافلها , وفي المقابل أسهم في تطوير العلاقات مع العالم العربي , وأظهر أكثر من موقف مؤيد صريح للشعب الفلسطيني ومعاد " لإسرائيل " ونجح في حجب الثقة عن وزير الخارجية آنذاك خير الدين أركما بسبب سياسته التي اعتبرت مؤيدة لإسرائيل .
غير أن تطورا ما حدث في فكر أربكان بعد اتصاله بقيادات العمل الإسلامي السياسي في المشرق , فبعد أن أطلع على نتاجهم الفكري والثقافي بعد ترجمته إلى التركية والتقي بكثير من قيادات الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية بباكستان , والدكتور حسن الترابي والشيخ راشد الغنوشي والشيخ محفوظ النحناح والشيخ يوسف القرضاوى وغيرهم , تأثرت أفكاره , ورؤاه بنتاجهم مما دفعه لتطوير نموذجه ليحوله من نموذج حكم لتركيا إلى مشروع حضاري عالمي , فقد أضاف له فكرة النظام العادل الذي يرى من خلاله نظاما دوليا جديدا بعد فشل النظام الدولي الراهن , ويوضح أربكان رؤيته في أن الحضارة الغربية قامت على مفهوم " القوة " وليس مفهوم " الحق " وهذه العقلية هي العقلية التي تظلم الناس ليس من منطلق الظلم فحسب , بل من منطلق أنه من حقهم فعله , فمفهوم " الحق " الذي منحه الله لجميع البشر يحمى الحقوق الأساسية للإنسان , مثل حق الحياة , وحماية الأجيال , وحق الملكية , وحق حفظ العقل , وحق التدّين , وانطلاقا من هذا فإنه يجب على الإنسانية أن تتحد لكي تؤسس نظاما عادلا يحفظ الحقوق ويجلب السعادة والعدل للبشر , هذا النظام الاقتصادي العادل له عدة أسس ومحاور ,
وأما الفكرة الثانية التي جاء بها مشروعه فهي العالم الجديد , عالم يقوم على السلام بدلا من الحرب , والحوار بدلا من الصراع ومعايير عدل واحدة في التعامل مع الأمم بدلا من المعايير المزدوجة , والتعاون بدلا من الاستعمار والمساواة بدلا من الاستكبار , وحقوق الإنسان والديمقراطية بدلا من القهر والظلم , أما الفكرة الثالثة في مشروعه فهي السعي لإقامة اتحاد العالم الإسلامي يتضمن هيئة أمم متحدة للأقطار الإسلامية , وسوق إسلامية مشتركة وإنشاء عملة إسلامية واحدة ( الدينار الإسلامي ) وإنشاء قوة عسكرية تدافع عن العالم الإسلامي ( قوات الدفاع الإسلامية المشتركة ) وإنشاء مؤسسات ثقافية تبني الوحدة الثقافية والفكرية القائمة أساسا على الإسلام .
رابعا : لقد أدى هذا التطوير – في النموذج التركي – إلى استفزاز الطقم العسكرية الحارسة للأتاتوركية , ولم يكن الاستفزاز في البداية بسبب الحديث عن الإسلام وعلاقته بالأمة التركية فحسب , بل تعداه للهجوم على مفاصل العلمانية عند تقديمه مشروع حظر الماسونية في تركيا , ولقد كان هذا التطوير سببا من أسباب الانقلاب الذي قاده كنعان أيفرين , حيث صرح بعد يومين من انقلابه بأن الجيش تدخل ليوقف المد الإسلامي , وليوقف " روح التعصب الإسلامي الذي ظهر في مظاهرة قونية "
غير أن هذا التطور أعطى كذلك مبررا للخلافات داخل الحزب , والذي يري فيه الكثيرون عدم جدوى استفزاز العسكر والإفصاح عن النوايا , وهو ما حقق لعملية الانشقاق الأولي التي قادها تورغوت أوزال أن تنجح , غير أن عودة أربكان بحزب الرفاه – هذه المرة – صاحبها بروز لجوانب مشروعه الحضاري , إذ شن هجوما على الرأسمالية والنظام الدول المعاصر وتحكم الدول العظمي الاستعمارية بصناعة القرار الدولي , واعتبر أن العملية الرأسمالية بأذرعها المختلفة شر مطبق ,
وأن السياسات البنكية والمالية الرأسمالية تخدم فئة محدودة ومنتفعة , وبشر بالمقابل بنظام إسلامي عادل يجتث ذلك كله من أساسه ليبني المجتمع الإسلامي الحقيقي العادل الذي سماه النظام العادل Adel Doze وأعتبر أن النظام الاقتصادي القائم في تركيا " نظام استعباد " وأنه لم يوجد صدفة بل صنعته الرأسمالية العالمية والصهيونية بمكر ومعرفة وتخطيط , واتهم اليهود بأنهم هم الذين يوجهون الرأسمالية العالمية وهم يوجهون الأحزاب التقليدية في تركيا وفقا لخطط صندوق النقد الدولي الذي يؤمن القروض الخارجية , وإن ارتباط تركيا بالنظام الرأسمالي يجعلها خاضعة وضعيفة .
ولقد وجه أربكان هجومه على مقدسات النظام الرأسمالي عندما أوضح أن نظام " الاستعباد العالمي " يستغل تركيا عن طريق الفائدة والضرائب , وطبع النقود بلا غطاء مالي , والنظام المصرفي والقروض , وبسبب هذه الجراثيم تدفع الأسعار باستمرار للارتفاع وتزيد من نسبة التضخم وتجعل جميع مقدرات الدول وإنتاج الأفراد بيد الرأسمالية والصهيونية وإسرائيل ومجموعة من شركاء هذه الأنظمة والشركات الكبرى " وقابل كل ذلك إفصاحه عن رغبته بالتوجه بتركيا إلى العالم الإسلامي ضمن مواصلة تأكيداته على عدم إمكانية قبول تركيا بالاتحاد الأوربي حيث وصفه بأنه " اتحاد مسيحي " لا مكان لتركيا فيه , وقد تأكد ذلك برفضه دعوة الاتحاد الأوربي على العشاء قائلا :" كان المنطق أن تدعو تركيا إلى مجلس الاتحاد الأوربي وليس فقط للعشاء وصاحب كل ذلك مواقف معادية للغرب ومتمثلة باتهام الولايات المتحدة بممارسة الإرهاب ضد ليبيا , وتصوير قوات توفير الراحة بأنها لتأسيس دولة كردية مستقلة على الأراضي التركية , وتوقيعه لميثاق طرابلس , ودعوته لإقامة حلف صناعي ودفاعي مع إيران , واستضافته لممثلين من حماس والإخوان المسلمين في احتفالات حزب الرفاه , ولعل أكبر مبادراته الدبلوماسية هي تأسيس تجمع من ثمان دول إسلامية من أجل إقامة تعاون اقتصادي وتشاور سياسي , وهدفه كما يقول أن يتفاوض الـ D-8 والـ G-7 لإقامة نظام عالمي جديد , ومع أن أربكان لم يتمكن من إحداث تغيير جذري حقيقي في سياسة تركيا الخارجية إزاء أوروبا وأمريكا وإسرائيل والعراق وإيران وسوريا إلا أنه نقل استفزازاته من الداخل إلى الخارج ,وحوّل هدف التخلص منه من رغبة داخلية إلى رغبة خارجية , ودفع الغرب لتوصيل رسائل مباشرة وغير مبائرة تدعوه لإتباع المعايير المطلوبة من حليف غربي , والاستياء من أسلوبه البلاغي التقليدي المتضمن عبارات " الإمبريالية الأمريكية " أو " المؤامرات الصهيونية " وأن هذا الأسلوب مرفوض خاصة وأنه يأتي من رئيس وزراء وليس من زعيم معارضة ولقد سجل الخبير الاستراتيجي والآكاديمي الأمريكي البارز الآن ماكوفسكي التحديات التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية بوجود أربكان على رئاسة الوزراء كالتالي :
- 1. أن ذلك سيصّعب مهمة الإدارة الأمريكية وحلفاء تركيا أمام الكونغرس وكذلك الاتحاد الأوربي بإقناعهم أن تركيا ما تزال دولة علمانية ديمقراطية موالية للغرب .
- 2. إذا لم تتم السيطرة على أفكاره التآمرية وإشاراته المعادية فسوف يسبب غضب الكثيرين ممن يعدون أنفسهم أصدقاء للولايات المتحدة .
- 3. إن أربكان يعبّر بصراحة عن تعاطفه , وصلاته بالإسلاميين الراديكاليين مثل ( إيران , الإخوان المسلمين في مصر , حماس ) وهذا يخلق مشكلات أمنية خطيرة لا سيما وأن عضوية أربكان في مجلس الأمن القومي التركي ستتيح له الوصول إلى أسرار حلف الناتو بوصف بلده عضوا فيه فيصبح على دراية بالخطط المضادة للإرهاب .
- 4. إن أربكان يعتزم توجيه تركيا بطريق لا يتماشي مع المصالح الأمريكية , فلقد عقد العزم وحقق خطوات ناجحة لأسلمة المجتمع التركي والوظائف الحكومية منذ توليه نيابة رئاسة الوزراء في أواسط السبعينات وقد سعي في عام 1995 إلى إلغاء الدستورية التي تمنع استخدام الشريعة الإسلامية كأساس للتشريع القانوني .
ولقد نجحت تلك التحذيرات في توليد هواجس وتوجسات لدى الولايات المتحدة من سياسة أربكان المشار إليها , إلا أن خبراءها فضلّوا عدم التدخل في تركيا والتعويل على العسكر ممن يتعاطفون مع الغرب والمصالح الأمريكية , لا سيما وأن العسكر لا يثقون به ويرغبون بإزاحته عن السلطة , وأصبحوا منذ نهاية ديسمبر 1996 يراقبون تحركاته وتوجهاته , وقد استفزهم مقاطعته لجلسة المجلس العسكري الأعلي في سابقة لا مثيل لها , والتي تعتبر وصمة عار على البرتوكول العسكري , كما قام بسحب الأموال المخصصة للجيش من أجل الأبحاث والتنمية العسكرية ورصدها لاتفاقيته الخاصة , وقام بعقد اتفاقية تعاون صناعي عسكري مع إيران رغم علمه بمعارضة الجيش , ولقاء مستشار أربكان مع بعض المسئولين لوزارة الدفاع الإيرانية سرا , وفي ظل هذه الظروف أوعزت الولايات المتحدة بتضييق الخناق على أربكان وإقصائه عن الحكم , لكنها في نفس الوقت رفضت أن يتم ذلك بأسلوب الانقلاب العسكري التقليدي ,
وهو ما صرحت به مادلين أولبريت وزيرة الخارجية الأمريكية وقتذاك قائلة " لقد أوضحنا وبشكل قاطع أن على تركيا الاستمرار في طريق الديمقراطية / العلمانية مهما زادت الأمور تعقيدا فعليهم أن يكونوا ضمن السياق الديمقراطية وليس باستخدام طرق غير دستورية , نحن نقدر الدستور الديمقراطي العلماني لتركيا " لذا ظل العسكر يبحثون الفرصة السانحة حتى جاءتهم بعد تصريحات السفير الإيراني في ضاحية سنجان قرب أنقرة , فقد هاجم في مظاهرة مناهضة للصهيونية بمناسبة يوم القدس قائلا " أن هؤلاء الذين يعقدون الاتفاقيات مع الولايات المتحدة وإسرائيل سوف يعاقبون من قبل الشباب الأتراك عاجلا أم أجلا , ليعتقل بعدها عدد من المتظاهرين في مقدمتهم رئيس بلدية سنجان بتهمة سكوته على تلك التصريحات ,
وما كان من مجلس الأمن القومي إلا أن اجتمع يوم 28 مايو 1997 وقدم وثيقة تتضمن مطالب قاسية بمكافحة الرجعية وتستهدف وقف كل مظاهر النشاط الإسلامي في البلاد سياسيا كان أم تعليميا أم متعلقا بالعبادات وتهديدات بعضها موجهة مباشرة إلى أربكان , اعتبرت انقلابا من نوع جديد , مما اضطر أربكان إلى الاستقالة من منصبه لمنع تطور الأحداث إلى انقلاب عسكري فعلي .
خامسا : أدرك لفيف من شباب التيار الإسلامي أن النموذج الذي صنعه أربكان لحكم تركيا قد توسع وتحول إلى مشروع عالمي مناهض للنظام الرأسمالي القائم , ولم تعد مشكلة هذا النموذج محصورة بالأتاتوركية وحراسها من العسكر , بل أصبحت مشكلته هي توافقه مع النظام العالمي القائم وقبوله ضمن المجتمع الدولي , وتعلق إحدى المحطات التلفزيونية قائلة " لم يدرك أربكان أن محاولة انتزاع تركيا من أحضان الغرب إلى قلب العالم الإسلامي قد يكلفه الكثير , فلا الحضن الغربي كان مستعدا للتخلي عن حليفته العسكرية في المنطقة , ولا القلب الإسلامي كان قويا بما يجب ليتقبل ويحتوى هذا العضو الجديد " ولقد كان في ذهن الشباب عندما انخرطوا في حزب أربكان أن نموذجه يقود إلى مشروع نهضوي خاص بتركيا وحدها ’ وكانت لديهم قناعة بأن إمكاناتهم تسع المشروع , وأن هناك ثمار يجنونها مقابل التضحيات التي قدمونها , فالنموذج ذو القواعد الثلاث واقعي يستقيم مع قواعد الدستور التركي ويجد له مكانا بسهولة في النظام العالمي , ولهذا كان لابد من القيام بحركة إصلاحية داخل الحزب لإعادته إلى المنطقات الأولي , وإلا سيكون مصير أى حزب جديد كسابقه , لذا قاد رجب طيب أردوغان وعبد الله غول هذه الحركة من الداخل , لكن وقوف أربكان ضدها أدي إلى تركهما الحزب وتأسيس حزب العدالة والتنمية عام [[2001]]م ,
ونفذا فيه مشروعهما الإصلاحي القائم على العودة إلى النموذج التركي بصورته الأولي , يقول عبد الله غول – عندما كان نائبا لزعيم حزب العدالة والتنمية – معبرا عن ضجره بالابتعاد عن النموذج التركي " عملت قريبا جدا من أربكان , كانت سياستنا حينها بعيدة عن الواقعية , تعتمد تماما على الخطب الحماسية والشعارات المداعبة لمشاعر الناخبين " لقد وجد هذا الحزب قبولا واسعا في الأوساط التركية الشعبية , مما أدي إلى مفاجأة ثقيلة جدا سنة 2002م حيث فاز حزب العدالة والتنمية بأغلبية مطلقة في الانتخابات البرلمانية , وحصل على 368 مقعدا من أصل 550 مقعدا , وأوكل إليه تشكيل الوزارة برئاسة عبد الله غول , وذلك لأن رئيس الحزب أردوغان كان في فترة المنع من مزاولة النشاط السياسي , وبعد قليل استطاع البرلمان أن يضغط لتغيير الدستور ليصعد رئيس الحزب أردوغان إلى منصب رئيس الوزراء في تركيا , وذلك في نفس السنة 2002م .
