كيف ندعو الناس

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
كيف ندعو الناس

بقلم/ الشيخ محمد قطب


مقدمة

الدعوة إلى الله تكليف دائم بالنسبة لهذه الأمة

((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون))

ذلك أنها أمة خاتم الرسل ، التى تحمل رسالته من بعده، ورسالته موجهة إلى البشرية كافة، وإلى الزمن كله، من لدن بعثته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها

وهى رسالة ذات شقين: شق موجه للذين لم يؤمنوا بهذا الدين بعد، لدعوتهم إلى الإيمان؛ وشق موجه للذين آمنوا، لتذكيرهم وترسيخ إيمانهم:

((وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين))

((يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل))

ولكن الأمة الإسلامية تمر اليوم بظروف خاصة، ربما لم تمر بها من قبل، فقد هبطت معرفتها بالإسلام إلى أدنى حد وصلت إليه فى تاريخها كله، وأما ممارستها للإسلام فهى أدنى من ذلك بكثير!

ولذلك فإن مهمة الدعوة اليوم أخطر بكثير من مهمتها فى الظروف السابقة، فلم تعد مجرد التذكير، بل أوشكت أن تكون إعادة البناء، الذى تهاوت أسسه وأوشكت أن تنهار، فى الوقت الذى تداعت فيه الأمم على الأمة الإسلامية من كل جانب، كما أخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها)). قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن فى قلوبكم الوهن)). قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت))

وكلنا ثقة أن البناء سيعود بإذن الله، وسيعود شامخاً كما كان. والمبشرات كلها تشير إلى جولة جديدة للإسلام، ممكنة فى الأرض، على الرغم من كل الحرب التى تشنها الجاهلية فى الأرض كلها على الإسلام ولكنها مهمة شاقة فى الغربة الثانية للإسلام: ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ)) مهمة تحتاج إلى شغل فائق وبصيرة نافذة .

ففى الغربة الأولى كان الإسلام معلوماً عند الناس فى أصوله العامة على الأقل، وهى الإيمان بالله الواحد والإيمان بالوحى والنبوة والإيمان بالبعث، سواء فى ذلك من دخل فى الدين الجديد، ومن وقف يحاربه أشد الحرب، ويرصد طاقته كلها لمحاولة القضاء عليه، وإنما كان سبب الغربة قلة المؤمنين به، وضعفهم وهوانهم على الناس، وكثرة الرافضين له، وطغيانهم فى الأرض.

قال ورقة بن نوفل لرسول الله، حين أخبرته خديجة رضى الله عنها بقصة الوحى: ليتنى أكون فيها جذعاً حين يخرجك قومك! قال: ((أو مخرجى هم؟)) قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودى! وسأل رجل رسول الله : إلى أى شئ تدعو الناس؟ قال: ((أدعوهم لـ لا إله إلا الله)) قال: قال هذا أمر لا تتركه لك العرب!

أما فى الغربة الثانية فالأمر مختلف، وإن كانت الغربة غربة فى جميع الأحوال

الإسلام اليوم غريب على أهله، فضلاً عن غربته على باقية الناس، وحين تعرضه عليهم على حقيقته يستوحشون منه، ويقولون لك: من أين جئت بهذا؟ ليس هذا هو الإسلام الذى نعرفه!

حين قول للطائف حول الضريح، يتمسح به، ويطلب البركات من صاحبه المتوفى منذ سنين أو منذ قرون: أن هذا شرك لا يجوز! يقول لك: من أين جئت بهذا؟ إنك أنت الذى تريد أن تجرد الإسلام من روحانيته! وحين تقول لمن يشرع بغير ما أنزل الله، ولمن يرضى بشرع غير شرع الله: هذا شرك يقول لك: من أين جئت بهذا؟ هذا تطرف وجمود ورجعية! الدنيا تطورت! أو يقول لك على أقل تقدير: شرك دون شرك! شرك لا يخرج من الملة!

وحين تقول لأستاذ علم الاجتماع، وأستاذ علم النفس، وأستاذ التربية، وأستاذ التاريخ إن ما درستموه من علوم الغرب، وما تدرسونه لطلابكم مخالف للمفاهيم الإسلامية، وفى بعض الأحيان مصادم مصادمة صريحة للعقيدة، يقولون لك- إلا ما رحم بك-: ما للإسلام وهذه الأمور؟ تريدون أن تحشروا الإسلام فى كل شئ؟ هذا علم، والإسلام دين! والدين لا دخل له بالعلم!

ومئات من الأمور حين تعرض حقيقة الإسلام فيها للناس يستوحشون،وفى أقل القليل يستغربون، وتحتاج إلى جهد كبير لإقناعهم بأن هذا هو ما جاء من عند الله، وليس ما تصوروه هم على أنه الإسلام!

وذلك كله فى مجال((المعرفة)) أما مجال الممارسة فالجهد المطلوب فيه قد يكون أشد!

إن المعرفة وحدها لا تكفى، وإن كانت هى البداية التى لابد من البدء بها قبل كل شئ، وقد كانت الكلمة الأولى التى بدأ بها الوحى هى كلمة((اقرأ))، ثم نزل على رسول الله بعد فترة قوله تعالى: ((فاعلم أنه لا إله إلا الله)) والعلم- كما فهمه السلف الصالح رضوان الله عليهم- ليس مجرد المعرفة، إنما هو المعرفة التى تؤدى إلى العمل، ومن ثم انتقلت المعرفة من طور التعرف على الحقيقة إلى طور العمل بمقتضاها

ولئن كان تعريف الناس بدقائق مفهوم لا إله إلا الله قد استغرق من جهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) شيئاً غير قليل فى غربة الإسلام الأولى، فإن الجهد الحقيقى الذى بذله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - فى مكة خاصة- كان هو تربية المؤمنين الذين قبلوا الحق وآمنوا به، على مقتضيات لا إله إلا الله، مرحلة بعد مرحلة حتى استقاموا على الطريق، بدءاً بتربية القاعدة الصلبة الراسخة البنيان، ثم تربية سائر الناس.

واليوم- فى غربة الإسلام الثانية- تواجه الدعوة ضرورة بذل الجهد فى الأمرين معاً: التعريف والتربية.

فالتعريف بالإسلام لقوم يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، ويظنون فى الوقت ذاته أنهم يعرفونه كله، مشكلة تحتاج إلى جهد ليس بالقليل. أما التربية- بالنسبة للقاعدة على الأقل- فمشكلة تحتاج إلى جهد أكبر؛ لتعدد مجالات التربية المطلوبة من جهة، ولأن النفوس لا تتخلى عن مألوفاتها بسهولة، ولا تستجيب استجابة فورية لكل ما يطلب منها من تكاليف .. فضلاً عن كون المطلوب ليس مجرد بناء نفوس مؤمنة، بل إعداد شخصيات فائقة التكوين، تصلح لحمل المهمة الضخمة التى تواحهها.

ومن المهم- إلى الدرجة القصوى- أن نعرف كيف ندعو الناس فالأزمة التى يمر بها العالم الإسلامى اليوم أزمة حادة، ربما كانت أشد أزمة مرت به فى التاريخ وتجمع الأعداء لحرب الإسلام، بما لم يسبقه من قبل تجمع بهذا الحجم وبهذا الإصرار وحاجة البشرية إلى الإسلام اليوم لا تقل عن حاجتها إليه يوم أنزل على رسول الله.

وما لم نسر فى طريق الدعوة على خطى مستبصرة، مستمكنة فى ذات الوقت، فقد لا نصل إلى ما نهدف إليه، وقد يذهب الكثير من جهدنا بغير طائل حقيقى.

ولقد كان موضوع الدعوة يشغل تفكيرى منذ أمد ليس بالقصير، فيرد على خاطرى سؤال ملح: كيف ندعو الناس؟ ما الأسلوب الصحيح للدعوة؟ خاصة وأنا أرى فى مسيرة الدعوة- بين الحين والحين- ما يبدو أنه تقصير فى بعض الجوانب، أو تعجل فى بعض الجوانب، أو انحراف فى بعض الجوانب فأقول فى نفسى: إنه لابد من مراجعة شاملة لمسيرة الدعوة خلال ما يزيد عن نصف قرن؛ حتى نستكمل ما وقع فى مسيرتنا من نقص، ولا نكرر ما وقعنا فيه من أخطاء، وحتى نستفيد من عبرة الماضى لتقويم الحاضر، وتسديد العمل من أجل المستقبل، وتلك مهمة جادة يجب أن تشغل الدعاة فى كل مرحلة من مراحل السير.

وفى هذه الصفحات، أحاول أن أعرض ما يجول فى خاطرى من أفكار فى هذا الشأن، وهو أولاً وآخراً اجتهاد يخطئ ويصيب، أدعو الله أن يوفقنى فيه إلى السداد: ((إن أريد إلا صلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب))(هود : 88)

محمد قطب

تأملات ف نشأة الجيل الأول

نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الأول؛ لأن فيها زاداً كاملاً لكل من أراد أن يدعو، أو يتحرك بهذا الدين فى عالم الواقع، فقد صنع ذلك الجيل على عين الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه لموسى عليه السلام : ((ولتصنع على عينى))(طه : 39)، ونشأ على يدى أعظم مرب فى تاريخ البشرية، محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكان جيلاً فريداً فى تاريخ البشرية كله، يوجهه الله بالوحى، ويتابعه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالتربية والتوجيه، فاكتملت له كل وسائل النشأة الصحيحة فى أعلى صورة، فأصبح كالدرس ((النموذجى))، الذى يلقيه الأستاذ ليعلم طلابه كيف يدرسون، حين يئول إليهم أمر التعليم.

ثم إن إرادة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت أن يتم أمر هذا الدين على السنن الجارية – لا الخارقة- لحكمة أرادها الله، لكى لا يتقاعس جيل من الأجيال فيقول: إنما نصر الجيل الأول بالخوارق، وقد انقطعت الخوارق بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) !

فما كان فى هذا الدين من عناصر غير بشرية، فهو الوحى المنزل من عند الله، وذلك باق ومحفوظ بحفظ الله: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون))(الحجر:9)

وهو بالنسبة للجيل الأول كالجيل الأخير، هو كلمة الله لهذه الأمة، وللبشرية كافة، تحمل حقيقة هذا الدين، وتحمل المنهج الربانى، الذى يريد الله من البشر، إلى قيام الساعة، أن يقيموا عليه حياتهم، ويؤسسوا عليه بنيانهم، سواء كان هو الكتاب المنزل، أو البيان الذى قام به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهذا الكتاب، بالسنة القولية أو العملية: ((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)) (النحل: 44) . ((وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحى يوحى))(النجم : 3-4)

أما قتال الملائكة مع المؤمنين فى بدر، فلم يكن هو فى ذاته الخارقة: ((إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقى فى قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان))(الأنفال : 12) .. فنزول الملائكة وتثبيتهم للبشر، لا يقتصر على معركة بدر، إنما قد يحدث بأمر الله فى أية مناسبة: ((إن الذين قالوا ربنا ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون(3.) نحن أولياؤكم فى الحياة الدنيا وفى الآخرة..)) (فصلت : 3.-31)

إنما كانت الخارقة هى رؤية المؤمنين للملائكة وهى تقاتل معهم : ((وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم))(آل عمران : 126)

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد اختص بها أهل بدر من دون المؤمنين، فقد كانت بدر حدثا كونياً لا يتكرر كل يوم : ((يوم الفرقان يوم التقى الجمعان))(الأنفال : 41) .. فهى التى كتبت التاريخ، وليس فى كل يوم يكتب التاريخ .. إنما تكتب منه سطور إثر سطور!

وفيما عدا هذه الخارقة التى اختص بها أهل بدر، كوفيما عدا ما يختص بشخص الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فقد جرت أمور الإسلام كلها على السنة الجارية، من استضعاف فى المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار فى الأرض. لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول هى دروس دائمة، لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هى قابلة للتطبيق فى كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل، لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وجهنا فى كتابه المنزل، لتدبر السنن الربانية، ودراسة التاريخ – الذى هو فى الحقيقة مجرى السنن فى عالم الواقع – فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الأولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، ولتكون هادياً لنا فى كل تحرك نقوم به، ومحكاً لاستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه

وقد استوقفنى فى أمر النشأة الأولى عدة أمور، زاد من رغبتى فى تدبرها وتأملها ما أراه بين الحين والحين من مخالفة لمقتضياتها فى مسيرتنا الحالية، وما أراه قد ترتب على هذه المخالفة من نتائج معوقة للمسيرة، فأحببت أن أعرض بعض هذه الأمور فى هذه الصفحات، داعياً الله أن يجنبنا الزلل دائماً وأن يهدينا إلى سواء السبيل

  • * *

من أشد ما استوقفنى فى مسيرة الجيل الأول، ذلك الأمر الربانى للمؤمنين أن يكفوا أيديهم فى مرحلة التربية بمكة، وأن يتحملوا الأذى صابرين، وقد أشار الله إلى هذا الأمر فى قوله تعالى، مذكراً به: ((ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة))(النساء : 77)

وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد سأل الرسول (صلى الله عليه وسلم) حين اشتد الأذى بالمؤمنين: ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( ما أمرنا بقتالهم))

ولم يرد فى النصوص – لا فى الكتاب ولا فى السنة – بيان لحكمة هذا الأمر الربانى، ومن ثم فالأمر متروك للاجتهاد لمعرفة الحكمة منه، وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته، أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا فى معركة مع قريش فى ذلك الحين، فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التى تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا فى معركة فى ذلك الوقت

أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة، أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين، وهم حينئذ قلة مستضعفة لا سند لها، فينتهى أمر الدعوة الجديدة فى معركة واحدة أو عدة معارك متلاحقة، دون أن يتحقق الهدف، ودون أن يتعرف الناس على حقيقة الدعوة، ودون أن يكتب لها الانتشار

ونفترض أن المعركة – على الرغم من عدم تكافئها – لم تؤد إلى إبادة المؤمنين كلهم، فثمة أمر آخر على غاية من الأهمية، يلفت انتباهنا بشدة، لاتصاله بما يجرى من أحداث فى وقتنا الحاضر

لمن كانت الشرعية فى تلك المرحلة فى مكة؟ لقد كانت فى حس الناس جميعاً لقريش..!

وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية !

ومن حق صاحب الشرعية – ولاشك – أن يؤدب الخارجين عليه !

وصحيح أن قريشاً تشتد فى ((التأديب)) إلى حد الفظاظة والقسوة، وأن بعض الناس قد يتأذى لهذه الفظاظة، حتى ليحاول أن يبسط حمايته – أو جواره – على بعض المعذبين المستضعفين، ولكن يظل الأمر فى حس الناس – من حيث المبدأ – أن قريشاً هى صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!

فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذ فى معركة مع قريش، وهذا التصور هو السائد بين الناس؟!

كلا بالطبع !

والآن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للأمر الربانى وكفوا أيديهم

لقد تمت أمور كثيرة فى الحقيقة

ففى البيئة العربية المعروفة ((بإباء الضيم))، والتى تحدث فيها المعارك الضاربة، لأسباب نرى نحن اليوم أنها تافهة، لا تستحق أن تراق فيها قطرة دم واحدة، وقد تطول تلك المعارك سنوات عديدة، ويفنى فيها كثير من الخلق كمعركة داحس والغبراء فى البيئة التى يمتشق فيها الرجل الحسام لأدنى إهانة توجه إليه، والتى يقول فيها عنترة :

ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر

للحرب دائرة على ابنى ضمضم

الشاتمى عرضى لوم أشتمهما

والناذرين إذا لم القهما دمى !

ويقول غيره :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا !

فى تلك البيئة، يؤذى رجال ذوو حسب ونسب، منهم من هو من أشراف قريش ذاتها، ثم لا يردون! شىء يلفت النظر ولاشك، لأنه مخالف مخالفة تامة لأعراف البيئة

بعبارة أخرى، شىء ليس من صنع البيئة فلابد أن يكون من صنع شىء آخر خلاف البيئة! ثم يشتد الأذى ويستمر وهم صابرون!

هنا معنى جديد ليس من صنع البيئة كذلك، ففى سبيل أى شىء يحتمل هؤلاء ما يقع عليهم من الأذى، ثم يظلون مصرين على التمسك بما يعرضهم للأذى؟

أفى سبيل شرف القبيلة؟ أفى سبيل مغنم من مغانم الأرض؟ أفى سبيل شهوة من شهوات الأرض؟ لا شىء من ذلك كله إنما هو سبيل ((عقيدة)) يعتقدونها

وقد تفهم هذه البيئة أن تكون العقيدة أعرافاً وتقاليد، يستمسك الناس بها، وقد يقاتلون من أجلها، أما أن يتحملوا الأذى فى سبيلها –وهم لا يردون – فأمر جديد كل الجدة على هذه البيئة، بيئة الأعراف والتقاليد !

ثم نمضى شوطاً آخر، فيتضح أمر جديد

إن الأذى يشتد حتى يصبح مقاطعة اقتصادية واجتماعية، ويصل إلى حد التجويع، بل يصل ببعض الناس حتى الموت، ولا يتخلفون عن عقيدتهم!

لا يمكن – فى عرف البيئة، ولا فى عرف البشر عامة – أن يتحمل الناس مثل هذا الأذى من أجل باطل إنما لابد أن يكون حقاً يعتقده صاحبه، ويحتمل الأذى من أجله، ويموت من أجله

بل إن هذا الحق الذى يعتقده هو أغلى عليه من أمنه وراحته ومكانته وكرامته وحتى من نفسه، حتى من حياته

تلك المعانى كلها، التى برزت للوجود من خلال ((كفوا أيديكم)) هى التى أتت بالأنصار من المدينة، حتى وإن لم تغير كثيراً من الأحوال فى مكة !

نستطيع أن نقول فى عبارة موجزة : إن أهل مكة اصطلوا النار، ولكن أهل المدينة استضاءوا بها عن بعد، فاهتدوا إلى الحق الذى شاء الله لهم أن يهتدوا إليه

  • * *

ولم يكن هذا وحده هو الذى اتضح للأنصار، من خلال ((كفوا أيديكم)).. لقد اتضح أمر أخر له أهميته البالغة فى خط سير الدعوة، وهو قضية ((الشرعية))

يقول سبحانه وتعالى فى سورة الأنعام، وهى سورة مكية: ((وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين))(الأنعام : 55)

وكأن المعنى: نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين

وورود هذا المعنى فى آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغى أن تكون واضحة، فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل فى قوله تعالى : ((ولتستبين)). ونزول هذه الآية فى الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هى من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة فى الفترة الأولى التى يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة

فما الذى تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟

إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين: أولاً : بيان من هم المجرمون؟ وثانياً: بيان السبيل الذى يسلكونه، والذى من أجله أصبحوا مجرمين

فمن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانة سبيلهم؟

لقد فصلت الآيات قضية الألوهية، وهى القضية الأولى والكبرى فى القرآن كله، والسور المكية بصفة خاصة

فصلت الآيات أنه إله واحد لا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شركاء فى الخلق ولا فى التدبير، ولا فى أى شأن من الشئون، وظلت الآيات تتنزل مبينة صفات ذلك الإله، وتنفى عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحاً تماماً، سواء لمن آمن أو لمن كفر، فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يعلموه ويؤمنوا به، حتى قالوا كما روى الله عنهم: ((أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشىء عجاب))(ص:5.

ولما تبين أنه إله واحد لا شريك له، طلب من الناس أن يعبدوه وحده بلا شريك؛ لأنه وحده الحقيق بالعبادة، وأن ينبذوا ما يدعون من الآلهة الزائفة، وأن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولا يتبعوا من دونه أولياء: ((اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون))(الأعراف: 3)

وعلى هذا فقد انقسم الناس فريقين اثنين: فريق المؤمنين، وهم الذين آمنوا أنه إله واحد، فعبدوا وحده بلا شريك، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده، وأن يتبعوا ما أنزله إليهم

وإذن، فأين تقع قريش فى هذا التقسيم؟

لقد كانت قبل تفصيل الآيات هى صاحبة الشرعية، وكان المؤمنون فى نظر قريش، وفى نظر الناس أيضاً، خارجين على الشرعية، فما الموقف الآن بعد تفصيل الآيات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بالله الواحد، وتبعده وحده بلا شريك، وتتبع ما أنزل الله؟ هل بقيت هى صاحبة الشرعية، وبقى المؤمنون هم الخارجين على الشرعية؟ أم تبدل الحال عند بعض الناس على الأقل، فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين، وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!

إنها نقلة هائلة فى خط سير الدعوة، أن يتبين الناس من هم المجرمون، وما سبيلهم، ويتبينوا فى المقابل من هم الذين على الحق، وما هو سبيل الحق

ولقد كان الإشكال بالنسبة لقريش خاصة أنهم هم سدنة البيت، الذى يعظمه العرب جميعاً، فضلاً عن كونهم أصحاب ثروة وأصحاب جاه وحسب ونسب، فاجتمعت لهم بمقاييس الجاهلية كل مقومات الشرعية، ممتزجة ببقايا الدين المحرف الذى ينتسبون به إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.. فلم تكن زحزحة الشرعية عنهم أمراً هيناً، خاصة والخارجون على شرعيتهم ضعاف فقراء لا قوة لهم ولا مال ولا سند من أحد من ذوى السلطان!

لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هى التى يمكن أن تجليهم عن شرعيتهم المدعاة، وتكشفهم على حقيقتهم، وهى أنه مجرمون لا شرعية لهم، لرفضهم الإيمان بالله الواحد، وعبادته وحده بلا شريك، واتباع ما أنزل الله

وهنا نسأل : لو أن المؤمنين فى مكة دخلوا فى معركة مع قريش، فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفى حس الناس أن قريشاً هى صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، فهل كان يمكن أن يستقر فى خلد أحد – كما استقر فى خلد الأنصار – أن القضية لها معيار أخر غير سدانة البيت، وغير المال والجاه، وكثرة العدد، ورصيد العرف، ورصيد التاريخ؟ وأن هذا المعيار هو : لا إله إلا الله.. هو الإيمان بألوهية الله وحده بلا شريك، وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع ما أنزل الله، وأن هذا هو الحق الذى لا شىء بعده إلا الضلال، وأن هذه هى القضية الكبرى التى يقاس بها كل شىء، وينبنى عليها كل شىء؟

هل كان يمكن أن يصل الحق الذى يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريق من الناس، كما وصل إلى أفئدة الأنصار، لو أن المؤمنين دخلوا معركة مع قريش، أم كان غبار المعركة يغشى على حقيقة القضية، وتنقلب القضية بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية ((لا إله إلا الله)) على هامش الصورة، إن بقى لها فى حس الناس وجود على الإطلاق؟!

أظن الصورة واضحة

لقد كانت ((كفوا أيديكم)) هى سر الموقف كله !

كانت هى التى أتاحت لقضية لا إله إلا الله – وهى قضية الرسل جميعاً من لدن آدم إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) - أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأى قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التى أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التى لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفراً لا شبهة فيه، كفراً غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله.. وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية : ((ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حى عن بينة))(الأنفال : 42)

هذا الوضوح الذى أتاحته للقضية ((كفوا أيديكم)) ، هو من مستلزمات الدعوة .. فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس ((لا إله إلا الله))، واستبانة سبيل المؤمنين فى المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول فى الزمن المعقول، وتظل الدعوة ترواح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب

وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال ((كفوا أيديكم)) ، جاء الأنصار !

وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول فى التاريخ !

  • * *

ولنا هنا وقفة عند هذه القضية : من هم الأنصار ؟

هل هم جماهير متحمسة، ألهب حماستها الإعجاب بشخص الرسول (صلى الله عليه وسلم)، والتعاطف مع هذه الفئة الفذة من البشر، الذين صبروا على الابتلاء، هذا الصبر الطويل الجميل، وثبتوا رغم الصعاب وشدة البلاء ؟! أم هم جنود جاءوا يعرضون جنديتهم على القائد، ويدخلون فى صف المجاهدين؟

ما أبعد الشقة بين هذا الوضع وذاك ف خط سير الدعوة !

لاشك أن الحب لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان قائماً فى قلوبهم، من كثرة رأوا وسمعوا عن خاصله الكريمة (صلى الله عليه وسلم)، وقد كان نموذجاً فريداً فى البشر، لا يدانيه أحد ممن عرفوه أو سمعوا عنه خلال التاريخ. ولاشك أن التعاطف مع المعذبين فى الأرض، كان قائماً فى قلوبهم، من كثرة ما رأوا وسمعوا من ألوان التعذيب، وألوان الصبر على التعذيب

ولكن هذا وذاك لم يكن الدافع الأوحد الذى يحركهم؛ إنما حركهم ابتداء أنهم آمنوا أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله .. آمنوا بالله ربا، وبمحمد (صلى الله عليه وسلم) رسولاً، وبالإسلام ديناً، فجاءوا يبايعون على السمع والطاعة، وعلى الموت والحياة

قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((تمنعونى؟)) قالوا : نمنعك مما نمنع منه نساءنا وأطفالنا. وقالوا : لو استعرضت بنا الصحراء قطعناها، ولو خضت بنا هذا البحر خضناه

جندية كاملة للدعوة الجديدة

لم يأن بعد أوان ((الجماهير))! إنما يأتون فى موعدهم المقدر عند الله

ولكن ماذا لو كان الأنصار رضى الله عنهم، مجرد جماهير متحمسة، جاءت بدافع الحماسة والحب والتعاطف فحسب.. هل كانت حماستهم تصبر على لأواء الطريق؟ هل كانت تصبر للصدام حين يأتى الإذن من الله العلى القدير برد العدوان ؟!

أما أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان سيفرح بدخولهم فى الدعوة واعتناقهم الإسلام، فأمر لا نظنه موضع شك.. وأما أن المؤمنين من أهل مكة كانوا سيفرحون برؤية إخوان لهم فى العقيدة،ن فأمر لا نظنه كذلك موضع شك .. أما أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان سيتحرك بهم فى خط الدعوة، فأمر يحوطه الشك الكثيف، ودليله سؤال الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهم : ((تمنعونى))؟ فالسؤال لم يكن عن إيمانهم، وقد جاءوا يعرضونه صريحاً بلا مواربة، إنما كان عن خطوة أخرى وراء الإيمان، وهى تجنيدهم أنفسهم لما آمنوا به وعرفوا أنه الحق

لم يكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) سيتحرك بهم، لو أنه رأى من أحوالهم أنهم مجرد جماهير متحمسة، لم تجند نفسها بعد للدعوة .. ولم يكن سيعتبر أن القاعدة قد اتسعت بتلك الجماهير المتحمسة التى آمنت – نعم – ولكنها لم تجند نفسها لاحتمال التكاليف

  • * *

متى جند الأنصار أنفسهم للدعوة؟

قلنا من قبل: إن النار التى اصطلى بها المؤمنون فى مكة، هى النور الذى استضاء به الأنصار فى المدينة، فجاءوا يعرضون أنفسهم لنصرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والدين الجديد

لقد جاءوا بقدر من الله – نعم – ولكن بسنة من سنن الله كذلك

إن وجود النموذج الواقعى، الذى يشهد للدعوة الجديدة، هو النواة التى يحدث حولها التجمع، ويحدث التجمع تلقائياً حول النواة ((الأم))، ثم يتسارع بعد ذلك، كلما زاد حجم النواة.. سنة ربانية فى الكون المادى وفى حياة البشر سواء !

والنواة الأم كانت هى الجماعة المؤمنة التى تكونت فى مكة حول رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والتى شكلها الوحى المنزل من عند الله، وصقلها المربى العظيم (صلى الله عليه وسلم) بما أضفى عليها من روحه، وأعطاها من جهده، وتابع نموها بصبره وجلده وسعة صدره وحكمته وبصيرته.. ثم جاءت الابتلاءات فزادتها صقلاً وصلابة وقرباً من الله ومن خلال ((كفوا أيديكم)) تكونت النواة الأم التى صنعت التاريخ !

ولو كان المؤمنون قد دخلوا فى معركة مع قريش فى مكة، لتأخر كثيراً تكون النواة الأم، ولتغيرت كثيراً صفاتها التى اكتسبتها، وذلك فوق الغبش الذى كان سيصيب قضية لا إله إلا الله، حين تتحول إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، ولتأخر كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء

  • * *

والآن فلنستعرض ما تم حتى الآن من خلال ((كفوا أيديكم))

ولقد تمت أمور على غاية من الأهمية فى مسيرة الدعوة

تم تحرير موضع النزاع، إن صح التعبير إنه قضية ((لا إله إلا الله)) دون غيرها من القضايا .. ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية، ولا على السلطة السياسية (وقد عرضت السلطة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأباها، وأصر على لا إله إلا الله، والمؤمنون من جانبهم لم يتحركوا حركة واحدة، تهدف إلى الاستيلاء على السلطة))

ليس الصراع على ((شرف)) سدانة اليبت، ولا ((وجاهة)) خدمة الحجيج

ليس على القوة الاقتصادية التى تملكها قريش وحدها دون المؤمنين، وتحارب المؤمنين من خلالها بالحصار والتجويع، والمؤمنون لا يتعرضون لها من قرب ولا بعيد

الصراع كله على القضية الكبرى التى هى – والتى يجب أن تكون دائماً – القضية الأولى، والقضية الكبرى فى حياة الإنسان، قضية من المعبود؟ ومن ثم من صاحب الأمر؟ من المشرع؟ من واضع منهج الحياة؟ قريش تريدها حسب أهوائها وخيالاتها وموروثاتها وأعرافها، والمؤمنون حول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يريدونها لله

وتم تركيز الجهد وتوفيره لتربية القاعدة الصلبة، التى ستحمل البناء

وتم تحرير قضية ((الشرعية)) ، بتفصيل الآيات واستبانة سبيل المجرمين

وتم أخيراً اتساع القاعدة بالجنود الذين استضاءوا بالنار التى اكتوى بها أهل النواة الأم، فتجمعوا بقدر من الله، وبحسب سنة من سنن الله، حول تلك النواة، مضيفين إليها قوة حقيقية فى الصراع ثم تم أمر آخر بالغ الأهمية كذلك، هو التجرد لله

إن التجرد لله عنصر من أهم العناصر التى تحتاج إليها الدعوة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بالنسبة للقاعدة بصفة خاصة، وبالنسبة لجميع العاملين على وجه العموم.

ولقد تعمق التجرد لله فى قلوب الصفوة المختارة، خلال فترة التربية فى مكة، من خلال الآيات المنزلة من عند الله، تدعو إلى إخلاص العبادة لله، ومن خلال القدوة المباشرة فى شخص الرسول (صلى الله عليه وسلم)، يعلمهم بالسلوك العملى كيف يكون إخلاص العبادة لله

فأما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد أدبه ربه فأحسن تأديبه

كان عليه الصلاة والسلام، فى مبدأ قيامه بالدعوة، شديد التأثر بتكذيب الناس له، شديد الحرص على هدايتهم، شديد الحزن عليهم بسبب إعراضهم عن الهدى الربانى، وذلك بما فطر عليه (صلى الله عليه وسلم) من حب الخير لجميع الناس

وكان الوحى يتنزل عليه (صلى الله عليه وسلم)، لتسليته والتسرية عنه : ((قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون))(الأنعام : 33) ((واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون))(النحل : 127)

ويتنزل الوحى لصرفه (صلى الله عليه وسلم) عن شدة الحزن، وشدة التطلع لآية من عند الله تجعلهم يؤمنون: ((فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا(6) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا(7) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا))(الكهف : 6-8) . ((وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الأرض أو سلما فى السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين(35) إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون))(الأنعام : 35-36)

ويتنزل الوحى ليقول للرسول (صلى الله عليه وسلم) : إن مهمته هى البلاغ فحسب، أما النتائج فمن صنع الله وحده : ((إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين))(القصص:56)

ومن أشد ما يلفت النظر فى هذا الشأن، أنه فى خلال فترة التربية فى مكة، لم يتنزل وعد واحد بالنصر لشخص الرسول (صلى الله عليه وسلم)، إنما كان يقال له: ((وإن ما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب))(الرعد : 4.) . بينما كان النصر والتمكين لهذا الدين مستيقناً عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

يقول خباب بن الأرت رضى الله عنه : شكونا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو متوسد بردة له فى ظل الكعبة، فقلناب ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ (وذلك لما اشتد إيذاء المشركين للمؤمنين فى مكة) فقال (صلى الله عليه وسلم) : ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له فى الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الركب من صنعاء إلى حضر موت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))

وبتوجيهات الوحى، تجرد قلب الرسول (صلى الله عليه وسلم)، حتى من رغبة التمكين لهذا الدين أثناء حياته، وتجرد للبلاغ. ثم ربى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصحابه على التجرد لله، حتى خلت نفوسهم من حظ نفوسهم، كما تحكى عنهم كتب السيرة، وصار همهم كله أن يخلصوا العبادة لله

ولما علم الله من قلوبهم أنها تجردت له، مكن لهم فى الأرض، وأذن لهم فى رد العدوان : ((أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير(39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز(4.) الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور))(الحج : 39-41)


موضع القدوة فى الجيل الفريد

يرى كثير من الناس أن ما كان طبيعياً ومناسباًن للجيل الأول فى فترة التربية بمكة، لا ينطبق على وضعنا الحاضر، ومن ثم فعلينا أن ندرسه للتاريخ، وليس للعبرة ولا للقدوة !