وقد عللت جماعة أربكان فوز حزب العدالة والتنمية الساحق بتقديم تنازلات كبيرة لمؤسسات مشبوهة داخلية وخارجية عملت باستمرار على إغراق تركيا في أزمتها الاقتصادية والسياسية , مثل توسياد ( مجموعة رجال الأعمال النافذة في تركيا ) والتي تقدمت بمذكرة إلى العسكر نبهت فيها من خطر الإسلام السياسي ومثل العناصر العلمانية التي انسلخت من أحزابها لتنضم إلى الحزب الجديد , ولتنفذ سياسة المؤسسات المشبوهة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الذي لم يخف ترحيبه لدعم التجربة الجديدة كما تتهم جماعة أربكان قيادات الحزب الجديد بأنها اضطرت إلى تليين مواقفها للوفاء بتعهداتها المسبقة لهذه المؤسسات , ولقد عبر عن هذه الاتهامات مستشار أربكان عمر كازوك ماز قائلا " أن الغربيين وبالذات أمريكا يريدون أن يتعاملوا مع الإسلاميين بشرط أن ينسلخوا من ملابسهم الأصلية , كما يقولون في تركيا , وقيل أنهم جربوا هذه الطريقة في تركيا ونجحوا إلى حد ما , لأن الإخوة الذين كانوا معنا في أيام ( الرفاه ) بعضهم أعلن على الملأ أو في المجتمع التركي أنهم انسلخوا من ملابسهم القديمة أو من مبادئهم القديمة وفتح أمامهم الطريق وهم أتوا إلى السلطة "
وقد يوافق بعض هذه الاتهامات جزءا من الحقيقة , غير أن ذلك لا يعد خيانة أو جريمة طالما كانت النوايا صادقة , فأردوغان وحزبه في حاجة لاستعادة ثقة الغرب والمجتمع الدولي وقبول العسكر , ولهذا كان جادا في تقديم التنازلات عن أسلوب أربكان الاستفزازي , والعودة إلى نموذجه الأول بقواعده الثلاث , ولهذا صرح – في أكثر من مرة دفاعا عن النموذج الأصلي قائلا " أن هذه هي رؤية الحزب الحقيقية , وسيلاحظ المتتبعون له صدقه في الالتزام بهذه الشعارات " كما أكد للمشككين " لقد غيرنا موقفنا فلماذا لا تريدون أن تصدّقوا ؟
لقد أعاد حزب العدالة والتنمية تركيا إلى حضن أوروبا , ووقع اتفاقية الدستور الأوروبي للبدء بالمفاوضات على عضوية تركيا , واستفاد من دخول تركيا الملعب الأوروبي , ولو كلاعب احتياط إذ حقق قفزات كبيرة في مجال تطوير الاقتصاد وتدعيم البنية التحتية وتجهيزاتها إلى المستوى الأوروبي , ونجح في دمج الاقتصاد التركي والاقتصاديات العالمية وفتح أمامها باب التنافس مع القوة الاقتصادية الأخرى , وانتقلت بذلك تركيا اقتصاديا من المرتبة 115 على مستوى العالم في مسألة جذب الاستثمارات إلى المرتبة الثالثة والعشرين ,
ولقد فعل حزب العدالة ذلك مستثمرا المطالبة باستيفاء شروط عضوية الاتحاد الأوربي وتطبيق معاييره ,وظل يحرج الأوروبيين في المطالبة بالانضمام حتى دفع الأوروبيين للتلميح أكثر من مرة إلى أن الاتحاد ناد للأمم المسيحية , وأنه لا مجال لتركيا في هذا الاتحاد , ولقد قاد الحزب الشعب التركي كله إلى نفس القناعة التي كان يرددها أربكان دون أى لجوء إلى التحدي أو إثارة الشكوك , كما عمل على الاستقرار تاريخي , وكذلك فعل مع اليونان وفتح جسورا بينه وبين أذربيجان وبقية الجمهوريات السوفييتية السابقة , وأرسي تعاونا مع العراق وسوريا وفتح الحدود مع عدد من الدول العربية ورفع تأشيرة الدخول وفتح أبوابا اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية مع عدد من البلدان العالمية وأصبحت مدينة إسطنبول العاصمة الثقافية الأوروبية عام 2009 ,
وأعاد لمدن وقرى الأكراد أسمائها الكردية بعدما كان ذلك محظورا , وسمح رسميا بالخطبة باللغة الكردية , كما صوب جهده لتوثيق العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية بالجانب الأمني والعسكري مستخدما مكانة تركيا في العالم الإسلامي وآسيا الوسطي , واستطاع أن يفسح لتركيا مكانا مهما ومؤثرا في الخريطة السياسية للمنطقة وكشف عن إمكانات لديها للتأثير كانت غائبة مستترة , فتحولت من جسر جغرافي بين الشرق والغرب إلى جسر سياسيا ثقافي اقتصادي لا يكتفي بالربط بينهما وإنما يعمل على التأثير فيهما معا لتقريب المسافة , كما تحقق حلم أربكان بتحويل تركيا إلى دولة تصنع محركاتها , فصناعة الآلات في تركيا تنمو بمعدل يبلغ نحو 20 في المائة سنويا منذ عام 1990 ,
وتدعم الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم التي تتسم بالتنافسية الشديدة والقدرة الفائقة على التكيف النمو الحادث في قطاع الآلات التركية , والذي يشكل الجزء الأكبر من الإنتاج الصناعي داخل البلاد , وبلغت نسبة الصادرات التركية من إنتاج الآلات نسبة 8,3% من إجمالي الصادرات بقيمة 9,4 مليارات دولار أمريكي في عام 2010م , وتتضمن وجهات التصدير الرئيسية لمنتجات الآلات التركية كلا من ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا وإيران , احتلت تركيا المركز السادس عشر بين الدول المصنعة للسيارات في عام 2010 , في ظل إنتاجها لأكثر من مليون سيارة , في حين أنها تعد أكبر منتج للسيارات التجارية في أوروبا , حيث يتم تصدير حوالي 70 في المائة من الإنتاج المحلي , في الوقت ذاته , بلغ عدد السيارات التي بيعت في السوق المحلية حوالي 800000 سيارة في عام 2010 ويعمل بصناعة السيارات التركية التي تتكون من 17 شركة إنتاج أساسية محلية وأجنبية , تدعمها نحو 4000 شركة تعمل في الصناعات الفرعية لهذا المجال نحو 300000 عامل على أعلى درجات الكفاءة , وتعد تركيا البلد الأول في منطقة الشرق الأوسط من حيث الإنتاج العلمي , وتحتل المرتبة التاسعة من بين ثلاثين دولة ذات الأسواق الواعدة .
ملاحظات على النموذج التركي
الملاحظة الأولي : يعتبر النموذج التركي من أنجح النماذج التي صنعها الإسلاميون السياسيون لحكم الدولة الحديثة , فقد استطاع هذا النموذج أن يدير الدولة النمطية الحديثة بنجاح , وأن يؤكد إمكانية احتواء الجماعات الإسلامية السياسية داخل العملية الديمقراطية , وأن تتدفق علاقاته بيسر وسهولة مع المجتمع الدولي , وأن يقيم علاقات مميزة مبنية على الثقة مع الدول الكبرى , ورغم نجاح هذا النموذج في تركيا إلا أنه لا يصلح تطبيقه بحذافيره في كثير من الدول الإسلامية فلقد فصّل على مقاس الدولة التركية التي تختلف عن بقية الدول الإسلامية , فهي الدولة الحديثة التي آل إليها ميراث دار الإسلام , وهي إحدى دول المحور العظمي التي هزمت في الحرب العالمية الأولي , وهي الدولة التي أشرفت على إعادة تكوينها مجموعة دول هي بريطانيا وفرنسا وايطاليا واليابان واليونان ورومانيا والصرب والسلاف والكروات , وهي الدولة الوحيدة في العالم الرأسمالي التي لا تعني علمانيتها فصل الدين عن الدولة فحسب , بل فصل الدين الإسلامي ( حصرا ) عن المجتمع , إذ أنها – كذلك – الدولة الوحيدة التي ضمن فيها الغرب – باتفاقية لوزان – حقوق كافة الديانات إلا الإسلام , وهي الدولة الوحيدة التي تسعى لقطع حاضرها و مستقبلها بتاريخها وهي الدولة الأوروبية الوحيدة ذات الغالبية السكانية المسلمة الكاسحة والمهمة في حلف الناتو العسكري , وهذه الفوارق تجعل من تركيا دولة غير طبيعية وغير متوازنة مع تكوينها , وفي حالة توتر دائم مع تاريخها ودين شعبها وثقافتها , مما يجعل أحد الأهداف الأساسية لنموذج الحكم فيها هو إعادة توازنها ومصالحتها مع شعبها وتحويلها إلى دولة علمانية طبيعية , وهذه الفوارق العديدة شغلت حيزا كبيرا من النموذج التركي , وهو حيز لا يحتاجه أى نموذج حكم لدولة إسلامية أخرى ذات نظام علماني , بل يمكن تحقيق نفس النتائج التي حققها النموذج التركي بتكلفة أقل .
الملاحظة الثانية : إن سعى الإسلاميين الأتراك لتحويل تركيا إلى دولة علمانية " طبيعية " يستفز الكثير من الأفراد في الأوساط الإسلامية , ويعدون ذلك تنازلا أو انهزاما أو خيانة , فالأصل في فكر الإسلاميين أن سعيهم ينصب دائما لتحويل أى دولة علمانية إلى دولة إسلامية وليس إلى دولة علمانية ذات نظام ديمقراطي حقيقي , غير أن حزب العدالة والتنمية يري أن الديمقراطية الليبرالية بعلمانيتها هي حماية وضمان للدعوة الإسلامية , وهذا ما يحتاجه الإسلام في ظل النظام العالمي الراهن , خاصة وأن الحزب يعطي فهما معتدلا للعلمانية يتفق مع الفهم الغربي ويختلف عن فهم أتاتورك , فالدولة العلمانية في نظر أردوغان تتعامل مع أفراد الشعب على مسافة متساوية باختلاف دياناتهم , ولكنها في نفس الوقت لا تسعي لنشر اللادينية , كما يري أن لفظ العلمانية يطلق على الأنظمة السياسية وليس على الأفراد , لذلك يرفض أن يطلق عليه أحد أنه علماني , ويقول " أنا مسلم رئيس دولة علمانية " ويرى هذا الحزب أن أكبر خدمة للدعوة الإسلامية هي توفير أجواء مضمونة ومأمونة من الحريات , ولذلك يقول عبد الله غول " من الخطأ إطلاق لفظ إسلامي على الحزب , ففي بلد مسلم لا يمكنك احتكار الدين لنفسك وإلا فماذا ستكون الأحزاب الباقية والسياسة ؟ وعند النجاح والفشل , لا يمكننا أن نحمّل الدين مسئولية فشلنا , الدين يجب أن يبقي فوق هذه المسائل , لكن هل يعني هذا تخلينا عن الدين ؟ أبدا , الدين حقيقة لا يمكن إنكارها , لكننا نؤمن بأن توزيع الحريات والديمقراطية هو الذي سيضمن إزالة أى عوائق أمام حرية الدين والعبادة , لأن حرية الدين هي من أهم مبادئ حقوق الإنسان " ويرى أردوغان أن الديمقراطية المتطورة , يقصد الديمقراطيات ذات العلمانية غير المتطرفة هي التي تحمي الهوية الإسلامية التركية " نحن حزب محافظ وديمقراطي , بمعني أننا نحافظ على عادات وتقاليد وثقافة الأمة التركية , ونسعى لتطبيق ديمقراطية قوية ومتطورة لا تقل عن الديمقراطيات المتطورة في العالم .
وحقيقة الأمر , أن الذين يطالبون الإسلاميين الأتراك بترديد شعارات الإسلاميين بالمشرق الإسلامي تغيب عنهم خصوصية الحالة التركية من جانب , ويغيب عنهم فقه الأولويات , فهم كأنهم يطالبون أصحابهم – الموجودين مع لفيف من الناس – داخل غرفة مظلمة بقراءة المصاحف , فالأولوية – في هذه الحالة – لأى جهد يبذل داخل هذه الغرفة يجب أن يتجه نحو إضاءة شمعة تمكن الجميع من المشاهدة , بما فيها أحرف المصحف , وليس تبديد الجهد في محاولات القراءة في الظلام , وإضاءة الشمعة هو عمل أهم وأولي من أى محاولة محكوم عليها بالفشل , كالقراءة بالظلام , والأجر عند الله – في هذا المثال – هو على قدر إشعال مزيد من الشموع وليس على قدر محاولات القراءة بالظلام , وهذا حقيقة الوضع في تركيا .
الملاحظة الثالثة : أن النموذج الذي صنعه أربكان حقق نتائجه عند أول تجربة له في المشاركة بالحكم , وانعكس ذلك جليا في اختيار الحقائب الوزارية التي تسهم في تحقيق نموذجه , ففي عام 1996م عهد إليه الرئيس التركي سليمان ديميريل برئاسة الحكومة من خلال تحالف مع زعيمه حزب الطريق الصحيح تانسو شيلر , تقاسم بموجبه أعضاء الحزبين المناصب السياسية , وخلال مفاوات تقسيم المناصب ركز أربكان على الوزارات التي ترتبط بنموذجه , فمنح شيلر كل المناصب السيادية التي تثير حساسية العسكر ( الخارجية , الدفاع , الداخلية , التعليم , الصناعة والتجارة ) في حين تولي الرفاه الوزارات الخداماتية ( المالية , الزراعة , العمل , الشئون العامة ) ولم تفلت من يديه سوى وزارة التربية التي مثلت أكبر مطالبه , واستعاض عنها بوزارة الثقافة التي ستساعده في تطوير أنماط التوجهات الثقافية والإنفاق الحكومي بشأنها , ولقد حقق نتائج نوعية في أول تجربة يخوضها , يلخصها الكاتب الإسلامي الخبير بالشأن التركي مصطفي الطحان تعليقا على تحالف حزب السلامة مع حزب الشعب كالتالي " أنه من أعظم المكاسب التي استفادت منها الحركة الإسلامية على امتداد ثلث قرن , فقد شهد البروتوكول الموقع بين الحزبين , تراجع حزب الشعب الذي وقع معاهدة لوزان عن بعض شروطها , مثل :
- الاعتراف بالإسلام السياسي والائتلاف مع الحزب الذي يمثله .
- تقرير تدريس مادة ( الأخلاق ) أى الدين الإسلامي في المدارس الحكومية .
- إمكانية أن يلتحق خريجوا المدارس الدينية بكل الكليات الجامعية في البلاد ... بما فيها كلية الشرطة ... وكانوا من قبل لا يستطيعون دخول أية كلية باستثناء كلية الشريعة .
- تسلم حزب السلامة الوطني وزارة الداخلية التي تلعب دورا هاما في حياة الدولة , بالإضافة إلى سبعة وزارات أخرى ومنصب نائب رئيس الوزراء.
- اتفقوا على إخراج مساجين الرأي, ودعم الحريات العامة , وحرية الصحافة ..