وهذا الأمر يحتاج إلى تجلية واضحة، لأنه مفرق طريق فى العمل الإسلامى فى الوقت الحاضر، وما لم تتضح الصورة تماماً – وبموضوعية كاملة – فستظل تيارات العمل الإسلامى تتصادم مع بعضها البعض، ولا تصل إلى موقف موحد أو متجانس، بينما أعداء هذا الدين يقفون موقفاً موحداً، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، متكالبين كلهم على الأمة الإسلامية، يجاهدون للقضاء عليها، متعاونين متساندين، كما حدث فى البوسنة والهرسك، وفى كشمير، وفى بلاد الشيشان، وفى كل مكان على ظهر الأرض

هل نحن فى المرحلة المكية، حيث المجتمع مشرك شركا واضحاً لا لبس فيه، والمؤمنون هم أولئك القلة التى آمنت بالدين الجديد، مستضعفة منبوذة من ذلك المجتمع، تتحرك حسب مقتضيات ذلك الوضع؟ أم نحن فى مجتمع مسلم منحرف عن الإسلام، نعمل على تصحيح الأوضاع فيه، بردها إلى الصورة الإسلامية الصحيحة؟ أم ماذا نحن على وجه التحديد؟

ولخطورة هذه القضية ، وما ثار حولها من جدل، وما ترتب على هذا الجدل من الفرقة، نود أن نتدارسها بروية، وأن نصل فيها إلى تصور واضح، غير متأثرين فيه بعواطفنا، أو بمواقف نحبها أو نكرهها

لسنا فى المرحلة المكية بكل تأكيد! فنحن – العاملين فى حقل الدعوة، والمستجيبين لها – نصوم ونحج، وقد فرض الصيام ولحج فى المدينة! ونحن نحرم كل ما حرم الله، ونوجب كل ما أوجب الله، غير منحصرين فيما نزل من التحريم والتحليل فى مكة !

ولسنا فى المرحلة المدنية بكل تأكيد! فليس الدعوة ممكنة فى الأرض، وشريعة الله ليست هى المحكمة فى الجزء الأكبر من العالم الإسلامى، والقائمون بالدعوة إما مغيبون فى السجون، أو معلقون على أعواد المشانق، وإما مضيق عليهم بمختلف وسائل التضييق.

فأين نحن على وجه الدقة؟ وأى منهج هو المناسب لنا؟ أهو المنهج الذى اتبعه الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى مكة بأمر من الله؟ أم هو منهج الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى المدينة، الذى اتبعه بأمر من الله؟ أم شىء أخر غير هذا وذاك، نجتهد فيه من عند أنفسنا بغير ضابط محدد؟!

قضية – كما ترى – لها أهميتها، وتحتاج إلى تحديد

  • * *


هناك فروق واضحة بيننا وبين المجتمع ولا شك، يتكئ عليها كثير من الناس للتفريق بين وضعنا وبين ذلك المجتمع

لقد كان الناس فى المجتمع المكى ينكرون فكرة الإله الواحد إنكاراً مطلقاً، حتى إن القرآن الكريم قد حكى عنهم تعجبهم مما جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلم) من التوحيد : ((أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشىء عجاب)) (ص: 5) بينما نحن فى العالم الإسلامى كله نقر بأن الله واحد، ولا نعتقد أن هناك آلهة أخرى مع الله

وكان الناس ينكرون فكرة البعث إنكاراً مطلقاً، حتى إن القرآن قد حكى عنهم تعجبهم مما جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلم) من عقيدة البعث: ((وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفى خلق جديد(7) أفترى على الله كذباً أم به جنة))(سبأ : 7-8) .. بينما نحن – فى العموم – نؤمن بالبعث، والجزاء والحساب، والجنة والنار، ودع عنك القلة القليلة الملحدة التى لا يقام لها وزن فى هذا المجال

وكان الناس ينكرون بعثة محمد (صلى الله عليه وسلم) ورسالته، كما حكى القرآن عنهم: ((وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب))() (ص: 4)، كما قالوا : ((أؤنزل عليه الذكر من بيننا))(ص:8)ونحن – ودع عنك القلة الملحدة التى لا يقام لها وزن – نؤمن ببعثة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأنه مرسل من ربه، وأن القرآن كلام الله، أنزله على رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، لا هو من كلام البشر، ولا هو من أساطير الأولين

ولا شك أن هذا كله حقائق


ولكن تعال ننظر من الجانب الآخر

جاء الإسلام لينفى كل وساطة بين العبد والرب، ويجعل الصلة مباشرة بين العباد وبين الله: ((وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون))(البقرة : 186)

فماذا فعلت الصوفية فى عقائد الناس؟ لقد جسمت الشيخ فى حس المريد، حتى أصبح واسطة بين العبد وربه، لا يملك أن يدعو الله باسم من أسمائه الحسنى إلا بإذن الشيخ، الذى يطلع على الأفئدة، ويقرر لكل فؤاد ما يصلح له من الأسماء، والمدة التى يستخدم فيها الاسم الممنوح له، ويظل سلطان الشيخ قائماً فى قلوب المريدين، حتى بعد موته بألف عام، فالموت لا يحول بين السلطان الروحى وبين القلوب .. والتمسح بالضريح، والدعاء عنده، والاستغاثة والاستعانة والذبح، هى علامات الإخلاص من المريد للشيخ، وهى كذلك وسائط التقرب إلى الله!

هل يختلف هذا كثيراً عن قول الذين كانوا يقولون : ((ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى))(الزمر : 3) أليس هذا شركاً واضح الأركان؟

وجاء الإسلام ليلغى كل تشريع من صنع البشر، ليقيم شريعة الله وحدها، وربط ذلك بأصل العقيدة : ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) (المائدة: 44) وجعل علامة النفاق الذى ينفى الإيمان، الإعراض عن شريعة الله: ((ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين(47) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون(48) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين(49) أفى قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون(5.) إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون))(النور : 47- 51)

وجعل اتباع البشر فيما يشرعون بغير ما أنزل الله بمثابة اتخاذهم أرباباً من دون الله، على مستوى عبادة غير الله سواء بسواء: ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون))(التوبة : 31)

فماذا فعلت العلمانية فى حياة الناس؟ كم حكومة فى الأرض الإسلامية تحكم بما أنزل الله؟ وماذا يقال على ألسنة العلمانيين عن شريعة الله؟ أليس هذا شركاً واضح الأركان؟

كيف نحكم إذن على هذه الأوضاع؟

يكمن الإشكال فى الحكم على الأوضاع القائمة اليوم فى العالم الإسلامى، فى التناقض الشديد بين ما يعلنه الناس عقيدة لهم، وما يمارسونه فى الواقع .. ثم الاختلاف فى الحكم على هذا التناقض، هل هو مخرج من الملة، أم هو دون ذلك؟ بعبارة أخرى: الإشكال هو الحكم على الناس

وفى رأيى – من سنوات عديدة – أن هذه القضية لا ينبغى أن تشغلنا فى مجال الدعوة، ولا ينبغى أن نقف عندها ونفترق حولها، ونتجادل ونتحزب، ويذهب كل فريق منا فى اتجاه

إن الناس – إلا من رحم ربك – واقعون فى الشرك لا جدال فى ذلك، سواء شرك الاعتقاد، أو شرك العبادة، أو شرك الحاكمية (شرك الاتباع) .. ولكن الحكم عليهم بأنهم مشركون قضية أخرى مختلفة، فليس كل من وقع فى الشرك يحكم عليه بأنه مشرك، إلا إذا توفرت فيه شروط معينة، وانتفت عنه الموانع التى تمنع تنزيل الحكم عليه

يقول ابن تيمية رحمه الله :

((وكنت أبين لهم أن ما نقل عن السلف والأئمة، من إطلاق القول تكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضاً حق، ولكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهى مسألة الوعيد، فإن نصوص القرآن فى الوعيد مطلقة، كقوله : ((إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما)) الآية .. وكذلك سائر ما ورد : من فعل كذا فله كذا، فإن هذه مطلقة عامة، وهى بمنزل قول من قال من السلف: من قال كذا فهو كذا. ثم الشخص المعين يلتغى حكم الوعيد فيه بتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً))

وقال رحمه الله فى مكان آخر: ((فإن نصوص الوعيد التى فى الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك، لا يستلزم ثبوت موجبها فى حق المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق فى ذلك بين الأصول والفروع))

وقال فى موضع ثالث : ((وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضاً للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد، والقولان فى الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم والصحيح أن هذه الأقوال التى يقولونها، التى يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التى هى من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هى كفر أيضاً. وقد ذكرت دلائل ذلك فى غير هذا الموضع، ولكن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده فى النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه فإنما نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله فى ذلك العام، حتى يقوم فيه المقتضى الذى لا معارض له، وقد بسطت هذه القاعدة فى قاعدة التكفير))

وهذا هو مفتاح القضية بالنسبة للدعوة ومنهج الحركة

فالناس- إلا من رحم ربك- واقعون فى شرك يشبه شرك الجاهلية، وإن لم يكونوا بالضرورة كلهم ممن يتنزل عليهم حكم الشرك والذى يهمنا فى الدعوة هو بيان حقيقة الإيمان، وبيان نواقص الإيمان، ودعوة الناس إلى ترك ما هم واقعون فيه من الشرك- بصرف النظر عن كونهم مشركين أو غير مشركين فى حكم الله- ودعوتهم إلى اعتناق الإسلام الصحيح، وممارسته فى عالم الواقع، لا فى عالم الأمانى، ولا فى عالم الأوهام

ليس الذى يهمنا أن نقول لفلان من الناس: أنت مشرك(أو نقول عنه ذلك)، إنما مهمتنا أن نقول له: إن ما تفعله شرك، وندعوه- بالحكمة والموعظة الحسنة- إلى الخروج من ذلك الشرك،والدخول فى حقيقة الإسلام

هذا من جانب الواقع الذى يعيشه الناس، وواجبنا تجاهه

ومن جانب آخر فإن الأوضاع القائمة فى العالم الإسلامى- إلا ما رحم ربك- أوضاع تحارب الدعوة، وتمنع الدعاة من بيان الحقيقة كاملة عن الإيمان ونواقص الإيمان، خاصة فيما يتعلق بالتشريع بغير ما أنزل الله؛ والسجون والمعتقلات والمشانق محشودة فى الطريق، تترصد كل من يريد أن يبين حقيقة لا إله إلا الله كما أنزلت من عند الله.

فما المنهج الأنسب للدعوة؟ إلى أى شئ ندعو؟ وعلى أى شئ نركز؟ وأى الوسائل يوصلنا- أو يقربنا- لما نريد؟

إذا تصورنا الأوضاع القائمة على حقيقتها، وتخلصنا فى الوقت ذاته من الإشكالات التى تترتب على إصدار أحكام على الجيل الحالى من الناس، قبل إقامة الحجة عليهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فإننا نجد أنفسنا أقرب ما نكون إلى المرحلة المكية من الدعوة،وإن لم نكن فى وضع مماثل لها تماماً، بسبب بعض الفروق بين هذا الوضع وذاك، وهى فروق قد تتسبب فى اختلاف الحكم على الناس، ولكنها لا تغير الحكم على الأوضاع، والأوضاع هى التى تقرر فى الحقيقة منهج الدعوة، وتقرر أقرب الوسائل إلى بلوغ الأهداف

ومن هنا نجد أن موضع الاقتداء بالجيل الأول أوسع بكثير مما قد يبدو عند الوهلة الأولى، وأن قضايا كثيرة يلزمنا أن نرجع فيها إلى تلك الفترة، نتدبرها ببصيرة مفتوحة، ونستلهم منها طريقنا فى الدعوة، ونتطلع إلى فضل الله أن يلهمنا فيها الصواب.


إذا درسنا أحوال الأمة الإسلامية- كما ينبغى أن نصنع- فسنجد انحرافات كثيرة،وقعت فى مسيرة الأمة خلال الأربعة عشر قرناً الماضية، ظلت تبعد الناس رويداً رويداً عن حقيقة الإسلام، حتى صار الإسلام إلى غربته الثانية التى أخبر عنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)  : ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ))

وإذا تتبعنا هذه الانحرافات- وينبغى لنا أن نفعل، لأنه لابد لنا من تشخيص الداء، لتحديد نوع العلاج- فسنجد أن الانحراف لم يقتصر على السلوك وحده، إنما تطرق إلى المفاهيم، وأن كل مفاهيم الإسلام قد أصابها الانحراف، حتى مفهوم لا إله إلا الله- بل بدءاً بمفهوم لا إله إلا الله- بالإضافة إلى مفهوم العبادة، ومفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الدنيا والآخرة، ومفهوم الحضارة، ومفهوم التربية، ومفهوم الجهاد... إلخ

فإذا كان الأمر كذلك، فبأى شئ نبدأ؟ هل لنا مناص من أن نبدأ بتصحيح مفهوم لا إله إلا الله؟ وهل يمكن تصحيح حياة الناس على قاعدة إسلامية، إذا لم نصحح مفهوم لا إله إلا الله فى عقول الناس وقلوبهم؟ فأما العقول فمهمتها إدراك الحق، وأما القلوب فمهمتها تحويل الإدراك الذهنى إلى شحنة وجدانية دافعة إلى السلوك العملى فى عالم الواقع.. وهذا هو طريق الإصلاح

والآن فلننظر ماذا أصاب مفهوم لا إله إلا الله فى حس الناس؟

لقد أصابه انحسار شديد، حتى أصبحت لا إله إلا الله مجرد كلمة تقال باللسان، لا تأثير لها فى واقع الكثرة الكاثرة من الناس، إلا من رحم ربك، بل إنها لم تعد مانعة من الوقوع فى الشرك عند كثير من الناس، سواء شرك الاعتقاد، أو شرك العبادة، أو شرك التشريع

والفرق بين واقعنا المعاصر وواقع المجتمع الجاهلى وقت البعثة، أن القوم كانوا يمارسون الشرك الظاهر الصريح، ويرفضون فى الوقت ذاته أن يقولوا : لا إله إلا الله .. أما الناس فى واقعنا المعاصر – إلا من رحم ربك – فإنهم يقولون بأفواههم : لا إله إلا الله، ثم يقعون فى الشرك بنوع من أنواعه، أو بجميع أنواعه

لذلك فإننا نحتاج إلى منهج شديد الشبه بمنهج الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى مكة، لبيان حقيقة لا إله إلا الله، ثم تحويلها إلى واقع معاش فى حياة الذين يعتنقون هذا الدين

وفى ظنى أنها مهمة شاقة، لا تقل مشقة، ولا حاجة إلى بذل الجهد، عما بذل فى الجولة الأولى، لإزالة الغربة عن الإسلام أول مرة، بل ربما كانت الغربة الثانية أعسر فى إزالتها من الغربة الأولى، حيث كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حاضراً بشخصه يمثل القدوة الحية ومنبع الإلهام

لقد كان العسر فى الجولة الأولى ناشئاً من لدد الخصومة، بالإضافة إلى شدة التمسك بعرف الآباء والأجداد: ((فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لدا))(مريم : 97) . ((وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون))(البقرة : 17.)

أما فى الجولة الثانية، فلن نجد مشقة فى أن نجعل الناس ينطقون بأفواههم: لا إله إلا الله، فهم ينطقونها صباح مساء! ولكن المشقة أنهم يظنون أنهم بمجرد نطقهم للا إله إلا الله صاروا مسلمين، ولصقت بهم صفة الإسلام، أياً كان سلوكهم الواقعى، وأياً كان مدى نقضهم لمقتضيات لا إله إلا الله فى عالم الواقع! وأنك إن قلت لهم: إن للا إله إلا الله مقتضيات لا يثبت للإنسان إسلامه إلا بالتزامها، وإلا أخذ عليه إقراره اللسانى واعتبر مرتداً، كذبوك! وقالوا : ما سمعنا بهذا فى آبائنا الأولين!

إنهم – معظمهم – واقعون فى لوثة الفكر الإرجائى، الذى يقول: ((من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن، ولو لم يعمل عملاً واحداً من أعمال الإسلام))! والذى يقول: ((الإيمان هو التصديق، أو هو التصديق والإقرار، وليس العمل داخلاً فى مسمى الإيمان))! والذى يعتبر المخالفات كلها بجميع أشكالها، مجرد معاص، ثم يقول: ((لا يضر مع الإيمان معصية))!

وإزالة آثار هذه اللوثة من حياة الناس، وردهم إلى المفهوم الصحيح للإيمان، الذى كان عليه السلف الصالح، والذى يقول: إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، هو المهمة كالحقيقية ((للغرباء))، الذين بشرهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بجزيل الأجر: ((طوبى للغرباء))، وقال عليه الصلاة والسلام : ((فطوبى للغرباء يصلحون ما أفسد الناس من سنتى))

وسنتحدث عن التربية فى فصل مستقل، ولكنا هنا نقرر أن نقطة البدء فى الدعوة يجب أن تكون هى التعريف بلا إله إلا الله، التى صارت حقيقتها مجهولة فى غربة الإسلام الثانية، وصارت حين تعرض على حقيقتها تستوحش لها النفوس!

ونقرر كذلك أن التعريف بلا إله إلا الله – فضلاً عن التربية على مقتضياتها – ليس مجرد معلومات تلقى، وليس مجرد خطبة أو درس أو موعظة، إنما هو جهد حقيقى دائب، يحتاج إلى متابعة ومثابرة، ويحتاج إلى تتبع مسارب النفس ومداخلها، لتنقيتها من الغبش الذى أحدثه الفكر الإرجائى، فضلا عن الغبش الذى أحدثه الفكر العلمانى المستحدث، وكلاهما حمض أكال يوهن بناء العقيدة، ويفرغها من محتواها الحى، ويفقدها قوتها الفاعلة التى كانت لها يوم أن كانت على حقيقتها كما أنزلها الله

ثم نقرر أخيراً أن الاستعجال فى هذا الأمر – على أساس أنه أمر بدهى واضح، لا يحتاج إلى بذل الجهد فيه، أو على أساس أن ما بذل من الجهد فيه، فيه الكفاية، أو على أساس أن لدينا مهام كثيرة، وليس لدينا وقت كثير ننفقه فى التعريف بلا إله إلا الله – فضلاً عن التربية على مقتضياتها- هذا الاستعجال لا يأتى بخير، ولا يخدم الدعوة، ولا يجعل لها مردوداً مثمراً فى نهاية المطاف

وموضع الاقتداء هنا بالجيل الفريد، أن نتدبر مدى عناية القرآن الكريم بهذه القضية، وعناية الرسول (صلى الله عليه وسلم) ببيانها، فضلاً عن التربية على مقتضياتها، وأنها استغرقت الجزء الأكبر من مجموع سنوات الدعوة، ومن جهدها كذلك

وإذا ظننا أن سبب تركيز القرآن الكريم على هذه القضية فى السور المكية، أن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة كانوا مشركين، فلنتذكر أننا نواجه اليوم بالدعوة قوماً واقعين فى الشرك، وإن لم يكونوا كلهم بالضرورة مشركين، وأن الشرك الذى هم واقعون فيه هو من ذات الأنواع التى كان العرب المشركون واقعين فيها : شرك الاعتقاد، وشرك العبادة ، وشرك الحاكمية

ولكن علينا أن نتذكر كذلك أن التركيز على هذه القضية ليس سببه دائماً أن المخاطبين مشركون! فالمؤمنون كذلك يحتاجون إلى مداومة التذكير بها وبمقتضياتها، والدليل على ذلك أن الحديث عن لا إله إلا الله لم ينقطع فى القرآن الكريم، حتى بعد أن تكونت الجماعة المسلمة، وتمكنت فى الأرض، ودخلت المعارك من أجل لا إله إلا الله، فقد أنزل الله فى سورة النساء: ((يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً))(النساء : 136)

وأنزل الله آيات كثيرة فى السور المدنية تربط التوجيهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بلا إله إلا الله ومقتضياتها

((قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شىء قدير (26) تولج الليل فى النهار وتولج النهار فى الليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى وترزق من تشاء بغير حساب(27) لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين))(آل عمران : 26-28)

((يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا))(النساء : 59)

والأمثلة على ذلك كثيرة

ومن ثم فليست لا إله إلا الله درساً يتلى ثم ينتقل منه إلى غيره، إنما هى – كما قلت فى كتاب سابق – درس يتلى وينتقل معه إلى غيره، ويظل هو حديث الأمة المسلمة إلى قيام الساعة

  • * *


ما السبيل للتعريف بلا إله إلا الله ؟

إنه كما حدده الله تعالى : الحكمة والموعظة الحسنة : ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين))(النحل : 125)

ويجب أن ندرك أن الحكمة والموعظة الحسنة ليست هى التربيت على أخطاء الناس وانحرافاتهم، ودغدغة مشاعرهم، لكى يرضوا عنا ويتقبلوا منا !

فأدرى الناس بمراد ربه هو الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى عمه أبى طالب، فقالوا : سفه أحلامنا وسب آلهتنا وكفر آباءنا! وقد كانت مواجهة العرب بكل ذلك، هى مقتضى الحكمة كما نفذها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)!

إنما كانت الحكمة كف الأيدى، وعدم الدخول مع المشركين فى معركة فى ذلك الأوان، مع عدم استفزازهم بما يعطيهم مبرراً للعدوان، مع التصريح بالحقائق كلها بلا نقصان

وهنا نصل إلى قضية هامة من قضايا الحاضر، لننظر موضع القدوة فيها من الجيل الفريد: هل كان يحسن بنا – أو يجدر بنا- أن ندخل فى صراع مسلح فى الوقت الحاضر مع أصحاب السلطان؟

أما العدوان من جانب أى سلطة لا تحكم بما أنزل الله، فأمر لابد أن نتوقعه دائماً؛ لأنه سنة من سنن الله، ولم يحدث قط أن سلطة جاهلية رضيت عن دعوة لا إله إلا الله، أو حتى هادنتها حين تطلب المهادنة! حينما قال شعيب عليه السلام لقومه : ((وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين)) (الأعراف : 87)، لم يقبل الملأ هذه المهادنة، وأصروا على إخراج المؤمنين أو إكراههم على ترك دينهم : ((قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن فى ملتنا قال أو لو كنا كارهين))(الأعراف: 88)

وفى الجاهليات الحديثة التى تسمى نفسها ((ديمقراطية))، تتاح الحرية لجميع الفئات وجميع الدعوات، إلا الفئة التى تدعو للا إله إلا الله! ويكفى ما حدث فى الجزائر نموذجاً لما نقول، حيث التزم الإسلاميون – بصرف النظر عن خطأ ذلك أو صوابه – التزموا قواعد الجاهلية ومنهجها، فوصلوا إلى الأغلبية عن طريق صندوق الانتخاب كما تشترط الجاهلية، فإذا تلك الجاهلية تتنكر لكل مبادئها، التى تتيحها للفئات كلها والدعوات كلها، وتقف للإسلاميين بالعنف تقول لهم : لنخرجنكم أو لتعودن !

لا مجال لأن يسأل سائل : هل هناك وسيلة يمكن أن تستخدمها الدعوة، لا تستثير غضب السلطة الجاهلية؟ فالأمر مفروغ منه! إنما السؤال الذى سألناه : هل كان يحسن بنا – أو يجدر بنا – أن ندخل فى صراع مسلح فى الوقت الحاضر مع أصحاب السلطان؟

وللإجابة على هذا السؤال نعود لمراجعة الدرس المستفاد من تاريخ النشأة الأولى، والذى عالجناه فى الفصل الماضى، فنسأ بادئ ذى بدء : متى أذن الله للمسلمين فى رد العدوان بقوله تعالى : ((أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير))(الحج : 39)؟

جاء الإذن بعد أن تحقق ما يأتى : تحرير قضية لا إله إلا الله تحرير قضية الشرعية.. بناء القاعدة على أسس متينة اتساع القاعدة بمجئ الأنصار تربية القاعدة على التجرد لله

والآن فلننظر، ماذا تحقق من هذه الأمور فى المسيرة الحالية، وبأى قدر تحقق؟

هل تم تحير قضية لا إله إلا الله، لا نقول عند الجماهير، بل عند الدعاة أنفسهم؟

هل وضح عند الدعاة أن التشريع بغير ما أنزل الله شرك مخرج من الإيمان، وأن الرضى بهذا التشريع هو كذلك شرك مخرج من الإيمان؟ أم لا يزال الجدل يدور بينهم حول هذه القضية، ما بين شاك وبين مقتنع؟ ودع عنك قضية الحكم على الناس، فتلك قضية لا نتعرض لها هنا، وندعو دائماً ألا تشغلنا عن مهمة الدعوة لبيان حقيقة لا إله إلا الله

إنهما قضيتان منفصلتان – أو يجب أن تكونا منفصلين – إحداهما عن الأخرى إحداهما قضية تعليمية، قضية بيان الحقائق للناس، تلك الحقائق التى صارت مجهولة عند كثير من الناس بسبب الغربة الثانية للإسلام، وهى أمانة الله لا بد من أدائها وعدم كتمانها، مهما استوحش الناس منها عند عرضها على حقيقتها والثانية قضية تطبيقية، والتطبيق لابد أن يسبقه إقامة الحجة على الناس أولاً، بالبيان المستفيض المتحمض للبيان، بلا اشتباك بأى قضية أخرى تغشى عليها، وتلقى عليها ظلالاً تصرف الناس عن حقيقتها

ونعود للسؤال: هل وضحت قضية التشريع بغير ما أنزل الله عند الدعاة أنفسهم – ودع عنك الآن جماهير الناس – أم لا يزال يختلط عليهم قول ابن عباس رضى الله عنهما : كفر دون كفر، كفر لا يخرج من الملة؟!

إن الذى قال عنه ابن عباس رضى الله عنهما إنه كفر دون كفر، ليس هو التشريع بغير ما أنزل الله، إنما هو الحكم فى قضية معينة بغير ما أنزل الله، جهلاً أو تأولاً أو شهوة أو لقاء رشوة أو هوى، دون جعل هذا الحكم تشريعاً مغايراً لحكم الله

إن القاضى الذى يؤتى له بإنسان ثبت شربه للخمر، وتفوح من فمه رائحته، فلا يقيم عليه الحد، لأنه تلقى رشوة من أهل الرجل، فالتوى عن حكم الله بحجة من الحجج، هو قاض فاسق، ولكنه لا يكفر بفسقه .. أما يوم يقول : إن شرب الخمر ليس جريمة، أو إنها جريمة لا يقام عليها حد، إنما توقع عليها عقوبة أخرى، فإنه يكون كافراً كفراً مخرجاً من الملة، لأنه أنشأ حكماً فى القضية مخالفاً لحكم الله، وذلك باتفاق الفقهاء جميعاً

حين حكم التتار بالياسق وهو – كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : مجموعة أحكام بعضها مأخوذ من القرآن، وبعضها من الإنجيل، وبعضها من التوراة، وبعضها من وضع جنكيز خان – قال ابن كثير رحمه الله ، فى مناسبة تفسير الآية الكريمة : ((أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون))(المائدة : 5.) : ((ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله، المشتمل على كل خير، الناهى عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والاصطلاحات التى وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بأهوائهم وآرائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية، المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذى وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها بمجرد نظره وهواه، فصارت فى بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه فى قليل ولا كثير))(

وقد علق على هذه القضية سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ( ) فى رسالة ((تحكيم القوانين الوضعية)) – وهو المشهود له بغزارة العلم والقوة فى الحق – بعد أن أورد قول ابن كثير رحمه الله :

((فانظر كيف سجل سبحانه وتعالى عن الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر والظلم والفسوق، ومن الممتنع أن يسمى الله سبحانه وتعالى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ولا يكون كافرا، بل هو كافر مطلقاً، إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد. وما جاء عن ابن عباس رضى الله عنه فى تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدل على أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن ملة الإسلام، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة؛ أما الأول وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع:

أحدها : أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله، وهو معنى ما روى عن ابن عباس رضى الله عنه، واختاره ابن جرير، أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعى، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المقررة المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلا من أصول الدين، أو فرعا مجمعا عليه، أو أنكر حرفا مما جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة

الثانى: ألا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كونه حكم الله ورسوله حقا، ولكن اعتقد أن حكم غير الرسول (صلى الله عليه وسلم) أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقا، أو بالنسبة لما استجد من الحوادث التى نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال، وهذا أيضا لا ريب أنه كفر لتفضيله أحكام المخلوقين التى هى محض زبالة الأذهان وصرف حثالة الأفكار على حكم الحكيم الحميد . وحكم الله ورسوله لا يختلف فى ذاته باختلاف الأزمان وتطور الأحوال وتجدد الحوادث . فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها فى كتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، نصا ظاهرا، أو استنباطا، أو غير ذلك، علم ذلك من علمه وجهله من جهله

الثالث: ألا يعتقد أنه أحسن من حكم الله ورسوله، ولكنه اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين اللذين قبله، فى كونه كافرا الكفر الناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقول الله عز وجل ((ليس كمثله شىء)) ونحوها من الآيات الكريمات الدالة على تفرد الرب بالكمال وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين، فى الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه

الرابع: أن لا يعتقد كون الحكم بغير ما أنزل الله مماثلا لحكم الله ورسوله، فضلا عن أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله. فهذا كالذى قبله، يصدق عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة بتحريمه

الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية إعدادا، وإرصادا، وتفريعا، وتشكيلا، وتنويعا، وحكما، وإلزاما، ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، فلهذه المحاكم مراجع هى القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسى، والقانون الأمريكى، والقانون البريطانى، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك

السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادى ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التى يسمونها ((سوالف))

وأما القسم الثانى من قسمى كفر الحاكم بغير ما أنزل الله وهو الذى لا يخرج من الملة، فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضى الله عنه لقول الله عز وجل: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) قد شمل ذلك القسم، وذلك فى قوله رضى الله عنه فى الآية ((كفر دون كفر)) وقوله أيضاً ليس بالكفر الذى تذهبون إليه أ.هـ، وذلك أن تحمله شهوته على الحكم فى قضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو حق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى.

وهذا إن لم يخرجه كفره عن الملة، فإن معصيته عظمى أكبر من الكبائر، كالزنا وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس وغيرها، فإن معصية سماها الله فى كتابه كفرا، أعظم من معصية لم يسمها كفرا. نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقيادا ورضاءً، إنه ولى ذلك والقادر عليه))

  • * *

فهل اتضحت القضية عند الدعاة أنفسهم، أم ما يزال بعضهم تختلط عليه الأمور، مرة من مقالة ابن عباس رضى الله عنهما، ومرة من أثر الفكر الإرجائى الذى يفصل بين الإيمان والعمل، حتى لو كان نقضاً صريحاً للا إله إلا الله، كالتشريع بغير ما أنزل الله؟

وإذا كان الأمر ما يزال مختلطاً عند بعض الدعاة، فماذا نتوقع من أمر الجماهير؟ وكم من الجهد ما زال أمامنا، حتى تتضح هذه القضية بغير غبش فى حس الناس، ويتمكنوا من رؤية الحق الربانى فيها دون أن تستوحش نفوسهم من الحق؟!

هذا فى قضية الحاكمية، وهى ليست وحدها التى تحتاج إلى تجلية فى قضية لا إله إلا الله.. فتحرير القضية يستلزم تخليصها كذلك مما يشتبك بها من قضايا الوطنية والقومية والعدالة الاجتماعية، وأمثال ذلك من القضايا التى تداخلت معها فى مسيرة الدعوة

لقد كانت أمام الرسول (صلى الله عليه وسلم) قضايا كثيرة يمكن أن يثيرها للاستكثار من ((الجماهير))

كان الفرس يحتلون جزءا من الجزيرة العربية، والروم يحتلون جزءاً أخر، وكان فى إمكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يثير حمية العرب القومية لتلتف حوله الجماهير، حتى إذا اجتمعوا وآمنوا بزعامته قال لهم : قولوا لا إله إلا الله

وكانت هناك قضية اجتماعية، فالأغنياء يصلون إلى درجة الثراء الفاحش، والفقراء يصلون إلى درجة الفقر المدقع، ولا أحد يفكر فى الحد من غنى الأغنياء، بالغاء الربا – على الأقل- وأخذ جزء من الفائض عند الأغنياء، ورده على الفقراء لرفع مستواهم، وكان فى إمكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يثير القضية، فتلتف حوله جموع الفقراء المسحوقين، فيكون منهم قوة يواجه بها جبروت قريش، وفى حمية الصراع يقول لهم : قولوا لا إله إلا الله

وكان غير ذلك من القضايا مادة مفيدة فى تجميع الجماهير وإثارة حماستهم، ثم استمالة الناس للدعوة من خلال تلك القضايا العامة، التى تستهوى بطبيعتها كثيراً من الناس، فيتجمعون لها بسهولة، ويلتفون حول من ينادى بها، ويمنحونه ودهم وحماستهم. ولكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - بتوجيه من الوحى الربانى – لم يثر أية قضية من هذه القضايا فى فترة التربية بمكة؛ وإنما أثار القضية الواحدة التى جلبت له عداء ((السادة)) وبالتبعية عداء الجماهير، وظل مصرا عليها وحدها، حتى أذن الله أن تتفتح لها قلوب أفضل الخلق بعد رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم

ولم يكن ذلك لأن هذه القضايا كلها ليس لها أهمية فى حياة الأمة، كلا! فقد تناولتها الحركة الإسلامية كلها واحدة إثر الأخرى؛ ولكن لأن القضية الكبرى – فى المنهج الربانى وفى واقع البشر – هى قضية لا إله إلا الله، التى يتوقف عليها منهج حياة الإنسان فى الدنيا، ومصيره فى الآخرة، ولأن قضايا الحياة كلها – فى المنهج الربانى – يجب أن تكون نابعة من لا إله إلا الله، ومرتبطة بها ارتباطاً حيوياً، فيتوفر لها الصدق والإخلاص والتجرد . ومن ثم جرى المنهج الربانى على تحرير قضية لا إله إلا الله أولاً ، وتجريدها من أى شىء يمكن أن يشوبها فى مرحلة التكوين، لتكون عبادة خالصة لله، هدفها رضوان الله وحده، حتى إذا تمحضت فى قلوب أصحابها، وصلت بها كل قضايا الأرض اللازمة لحياة الأمة، دون خشية من اختلاط الأمور فى تلك القلوب، بينما الخشية قائمة فى مرحلة التكوين، وحين يحدث الاختلاط فى المنشأ، فما أسرع ما تغلب مصالح الأرض، وتصبح مداخل للشيطان!

هل تجردت قضية لا إله إلا الله فى قلوب الدعاة أنفسهم – ودع عنك الآن قلوب الجماهير – فتمحضت لتقرير العبودية الخالصة لله، غير مختلطة بقضايا القومية والوطنية والعدالة الاجتماعية، والدعاة – من أجل استمالة الجماهير – يتحدثون عن ((اشتراكية الإسلام))، ((وديمقراطية الإسلام))، و((التعددية فى الإسلام))؟


هل تم تحرير قضية الشرعية، لا نقول عند الجماهير، بل عند الدعاة أنفسهم؟

ما مفهومنا عن الشرعية؟

فى الغربة الثانية للإسلام – وخاصة بعد تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم فى معظم بلاد المسلمين – نسينا معاييرنا الإسلامية، واستبدالنا بها معايير الغرب، خاصة فى مجال ((السياسة الشرعية)) والغرب يقول : إن مقياس الشرعية هو النجاح فى الانتخابات.. فمن فاز بأكبر عدد من الأصوات فهو صاحب الشرعية الذى يحق له أن يتولى الحكم

ودعك مؤقتاً من التغير الحاد الذى أصاب هذا المعيار، حين كان الفائزون بأكبر عدد من الأصوات هم الإسلاميين فى الجزائر! فقد عودنا الغرب ((العظيم!)) أن يكيل بمكيالين فى أى قضية يكون المسلمون طرفا فيها، وذلك لشدة إيمانه بالقيم والمبادئ واحترام الآخر، واحترام حقوق الإنسان!!

دعك من الغرب ومواقفه، وتعال نسأل الإسلاميين: هل هذا هو المعيار الإسلامى فى هذه القضية؟ هب أن إنساناً أو حزباً أو هيئة – أو ما يكون من الأشكال السياسية – حصل على أغلبية ساحقة فى الانتخابات، حصل على مائة فى المائة من أصوات الناخبين، ثم لم يحكم بما أنزل الله، فهل تكون له شرعية فى دين الله؟!

لقد اختلط علينا – فى غربة الإسلام الثانية – أمران مختلفان: طريقة اختيار الحاكم، ونوع الحكم الذى يحكم به الناس وحين كان الإسلام هو الحاكم فى الأرض الإسلامية، تكلم فقهاء السياسة الشرعية عن الشروط الواجبة فى الحاكم، وتكلموا عن البيعة الحرة، وعن الشورى، وعن غيرها من الأمور المتعلقة بسياسة الحكم، وتحدثوا عن ((فقه الضرورة)) ، وما يمكن التنازل عنه من الشروط تحت ضغط الضرورة، فقالوا : ((وللمتغلب السمع والطاعة)) .. ولكن لم يدر فى خلدهم قط أن حاكماً يمكن أن يشرع بغير ما أنزل الله، ثم يكون حاكماً شرعياً على المسلمين!!

إن الشرط الأساسى لشرعية الحكم فى الإسلام، أن يكون التشريع القائم هو الشريعة الربانية، ومر بنا أنفاً قول ابن كثير رحمه الله فى الحاكم الذى لا يحكم بما أنزل الله، إنما يحكم بتشريع مخالف للشريعة. فهل تحررت هذه القضية فى أذهان الدعاة أنفسهم، فضلاً عن الجماهير.. أم إن حديثنا كله يجرى حوله الانتخابات، وهل هى حرة أم مزورة؟ وكم صوتاً نلنا حتى الآن فى البرلمان؟ وكم يلزمنا من الجهد لزيادة نصيبنا من الأصوات؟!

إن الظن بأننا إذا حصلنا على أغلبية فى البرلمان، فسيترك لنا المجال لتطبيق شريعة الله، ظن ساذج إلى أقصى درجات السذاجة، ويكفى واقع الحال فى الجزائر دليلاً على ذلك

ولكن اختيارنا لهذا الطريق – من حيث المبدأ – من أجل الوصول إلى الحكم، ثم محاولة تطبيق شريعة الله من هذا الطريق، مخالفة شرعية؛ لأنه يجعل الناس هم المرجع فى اختيار نوع الحكم الذى يحكمون به، ((ولا نتحدث هنا عن اختيار الحاكم))، فإذا اختاروا الإسلام حكم الإسلام، وإذا اختاروا غيره حكم غيره! فهل هذا هو الإسلام؟!

وأين نحن من قوله تعالى : ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم))(الأحزاب : 36)

إن مصدر الإلزام فى تحكيم شريعة الله ليس هو اختيار البشر أو عدم اختيارهم ما داموا مسلمين.. فما داموا مسلمين فقد لزمهم التحاكم إلى شريعة الله بداهة، وإلا انتفى الإيمان عنهم إن أعرضوا عن شريعة الله، واتجهوا إلى غيرها من الشرائع، وإن صلوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون!

((ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين(47) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون))(النور : 47-48)

فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً))(النساء : 65)

حقيقة إنه لا يمكن فى عالم الواقع أن يحكم الإسلام ما لم يكن هناك مؤمنون، يصرون على تحكيم شريعة الله، ويرفضون أى شريعة سواها، يقيناً منهم أن الرضى بشرع غير شرع الله كفر مخرج من الملة. . وأن هذه العينة من المؤمنين هى الآن قلة فى المجتمع تستضعفهم الجاهلية وتعصف بهم .. هذه حقيقة، ولكن مقتضاها هو أن نظل ندعو، ونظل نبين للناس هذه الحقيقة، أنه لا إيمان لأحد إذا رضى بشرع غير شرع الله، ونظل نربى الناس على مقتضيات هذه الحقيقة، حتى تصبح القاعدة المؤمنة من القوة بحيث يصبح فى يدها مقاليد الأمور، وهذه هى مهمة الدعوة فى وقتها الحاضر، مهما طال بها الأمر لتحقيقها، وليست مهمتها أن تستفتى الناس عن طريق صناديق الانتخاب: هل يريدون أن يكونوا مسلمين أم لا يريدون!

فهل وضحت هذه القضية فى حس الدعاة أنفسهم، فضلاً عن الجماهير، أم إنهم انزلقوا بغير وعى منهم إلى معايير الديمقراطية التى تجعل الجماهير – فى ظاهر الأمر على الأقل – هم المحكمين فى نوع الحكم، وليس الله الذى له الخلق والأمر : ((ألا له الخلق والأمر)) (الأعراف: 54).. وهذا مفرق طريق رئيسى بين الجاهلية والإسلام!


هل تم بناء القاعدة على أسس متينة؟

نقول بادئ ذى بدء : إنه إذا كانت لم تتبلور بعد قضية لا إله إلا الله، ولا قضية الشرعية فى حس بعض الدعاة على الأقل، فكيف تكون القاعدة قد قامت على المواصفات المطلوبة؟

إن القاعدة المطلوبة – وهى تتكون أساساً من جيل الدعاة الذين يعدون لنشر الدعوة على نطاق أوسع – تقوم على أساسين كبيرين : فهم واع لحقيقة الإسلام، وتربية عميقة على متطلبات هذا الدين وتكاليفه وقد رأينا أن الفهم الواعى لحقيقة الإسلام، ما زال يعتوره النقص فى قضيتين رئيسيتين من قضايا الإسلام، وهما قضية لا إله إلا الله، وقضية الشرعية، فضلاً عن قضايا أخرى سيأتى الحديث عنها فيما بعد، تتعلق بمنهج الحركة، أما التربية فشأنها أخطر، والنقص فى مجالاتها أشد

وإذا رجعنا إلى النشأة الأولى، فقد كان الهم الأكبر لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الفترة المكية هو تربية القاعدة على أسس متينة غاية فى المتانة، راسخة شديد الرسوخ، فائقة من جميع المجالات: الإيمانية والأخلاقية، التصورية والسلوكية، الوجدانية والعملية

وقد لا يتكرر جيل مثل جيل الصحابة رضوان الله عليهم إلى قيام الساعة – وإن لم يخل جيل من الأجيال من أفراد على ذلك المستوى الرفيع – ولكن يبقى موضع القدوة لنا فى ذلك الجيل الفريد، أن القاعدة ينبغى أن تكون على أعلى ما هو متاح لها من إمكانات الرسوخ العقدى والسلوكى، وأعلى درجة فى حدود طاقتها من التمثيل الصادق لحقيقة الإسلام، لأنه على أكتافها ستقوم الدعوة، وفى أشخاصها ستكون القدوة، وعلى جهدها يتوقف مردود الحركة فى إزالة الغربة الثانية للإسلام، كما ألقى على عاتق الجماعة الأولى مهمة إزالة الغربة الأولى للإسلام

وسنخصص لموضوع التربية فصلاً رئيسياً من فصول الكتاب، ولكن نقول هنا: إنه يجب علينا أن نعلم ابتداءً أن المطلوب للجولة الحالية – بالنسبة للقاعدة – ليس أى مستوى على علاته، إنما مستوى خاص؛ لأنها تقوم بمهمة خاصة، وتواجه عقبات من نوع غير عادى، وعداوة فذة فى كيدها وتدبيرها، ومقدار الغل الذى تحمله فى صدرها للإسلام.. وليس أى مستوى يصلح لتلك المهمة العظيمة، ولا لمواجهة تلك العقبات وتلك العداوات

وعلى الرغم من المشقة الواضحة فى الوصول إلى المستوى المطلوب، فإنه أمر لا حيلة فيه ولا غنى عنه، والأمة – ممثلة فى طليعتها – تدفع ثمن تقاعسها وتفلتها من حمل تكاليف هذا الدين، ذلك التقاعس الذى أوصلها إلى تداعى الأمم عليها كما تداعى الأكلة على قصعتها.. ولابد من جهد غير عادى تبذله اليوم، يعوض شيئاً من ذلك التقاعس الذى استمر أكثر من قرنين من الزمان، تمكن العدو فيهما من الأمر، وجثم على صدر الأمة لا يريد أن يتحرك

وإذا كان الجيل الأول، وفيهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، والوحى يتنزل عليهم، قد بذلوا جهداً غير عادى لإزالة الغربة الأولى للإسلام.. فنحن – وليس فينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشخصه، ولا يوجه الوحى خطانا توجيهاً مباشراً كالجيل الأول – أحوج إلى بذل أقصى غاية الجهد، مستعينين بالله العلى العظيم، الرءوف الحليم، أن يبارك جهدنا ويسدد خطانا، ويكتب على أيدينا إزالة الغربة الثانية

وأشد المجالات حاجة إلى بذل الجهد هو بناء القاعدة، ولكن الذى نراه اليوم من عثرات فى العمل الإسلامى دليل لا يخطئ على أننا تعجلنا الخطى، ولم نعط قضية التربية ما تستحقه من الجهد، بل لم ندرك فى بعض الأحيان أن هذا الأمر أو ذاك محتاج إلى تربية وإعداد!


هل اتسعت القاعدة إلى الحد المعقول، الذى يتناسب ما هو مطلوب منها فى الجولة الحالية؟!

فأما إن قصدنا القاعدة الجماهيرية، فقد اتسعت ولا شك من خلال عمل الدعوة الدائب، ما يزيد على نصف قرن، ومن خلال الشهداء الذين قدموا أرواحهم ودماءهم فى سبيل الدعوة، ومن خلال حماقات الجاهلية فى إزاقة الدماء والسجن والتشريد والتعذيب للمسلمين، وتلك سنة ربانية يغفل عنها الطغاة دائماً : أن الدعوة التى يقدم لها الدم لا تموت! والطغاة يحسبون أنهم إن أكثروا من إراقة الدماء، والسجن والتشريد والتعذيب، فسيقضون على الدعوة، ويجعلون هذا تحدياً قائماً أمامهم لابد أن ينتصروا فيه، فيكون هذا ذاته هو قدر الله لتمحيص المؤمنين، ومحق الكافرين فى نهاية المطاف: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين(139) ن يمسسكم قرح فق دمس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين(139) وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين))(آل عمران : 139-141)

نعم، اتسعت القاعدة الجماهيرية، وتفرعت وتشعبت وشملت العالم الإسلامى كله، وانضم إليها ألوف وألوف من الشباب، ولدوا فى ظل النظم الجاهلية، ولكن أراد الله لهم أن يختاروا طريق الإسلام، متأثرين بنشاط الدعوة وحماقات الجاهلية، ولكن ما وزن هذه الجماهير بالنسبة للحركة؟

أما أن الدعاة قد فرحوا باتساع القاعدة على هذا النحو فأمر لا شك فيه، وأما أن هذه الجماهير قد جندت أنفسها للدعوة، كما جند الأنصار أنفسهم لدعوة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فأمر تحوطه الشكوك!

ونسأل أولاً : هل هذه الجماهير المتحمسة للإسلام تظل على حماستها حين ترتكب الجاهلية حماقاتها، فتقتل المسلمين وتعذبهم وتشردهم، وتسلبهم أمنهم وطمأنينتهم، وتلاحقهم بالأذى والتنكيل، أم يقول قائلهم يومئذ : لذلك الحد لم تبلغ صداقتنا! ويتخلى عن الطريق؟!

بل لو فرضنا جدلاً أن المسلمين تولوا الحكم فى بلد من البلاد، فقامت الجاهلية العالمية: الصليبية الصهيونية، تحاربهم بالحصار الاقتصادى – ودع عنك الوسائل الأخرى – فهل تصبر هذه الجماهير المتحمسة على الجوع من أجل إقامة حكم الإسلام؟ أم ترتد على أعقابها بحثاً عن لقمة الخبز؟!

بل لو فرضنا جدلاً أن المسلمين تولوا الحكم فى بلد من البلاد ولم تتعرض لهم الجاهلية العالمية بالحرب، لا الحرب الاقتصادية ولا غيرها من أنواع الحرب، ولكنهم فقط ألغوا الأغانى المتسيبة المتميعة من الإذاعة، وألغوا المشاهد الخليعة من التلفزيون، وحرموا التبرج فى الطريق.. فهل هذه الجماهير المتحمسة ستظل كلها على حماستها، أم يتقاعس بعضها على الأقل ويقول: هذا تزمت لا موجب له!!

أليس من الضرورى أن تتلقى هذه الجماهير قدراً من التربية على الأقل، لكى تجند نفسها لتكاليف الإسلام، ولا تنفر من هذه التكاليف حين يواجهها الأعداء بالحرب، أو حين تقام فى الأرض أحكام الإسلام؟ ومن الذى يربى تلك الجماهير، والقاعدة ذاتها لم تستكمل حظها من التربية، ولم تعد نفسها للتوسع الجماهيرى، فجاءت الجماهير تلهبها الحماسة فلم تجد المربين؟!

أما الحديث عن التجرد لله فحديث شائك! وما بنا أن نتكلم فى حق أحد يعينه، وما نبرئ أنفسنا، والله وحده هو المطلع على دخائل النفوس: (( يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور))(غافر:19) . ولكنا نقول فقط إن ظاهرة التنازع والشقاق والتشرذم التى تحيط بالعمل الإسلامى اليوم تحمل دلالة معينة: أن هناك نقصاً فى تربية ((الأخوة الإسلامية)) فى نفوس العاملين فى حقل الدعوة، ونقصاً فى التجرد الحقيقى لله

ليس الخلاف فى ذاته عيباً، وإن كان ينبغى أن تكون له ضوابط تضبطه، بحيث لا يصبح تعصباً لهوى فى النفس، أو لشخص من الأشخاص، أو فرقة من الفرق. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون، ولكنهم لم يكونوا يفترقون، وهذا هو محور القضية. حين نختلف نونحن متجردون لله، متجردون للحق، فسيقل التنازع والشقاق والتشرذم دون شك، وتقل ظاهرة التحزب القائمة اليوم فى العمل الإسلامى، والتى تؤدى إلى التعصب للرأى، وللفكر، وللقائد، وللجماعة، وللطريق

وبطبيعة الحال ليس الاجتماع مطلوباً فى ذاته ولو كان على الخطأ، فالخطأ لا يخدم الدعوة، والإصرار عليه مفسدة، ولكن التجرد فى بيان الحق أدعى إلى تأليف القلوب، من التنابذ بدعوى تصحيح الخطأ وإظهار الصواب!

وخلاصة القول: أننا تعجلنا الطريق، وأن أمامنا مشواراً لابد أن نقطعه، لنستحق عند الله التمكين. لقد بين الله لنا طريق التمكين : ((هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين(62) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم(63) يأيها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين(64) يأيها النبى حرض المؤمنين على القتال..))(الأنفال: 62-65)

فتلك شروط أربعة، فى أربع آيات متواليات من سورة واحدة، تبين الشروط الأساسية للنصر: وجود مؤمنين صادقى الإيمان، متآلفة قلوبهم، متجردين لله، مستعدين للقتال حين تقتضى ذلك ظروف الجهاد.

فإذا نظرنا إلى واقع الدعوة فى ضوء هذه الشرط فسنجد ولا شك أننا قطعنا شوطاً، ولكننا استعجلنا الطريق!


أسباب التعجل فى الحركة المعاصرة والنتائج التى ترتبت عليه

هناك ثلاثة أسباب رئيسية أدت إلى التعجل فى الحركة المعاصرة :

أولاً : عدم التقدير الدقيق لمدى بعد الأمة عن حقيقة الإسلام

ثانياً : الانخداع بحماسة الجماهير، والظن بأن المهمة وإن كانت شاقة فهى قريبة المنال

ثالثاً : عدم التقدير الكافى لرد فعل الأعداء


وسنتناول كل واحد من هذه الأسباب بشىء من البيان

حين بدأت الدعوة قبل أكثر من نصف قرن، لم يكن حال الأمة قد انكشف تماماً من كل جوانبه، فقد كانت بقايا من المظاهر الإسلامية تخايل للرأى، فيظن أن الخير باق ما يزال.. لم يكن الغزو الفكرى قد تمكن من الأمة تمكنه الحالى، وكانت بقايا التقاليد تستر الخواء القابع وراءها، فلا تظهر الصورة على حقيقتها

فأما الغزو الفكرى فكان قد بدأ منذ وقعت بلاد العالم الإسلامى فى قبضة الغرب، وبدأ العالم الإسلامى من جانبه ينبهر بما عند الغرب من تقدم مادى وعلمى، بينما المسلمون يؤمئذ متخلفون فى جميع الميادين، ثم عملت مناهج التعليم ووسائل الإعلام على تعميق الغزو وترسيخه، وتخريج أجيال تنسلخ تدريجياً من الإسلام، وتدخل تدريجياً فى عملية التغريب.. ولكنه حين بدأت الدعوة قبل أكثر من نصف قرن، لم يكن قد آتى ثماره كاملة، فلم يكن يتعرى على الشاطئ إلا نساء الطبقة الأرستقراطية! أما بنات الطبقة المتوسطة فكن ما زلن يستحين من ذلك العرى، وإن اشتهته أنفسهن من كثرة ما تنشر الصحف والمجلات من صوره وأخباره! وأما بنات الشعب فكن ينفرن منه نفوراً ويستنكرنه استنكاراً! وكانت الصداقات ((البريئة!)) بين الأولاد والنبات تتم على استحياء شديد، وفى تكتم عن الآباء والأمهات، والفتاة التى تستعلن به تعتبر ساقطة فى نظر الناس! وكان الفكر الغربى ينشر فى الصحف والكتب إما منسوباً إلى أصحابه الأصليين من مفكرى الغرب، إذا كان الناقل أميناً يحترم نفسه، وإما مسطواً عليه ومنسوباً إلى ناقله فى كثر من الأحيان! وكان المسرح، وكانت السينما، وكانت الإذاعة، كلها تعمل لحساب الغزو الفكرى، ولكن روادها بعد محدودون، وتأثيرها بعد ما يزال فى منشئه

باختصار لم تكن عملية التحول قد تسارعت بالدرجة التى صارت إليها فيما بعد، والتى قفزت قفزات سريعة بعد الحرب الكبرى الثانية بصفة خاصة

ومن جانب أخر كانت بقايا التقاليد ما تزال قائمة، يخيل للرائى أنها ستصمد لضغط الغزو الفكرى، كما صمدت حوالى نصف قرن قبل ذلك! فقد كان ما يزال هناك من يرتاد المساجد من الشباب، حتى فى العواصم الكبرى التى تركز فيها الغزو الفكرى، وفى رمضان يصوم الصغار والكبار، ولا يجرؤ أحد أن يستعلن بتناول طعام أو شراب، حتى لو كان مفطراً فى واقع الأمر! وكان الزواج يتم بمعرفة الأبوين وعن طريقهما فى أغلب الأحيان، وكانت الأسرة ما تزال متماسكة، لرب الأسرة فيها كلمة مسموعة، والأولاد والبنات متقيدون بالتقاليد العامة لا يخرجون عنها، ومن خرج عليها يجد من الناس الإعراض والنفور؛ أما الريف فكان فى مجموعه باقياً على حاله كما كان منذ أجيال، يستنكر الفساد الموجود فى المدينة، ويتحسر على ((أيام زمان))

فى مثل هذه الظروف كان يمكن أن تخفى على الرائى حقائق كثيرة!

لقد كان الإسلام قد تحول منذ فترة غير قصيرة إلى مجموعة من التقاليد أكثر منه شحنة حقيقية حية .. وفى فترة معينة فى حياة الأمم يكون تمسك الناس بالتقاليد شديداً، إلى حد يتوهم معه الإنسان أن الناس على دين حقيقى! ولكن التقاليد تجف بعد فترة حين ينقطع عنها المدد الحى الذى يمنحها الحيوية والفاعلية، فتبدأ تتيبس وتجمد من ناحية، وتفقد تماسكها من ناحية أخرى.. وقد تبقى على ذلك قروناً إذا لم يحدث تغيير عنيف فى المجتمع، وإن كان ما لها إلى التفتت والانهيار فى النهاية، بفعل عوامل ((التعرية)) الفكرية إن صح التعبير؛ أما حين تحدث تغييرات عنيفة فإن التقاليد لا تستطيع أن تصمد، وسرعان ما تنهار

والذى حدث فى العالم الإسلامى أن معاول الهدم- المتمثلة فى الغزو الفكرى- كانت عنيفة شديدة العنف، موجهة بشدة لهدم الإسلام ذاته فضلاً عن تقاليده الظاهرية، فلا جرم تنهار التقاليد انهياراً سريعاً تحت طرقات المعاول التى تعمل ليل نهار، فى دأب لا يفتر، وإصرار لا يتحول عن أهدافه

وفى نصف قرن تغيرت الأمور تغيراً مريعاً، حتى لكأن الأمة الأولى قد ذهبت، وجاءت بدلاً منها أمة أخرى لا صلة بينها وبينها إلا تشابه الأسماء! وسرى الفساد الذى أطلقوا عليه اسم((النهضة)) سريعاً، كسريان السم فى البدن الملدوغ. فلم تعد بنات الأسر الارستقراطية وحدهن هن اللواتى يتعرين على الشاطئ، إنما صارت بنات الطبقة الوسطى، ورويداً رويداً وصلت العدوى للريف! وصارت العلاقات بين الأولاد والبنات- البرئ منها وغير البرئ- شيئاً عادياً فى المجتمع، بل أصبحت إحدى أصوله وتفككت الأسرة ولم يعد سلطان عليها، وصار للأولاد والبنات شأنهم الخاص الذى لا يجوز للوالدين أن يتدخلا فيه وأصبح((الدين))عموماً علامة الجمود والانغلاق، وعلامة التخلف عن ركب الحياة الحى المتحرك، وأصبح الثبات على أى شئ عيباً يعير به صاحبه، لأن الأصل فى الأشياء هو التطور وليس الثبات!

فى نصف قرن حدث هذا كله، ونسب إلى التطور وإلى النهضة، وإلى مواكبة العالم المتحضر، وإلى ثورة التكنولوجيا وثورة الاتصالات!

وما كان يمكن بطبيعة الحال أن يبقى العالم الإسلامى خارج الأحداث التى تمور بها الأرض، ولكن صورة أخرى مختلفة تماماً كانت قمينة أن تحدث، لو أن الإسلام كان حيا فى نفوس أصحابه، وليس مجرد تقاليد خاوية من الروح

فأما التقدم العلمى والتكنولوجى فهو لا يشكل مشكلة للإنسان المسلم، وقديماً استوعب المسلمون كل الحركة العلمية التى كانت قائمة فى الأرض، ثم أخذوا يضيفون إليها إضافات جذرية، أبرزها استخدام المنهج التجريبى فى البحث العلمى، فضلا عن كشوف علمية أخرى كانت هى نواة التقدم الحالى ولكن المسلم لا تهتز عقيدته حين يتعلم العلم، ولا يهتز إيمانه بالله واليوم الآخر، لأنه صاحب كيان سوى تتجاوز فيه- وتتعاون- نزعة الإيمان ونزعة المعرفة، بلا تعارض ولا تناقص ولا تضاد: ((إنما يخشى الله من عباده العلماء))(فاطر: 28)

إنما حدث التعارض والتناقص فى أوروبا، نتيجة خلل فى الدين الذى كانت تعتنقه، وخلل فى الكيان الذى أورثها إياه ذلك الدين، لا لأن الدين بطبيعته مناقض للعلم، ولا لأن العلم يمكن أن يكون بديلا من الدين! ولو أن الإسلام كان حياً فى نفوس أصحابه، وليس مجرد تقاليد خاوية من الروح، فقد كانت الأمة الإسلامية قمينة أن تقدم للبشرية نموذجاً حضارياً مختلفاً عن النموذج الجاهلى الغربى الذى ينتقل من اختلال إلى اختلال، والذى لا يستوعب فى أى طور من أطواره إلا أحد شقى الإنسان: إما الشق الروحى، وإما الشق المادى إما الشق الذى يعمل من أجل الآخرة، ويهمل الحياة الدنيا، وإما الشق الذى يعمل من أجل الدنيا ويهمل الآخرة، ويعجز فى جميع الأحوال عن استيعاب الإنسان كله كما خلقه الله، بشقيه معاً مجتمعين مترابطين: قبضة الطين ونفخة الروح: ((إذ قال ربك إنى خالق بشراً من طين(71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص: 71-72)

وإن عجز الأمة عن استيعاب التقدم العلمى والتكنولوجى الحادث فى الأرض، وعجزها عن تقديم النموذج الحضارى المتميز، كانت له دلالة لا ينبغى أن تفوت صاحب الدعوة دلالته العامة أن الشعلة الحية لهذا الدين فى نفوس أصحابه قد خبت، أو ضعفت إلى الحد الذى يعجزها عن التفاعل الحى مع الأحداث، كما تفاعلت من قبل مع أحداث التاريخ وهذا الضعف لابد له بطبيعة الحال من أسباب، فهو ليس من طبيعة هذا الدين الحى الموار بالحيوية، الذى صنع الأعاجيب فى حياة البشرية كلها، حين آمن به أصحابه إيماناً صادقاً واعياً، وتحركوا به فى دنيا الواقع ولابد أن تكون هناك أمراض أصابت القلب فمرض الجسد كله: ((ألا إن فى الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب)) ولو انكشفت تلك الأمراض لأصحاب الدعوة من أول الطريق، لعملوا على علاجها أولاً قبل الانطلاق لو اتضح لهم أن كل ألوان التخلف التى وقع فيها المسلمون، من تخلف علمى ومادى وسياسى وحربى وحضارى وثقافى، نشأت كلها من التخلف العقدى الذى أصابهم فى الفترة الأخيرة بصفة خاصة، لوضعوا منهجاً للدعوة غير الذى ساروا عليه بالفعل، ولكانت لهم رؤية مختلفة فى طريق العلاج.

ولا شك أن حقيقة بعد الأمة عن الصورة الصحيحة للإسلام، كانت واضحة وضوحاً كاملاً للدعاة؛ لأنها كانت أظهر من أن تخفى على أحد ولكن مدى هذا البعد ونوعيته، هما اللذان كانا خافيين تحت قشرة التقاليد الخادعة، التى تخيل للرائى أن البناء تحتها ما يزال سليماً، أو أنه لا يحتاج إلا إلى ترميمات قليلة هنا وهناك!

كان ينبغى للدعوة أن تكشف عن الأساس ذاته، لترى إن كان قد بقى سليماً، أم تهرأ خلال الهزات المتوالية التى مرت بالأمة خلال التاريخ، ليتقرر فى حسها نقطة البدء: هل هى ترميم البناء، أم تجديد الأساس

لم يكن الفساد الذى ألم بالأمة هو فساد السلوك وحده، إنما تعدى ذلك إلى فساد المفاهيم، وفساد المفاهيم أخطر كثيراً وأشق علاجاً من فساد السلوك

حين يفسد سلوك فرد أو جماعة أو أمة، مع وجود مفاهيم صحيحة، فالإصلاح- مهما بلغت مشقته- أيسر منالا وأقرب رجاءً مما لو كانت المفاهيم ذاتها قد فسدت، لأنك عندئذ تحتاج إلى جهد مضاعف، جهد فى تصحيح المفاهيم وهو الأشق، وجهد فى تصحيح السلوك

وحين بدأت الدعوة كانت المفاهيم كلها فى الحقيقة قد فسدت- كما ألمحنا من قبل- حتى مفهوم لا إله إلا الله، بل بدءاً بمفهوم لا إله إلا الله، فلم يبق منها غير الكلمة المنطوقة باللسان، إلى جانب بعض الشعائر التعبدية عند بعض الناس، يؤدونها تقليداً أكثر مما يؤدونها أداء حياً واعياً، يربط الإنسان بمنهج حياة متكامل، يشمل الحياة كلها: عبادتها وعملها، سياستها واقتصادها، روابطها الاجتماعية وروابطها الفكرية كلها فى آن

كانت عوامل كثيرة قد أثرت فى إفساد مفاهيم الإسلام الأساسية فى حس الناس، فلم يعودوا على وعى بها فى صورتها الصحيحة التى أنزلت بها من عند الله، ووعاها ومارسها الجيل الأول رضوان الله عليهم، والأجيال التى تلته

كان الفكر الإرجائى قد أخرج العمل من مسمى الإيمان،! وزعم أن الإيمان هو التصديق والإقرار لا أكثر! وأن من قال: لا إله إلا الله فهو مؤمن، ولو لم يعمل عملاً من أعمال الإسلام!

وكان الفكر الصوفى قد حول الإسلام إلى سبحات روحية، وأوراد وأذكار، وهيام وجدانى لا يتحرك فى واقع الأرض، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يقوم بجهاد، فضلاً عن الخلل العقدى فى عبادة الأرضحة والأولياء والتقدم إليها بألوان من العبادة لا تجوز لغير الله

وكان الاستبداد السياسى منذ بنى أمية، فبنى العباس، فالمماليك، فالعثمانيين، قد صرف الناس عن الاشتغال بالأمور العامة، ووجههم إلى الاهتمام بشئونهم الخاصة، وحصر مفهوم العبادة فى الشعائر التعبدية، والفضائل الفردية التى لا تتدخل فى شئون المجموع

وتحول التوكل إلى تواكل سلبى دون الأخذ بالأسباب، وتحولت عقيدة القضاء والقدر إلى تخاذل وتقاعس، بعد أن كانت عقيدة إقدام وجرأة فى مواجهة الأعداء والأحداث: ((قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون(51) قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون))(التوبة: 51- 52)

وانفرج الطريق بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، بعد أن كان طريقاً واحداً أوله فى الدنيا وآخره فى الآخرة: ((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا))(القصص: 77) ((هو الذى جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور))(الملك: 15) فأهمل مجموع الأمة طريق الدنيا، من علم وقوة وتمكن فى الأرض وعمارة لها وتحسين لأحوالها، وانصرفوا إلى ما ظنوا أنه يقربهم إلى الله، من حلقات الذكر وهيمان الوجد، بينما انصرف مجموعة من شرار الناس إلى الدنيا بمغرياتها، من أموال وبنين وزينة وزخرف وترف وتسلط على الناس، ونسوا البعث والنشور، والحساب والجزاء، فعاثوا فساداً فى الأرض، والأمة فى قبوعها السلبى لا تتعرض له بسوء!

وهذه الأمراض كلها، التى أفرغت الدين من محتواه الحى،وأفرغت ل إله إلا الله من شحنتها الفاعلة، كانت تستلزم البدء بتصحيح مفهوم لا إله إلا الله، وتربية قاعدة صلبة راسخة البناء، قبل التوجه إلى تجميع الجماهير!


وإذا كانت بقايا التقاليد، التى كانت قائمة فى المجتمع عند بدء الدعوة، قد خدعت الدعاة عن حقيقة المرض الذى أصاب الأمة فى أساس عقيدتها، فإن حماسة الجماهير فى تلقى الدعوة قد زادتهم انخداعاً عن حقيقة الواقع

تلقت الجماهير الدعوة بحماسة ملحوظة، وتجمع حول الإمام الشهيد فى سنوات معدودة، ما يقدر بنصف مليون من البشر فيهم الكثير من الشباب، وتلك نسبة عالية إذا قدرنا أن تعداد الشعب المصرى كله فى ذلك الوقت كان أقل من عشرين مليوناً، وإذا استبعدنا من تعداد النساء والأطفال والشيوخ، الذين لا يفكرون فى الانشغال بأى أمر من الأمور العامة، أو يرحبون بأى جديد يظهر فى الساحة!

ولا شك أن الفيض الروحى الذى كان يتمتع به الإمام الشهيد، وقدرته الفائقة على التأثير فى مشاعر الناس، كان لها أثر فى تلك الحماسة الفياضة التى قوبلت بها الدعوة من جمهور كبير من الناس، وما كان يمكن لشخص لا يملك تلك الموهبة، أن يجمع هذا الحشد الهائل من البشر، فى مثل هذا الوقت القصير

ولكن فلننظر من جانب آخر فى تلك الجماهير، لأى شئ تجمعت على وجه التحديد؟

لقد وجدت تلك الجماهير من يشبع جوعتها الروحية، بطريقة((متنورة)) تختلف عن حلقات الذكر التى يلجأ إليها العامة لإشباع روحانيتهم عند مشايخ الطرق الصوفية، والتى كان المثقفون ينفرون منها ولكنهم يفتقدون البديل المتنور، فوجدوه فى شخص الإمام الشهيد وكلامه المؤثر، يشبع روحانيتهم و يحافظ فى الوقت ذاته على وعيهم، فلا يغرق فى الخدر الذى يسلب الشعور ووجدت من يحى آمالها فى عودة الإسلام إلى الوجود، بعد النكسة الحادة التى أصابت الناس بزوال الخلافة ووجدت من يرتفع بها عن ألوان الدنس التى كانت قد أخذت تلوث المجتمع، ويردها إلى المثل الرفيعة والأخلاق الفاضلة وكل ذلك دون أن يتعرضوا لأية مخاطر، ولا يبذلوا من الجهد أكثر من الحضور الاستماع!