هذه الشروط لا يستطيع إبرامها إلا رجل ذكي محنك مثل نجم الدين أربكان " كما أنه تمكن ببراعة أن يستقطب عددا من الناخبين الأتراك المترددين بشأنه عندما حفظ الكبرياء التركي , وخاصة في موقف أوروبا المراوغ في ضم تركيا ضمن الاتحاد الأوروبي , على اعتبار أن الاتحاد ناد للأمم المسيحية كما جاء في تلميحات بعض قيادات دوله , وقد هز هذا التعصب المسيحي ثقة كثير من الأتراك بمبادئ أتاتورك , ويؤكد ذلك الخبير الأمريكي ماكوفسكي فهو يري أن عدم استجابة الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة للمطالب المتكررة للعلمانيين الأتراك بالانضمام للإتحاد الأوروبي قد وظف من قبل حزب الرفاه ودعايته السياسة , خاصة بعد رفض اتفاقية الاتحاد الجمركي وربطه مع جرى من مذابح للبوسنة ضد المسلمين , ودور اللوبي اليوناني في الكونغرس الأمريكي في تعطيل صفقة الأسلحة . قد هز كل ذلك صورة العلمانيين في تركيا وأفقدتهم شعبيتهم مقارنة بالإسلاميين الذين رفض زعيمهم دعوة الاتحاد الأوروبي للعشاء تأكيدا لكبرياء الأتراك , كما رفض الرد على تهنئة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتياهو ودعوته لزيارة إسرائيل.
الملاحظة الرابعة : لقد نجح أردوغان في تحقيق كثير مما كان يصبو إليه أربكان دون اللجوء إلى نموذج أربكان المطور , فلقد استوعب أردوغان طبيعة الدولة النمطية الحديثة واحترم كافة متطلباتها حتى لو اصطدمت بالمفاهيم السياسية لدار الإسلام والتزم بكل مقتضيات النظام الدولي المعلنة والضمنية كدولة أوربية تسعي لدخول الاتحاد وعضو مهم في حلف الناتو , ولم يدخل في صدام مع قادة النظام الرأسمالي كما فعل أربكان , واستثمر بمهارة طبيعة الظرف الدولي التي أعلن فيها بوش الثاني مع نهاية علم 2002 , وبداية عام 2003 ثلاث استراتيجيات للولايات المتحدة الأمريكية , والتي تعيد بناء بعض المفاهيم السياسية على قواعد مغايرة لما هو معمول به وفق الشرعية الدولية, حيث منح السلام العالمي مفهوما جديدا مرتبطا بمبادئ الديمقراطية , وجاء مصحوبا بمبادرة أخرى حول الشرق الأوسط الكبير الذي تعد فيه أمريكا المنطقة بالديمقراطية والتنمية , وخاصة بعد القرار الغربي الضمني الذي يميل إلى الاستعانة بالإسلاميين المعتدلين لنشر الديمقراطية والحكم الصالح وإتاحة الفرصة للمشاركة الكاملة بلعبة الحكم واستطاع أربكان أن يزرع قدرا من الثقة بنموذج حكمه , مما شجع الغرب للمضي بهذا القرار الضمني على مستوى الشرق الأوسط الكبير ودفعه للاعتماد عليه في حفظ مصالحه أكثر من العسكر الذي لم يعد أسلوبه متماشيا مع المرحلة الراهنة , واقتضي كل ذلك تشجيع تركيا على توطيد علاقاتها مع العالم الإسلامي وشعوبه وحركاته السياسية .
والترويج لنموذج حكمه داخل هذه الحركات , تلك التي كانت مرفوضة إبان حكم أربكان , ولقد قال رجب طيب أردوغان " حزب العدالة والتنمية ليس حزبا محليا فقط لكنه مرشح أيضا ليكون نموذجا عالميا , نجحنا في أخذ مكاننا في الساحات التركية والآن سنثبت للعالم أن الإسلام والديمقراطية يلتقيان ولا يتصارعان على عكس مما يدعي البعض " إن السياسات التي اتبعها أردوغان في تنفيذ النموذج التركي حققت كثيرا مما كان يصبو إليه أربكان دون اللجوء إلى سياساته الاستفزازية .
أما على مستوى الداخل , فلقد استفاد من تجربة تورغوت أوزال التي كانت أول انشقاق في مللي جوروش وتكوين حزب الوطن الأم , ورغم نجاح أوزال في استقطاب الغالبية من أنصار أربكان , وتحقيق الفوز الكاسح في الانتخابات , إلا أنه لم يستطع أن يحافظ على فوزه عندما لم يتصد لشبكات الفساد التي كانت تعبث بالاقتصاد التركي وتتسرب إلى حزبه , لقد عرفت جماعة أربكان عند الكثير من الأتراك بأنهم أناس مخلصون منكرون للذات , بينما ينظر للزعماء العلمانيين بأنهم أنانيون ومنتفعون , وهو ما أكده ماكوفسكي " فقد اشتهر عن المسئولين الإداريين من أعضاء حزب الرفاه بأنهم ذوو الأيدي النظيفة حيث عرفهم الشعب التركي بالتزامهم واستقامتهم مقارنة بحالات الفساد المتواصل التي كانت تؤشر على العلمانيين " لقد أدرك أردوغان ذلك فسعي لتقليص الفساد بالقدر الذي تتيحه لعبة السلطة مع الرأسمالية الدولية , ورغم أن نظافة يد حزبه تقل عن جماعة أربكان إلا أن المقارنة مع التيارات العلمانية واليسارية تظهر فارقا كبيرا في النزاهة لصالح أردوغان , ولذلك يعتبر أردوغان أن نجاحه متوقف على ذلك ويردد في لقاءاته الصحفية " فتحنا الطريق أمام القطاع الخاص ... وكافحنا الفساد بشكل جيد "
الفصل الخامس
النموذج المقترح لحكم الإسلاميين
شهد مطلع القرن الماضي إرهاصات ولادة قرن بلا خلافة إسلامية , ولقد احتشدت في هذه الحقبة مشاعر وأفكار ومخاوف , وأمال متباينة ومتفاوتة تعبر عن التطورات السريعة التي شهدتها المنطقة العربية والإسلامية , فلقد كانت الخلافة مفهوما يستمد القادة والساسة والعسكريون منه الشرعية الدينية , يقول الدكتور محمد محمد حسين " كانت النزعة الإسلامية غالبة على العصبية الجنسية والرابطة القومية في مصر , إلى أوائل القرن العشرين , ولذلك لم يكن المصريون يجدون غضاضة في الاعتراف بسلطة الخليفة التركي , وحين ثار عرابي على فساد أساليب الحكم في مصر وعلى تغلغل النفوذ الأجنبي لم يخطر بباله أن يخلع طاعة الخليفة أو يخرج عليه , فهم يعرض عليه خطواته مستمدا منه السلطة في كل ما يفعل , وقد أحدث قرار إلغاء منصب الخلافة عام 1923م زلزالا صادما للمسلمين في كافة أرجاء العالم , عبّر عنه الأدباء والشعراء والكتاب بصور مختلفة , نورد مثالا عنه ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي
وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة
تبكي عليك بمدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس
أمحا من الأرض الخلافة ماح ؟
وشعر المسلمون بفراغ سياسي للمنصب الرمز الذي تستمد منه الشرعية , وكان رد الفعل الساخط يساوى حجم الصدمة القاصمة , وكانوا يعتقدون أن ما يحتاجه الإسلام حينذاك هو المطالبة بإعادة الخلافة الإسلامية كرد فعل لانهيار الدولة العثمانية ورغم صعوبة تحقيق هذا الهدف كانت النفوس مهيأة له في ظل أجواء تلط المرحلة التي ترعرع جيلها في ظل الخليفة العثماني , وكان الاتجاه السائد حينذاك هو وجوب استمرار الخلافة بانتقالها إلى بلد إسلامي آخر كمصر أو الحجاز أو غيرهما , وجاءت محاولات لشغل هذا المنصب – في تلك الفترة – من الملك حسين بن على ملك الحجاز وأمان الله خان ملك الأفغان , كما راجت فكرة ترشيح الملك فؤاد ملك مصر كخليفة بديل ,
وبعدها وقع أربعون عالما من الأزهر على عريضة يعربون عن رأيهم بعدم صلاحية مصر لتكون دارا للخلافة بسبب تسلط الانجليز عليها , وحمى وطيس الكتابة في أمر الخلافة حتى أصبح حديث الساعة والشغل الشاغل للصحافة , وأصبحت فكرة الخلافة بحد ذاتها مجالا للنقاش الفكرى بين غالبية مؤيدة وأقلية رافضة , كما عقدت اجتماعات شتى في مختلف بقاع العالم الإسلامي تمخضت عن ضرورة عقد مؤتمر عام يحضره ممثلون عن الدول الإسلامية كلها , وبعد ثلاث سنوات من إلغاء الخلافة انعقد المؤتمر آخر الأمر – بعد أن تأجل مرتين قبل ذلك – في مايو 1926م , وحضره أربعة وثلاثون عضوا يمثلون أنفسهم لينتهي بفشل وإعلان مخيب للآمال , حيث قرر المؤتمر أن " الخلافة الشرعية المستجمعة لشروطها المقررة في كتب الشريعة الغراء , التي من أهمها الدفاع عن حوزة الدين في جميع بلاد المسلمين , وتنفيذ أحكام الشريعة الغراء فيها لا يمكن تحقيقها بالنسبة للحالة التي عليها المسلمون الآن " لقد تم التراجع عن هدف إعادة الخلافة الإسلامية وتأسست فتوى العلماء المجتمعين من مختلف بقاع الأرض على مبدأ عدم ملائمة الظروف .
البحث عن الهدف
أدرك المسلمون أن الإسلام في ظل الظروف الدولية القائمة آنذاك لا يحتاج إلى خلافة بقدر ما يحتاج إلى الاستقلال , فالخلافة لا تقوم في بلدان ترزح تحت حكم الاستعمار , لذا استسلموا لعمليات التقسيم والتجزئة والأقطار المصطنعة وتطبعوا بالآصرة القطرية , بينما هبت موجة من حركات الاستقلال في معظم أقطار العالم العربي , في العراق وسورية وليبيا ومراكش , والتي قابل الاستعمار بعضها بمنح استقلال صوري لبعض الأقطار , كاستقلال العراق الذي قال فيه معروف الرصافي :
وأوطان وليس لها حدود
وأجناد وليس لهم سلاح
ومملكة وليس لها نقود
وكم عند الحكومة من رجال
نراهم سادة وهم العبيد
وليس الانجليز بمنقذينا
وإن كتبت لنا منهم عهود
ومع نشوء الدولة القطرية في العالم العربي برز مفهوم العلمانية الذي يسعي لوضع جميع المواطنين على مسافة واحدة من الحقوق والواجبات في الوطن الواحد بغض النظر عن دياناتهم وعقائدهم , وهو ما عرف بمبدأ فصل الدين عن الدولة وهو مفهوم سياسي مستحدث في ديار المسلمين , خاصة لذلك الجيل الذي عاش تحت ظلال الخلافة , وجلبت الدولة المعاصرة معها أفكارا جديدة حول الانتماء القومي والهوية السياسية والاقتصاد بعضها سعى للعودة بالأصول التاريخية لما قبل الإسلام , وبعضها ذهب مذهبا قوميا عربيا , وبعض آخر طالب بالذوبان في الهوية الغربية , وآخرون طالبوا بهوية أممية وتحرير الإنسان من ظلم الرأسمالية ونشأت أجيال تطبعت على آصرة الأقطار التي تعيش فيها , واختلطت الأمور وتشابكت وتعددت الجبهات أمام العاملين للإسلام ,
وفي ظل هذه الظروف تضاءلت الأفكار المتعلقة بالخلافة لينحصر هدف أولئك العاملين بتطبيق الإسلام في الإطار القطري أو الوطني , وعلى إثر ذلك نشأت حركات إسلامية مختلفة هدفها الحفاظ على الإسلام كأساس للهوية , فسلك بعضهم مسلكا خيريا مثل جمعية الشبان المسلمين , وبعضهم مسلكا اجتماعيا مثل جماعة التبليغ والدعوة وبعضهم مسلكا سياسيا كحزب التحرير وبعضهم مسلكا جامعا مثل جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية بباكستان ولعل أبرز تلك الجماعات التي قامت بتلك الفترة هي جماعة الإخوان المسلمين التي رأت أن الخلافة هدف استراتيجي لا يتحقق في مرحلة واحدة وجعلته المرحلة الأخيرة ضمن مراحل متعددة , وهو ما أكده مؤسس جماعة الإخوان الإمام حسن البنا في رسائله حيث اعتبر أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية وشعيرة يجب الاهتمام بشأنها , واعتبر منصب الخلافة مناط كثير من الأحكام كما اعتبر العمل على إعادتها في رأس منهجهم لكنها مرحلة ضمن إستراتيجية بعيدة المدى تتضمن مراحل عدة يمكن أن تبدأ بالتعاون الثقافي والاجتماعي والاقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها , ثم تكوين أحلاف ومعاهدات ومؤتمرات بينها , ثم تكوين عصبة للأمم الإسلامية ينتج عنها اختيار الخليفة ,
ولكنه بجوار هدفه الاستراتيجي وضع هدفين لمرحلته الأول : تحرير الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي , والثاني : أن تقوم دولة إسلامية في هذا الوطن الإسلامي المحرر , وحدد ثلاثة وسائل لتحقيق تلك الأهداف هي الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل , ليبدأ عنده مشوار إقامة الدولة بأولويات المرحلة كالتالي : إعداد الفرد المسلم إعداد المجتمع المسلم , إقامة الدولة المسلمة , غير أن هذا الطريق الطويل وغير المباشر دفع حزب التحرير ليعلن في مطلع الخمسينات أن الطريق إلى دولة الخلافة لا يحتاج إلى هذه المراحل من الإعداد والتجهيز لأنه عملية فكرية وسياسية , فعاد ليتبني فكرة إعادة الخلافة من جديد بعد أن أعلن المؤتمر الإسلامي للخلافة عام 1926 بعدم إمكانية إقامتها في ظل الظروف القائمة , وبناء على ذلك تقدم بطلب ترخيص لحزب سياسي رسمي في الأردن لتحقيق أهدافه من خلالها ويعتبر الحزب من أوائل من أصدر مشروع دستور لدولة الخلافة التي يتصورها ,
أما الإخوان فرغم أنهم أعلنوا نهجهم المرحلي في إقامة الدولة الإسلامية إلا أن تاريخهم حفل بمعارك الصراع على السلطة مع الأنظمة القائمة في كثير من الأقطار , وهو ما جعل الأنظمة تتخذهم خصوما سياسيين وتضييق عليهم وتزجهم بالمعتقلات والسجون والمحاكمات الظالمة , الأمر الذي دفع المفكر الإسلامي البارز سيد قطب في منتصف الستينات يعيد صياغة فكر الإخوان ويعتبر العمل السياسي في ظل النظام الدولي الراهن مضيعة للجهد والوقت , وطالب الإخوان بالعودة إلى تعاليم حسن البنا التي حددها في الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل لبناء الفرد المسلم والمجتمع المسلم , غير أنه في مطلع الثمانينات أعاد المرشد الثالث عمر التلمساني الإخوان من جديد إلى حلبة العمل السياسي ,
ورغم أن الإخوان لم يراجعوا إستراتيجية الخلافة ولا أهدافها التي وضعها حسن البنا منذ أربعة عقود , إلا أن مجمل أعمالهم وممارساتهم تقود إلى أنهم أكتفوا بالتحول إلى قوة ضاغطة بالمجتمع والسياسية إذ شهدت العقود الثلاثة الأخيرة لهم جهدا تعبويا في حشد الأنصار والمؤيدين وأعمالا خيرية لسد احتياجات الناس , ونشاطا سياسيا في النقابات والمجالس الانتخابية , ولعل المراجعة الوحيدة للأهداف هي تلك التي تمت لدى تنظيم الإخوان المسلمين بالكويت في مطلع الثمانينات , حيث اعتبر أعضاؤه أن الكويت كدولة صغيرة لا تعد صالحة كمسرح لقيام دولة إسلامية , وأن السعي لإصلاح النظام القائم أجدى من محاولات تغييره , وهو ما أدي إلى إلغاء هدف إقامة الدولة الإسلامية من نظامهم كسابقة أولي في التنظيمات القطرية للإخوان المسلمين .