ولكن هذه الجماهير التى جاءت بهذه السهولة ذهبت بالسهولة ذاتها حين بدت فى الأفق بوادر المخاطر! ذهبت ولم تعد! فما كان فى تقديرها قط أن حضورها واستماعها سيعرضها لأية مخاطر، ولا كانت مستعدة أى استعداد أن تعرض نفسها للمخاطر.. ولو عرفت ذلك أو توقعته من مبدأ الأمر ما جاءت ولا فكرت فى المجئ!

لم يبق حول الإمام الشهيد إلا الذين رباهم على عينه، ووهب لهم طاقته الحقيقية وجهده الحقيقى

هل كان كسباً للدعوة مجئ هذه الجماهير الحاشدة التى فرت عند أول بوادر الخطر، أم كان أحد أسباب التعويق؟

سننظر فى هذا الأمر حين نستعرض ردود فعل الأعداء.. ولكن لنا هنا وقفة: ما الذى جعل الدعوة تتجه فى تلك الفترة الباكرة إلى الجماهير؟! إنه وهم حسن النية، يجسن الظن بأحوال الناس، ويعتقد أن نقطة الخلل عندهم هى فساد السلوك، فإذا وعظوا بالقول المؤثر فقد انحلت المشكلة، واستقامت هذه الجماهير على طريق الإسلام، وأصبحت جنوداً مخلصة للدعوة، أو فى القليل خامات صالحة للتجنيد، فتتحرك بهم الدعوة نحو الهدف المنشود!

لم يتضح لأصحاب الدعوة فى مبدأ الأمر- كما اتضح لهم فيما بعد- أن الخلل ليس مقصوراً على فساد السلوك، ولكنه واصل كذلك إلى المفاهيم، وخاصة فيما يتعلق بتحكيم شريعة الله، وأن الأمر فى حاجة إلى جهد لتوصيل الحقيقة إلى الجماهير.. لقد اتضح ذلك فيما بعد( ).. ولكن بعد ما كانت الدعوة قد قطعت شوطاً فى التوجه إلى((الجماهير))، على أساس أنها صالحة- بالموعظة المؤثرة والشحن العاطفى- أن تكون جنوداً مخلصة للدعوة، أو فى القليل خامات صالحة للتجنيد.. وبعد ما كان هذا التوجه إلى الجماهير، وحشدها بهذه الصورة، والتحرك بها على الساحة السياسية، قد أثار ردود الفعل المتوقعة وغير المتوقعة عند الأعداء

عندما تتحرك الجماهير تنزعج السلطات المحلية، وحينما تكون الحركة إسلامية تنزعج السلطات المحلية والسلطات العالمية فى آن واحد وقد يكون انزعاج السلطات العالمية أشد! ولكى ندرك هذا الأمر على حقيقته ينبغى أن نقرأ صفحات من التاريخ

فى القرنين الأخيرين، كان قد ظهر جلياً أن أحوال العالم الإسلامى فى تدهور مستمر فى جميع المجالات فالدولة العثمانية التى كانت أوروبا تخشاها وترهبها، قد أخذ سلطانها يتضاءل ويتقلص، وبدأت روسيا القيصرية تعدو على أملاكها دون أن تستطيع الرد، أو استرداد ما تفقده من الولايات، وتمردت بلاد البلقان بتحريض الدول الأوروبية، وتمردت الأقليات فى داخل العالم الإسلامى، وبدأت الدولة تترنح تحت وقع الأحداث أما الأمة الإسلامية فلم تكن أحوالها أقل سوءاً، فالتخلف يحيط بها من كل جانب، والجهل والفقر، والانغلاق على النفس، والتبلد على الأحداث عندئذ رأت أوروبا أن الفرصة قد سنحت أخيراً للقضاء على عدوها القديم، فاجتمعت وتآمرت، وخططت للاستيلاء على العالم الإسلامى كله، وإخضاعه للدول الأوروبية فيما سمى((بالاستعمار))، ودخل مع أوروبا الصليبية عنصر جديد، هو اليهودية العالمية التى كانت تخطط لحسابها الخاص، ولكن فى تعاون كامل مع الصليبية، من أجل إنشاء وطن يهودى فى فلسطين

وبعد رفض السلطان عبد الحميد مطالب اليهود بإقامة وطن لهم فى فلسطين، اتحدث تماماً مصالح اليهودية العالمية مع مصالح الصليبية العالمية، فصار التخطيط واحداً وإن كان كل فريق يسعى لتحقيق مصلحته الخاصة فى نهاية المطاف وكان التخطيط محكماً فى كل اتجاه، وكان تنفيذه ميسراً بالنسبة للصليبية الصهيونية، بسبب فقدان الأمة لوعيها الإسلامى، وعزيمتها الإسلامية التى أوصها الله بها فى قوله تعالى: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين))(آل عمران: 139)

وكان أخطر الأسلحة التى استخدمها الأعداء فى محاربة الإسلام- بعد أن استتب لهم الأمر عسكرياً وسياسياً- هو الغزو الفكرى، الذى كان هدفه قتل روح المقاومة للغزو الصليبي الصهيونى، بالقضاء على مكمن العقيدة داخل القلوب، وتخريج أجيال تتقبل العبودية للغرب راضية بها، إن لم تكن مندفعة إليها مستعذبة إياها، ظانة- وهى تسعى حتفها بظلفها- أنها متجهة فى طريق النجاة!

ولم يخف على الصليبية الصهيونية أن شعوب الأمة الإسلامية قد تستيقظ من غفوتها ذات يوم، وترفض التبعية المذلة للغرب، وتسعى إلى الاستقلال، فرتبت نفسها لهذا الأمر كذلك، ببذر اتجاهات وطنية وقومية، وإنشاء زعامات تتعلق بها الجماهير وتتحلق حولها، وهى مصنوعة على عين الاستعمار، كانت الثورة محدودة المطالب محدودة الأهداف، تطالب بالاستقلال العسكرى- إن قويت عليه- أو العسكرى والسياسى- ظاهراً على الأقل- دون أن تفكر فى الاستقلال الفكرى والثقافى والروحى، فتظل التبعية للغرب قائمة فى واقع الأمر، من خلال الأنظمة الوطنية والقومية، و((الثورات التحررية))، والجماهير فى غفلتها تصفق وتطرب لما يعرض أمام ناظريها من المسرحيات

باختصار لقد كان الذى تخشاه الصليبية والصهيونية، وتسعى لمنعه بكل الوسائل، هو حدوث صحوة إسلامية، فهذه هى التى لا تفاهم معها، ولا التقاء فى وسط الطريق والتى يعرف الأعداء جيداً مدى خطرها على مصالحهم: ((الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم))(البقرة: 146)

وحين بدأت الحركة الإسلامية على يد الإمام الشهيد، كان العالم الصليبى والصهيونى يرقبها بتوجس ظاهر، ويحاول أن يتعرف على مدى خطورتها. كتب المستشرق البريطانى جب- والمستشرقون هو جهاز الاستخبارات الثقافى للصليبية الصهيونية- كتب كتاباً بعنوان: ((الاتجاهات الحديثة فى الإسلامin lslam mopern trends ))، ظهرت طبعته الأولى عام 1936م، يتحدث فيه عن حركة جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، ويمتدحها بحماسة ظاهرة، ولكنه عقب فى أحد هوامش الكتاب بالتعقيب الآتى: ((ظهرت بعد ذلك جماعة جديدة تسمى جماعة الإخوان المسلمين ، يتزعمها رجل يسمى حسن البنا، ومن السابق لأوانه الحكم على هذه الجماعة، وإن كان من الظاهر أنها ذات خطورة خاصة))

وواضح فى هذا التعليق مدى التوجس، والرغبة فى سبر غور هذه الجماعة ذات الخطورة الخاصة!

كانت الخطورة الخاصة تتزايد بطبيعة الحال فى نظر الصليبية الصهيونية كلما تزايدت الجماهير الملتفة حول الدعوة الجديدة، التى تتحرك باسم الإسلام، ويتجمع الناس حولها باسم الإسلام ولكن الصليبية الصهيونية لم تكن تبينت بعد ما يجرى فى داخل الجماعة، من إعداد خطير غاية الخطورة، إعداد جنود للدعوة، مستعدين أن يموتوا فى سبيل الإسلام!

ولكن القنبلة انفجرت عام 1948، وانفجرت فى أخطر موقع يمكن أن تنفجر فيه، وفى أخطر موعد يمكن أن تنفجر فيه: فى فلسطين، فى لحظة الإعداد لإنشاء الدولة اليهودية

وكان دوى الانفجار أعظم بكثير، وأخطر بكثير مما قدره أصحاب الدعوة فى ذلك الحين

أما كون أصحاب الدعوة يعرفون عداوة الصليبية الصهيونية للإسلام، ويعرفون توجسها منه، ورغبتها فى القضاء عليه، وكراهيتها لعودة الناس إليه، فأمر أوضح من أن يذكر؛ لأنه من بدهيات حس المسلم. فبحسب امرئ مسلم أن يقرأ فى كتاب الله هذه الآيات:

((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم))(البقرة: 12.) ((إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها)) (آل عمران : 12.) . ((لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا))(المائدة : 82) ((ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق))(البقرة : 1.9)

بحسبه أن يقرأ ذلك فى كتاب الله، ليعلم أن هذه العداوة قائمة وأنها لن تزول أما إدراك مدى هذه العداوة ومقدار كيدها، وتفاصيل ذلك الكيد، وموقعه من اللحظة القائمة، فأمر آخر مختلف .. والذى يظهر من مجرى الأحداث أن تقدير ذلك كله لم يكن دقيقا بالدرجة الكافية

لقد كان التخطيط اليهودى – تعاونه الصليبية بكل إمكاناتها – قد رتب كل شىء يخطر على البال، تمهيداً لإقامة الدولة اليهودية. فمنذ رفض عبد الحميد العروض اليهودية المغرية مقابل السماح بإقامة وطن لليهود فى فلسطين، من رشوة شخصية لجيبه الخاص مقدارها خمسة ملايين من الجنيهات الاسترلينية الذهبية (تمثل وقتها ثروة بالغة الضخامة)، والوعد بالتدخل لدى روسيا وبريطانيا وفرنسا لكفها عن إثارة الأقليات، (وهى مشكلة الدولة السياسية)، والوعد بقروض طويلة الأجل لإنعاش الاقتصاد العثمانى المثقل بالديون، (وهى المشكلة الاقتصادية للدولة) منذ رفض عبد الحميد هذه العروض المغرية، والملغومة فى ذات الوقت، فقد رسم اليهود مخططهم على سياسة طويلة الأجل، مقدارها خمسون سنة كما قرر هرتزل فى مؤتمره الصهيونى الذى أقامه فى مدينة بال بسويسرا، عام 1897م

عزلوا عبد الحميد، ورتبوا الحرب العالمية الأولى، لتجميع أوربا الصليبية لقتال الدولة العثمانية والقضاء عليها، وكانوا يسمونها ((الرجل المريض)) ، ثم قسموا تركة الرجل المريض بعد القضاء عليه، بين بريطانيا وفرنسا صديقتى اليهود يومئذ (وحتى الآن بطبيعة الحال، مع تغير مركز الثقل من بريطانيا وزعيمة ((العالم الحر!)) يومئذ إلى أمريكا زعيمته الحالية)، وجعلوا فلسطين – ميدان الصراع المقبل – تحت الانتداب البريطانى، للتمهيد لإقامة الدولة فى ظل تصريح بلفور الذى قال: إن حكومة جلالة الملكة تنظر بعين العطف (!) إلى إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين

ولم يكتف التخطيط الماكر بهذا، بل قسم البلاد المحيطة بفلسطين إلى دويلات ضعيفة متعادية متنابذة، لا وزن لها فى عالم الحرب ولا عالم السياسة ولا عالم الاقتصاد، فضلاً عن نزاعات الحدود بين بعضها البعض، وفضلاً عن نزعات الوطنية والقومية التى تفرق بين بعضها وبعض

ولم يكتف الكيد الماكر بهذا، فالشباب فى كل أمة طاقة خطرة إذا توجه توجهاً جاداً لأمر من الأمور الكبار، فينبغى صرفه بكل الوسائل عن الجد فى أى أمر، وخاصة فى الأمور التى يخشى من الجد فيها على مخططات الأعداء لذلك سلطت على الشباب كل وسائل التمييع، الذى تجعله يهتم بسفاسف الأمور وينصرف عن معاليها، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((إن الله يحب معالى الأمور ويكره سفاسفها)).. سلطت عليه السينما والإذاعة والمسرح، (ولم يكن التلفزيون قد ظهر بعد، ولا كان اليهود قد بثوا بعد ((جنون الكرة)) على مستوى العالم كله)، وسلط عليه قضية ((تحرير المرأة))، لتشغل الأولاد والبنات بعضهم ببعض فى علاقات ((بريئة!)) أولاً، تتحول إلى علاقات غير برئية بعد ذلك وسلط عليه تعصبات السياسة الحزبية تأكل وقته وجهده واهتماماته، ليخرج دون تحصيل ثقافى ذاتى، وتعصبات ((الفن))، ما بين هذه المغنية وتلك، وبين هذا المغنى وذاك، وكلها تفاهات!

ثم فى الموعد المحدد، بعد خمسين سنة بالضبط من مؤتمر هرتزل، الذى أعلن فيه ضرورة إنشاء الدولة خلال خمسين عاماً، أعلنت الدولة، وقامت الحروب المسرحية التى خاضتها الجيوش العربية، بطريقة أقرب إلى الهذر منها إلى الجد، كما قامت الخيانات، وصفقات الأسلحة الفاسدة، وتحركت الجيوش يمنة ويسرة لتقف فى النهاية عند خط التقسيم المتفق عليه سلفاً بين جميع الأطراف!

وهنا، وفى أحرج لحظة بالنسبة لمخططات العدو، انفجرت القنبلة، وأحدثت دويها المريع

دخل الفدائيون المسلمون ساحة المعركة، واكتشفت اليهود حقيقتهم، واكشتفتها معهم الصليبية العالمية

كم كانت القنبلة خطيرة، وكم كان دويها مريعاً على مستوى العالم كله! كانت أخطر بكثير مما قدرها أصحابها

حين اصطدم اليهود بالفدائيين الإسلاميين، عرفوا على الفور أنهم نوعية مختلفة عن تلك الجيوش التى جاءت لتلعب دورها فى الحرب المسرحية إنهم أصحاب عقيدة جاءوا بدافع من عقيدتهم، وجاءوا ليقاتلوا من أجل عقيدتهم، وليموتوا من أجلها، أسخياء بأرواحهم فى سبيل الله.. ذات العينة التى عرفوها من قبل فى التاريخ

وازعجهم الأمر وأذهلهم، فما كانوا يتصورون قط أن هذه العينة من البشر يمكن أن تعود .. ومن مصر خاصة التى عمل فيها الغزو الفكرى من أيام الحملة الفرنسية، ليخرجه من دينها، بل يخرجها حتى من عروبتها، تحت شعار (مصر للمصريين)، الذى يعنى فى أطوائه أنه لا مجال فيه للعروبة ولا للإسلام.. وكان انزعاجهم حاداً، فوق التصور، فقد وصل الأمر بهم أن صيحة ((الله أكبر ولله الحمد)) كانت تفزعهم، فيتركون مواقعهم ومؤنهم وذخيرتهم، ويفرون طلباً للنجاة

عندئذ وضح فى حسهم تماماً أنه لا قيام لإسرائيل – فضلاً عن توسعها المرسوم فى المستقبل – إذا بقيت الحركة الإسلامية حية وأنه لابد من القضاء على الحركة الإسلامية لتعيش إسرائيل، وتأمن وتستقر، وتتوسع كما تشاء وصدرت أوامر الصليبية الصهيونية بحل جماعة الإخوان المسلمين ، ثم قتل قائدها، وتوالى الأحداث

لقد عوجلت الحركة بصورة عنيفة، أعنف مما كان متوقعاً بكثير

لم يكن أحد من القائمين بالدعوة يتوقع لها السلامة من الأذى، فذلك حسب السنة الجارية فى حكم المستحيل، ولكن أحداً لم يكن يتوقع أن يصل الأذى إلى هذا الحد الوحشى الذى وقع بالفعل.. أن يطلق الرصاص على قائد الجماعة فى الشارع فى وضح النهار، ثم ترفض المستشفيات إسعافه لينزف حتى الموت بأمر الدولة وتدبيرها، ويؤخذ ألوف من الشباب فيعذبوا فى السجون بوحشية تع عنها الوحوش.. كل ذلك لم يكن فى الحسبان، ولم يكن أحد يتخيل أن يحدث

ولا شىء بطبيعة الحال يمكن أن يبرر لتلك الوحوش البشرية وحشيتها، مهما حاولت أن تستر جرائمها بدعوى المحافظة على الأمن، أو القضاء على الفتنة، أو ما شابه ذلك من الدعاوى، التى لا تستر شيئاً فى الدنيا، ويوم القيامة ((يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين))(النور:25.

ولكنا نسأل من جانب أخر، هل كانت الحركة تسير على منهج صحيح، أم إنها تعجلت فى حركتها قبل الأوان؟

ولا يحسبن أحد أن الحركة كانت ستهادن لو أنها سلكت مسلكاً أخر.. فقد رأينا كيف كان رد الملأ حين عرض عليهم شعيب عليه السلام أن يصبروا حتى يحكم الله بينهم : ((وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين(87) قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن فى ملتنا قال أو لو كنا كارهين))(الأعراف : 87-88)

كلا ! لا يمكن أن تطيق الجاهلية دعوة لا إله إلا الله، ولا أن تهادنها أو تصبر عليها

ولسنا نقول: إن الحركة لو استقامت على منهج صحيح كانت ستنجو من الأذى الذى يمكن أن يصل إلى حد التعذيب والقتل، فإن الجماعة الأولى التى رباها رسول الله على عينه، وسارت على أعظم منهج يمكن لحركة أن تسير عليه، إذ كان الوحى الربانى هو الذى يتولى توجيهها خطوة بخطوة، لم تسلم من الأذى، الذى وصل إلى حد التعذيب والتشريد والتجويع والقتل فليس السير على المنهج الصحيح مطلوباً من أجل حماية الأشخاص القائمين بالدعوة! إنما هو مطلوب من أجل الدعوة ذاتها، من أجل أن تؤتى ثمارها كاملة، وتؤدى رسالتها على الوجه الأكمل

عوجلت الحركة معاجلة عنيفة، ولما تستكمل بناء قاعدتها على أساس متين لقد خرجت فدائيين مخلصين مستعدين أن يموتوا فى سبيل الله، ويحتملوا الأذى فى شجاعة من أجل الدعوة إلى الله وخرجت قوماً تربط بينهم أخوة فى الله، تعدل بل تفوق عندهم رابطة الدم.. وخرجت قوماً نظيفى التعامل، لأنهم يخافون الله.. وخرجت قوماً فيهم إيجابية وجلد على بذل الجهد.. وكلها صفات طيبة مطلوبة فى القاعدة، ولكنها ليست كل شىء، ولا تكفى وحدها لبناء القاعدة المطلوبة.. إنهم ليسوا مجرد أفراد يتطهرون لله، وينذرون أنفسهم لله

إنهم دعوة تريد أن تنفذ أمة بأسرها مما هى واقعة فيه من الهوان والخسف، بسبب بعدها عن طريق الله، وهذا أمر يتطلب الكثير الكثير

وسنتكلم عن التربية المطلوبة فى الفصل القادم، سواء منها ما كان مطلوباً للقاعدة الصلبة، أو للجماهير التى تتحرك بها الدعوة ولكنا هنا ندرس أسباب التعجل، والآثار التى ترتبت عليه.

لقد استمرت الحركة فى توجهها الجماهيرى قبل استكمال بناء القاعدة، والتحرك بالجماهير قبل استكمال وعيها الإسلامى، والصدام مع السلطات فى معارك غير متكافئة.. وترتب على ذلك نتائج لا تخدم الدعوة فى كثير استمر الغبش حول قضية لا إله إلا الله، إن لم نقل: إنه زاد، بفعل ما اختلط بها من قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية، قبل أن تتأصل فى قلوب الناس – الدعاة على الأقل – على أنها العبودية الخالصة لله أولاً، بصرف النظر عما يترتب عليها فى الحياة الدنيا من نتائج سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ثم تكون هذه القضايا كلها حين يجئ دورها نابعة من لا إله إلا الله، ومرتبطة بها لا منفصلة عنها، ولا موازية لها، ولا مقدمة عليها

ولا ننسى هنا أن التعجل فى التحرك بالجماهير قبل أن تستكمل وعيها الإسلامى، إن لم نقل: قبل أن تكون عندها وعى إسلامى، قد أزعج الأحزاب والكيانات العلمانية على ((جماهيرها)) التى تتسرب من بين يديها وتنضم للحركة الإسلامية، فوقفت تستدرج الحركة الإسلامية عن طريقها الأصيل، فى صورة تحد تواجهها به : أرونا أين برامجكم التى تنادون بها لتنزعوا بها الشرعية منا، وتزعموها لأنفسكم؟ ومن ثم اندفعت الحركة الإسلامية تبحث عن برامج ترد بها على التحدى، ليصرفها ذلك عن تحرير قضيتها الأولى، قضية لا إله إلا الله

إن قضية لا إله إلا الله – فى مرحلة التكوين بالذات- لا ترتبط فى حس أصحابها الذين يتربون على المنهج الصحيح، أى ارتباط بالنتائج التى تترتب عليها فى الحياة الدنيا، لا السلطان، ولا الاستقرار السياسى، ولا الوفرة الاقتصادية، ولا الهناءة الاجتماعية .. فقد لا يترتب عليها شىء من ذلك كله فى الحياة الدنيا؛ إنما قد يكون مصير أصحابها هو مصير سحرة فرعون الذين آمنوا، فكان نصيبهم القتل والصلب، أو مصير أصحاب الأخدود، الذين آمنوا فكان نصيبهم الحرق بالنار أحياء عن بكرة أبيهم إنما كانوا مثلا لمن بعدهم، وكان نصيبهم الذى رضيت به أنفسهم هو رضوان الله، وجنات عدن تجرى من تحتها الأنهار

ولكن التعجل فى تجميع الجماهير، والتعجل فى التحرك بتلك الجماهير قبل أن تنضج، بل قبل أن تستكمل القاعدة ذاتها نضجها، هو الذى أدى إلى هذا الغبش المتزايد حول القضية الأساسية، وأصبح عماد الدعوة إلى الإسلام أن تطبيقه هو الذى سيحل جميع المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التى يعانى منها الناس اليوم، وبالتالى البحث عن ((البرامج العملية)) التى تواجه التحدى الذى يقدمه العلمانيون!

وكون الإسلام هو الحل، حقيقة ربانية، الله سبحانه وتعالى هو المتكفل بها بنفسه، وهو الواعد بها، ووعده الحق: ((ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض))(الأعراف:96) أما أن هذا الحل سيتحقق بمجرد وصول الإسلاميين إلى الحكم، فأمر لا دليل له من كتاب الله، ولا من وقائع التاريخ، فقد عاش المسلمون سنوات من الشظف الحاد بعد توليهم السلطة، وتأسيسهم الدولة الإسلامية التى تحكم بما أنزل الله، واستمر حتى أيام عمر رضى الله عنه، والناس صابرون على الشظف وعلى المشقات كلها، لأنهم مؤمنون، ولأنهم نذروا أنفسهم للدعوة، ولأنهم يرجون الآخرة، ولا ينظرون إلى شىء من متاع الحياة الدنيا، وهذا هو الذى حقق لهذه الدعوة أن ترسخ فى الأرض وتتمكن، وتمتد فى الآفاق

ولو كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أغرى الجماهير بأنهم – إذا تسلم الإسلام السلطة – سيحلون كل مشاكلهم الأرضية، ويرفلون فى النعيم، ما صبروا على شظف العيش الذى تلا تأسيس الدولة الإسلامية، واستمر بعد ذلك سنوات، ولا كانت تلك الحركة الباهرة التى غيرت وجه الأرض. وحين نوهم الناس – الذين لم تتمحض قلوبهم للا إله إلا الله – بأنهم إذا تسلم المسلمون سيحلون كل مشاكلهم فى التو واللحظة، ثم يستمر الإسلاميون فى الحكم سنوات والمشاكل لا تحل، بل تزداد حدة نتيجة اشتداد الصليبية الصهيونية فى الحرب، فهل سيصبر الناس، الذين لم يدخلوا من باب العبودية الخالصة لله، بل من باب المصالح الدنيوية؟ هل سيصبرون على الشظف والحرمان والجهاد المر، حتى يتحقق وعد الله فى أوانه المقدر عنه الله، أم سينقلبون على الحكم الذى لم يحقق لهم ما جاءوا من أجله، وأدلوا من أجله بأصواتهم فى صناديق الانتخاب؟!

إنما تكون الدعوة أولاً وقبل كل شىء، لبيان واجب العباد نحو خالقهم، واجب العبودية الخالصة لله، والالتزام بما جاء من عند الله، بصرف النظر عما يترتب على إخلاص العبادة لله، فى الحياة الدنيا، من كسب أو خسارة بحساب الأرض، إنما هو الجزاء الأخروى، مع بيان أن الله وعد هذه الأمة بخاصة أن يحقق لها الاستخلاف والتمكين والتأمين فى الحياة الدنيا، ولكن بشرط واضح: أن يعبدوه وحده بلا شريك، ويخلصوا له العبادة، لا بمجرد أن يذهبوا إلى صناديق الانتخاب، ويحصلوا على أغلبية الأصوات، ثم يتولوا السلطة : ((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من خوفهم أمنا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا (النور: 55)

ولا شك أن الدعوة ستمضى فى بطء شديد حين تكون على هذا الأساس، ولن تتجمع الجماهير بوفرة فى الزمن القصير، ولكن عندئذ يكون قد بدأ التمكين الصحيح بموكب المنهج الربانى، وبموجب السنن الربانية، ويتحقق قدر الله : ((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) (يوسف:21)


ثم زاد الغبش مرة أخرى من جانبين اثنين: حين دخلت بعض فصائل الحركة فى صراعات دموية مع السلطة، وحين دخلت فصائل أخرى مجالس النواب !

لقد أدى انزعاج الصليبية الصهيونية من الحركة الإسلامية، بالإضافة إلى عوامل أخرى مصاحبة، إلى تغير حاد فى السياسة العالمية، ليس هنا مجال تفصيله، ولكن لابد من إشارة سريعة إلى ما يخص العالم الإسلامى منه

لقد خرجت بريطانيا وفرنسا منهكتين من الحرب الكبرى الثانية (19391945)، بينما خرجت أمريكا بعافيتها كاملة لم يصبها من دمار الحرب شىء يذكر، وأغرى ذلك أمريكا أن تتزعم ما كان يسمى ((العالم الحر))، وأن تطرد النفوذ البريطانى والفرنسى من أماكن سيطرته، وتحل هى محله على يد زعامات عميلة لأمريكا، تضفى عليها البطولات الزائفة، وتصور فى نظر الجماهير على أنها قاهرة الاستعمار، ومخلصة الشعوب من شروره.. ولكن هذه اللعبة التى ربما بدت منطقية من نتائج الحرب، كان لها هدف آخر خفى، تواطأت فيه الصليبية مع الصهيونية، ورتبتاه معاً، وهو ضرب الحركات الإسلامية فى المنطقة العربية بصفة خاصة، لتأمين إسرائيل، وإتاحة الفرصة لها لكى تستقر وتتمكن، وتتوسع فى الأرض الإسلامية كما تشاء، بعد ما بدا واضحاً من أن الضربة الأولى التى قتل فيها الإمام الشهيد، وعذب فيها من عذب من الشباب، لم تكن قاضية، بل كانت كأنها زاد للحركة، زادها اشتعالاً وتوسعاً فى الآفاق

ومن أجل هذا الهدف، اختير الزعماء المطلوبون بعناية اختيروا كلهم من العسكر! وليس كل العسكر صالحين لهذه المهمة الخطيرة، فلابد أن تتوافر فيهم شروط ثلاثة رئيسية، ولا بأس بعدها بأية إضافات : جنون السلطة، وقسوة القلب، وكراهية الإسلام.. احتذاء للنموذج الأول – المعتمد عندهم – كمال أتاتورك!

وحين توجد هذه الصفات فى شخص معين، فسيتجه تلقائياً لضرب الحركة الإسلامية، وبالعنف المطلوب! ومع ذلك فلم تكن الأمور تترك للمصادفة، وإنما كانت تدرس وتدبر للإيقاع بالحركات الإسلامية، وقتل زعمائها وقادتها، واعتقال الألوف من شبابها، وتعذيبهم بألوان من الوحشية تقشعر لها الأبدان وهنا تبدو ((الحكمة))! من اختيارهم من العسكر لا من المدنيين، فمع العسكر يمكن تسويغ كل شىء وتمريره، الأحكام العسكرية، والمحاكم العسكرية، وعنف البطش، وصرامة الإجراءات .. أما لو كانوا مدنيين فلن تكون لهم تلك الجرأة فى الإجرام، ولا تلك القوة فى الانتقام، ولا ذلك العنف، ولا ذلك الإرهاب

ومضت المذابح تقام للمسلمين فى كل بلد تولى العسكر فيه السلطة، ولا يمكن أن يكون ذكر بالمصادفة بطبيعة الحال! كان عن قصد وتخطيط وتدبير، وعرفت المنطقة أشكالاً من التعذيب الوحشى لا مثيل لها فى التاريخ، إلا ما كان من محاكم التفتيش فى الأندلس، التى كان هدفها القضاء الكامل على الإسلام.. وتوالت الضربات، فما تمر بضع سنوات - وأحياناً بضعة شهور – حتى تكون قد أقيمت مذبحة هنا أو مذبحة هناك، تتجاوب أصداؤها فى العالم كله، وترقص لها الصليبية الصهيونية طرباً، وتفرك أيديها سروراً بنجاح (الأولاد) فى أداء المهمة التى كلفتهم بها (الأم) الرءوم!

وتولد عن هذا الوضع المؤلم تباران فى صفوف الحركة، مختلفان – بل متضادان – فى الاتجاه، أحدهما تيار الشباب الذى استفزه ما يقوم به العسكر من إرهاب وحشى، فقرر أنه لابد من الرد على العنف بالعنف، ظناً منه أن المقاومة المسلحة ستقضى فى النهاية على عنف العسكر، وتضطرهم – أو تضطر سادتهم – إلى تغيير الأسلوب.. والآخر تيار الشيوخ الذين أنهكهم توالى الضربات، فاختاروا طريق المسالمة إلى أقصى حد ممكن، وقرروا الدخول فى لعبة الديمقراطية؛ لكى لا يقال عنهم إنهم من أناصر العنف وكلا التيارين كان سبباً فى مزيد من الغبش حول قضية لا إله إلا الله

وبصرف النظر عن المبررات التى يقدمها كل فريق لتبرير مسلكه، فنحن هنا نتحدث عن الآثار التى نجمت عن التعجل فى الحركة منذ البدء، والتى أضافت معوقات جديدة إلى المعوقات القائمة، أكثر مما كانت عوناً للحركة لكى تتقدم إلى الأمام، وإن بدت فى نظر أصحابها خطوات إيجابية مفيدة للحركة، ومقربة إلى الهدف المنشود

إذا أخذنا فى اعتبارنا أن وضع الدعوة الآن أقرب شىء إلى وضع الجماعة المسلمة فى مكة، مع بعض الاختلاف، فإن اللجوء إلى العنف لا يخدم الدعوة، ويثير حولها من الغبش أكثر بكثير مما يوضح القضية ويبينها للناس، ولا ننسى أن بيان حقيقة القضية – قضية لا إله إلا الله – عنصر أساسى فى الحركة كلها – سواء بالنسبة للقاعدة، أو بالنسبة للجماهير، وأنه لا يمكن إحراز تقدم حقيقى على مسار الدعوة، ما لم تتبلور هذه القضية تصوراً وسلوكاً فى حس الناس

وحين ندخل فى معارك غير متكافئة مع السلطة، وقبل أن تحدد قضية ((الشرعية)) عند الناس، يحدث أمران معاً، كلاهما ضار بالحركة :

الأمر الأول : أن القضية تتحول – بعد فترة من الصراع تطول أو تقصر – إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتنشى أو تهمش القضية الأساسية التى يدور حولها الصراع كله: قضية من المعبود على الحقيقة: آلله أم آلهة زائفة من دونه؟ وهى القضية التى تتضمن فى أطوائها مجموعة من القضايا المنبثقة عنها، المترتبة عليها : قضية من المشرع : آلله، أم البشر؟ ومن مقرر القيم؟ ومن مقرر المعايير؟ ومن واضع المنهج للناس؟ تلك القضايا التى هى – منذ وضع البشر أقدامهم على الأرض إلى قيام الساعة – موضع الصراع بين الجاهلية والإسلام، بين أهل الباطل وأهل الحق، وهى التى من أجلها أرسل الرسل، وأنزل الوحى، وأقيمت الجنة والنار!