وكانت هذه المرة الأولي في تاريخ الإخوان المسلمين التي يشطب فيها هدف إقامة الدولة الإسلامية من النظام الأساسي لتنظيم قطري .
يتضح من العرض السابق التالي :
- 1. إن إعلان علماء الدين بعدم إمكانية تنصيب خليفة للمسلمين عام 1926م كان رأيا قائما على فهم سياسي للواقع ومراعيا متطلبات الفتوى الشرعية , فقد اعتمد هذا الموقف على تحليل المشهد السياسي وفحص عناصر القوة عند المسلمين وعند خصومهم , وعندما تأكدوا أن المسلمين فاقدوا الاستقلال الحقيقي وأن قراراتهم الخارجية تخضع لإرادة الدول الكبرى , أدركوا أنه لا جدوى من تنصيب خليفة , ما لم يتم طرد المستعمر وتحرير البلاد منه , وهو ما عرف فيما بعد بالاستقلال .
- 2. إن الاستقلال الذي عناه علماء 1926 م كان يعني أن تكون إرادة المسلمين حرة ومتساوية مع غيرها من الأمم والأديان , وأن تكون عصمة دمائهم وأموالهم بيدهم لا بيد خصومهم , وهو يختلف عن الاستقلال الذي نالته كل الدول الإسلامية بعد الحرب العالمية الثانية , والذي يجعل أمة الإسلام خاضعة لنظام عالمي تتحكم فيه نفس الدول التي كانت مصنفة بأنها مستعمرة ومحتلة , وهي نفسها التي منحت هذا الاستقلال المنقوص .
- 3. إن من الجماعات الإسلامية التي سعت لإقامة دولة مسلمة في أقطارها , أو أسلمة الدولة القطرية الحديثة , لم تملك الوعي الذي كان لدى علماء 1926م , فهم إما لم يدركوا أن أقطار المسلمين لم تحظ باستقلال حقيقي في ظل النظام الدولي القائم , أو لم يعلموا أن دولة الإسلام لا تقوم على إرادة منقوصة , ولا تكون عصمة أموالهم ودمائهم بيد غيرهم .
- 4. أما الذين كان لديهم الوعي الكامل بطبيعة النظام الدولي وحقيقة الاستقلال الممنوح للأقطار الإسلامية فقد ساروا في ثلاثة اتجاهات : الأول تربوي والذي مثله سيد قطب , والثاني جهادي ومثله عبد الله عزام , والثالث براغماتي ومثله أربكان .
- 5. في الاتجاه الأول طالب سيد قطب الإسلاميين بالانصراف عن العمل السياسي وأنشطته طالما أن النظام الدولي لن يتيح إقامة دولة إسلامية مستقلة تتساوى في حقوقها وواجباتها مع الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي , ورأي أن ما يحتاجه الإسلام في مثل هذا الظرف التاريخي , الذي يتشابه , من الناحية السياسية مع الجاهلية الأولي التي نشأ فيها الإسلام : هو إنشاء جيل يستمد تصوراته وأفكاره عن الكون والحياة والإنسان من القرآن الكريم , وأن مثل هذا الجيل يجب أن يحافظ على تكوينه من آثار المجتمع الدخيلة , وذلك بإحاطته بجدران من العزلة الشعورية , ويري قطب أن نشوء مثل هذا الجيل وتأثيره على محيطه العام كفيل بأن يمهد الطريق للاستقلال الحقيقي للمسلمين .
- 6. غير أن هذا الاتجاه فسر على غير مقصده بعد إعدام منظره الأول : إذ فهم من المطالبة بالنأى عن العمل السياسي أنه اعتزال لبقية أنشطة المجتمع المختلفة وأدى إلى تطرف فكرى يتهم المجتمع تارة بالكفر وتارة بالجاهلية ونشأت عنه جماعات اعتزلت المجتمع برمته وسكنت المناطق غير المأهولة تحت دعوى الهجرة وانتهي أمرها كله بالصدام مع السلطات الرسمية .
- 7. وفي الاتجاه الثاني طالب عبد الله عزام الإسلامي بصرف جهودهم على جبهات القتال التي يقاوم فيها المسلمون قوات احتلال لأراضيهم أو يقاتلون لحفظ كياناتهم ضد الإبادة , مثل فلسطين وأفغانستان والمسلمين بالفلبين وتايلند والشيشان , ورأي عزام أن جبهات القتال هي أفضل الوسائل لإعداد المسلمين , فضلا على أنها تصنع قوة حقيقية على أرض الواقع تجبر النظام الدولي على احترامها , ويبني عزام توجهه هذا بناء على قراءته للتاريخ الإسلامي وفق ما جاء بالحديث المروي عن النبي صلي الله عليه وسلم " ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا " ويرى أن الهزائم المتتابعة لأمة الإسلام سببها تركها للجهاد .
- 8. ورغم أن عزام نفذ تصوره للحل الإسلامي بالقتال على الجبهة الأردنية الإسرائيلية تحت مظلة منظمة " فتح " مع مجموعات من الإخوان المؤمنين برؤيته , ثم بعد ذلك بالقتال ضد السوفييت على الجبهات أفغانية , إلا أن توجهه هذا انتهى بعد اغتياله إلى قيام جماعات جهادية مناوئة للنظام الدولي كثير منها من صنع المخابرات ورجال الأمن بالعالم لإثارة الفوضى داخل الحركات الإسلامية والإساءة إلى الإسلام , لذلك تميزت أعمالها بالعنف الذي يمحو الأخضر واليابس ويقضي على المذنب والبرئ , وعكست معظم عملياتها حروبا خفية بين مخابرات الدول , ونقلت مواجهاتها القتالية من ميادين القتال الحقيقية إلى إرهاب الدول المجتمعات , وانتهى حالها باصطفاف عالمي ضدها وحرب مواجهة سميت الحرب على الإرهاب , أما القليل الذي تأسس وفق منظور عزام فقد ضاع في غمرة الفوضى التي خلفتها الغالبية المتورطة بالعمالة .
- 9. أما في الاتجاه الثالث , فجاء نتيجة دراسة اتفاقية لوزان ومقررات مؤتمر كامبل , والتي قادت البروفسور أربكان إلى الاعتقاد بصعوبة قيام دولة إسلامية مستقلة في ظل النظام الدولي القائم , ولذلك وجه فكره لاستكشاف ما يحتاجه الإسلام في عالم يسيطر عليه خصومه , وانتهي تفكيره إلى التوجه للعمل داخل النظام الدولي ووفق قوانين اللعبة الدولية , فإذا كانت قوانين اللعبة تعارض قيام دولة إسلامية مثلما تعارض قيام دولة نازية لكنها لا تعارض بناء اقتصاد صناعي قوى مثل ما حصل في ألمانيا المهزومة , فالاقتصاد القوى قلب المهزوم منتصرا وجعله يتصدر القرار الأوروبي , وقوانين اللعبة لا تحظر على الدين أن يشكل قوة اجتماعية ضاغطة في دولة علمانية كما هي الكنيسة في الغرب واللوبي اليهودي في أمريكا لذلك رأى أن المرحلة الراهنة تتحمل بناء دولة علمانية للمسلمين ذات اقتصاد صناعي قوى , وقوة ضغط إسلامية داخل المجتمع تتزود بثقافة دينية وروحية من خلال الدعوة الإسلامية .
- 10. حقق أربكان نتائج مذهلة بتجربته في تركيا , وتعود العقبات التي واجهها في مسيرته إلى سببين الأول : أن العلمانية المطبقة في تركيا تختلف عن العلمانية الغربية , فهي لا تسعي لفصل الدين عن الدولة فقط . بل وفصله عن المجتمع , ولقد استفاد تلميذه أردوغان من سعيه للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لتحويل العلمانية التركية وجعلها متوافقة مع العلمانية الأوروبية وذلك بإتباع الشروط والمعايير الأوروبية اللازمة للحصول على عضوية الاتحاد أما السبب الثاني : فلأن أربكان غير توجهه بعد اتصاله بالمشرق الإسلامي وجعل سياساته تتحدى النظام الدولي والرأسمالية الغربية , وهو ما دفع تلاميذه – بعد الانفصال عنه – للإصرار على المضي بنفس الاتجاه .
ماذا يحتاج الإسلام في هذه المرحلة ؟
التفكير بالنموذج الملائم الذي يجب أن يستخدمه الإسلاميون لحكم الدولة المعاصرة يقودنا إلى السؤال التالي : ماذا يحتاج الإسلام على المستوى السياسي في المرحلة الراهنة من التاريخ ؟ فالإجابة على هذا السؤال ستساعدنا على توجيه تفكيرنا نحو صناعة هذا النموذج .
أولا : إذا كانت الإجابة هي الاستقلال كما انتهى علماء 1926 م في ردهم على هذا السؤال , فإن الاستقلال الحقيقي الكامل لم يعد متاحا لأمة من الأمم , أو دولة من الدول بعد التشابك والتداخل في تكوين النظام الدولي الراهن , فحتى الصين وروسيا اللتان تحظيان بالعضوية الدائمة بمجلس الأمن لا تزالان ترزحان تحت سطوة الدولار الأمريكي , والذين يعتقدون أن لديهم قدرة على إبقاء دولتهم حية خارج نطاق النظام الدولي فإن تجربة طالبان شاهد حي على النتيجة المتوقعة فهذه التجربة الوحيدة التي قامت وفق مفاهيم الدولة في دار الإسلام , وخارج نطاق النظام الدولي , ولكنها انتهت بحرب شاركت فيها كل الدول الغربية بلا استثناء .
ثانيا : وإذا كانت الإجابة هي الحصول على سلطة سياسية يستفيد منها الإسلام بتطبيق بعض أحكامه من خلال المزاوجة ما بين الإسلام والدولة الحديثة المعاصرة , بمعني أسلمة الدولة الحديثة فإن ذلك لن يحقق للإسلام نفعا كبيرا حيث ستتحول عملية تطبيق الإسلام إلى عملية انتقائية , مرجعها ما يتلاءم أو يقبله القانون الدولي ونظامه , وإذا ما تمت الأسلمة وفق النموذج الإيراني , أى اختطاف السلطة ,
فإن ذلك يعني فرض نظام شبه إسلامي بالقوة وقسر الناس عليه , واستبعاد بقية القوى السياسية الأخرى الأمر الذي يعطي حقا لها بمحاربته والتآمر عليه طالما أن الأسلمة تعني حكم الحزب الواحد وإقصاء الآخرين , مما يجعل الإسلاميون يواجهون جبهات شتى في الداخل والخارج , ويعطي القوى المعزولة والمستبعدة الحق في المعاملة بالمثل إذا آل الحكم إليها من جديد , ورغم أن مثل هذا الأمر يزعزع استقرار الحكم إلا أنه كذلك يطبع الإسلاميين بختم أعداء الديمقراطية .
أما إذا كانت الأسلمة ستتم وفق العملية الديمقراطية , أى باستخدام الأغلبية في المجالس التشريعية وصناديق الاقتراع , فإن ذلك قد يكون مقبولا طالما تم الالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية , ولكن تطبيق أحكام الشريعة وفق مبدأ تناوب السلطة له عواقب وخيمة على البنية التشريعية والجهاز الإداري للبلاد , فأى استقرار لتلك البنية التي إذا ما تبدلت الأغلبية البرلمانية تتبدل معها ؟ فالقانون الإسلامي الذي يصدره الإسلاميون في فترة حصولهم على الأغلبية البرلمانية سيكون عرضة للإلغاء عندما يفقد الإسلاميون هذه الأغلبية , ما لم يتم الأمر بالتوافق السياسي بين معظم الأطراف .
ثالثا : أما إذا كانت الإجابة على السؤال المطروح هي إعداد الفرد المسلم والبيت والمسلم للوصول إلى المجتمع المسلم والدولة المسلمة , فإن هذه الإجابة قد تمثل جزءا من حاجة الإسلام , فالتربية ونشر الوعي الإسلامي هما حاجة ماسة وضرورية للإسلام في كل عصر وزمان ,
ولكنهما يواجهان تحديات كبيرة في هذا العصر , أولها ذلك الفيضان الزاخر من القيم والتصورات والأفكار وأنماط المعيشة التي تتدفق في مناهج التربية وأدوات المعرفة المعاصرة ووسائل الترفيه وأدوات التواصل الاجتماعي الحديثة , وثانيهما التضييق والملاحقة , والسجن وأحكام الإعدام التي تواجهها الجماعات الإسلامية الساعية لإعداد أجيال مجندة للإسلام , ثالثهما مستوى المعيشة المتدني لدي أقطار المسلمين , والتي تدفع الغالبية من الناس للبحث عن الأولويات الفردية للمعيشة من مأكل وملبس ومسكن , وتؤخر قضايا الأمة في قائمة أولوياتها , فليس كل الجائعين المتشبثين بالحياة يشغلون بالهم بكرامة الأمة وكبريائها , وما لم تحط عملية التربية والتوعية بحماية نظام سياسي يتيح الحريات والأمان للجميع فإن هذه الجهود ستغرق في الطوفان .
رابعا : أما إذا كانت الإجابة على سؤالنا هي : القتال في سبيل الله , أى مقاتلة أركان النظام الدولي القائم وزعزعة استقرار الأنظمة المحلية القائمة , فإن ذلك يعد انتحارا جماعيا في وجه اصطفاف عالمي مدجج بأشد الأسلحة فتكا وتدميرا فالمعركة لن تكون في مواجهة دولة او كتلة كما حدث في حرب تحرير أفغانستان , حيث استفاد المسلمون المقاتلون من الدعم العسكري والمالي والمعنوي للكتلة المناوئة للمعسكر الشيوعي , إنما ستكون بين دول العالم بأسره , ولقد قدمت جماعة طالبان نموذجا لهذا الاتجاه , ورغم أن الدعم الذي حصلت عليه للسيطرة على بقية أفغانستان – في البداية – كان بهدف توفير نظام آمن بالبلاد , لكنها عندما وفرت الحماية لمجموعة مقاتلة اشتهرت باسم القاعدة , تلك التي تبنت جريمة تفجير ناطحات السحاب بنيويورك , حينها وجدت العالم كله ضدها , ووجدت أن كل ما تملكه – هي – من سلاح وقوة لا يقوى على مواجهة سيل النيران المتقاذف عليها .