والأمر الثانى: أننا نتيح فرصة هائلة للأنظمة المعادية للإسلام، أن تزعم للناس أنها لا تحارب الإسلام، وإنما تحارب الإرهاب الذى لا يقره الإسلام، وتصدقها الجماهير بعد فترة تقصر أو تطول! وفى ذلك خسارة مؤكدة للدعوة؛ لأنها تغطى الموقف الحقيقى لهذه الأنظمة، وتؤخر فى حس الناس تبلور قضية الشرعية، وهى من القضايا الرئيسية التى يتوقف عليها فى النهاية مصير الصراع بين الجاهلية والإسلام

وكذلك حين ندخل فى لعبة (الديمقراطية) ، فإننا نخسر كثيراً فى قضية لا إله إلا الله

أول ما نخسره هو تحويل الإلزام إلى قضية خيار تختاره الجماهير، والله سبحانه وتعالى يقول: ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم))(الأحزاب:36)

إن قضية عبادة الله وحده بلا شريك، وهى قضية لا إله إلا الله، معناها أن يكون الله هو المعبود فى الاعتقاد، وهو المعبود فى الشعائر التعبدية، وهو المشرع، وهو مقرر القيم والمعايير، وهو واضع منهج الحياة للناس.. وهى قضية إلزام لا خيار فيها للمسلم مادام مقراً بالإسلام، بل هى قضية إلزام لكل من نطق بلسانه لا إله إلا الله، ولو كان فى دخيلة قلبه منافقاً كارهاً للإسلام، فإنه إن أعرض عن شريعة الله، فإنه يؤخذ بإقراره اللسانى، ثم يعتبر مرتداً عن الإسلام ((ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين(47) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون))(النور: 47-48). ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً))(النساء:65)

وحين ندخل فى لعبة الديمقراطية، فأول ما نفعله هو تحويل هذا الإلزام الربانى إلى قضية يستفتى فيها النسا، وتوخذ عليها الأصوات بالموافقة أو الرفقض، مع إتاحة الفرصة لمن شاء أن يقول: إنكم أقلية، والأقلية لا يجوز لها أن تفرض رأيها على الأغلبية .. وإذن فهى مسألة رأى، وليست مسألة إلزام، مسألة تنتظر أن يصل عدد أصوات الموافقين عليها مبلغاً حتى تتقرر

وبصرف النظر عما فعلته الجاهلية فى الجزائر، حين وصلت الأصوات إلى المبلغ المطلوب – وهو درس ينبغى ألا يغفل عن دلالته أحد ممن ينادون باتباع هذا الطريق – فإن القضية يجب أن تتحدد على أساس آخر مختلف .. إن تحكيم الشريعة إلزام ربانى، لا علاقة له بعدد الأصوات، ولا يخير الناس بشأنه، هل يقبلونه أم يرفضونه، لأنهم لا يملكون أن يرفضوه ثم يظلوا مسلمين!

وفرق بين أن تكون إقامة الإسلام فى الأرض متوقفة – بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى – على وجود قاعدة مؤمنة ذات حجم معين، تملك تحقيق هذا الإلزام الربانى فى عالم الواقع، وبين أن يكون الإلزام ذاته موضع نظر! وموضع استفتاء! سواء استطعنا تحقيقه فى عالم الواقع، أم لم نستطع لضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، كما كان حال المسلمين فى مكة.. ويجب أن تقدمه الدعوة للناس على هذا الأساس: أنه إلزام ربانى، وأن الناكل عنه مرتد فى حكم الله، وأن جميع الناس مطالبون بتحقيقه، حكاماً ومحكومين، سواء وجدت هيئة أو جماعة تطالب به أم لم توجد؛ لأنه ليس متوقفاً على مطالبة أحد من البشر، بعد أن طلبه رب العالمين من عباده بصيغة الأمر الملزم

وهذا المعنى يختفى تماماً فى حس الناس – أو فى القليل يفقد شحنته الفاعلة – حين ندخل فى لعبة الديمقراطية، التى تقرر من حيث المبدأ أنه لا إلزام لشىء إلا ما تقرره غالبية الأصوات

والخسارة الثانية التى نقع فيها حين ندخل فى لعبة الديمقراطية، هى تمييع قضية الشرعية، فالشرعية فى الديمقراطية هى لمن يأخذ أغلبية الأصوات، وهذا ليس هو المعيار الربانى؛ إنما المعيار الربانى – كما ذكرنا فى فصل سابق – هو تحكيم شريعة الله ، ومن أعرض عن تحكيم شريعة الله فلا شرعية له فى دين الله، ولو حصل على كل الأصوات لا غالبيتها فحسب، وهنا مفرق طريق حاد بين الإسلام وبين الديمقراطية

وحين ندخل فى لعبة الديمقراطية فلابد أن نقر بشرعية من يأخذ غالبية الأصوات، ولو كان لا يحكم شريعة الله، لأن هذا هو قانون اللعبة، والذى لا نملك مخالفته، وعندئذ نقع فى محظور عقدى، وهو إعطاء الشرعية لأمر قال الله عنه إنه كفر، وهو التشريع بغير ما أنزل الله

ومهما قلنا فى سرنا وعلننا: إننا لا نوافق على التشريع بغير ما أنزل الله، فإنه يلزمنا أن نخضع لقانون اللعبة، مادمنا قد ارتضينا أن نلعبها، بل طالبنا فى كثير من الأحايين أن يسمح لنا باللعب فيها، واحتججنا حينما حرمنا من هذا الحق

ولم يفت أعداءنا أن يستغلوا وقوعنا فى ورطة الديمقراطية ليحرجونا، ويشتدوا فى إحراجنا، فقالوا لنا: ما موقفكم إذا دخلتم الانتخابات ولم تنجحوا، ونجح غيركم ممن لا يحكم الشريعة؟ فقلنا – ويا للعجب- : نحترم رأى الأمة!! فسألونا: إذا كنتم فى الحكم ثم رغبت الأمة عنكم، وأعطت الأصوات لغيركم، فقلنا – وياللعجب: - نخضع لقرار الأمة! أولو كان قرار الأمة مناقضاً لما قرره الله؟!

أى تمييع لقضية لا إله إلا الله وقضية الشرعية أشد من ذلك؟

ومع ذلك فما دمنا قد دخلنا اللعبة فلا مناص لنا من أن نقبل قانونها، لأن هذا هو مقتضى المنطق . إنما يحق لنا أن نرفض القانون حين لا نشارك فى اللعبة أصلاً، فنكون منطقيين مع أنفسنا ومع الناس حين نقول لهم : إننا لم نشارك فى اللعبة الآن قانونها مخالف لما قرره الله وألزم به عباده

وبطبيعة الحال، فإننا حين نقول ذلك فسيقول عنا أعداؤنا: أنتم لستم ديمقراطيين، أنتم أعداء الديمقراطية، ونقول لهم : قولوا ما شئتم، فلن نقبل نظام حكم يعطى البشر ابتداءً حق التشريع بما يخالف شرع الله؛ لأننا إن قبلنا ذلك لا نكون مسلمين! والذى أنزله الله علينا هو الإسلام وليس الديمقراطية، والذى ألزمنا الله به هو الإسلام وليس الديمقراطية، والذى يحاسبنا الله عليه يوم القيامة هو الإسلام وليس الديمقراطية : ((إن الدين عند الله الإسلام))(آل عمران : 19) ((ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين))(آل عمران : 85)

وفى الإسلام شورى، ولكن الشورى ليست هى الديمقراطية، فالشورى هى فى الطريقة الصحيحة لتطبيق النص، وفيما يجتهد فيه المسلمون فيما ليس فيه نص .. أما الديمقراطية فهى تجعل الحاكمية ابتداءً فى يد البشر، ولا توافق على اعتبارها حق الله وحده بلا شريك! وما أبعد الشقة بين ديمقراطيتهم وشورى الإسلام: ((أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون))(المائدة:5.)

ولو لم يكن فى دخولنا لعبة الديمقراطية من خسارة، إلا تمييع قضية لا إله إلا الله وقضية الشرعية، لكان هذا كافياً لتجنب الخوض فى اللعبة، أيا تكن الفوائد الجزئية التى يمكن أن تتحقق من دخولنا البرلمانات، والتى نخسرها حين نمتنع من الدخول فيها وقد حرم الله الخمر والميسر مع أن فيهما – بصرح القرآن- منافع للناس؛ وإنما حرمهما كما صرحت الآية الكريمة، لأن إثمهما أكبر من نفعهما:

((يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما))(البقرة : 219)

وهذه قاعدة فقهية نهتدى بها فيما ليس فيه نص، وقضية البرلمانات والدخول فيها ليس فيها نص، ولكن التدبر الواعى للقضية يصل بنا إلى أن تمييع قضية لا إله إلا الله ومقتضياتها، وتمييع قضية الشرعية، يؤثر تأثيراً عكسياً على الدعوة؛ لأنه يشتت وعى الجماهير بهاتين القضيتين الرئيسيتين من قضايا الدعوة، وهما : أن تحكيم شريعة الله إلزام ربانى لا يستفتى فيه الناس، وليس منشأ الإلزام فيه أن يرضى عنه أكثرية الناس، أو لا يرضوا، إنما منشأ الإلزام فيه هو كوننا مسلمين، بل هو مجرد زعمنا أننا مسلمون وأن الشرعية فى دين الله لا علاقة لها بعدد الأصوات التى ينالها فلان أو فلان، فإنما يتعلق عدد الأصوات بشخص الحاكم الذى تختاره الأمة ليطبق شريعة الله، لا بنوع الحكم الذى يزاوله الحاكم، والذى لا خيار فيه لأحد من الناس، حكاماً كانوا لا محكومين، بعد أمر الله الملزم بتطبيق الشريعة، وحكم الله الصريح بنفى الإيمان البتة عمن يعرض عن شريعة الله : (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك))(النساء : 65). ((وما أولئك بالمؤمنين))(النور:47)


هذه قضايا رئيسية من قضايا الدعوة، وما لم تع الجماهير جيداً هذه القضايا، وتؤمن بها إيماناً راسخاً، فلن تتوفر القاعدة الجماهيرية الصحيحة، التى يمكن أن يقوم عليها حكم إسلامى، فالجاهلية العالمية كلها واقفة بالمرصاد لتمنع تحقيق هذا الحكم فى واقع الأرض، ولابد من إيمان واع وراسخ يقاوم الضغط العالى كله، ويصمد إزاءه، ولك غبش نحدثه حول هذه القضايا هو فى الحقيقة تعويق للدعوة وإن ظننا أنه يقرب الطريق


تلك خلاصة سريعة للأسباب التى أدت إلى تعجل الحركة المعاصرة فى تحركها، والنتائج التى ترتبت على هذا التعجل، والتى من شأنها أن نراجع حساباتنا ونحاول التصحيح

وفى الفصول القادمة سنتحدث عن التربية المطلوبة، سواء للقاعدة الصلبة التى تحمل مسئولية الدعوة، أو للقاعدة الجماهيرية التى لابد من إنشائها لتتم الحركة فى واقع الأرض، وتصل إلى أهدافها بعون الله، مسترشدين فى حديثنا بخطوات المنهج النبوى فى الدعوة، والذى كانت نقطة البدء فيه هى إقامة القاعدة الصلبة التى تحمل البناء

القاعدة الصلبة

غنى عن البيان أن كل رسول هو عنوان رسالته، وهو النموذج الذى يفترض فى أتباعه أن يتبعوه، وأن يحققوا فى ذوات أنفسهم ما وسعهم أن يحققوه من الاقتداء به فى أقواله وأفعاله، وتنفيذ ما أمرهم به، وما نهاهم عنه : ((وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله))(النساء : 64). ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))(الحشر: 7). ((لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً))(الأحزاب : 21)

(( فإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأنوا منه ما استطعتم))

وغنى عن البيان كذلك، أن الرسالة الخاتمة كانت رسالة فذة بين الرسالات جميعاً؛ لأنها الرسالة التى اكتمل بها الدين، والموجهة للبشرية كافة لا لقوم بأعيانهم كما كان شأن الرسالات السابقة، ولأنها الرسالة التى أنزلت لتحكم بشمولها كافة حياة الناس من جميع جوانبها، وترسم منهج الحياة الكامل للبشرية من لدن مبعثه (صلى الله عليه وسلم) إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها : ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا))(المائدة : 3). ((قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعاً))(الأعراف:158). ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين))(الأنبياء : 1.7). ((وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله))(المائدة:48).

وكان هذا كله – فى تقدير الله – هو المناسب لختم الرسالة، وبعث النبى الخاتم عليه الصلاة والسلام: ((ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ...))(الأحزاب:4.)

((لا نبى بعدى))

كان من المناسب مع ختم الرسالة، أن تكون الرسالة الخاتمة شاملة لكل ما يحتاج الناس إليه فى وقتها الذى نزلت فيه، وفى المستقبل الذى يكون من بعد إلى قيام الساعة؛ بحيث لا يضلون بعدها إن تمسكوا بها، ولا يحتاجون لغيرها فى تدبير شئونهم: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وسنتى))

وكان طبيعياً – والرسالة الخاتمة على هذه الصورة – أن يكون الرسول الخاتم (صلى الله عليه وسلم) أعظم رسول بين الرسل، وأعظم من أقلت الأرض.. ولا نبعد عن الحقيقة كذلك إن قلنا: إن الرجال الذين رباهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) كانوا – بعد الرسل الكرام صلوات الله عليهم – أعظم رجالات التاريخ

نستطيع أن نقول بصفة عامة : إن القيم والمبادئ التى يشتمل عليها منهج التربية المستخدم ذات تأثير كبير فيمن يتربون عليها، وإنه على قدر عظمة هذه القيم والمبادئ يكون مستوى المتلقين من الصفات الحميدة والأخلاق العالية.. كما نقول من جانب أخر إن شخصية المربى ذات تأثير كبير فيمن يتلقون عنه، ,إنه على قدر عظمة المربى يكون مستوى المتلقين عنه من الرفعة وكرم الشمائل.. ونقول من جهة ثالثة : إن استعداد الفطر التى تتلقى من المربى له تأثير كبير فى المستوى الذى يمكن أن يصل إليه المتلقون من الرفعة، على قدر ما يكون فى هذه الفطر من السلامة والبعد عن الأمراض.. فإذا أخذنا فى اعتبارنا هذه العناصر الثلاثة، أمكننا أن نكون فكرة عن الأسس التى قامت عليها القاعدة الصلبة التى أنشأها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وعن نوعية هذه القاعدة التى غيرت وجه التاريخ.

فأما المبادئ فيكفى أن يكون منطلقها وأساسها الأول هو التوحيد، هو ((لا إله إلا الله))، والتوحيد هو الذى أنشأ هذه الأمة، وأخرجها إلى الوجود خير أمة أخرجت للناس: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله))(آل عمران: 11.) . ولكن الخيرية الناشئة من التوحيد لا تتمثل فى أحد ولا فى شىء، كما تتمثل فى تلك القاعدة التى رباها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على عينه، فى فترة التربية فى مكة، ثم بعد ذلك فى المدينة

التوحيد – فى حقيقته المنزلة من عند الله، والتى استوعبها قلب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وربى عليها أصحابه – هو أعظم ما فى هذا الوجود من حقيقة، وهو أعظم ما فى حقيقة الوجود من مؤثر فى بنية الكون وبناء النفوس :

((الله لا إله إلا هو الحى القيوم))(آل عمران : 2)

الكون عابد بفطرته، والإنسان عابد بفطرته، ولكن السموات والأرض أتت إلى الله طائعة مستسلمة، وبقى الإنسان، بعضه يستسلم، وبعضه يستكبر وينأى بجانبه : ((ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا طائعين))(فصلت : 11). ((ألم تر أن الله يسجد له من فى السموات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب))(الحج : 18)

والأصل فى فطرة الناس هو التوحيد : ((فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون))(الروم:3.). ((وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا))(الأعراف : 172)

((كل مولود يولد على الفطرة))

((إنى خلقت عبادى حنفاء كلهم))

ولكن الله من فضله وكرمه لم يشأ أن يقهر الإنسان على التوحيد كما تخضع الكائنات الأخرى بالقهر، بل كرمه وفضله: ((ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير من خلقنا تفضيلا))(الإسراء : 7.)

ومن آيات هذا التكريم حرية الاختيار : ((ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها(8) قد افلح من زكاها(9) وقد خاب من دساها))(الشمس : 7-1.)

ومع أن هذه الحرية تكريم ربانى تفضل الله به على الإنسان، فإن بعض الفطر تنتكس مستخدمة حريتها فى عصيان الله والاستكبار عن عبادته، بدلاً من أن تختار الهدى وتستقيم عليه، فيصبح فى الناس مؤمن وكافر : ((هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن))(التغابن:2)

فأما الذين آمنوا فهم الذين استقاموا على الفطرة السوية، وعلى قدر صدق إيمانهم ورسوخه وقوته يكون ارتفاعهم فى مدارج السالكين لتحقيق الغاية العظمى التى خلق الله الخلق من أجلها: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون))(الذاريات:56)


ماذا يفعل التوحيد فى النفوس؟

أرأيت إلى قطعة الحديد حين يمرر فيها تيار كهربى أو يمرر عليها مغناطيس.. ماذا يحدث فى كيانها؟ يحدث – كما يقول علم الفيزياء – أن يعاد ترتيب ذراتها على نسق معين، فيصبح لها قوة كهربية مغناطيسية لم تكن لها من قبل، وتصبح طاقة محركة بعد أن كانت ساكنة لا تتحرك ولا تحرك.

أين كانت هذه الطاقة فى كيانها؟ كانت مبعثرة مشتتة، فلم تكن تظهر ولم تكن تعمل، فلم يكن لها وجود واقعى مشهود والآن تجمعت على نسق معين، فظهرت، وعملت، وصار لها آثار مشهودة فى عالم الواقع

شبيه بذلك ما يحدث فى نفوس البشر حين تخالطها بشاشة الإسلام، حين تعرف التوحيد، حين تؤمن بلا إله إلا الله تتجمع النفس من شتاتها وتتحدد وجهتها

ولكن، فلنقف لحظة لنسأل: ما الذى يحدث الشتات فى النفوس؟ أو هكذا النفس بطبيعتها؟ أم إنها هكذا تصبح حين تترك بلا رعاية ولا عناية ولا توجيه؟ حين لا يقوم الإنسان ((بالتزكية)) المطلوبة منه تجاه نفسه : ((قد أفلح من زكاها() وقد خاب من دساها))(الشمس : 9-1.)

يحدث الشتات من اتباع آلهة شتى ويحدث من ضغط الشهوات.. ويحدث من عدم اتخاذ هدف محدد فى الحياة .. تلك – على الأقل – ثلاثة أسباب رئيسية تحدث الشتات فى النفوس، فيجئ الإيمان فيجليها، فتتجمع النفس من شتاتها وضياعها، وتصبح طاقة هائلة تتحرك وتحرك

فأما إنسان الجاهلية العربية، فقد كان يعبد آلهة شتى بعضها ظاهر كالأصنام، وبعضها خفى كالقبيلة وعرف الآباء والأجداد

فأما الأصنام فالحديث عنها مستفيض، حتى ليحسب الإنسان لأول وهلة أنها وحدها كانت هى الآلهة المعبودة من دون الله فى الجاهلية العربية، ولكن الذى ينعم النظر يتبين أنها لم تكن وحدها المعبودة من دون الله، فانظر إلى الشاعر الذى يقول :

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

فما عبادة الاتباع إن لم تكن هذه؟ يعرف أن قبيلته غاوية ثم يتبعها – على علم بغوايتها- لأنها فى حسه رب معبود، لا تجوز مخالفته فى الرشد ولا فى الغى!

وكان عرف الآباء والأجداد رباً معبوداً من دون الله: ((وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون))(البقرة : 17.)

عرف الآباء والأجداد، الذى يجعل أبا طالب يحجم عن الإسلام – على كل حبه لابن أخيه (صلى الله عليه وسلم)، وكل حدبه ورعايته، وكل حمايته له من كفار قريش – لكى لا يقال عنه إنه خالق عرف الآباء والأجداد! فأى عبودية أشد من هذه العبودية؟

أما إنسان الجاهلية المعاصرة، فيعبد أرباباً أكثر عدداً وأشد خفاء من أرباب الجاهلية العربية.. (فالمصلحة القومية) بديل من القبيلة العربية القديمة، أكبر وأخطر، وأشد استيلاء على نفوس أتباعها.. (والرأى العام العالمى) بديل من عرف الآباء والأجداد، أكبر وأخطر، وأعنف تأثيراً على ((المستضعفين)) خاصة فى كل الأرض، بينما هو صناعة مصنوعة على يد الشياطين الذين يحكمون الأرض، من وراء ستار أو بلا أستار.. (والتقدم) إله (والعلم) إله (والعلمانية) إله (والإنتاج) إله (والحربية الشخصية) إله وناهيك عن الشهوات!

إنها فى القديم والحديث أرباب معبودة من دون الله أرباب تهلك عبادها وتسلمهم إلى البوار.

إنها فى وضعها الطبيعى فى صميم الفطرة، غذاء ضرورى للنفس البشرية، لكى تقوم بنشاطها الطبيعى فى عمارة الأرض، التى هى جزء من مهمة الخلافة التى خلق الله لها الإنسان: ((وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة)) (البقرة : 3.). ((هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)) (هود : 61). ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب))(آل عمران:14)

ولكنها كما تكون غذاء صالحاً مفيداً تكون سما مهلكاً حين تتجاوز الحد كالغذاء الجسدى سواء بسواء .. فالجسم – لكى يقوم بنشاطه الطبيعى- يحتاج إلى قدر من البروتينات والنشويات والأملاح والفيتامينات، ولكنك إذا تجاوزت المقدار المناسب فى أى منها، يحدث خلل فى وظائف الجسم، فلا يعود يتمثل الغذاء تمثلاً صحيحاً، ولا يعود قادراً على بذل النشاط الطبيعى الذى يفترض أن يبذله، وتبدأ الأمراض.. والنفس كذلك، تحتاج إلى هذه الشهوات أو ((الدوافع)) لتتحرك حركتها الطبيعية، التى يفترض أن تقوم بها فى الحياة الدنيا، ولكنها إذا اتبعت إغراء هذه الشهوات- وهى لكونها محببة ومزينة تغرى بالمزيد – فإن نظامها يختل، فتفسد، وتعجز عن القيام بالنشاط السوى، وإن قامت بألوان من النشاط المنحرف، كما تختل الخلية السوية حين يصيبها السرطان.. تنشط، ولكنه النشاط المؤدى إلى الدمار

وهنا نقطة ((الابتلاء)) الذى يعرض للإنسان فى حياته، والذى هو هدف من أهداف خلقه: ((إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً))(الإنسان: 2) . ((إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا))(الكهف:7)

فموضوع الابتلاء هو الطريقة التى يتناول بها الإنسان متاع الأرض.. هل يقف فيه عند الحدود المأمونة التى قدرها الله – وهو اللطيف الخبير الذى يعلم من خلق، ويعلم ما يصلحه وما يصلح له – أم يسرف ويتجاوز الحدود، فينقلب المتاع سما مهلكاً يضر أكثر مما ينفع، أو يضر ولا ينفع؟ : ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير))(الملك : 14) . ((تلك حدود الله فلا تعتدوها)) (البقرة : 219). ((تلك حدود الله فلا تقربوها))(البقرة : 187)

ولقد كان إنسان الجاهلية العربية غارقاً فى الشهوات، يعب منها بمقدار ما يتيح له وضعه الاجتماعى، ووضعه الاقتصادى، لا يرى فى ذلك بأساً، بل يراها فخراً وكرامة! ويسوغها بمنطقه المعتل:

يقول طرفة بن العبد :

ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدك لم أحفل متى قام عودى
فمنهن سبقى العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكرى إذا نادى المضاف محنباً
كسيد الغضا - نبهته - المتورد
وتقصير يوم الدجن، والدجن معجب
ببهكنة تحت الطراف المعمد


فيذكر الخمر والنساء والحرب، وذلك بعد أن قال قبلها :

ألا أيهذا اللائمى أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى؟

فما دام الخلود مستحيلاً – فى واقع الحياة الدنيا – ((فالمنطق)) فى الجاهلية أن يعب الإنسان من الشهوات بقدر ما يستطيع، لأنها فرصة واحدة، إن ضاعت لا تعود

أما إنسان الجاهلية المعاصرة، فالشهوات فى حياته هى الأصل الذى يعيش من أجله، وإن كان يعمل وينتج فمن أجل أن يحصل على الوسيلة التى تتيح له أكبر قدر من المتاع! يستوى فى ذلك من كانت شهوته هى السلطة فيعمل على اكتسابها، أو شهوته هى الملك فيعمل على اكتسابه، أو شهوته هى الجنس ولذائذ الحس، وهى التى جعلتها الجاهلية المعاصرة سعاراً محموماً للصغير والكبير، والعاقل والمجنون، والرجل والمرأة على السواء!

أما الهدف فلا هدف فى الجاهلية أبعد من الحياة الدنيا، وما فيها من المتاع المتاح: ((وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر))(الجاثية : 24). ((إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين))(المؤمنون : 37). ((فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا(29) ذلك مبلغهم من العلم))(النجم:29-3.). ((يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون))(الروم : 7)

وحين ينحصر الإنسان فى الحياة الدنيا وأهدافها القريبة – مهما بدت بعيدة – فإنه يفقد كثيراً من كيانه الذى خلقه الله له، حين خلقه من قبضة من طين الأرض، ونفخ فيه من روحه.. يفقد القيم العليا، التى هى القوام الحقيقى للإنسان: ((إذا قال ربك للملائكة إنى خالق بشراً من طين(71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص 71-72)

فأما إنسان الجاهلية العربية فقد كان أبعد همه هو القبيلة وما يدور حولها من أحداث وأحاديث، لذلك كان حفظ الأنساب والفخر والهجاء، وأخبار المعارك، والكر والفر، هى عالمه الذى يعيش فيه، ويعيش من أجله، ويقول نفيه الشعراء شعرهم، ويكون هو سمرهم فى منتدياتهم، وموضع تنافسهم فيما بينهم .. إلى جانب ما يمارسونه من تكاثر فى الأموال والأولاد، وما يمارسونه من الشهوات

وأما إنسان الجاهلية المعاصرة، فهو أشد ضلالاً وانحصاراً فى الحياة الدنيا وعالم الحس، وأشد بعداً عن القيم العليا وتكاليفها، لتكالبه على المتاع الحسى، ولأن صانعى هذه الجاهلية حريصون على إبعاده إبعاداً كاملاً عن كل قيمة إنسانية، ترفع الإنسان عن محيط الحيوان، لذلك تفننوا فى تزيين الأرض، وتزيين المتاع الدنس بكل وسيلة تخطر – أو لا تخطر – على البال

وفى الجاهلية كلها – قديمها وحديثها – حين ينحصر الناس فى الحياة الدنيا ولا يؤمنون بالبعث والنشور والحساب والجزاء، تبدو الحياة فى نظرهم عبثاً لا معنى له، ولا قيمة للقيم فيه، إلا بمقدار ما تخدم شهوات الإنسان ومصالحه فى عمره المحدود، وتنتاب الإنسان الحيرة التى عبر عنها الشاعر الجاهلى المعاصر (إيليا أبو ماضى) فى هذه الأبيات:

جئت لا أعلم من أين ولكنى أتيت !

ولقد أبصرت قدامى طريقاً فمشيت!

وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أو أبيت

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقى؟ لست أدرى!

ولهذا كانت الخمر دائماً جزءاً من الجاهلية، لأنها وسيلة للهروب من الشعور بعبثية الحياة، وهو شعور ثقيل على النفس، كما يغرق الناس فى اللهو، لقتل الوقت الذى يظل فارغاً وثقيلاً، حين يفرغ الناس من صراعاتهم الهابطة ومصالحهم القريبة، ويبحثون عن هدف يملأ الفراغ فلا يجدون

فى الجاهلية العربية كانت الخمر ومجالس الشراب وألعاب الميسر وسيلتهم الكبرى للهروب.. وفى الجاهلية المعاصرة صارت المخدرات إلى جانب الخمر، وصارت المراقص ودور اللهو ونوادى القمار.. وفى الجانب الآخر صار القلق النفسى والأمراض العصبية، والانتحار والجنون، حين لا تفلح الوسائل كلها فى رفع الشعور بعبثية الحياة عن كاهل الحس


تلك كلها أسباب وراء الشتات الذى يصيب النفس البشرية فى الجاهلية، والإيمان هو الذى يجمع النفس من الشتات

الإيمان معناه ابتداءً: الاعتقاد بأنه إله واحد لا إله غيره.. وأن كل الآلهة الأخرى وكل الأرباب، وكل المعبودات من دون الله، وهم لا حقيقة له، ولا وجود له إلا فى ظنون أصحابه، وهى ظنون لا تغنى من الحق شيئاً ومعناه أنه لا معبود بحق إلا الله، لأنه لا إله فى الحقيقة غيره، فكل عبادة موجهة إلى غيره فهى باطلة من أساسها، لأنها موجهة لمن لا ألوهية له فى الحقيقة ومعناه الالتزام بما جاء من عند الله، لأنه لا يستقيم فى الحس أن يكون هو المعبود الحقيق بالعبادة وحده، ثم يطاع غيره فى معصيته! ومعناه فى نهاية الأمر أن الله هو المشرع، هو الذى يحدد الحلال والحرام، والحسن والقبيح، والمباح وغير المباح، وهو الذى يضع الحدود التى يمارس الناس فيها متاع الحياة الدنيا، وهو الذى يضع للناس منهج الحياة، ويحدد لهم ما يعيشون له من أهداف

ومن شأن هذا الإيمان ألا يبقى سبباً من أسباب الشتات التى يتطرق بها إلى النفوس

حين يتوحد الإله المعبود تنتهى من الحس تماماً كل الآلهة المزعومة، التى تشتت النفس فى اتباعها، ولكل منها مطالب، ولكل منها نزعات أو شطحات لا تلتقى فى اتجاه واحد، فتتوزع النفس بينها، وكل إله منها لا يمارس ألوهيته إلا على حساب إله آخر: ((ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلما لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون))(الزمر : 29)

وحين يتوحد الإله المعبود تنضبط الشهوات فى حدودها التى حددها الله، فتصبح غذاءً صالحاً للنفس، ولا تعود سماً مهلكاً، ولا هماً مقعداً مقيماً، لا يرتوى ولا يشبع، ولا يدع للنفس فرصة للسكينة والهدوء

وحين يتوحد الإله المعبود يتحدد الهدف الذى ينظم فى داخله كل الأهداف، وتتحدد القيم التى تحقق الأهداف وتذهب عن الحياة عبثيتها، حين يؤمن الإنسان بالبعث والنشور، والحساب والجزاء

  • * *

إذا كان هذا دور المبادئ فى نشأة القاعدة الصلبة، فلنقل كلمة سريعة عن دور المربى (صلى الله عليه وسلم)، أعظم مرب فى التاريخ، ولن نوفيه حقه (صلى الله عليه وسلم) فى هذه الكلمة ولا فى كلمات وحسبه ما شهد له به ربه المنعم الوهاب: ((وإنك لعلى خلق عظيم)) (القلم : 4) ، ولكنا لا نستطيع أن تعرف على تلك القاعدة، دون أن نلم ولو إلمامة سريعة بالأثر الضخم الذى أحدثه وجود الرسول (صلى الله عليه وسلم) بشخصه الكريم العظيم بين ظهرانيهم.

إن الأتباع يقبسون دائماً شيئاً من صفات قائدهم، من خلال حبهم له ومصاحبتهم إياه، وقد يكون هذا بغير وعى كامل منهم، فإن الإعجاب بشخصية القائد يدفع الأتباع تلقائياً إلى محاولة التشبه به فى بعض أعماله، وبعض أقواله، وبعض مواقفه، وبعض تصرفاته، وقد كان هذا حادثاً بالفعل من الصحابة رضوان الله عليهم، تجاه نبيهم الذى يحبونه فوق كل حب، ويوقرونه فوق كل توقير عرفه أتباع تجاه قائدهم فى التاريخ كله

سأل هرقل أبا سفيان، ولم يكن قد أسلم بعد، عن حال المؤمنين مع النبى (صلى الله عليه وسلم)، فقال، ما رأيت أحداً يحبه الناس كحب أصحاب محمد محمداً

ولكن الأمر مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لم يكن مقتصراً على هذا الإعجاب الذى يؤثر فى الأتباع بغير وعى كامل منهم، إنما كان تأثراً واعياً بأمر من الله الذى آمنوا به وأسلموا وجوههم له، وبأمر من الرسول ذاته (صلى الله عليه وسلم) : ((لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً))(الأحزاب: 21). ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب))(الحشر: 7). ((ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه))(التوبة:12.) ((يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم))(الأنفال: 24)

((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده)). ((صلوا كما رأيتمونى أصلى))((خذوا عنى مناسككم))

ذلك أنه ليس مجرد قائد يقود جماعة من الناس، إنما هى نبى يبلغ عن ربه، ويبين للناس ما نزل إليهم، فطاعته أمر، وطاعته عبادة لله، ((يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً))(النساء : 59). ((من يطع الرسول فقد أطاع الله))(النساء: 8.)

لذلك اجتمع للرسول (صلى الله عليه وسلم) من أتباعه ذلك الحب الفائق الذى يفوق كل حب، والالتزام بالطاعة التى هى عبادة الله، فاجتمع له من التأثير فى نفوس أصحابه، رضوان الله عليهم، ما لم يكن له مثيل فى التاريخ تأثير الشخصية الفذة، وتأثير المبادئ الفذة كلاهما فى آن

فأما المبادئ فقد تحدثنا عنها إجمالاً فى الفقرة السابقة، وسنعود إليها بالتفصيل فيما بعد

أما شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقد يجزئنا فى هذا المقام أن نقول: إنها شخصية جامعة، جمعت ما تفرق فى أشخاص الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم: روحانية عيسى، وصبر نوح، وحزم موسى، ورقة إبراهيم عليهم السلام.. إلى خصال تفرد بها (صلى الله عليه وسلم) ، لم تتح لنبى قبله.. فاجتمع فيه شخصية القائد السياسى الذى يجمع أمة من شتات، ويبوئها مكاناً عالياً بين الأمم.. وشخصية القائد العسكرى، الذى يربى جيشاً فذاً فى شجاعته وقوة بأسه، ويخوض به أنبل المعارك وشخصية المربى الذى لا يألوا جهداً فى تربية أتباعه على القمة من الأخلاق الفاضلة.. وشخصية المجاهد الذى لا يفتر عن الجهاد وشخصية الزوج المثالى والأب الرحيم الودود وكل ذلك على توازن فى الشخصية، لا يطغى منها جانب على جانب، ولا ينشط جانب على حساب جانب.. لا جرم يكون تأثيره فى أتباعه أعظم تأثير أحدثه نبى فى قومه، وأعظم تأثير أحدثه بشر فى التاريخ


وكما أجملنا الحديث عن المبادئ التى أنشأت القاعدة التى أقامها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وعن شخصية المربى الأعظم الذى ربى تلك القاعدة، نقول كذلك كملمة مجملة عن نوعية الرجال الذين قامت القاعدة على أكتافهم :

((الله أعلم حيث يجعل رسالته)) (الأنعام :124)

إن اختيار الله لنبيه (صلى الله عليه وسلم)، وللأرض التى تنطلق منها الرسالة، وللقوم الذين يتلقون الرسالة أول مرة، وراءه ولا شك حكمة بالغة، فقد اختار الله لرسالته الخاتمة أعظم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، واختار أرضاً يعلم الله أنها أنسب أرض تنطلق منها الرسالة الخاتمة.. أرض لا مطمع فيها فى ذلك الوقت، لدولة من الدول العظمى التى تحكم الأرض يومئذ، لأنها صحراء جرداء، فتنشأ الجماعة المؤمنة وتتمكن، دون أن تتدخل سلطة خارجية لكبتها أو إضعافها، أو تعويقها عن مهمتها، حتى إذا تنبهت الدول ((العظمى)) لخطرها،ن وأرادت أن تتصدى لها، كانت قد أنشأت دولتها، وأنشأت قوتها الضاربة التى ترهب بها الأعداء

أما البشر فى هذه الأرض، فقد علم الله كذلك أنهم أصلح من يحمل هذه الرسالة، وينطلق بها فى الآفاق وثنيون نعم مشركون نعم لد الخصومة نعم شديدو الجدال نعم . ولكنهم من وراء ذلك كله، أسلم فطرة من شعوب الأرض الأخرى، التى أفسدتها الحضارة الجاهلية بترفها ورخاوتها وإخلادها إلى الأرض، وانتشار المباذل فيها، كما كانت الإمبراطوريتان ((العظيمتان!)) عن يمين الجزيرة وشمالها : فارس والروم، فضلاً عن استخذاء شعوبها لسطوة الحاكم المقدس الذى تخنع له الرقاب، ويتعامل مع شعبه تعامل السيد مع العبيد، فيطغى السيد ويخضع العبيد.

لقد كانت الجاهلية العربية قد أفسدت ولا شك نفوس العرب المشركين.. ولكنه كما ثبت فى الواقع – فساد فى القشرة، لم يتوغل إلى صميم الفطرة، فما إن أزالت العقيدة الجديدة هذه القشرة الفاسدة، حتى اتصلت رأساً بعناصر الخير المذخورة فى الفطرة، فأحدثت الأعاجيب .

وفيما عدا الكفار الذين أصروا على كفرهم، وقاتلوا هذا الدين بضراوة حتى قتلوا، فإن النفوس التى استجابت، قد استجابت استجابة رائعة، لا مثيل لها فى أتباع الرسل من قبل، لسلامة فطرتهم تحت القشرة الزائفة، ولإخلاصهم العميق لهذا الدين، ولشجاعتهم واستعدادهم للبذل والفداء .

وعنصر آخر لابد من الإشارة إليه، هو استعدادهم للانتقال السريع إلى أى مكان جديد يستوطنونه فيكون وطناً لهم لا تشدهم إلى أرضهم نتلك الروابط المقعدة، التى تشد الفلاح إلى أرضه، فيحس بالغربة إذا انتقل منها بضع خطوات، وبهذه الخصلة انتشروا فى الأرض كما لم ينتشر شعب من قبل، يحملون الهدى والنور لكل البشرية


تحدثنا حتى الآن حديثاً مجملاً عن عوامل ثلاثة، أسهمت فى صلابة القاعدة التى أنشأها الرسول (صلى الله عليه وسلم) : عظمة المبادئ التى قامت عليها القاعدة، وعظمة المربى (صلى الله عليه وسلم) ، وسلامة الفطرة لدى الذين تلقوا المبادئ العظيمة، وتأثروا بعظمة المربى. ولم نتحدث بعد عن دور التربية التى قام بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأتباعه

فالمبادئ قد توجد – وهى اليوم موجودة كما كانت يوم أنزلت من عند الله – ولكنها لا تعمل من ذات نفسها، ما لم يبذرها المربى فى نفوس أتباعه، ويستنبتها، ويتابعها بالرعاية والعناية والتوجيه. والمربى قد يوجد ولكنه لا يعطى تأثيره الكامل، حتى يعطى الجهد اللازم لعملية التربية، فالتأثر التلقائى وحده لا يكفى لتربية النفوس، ما لم يبذل المربى جهداً إيجابياً فى تعميق القيم المطلوبة، وترسيخها فى النفوس .

ولقد تحدثت فى كتاب آخر عن منهج التربية الإسلامية . ولكنا نريد هنا أن نحدد دور التربية فى إنشاء القاعدة، لأنه الموضوع الذى يواجهنا اليوم فى حركتنا المعاصرة، ونفتقده افتقاداً حاداً فى كثر من المواضع

قلنا فيما سبق إن الإيمان بلا إله إلا الله لله تأثيره العميق فى النفس البشرية، لأنه يعيد ترتيب الذرات فى داخل النفس،ن كما يفعل التيار الكهربى فى قطعة الحديد نعم، ولكن النفس الحية – برغباتها وهواتفها وأشواقها وانفعالاتها وجواذبها- لا تشبه قطعة الحديد الساكنة، التى يمكن أن تحتفظ بصورتها التى تكون عليها فترة غير قصيرة من الزمان بل إن قطعة الحديد ذاتها، وهى لا تنفعل ولا تتحرك فى داخلها لها حوافظ تحفظها من أن تتبعثر ذراتها مرة أخرى، كما كانت من قبل!

والنفس البشرية أولى – بانفعالاتها وأشواقها وجواذبها – أن تتبعثر مرة أخرى، إذا لم تقم حولها الحوافظ التى تحفظها من التبعثر، والتى تعمل على إعادة ترتيب ذراتها، كلما همت أن ينفرط نظامها من جديد

وكما أن قطعة الحديد لا تفقد كل مغنطيسيتها إذا تركت مدة بلا حوافظ، ولكن تضعف فيها المغناطيسية بالتدريج، فكذلك النفس التى آمنت، لا يضيع إيمانها كله إذا تركت طويلاً بلا حوافظ، ولكن يضعف إيمانها بالتدريج حتى يصبح إيماناً غير فاعل، وغير قادر على التماسك، حتى كأنه غير موجود فى عالم الواقع.. وهنا تبدو الحاجة الملحة إلى التربية على الإيمان، وليس مجرد الإيمان

إن النفس البشرية تعانى فى حياتها الدنيوية حركة موارة دائبة فى كيانها، هى التى تحدثها الشهوات التى ورد ذكرها فى كتاب الله المنزل: ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب))(آل عمران : 14)

وقد ذكرنا من قبل أن هذه الحركة الموارة الدائبة فى داخل النفس – والتى من طبيعتها أن تدفع الإنسان إلى أعمال معينة وسلوك معين – هى نقطة الابتلاء الذى يعانيه الإنسان فى حياته الدنيا، والذى تفترق فيه نفس عن نفس، وسلوك عن سلوك : ((إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا))(الكهف : 7)

وقد أجملت الآية الكريمة ذكر الشهوات التى تتحرك داخل النفس وتحركها إلى أعمال معينة وسلوك معين، لأن المجال ليس مجال التفصيل. ولكن انفعالات الإنسان وأشواقه وهواتفه وجواذبه لا تكاد تحصى، ولا تكاد تنتهى، ولا تكاد تكف عن الحاح، كما قال الشاعر: ((وحاجة من عاش لا تنقضى))… ولذلك فالابتلاء قائم فى كل لحظة، والحاجة إلى التربية قائمة فى كل لحظة كذلك، حتى تستقيم النفس على الوضع المطلوب، وتتحرر من العبودية للشهوات، وتتعود على الاستقامة حتى تصبح بالنسبة لها هى الأصل، وينطبق عليها قوله تعالى : ((إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون))(فصلت:3.) .. ومع ذلك فلا عصمة للإنسان من الخطأ، ولا أمان لأحد من هواتب النفس التى توقعها فى الأخطاء، وإن كان باب التوبة مفتوحاً أمام البشر على الدوام: ((كل بنى آدم خطاء وخير الخائطين التوابون)) وهنا يظهر دور التربية، وحاجة البشرية إليها، وضرورة الاهتمام بها إلى أبعد الحدود

وليستالتربية مطلوبة لضبط شهوات النفس وهواجسها وانفعالاتها فحسب، وإن كان هذا من الأسس التى لاغنى عنها، ولا تستقيم بغيرها حياة ، ولكنها مطلوبة لمستويات أخرى من السلوك، ومستويات أخرى من القيم اللازمة للحياة

لقد قدر الله للإنسان فى حياته الدنيا ألواناً مختلفة من الابتلاء، بعضها ضغوط تقع عليه من داخل نفسه، وهى دوافعه ونوازعه وشهواته، وبعضها الآخر ضغوط خارج كيانه، وإن كانت تؤثر على ما فى داخل نفسه، سواء كانت ضغوطاً سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ويدخل فى هذه الأخيرة أعراف الناس وتقاليدهم، وكلها تنزع إلى إخضاع الناس لمتقضياتها، وإن كان الكثير منها فى الجاهلية خاصة أهواء أكثر مما هى ضرورات حقيقية، أهواء يرضها الذين استكبروا على الذين استضعفوا : ((ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن))(المؤمنون:71)

ولابد لكى تستقيم الحياة على المستوى اللائق بالإنسان، الذى كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق، لابد أن يقاوم الإنسان هذه الضغوط، ولو تعرض بسبب تلك المقاومة إلى ألوان من الحرمان

ولو تركت النفس بغير رعاية وتعهد، فإنها تصبح لينة القوام، ضعيفة لا تقوى على مقاومة الضغوط، سهلة الانثناء والالتواء، فيطمع الذين استكبروا فى استخدام مزيد من الضغط، ليحصلوا من الناس على مزيد من الاستسلام، وعندئذ يظهر الفساد فى الأرض، أى يتمكن ويستشرى: ((ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس))(الروم:41) .. يستوى فى هذا ((الكسب)) طغيان من يطغى واستسلام من يستسلم، فكله فساد يبعد الحياة عن صورتها السوية التى ينبغى أن تكون عليها

وهنا يبرز دور التربية مرة أخرى لإكساب النفس الصلابة اللازمة لها فى مواجهة الضغوط. والقيم والمبادئ هى الأحجار الصلبة التى تقى البناء النفسى من الانهيار عند أول صدمة أو الانثناء تحت الضغط، وعلى قدر التمسك الحقيقى بتلك القيم والمبادئ تكون الصلابة الحقيقية للنفس، وذلك التمسك هو الذى تحدثه التربية الصحيحة بجهدها الدؤوب، ولكنه لا يحدث فى النفس حتى تكون قد تعودت من قبل على ضبط شهواتها وأهوائها، لأنه بغير ذلك لا تقوى على الصلابة ولا تطيق تكاليفها: ((فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم))(الزخرف : 43) . ((والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين))(الأعراف : 17.)

ولا تنتهى الحاجة إلى التربية عند هذا الحد، ولا عند هذا المستوى من الأمور، وخاصة بالنسبة للمؤمنين، فقد اقتضت مشيئة الله ألا يكون الناس كلهم أمة واحدة : ((ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين(118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم))(هود : 118-119). ((هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن))(التغابن:2)

ثم كان من سنته سبحانه وتعالى أن يقع التدافع فى الأرض بين المؤمنين والكفار، بين أهل الحق وأهل الباطل، لكى لا تفسد الأرض باستعلاء أهل الباطل فيها بغير رادع يردعهم: ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين))(البقرة : 251).. ولا يعجز الله سبحانه وتعالى أن يدمر أهل الباطل ويبطل طغيانهم، وهو الذى يقول للشئ كن فيكون: ((إنما قلنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون))(النحل: 4.))ولكن سنته اقتضت أن يجعل تدميرهم على أهل الحق، بعون الله وتأييده، وأن يكون هذا بالنسبة لأهل الحق جزءاً من الابتلاء المقدر لهم فى سنة الله، وتشريفاً لهم ورفعة فى ذات الوقت: ((ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض))(محمد: 4) ((فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلى المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميع عليم))(الأنفال: 17)

وهذا الأمر وهو مجاهدة الباطل ودفعه من أجل إصلاح الأرض وحفظها من الفساد هو القمة التى يصل الإنسان إليها فى الحياة الدنيا، وهو فى الوقت ذاته ذروة سنام الإسلام: ((ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ قلت (والكلام لمعاذ بن جبل رضى الله عنه)، بلى يا رسول الله . قال: رأس الأمر الإسلام، وعمود الصلاة، وذروة سنامه الجهاد))

أمر يحتاج إلى تربية طويلة وإعداد. إعداد نفسى وروحى قبل الإعداد الجسمى والمادى، وهو مستوى من مستويات التربية لا يتم حتى يكون الإنسان قد مر بالمستويين السابقين، فهو فى حاجة إلى الصلابة النفسية التى ترتكز بدورها على ضبط الشهوات، وهكذا تتدرج التربية فى مستوياتها الثلاثة بدءاً بالتدريب على ضبط الشهوات وتعويد النفس على الانضباط، مروراً باكتساب الصلابة بترسيخ القيم العليا فى بنية النفس، وصولاً إلى الاستعداد للجهاد والصبر على تكاليفه فى النفس والمال .

ثم هنالك مستوى أخير، لابد أن نشير إليه فى حديثنا عن خير القرون، خاصة جيل الصحابة رضوان الله عليهم، هو مستوى التطوع النبيل، الذى يتجاوز الواجبات والمفروضات، ويرتقى إلى المندوبات والمستحبات فيجعلها كالوابجات والمفروضات، بغير إلزام من الله ورسوله، ولكن حباً لله ورسوله، وعبادة خالصة لله ابتغاء مرضاته، وهو مستوى بلغ الذروة فيه ذلك الجيل الفريد الذى رباه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وإن لم يخل جيل من أجيال الأمة الإسلامية من أفراد يرتفعون إلى ذلك المستوى السامق الرفيع


إذا اتضح لنا ذلك فقد اقتربنا من تصور الجهد الذى بذله المربى الأعظم (صلى الله عليه وسلم) للارتفاع بتلك النفوس إلى ذلك المستوى الرفيع الذى وصلت إليه فى عالم الواقع، وهو مستوى غير مسبوق فى تاريخ البشرية

وربما يساعدنا على تصور هذا الجهد أن نتعرف على الأداة العظمى التى استخدمها الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى تربية أصحابه، وهى الأداة اللازمة لكل تربية على منهج الإسلام فى أى جيل من أجيال الإسلام، وهى تعميق الإيمان بالله واليوم الآخر، وممارسة الحياة فى معية الله

لا شىء يمكن أن يرتقى بالنفس درجة وراء درجة مثل ذلك الإيمان. إنه هو الذى يوفر الحوافظ التى تحفظ النفس من الانفلات، والهبوط مع ثقلة الشهوات، ثم يحبب إليها الارتفاع فى مدارج السالكين إلى أعلى الدرجات

وعلى قدر ما يعيش الإنسان مع الله، يحبه ويخشاه، ويذكره فى سره وجهره، ويببتغى رضاه، وعلى قدر ما يعيش على ذكر من اليوم الآخر وما فيه من بعث ونشور، وحساب وجزاء، وجنة ونار، تكون قدرته على ضبط شهواته، وقدرته على تمثل القيم العليا، وقدرته على إعداد نفسه للجهاد فى سبيل الله، ورغبته كذلك فى التطوع النبيل ابتغاء مرضاة الله

وإذا تتبعنا آيات الذكر الحكيم فسنجد فيها تركيزاً شديداً على تلك الأمور بالذات

فأما التعريف بالله، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وقدرته التى لا يعجزها شىء، وعلمه الذى لا يعزب عنه شىء، ورقابته التى لا تغفل عن شىء، ورحمته التى وسعت كل شىء، وجبروته الذى لا يقف أمامه شىء، فأوضح من أن يشار إليه فى كتاب الله الكريم، وهو الموضوع الأول والأكبر من موضوعات الكتاب الكريم، من حيث المساحة التى يشغلها، والتركيز المستمر عليه، وبيان مقتضياته، وهى عبادة الله وحده بلا شريك، فى الاعتقاد القلبى، وشعائر التعبد من صلاة وصيام وزكاة وحج، واستعانة واستغاثة، وذبح ونذر ودعاء، والالتزام بما جاء من عند الله من أوامر ونواه وتشريعات وتوجيهات وأحكام

وأما مشاهد القيامة، مع تنوع أساليب عرضها، وتعدد مواضع ذكرها والتذكير بها، بنعيمها وعذابها، فأمر واضح كذلك لمن يتدبر كتاب الله .. ولكن يلفت النظر فى السور المدنية خاصة الربط بين الأمرين معاً : الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، سلباً وإيجاباً، وربط ذلك بالعقائد والشعائر والشرائع وأنماط السلوك والأخلاق، سواء عند المؤمنين بهما أو الكافرين: ((إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون))(البقرة : 62). ((وإذ طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر))(البقرة : 232). ((يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذى ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر))(البقرة : 264). ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا))(النساء:59). ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون))(التوبة:29). ((لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا))(الأحزاب:21). وإذا كان الربط مباشرا فى السور المدنية بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، فهو موجود فى السور المكية كذلك وإن ذكر كل منهما على حدة: ((إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون))(النحل:22) ((وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما(63) والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً(64) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً(65) إنها ساءت مستقراً ومقاما(66) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما(67) والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما(68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً(69) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيماً(7.) ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً(71) والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما(72) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعميانا(73) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما(74) أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً(75) خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاماً))(الفرقان: 63-76)

والدلالة التربوية لهذا الأمر أن الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، كل قائم بذاته، ومتعمق بذاته فى أغوار النفس، ثم مرتبطين متلازمين متكاملين، هو الأداة الكبرى فى منهج التربية الإسلامية التى تؤتى ثمارها المرجوة بالتعهد المستمر والمتابعة اليقظة الدؤوب .

وهذا هو الذى قام به رسول الله ، بالصورة الفذة التى لا مثيل لها فى التاريخ لقد كان عمله الدائم، فى مكة خاصة، هو تعميق الإيمان بالله، وتعميق الإيمان باليوم الآخر فى نفوس أصحابه رضوان الله عليهم، ثم الربط بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر فى تلك النفوس، حتى يصبح أحدهما مذكراً بالآخر تلقائياً ومؤدياً إليه: إن ذكر الإنسان بالله ذكر معه اليوم الآخر، بنعيمه وعذابه .. وإن ذكر باليوم الآخر ذكر الله سبحانه وتعالى، مالك الدنيا والآخرة، ومالك كل شىء فى الوجود وتبدو القمة التى وصل إليها فى تربية أصحابه بهذه الأداة الضخمة فى هذا الوصف الرائع لهم فى كتاب الله، بعد أن نهلوا من هذه التربية الفذة، وأخذوا منها بأوفى نصيب: ((إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب(19.) الذين يذكرون الله قياماً وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار(191) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار(192) ربنا إننا سمعنا منادياً ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار(193) ربنا وآتنا ما عدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد))(آل عمران: 19.-194)

هذا الوصف العظيم من رب العالمين يصور تلك القمة الرائعة. إن ذكر الله لحظة يحدث فى النفس آثاره، فما بال الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، أى فى جميع أحوالهم؟ كيف يكون أثر هذا الذكر فى نفوسهم؟‍

ومن جهة أخرى فإن ذكر الله لا يخطر فى النفس وهى هابطة منجذبة إلى ثقلة الشهوات فتلك هى لحظات الغفلة، التى يغفل فيها الإنسان عن ذكر الله، إنما يذكر الإنسان ربه وهو متجه نحو الصعود، فإذا استصحبنا هذا المقياس فكل لحظة ذكر هى فى الحقيقة لحظة صعود.. فكيف بالذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم أى فى جميع أحوالهم، كم صعدوا وكم ثبتوا على الصعود؟‍ إنه شىء رائع حقاً حين نتصوره على حقيقته

إن الصعود أمر شاق على النفس البشرية حتى تتعود عليه‍ لأن قبضة الطين ذات ثقل يميل دائماً إلى أسفل، ويحتاج إلى رفع مستمر حتى يتوازن، ويحتاج إلى رفع أكثر لكى يغلب دافع الصعود على دافع الهبوط

حقيقة إن أداة الرفع موجودة فى كيان الإنسان، فى أعماق فطرته، وهى النفخة العلوية فيه: ((إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشراً من طين(71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص:71-72)

ولكن هذا لا ينفى أن هناك جهداً ينبغى أن يبذل لتدريب هذه الأداة على العمل، وهو الجهد الذى تقوم به التربية، فبينما تعمل الشهوات تلقائياً فى الكيان البشرى بطبيعة كونها محببة ومزينة للإنسان، ومثيراتها حاضرة فى ألوان المتاع التى تزخر بها الحياة الدنيا، فإن أداة الضبط التى تحبس الشهوات فى نطاق معين، لترتفع بالطاقة الحيوية بعد ذلك إلى المجالات العليا، مجالات القيم ومعالى الأمور التى يحبها الله هذه الأداة فى حاجة إلى تدريب لتقوم بعملها، كما يحتاج الطفل إلى التدريب على المشى ليقاوم ثقلة الأرض، مع أن القدرة على المشى كامنة فى كيانه على الأرض: ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب(14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد(15) الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار(16) الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار))(آل عمران : 14-17)

تلك ثقلة الشهوات، وهذه أدوات الصعود

ومزية الإسلام العظمى فى هذا المجال أنه وهو يعمل على رفع الإنسان إلى أعلى لموازنة ثقلة الشهوات لا يدفعه إلى منطقة ينعدم فيها جذب الأرض، كما تفعل الرهبانية والهندوكية والبوذية، فهذه قد تيسر للإنسان التحليق فى الفضاء، ولكنها تؤدى به إلى إهمال عمارة الأرض وحفظها من الفساد بالجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكلها تكاليف ربانية أمر بها الله، لأنه يعلم أن فيها صلاح الحياة والإنسان، وهو الذى خلقه ويعلم ما يصلحه وما يصلح له : ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير))(الملك : 14). ((هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها))(هود : 61) . ((الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور))(الحج : 41). ((يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم(1.) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون))(الصف:1.-11)

وكذلك فإنه وهو يوجه الإنسان إلى عمارة الأرض، والاستمتاع بالطيبات فيها، لا يتركه يغرق فى حمأة الشهوات، لأنه عندئذ يترهل ويفسد، ويستثقل التكاليف التى يتطلبها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد فى سبيل الله، لأنها تبدو فى حسه موانع تعوق الإنسان عن المتاع: ((لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة))(التوبة: 42) ((وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين(86) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون))(التوبة: 86-87)

وإنما يعمل الإسلام على أن يقوم الإنسان متوازناً بين عنصريه المكونين له: قبضة الطين ونفخة الروح، عاملاً فى الدنيا وعاملاً للآخرة فى ذات الوقت: ((هو الذى جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور))(الملك: 15)


كانت الأداة العظمى فى يد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتربية أصحابه هى تعميق الإيمان بالله واليوم الآخر فى نفوسهم، والتذكير الدائم بالله سبحانه وتعالى، وتعويدهم أن يعيشوا قدر طاقتهم فى معية الله، وكان هو عليه الصلاة والسلام قدوتهم العظمى فى ذلك الأمر، كما هو فى كل أمر

إن القدوة ذات تأثير هائل فى عملية التربية.. والله الذى خلق النفس البشرية يعلم سبحانه أن الموعظة وحدها لا تكفى، مهما يكون من بلاغتها وقوتها، ما لم يحملها قلب بشر، يتمثلها ويترجمها واقعاً مشهوداً أمام الناس، ثم يدعو الناس إلى اتباعها وقد بين لهم بالقدوة العملية كيف يكون الاتباع

كان الله قادراً سبحانه وتعالى أن ينزل القرآن مكتوباً فى قراطيس، ثم يلهم العرب الأميين أن يقرأوه.. ولكنه يعلم وهو اللطيف الخبير أن النفوس لا تتقبل الأمر على هذه الصورة ولا تتأثر به التأثر المطلوب، الذى يحول الأمر إلى حركة واقعية ذات قوة وانطلاق، إنما أنزله سبحانه وتعالى على قلب بشر، تمثله تمثلاً كاملاً، وترجمه واقعاً يراه الناس، فيحب هذا الواقع من شرح الله صدره للإسلام، فتهفو له نفسه، وينقاد إليه، ويدخل فى دين الله

سئلت عائشة رضى الله عنها عن خلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقالت: كان خلقه القرآن

وعلى هذا النحو نفهم قوله تعالى: ((وما على الرسول إلا البلاغ المبين))(النور: 54) وقوله تعالى: ((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم لعلهم يتفكرون))(النحل: 44) فليس البلاغ مجرد أن يقول الرسول للناس: إن ربكم يقول لكم كذا وكذا وليس البيان محاضرة ولا درساً نظرياً يلقيه الرسول على الناس وإن كان البلاغ بهذا المعنى، والبيان بهذا المعنى مطلوبين من أجل إعلام الناس بما لا يعلمونه من أمور الدين أما تحويل هذا العلم إلى واقع نفسى، يتحول بدوره إلى واقع عملى، فأمر آخر يحتاج أن يبلغ الرسول للناس كلام ربهم مترجماً إلى الواقع، مشروحاً فى عمل، حتى يقتدى الناس به، ويتعلموا فى درس عملى كيف يقومون بتنفيذه، وفى ذلك درس للدعاة، نعود إلى تفصيله فيما بعد

وقد كان رسول الله دائم الذكر لله، يعيش حياته كلها فى معية الله، لا يغفل قلبه عن ذكره، ولا يفتر عنه لسانه، أدبه ربه فأحسن تأديبه، ومنحه من الطاقة ما يطيق به هذه الصلة الدائمة بالله وإنها بالنسبة للبشر لجهد جاهد

ما يطيق البشر حتى الصحابة رضوان الله عليهم أن يقضوا حياتهم كلها على ذلك المستوى السامق الذى كان عليه رسول الله فى صلته الدائمة بالله، وذكره الدائم له سبحانه وتعالى فى جميع الأحوال واللحظات

فتلك خصيصة خص الله بها الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، وخص منها سيد الرسل بالنصيب الأوفى، أما الصحابة رضوان الله عليهم، وهم خير البشر بعد الرسل، فقد شكوا إلى رسول الله أنهم حين يكونون معه يكونون على حال، وإذا فارقوه كانوا على حال آخر غير حالهم وهم معه، فقال((والذى نفسى بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندى وفى الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفى طرقكم. ولكن يا حنظلة ساعة وساعة))

ومع ذلك فإن الساعة التى شكا منها الصحابة رضوان الله عليهم، لم تكن ساعة هبوط ولا غفلة عن ذكر الله، ويكفى وصف الله لهم بأنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، إنما كان الفارق بينها وبين الساعة التى يكونون فيها مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فارقاً فى الدرجة لا فى النوع

ونعود إلى الوصف الرائع الذى وصف الله به الصحابة رضوان الله عليهم

إنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فكيف كان ذكرهم له؟ أهو الذكر الذى يؤدى إلى الفناء على طريقة الصوفية، باعتبار أن الفناء عندهم هو حقيقة الوجود؟ أم الذكر الذى يؤدى إلى حضور الطاقة البشرية فى الواقع المشهود، وتجمعها لتعمل فى مرضاة الله؟

لقد كانوا يذكرون الله ليسألوا أنفسهم: ماذا يريد الله منا فى هذه اللحظة؟ فإن كان متطلب اللحظة هو الجهاد فى سبيل الله، كان الذكر هو الدافع إلى الجهاد وإن كان متطلب اللحظة هو تحصيل العلم الذى هو فريضة على كل مسلم، كان الذكر هو الدافع إلى تحصيل العلم وإن كان متطلب اللحظة هو السعى فى تحصيل الرزق الحلال أو الإنفاق فى سبيل الله أو عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى، كان الذكر دافعاً إلى ذلك وإن كان متطلب اللحظة عاشروهن بالمعروف، كان الذكر هو الدافع إلى المعاشرة بالمعروف وهكذا فى سائر التكاليف الربانية وسائر مجالات العمل فى واقع الحياة

وكانوا يذكرون الله ليسألوا أنفسهم أين هم- اللحظة- من رضوان الله؟ أهم فى الوضع الذى يرضى الله عنهم فيه؟ فإن كان كذلك حمدوا الله، وعملوا على اكتساب المزيد من رضوان الله بزيادة التقرب إليه بما يحبه من الأعمال، وإن كان غير ذلك ذكروا الله كذلك، ولكن ليغيروا ما هم فيه: ((والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون(135) ألئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين))(آل عمران: 135-136)

ولننظر فى الآيات التى أشرنا إليها من سورة آل عمران، لنرى ما الذى أدى إليه الذكر: ((الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السموات والأرض))(آل عمران: 191)

لقد كان متطلب اللحظة وهو مطلوب فى كل لحظة التفكر فى خلق السموات والأرض، للتعرف على ما فى بنيتها من الحق: ((خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير))(التغابن: 3) ((وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار))(ص: 27) ولقد أدركوا بما علمهم ربهم، وبما رأوا من انتظام السنن الربانية، سواء ما يتعلق منها بالكون المادى أو بالحياة البشرية أن خلق الكون لا يمكن أن يكون باطلاً ولا عبثاً، وأن الحكمة ملحوظة فى كل جزئية فيه وحين يصل تفكيرهم إلى هذا المدى، يدركون أن الحياة الدنيا ليست هى نهاية المطاف، ولا يمكن أن تكون، فهناك من البشر من يظلم، ويظل ظالماً إلى آخر قطرة فى حياته.. ومنهم من يظلم ويظل مظلوماً إلى آخر قطرة فى حياته فلو كانت الحياة الدنيا هى نهاية المطاف فأين الحق؟ إنها تكون عندئذ عبثاً لا غاية له ولا حق فيه

وهنا ينقلهم ذكر الله، والتفكر فى الحق الكامن فى هذا الخلق إلى ذكر اليوم الآخر، وما فيه من جنة ونار، فيستعيذون بالله من النار: ((ويتفكرون فى خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار))(آل عمران: 191)

وإذ تذكروا النار فقد فزعوا إلى ربهم أن ينجيهم منها: ((ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار))(آل عمران: 192) وكأنما يقدمون بين يدى مولاهم مؤهلاتهم التى يرجون بها النجاة من النار: ((ربنا إننا سمعنا منادياً ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار(193) ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد))(آل عمران: 193- 194)

ويستجيب الله لهذه الضراعة الحارة من عباده، ولكن لأى شئ استجاب سبحانه؟ المجرد الذكر؟ المجرد التفكر؟ ألمجرد التدبر؟ ألمجرد الضراعة؟ وكلها مطلوبة من المؤمن الصادق الإيمان: ((فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب))(آل عمران : 195)

هنا الدرس التربوى فى هذه الآيات التى بدأت بهذا الوصف الرائع الذى وصف به الله صحابة رسول الله : ((الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم)).. إنه الذكر الذى يؤدى إلى العمل المشهود فى واقع الأرض هاجروا وأخرجوا من درياهم، وأوذوا فى سبيل الله فصبروا، وقاتلوا وقتلوا.. فاستجاب لهم ربهم

وعلى هذا الذكر ربى رسول الله أصحابه، بالقدوة أولاً فى شخصه الكريم، ثم بمواعظه وتوجيهاته، ومتابعته المستمرة وعنايته ورعايته، حتى صاروا إلى تلك القمم البشرية التى لا مثيل لها فى التاريخ


والآن فلننظر ماذا كان يريد ، وإلى أى شىء كان يهدف من بذل الجهد الجبار الذى بذله فى تربية أولئك الأصحاب ألمجرد أن يكونوا حواريين له ؟ ألمجرد أن يكونوا مؤمنين صادقى الإيمان؟ إنه هدف نبيل ولا شك، ويستحق أن يبذل فيه الجهد، ولكن‍ أكل هذا الجهد؟

لقد كان جزء من هذا الجهد يكفى لتحقيق هذا الهدف على أحسن صورة يرغب فيها رسول‍ كان يكفى جهد كالذى بذله عيسى ابن مريم عليه السلام فى تربية حوارييه الذين التفوا حوله، وأخلصوا له، ونشروا دينه من بعده، وكانوا مثلاً فى الرأفة والرحمة والزهد ونظافة الأخلاق: ((ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله))(الحديد : 27) ولكن محمداً (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يريد مجرد أن يربى جماعة من المؤمنين، ككل المؤمنين الذين رباهم الرسل من قبله، إنما كان يريد أمراً آخر أعظم وأجل يريد أن يربى القاعدة الصلبة التى تنشئ بدورها ((خير أمة أخرجت للناس))(آل عمران : 11.)