خامسا : إن ما يحتاجه الإسلام في ظل الظروف الراهنة ثلاثة أمور , الأول : هو الاقتصاد القوى الذي يضمن حاجات المواطن الأساسية من مأكل وملبس ومسكن داخل مدينة عصرية مكتملة البني والخدمات , والثاني : الحكم الرشيد – أو ما يطلق عليه " الحوكمة - الذي يضع نصب عينيه تحقيق العدالة بين المواطنين , وينظم العلاقات بين النظام التعليمي ومشاريع التنمية بشكل صحيح , ويدير الدولة وفق معايير النزاهة والشفافية ويقلص الفساد في أدني حدوده , والثالث : الديمقراطية التي تحمي الحريات العامة وتوفر الأمن للأفراد وتضمن مبدأ الاختيار بالانتخاب ومبدأ تداول السلطة بين الأحزاب السياسية , في الإسلام لا يحتاج شعوبا مرهقة ضعيفة سعيها في الحياة اللهاث وراء لقمة العيش , إنما يريد شعوبا تملك من العزة والكرامة ما يجعلها تسعى لمنافسة بقية أمم الأرض , وهذا لا يتأتي إلا بتوفير الحياة الكريمة والعيش الآمن وأجواء من الحرية .
حاجات الإسلام الفعلية في هذا العصر
- أولا : لماذا يحتاج الإسلام إلى اقتصاد قوى ؟
منذ أكثر من مائة سنة , عندما كان العالم الإسلامي يرزح تحت نير الاستعمار عقد الدول الاستعمارية مؤتمرا بلندن , عرف فيما بعد بمؤتمر كامبل بلتمان , وذلك لاستعراض الأخطار التي يمكن أن تنطلق من تلك المستعمرات فاستبعدت كل من الهند والشرق الأقصى وإفريقيا والمحيط الأطلسي والهادئ لبعدها عن أوروبا وانشغالها بمشاكلها الدينية والعنصرية والطائفية , وتم التركيز على المناطق التي تملك روح الممانعة والمقاومة ضد الاستعمار , وبالأخص المناطق العربية من الدولة العثمانية , ورأي المؤتمر أن خطورة الشعب العربي تأتي من الأواصر العديدة التي يملكها , مثل : وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد السكان , ورأى المؤتمر ضرورة العمل على استمرار التخلف في المنطقة العربية وحرمانها من اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أى اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية وعلى إيجاد التفكك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الأوروبية وخاضعة لسيطرتها ولذا أكدوا على فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوى وضرورة إقامة الدولة العازلة عدوة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية وهكذا قامت إسرائيل لقد أدرك المخططون في مؤتمر كامبل إن إبقاء المنطقة العربية والإسلامية في إطار التخلف والفقر كفيل بحبس المسلم في دوامة البحث عن لقمة يومه والعيش الكريم وعامل أساسي في بث روح الضعف والوهن في الأمة , وهذا ما أثبتته الأيام بعد مائة عام من نجاح مذهل لمقررات مؤتمر كامبل بلتمان , إذ مر المسلم خلال القرن الماضي بسلسلة من التقلبات , فلقد كان يتمتع بروح ممانعة قوية ضد الاستعمار تدفعه للانتفاض ضده وخوض حروب تحرير , وبعدها ضعفت ممانعته ليكتفي بالإعلان عن غضبه وثورته في ساحات الخطابة والتظاهر ,
ويوم تلاشت ممانعته واعتراه الوهن تحول إلى كائن جلد يضع فوق ظهره كومة بؤس , وتراجعت فيها أولوياته لتتراوح بين اللهاث وراء الحاجات الفسيولوجية القابعة في قاع هرم الاحتياجات وتوفير الأمان , من سلامة جسدية وأمن أسري وصحي ووظيفي وتأمين موارد وممتلكات , وإذا ما تطلع إلى مستوى أفضل يقف سقفه عند حد تحقيق الحاجات الاجتماعية , لكنه يظل بمنأى بعيد عن الحاجة للتقدير أو الحاجة لتحقيق الذات , مرهون الإرادة لدي النظام السياسي الذي يطعمه .
كيف يستطيع الإسلام أن يستحق مرهوني الإرادة لنهضته وعزته ؟ إن الإسلام في حاجة إلى شعوب متحررة من الوهن والفقر والجهل , وهذا لا يحققه إلا اقتصاد قوى من داخل النظام الرأسمالي , إذ أن مجرد التفكير بتحقيق اقتصاد خارج الاقتصاد الرأسمالي يفتح أبواب التآمر والتضييق والعزلة وخلق المشاكل , فضلا على ما أثبتته التجارب والممارسات من صعوبة تحقيق مثل هذا الأمر في الظرف الراهن .
- ثانيا : لماذا يحتاج الإسلام حكما رشيدا في الدول الإسلامية المعاصرة ؟
دأبت أدبيات التنمية على وصف كيفية تصرف المؤسسات العامة في إدارة الموارد العامة وعلاقاتها مع القطاع الخاص وفق معايير النزاهة على أنه حكم رشيد , فقد أعلن صندوق النقد الدولي في عام 1996 أن " تعزيز الحكم الرشيد في جميع الجوانب , بما في ذلك ضمان سيادة القانون , وتحسين الكفاءة والمساءلة في القطاع العام والتصدي للفساد , هي من العناصر الأساسية الذي يمكن أن يزدهر فيا الاقتصاد فنجاح أية خطة تنموية وازدهار أى اقتصاد مرهونان بالحكم الرشيد .
وقد ابتليت الدول العربية والإسلامية بأنظمة ترعي الفساد بكل صوره بدءا من المساس بالمال العام ومرورا بالعبث بأراضي الدولة وشراء الذمم ودفع الرشاوى والاحتكار والمزاحمة التجارية غير المشروعة , وانتهاء بالواسطة والمحسوبية , ومع استمرار نخر هذه الأمراض في هيكل الدولة صارت الأجهزة الإدارية معطلة للتنمية مما جعل المواطن البسيط الذي يلهث وراء لقمة العيش يئن من تبلد وبطء وبيروقراطية الجهاز الإداري للدولة , وتولد غضب دفين آخذ في الانتفاخ يوما بعد يوم من الحكم الفاسد , انفجر في بعض الدول في وجه حكوماته الباطشة , وينتظر أن ينفجر في أى لحظة في وجه بقية أنظمة الفساد ..
إن السعي لبناء اقتصاد قوي لا يتم إلا في أجواء حكم رشيد , ولعل جمهورية سنغافورة نموذجا ناجحا لتطبيق الحكم الرشيد فرغم أن سنغافورة ليست دولة مكتملة الديمقراطية , ولا يتمتع شعبها بحريات كاملة ولا تملك من الثروات الطبيعية والمساحات الزراعية الواسعة ما يجعلها دولة غنية , ولكن استطاع أهلها بحكمهم الرشيد أن يصنعوا اقتصاديا قويا يصطف مع أفضل النماذج الاقتصادية في العالم وآسيا على وجه الخصوص .
إن حاجة الإسلام لحكم رشيد في دول المسلمين يصب بالدرجة الأولي لصالح الاقتصاد ولصالح الناس الذين يحتاجون - بجانب المعيشة الكريمة – خدمات عامة تصلهم بيسر وكرامة , فالاقتصاد القوى والحكم الرشيد يصنعان شعبا قويا يدرك معني الكرامة والعزة وهو ما يحتاجه الإسلام في دعوته .
- ثالثا : لماذا يحتاج الإسلام الديمقراطية ؟
بعد الضربات المتتابعة والمتلاحقة للإسلاميين خلال العقود الماضية , اكتشفوا أن العدو الأول للدعوة الإسلامية هو الأنظمة الشمولية في العموم , وأن أكثرها قسوة وشراسة تلك التي تجلبها الانقلابات العسكرية , لكنهم كذلك اكتشفوا أن الدعوة الإسلامية تحظي بحرية واسعة وأمانا موثوقا في ظل الأنظمة الغربية الديمقراطية , وكانت إذا ما ضاقت عليهم بلادهم أو ضيقت عليهم نظموا لقاءاتهم أو اجتماعاتهم أو مؤتمراتهم في تلك البلاد , وإذا ما اضطهدتهم حكوماتهم لجئوا للعيش في تلك البلاد , وتبين لهم أن النظام الديمقراطي هو الضمانة الأكثر وثوقا للدعوة للدعوة الإسلامية في ظل النظام الدولي المعاصر , لذا فإن سعى الإسلاميين لتثبيت دعائم الديمقراطية في بلدانهم ليس خدمة للناس فحسب بل حماية للدعوة الإسلامية كذلك .
إن كل الجهد الذي بذله الدعاة طيلة القرن الماضي في إعداد صفوف من الدعاة والمجاهدين , وفي الانتشار بالمدن وبالقرى وبالريف , وفي إنشاء مؤسسات خيرية واجتماعية واقتصادية وفي النتاج الفكري والثقافي الذي يملأ المكتبة الإسلامية , ما كان ليزول بقرار من حاكم أو حكم قاض في تهمة ملفقة لو كان هناك نظام ديمقراطي يحكم البلاد , فالديمقراطية هي خط الدفاع الأول لكافة الدعوات والأفكار فيما فيها الإسلام , وإذا كان الإسلاميون يظنون أنهم على ثقة من قدرتهم على هزيمة الأفكار الأخرى بالحجة والإقناع في أجواء الحرية , فلا يجب أن يتخوفوا من منح الآخرين نفس القدر من الحرية التي يطالبون بها وفي كل الأحوال لا يوجد داخل النظام الدولي القائم فرجة للإسلام ينطلق منها بحرية وأمان إلا في تلك الدول التي تتخذ الديمقراطية نهجا لحكمها , وإذا كانت القاعدة الفقهية تقول " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " فإن الديمقراطية تصبح واجبا شرعيا على المسلمين إذا تعذر حماية الدعاية الإسلامية بغيرها .
غير أن سعي الإسلاميين للديمقراطية يجب أن يتم لذاتها وليس بهدف استخدامها لاكتساب سلطة للإسلام , أى لا يكون اكتسابها وسيلة لأسلمة الدولة رغما عن الأقلية البرلمانية , إذ بمجرد ما تكشف القوى الوطنية الأخرى , والجهات الأجنبية ذلك , تنقلب الساحة السياسية إلى معركة لاسترجاع الديمقراطية من الإسلامية وإقصائهم إلى درجة قد تصل إلى سحب غطاء الأمان والحرية عن الدعوة الإسلامية .
إن وصول الإسلاميين لسدة الحكم من خلال الديمقراطية يجب أن يكرس لحاجات الإسلام الحقيقية لبناء أمة لبناء ذات اقتصاد قوى , ومن خلال رشيد وفي ظل نهج ديمقراطي وهذه أهداف لا يختلف عليها أحد من أفراد الوطن الواحد .
نموذج الحكم المقترح
بناء على ما تقدم , من عرض لنموذج الدولة الإسلامية في دار الإسلام ونقاش للمحاولات الثلاث التي قدمت نماذجها لخدمة الإسلام من خلال تولي سلطة الحكم في الدولة الحديثة واستعراض لطبيعة النظام الدولي الراهن ومساحات السماح الممكنة لخدمة الإسلام فيه , فإنه يمكننا عرض نموذج مقترح لحكم الإسلاميين الدولة الحديثة في ظل النظام الدولي الراهن , كالتالي :
أولا : نمط الدولة يلتزم الإسلاميون بنمط الدولة الحديثة , وبالأخص ما يطلق عليه في الأوساط السياسية الدولية المعاصر ب" الدول الإسلامية " التي لها عضوية بالمؤتمر الإسلامي , وهي دولة نمطية حديثة ذات سيادة تسودها مظاهر الإسلام وتسود غالبية سكانها ثقافة الإسلام , والحد الأدنى من هذه المظاهر والثقافة هو وجود المساجد , والصلاة فيها , ورعاية الوقف الإسلامي , والتعطيل يوم الجمعة , والاحتفاء برمضان والاحتفال بالعيدين , والتقيد بأحكام المواريث الشرعية والأحوال الشخصية والتزام الختان للمواليد الذكور , وإتباع شعار الدفن للموتى غير أن غالبية الدول الإسلامية لا تكتفي بهذا الحد الضئيل, بل تنص في دستورها على أن الإسلام دين الدولة الرسمي , وتشير إلى تعاليم الإسلام بصيغة من الصيغ كمصدر للتشريع , كما تجعل رعاية المساجد وإدارة الوقف الإسلامي ضمن مسؤولية الحكومة ,
وتضمن مناهج التربية والتعليم لديها بمادة للدين الإسلامي تقدم فيه قدرا من الثقافة الإسلامية وترعي معاهد دينية لتخريج الأئمة والوعاظ وعلماء الدين والقضاة الشرعيين وبعض منها جعل الجمع الاختياري للزكاة والصدقات من مسؤوليات الدولة , ومنهم من عدل تشريعاته المالية للسماح بقيام بنوك ومؤسسات استثمار لا ربوية , فرغم الأصل العلماني الذي قامت عليه الدولة النمطية المعاصرة إلا أنها وضعت اعتبارا كبيرا لدين الغالبية بالمجتمع , بما لا يؤثر أو يغير من حقوق وواجبات المواطنة لدي كل المواطنين .
وعليه , فإن نموذج حكم الإسلاميين للدولة المعاصرة يجب إلا يخرج عن طبيعة الدولة المعاصرة , ولا يتجاوز أصلها العلماني فيما يخص المواطنة , ولا يسعي لتغييره بأى حال من الأحوال ولكنه يجب ألا يقل عن الحد الأدنى المتبع في الدول الإسلامية من التبني الرسمي لثقافة الإسلام بالمجتمع .
ثانيا : نظام الحكم : يلتزم الإسلاميون بنظام الحكم الديمقراطي , ينتخب فيه الشعب ممثليه عن طريق الاقتراع , وتشكل فيه الأغلبية المنتخبة الحكومة , هذه الأغلبية تمثل أطياف المجتمع وليست عرقية أو إثنية أو دينية , تصون فيه الحكومة حقوق المعارضة , والحريات العامة كحرية التعبير وحرية العقيدة وحرية الاجتماع وحرية الصحافة , وتعمل هذه الحكومة على تكريس دولة القانون والمؤسسات الدستورية التي تحترم وتضمن حقوق المواطنين والمساواة , وتضمن الحفاظ على مبدأ فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية , كما ترسخ مبدأ المرجعية الدستورية لحل الخلافات بين السلطات الثلاث , أو أحد السلطات والمواطنين ويجب ألا يقبل الإسلاميون الوصول إلى سدة الحكم إلا من خلال صناديق الاقتراع , بحيث لا يعتبر أى نموذج يصل فيه الإسلاميون الحكم بغير ذلك مشروعا لديهم .
ثالثا : الممارسة السياسية : يعلن الإسلاميون برنامجهم الانتخابي الذين يسعون لتنفيذه في حال الفوز بالأغلبية , ويتضمن هذا برنامجا زمنيا للنهوض بالاقتصاد الوطني وتنمية الثروة البشرية وتلبية احتياجات المواطنين من خلال مشاريع ومقترحات لمصادر التمويل , كما يتضمن مقترحاتهم في دعم مؤسسات المجتمع المدني ودورها في صناعة القرار , وفي حالة فوزهم يجب أن يبددوا شكوك الآخرين المتعلقة باحترامهم لمبدأ المواطنة , ذلك بإشراك الأكفاء من المواطنين من الإناث أو ذوى الديانات والمذاهب والطوائف والأعراق الأخرى في تنفيذ برنامجهم فطالما أن الغاية التي يسعي لها الإسلاميون من السلطة هي غاية غيرهم من المواطنين , وهي التنمية الاقتصادية والحكم الرشيد والديمقراطية فلا مكان إذن للمخاوف أو التردد .
ويتعامل الإسلاميون مع مكونات الدولة المتعارضة مع مبادئ الإسلام والشريعة بالقبول والرعاية , فهم إسلاميون يديرون دولة علمانية كما يقول أردوغان وليس إسلاميون يريدون إلغاء العلمانية , فهم لن يلغوا مبادئ الاقتصاد الرأسمالي ليستبدلوه بمبادئ الاقتصاد الإسلامي , ولن يغيروا السياسة النقدية ويلغوا هيمنة الدولار واليورو والجنيه الإسترليني , كما أنهم لن يبدلوا النظام المعرفي ويستبدلون المناهج الدراسية والأكاديمية بمناهج أخرى , ولن يمنعوا السياحة بمفاهيمها الغربية , لن يحظروا الفنون والثقافة والسينما والمسرح والموسيقي والغناء وغيرها مما قد يتصادم مع برنامجهم الأخلاق فهذه الأنشطة المحلية كلها تنتمي لمنظومات دولية ضمن النظام العالمي وإنما يستطيع الإسلاميون إفساح الطريق لتكوين نماذج لا تتعارض مع مبادئ الإسلام والشريعة في موازاة تلك الأنشطة , فبإمكانهم إيجاد بنوك وشركات استثمارية ومصادر تمويل لا ربوية بجانب مصادر التمويل التقليدية وبإمكانهم اللجوء إلى الذهب والفضة بجانب العملات الأجنبية كغطاء للعملة المحلية , وبإمكانهم مع التزامهم بالنظام المعرفي القائم تشجيع نقده وإظهار عيوبه والدعوة لمراجعته وتطويره , كما يمكنهم إيجاد السياحة العائلية البديلة بجانب السياحة ذات المفهوم الغربي, وتقديم إنتاج ثقافي وفني ذي بعد قيمي وأخلاقي ينافس الإنتاج الراهن , فلقد أنتجت إيران الإسلامية أفلاما سينمائية ذات بعد قيمي وأخلاقي حازت على جوائز عالمية لم تحز عليها السينما المصرية العريقة ذات التاريخ المديد .
أما فيما يخص البرنامج الأخلاقي الذي يشكل اهتماما كبيرا لدى الإسلاميين فعليهم تنفيذه من خلال مؤسسات الدعوة الإسلامية الخاضعة لتنظيمات المجتمع المدني , ففي ظل هذا النموذج من الحكم , يجب ألا تستخدم قوة السلطة لتحقيق مكاسب للإسلام , فالإسلام يحقق مكاسبه بالدعوة والموعظة والحسنة والإقناع , ولا يحتاج اللجوء لتحويل مطالبه إلى تشريعات وقوانين إلا في الحدود الضيقة التي تسعها الدولة المعاصرة وإذا ما أستدعى الأمر تحويل مطلب إسلامي شرعي إلى تشريع أو قانون , فلا يتم ذلك من خلال الأغلبية البرلمانية , إذ أن الأغلبية غير ثابتة على مدار الدورات التشريعية , وبمجرد ما تنقلب الأقلية إلى أغلبية فإنها ستلغي ما أقرته الأغلبية السابقة , إنما يفضل أن تتم مثل هذه الأمور بالتوافق مع الكتل البرلمانية الكبيرة , حتى يكتسب هذا المطلب قبولا سياسيا ولا يكون عرضة لاستهداف الرافضين .
رابعا : السياسة الخارجية
تلتزم الدولة في ظل حكم الإسلاميين بالمواثيق والمعاهدات والقوانين الدولية وتعمل في إطار هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها , وتلتزم بقراراتها وتعمل على تنفيذها , كما تحترم الدولة المعاهدات والاتفاقيات التي تم توقيعها في ظل حكومات سابقة ما لم تكن مجحفة بحق شعبها , وفي مثل هذه الحالة تتبع الطرق القانونية والدولية لتعديل مثل هذا الإجحاف .
كما يولي الإسلاميون – في ظل حكمهم – العلاقات مع الدول الإسلامية أهمية خاصة , سعيا للتعاون والتنسيق والتكامل الاقتصادي , أسوة بما تفعله الأمم المسيحية الغربية في تجربة الاتحاد الأوروبي , ويسعون لتفعيل دور المؤتمر الإسلامي وتطويره لكي يكون مؤثرا في القرار الدولي .
ومع التأكيد على التزام الدولة – تحت حكم الإسلاميين – بمبدأ احترام سيادة الدول الأخرى , وعدم التدخل بشؤون رعاياهم , إلا أنها ستستخدم كل ما تتيحه المواثيق والقوانين الدولية لحماية الأقليات التي تتعرض للاضطهاد أو الإبادة أو هضم الحقوق في كثير من المناطق في العالم , وبالأخص الأقليات المسلمة بالخارج وستقوم بدفع الهيئات الدولية للقيام بدورها المطلوب , سواء في مجال الإغاثة أو حماية التراث أو القصاص أو غيره .
مــــــــــــــــــــلحق
الإسلاميون المعتدلون في ظل الاستراتيجيات الدولية الجديدة
بقلم د. إسماعيل الشطي
معهد الخليج للدراسات المستقبلية
ورقة كتبت خصيصا لحلقة نقاشية عقدت في منتصف 2005 من أجل مناقشة موضوع إمكانية تولي الإسلاميين الحكم في ظل التغييرات الدولية الأخيرة
لابد من ذكر حقيقتين نستهل بهما مناقشة مستقبل الإسلاميين المعتدلين في ظل الاستراتيجيات الدولية الجديدة , الحقيقة الأولي هي أن النظام الدولي الذي ساد خلال نصف القرن الماضي يشهد اختلالات وفراغات تستدعي إعادة صياغته من جديد , ولقد تمخض عن ذلك إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على الإعلان عن إستراتيجيتين في نهاية عام 2002 , الأولي تحمل عنوان إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية , والثانية تحمل عنوان الإستراتيجية القومية لمناهضة أسلحة الدمار الشامل , وفي مطلع عام 2003 أعلن الرئيس الأمريكي عن إستراتيجية ثالثة حول مناهضة الإرهاب بالعالم ,
ولقد جاءت هذه الاستراتيجيات بقواعد جديدة لا تتفق مع ما هو معمول به وفق الشرعية الدولية مما أثار لغطا كبيرا حول تلك الاستراتيجيات , والتي جاءت لتكرس حقائق على أرض الواقع تتمثل بمحاولة الولايات المتحدة الأمريكية فرض نفسها كقطب أحادي يتربع فوق قمة النظام الدولي , وباعتماد القوة العسكرية لحفظ السلام بدلا من القانون الدولي , وبتقليص مفهوم السيادة في الدولة القومية , وبإعلان الإرهاب من أعمال الحرب يتولاه السلاح بدلا من القانون ,
ويمنح السلام العالمي مفهوما جديدا مرتبطا بالديمقراطية والحكم الصالح , وما كان ذلك ليتم لولا نهاية الحرب الباردة بكل مفاهيمها ومعاييرها والتزاماتها من جانب , والتراكم العمودي في الثروة والقوة ( بالأخص الولايات المتحدة الأمريكية ) من جانب آخر , مما فرض على الرأسمالية الليبرالية فكرة الانتشار الأفقي , إما تفتيشا عن مناخات استثمارية خارج حدودها أو بحثا عن دور لقوتها يضمن لها استمرار التفوق العسكري والسياسي , أما الحقيقة الثانية فإن الشرق الأوسط بات يحتل موضع الصدارة في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية , وهو ما أكده الرئيس بوش " الثاني " بعد انتخابات العراق الأخيرة , حيث قال للأمة الأمريكية : إن الشرق الأوسط سيحصل على نصيب الأسد في السياسة الخارجية للولايات المتحدة أثناء فترة رئاسته الثانية , وهذا يعني تبدل بالأولويات بحيث حل الشرق الأوسط مكان أوروبا إبان النظام الدولي الذي ساد النصف الأخير من القرن الماضي وتلك المكانة تعكسها الاستراتيجيات الثلاثة المعلنة بشكل جلي , وقد نبعت من تجربة الولايات المتحدة الأمريكية في تجنيب أوروبا من الوقوع في هوى الشيوعية , وهي تمنحها للشرق الأوسط اليوم ( كما يبدو المشهد في أحد صوره ) تجنيبا له من عدوها الجديد " الإرهاب "
هذا الاستهلال يشكل مسوغا دافعا للحركة الإسلامية نحو مراجعة حساباتها وعلاقاتها وخطابها السياسي , وهي مراجعة قد تكون أكثر تركيزا وشمولية من تلك التي تمت بشكل عفوى مع مطلع الثمانينات ونتج عنها فرز الجماعات السلمية نفسها عن جماعات العنف , وانتهت ببلورة خط واضح اختاره المعتدلون الإسلاميون في العمل من أجل الإسلام يتمثل بالاندماج في النسيج السياسي للدولة والانخراط في المجتمع المدني واستخدام مؤسساته وآلياته المشروعة في السعي نحو تحقيق الأهداف الإسلامية , لقد كان واضحا أن وعيا نشأ لدى الإسلاميين بأهمية بناء الاستراتيجيات القائمة على قراءة الواقع السياسي واستيعاب مقتضياته , والتعرف على مكامن القوة والضعف و على اقتناص الفرص المتاحة وتجنب المخاطر المحتملة والسعي لتحقيق الممكن واستبعاد أو تأجيل غير الممكن , إنه بداية التفكير العملي الواقعي أو ما يطلق عليه البعض بالتفكير البراغماتي ,
غير أن ذلك كله تم في الفصول الأخيرة من الحرب الباردة , والآن هناك نظام دولي جديد آخذ بالتشكل يوما بعد يوم يفرض حقائق جديدة ويؤسس شبكات من العلاقات والنظم والتحالفات المغايرة ويعيد ترتيب الأولويات للمجتمع الدولي , وهذه عملية تصطحب معها فرصا غير مسبوقة وأخطارا من نوع مختلف , مما يجعل التداعي لقراءة الواقع الجديد والحملقة في ملامحه الآخذة بالتشكل أمرا أكثر من ضروري وأسبق من غيره على " أجندة " الإسلاميين وهي عملية تحتاج أن نشير إلى المكانة الجديدة للشرق الأوسط في النظام الدولي المرتقب , وإلى دور الإسلاميين في هذا الشرق الجديد وإلى فتح الحوار حول الدور الأمثل الذي يمكن القيام به لخدمة الإسلام ومجتمعاته والمعوقات التي يجب تذليلها لأداء هذا الدور .
النوايا والشكوك
لم ينتظر الغرب تبديد الشكوك التي تساور النخب العربية والإسلامية تجاه مشروعه الشرق الأوسط الكبير ,بل شرع في إطلاق حزمة من المبادرات خصص لها مبالغ ضخمة ليجعل إنجازاته تتصدى لشكوك العرب والمسلمين وتتنوع هذه المبادرات بين التعليم الأساسي ومدارس الاكتشاف والانترنت وإصلاح نظام الانتخابات وتمويل النمو والتجارة وإدارة الأعمال وتشجيع وسائل الإعلام المستقلة فضلا على أنه أسس خطابه الدولي الجديد على تبني مفاهيم كالحكم الصالح والديمقراطية والشفافية ومحاربة الفساد وتكريس المجتمع المدني وإصلاح أوضاع المرأة وحقوق الإنسان والحريات وانعكس هذا الخطاب في لغة هيئة الأمم المتحدة والبنك الدولي ومؤسسة النقد العالمي وبقية المؤسسات الدولية وشجع مؤسساته الأكاديمية والجامعية والفكرية والمدنية لتخصيص بعض من برامجها وأنشطتها من أجل نشر هذه المفاهيم , وأخذ يمارس ضغوطا واضحة على النظام الرسمي العربي تجلت في استجابات عسيرة نحو الإصلاح ,
كما خصص مبالغ ضخمة للمعونات المالية ( الاتحاد الأوروبي بشكل واضح ) الموجهة للمشاريع الإصلاحية بالشرق الأوسط, وأمام هذه الوقائع لا يمكننا إلا أن نفترض أن النوايا الغربية لنشر الديمقراطية والحكم الصالح بالشرق الأوسط جادة من حيث المبدأ وليست مناورة , وأن مبادرة الشرق الأوسط الكبير تتضمن فرصا سانحة للتطوير والتنمية والخروج من أسر الاستبداد ذلك لأن المنطقة ( في ظل تحالفها الاستراتيجي القائم على تبادل المصالح ) ستمنح الولايات المتحدة قوة دولية لتكرس هيمنتها على العالم خلال العقود الخمسة القادمة , ففي تلك الفترة ستكون المنطقة الأقدر على تلبية حاجات السوق في ظل نضوب المخزون العالمي من بقية أجزاء الكرة الأرضية وسيكون النفط سلاحا بيد الأمريكان يوزعون فيه الحصص على بقية الأمم وفق مصالحها , ولهذا فإن من مصلحتها أن تصنع شرقا أوسطا مزدهرا يكتشف أهمية التحالف الاستراتيجي معها ويتمسك به , ويدفعه على الاصطفاف معها في محاربة الإرهاب حفاظا على ازدهار ,
وهي بدون هذا الازدهار لا تملك ما تقنع به الشرق أوسطيين للحفاظ على قوتها واستمرار إستراتيجيتها النفطية وما نفترضه هنا يقوم على نظرية تبناها الأمريكان مع نهاية النظام الدولي الاستعماري الذي ساد النصف الأولي من القرن الماضي تلك التي تقوم على مواجهة النزعات العدوانية بالرخاء , ولقد جربت ذلك من خلال مشروع مارشال في أوروبا إبان تهديدات الشيوعية خلال نصف القرن الماضي , كما جربته مع عدوها المنهزم خلال الحرب العالمية الثانية , سواء كان أوروبيا على ضفاف الأطلسي كألمانيا , آسيويا على ضفاف الباسيفيكي كاليابان , ولقد نجحت النظرية بجدارة غير أن النوايا الجادة شئ والممارسات الرامية لتحقيقها شئ آخر إذ لا تسلم تلك النوايا من الخطأ في القرارات أو استغلال الانتهازيين أو الخلط بالحسابات , فإحلال السلام في أفغانستان أو إنقاذ العراق من صدام هدفان نبيلان نما بطريقة خاطئة خلفت وراءها كثير من الضحايا الأبرياء والدمار والفوضى , وهو ما يدفع على الاعتقاد أو نوايا كهذه سخرت لاستراتيجيات تجار السلاح والنفط وإسرائيل .