إن الفارق بين أى جماعة من الجماعات المؤمنة التى رباها الرسل الكرام قبل محمد (صلى الله عليه وسلم) ، والجماعة المؤمنة التى رباها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كامن فى التكاليف الربانية التى كلف الله بها هؤلاء وهؤلاء، والمهمة المطلوبة من هؤلاء وهؤلاء

فأما الجماعات المؤمنة السابقة فقد قال الله عنها : ((وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة))(البينة :5)

وأما جماعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقد كلفهم التكليف ذاته؛ أن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ثم كلفهم تكليفاً آخر، اختصهم به دون الأم السابقة كلها: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله))(آل عمران:11.) . ((وكذلك جعلناهم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)) (البقرة:143)

الأمم السابقة أخرجت لتؤمن بالله وتستقيم على الإيمان فى ذات نفسها فحسب، وهذه الأمة أخرجت للناس، لتكون نموذجاً تهتدى به البشرية كلها إلى الصراط المستقيم.. وفرق فى الإعداد والتكوين بين شخص يراد له أن يستقيم فى ذات نفسه وفى حدود قوم محدودين، وشخص يراد منه أن يكون نموذجاً يحتذى، لا فى داخل قومه فحسب، بل على نطاق البشرية كلها حيثما التقى بها فى أى بقعة من الأرض

وقد يكون الأساس واحداً : عبادة الله وحده بلا شريك، ولكن يظل الفرق قائماً بين أساس تريد أن تقيم فوقه بناء صغير الحجم، محدود النطاق، وأساس تريد أن تقيم فوقه بناءً شاهقاً متسع الأرجاء، كلاهما مطلوب فيه الإتقان، وكلاهما يحتاج إلى جهد، ولكن شتان بين أساس وأساس، وجهد وجهد، وإتقان وإتقان


الفارق نلحظه ابتداءً فى كتاب الله

كل أمة مؤمنة دعيت للإيمان بالله واليوم الآخر، ولكن لا يوجد كتاب من الكتب المنزلة أخذت فيه هذه القضية المساحة والتركيز اللذين أخذتهما فى كتاب الله الأخير. وكل أمة مؤمنة ربط التكاليف المطلوبة منها بهذه القضية الجوهرية التى هى أساس كل شىء، ومنطلق كل شىء، ولكن لا توجد رسالة أحكم فيها ربط التكاليف بهذه القضية الجوهرية كما أحكم فى الرسالة الأخيرة، مع تعدد التكاليف فى تلك الرسالة واتساع نطاقها وشمولها لكل مجالات الحياة(

ثم نلحظ الفارق – على خط مواز لما جاء فى كتاب الله – فى المنهج النبوى الذى ربى به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصحابه، سواء فى تركيز المنهج على قضية الإيمان بالله واليوم الآخر، أو فى إحكام ربط التكاليف كلها – الاعتقادية والسلوكية – بهذه القضية الجوهرية

فى الفترة المكية لم تكن قد نزلت بعد الأحكام والتوجيهات التى تنظم حياة الجماعة المؤمنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إنما كانت كلها مخصصة لبذر العقيدة الصحيحة فى النفوس، وتهيئة هذه النفوس لمقتضيات هذه العقيدة، التى كان مقداراً فى علم الله أن تجئ فى موعدها المناسب

ونتكلم الآن عن المؤمنين الذين آمنوا أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وآمنوا بالبعث والنشور والحساب والجزاء، لأن هؤلاء هم القاعدة الصلبة التى رباها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والتى هى موضع حديثنا فى هذا الفصل.. ولكن لا يفوتنا أن نذكركم عانى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فى عرض هذه القضية، وتبليغها للناس، سواء من طغاة قريش الذين وقفوا لهذه الدعوة بالمرصاد،ن يحاربونها بكل وسائل الحرب، أم من الجماهير التى حاربتها لأنها تخالف مألوفاتها، ولأنهم هم فى ذات الوقت مستعبدون لأولئك الطغاة، وعوا ذلك أم لم يعوه، وراتضيته نفوسهم أم كرهوه

فى هذه الفترة التى نحن بصددها كان التركيز على مقتضيات بعينها من مقتضيات لا إله إلا الله

فأما النطق فهو وقتئذ العلامة الظاهرة للإيمان، فلم يكن ينطق بالشهادتين فى ذلك الوقت إلا من آمن حقاً، وجاء يعرض إيمانه على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، مخاطراً بنفسه، معرضاً نفسه للأذى ينصب عليه من كل حدث وصوب، والجاهلية كلها من حوله تناجزه العداء، وتظهر له الإنكار والبغضاء. ومع أن النطق فى ذلك الوقت كان علامة مؤكدة على الإيمان، لأنه لم يكن يعرض نفسه لمخاطر النطق إلا من آمن حقاً ، وبلغ به التصديق مبلغ اليقين، فهل اكتفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منهم بأنهم صدقوا فى داخل قلوبهم ونطقوا بألسنتهم؟‍

ولو اكتفى بذلك منهم، فهل كانت تقوم تلك القاعدة الصلبة التى غير الله بها وجه الأرض؟

وفيم إذن كان لقاؤه معهم فى دار الأرقم، ومصاحبته لهم، وقضاؤه الساعات معهم؟ ليقول لهم: آمنوا بأنه لا إله إلا الله، وقد آمنوا بالفعل؟ أم ليقول لهم انطقوا بألسنتكم أنه لا إله إلا الله وقد نطقوا بالفعل؟ إنما كان يلتقى بهم ليربيهم على مقتضيات لا إله إلا الله، مقدماً لهم النموذج العملى فى شخصه الكريم

لقد كان من مقتضيات لا إله إلا الله فى ذلك الحين، وفى كل حين، الصبر على الأذى فى سبيل الحق ، فى سبيل العقيدة الصحيحة التى يؤمن بها الإنسان.. فهل كان مجرد الإيمان، أى التصديق بلا إله إلا الله والنطق بها، يؤدى تلقائياً إلى الصبر على الأذى مهما اشتد، والتمسك بالحق مهما كلف فى النفس والمال؟ أم يحتاج هذا الأمر إلى جهد معين لتقوية الكيان النفسى حتى يحتمل الضغط دون أن ينثنى أو ينهار؟ ومن أين تعلمون ذلك؟ أبمجرد أن يقال لهم اصبروا تنضبط المشاعر، وتصلب العزيمة، وتصغر الدنيا بمتاعها الحلو فى نظر صاحبها، ويتطلع إلى ما هو أعلى وأشف، فيحتمل الأذى صابراً، ولا يفرط فى الحق الذى آمن به؟ كلا والله‍ إنما يحتاج الأمر إلى تلقين وتعليم وتدريب وتوجيه.. والمعلم الأعظم (صلى الله عليه وسلم) هو الذى يعلم ويلقن، ويدرب ويوجه.. ولكن لا بمجرد كلمات يلقيها لأصحابه، بل بنموذج عملى يرونه شاخصاً أمامهم، يطبق فى ذات نفسه ما يدعوهم إليه، على المستوى الأعلى، فيتعلمون فينفذون..

لقد أوذى سيد الرسل أذى يهد الجبال

أوذى بالتكذيب، وما أشق التكذيب على الصادق الأمين وأوذى بالسخرية، وما أشق السخرية على قلب من يؤمن بالحق، ويعلم أنه الحق وأنه خير وأنه هدى وأنه نجاة وأنه فلاح، وأن الساخرين فى الضلال البعيد وأوذى بالدعاية المضادة والتشهير والتنفير ومحاولة صرف الأتباع، بل محاولة صرف الناس عن مجرد السماع.. وأوذى الإيذاء البدنى والحسى.. إن قذفه بالأحجار حتى تدمى قدماه الشريفتان، وإن بنشر الشوك فى طريقه كما فعل أبو لهب وامرأته حمالة الحطب، وإن بإلقاء الأوساخ عليه وهو ساجد يذكر ربه، وإن وإن

ولا يزيده ذلك كله إلا استمساكاً بالحق، وإصراراً عليه وتعرض عليه المغريات كلها التى تغرى الناس فى الحياة الدنيا، الملك والسلطان والمال والجاه والمتاع، فيقول لعمه وقد شكاه قومه إليه : ((والله يا عم، لو وضعوا الشمس فى يمينى، والقمر فى شمالى، على أن أترك هذا الأمر ما فعلت، حتى تنفرد سالفتى)) أو قال : ((حتى أهلك دونه))

وهكذا يلقن الدرس لأصحابه، لا مجرد كلمات، وإن كانت الكلمات مطلوبة للبيان، ولكن سلوكاً عملياً يشرح الكلمات، ويحولها إلى حقائق مشهودة فى عالم العيان

وكان من مقتضيات لا إله إلا الله فى ذلك الحين، وفى كل حين، امتلاء القلب بحب الله، واستشعار عظمته سبحانه وتعالى، والتعلق به، والتطلع إليه، والتوجه إليه فى كل سلوك وكل شعور.. فهل كان مجرد الإيمان، أى التصديق بأنه لا إله إلا الله، والنطق بها، يؤدى تلقائياً إلى ذلك التوجه وذلك السلوك؟ أم يحتاج الأمر إلى تعليم وتلقين، وتدريب وتوجيه؟

ومن يوجه ويعلم إلا المربى (صلى الله عليه وسلم) ؟ لا بمجرد كلمات تلقى، ولكن بسلوك عملى يراه الأصحاب، ويتملونه ويتعلمون منه، إذ يرونه فى كل لحظة ذاكراً لربه، متوجهاً إليه، متطلعاً لرحمته، متذللاً متضرعاً تائباً منيباً لا يفتر لسانه عن الدعاء، ولا قلبه عن الذكر

وكان من مقتضيات لا إله إلا الله فى ذلك الحين، وفى كل حين، الإيمان بقضاء الله وقدره، والإيمان بأنه هو وحده المدبر، هو وحده المقدر، هو وحده الفعال لما يريد، هو وحده الرزاق، هو وحده الضار النافع، هو وحده المحيى المميت، هو وحده المالك لكل شىء وكل أمر، هو المتصرف وحده فى الكون وفى الناس، لا يكون شىء إلا بأمره، ولا يكون شىء حتى يشاء سبحانه

فهل كان مجرد التصديق بلا إله إلا الله والنطق بها يحدث ذلك الإيمان فى النفوس؟ أم يحتاج إلى التعليم والتلقين والتدريب والتوجيه؟ وهل يكفى لترسيخ ذلك الإيمان كلمة أو كلمات أو درس عابر أو دروس؟ إنها ليست نظرية تدرس وتحفظ، ويسأل فيها الإنسان فيجب بلسانه، إنها معاناة واقعية، تصطدم فى كل لحظة برغبة من رغبات النفس، أو شهوة من شهواتها، أو هاجس من هواجسها، أو تجربة مريرة يمر الإنسان بها، ثم يتعلم من خلال المعاناة، ويحفظ الدرس، لا بعقله فقط ولا بوجدانه فقط، بل بأعصابه وجسده وروحه وكيانه كله

ضربت هذا المثل فى كتاب سابق: إذا سألت أى إنسان فى الطريق: من الذى يرزقك؟ يجيب بداهة : الله هو الرزاق، ولكن حين يضيق عليه فى الرزق، أو قل على وجه التحديد: حين يؤذى فى رزقه فماذا يقول؟ يقول فى أغلب الأحوال: فلان قطع رزقى، أو فلان يريد أن يقطع رزقى‍ فما دلالة ذلك؟ دلالته أن ما كان يبدو بديهية لم يكن كذلك فى الحقيقة‍‍‍ أو قل: إنه كان بديهية ذهنية لم تتعمق فى الوجدان، لم تصبح بعد بديهية قلبية ينبنى عليها سلوك‍ أو تنبنى عليها المشاعر الصحيحة التى ينبنى عليها بعد ذلك سلوك صحيح‍

لفت نظرى أمر وأنا أقرأ خطاب الله لبنى إسرائيل فى سورة البقرة : ((وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم))(البقرة : 49)

العذاب واقع من فرعون: يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، ولكن الابتلاء واقع من الله‍ هل يرد هذا الخاطر على الذهن بداهة حين يرى العذاب أو يسمع عنه؟ أم يتجه الذهن إلى الفاعل المباشر الذى يقع الفعل منه؟ ويحتاج الإنسان إلى تعليم وتلقين لكى يعلم أن الفاعل قائم بالعمل، نعم، ولكن وراء ذلك قدر الله؟ وحين يعلم ذلك، ويستقر فى خلده حتى يصبح يقيناً، فلمن يتجه ليرفع عنه البلاء؟ هذا هو الدرس من وراء التوجيه .. ولا يتنافى ذلك فى حس المؤمن مع اتخاذ الأسباب، ولكن دون اتكال على الأسباب، ودون اعتقاد بأن الأسباب تعمل من ذات نفسها؛ إنما هى تعمل بقدر من الله، وفى الحدود التى قدرها الله، ويظل التطلع دائماً إلى المدبر الحقيقى وراء الأحداث والأشخاص، الله الذى بيده ملكوت كل شىء

وكان من مقتضيات لا إله إلا الله فى ذلك الحين – وفى كل حين- الأخوة فى الله، والحب والبغض فى الله، والولاء والبراء فى الله وكانت تلك كلها بالنسبة للبيئة العربية، ولكل بيئة جاهلية فى القديم والحديث، أموراً مخالفة ومغايرة لعرف البيئة.. ففى الجاهلية العربية كان رباط الدم هو الرباط الثابت الدائم الوثيق، وكل رباط غيره إما ضعيف منقطع وإما غير موجود أصلاً.. وفى الجاهليات الحديثة أصبح البديل من رابطة الدم القريبة المحصورة رابطة القومية والوطنية التى تفاخر بها تلك الجاهليات وتتعصب لها على نفس الصورة التى كانت تفاخر بها الجاهلية العربية وتتعصب بها لرابطة الدم المتمثلة فى القبيلة.. اختلاف فى مدى السعة لا فى الجوهر ‍

أما الحب والبغض فى الجاهلية العربية وفى كل جاهلية فمداره المصالح، وهى فى الأغلب المصالح المادية القريبة، ومداره من جهة أخرى ((الأنا)): أنا، وكرامتى، ومالى، وسلطانى ، وقومى وأتباعى إن كنت من ((الملأ))، أو سادتى إن كنت من المستضعفين‍

وأما الولاء والبراء فهو صنو الحب والبغض، لا ضابط له إلا تلك المصالح التى تكون اليوم هنا وتكون غداً هناك فهو لذلك دائم التقلب لا يثبت على حال، وصداقات اليوم قد تنقلبن غداً عداوة، وعداوات اليوم قد تنقلب غداً صداقة، لا لتغير فى المبادئ، ولا فى القيم، ولكن لتغير المصالح المؤقتة التى لا تثبت على حال والجاهليات كلها فى هذا الشأن سواء‍

ولم يكن مجرد الإيمان – بمعنى التصديق- بلا إله إلا الله، والنطق بها، ليؤدى تلقائياً إلى تغيير جذرى فى تلك الأمور كلها، التى يساندها عرف الجاهلية، وأوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والأخلاقية.. وإن كان الإيمان بلا إله إلا الله يهيئ دون شك للتغير وتقبل التغيير .. أما المعايير الجديدة، والقيم الجديدة، والأوضاع الجديدة التى يراد بناؤها فلا تتأتى تلقائياً، ولا تتم فى لحظة، ولو كانت لحظة الإيمان، وإنما تنبى لبنة لبنة حتى يستقيم بها البناء الجديد

وذلك تقوم به التربية

وذلك ما قام به المربى الأعظم ، فى دأب، وحدب، ورعاية، ومتابعة حتى وصل به إلى تلك القمم السامقة، فأصبحت الأخوة فى الله أقوى فى نفوس القوم من رابطة الدم، وأصبح الحب والبغض لا علاقة له بالمصالح الأرضية، بل هو معها فى موضع التقابل الكامل، والكفة الراجحة هى لما كان لله وفى الله، وأصبح الولاء والبراء مرتبطاً بالقيم الإيمانية وحدها، خالصاً لله .

وكان من مقتضيات لا إله إلا الله فى ذلك الحين، وفى كل حين، مجموعة من الفضائل الخلقية العالية، كان بعضها موجوداً فى البيئة العربية ولكن الجاهلية كانت قد أفسدته فحرفته عن مساره السوى كالشجاعة التى كانت الجاهلية قد حمية جاهلية، كما جاء فى سورة الفتح والكرم الذى كانت الجاهلية قد حرفته عن مساره السوى، فأصبح إنفافاً للمال رئاء الناس، كما جاء فى سورة البقرة، فلزم تصحيح مسارها، وردها إلى أصلها السوى فى الفطرة، لكى تكون لله، وفى الله. وبعضها لم يكن موجوداً فى الجاهلية العربية، ولا يمكن أن يوجد فى أى جاهلية، كمنع التظالم بين الناس، وإقامة الحياة على القسط والعدل، لا على قانون الغاب، واحترام الإنسان من حيث هو إنسان، بصرف النظر عن جنسه ولونه ولغته ووطنه ووضعه الاجتماعى أو السياسى أو الاقتصادى، وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا حين تتجرد النفس لله

وليس قصدنا هنا أن نذكر كل مقتضيات لا إله إلا الله على سبيل الحصر، حتى بالنسبة لفترة التربية بمكة، إنما قصدنا أن نقول: إنها لم تكنن قط، منذ أنزلت من عند الله، مجرد التصديق والإقرار كما يزعم الفكر الإرجائى، وأن مجرد التصديق والإقرار، حتى حين كان علامة على صدق الإيمان فى أوائل الدعوة، حين لم يكن يقدم على مخاطره إلا المؤمنون حقاً، لم يكن بذاته يصنع شيئاً مما صنعته لا إله إلا الله فى نفوس العصبة المؤمنة التى رباها رسول الله ، إنما صنعت ما صنعت حين آمن معتنقوها بمقتضياتها، وتربوا على مقتضياتها، وعملوا بها فى عالم الواقع

وليس قصدنا كذلك أن نقول: إن التربية على هذه المقتضيات هى العمل الفذ الذى قام به رسول الله بالنسبة للقاعدة الصلبة خاصة، فهذا أمر مطلوب من كل مرب يتصدى لإنشاء قاعدة للدعوة فى أية بقعة فى الأرض، وفى أى فترة من الزمن إلى قيام الساعة، إنما العمل الفذ الذى قام به هو الدرجة العجيبة التى أوصل إليها الصحابة رضوان الله عليهم فى العمل بمقتضيات لا إله إلا الله، والتى التقى فيها الواقع بالمثال، والتى تحولت فيها المندوبات والمستحبات فى نفوسهم إلى واجبات ومفروضات، يلزمون بها أنفسهم بغير إلزام من الله ورسوله، والدرجة العجيبة التى آمنوا بها باليوم الآخر فعاشوه فى كل لحظة كأنه حاضر يشهدونه الآن، لا بعد آماد من الزمان، وهذا هو الذى تميز به ذلك الجيل الفريد على يد المربى الأعظم ، وليس مجرد الالتزام بمقتضيات لا إله إلا الله، الذى هو مطلوب من كل من تصدى للدعوة للا إله إلا الله


ثم اتسعت رويداً رويداً مقتضيات لا إله إلا الله، فشملت جوانب جديدة من النفس والحياة لم تكن داخلة فيها من قبل، أنزلها العزيز العليم بعلمه وحكمته فى وقتها المقدر عنده، وصار الالتزام بها واجباً، ولم تعد المقتضيات الأولى وحدها تحقق الإيمان

يقول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام (157 – 224هـ) فى كتاب ((الإيمان)) ص54 وما بعدها ((وإنا رددنا الأمر إلى ما ابتعث الله عليه رسوله صلى الله عليه، وأنزل به كتابه، فوجدناه قد جعل بدء الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فأقام النبى (صلى الله عليه وسلم) بمكة بعد النبوة عشر سنين أو بضع عشرة سنة يدعو إلى هذه الشهادة خاصة وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذ سواها، فمن أجاب إليها كان مؤمناً، لا يلزمه اسم فى الدين غيره، وليس يجب عليه زكاة ولا صيام ولا غير ذلك من شرائع الدين. وإنما كان هذا التخفيف عن الناس يومئذ فيما يرويه العلماء رحمة من الله لعباده ورفقا بهم، لأنهم كانوا حديث عهد بجاهلية وجفائها، ولو حملهم الفرائض كلها معاً نفرت منه قلوبهم، فجعل ذلك الإقرار بالألسن وحدها هو الإيمان المفترض على الناس يومئذ، فكانوا على ذلك إقامتهم بمكة كلها، وبضعة عشر شهرا بالمدينة بعد الهجرة، فلما أناب الناس إلى الإسلام وحسنت فيه رغبتهم، زادهم الله فى إيمانهم أن صرف الصلاة إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت القدس.. فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبو أن يصلوا إليها وتمسكوا بذلك الإيمان الذى لزمهم اسمه، والقبلة التى كانوا عليها لم يكن ذلك مغنيا عنهم شيئا ولكان فيه نقض لإقرارهم، لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثابتة. فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة كإجابتهم إلى الإقرار، صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان، إذا أضيفت الصلاة إلى الإقرار.. فلبثوا بذلك برهة من دهرهم، فلما أن داروا إلى الصلاة مسارعة، وانشرحت لها صدورهم، أنزل الله فرض الزكاة فى إيمانهم إلى ما قبلها فقال : ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة))(البقرة : 83،11.) وقال ((خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها))(التوبة 1.3) فلو أنهم ممتنعون من الزكاة عند الإقرار، وأعطوه ذلك بالألسنة، وأقاموا الصلاة غير أنهم ممتنعون عن الزكاة كان ذلك مزيلا لما قبله، وناقضاً للإقرار والصلاة، كما كان إباء الصلاة قبل ذلك ناقضا لما تقدم من الإقرار، والمصدق لهذا جهاد أبى بكر الصديق رحمة الله عليه بالمهاجرين والأنصار على منع العرب للزكاة، كجهاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أهل الشرك سواء، لا فرق بينهما فى سفك الدماء وسبى الذرية واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها. ثم كانت شرائع الإسلام كلها، كلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها، لاحقة به، ويشملها جميعا اسم الإيمان، فيقال لأهله مؤمنون. وهذا هو الموضع الذى غلط فيه من ذهب إلى أن الإيمان بالقول .. ))

  • * *

إذا نظرنا إلى القاعدة الصلبة كما رباها رسول الله ، نعود فنسأل، لأى هدف كان الرسول الأعظم عليه صلوات الله وسلامه يبذل ذلك الجهد الضخم الذى بذله خلال ثلاثة عشر عاماً فى مكة ثم عشر سنوات فى المدينة، لإخراج هذه النماذج الفذة من البشر؟ ألمجرد أن يوجد جماعة مؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر، وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة، وتقوم بعبادة الله؟‍

بعض هذا الجهد الضخم كان يحقق هذا الهدف فى عالم الواقع، وهو فى ذاته هدف نبيل يستحق أن يبذل فيه الجهد، ولكن الرسول الأعظم كان كما أشرنا من قبل يهدف إلى ما هو أكبر من ذلك وأجل

لم تكن مهمة هذه الجماعة مجرد القيام بعبادة الله على النسق الذى قامت به الجماعات المؤمنة من قبل، إنما كانت مهمتها نشر التوحيد فى الأرض، وإخراج الناس على مستوى البشرية كلها، من عبادة العباد إلى عبادة الله، كما عبر ربعى بن عامر رضى الله عنه فى مواجهة رستم قائد الفرس، وأحد كبار الطواغيت فى ذلك الزمان ومثل هذه الجماعة يحتاج إلى إعداد خاص، لا كمجرد إيجاد جماعة من الناس تؤمن بالله واليوم الآخر وتعبد الله

فى عالم التجارة والصناعة يعلم الناس أن البضاعة المعدة للاستخدام المحلى غير البضاعة المعدة للتصدير، الأولى يمكن أن تكون على النحو الذى يؤدى الغرض بصورة من الصور، أما الأخرى فيجب أن تكون متقنة الصنع، إلى الحد الذى يجعلها تفرض نفسها على السوق، وتطرد ما دونها مما لا يرقى إلى مستواها.. فإذا كان هذا لازماً بالنسبة للتجارة المادية الأرضية، فهو أولى بالنسبة للتجارة العليا التى قال الله عنها: ((يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم(1.) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون)) (الصف:1.-11)

كان المطلوب لهداية البشرية جماعة فذة، فائقة التكوين، تشهد بسلوكها الواقعى لهذا الدين، أنه الدين الحق، وأنه الدين الذى يجب اتباعه، وأن كل شىء غيره لا يداينه، ولا يصلح بديلاً عنه

كان المطلوب إيجاد نسق من البشر يواجه الجاهلية بأكملها، لا ليقف إزاءها فحسب، ولكن ليستعلى عليها، وينقض بنيانها، وينشئ بناءً جديداً فى مكانها، يقوم على الأسس الصحيحة التى يقوم عليها بناء سليم وهذا هو الذى تم بالفعل على يدى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .

لم تكن المواجهة مع الجاهلية العربية وحدها، وإن كانت هذه بحكم الواقع هى أول جاهلية واجهتها الدعوة فى منطلقها الأول إنما كانت الأرض كلها تعيش فى جاهلية سواء كانوا من الوثنيين، عباد النار وعباد الجن وعباد الأصنام وعباد الأفلاك وعباد الطواغيت، أو كانوا أهل دين سماوى وقع فيه التحريف والتبديل

وفى مواجهة كل أولئك كان الدين الجديد، وكان رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وكانت الجماعة التى يقوم بتربيتها

هل كان مجرد إنشاء جماعة مسلمة تعبد الله على استقامة كافياً لمواجهة هذا كله؟ فضلاً عن تغييره، فضلاً عن إقامة الدين الصحيح فى مكانه؟‍

كلا‍ لقد كان الأمر فى حاجة إلى جماعة فائقة التكوين، تكون نواة للمجتمع الجديد، وكانت هذه هى جماعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) : القاعدة الصلبة التى قام على أكتافها البناء، والتى غيرت بواقعها واقع الأرض

تروى كتب السيرة الكثيرة عن تلك القاعدة الصلبة، وعن المستويات الرائعة التى وصلوا إليها وما بنا هنا أن نترجم للصحابة رضوان الله عليهم، وكتب السيرة فى متناول الجميع، ولا أن نتحدث عن أعيانهم، والحديث عنهم يحرك النفوس ويهزها هزاً، لعظمتها وروعتها، إنما نحن معنيون هنا بذكر المواصفات التى بنيت عليها القاعدة الفذة، من أجل التدير والاعتبار

ومع ذلك فأنا شخصياً تهزنى نماذج بعينها، لا أملك نفسى فى التأثر بها، ليست كلها لكبار الصحابة رضوان الله عليهم، بل بعضها لأشخاص يمر بهم التاريخ مروراً عابراً فى سطور قليلة، مع روعتها، ولا أرى بأساً أن نقف عندها هنيهة

كانت امرأة تصرع فتتكشف فى أثناء نوبتها، فشكت ذلك إلى رسول الله وطلبت منه أن يدعو لها لتشفى من صرعها. فقال لها عليه الصلاة والسلام: ((إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة))ت. قالت : أصبر يا رسولا لله ولكن ادع لى ألا أتكشف. فدعا لها، فلم تعد تتكشف بعد ذلك

اشتد الفقر برجل وزوجته، فقال لها: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعطى المحتاجين فهلا سألناه أن يعطينا من المال الذى بين يديه؟ فقالت له : تريد أن تشكو الله إلى رسوله (صلى الله عليه وسلم)؟ فصبرت وصبر

مر عمر رضى الله عنه وهو يعس ليلاً يتفقد أحوال رعيته ببيت سمع فيه بكاء صبية صغار، فدخل فوجد امرأة تضع قدراً على النار تحركه، وحولها صبية يتضاغون، فسألها ما يبكى الصبية؟ قالت : الجوع. قال: وما هذه القدر؟ قالت أضع فيها حصوات أقلبها حتى ينام الصبية، فإنه لا طعام لدينا، وعمر لا يأبه بنا، وهى لا تعرف أنه عمر، فقال لها : وما يدرى عمر بك؟ قالت : وفيم إذن تولى أمر المسلمين؟ فبكى عمر، وذهب إلى بيت المال، ومعه تابعه، فحمل دقيقاً وسمناً وعاد إلى بيت المرأة، فيقول له تابعه ، دعنى أحمل عنك يا أمير المؤمنين‍ فيقول : ومن يحمل عنى يوم القيامة‍ ثم يضع الدقيق والسمن فى القدر، وينفخ النار حتى يتخلل الدخان لحيته الكثيفة.. ولا يغادر المكان حتى يرى الصبية قد أكلوا وشبعوا وناموا

خرج أحد المقاتلين إلى المعركة مشوقاً إلى الجنة، مشوقاً إلى الشهادة، وفى يده تمرة- أو تمرات- فلم يطق صبراً حتى ينتهى من أكلها، فألقاها من يده وهو يقول: لئن بقيت حتى أنتهت من هذه إنه لأمر يطول‍ ودخل المعركة فنال الشهادة التى كان يسعى إليها

لبس أحد المجاهدين زرد الحرب استعداداً للمعركة فقال له صاحبه : إن هناك ثلمة فى الزرد عند العنق يخشى أن ينفذ منها السهم، فقال لصاحبه باسماً: إنى لكريم على الله إن أصبت فى هذا الموضع‍ ودخل المعركة فأصابه سهم فى الثلمة فأكرمه الله بالشهادة

والأمثلة لا تنتهى


ربما كان خير طريقة لتحديد المواصفات التى نشأت عليها القاعدة الصلبة أن تجمع الأوصاف التى وصف بها الله ورسوله هذه الجماعة الفذة، أو الأوامر التى أمرهم بها الله ورسوله فالتزموا بها أروع التزام، أو التوجيهات التى وجههم إليها الله ورسوله فسارعوا إلى تنفيذها، فهى فى مجموعها هى المواصفات الحقيقة التى قامت عليها القاعدة

((قد أفلح المؤمنون(1) الذين هم فى صلاتهم خاشعون(2) والذين هم عن اللغو معرضون(3) والذين هم للزكاة فاعلون(4) والذين هم لفروجهم حافظون(5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين(6) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون(7) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون(8) والذين هم على صلواتهم يحافظون(9) أولئك هم الوارثون(1.) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون))(المؤمنون : 1-11)

((أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب (19) الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق(2.) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب(21) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار(22) جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب(23) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار))(الرعد : 19-24)

((إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون(2) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون(3) أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم))(الأنفال : 2-4)

((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم))(التوبة:71).

((لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون))(التوبة : 88)

((إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص))(الصف :4)

((وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين(133) الذين ينفقون فى السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134) والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون(135) أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين))(آل عمران : 133-136)

((التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين))(التوبة : 112)

((إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً))(الأحزاب : 35)

((محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم فى وجههم من أثر السجود ذلك مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الإنجيل كزرع أخرج شطأه فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع لغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا عملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً))(الفتح : 29)

((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون))(الحشر : 9).

((والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون(37) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون(38) والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون(39) وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين(4.) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل))(الشورى : 37-41)

((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين))(آل عمران : 139)

((قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان الله وما أنا من المشركين))(يوسف : 1.8)

((هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين(62) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم))(الأنفال:62-63)

((يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين))(النساء :135)

((يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون))(المائدة: 8)

((آلم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين(2) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون(3) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون(4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون))(البقرة : 1-5)

((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً))

((مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))

((إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالأنساب، كلكم لآدم وآدم من تراب))

((ليس الشديد بالصرعة ولكن من يملك نفسه عند الغضب))

((وتبسمك فى وجه أخيك صدقة))

((إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها))

((مثل القائم فى حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم: لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا‍‍ فلو تركوهم وما أردوا هلكوا جميعاً ولو أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)).