غير أن إزدهار الشرق الأوسط ليس مصلحة أمريكية فحسب كما ذكرنا آنفا بل هي أوروبية كذلك , إذ تفرض مقتضيات الجغرافيا هذه المرة شروطها على تاريخ العلاقات المتأزمة بين جنوب البحر المتوسط وشماله , فالجوار الجغرافي جعل أوروبا المسيحية ملاذا لكل الراغبين بالحياة الرغدة من المسلمين المسحوقين أو المصطهدين على الضفاف الجنوبية , وهو ما يعتبره الأوروبيون تهديدا لهويتهم الثقافية ولأمنهم الاجتماعي , خاصة وأن أكثر من 50 مليون من الشباب في الشرق الأوسط سيدخلون سوق العمل بحلول 2010 , وسيدخلها 100 مليون بحلول [[2020]], وهناك حاجة لخلق ما لا يقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة لامتصاص هؤلاء الوافدين الجدد إلى سوق العمل , وإذا استمرت المعدلات الحالية للبطالة فإن معدلها في المنطقة سيبلغ 25 مليونا بحلول 2010 , يعيش ثلث أهل المنطقة على أقل من دولارين في اليوم ولتحسين مستويات المعيشة يجب أن يزداد النمو الاقتصادي في المنطقة نحو أكثر من الضعف عن مستواه الحالي الذي هو دون 3% إلى 6% على الأقل , ولقد عبر 51 % من الشبان العرب الأكبر سنا عن رغبتهم في الهجرة إلى بلدان أخرى , وفقا لتقرير التنمية البشرية العربية للعام 2002 ,والهدف المفضل لديهم هو البلدان الأوروبية وهنا يصبح ازدهار الشرق الأوسط هدفا استراتيجيا لحماية الرخاء الأوروبي .
الإسلاميون والغرب
يري الإسلاميون أن الخوف من الإسلام هو جزء من التكوين الثقافي الغربي وناتج عن الصراع الموغل في القدم بين الإسلام والغرب , وعن ذكريات الحروب الصليبية وتهديدات المسلمين للحدود الجنوبية والشرقية لأوروبا وتحويل اسبانيا وجنوب ايطاليا إلى حواضر إسلامية وسقوط الأندلس إبان حركة الارتداد وسقوط قلعة الكنيسة الشرقية بأيدي العثمانيين وعهود الاستعمار الغربي , ذلك الذي كرس في الوجدان الغربي تصورا عاما للشرق يتضمن موازين ومعايير وقيم إزاء كل ما هو شرقي وانعكس ذلك في الخطاب العام للثقافة الغربية وجاء في أعمال الشعراء والروائيين والرحالين والمؤلفين والفلاسفة والمنظرين السياسيين والاقتصاديين والإداريين الاستعماريين بشكل تلقائي , ورغم التطور الواسع في العلاقات الدولية ونشوء فكرة المجتمع الدولي ( الذي يضم الشعوب الإسلامية ) على أساس علماني, إلا أن الغرب يصر على أن يضع علاقته بالإسلام في إطاره التاريخي كخصم لدود دون سائر الأديان ,
أما الغربيون فيرون أن الإسلام ما زال يسعي لخوض معركة حسمت من القرن الماضي وأن الإسلاميين يسعون للعودة إلى نظام العصر الوسيط الذي شهد صراع الديانات مستخدمين خطابا سياسيا بائدا اقترن بنظام بائد, وهم بذلك يتحدون النظام الدولي المعاصر ومفاهيم الدولة الحديثة والحقائق التي تصنعها القوة , ولا تجدي تأكيدات بعضهم برفض العنف والكف عن القتال مع ترديد خطاب سياسي خارج العصر يسعي لعودة الصراعات الدينية , غير أن ما يجب معرفته أن الخوف من الإسلام لدي الغربيين ليس عقيدة دوغمائية , فهي إن لم تذوى مع تقادم الزمن فإنها تضعف أمام المنطق البراغماتي , فضلا على أنها تتفاوت ما بين الشعوب القريبة والبعيدة عن الإسلام وبين الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية , وبين الشعوب اللاتينية والانجلوسكسونية والسلافية , وما بين الدول المتقدمة أو الآخذة بالتقدم أو النامية , وهو ما يفسر الإقدام الأمريكي لنجدة المسلمين البوسنيين أو الكوسوفيين ضد المتطرفين المسيحيين من الصرب , بينما تتردد فرنسا حتى اليوم في إغضاب الصرب وتسليم قادتهم للمحكمة الدولية , أو أن تقوم بريطانيا بالإيواء السياسي للمتطرفين الإسلاميين تفاديا لشرورهم ,
بينما يعتقد الفرنسيون كما يروى عنهم جيل كبيل ( وعلى خلاف البريطانيين , لا يعتقد الفرنسيون بتاتا أن سياسة ترحيبية بالإسلاميين ستؤدي إلى حماية من هجمات مستقبلية, فالفرنسيون يعتقدون أن الصلات مع النشطاء في أفريقيا الشمالية يمكن أن تشكل خطرا , وهم لم يكونوا مستعدين أبدا للسماح للإسلاميين بفضاء أوسع للتحرك ) وعليه فإن الغرب ليس كتلة صماء واحدة , بل هو طيف من الألوان والمصالح والاهتمامات , وهو طيف يوفر مساحة واسعة للتحاور , وفي نفس الوقت فإن الإسلاميين من جانبهم لن يبقوا جامدين عند بوابة تاريخ العصر الوسيط , وأنهم يوم أتيح لهم فرصة العمل الشعبي في المؤسسات المدنية صاروا أكثر واقعية وبراغماتية , ولهذا فإن المسلك البراغماتي سوف يجمع الطرفين لتبادل المصالح .
ولقد شهدت حقبة ريغان شكلا من أشكال التعاون ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان , غير أن قابلية الانسجام بين الطرفين في الأهداف العسكرية المشتركة ليس بالضرورة تتفق مع قابليتهم للإصلاح السياسي على الأقل من وجهة النظر الأمريكية آنذاك , ولهذا انشغلت الدوائر الأمريكية في عهدي بوش الأول وكلينتون بالبحث عن مدى انسجام الإسلام مع القيم السياسية الغربية , وحاولت القوى الناشطة مع اللوبي الصهيوني تكريس الخوف من الإسلام , وبرزت أسماء مثل برنارد لويس الذي يقول " الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك وقد فعل ذلك مرتين على الأقل , ولمدة ألف عام كانت أوروبا تحت تهديد مستمر من الإسلام " وهنتغتون الذي يقرر أن " حدود الإسلام دموية وكذلك الأحشاء ؟
ناهيك عن المحللين والباحثين من أمثال جوديث ميللر ودانيال بايبس ومارتن كرامر وجيل كيبل وبنيامين جوردون , وقد أعلنت الولايات المتحدة يومها عن موقفها الرسمي بكلمة ألقاها مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى وجنوب شرق آسيا ( آنذاك ) إدوارد جيرجيان في مؤسسة ميريديان هاوس حيث أكد فيها : إن الولايات المتحدة لا تنظر إلى الإسلام كأنه الخطر العقائدي الذي سيواجهه الغرب أو الذي سيهدد السلام العالمي لأن ذلك مبالغة في رد تبسيطي على واقع معقد , وقد أكد بوش هذا الموقف بعد الحادي عشر من سبتمبر في بعض أحاديثه , ولم يعد يردد الخوف من الإسلام سوى الجماعات المؤيدة للوبي الصهيوني لقد انتقل الحوار حول جدوى الاستعانة بالإسلاميين ( الإسلام السياسي ) في مشروع الشرق الأوسط الكبير لتوطيد الديمقراطية وإلى أى مدى يسمح لهم بالمشاركة في استلام السلطة.
الاستعانة بالإسلاميين لترويج الديمقراطية
الأدبيان المنشورة في هذا الموضوع تكشف عن نقاش مسهب مستمر , ولقد انقسمت الآراء بين مؤيد للاستعانة بالإسلاميين وفق شروط ومنظور مدروس , ويمثل هذا الرأي الليبراليون وعلى رأسهم معهد كاربخي للسلام , ومعارض لا يري فرقا بين إسلامي معتدل أو متطرف , ويمثل هذا الرأي المحافظون وعلى رأسهم معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى , ويقف بينهم فريق يري أن الأمر ليس أسودا أو أبيضا , لذا فإن كل حالة تدرس على حدة ويتخذ قرارا بشأنها ويمثل هذا الرأي معهد جيمس بيكر للسياسة العامة ,
ومع التفاوت الحاد بالرأي في هذا الموضوع تشير كثير من الدراسات والوثائق المنشورة أن الغرب يميل إلى الاستعانة بالإسلاميين المعتدلين لنشر الديمقراطية والحكم الصالح وإتاحة الفرصة للمشاركة الكامل بلعبة الحكم , ويؤكد ذلك جون سبوسيتو بأن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية قد حسمت هذا الموضوع من خلال تصريحات واضحة وكافية لإدوارد جيرجيان وربرت بولليترو ورونالد نيومان , ورغم أن تأكيدات سبوسيتو لم تقبل على علاتها إلا أن دراسات صدرت من مراكز معتبرة لدى صانع القرار الأمريكي تؤكد على ذلك أو تضعه ضمن توصياتها , مثل تقرير " استراتيجية الولايات المتحدة في العالم الإسلامي بعد 11/9" الصادر عن مؤسسة راند خلال العام الجاري 2005 , والذي يوصى فيه بالسعي إلى إشراك الإسلاميين في السياسة النظامية باعتبار أن ذلك يشجعها على الاعتدال في المدى البعيد , لكنه ربط المشاركة بشرط الالتزام التام باللاعنف وبالعملية الديمقراطية وكذلك مثل الدراسة التي أصدرها معهد كارينجي للسلام وأعدها جراهام فوللر الخبير السابق بوكالة المخابرات الأمريكية والذي يؤكد على ضرورة إشراك الإسلاميين واصفا جماعاتهم بأنها " تشغل الحيز السياسي في العالم العربي الآن , وأن لديها سمات أساسية تجمعها أهمها النمو السريع والتطور والتغيير والتنوع ,
ويري بأنه يبدو ظاهريا أن المنافسين الأيدلوجيين لإسلامي العالم العربي هم بدرجات متفاوتة وبتأييد متضاءل القوميون العرب واليسار والليبراليون , وهي جماعات تقل عن الإسلاميين في الحجم والأهمية " وكذلك مثل الدراسة التي أعدها الليوتانت كولونيل بالقوة الجوية للولايات المتحدة الأمريكية راندل جيمس ونشرها معهد دراسات الاستراتيجيات القومية التابع لجامعة الدفاع القومي , والتي يوصي فيها حكومة الولايات المتحدة بفرز الحركات الإسلامية حيث يري أن بعضها يمكن التعامل معه بشكل معقول ويرى ضرورة حث الحكومات المحلية لتشجيع هذه الجماعات للانخراط في المعارضة السياسية السلمية أسوة بالأطراف العلمانية ,
كما يؤكد على ضرورة التفريق بين شعارات الإسلاميين وبين ممارساتهم فإنهم بالممارسة عمليون أو براغماتيون , بينما اعتبر إلين ليبسون وهو رئيس مركز ستيمون ( مركز فكري بواشنطن لدراسات الأمن العالمي ) أنه من الصعوبة تصور تطورا سياسيا خلال العشرين سنة القادمة بدون الإسلاميين , كما أضاف قائلا أنهم صنعوا لأنفسهم مشروعية وأتباع ويصعب عليك أن تزيلهم بليلة من خلال دعم ناشطين من النخب الصغيرة للعلمانيين العصرين , علينا أن نضع تصورا لحيز سياسي يضمهم سويا , ورغم أن الأمر يبدو قد حسم لصالح الاستعانة بالإسلاميين إلا أن هناك تيارا مقاتلا يسعي بضراوة لحث الإدارة الأمريكية على التراجع عن هذا الموقف , وهو تيار متعاطف مع اللوبي الصهيوني ويعتقد أن إحلال الديمقراطية بالشرق الأوسط يحرم إسرائيل من الدور الذي كانت تلعبه إبان الحرب الباردة , وأن خلق مثل هذه الحرب مع الإسلام من شأنه يزيد من الأهمية الإستراتيجية لإسرائيل بالنسبة للغرب , لذا يلجأ أنصار هذا التيار إلى أساليب مختلفة للالتفاف على مثل هذا القرار , فتارة يثيرون حوارا حول من الإسلامي ومن هو المسلم , وتارة أخرى يفتحون نقاشا حول من هو المعتدل ومن المتطرف ,
ومرة ثالثة يثيرون تساؤلات حول ضمانات بقاء المعتدلين على اعتدالهم عند استلام السلطة و فجوديث ميلر تدعو إلى توظيف توجه غير ديمقراطي واستبعادي حيال العالم الإسلامي , إذ أن الإسلام لا يتناسب مع قيام التعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان , وعلى صانعي القرار في الغرب ألا يؤيدوا الانتخابات الديمقراطية في العالم الإسلامي لأنها ستوصل أصوليين متشددين إلى السلطة , كما تحض الأمريكية وغيرها على رفض أى مصالحة مع الإسلام السياسي واستيعابه لأن الحكومات الغربية لابد أن تعارض الحركات الإسلامية وهي ترى أنه بغض النظر عن التزام الحركات الإسلامية بمفهومي الديمقراطية والتعددية , فإن كل الأصوليين يرفضونهما , فهم الآن ضد الغرب , وضد أميركا وضد إسرائيل ,
والأرجح أن يبقوا على حالهم , وترفض ميلر التفريق بين المعتدلين والمتشددين , فهم يشكلون صنفا واحدا , ويشاركها بالرأي زميلها مارتن كرايمر الذي يري أنه لا جدوى من الحوار مع الإسلاميين طالما ليست هناك فرصة واضحة لهم لاستلام السلطة في أى بلد , فالحوار في رأيه لن يفعل أكثر من إغضاب وإثارة نفور المسلمين الذين هم ضد الإسلاميين , ويرى الاكتفاء بالسياسات القائمة على احتواء وعزل الإسلاميين على منع أى هجوم إرهابي فوق الأراضي الأمريكية منذ 11 سبتمبر 2004 ويجب الاستمرار بها ,
ويؤكد ذلك روبن رايت في مقالته بالواشنطن بوست قائلا أن ضم الإسلاميين إلى الحكومات فكرة غير مريحة لأولئك الذين يعيشون بمجتمعات علمانية , أنه يستدعي مشاهد فظيعة لرجال الدين الإيرانيين ,والرهائن الأمريكيين واضطهاد المرأة والقوانين العقيمة , ورغم أن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى تقريره الأخير بتوصية للتعامل مع الإسلاميين المعتدلين إلا أن روبرت ستالوف المدير التنفيذي للمعهد طالب بضرورة عدم التفريق بين الإسلاميين المعتدلين والإسلاميين غير المعتدلين ,وأن جل ما يجب الالتفاف إليه هو الفرق بين الإسلاميين والمسلمين مطالبا في الآن نفسه الإدارة الأمريكية بالتحالف مع ( اليساريين والليبراليين ) في مواجهة الإسلاميين , أما تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا فقد رأي عدم توفر إمكانية لتكرارها في الحالة العربية لعدم وجود معادل عربي يقوم بالدور , وهو يتفق مع زميله مارتن كريمر الذي يشير إلى صعوبة التمييز الواضح بين الإسلاميين " المعتدلين " وبين الجهاديين مما يسمح للجهاديين بالنفاذ من هذه الثغرة .
ويقف هذا الفريق ضد فكرة مشروع الشرق الأوسط الكبير , إذ يعلن روبرت كابلان , إنها بديهية : دعوة صناع القرار الأمريكيين ليس إلى التخلي عن مشاريعهم " الديمقراطية العالمية أو الإمبريالية " ( على حد تعبيره ) بل إلى التعاطي مع دول الشرق الأوسط الكبير على أسس قبلية وعشائرية وطائفية ومذهبية فهذه برأيه برغماتية لا تتناقض مع القيم الأمريكية , " لأن الليبرالية قادرة على التعايش مع هذه الأسس " كما أكد مارتن أنديك في أحد منتديات التي تعقدها مؤسسة الشرق الأدنى للدراسات في واشنطن على أنه لا يجدر بالولايات المتحدة تشجيع الديمقراطية في البلدان المقربة من واشنطن مثل الأردن أو مصر حيث يفترض بالانفتاح أن لا يشرع سوى الأحزاب غير الدين , وقد علق أستاذ التاريخ بجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة جويل باينين على ذلك بقوله أن هذه الإستراتيجية ستؤدي بالحركات الإسلامية إلى التخلي عن العمل السياسي لتبني الكفاح المسلح , وطالما أن الولايات المتحدة تعتبر صديقة للأنظمة التسلطية فإنها ستكون هدفا للعمل المسلح خصوصا في مصر.
المحاولات والاتصالات والجهود
لقد ساهمت الحرب الأمريكية على العراق في تحقيق مستوى من الاتصالات بين الإسلاميين من جانب والأمريكان والبريطانيين من جانب آخر , فقد كانت الإدارة الأمريكية تبحث عن جماعات ذات امتداد شعبي لتسهيل مهامها العسكرية والسياسية , ويشير وضع القوة الذي تتمتع بها بعض الجماعات الإسلامية الشيعية في العراق اليوم إلى حالة من التفاهم المستقر , كما يعكس الامتنان الذي يبرزه الإعلام الأمريكي للإمام الروحي آية الله السيستاني وتسليط الضوء علي إرشاداته وإبراز زعامته على إطمئان رسمي منه , كما يشير موقف الغرب عموما والأمريكي بالأخص من الانتخابات العراقية إلى سلوك مغاير مع الإسلاميين , فلقد تركت القوة الإسلامية الشيعية تبرز كامل عضلاتها في حملاتها الدعائية دون التوجسات المعتادة ,
ولم تستخدم وسائل الإعلام الغربية المعادية للإسلاميين حملات التحريض ضدهم هذه المرة , كما لوحظ أن أموالا ضخمة قد صبت في الساحة السياسية يرجح أنها قد جاءت من دول الجوار المؤيدة النفطية الحليفة , وحتى بعد ظهور النتائج التي حققت فيها قائمة السيستاني الإسلامية أعلة نتيجة لم تبد الدول الغربية انزعاجها كما كان يتم بالسابق , وها هو رئيس حزب الدعوة ( الخط الشيعي المناظر لخط الإخوان المسلمين لدى السنة ) يتحول إلى مرشح قائمة السيستاني لرئاسة الوزراء دون أية محاولات عرقلة ضده , لم تمارس الولايات المتحدة الأمريكية ضغوطها بشكل جدى لصالح مرشيحها مثل أياد علاوى أو أحمد شلبي , المشاهد كلها تدل على أن اتفاقا قد تم وأن الأطراف مصرة على احترام التزاماتها وهي اتفاقات تمت من خلال الدبلوماسيين المتواجدين بالعراق والكويت واستخدمت أطرافا , وأموالا كويتية للوساطة وتيسير المفاوضات , فقد وطد الكويتيون علاقاتهم مع زعماء المعارضة الشيعية قبل الحرب بسنوات.
وإذا كان التفاهم ميسورا مع الشيعة لوجود زعامة روحية يمكنها أن تتحدث بإسم الطائفة وتتخذ القرارات وتلزم أتباعها بها , فإن وضع جماعات الإسلاميين من السنة أثر تعقيدا وتشابكا , إذ لا تكمن أزمتهم بغياب الزعامة القادرة على التفاوض فحسب , بل كذلك تكمن بالفوضى الفكرية والفقهية التي تعكس مواقف متباينة ومتعارضة بينهم وأحيانا بين الجماعة الواحدة فالإسلاميون السنة تتجاذبهم مدراس سلفية وهابية أو تقليدية توفيقية أو جهادية تكفيرية أو تنويرية براغماتية ,فضلا عن تباين خطابها السياسي المتأرجح بين المعارضة الجامدة أو المداهنة اللينة أو التذبذب بين الموقفين , وفوق كل ذلك تفتقد قراراتها كثير من الإقدام والجرأة ( وهنا لا نعني الشجاعة والقوة ) ويتلفت الغربيون يمينا وشمالا بين السنة بحثا عن زعامة فكرية قادرة على التحاور ,
وتتسأل مجلة ميدل ايست كوارترلي أربعة متخصصين بالحركات الإسلامية عن المفكر الإسلامي الأبرز اليوم , ويجيب عنهم إسبوسيتو معتبرا أن الشيخ راشد الغنوشي هو نموذج الإسلامي المعتدل الذي يمكن التحاور معه من بين المفكرين الإسلاميين , وإن كان يري في الشيخ يوسف القرضاوى التأثير الأكبر , غير أن مارتن كريمر أضاف أنه بجوار الغنوشي يوجد كلا من الدكتور حسن الترابي والسيد حسن فضل الله باعتبارهما من مروجي استخدام القوة ,
ويمكن القول بأن أكثر الجماعات السنية قدرة على التفاوض هي جماعة الإخوان المسلمين لما تملكه من بعض المقومات اللازمة لدخول المفاوضات غير أن جماعة الإخوان المسلمين ما زالت تتوجس خيفة من التفاوض مع الغرب آخذة في حساباتها الطهر الوطني الذي لم تلوثه بالاتصال مع الغربيين , ورغم أن هذا الطهر وهم لا موقع له في ميدان السياسة منذ نهاية حقبة الاستعمار , ولقد أبدى الغربيون محاولات جس نبض مع كثير من جماعات الإسلاميين السنة , إما من خلال لقاءات الدبلوماسيين بهم أو من خلال تحويل الموضوع إلى نقاش عام بالصحافة , أو من خلال بعض الأنظمة العربية الحليفة , أو من خلال الدعوة إلى ندوات أو مؤتمرات أو حلقات النقاش.
ولعل أبرز هذه الاتصالات التي قام بها الغرب مع الإسلاميين السنة هي تلك التي تمت مع حماس ( الجناح العسكري للإخوان المسلمين الفلسطينيين ) والجهاد الإسلامي , إذ ألتقي وفد من الولايات المتحدة الأمريكية بوفد من حماس وحزب الله والجماعة الإسلامية في شهر مارس 2005 واتفقا على استمرار العلاقة والحوار بينهم كما نشرت صحيفة " العرب " اللندنية , وقد قامت جريدة الواشنطن بوست بنشر مقال بشكل بارز منذ أربعة أشهر بعنوان " البحث عن أصدقاء بين الأعداء " إذ خصص الكاتبان جل حديثهم عن الإخوان المسلمين , وقد ناقشا بشكل تفصيلي مدى إمكانية التعاون معهم وجداوه , كما أشار المقال إلى محاولات عدة لإيجاد قنوات حوار معهم مستشهدا بتصريح خاص لجرجيان قال فيه " هناك نقاشات دائمة حول الالتقاء معهم " وأوضح المقال بشكل صريح أن هدف الالتقاء مع الإخوان لتنشيط التيار السلمي بالحركة الإسلامية في مواجهة التيار الجهادي ,
وأشار إلى تجربتهم الناجحة بالتعاون مع الإخوان اليمنيين في شؤون التدريب السياسي , لقد كان هذا المقال إشارة للإخوان حول اهتمام الغرب بالحوار معهم وجس نبضهم حول استعداداتهم لذلك , ولا يبدو أن الإخوان قد استقبلوا مثل هذه الإشارة لأنه لم يبد عليهم أى شكل من أشكال ردود الفعل إزاء هذا المقال , ومن ناحية أخرى قام معهد كارنيجي للسلام ( وهو من مراكز الفكر المؤيدة للانفتاح على الإسلاميين ) مع جريدة الوطن الكويتية بدعوة الإسلاميين من كل الأطياف لمناقشة دور الجماعات الإسلامية في عملية الإصلاح السياسي , وهو لقاء صريح مفتوح هدفه الحوار والاستماع لوجهات نظر الطرفين , غير أنه في الوقت الذي لبى فيه الإسلاميون الشيعة بكل أطيافهم ( ويتقدمهم إبراهيم الجعفري ) الدعوة والمشاركة كان تمثيل الإخوان ضئيلا وقاصرا على الكويتيين واليمنيين والأردنيين , في الوقت الذي تردد فيه كثير من الشخصيات الإسلامية السنية المشاركة حفاظا على وهم الطهر الوطني , ولولا أن هناك جهودا متقدمة في هذا المضمار بأقطار مثل الكويت واليمن والعراق لأمكننا أن نقول أن الجماعات الإسلامية السنية بالعالم العربي تكاد تكون غافلة عن أهمية ما يدور اليوم في هذا الصدد .
تحديات الحوار بين الطرفين
مايكل فلاهوس باحث في مختبر الفيزياء التطبيقية بجامعة جونز هوبكنز أجرى حوارات في عام 2003 مع إسلاميين معتدلين لاكتشاف معضلات الحوار معهم ثم نشر نتائج هذه الحوارات , ويؤكد مايكل في مستهل بحثه أنه بإمكان الإسلاميين المعتدلين أن يقرروا نجاح أو فشل الحرب الأمريكية على الإرهاب " فالنصر يعتمد على دعمهم لنا ودعمنا لهم " ويسطر معضلات ستة يظنها الأبرز على مائدة الحوار ,
الأولي : التحديث العصري للدولة في مواجهة الشريعة الإسلامية , حيث يرى أن الشريعة ما زالت لم تقدم نفسها بشكليها العصري في بناء الدولة الحديثة وتحديد السلطات وأدوارها المختلفة وتنظيم العلاقات بين الحاكم والمحكوم والنص على الحقوق والواجبات ,
أما الثانية : فهي الانتماء السياسي بين المواطنة القومية مقابل الانتساب للأممية الإسلامية ,وهي معضلة تنتهي بإلغاء فكرة الدولة القوم والتمييز بين أفراد الوطن الواحد على أساس ديني ,
أما الثالثة : فهي فكرة التجديد الإسلامي في مواجهة الحداثة وهي معضلة تشير إلى قدرة الإسلاميين المعتدلين على الانتقال بفكرة التجديد الإسلامي من دائرة التراث الإسلامي إلى التراث الإنساني ,
أما الرابعة : الاعتماد الكلي على أمريكا بالتغيير , إذ يعتبر الإسلاميين أن التفاهم مع الولايات المتحدة يعني أنها ستقوم بعمليات تغيير شاملة دون مبادرات ذاتية منهم , يجب أن يعلم الإسلاميون المعتدلون أن مبادراتهم أساسية في التغيير ,والخامسة : التغيير بالقوة في مقابل التغيير بالدعوة إذ يري المعتدلون أن العمل السلمي في نطاق الأنظمة القائمة غير مجد , ولابد للولايات المتحدة أن تطيح بها وتسمح بقيام حكومات إسلامية ليس على شاكلة ما هو قائم في إيران أو السودان أو طالبان , أما السادسة : فهي أن الإسلام خيار ديمقراطي للناس مقابل أن الإسلام هو الخيار الوحيد .
ورغم المحاولة الجيدة التي بذلها مايكل فلاهوس ( الخبير في محاربة الإرهاب ) للتعرف على معضلات الحوار مع الإسلاميين إلا أنها لم تبلور التحديات الحقيقية التي سيواجهها الإسلاميون عند الحوار , وتعتقد أن التحديات تكمن فيما يريده الغرب من الإسلاميين من مطالب لا تبدو منسجمة مع الفكرة السائدة عن الخطاب الإسلامي السياسي , إذ يبني فكرته عن الإسلاميين المعتدلين بالصورة التالية :
- 1. الذين يحترمون مبدأ المواطنة , ويترتب على هذا التمسك بنموذج الدولة القوم ومنح المواطنة وفقها وليس وفق الدين أى أن على الإسلاميين المعتدلين ألا يمنحوا امتيازات للمواطنين المسلمين دون غيرهم , وألا يفرقوا في الحقوق والواجبات وفق المعتقدات والمذاهب .
- 2. الذين يؤمنون بالديمقراطية ومقتضياتها السياسية ويعني ذلك الرضوخ لإرادة الأمة واختياراتها فالأمة مصدر السلطات جميعا ولها الولاية على نفسها فإذا ما اختارت حزبا علمانيا بالانتخاب الحر فهذا خيارها الذي يجب أن يحترمه الإسلاميون المعتدلون .
- 3. الذين يتقيدون بالقرارات الدولية والاتفاقيات المبرمة مع الدول الأخرى ويحترمونها عند مجيئهم للحكم , وهي تعبر عن احترام إرادة الأقوياء في النظام الدولي والتي تراعيها الدول الأقل قوة , وتعني احترام اتفاقيات السلام مع إسرائيل التي أبرمتها الحكومات السابقة والالتزام بمقتضياتها إذا ما جاء الإسلاميون إلى الحكم تماما كما يفعل الإسلاميون الحاكمون في تركيا اليوم .
- 4. الذين يحاربون العنف وكافة صور الإرهاب , ويسعون مع المحتمل الدولي لتجفيف منابعه ومحاصرته , وهم بذلك يشيرون إلى المنظمات المقاتلة في فلسطين ولبنان ( حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي ) فإذا ما أتفق المجتمع الدولي ( وهو لم يتفق بعد ) على أن هذه الحركات القتالية تمثل إرهابا تحتم على الإسلاميين المعتدلين محاربتها .
- 5. الذين يسعون إلى تحديث (modernize) الدولة والمجتمع , وليس بالضرورة أن تأخذ طابعا غربيا , فالتحديث ليس بالضرورة هو التغريب بل بناء الدولة المعاصرة وفق النموذج النمطي الذي تقوم عليه سائر الدول.
- 6. لا يعترض الغربيون على تطبيق الشريعة ضمن الإطار المذكور , إذ ليس بالضرورة أن يكون أن يكون النموذج الإسلامي التركي هو النموذج المحتذي عالميا فتركيا ارتضت لنفسها قبول شروط العضوية في الاتحاد الأوروبي , غير أن هناك إلحاح على تقديم الشريعة بقراءة عصرية جديدة تجعلها جزء من الثروة التشريعية العالمية