((إن الله كتب الإحسان على كل شىء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته))

((ألا إنى أتقاكم لله وأخشاكم له، ولكنى أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى))


على هذه المواصفات الفذة، وفى أعلى درجاتها، قامت القاعدة الصلبة التى أنشأها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فماذا فعلت فى واقع الأرض؟

لقد كانت بادئ ذى بدء، هى النواة التى تجمع حولها المسلمون فى شبه الجزيرة العربية، محضن الدعوة الأول، أو قل بلغة العصر: النواة التى تجمعت حولها القاعدة الجماهيرية، التى تحركت بها الدعوة إلى الآفاق

إنه لابد لكل دعوة فاعلة فى واقع الأرض أن يكون لها قاعدة جماهيرية، تتحرك بها، وتتحرك من خلالها، ولكن هذه القاعدة لا تتجمع بالحجم المطلوب، إلا حول قائد مرب، ونواة صلبة متماسكة ذات إشعاع قوى يغرى ((الجماهير)) بالتجمع والالتفاف، ولكنها – فى واقع الأمر- لا تكون على ذات المستوى الذى تكون عليهن الصفوة التى يربيها القائد، ويوليها عنايته الخاصة، ويجتهد فى توجيهها ومتابعة أحوالها ومجتمع الرسول ذاته لم يكن كله على المستوى، فقد كان يشتمل كما جاء فى كتاب الله على ((المثاقلين)) و((المبطئين)) وضعاف الإيمان، والمستطارين الذين تهزهم الشاردة والواردة، وهذا كله بخلاف المنافقين الصرحاء والمستترين

((يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض))(التوبة:38)

((وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذا لم أكن معهم شهيداً ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينة مودة يا ليبتنى كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً))(النساء : 72-73)

((ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتب علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً))(النساء:77)

((وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً))(النساء:83)


أما المنافقون فحدث عنهم ولا حرج

فإذا كان هؤلاء كلهم كانوا فى مجتمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) والرسول بين ظهرانيهم، والوحى يتنزل متتابعاً يوجه الخطى، ويصحح المشاعر والسلوك، فقد تبين إذن أن ((القاعدة الجماهيرية)) لا يمكن أن ترتفع كلها إلى المستوى، ولا يمكن أن تكون كلها كالصفوة التى تنصب عليها عناية القائد المربى ولكن الواقع التاريخى يقول: إن القاعدة الصلبة التى رباها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على عينه، أولاها رعايته وعنايته، كانت من الصلابة ورسوخ الإيمان وصدق التوجه بحيث حملت كل أولئك وسارت بهم إلى أهدافها، لا يقعدها المثاقلون ولا المبطئون، ولا ضعاف الإيمان، ولا الخفاف المستطارون، ولا حتى المنافقون، ولا حتى الأعداء الصرحاء‍ وتلك هى العربة من إيجاد القاعدة الصلبة الراسخة الإيمان الرفيعة المستوى، لأنه بدونها لا تجد ((الجماهير)) من يرفعها إلى أعلى كلما جنحت إلى الهبوط، أو يقوم خطواتها كلما جنحت إلى الانحراف، أو يهديها إذا ضلت الطريق

القاعدة الصلبة إذن ضرورة، وليست ترفاً، أو أمراً زائداً عن الحاجة، أو شيئاً يمكن السير بدونه مسيرة صحيحة

  • * *

ثم كانت القاعدة الصلبة التى رباها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأسند إليها قيادة ((الجماهير)) ، سواء القيادة العسكرية فى القتال، أو القيادة الأخلاقية فى التعامل الفردى، أو القيادة الاجتماعية فى تشكيل علاقات المجتمع، أو القيادة الفكرية فى توعية الناس بحقيقة الإسلام، بالقدوة وبالكلمة، كانت هذه القاعدة هى التى واجهت الجاهلية فى الجزيرة العربية وهزمتها، وألغت وجودها، ونقضت بنيانها، وأقامت البناء الجديد فى مكانه

ولم يكن ذلك أمراً هيناً فى الحقيقة

والذى يتتبع وقائع التاريخ، والذى يتدبر آيات القرآن التى تصف المعركة بين الحق والباطل، يعلم كم من الجهد بذل فى تلك المعركة الهائلة حتى انحسمت فى نهاية الأمر لصالح الدين الحق، سواء الجهد النفسى فى الصبر على لأواء المعركة وتجنيد النفس لها، أو الجهد البدنى أو المادى، وكم من التضحيات، وكم من البطولات، وكم من المثل الرائعة تحققت فى واقع الأرض ويعلم المكانة الحقيقية للقيادة النبوية المباشرة للصفوة، وقيادته (صلى الله عليه وسلم) ((للجماهير)) بمعاونة الصفوة، ويعلم أخيراً مكانة القاعدة الصلبة فى هذا الجهاد كله، الذى غير واقع الجزيرة العربية، ثم غير واقع الأرض .

لم تكن المعركة هينة وهى تواجه عقائد فاسدة، وقيماً فاسدة، وأعرافاً فاسدة، وأنماطاً من السلوك فسادة، ونفوساً أفسدها الانحراف العقدى والقيمى والعرفى والسلوكى، ثم استنامت إلى انحرافها، تحسبه هو الحق، وهو ا لصواب، وهو الشىء الذى يجب المحافظة عليه، والقتال دونه

ولأمر ما شبه الله الصراع بين الحق والباطل بما يوقدون عليه فى النار: ((أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض كذلك يضرب الله الأمثال))(الرعد : 17)

إنها نار حقيقية‍ نار تلذع‍ نار تكوى‍ نار تصهر يحتملها المؤمنون بالصبر والعزيمة والتوكل والتوجه إلى الله، ثم يكون من نتائجها نفى الخبث أولاً من قلوب المؤمنين المجاهدين الصابرين، حين تتمحص نفوسهم ويتجردون لله، ثم نفى الخبث من الأرض حين يزهق الباطل، وتذهب انتفاشته وصولته وطغيانه، ويحكم الحق

وقامت قاعدة الصلبة بدورها كاملاً فى كل ذلك، حتى استقر الأمر فى الجزيرة للإسلام

ثم قامت القاعدة الصلبة بدور أوسع

الجزيرة العربية هى القاعدة، هى المحضن، هى المنطلق، ولكن الهدف هو كل الأرض‍

لقد نزل هذا الدين للناس كافة، والمؤمنون فى الجزيرة العربية بقيادة الرسول (صلى الله عليه وسلم) هم الهداة للبشرية، الدعاة الذين يدعونها إلى الدين الحق، المعلمون الذى يعلمونها كيف تكون حقيقة الدين : ((وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً))(البقرة:143). ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون))(آل عمران : 1.4)

ولم يكن ذلك بالأمر الهين

إن التاريخ يركز عادة على المعارك التى تدور بين الجيوش

وحقيقة إن معارك الجيوش هى التى تحسم فى النهاية نتيجة الصراع، ولكن النظر إلى الأمر على أنه صراع حربى فحسب، تقرره الجيوش فى ميدان القتال، يخفى جانباً مهما من حقيقة الصراع، ويحصره فى حيز ضيق، ويلغى أمراً على جانب كبير من الأهمية، أو يصغر من شأنه، وهو أمر العقائد والقيم التى يدور من أجلها الصراع

إن الصراع – بلغة العصر- هو صراع حضارى فى حقيقته، صراع بين الحضارة السليمة والحضارة الفاسدة، بين الحضارة الإيمانية والحضارة الجاهلية، صراع شامل، يشمل كل جوانب النفس، وكل جوانب الحياة، وإن كان الصراع الحربى هو الذروة التى تحسم النتيجة، ولو إلى حين‍

لقد تغلب التتار فى فترة فى فترات التاريخ واكتسحوا الأرض، ولكنهم لم ينشئوا حضارة، بل الأجدر أن نقول: إنهم هدموا الحضارة وأنشئوا بدلاً منها طغياناً وكفراً حتى قدر الله لهم أن يدخلوا فى الإسلام .

ولقد تغلبت جيوش الغرب فى التاريخ الحديث، واكتسحوا الأرض، ولكنهم لم ينشئوا حضارة حقيقية تستحق أن توجد، وتستحق أن تعيش، كعلى الرغم من كل التقدم المادى والعلمى والتكنولوجى الذى يملكونه، بل نشروا فى الأرض قانون الغاب: القوى يأكل الضعيف، أو يزيحه من الطريق، ونشروا الفساد العقدى والفساد الخلقى على أبشع صورة عرفتها جاهلية فى التاريخ

ليس الصراع الحربى هو حقيقة الصراع، أو قل – على أقل تقدير – ليس وحده هو حقيقة الصراع، إنما حقيقة الصراع هى القيم التى تقاتل من أجلها الجيوش، والتى ينشرها أصحابها حين تنتصر الجيوش‍ وفى هذا يتميز الفتح الإسلامى عن كل الحركات التوسعية فى التاريخ

لم تكن شهوة التوسع، ولا شهوة امتلاك الأرض، ولا شهوة القهر والإذلال للآخرين هى التى حركت الجيوش العربية للفتح، إنما كان الهدف – بأمر من الله – هو نشر التوحيد فى الأرض، وإزالة الجاهلية وطغيانها، لتكون كلمة الله هى العليا، ويكون الدين لله : ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله))(الأنفال : 39)

هو كما قال ربعى بن عامر رضى الله عنه لقائد الفرس: إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة

حركة حضارية عليا لتحرير الإنسان من عبادة الطاغوت إلى عبادة الله، ومن اعتناق الوهم إلى اعتناق الحقيقة، ومن الجور والظلم إلى العدل والقسط، ومن الجهل إلى العلم، ومن الظلمات إلى النور.. ما من حركة حضارية فى التاريخ صنعت ما صنعه الفتح الإسلامى

وليست الروعة فيه كامنة فى عبقرية القتال وحدها، التى انتصر فيها رجال محدودو العدد والعدة على أضعاف أضعافهم فى العدد والعدة وفنون القتال والإمكانات المادية من الفرس والروم، مما لا تفسير له – بعد عون الله سبحانه وتعالى ومدده – إلا أثر العقيدة الصحيحة فى الله واليوم الآخر فى نفوس معتنقيها، وإلا التربية على حقائق العقيدة الصحيحة، التى مكنت هؤلاء الرجال المحدودى العدد والعدة من الوصول إلى المحيط غرباً والهند شرقاً فى أقل من نصف قرن، وهى سرعة لا مثيل لها فى التاريخ

ليست الروعة كامنة فى عبقرية القتال وحدها، وإنها – بذاتها – لأمر هائل فى ميزان التاريخ، ولكن الروعة الكبرى هى فى فتح القلوب للإسلام، ودخول الملايين فى الدين الحق، بغير إكراه‍ لم يكن القتال قط لإكراه الناس على الدخول فى الإسلام : ((لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى))(البقرة : 256) إنما كان القتال لإزالة الجاهلية، ممثلة فى عقائد جاهلية تقوم عليها نظم جاهلية تحميها جيوش جاهلية، فإذا أزيلت هذه فالناس أحرار بعد ذلك يختارون لأنفسهم ما يشاءون: ((قد تبين الرشد من الغى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم))(البقرة : 256)

وأما ((الآخر)) الذى يريد أن يحتفظ بدينه، وهو على غى واضح، فهو آمن على نفسه ودينه وكيانه كله، ما لم يتعرض للمؤمنين بالأذى والقتال: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين))(الممتحنة:8)

وهذه الملايين التى دخلت فى الإسلام بغير إكراه، إنما دخلت فيه حين رأته ممثلاً فى بشر يعتنقونه ويمارسونه بالفعل، بشر تربوا على حقيقة الإسلام، فترجموه إلى واقع مشهود يعجب الناظرين إليه، فتهفو له قلوبهم فيدخلون فيه. ولو لم يكونوا على هذه الصورة الوضيئة ما دخل الناس فى الدين الجديد بهذه الكثرة فى ذلك الزمن القصير، ولو غلبوا فى ميدان القتال، فالسيف قد يفتح الأرض، ولكنه لا يفتح القلوب‍ وإذا كان الله يقول لرسوله (صلى الله عليه وسلم) : ((ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك))(آل عمران : 159) ، وهو رسول الله، فكيف بالبشر الفاتحين إذا لم يكونوا على خلق قويم؟‍

إن تحول شعوب بأكملها إلى الإسلام فى تلك اللمحة الخاطفة من الزمان لهو أثر من آثار تلك التربية الفذة التى ربى عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تلك القاعدة الصلبة، التى أولاها رعايته وعنايته، لتكون ستاراً لقدر الله يفعل بها الله ما يشاء سبحانه : ((هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله))(الصف : 9)

ولم تكن روعة الفتح محصورة فى دخول تلك الأمم فى الإسلام بهذه السرعة الخاطفة، ولكن كانت كذلك فى العدل المثالى الذى تعامل به المسلمون – الذين رباهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالإسلام – مع البلاد المفتوحة، حتى مع من بقى على دينه منهم، وقصة عمر رضى الله عنه مع والد الشاب القبطى الذى ضربه ابن عمرو بن العاص بالعصا شهيرة فى التاريخ، وكلمته التى قالها لعمرو : ((يا عمرو‍ متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)) شهيرة كذلك، وفذة فى التاريخ‍

ولم تكن هذه وتلك هى حدود تلك الروعة الهائلة، فقد كان دخول أمم بأكملها فى اللسان العربى – دون إكراه – عجيبة لا مثيل لها فى التاريخ، فقد نسيت تلك الشعوب لسانها، حتى من بقى منهم على دينه، وصارت لغتها هى العربية، بها تتخاطب وبها تفكر وبها تؤدى عبادتها‍

وأخيراً وليس آخرا فقد كانت العناية الفائقة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بتربية القاعدة الصلبة هى الضمان – بعد الله سبحانه وتعالى – لاستمرارية المنهج، بعد أن يمضى مؤسسه (صلى الله عليه وسلم) إلى الرفيق الأعلى، والخلافة الراشدة – بكل ما حوت من المثل الرفيعة فى كل مجال من مجالات الحياة – هى مصداق هذه الحقيقة ، فقد كانت هى الامتداد الواقعى لمنهج الرسول (صلى الله عليه وسلم)، بعد انقطاع الوحى، وغياب القائد العظيم (صلى الله عليه وسلم) بشخصه عن العيون.

وصحيح أن هذه الفترة لم تدم طويلاً، وما كان مقدراً لها أن تدوم، ولكن الهبوط عنها لم يكن هبوطاً عن الإسلام ولا نهاية للإسلام، كما يرجف المستشرقون وأعداء هذا الدين عامة، إنما كانت هذه الفترة تحليقاً فى آفاق سامقة العو، يعتمد كثير من أعمالها على التطوع النبيل بما هو فوق الإلزام الملزم، المفروض من عند الله ورسوله، فإذا هبط الناس بعد ذلك إلى أرض الالتزام أو قريباً منها فما هبطوا فى الحقيقة، إنما تراخت أجنحتهم عن التحليق فحطوا على الأرض الصلبة يسيرون على الأقدام‍ وحسبهم – بعد أن هبطوا من التحليق فى تلك الذرى العالية – ما قاموا به من نشر التوحيد فى الأرض، وما أمدوا به البشرية من قيم حضارية عالية، ظلت أوروبا تقبس منها حتى القرن السابع عشر الميلادى، أى بعد الذروة بأكثر من عشرة قرون‍

ولم تكن تلك الفترة مع ذلك مجرد برق لامع أضاء هنيهة ثم اختفى، فضوءه اللامع ما زمال ينير الطريق حتى هذه اللحظة، وإلى ما شاء الله بعد‍ إنها ما تزال – بمثاليتها الواقعية – مدداً لأجيال إلى الصعود، فهو دائماً خير من التقاعس الذى يؤدى حتماً إلى الهبوط بحكم ثقلة الأرض، وجذبها لمن يركن إليها . وكل حركات الإصلاح والبعث فى تاريخ الإسلام – وما أكثرها، والحاضرة واحدة منها – إن هى إلا أثر من آثار تلك الفترة اللامعة التى ما يزال ضوءها ينير الطريق . ومن أجل ذلك بالذات يسعى المستشرقون وأعداء الإسلام عامة إلى محاولة تشويه تلك الفترة ليطمسوا ذلك النور اللامع، ويمنعوا إشعاعه من الوصول إلى الأجيال التى تستضئ به فتنهض إلى الصعود من جديد، وهيهات لجهدهم الخبيث أن يفلح، فهم يعاندون قدر الله: ((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون))(الصف: 8)


وهنا يحضرنا أمر له أهميته البالغة فى تربية الرسول لتلك القاعدة الصلبة، وهو كثرة مشاورة الرسول لأصحابه

ونسأل بادئ ذى بدء: هل كان رسول الله فى حاجة إلى المشاورة والوحى يتنزل عليه بما يشاء الله أن ينزله من البيان، ويصحح مسار الجماعة المسلمة كلما همت أن يقع منها انحراف؟ بل يصحح للرسول (صلى الله عليه وسلم) نفسه بعض ما يقع منه من تصرفات، كتصرفه مع ابن أم مكتوم، وكتصرفه فى أسرى بدر؟

كلا‍‍ ما كان الرسول فى حاجة إلى المشاورة، وهو يقوم بأعباء الدعوة، ويدير حياة الجماعة المؤمنة سواء فى مكة أو فى المدينة إنما هى التربية ومستلزماتها

إن التربية على السمع والطاعة وحدهما تخرج جنوداً ملتزمين، ولكنها لا تخرج قادة‍‍

ولقد كان الالتزام بأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) عبادة مفروضة من عند الله: ((من يطع الرسول فقد أطاع الله))(النساء: 8.). ((وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله))(النساء:64). ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))(الحشر : 7) . ((يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الله وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول))(النساء : 59) ((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم))(النور : 63) . ((ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه))(التوبة: 12.)

ولكنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يريد من أصحابه فقط أن يكونوا جنوداً ملتزمين بأمر قائدهم، والالتزام بأمره هو الفلاح والنجاح، فضلاً عن كونه عبادة مفروضة، إنما كان يريد أن يجعل منهم قادة للبشرية، تحقيقاً لقدر الله بهم، ومراده سبحانه وتعالى من إخراج هذه الأمة: ((وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً))(البقرة : 143)

والتدريب على القيادة والريادة لا يكون إلا بالمشاورة من القائد للذين يربيهم المشاورة هى التى تولد فيهم الوعى وتنمية : ((قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان الله وما أنا من المشركين))(يوسف : 1.8)

وواضح من سياق الآية أن البصيرة شىء قائم بذاته مطلوب بذاته إلى جانب الإيمان، الذى يعبر عنه فى الآية بقوله تعالى : ((وسبحانه الله وما أننا من المشركين))

الإيمان مطلوب نعم، ولكن البصيرة مطلوبة كذلك، للتحرك بهذا الدين فى عالم الواقع، لكى تؤتى الحركة ثمارها كاملة بإذن الله، ولا يتبدد الجهد كله أو جزء منه فى حركة خاطئة، أو فيما لا طائل وراءه

والمشاورة من القائد لأتباعه تعود الأتباع أن يفكروا بعقولهم فى المواقف المختلفة، والآراء المختلفة، ليختاروا أصوبها وأليقها بالموقف الذى يراد اتخاذه، كما تعودهم كذلك على تحمل المسئولية، فالرأى مسئولية بجانب كونه أمانة .. وحين تتكرر المشاورة، ويتكرر التفكير والتمحيص مع تحمل المسئولية يكون الإنسان قد أعد لمواجهة المواقف العملية حين يكون فيها، فلا تنفر مشاعره من المواجهة، ولا يتهيب المسئولية، وتلك هى الصفات المطلوبة فى القائد الناجح. وليس كل إنسان بطبيعة الحال يكون قائدا ناجحاً. ولكنك لن تتعرف على الشخص المؤهل لأن يكون قائدا ناجحا حتى تتيح الفرصة لمجموعة من الناس – الذين تقوم بتربيتهم – لكى يتلقوا التدريب المطلوب، فتتضح مقدراتهم ويبرز منهم من هو مؤهل للبروز .. أما إذا ربيتهم على السمع والطاعة فى الأمور كلها، فلن يتهيأ لأحد أن يكتسب الخبرة المطلوبة، وحين تسند إليها المسئولية يضطربون ثم يفشلون، وتنتكس المسيرة على أيديهم بعد ذهاب القائد المحنك، ولو كانوا فى حياة القائد من الجنود المخلصين

ومن هنا يتضح حرص الرسول (صلى الله عليه وسلم) على مشاورة أتباعه، وهو الغنى عن المشاورة، لأنه كان يعدهم – على علم – لأن يكونوا من بعده قادة محنكين، أو فى القليل مستشارين صائبى الرأى، لتستمر المسيرة بعده ولا تتوقف، ولا تنتكس بعد غياب القائد الملهم العظيم


تلك هى القاعدة الصلبة التى رباها رسول الله ، وهذا دورها فى التاريخ

لم يكن إنشاؤها ترفاً، ولا كان الجهد الضخم الذى بذله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى تربيتها أمراً زائداً على الضرورة ، بل كان بإلهام الله وعونه وتوفيقه، ألزنم شىء لهذا الدين، وللشأن الهائل الذى أنزل الله من أجله هذا الدين

والآن فلننتقل إلى واقعنا المعاصر، لنتعرف على صورته الحقيقية، وعلى موضع القدوة فيه من منهج الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى تربية القاعدة الصلبة التى حملت أول مرة أعباء هذا الدين

ما حال الجاهلية اليوم؟

يقول ابن تيمية رحمه الله : ((فأما بعدما بعث الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فالجاهلية المطلقة قد تكون فى مصر دون مصر كما هى فى دار الكفار،ت وقد تكون فى شخص دون شخص، كالرجل قبل أن يسلم فإنه يكون فى جاهلية وإن كان فى دار الإسلام. فأما فى زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث محمد (صلى الله عليه وسلم) فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة. والجاهلية المقيدة قد تقوم فى بعض ديار المسلمين، وفى كثير من المسلمين))

فإذا كان هذا فى القرن الثامن الهجرى والمسلمون بعد متمسكون بكثير من أمور دينهم، وإن كانوا مفرطين فى كثير فكيف لو رأى ابن تيمية رحمه الله واقعنا المعاصر ماذا كان يقول فيه، وقد فشت بدعة التشريع بغير ما أنزل الله، والمنع والإباحة بغير ما أنزل الله، فأصبح تحكيم شريعة الله ممنوعاً بنصوص نالدساتير، والمطالبة به جريمة تطير من أجلها الرءوس، ويعذب من أجلها الألوف ومئات الألوف فى السجون وأصبح عرى النساء أصلاً من الأصول، وتحجبهن - كما أمر الله – بدعة منكرة تهاجمها وسائل الإعلام بشتى وسائل الهجوم وأصبح ((القانون)) يحمى ارتكاب الفاحشة ما دام يتم برضى الطرفين، كأنما الطرفان – وحدهما – هما أصحاب الشأن فى القضية، والله سبحانه وتعالى لا دخل له، ولا يجوز له فى عرف الجاهلية أن يكون له دخل فى الأمر، وليس هو سبحانه الذى يمنع ويبيح، وأصبح الولاء والبراء فى الله ولله قضية من قضايا التعصب المقيت، لا يتقبلها ذوق العصر، فقد أصبح العالم بفضل وسائل الاتصال كالقرية الواحدة، لا يجوز لأحد أن يشذ عن أعرافها وتقاليدها وأفكارها بحجة من الحجج، والدين خاصة هو أشد الحجج مقتاً وإغراقاً فى التعصب المقيت‍ وأصبح وأصبح وأصبح

وكيف كان ابن تيمية رحمه الله سيقول لو رأى الواقع المعاصر فى الغرب، وفى كثير من أقطار الإسلام؟

((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء))

ما المطلوب من الغرباء اليوم؟ وما ذلك الشىء العظيم الذى يستحقون عليه هذه الكرامة عند الله؟ إن كل جهد يقوم به الغرباء لإزالة الغربة الثانية للإسلام مأجور عند الله، بنص كتابه الكريم: ((ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة فى سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين(12.) ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون))(التوبة:12.-121)

ولكن هذا لا يمنع أن يكون للغرباء خطة يسيرون عليها، وأولويات يرتبونها فى العمل الذى يقومون به لإزالة الغربة عن الإسلام فى واقعه المعاصر

فهل يصلح العمل بغير قاعدة صلبة تنتقل الدعوة منها إلى الجماهير نقول بادئ ذى بدء : إننا لا نطمع – ولا يطمع أحد – فى إنشاء قاعدة على مستوى القاعدة التى أنشأها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، سواء بالنسبة للقاعدة الصلبة أو القاعدة الجماهيرية.. ومع ذلك فهناك مواصفات ضرورية لا يقوم البناء بدونها مهما كلفنا توفيرها من الجهد ومن الزمن ومن المعاناة

إننا لا نطالب أحداً أن يحلق فى الآفاق العليا التى حلق فيها صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى تمكن وقوة، فذلك أصلاً غير ملزم لأحد وإن كان هناك أفراد على مدى التاريخ الإسلامى لم ينقطع مددهم قط، يرتفعون بأنفسهم إلى تلك الآفاق، ولكنا نطلب السير بالأقدام على أرض الالتزام، أو حتى قريباً منها، لكى يكون عملنا مقبولاً عند الله، ومؤهلاً بإذن الله للنجاح

فما المواصفات المطلوبة فى القاعدة الصلبة، التى تقوم بدورها بإنشاء القاعدة الجماهيرية وتوجيهها وتربيتها

هل يصلح لها أى إنسان بمجرد أن يؤمن بالله واليوم الآخر، ويقيم الصلاة ويؤتى الزكاة، ويكون من الخاشعين؟ إن هذه كلها مواصفات عظيمة، وكلها مطلوبة، ولكن على أى درجة هى مطلوبة؟ وهل هى وحدها المطلوبة بالنسبة للقاعدة الصلبة خاصة؟

ضربت فيما سبق مثلاً، أعيد الإشارة إليه هنا مرة أخرى.. لو سألت إنساناً فى الطريق: من الذى يرزقك؟ فسيقول بلا شك : الله ! فلو أوذى فى رزقه فقال : فلان من الناس يريد أن يقطع رزقى، فهل يكون الإيمان بتلك الحقيقة، وهى أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، قد تعمق فى حسه حتى أصبح يقيناً قلبياً يترتب عليه سلوك؟ أم يكون فى حاجة إلى تعميق إيمانه حتى يصل إلى درجة اليقين؟ وكذلك حقيقة أن الله هو الضار النافع، وهو المحي المميت: ((ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى فى الله جعل فتنة الناس كعذاب الله))(العنكبوت: 1.)

هل يصلح هذا لبنة فى القاعدة الصلبة التى تحمل البناء؟ وهل يثبت فى الابتلاء، والابتلاء سنة من سنن الله : ((آلم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون(2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين))(العنكبوت: 1-3)

والفتنة ليست بالعذاب وحده، فهذه قد يحتملها كثيرون: ((ونبلوكم بالشر والخير فتنة))(الأنبياء : 35)

وفتنة الخير أخطر، لأنها تعصف بكثير من الناس، يصمدون فى فتنة العذاب، ولكنهم لا يقوون على الصمود أمام إغراء المال والسلطة والجاه والمناصب وكثرة الأتباع والأعوان.. فهل كل ما ثبت فى محنة يصلح أن يكون لبنة فى القاعدة الصلبة فضلاً عن أن يكون من قياداتها؟

وأضرب هنا مثلاً آخر أشرت إليه من قبل فى كتاب واقعنا المعاصر :

الأخوة معنى من المعانى الجميلة التى يمكن أن يصاغ حولها الكلام المنمق المؤثر العذب، وهى من معانى الإسلام الأصيلة، ومن الركائز التى اهتم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بترسيخها فى القاعدة الصلبة التى أنشأها حين آخى بين المهاجرين والأنصار،ن فصارت أخوة أقوى فى نفوسهم من أخوة الدم، وهى أوثق ما كانت توثقه الجاهلية العربية

وكما قلت فى كتاب (واقعنا المعاصر) : الأخوة يمكن ممارستها بسهولة والناس فى سعة من أمرهم، فهى لا تكلف كثيراً فى تلك الحالة، ولكن إذا ضاقت الطريق بحيث لا أستطيع أن أسير وأخى متجاورين، بل لابد أن يتقدم أحدنا على الآخر، فهل أقدم نفسى أم أقدم أخى؟ ولا حاجة بنا للارتفاع إلى المستوى السامق الذى يضيق فيه الطريق أكثر، فتصبح الفرصة متاحة لواحد دون الآخر، إما أنا وإما أخى، فذلك مستوى غير ملزم، وهو الذى وصفه سبحانه وتعالى بقوله: ((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة))(الحشر:9) والذى كان شيئاً عادياً فى هذه القاعدة التى أنشأها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأصبح اليوم شيئاً بعيد المنال

  • * *

ولكنى أركز هنا على أمرين اثنين بالذات، مما تحتاج إليه القاعدة الصلبة التى يراد منها اليوم أن تواجه الجاهلية العاتية المحيطة بالإسلام من كل جانب: التجرد لله، والوعى : الحركى والسياسى

من مداخل الشيطان إلى نفوس ذوى المواهب خاصة، فتنة ((الذات))، فتنة ((الأنا)). حين يكون الإنسان جندياً فى الصف يكون أبعد عن كيد الشيطان منه حين يبدأ يبرز بمواهبه، وتكون له مكانة خاصة، فهنا يجد الشيطان فرصة أكبر للغواية! وكلما برز الإنسان كانت محاولة الشيطان لإغوائه أشد !

وتكون الفتنة فى عنفوانها حين يتهيأ الإنسان لمركز من المراكز القيادية، أو لمركز الزعامة ذاته هنا يختلط الأمر فى كثير من النفوس إذا لم تكن قد تربت على التجرد لله، بين الدعوة وبين ((الأنا)) القائمة بالدعوة

أنا ممثل الدعوة! أنا الذى تتوفر فى الصفات المطلوبة للقيادة! إذن فما يصيب شخصى يصيب الدعوة! وما يرحنى وترتاح إليه نفسى هو صالح الدعوة! هكذا يتدسس الشيطان إلى النفوس، فيجعل ذواتنا مركز اهتمامنا ومركز تحركنا

إن فلاناً يقف فى طريقى، يناوئنى أو يعارضنى، أو لا ترتاح إليه نفسى إذن فوجوده ليس فى صالح الدعوة، بل قد يكون خطراً على الدعوة! لابد من وقفه عند حده! لابد من تحجيمه! إن لم يكن الأفضل فصله من الجماعة، لتسير الدعوة فى طريقها المستقيم، أى الطريق الذى يكون فيه عزى وجاهى وسلطانى!

آفة من أشد آفات العمل الإسلامى، آفة أدت فى الجهاد الأفغانى إلى إهدار دم مليون ونصف مليون شهيد، والعبث بمقدرات أمة، وضياع أمل تعلق به المسلمون فى كل الأرض! وما زالت تتسبب فيما يصيب بعض الجماعات من تشقق وتحزب وتشرذم وعداوة وخصام، وإن تلفع الخصام بخلاف على المبادئ أو الخطط أو الأساليب!

حين نكون متجردين لله نحتمل النقد سواء كان لأشخاصنا أو لأفكارنا أو لتصرفاتنا

ونضرب مثلاً من جماعة الذروة، لا لأننا نعتقد أنه يمكن أن يوجد فى عصرنا الحاضر! ولكن فقط لننظر كيف يفعل التجرد لله فى نفوس البشر، فيرفعهم إلى تلك الذرى العالية، وهم بعد نشر ما يزالون لم يصبحوا ملائكة، ولا توقع منهم أحد أن يصبحوا ملائكة!

قام عمر رضى الله عنه على المنبر فقال: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا! فقال له سلمان الفارسى رضى الله عنه : لا سمع لك علينا ولا طاعة! قال عمر : ولمه؟ قال : حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذى ائتزرت به وأنت رجل طوال لا يكفيك برد واحد، كما نال بقية المسلمين! فنادى عمر ولده عبد الله فقال له : نشدتك الله! هذا البرد الذى ائتزرت به أهو بردك؟ قال عبد الله رضى الله عنه : نعم! هو بردى أعطيته لأبى ليأتزر به، لأنه رجل طوال لا يكفيه البرد الذى ناله كبقية المسلمين! فيقول سلمان رضى الله عنه: الآن مر! نسمع ونطع!

هذا وعمر رضى الله عنه أمير المؤمنين، وليس أمير جماعة من الجماعات الإسلامية!

ترى كم أميراً من أمراء الجماعات الإسلامية يطبق أن يوجه إليه النقد من أحد أتباعه؟ وكم أميراً يرجع إلى الحق حين يكون الذى وجهه إليه أخ من اخوته فى الله، فضلاً عن جندى من جنوده؟!

وحين نكون متجردين لله لا تكون ذواتنا محور اهتمامنا ولا محور تحركنا، ولا نحس بالغيرة من بروز غيرنا – حين يبرز عن جدارة – ولا بالتفات الناس حوله وإعجابهم به أو إطرائهم له، ولا نعتبر ذلك انتقاصاً لمكانتنا أو عملاً عدائياً موجهاً ضدنا، ولا يدفعنا ذلك إلى محاولة الانتقاص منه أمام أتباعنا، لكى لا يتحول ((ولاؤهم)) عنا إلى ذلك ((المنافس)) الذى التف حوله الناس!

وحين نكون متجردين لله لا يكون ((الولاء)) لأشخاصنا أو لجماعتنا – الأولى أن نقول ((حزبنا)) – هو محك الحكم على صلاحية الآخرين وجدارتهم، بل يكون المحك هو المحك الربانى: ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير))(الحجرات : 13) وتكون طريقة الحكم على الآخرين هى الطريقة التى أمر بها الله : ((يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين))(النساء : 135) ((يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى))(المائدة : 8)


وحين لا نكون متجردين لله بالقدر الكافى يحدث كثير مما يحدث فى واقعنا المعاصر!

  • * *

الأمر الثانى الذى نريد أن نركز عليه هو الوعى، هو البصيرة التى ورد ذكرها فى الآية الكريمة: ((قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان الله وما أنا من المشركين)) (يوسف : 1.8)

البصيرة بالنسبة للقاعدة الصلبة ضرورة لا غنى عنها، لأنها هى التى تقرر مسار العمل الإسلامى، متى نكمن؟ ومتى نتحرك ؟ كيف نتحرك؟ ندخل فى صدام مع السلطة أم نهادنها؟ أم ندخل فى تحالف معها؟ نبدأ ببناء القاعدة أم نتوجه إلى الجماهير؟ وحين نتوجه إلى الجماهير فماذا نقول لهم؟ هل نستغل ((القضايا العامة)) ، قضايا الخبز والبطالة، وارتفاع الأسعار، أم نركز على قضايا التربية وقضايا العقيدة؟ هل نستعرض عضلاتنا أمام أعدائنا أم نعرض عنهم؟ ومن هم أعداؤنا على وجه الدقة؟ هؤلاء المحليون الذين يحاربوننا أم هى الجاهلية العالمية على اتساعها: اليهود والنصارى والمشركون والمنافقون فى كل الأرض؟ وعشرات من الأسئلة ومئات لابد فيها من وجود الوعى السياسى والحركى، ووجود البصيرة، لكى نحاول – قدر طاقتنا – أن نرسم خطة سليمة للحركة تحقق أفضل النتائج الممكنة فى الظروف المحيطة

ولنعلم بادئ ذى بدء، أنه ليس هدف الخطة السليمة حماية أشخاصنا من الأذى، فالجاهلية لا تكف عن الأذى بأى حال، ولا تصبر على دعوة لا إله إلا الله! إنما نحاول ألا تؤذى الدعوة من خلال تصرفاتنا!

وليس هدف الخطة السليمة الوصول إلى السلطة أو إلى شىء من السلطة بالتنازل عن مبادئنا وقيمنا التى هى جزء من ديننا ومن عقيدتنا بحجة ((مجاراة الظروف))، أو أن ذلك فى صالح الدعوة!

ولنعلم أولاً وآخراً أن الله سنناً لا تتبدل ولا تتحول ولا تجامل ولا تحابى، وأننا إذا تجاهلناها أو توهمنا أننا نستطيع أن نتخطاها فلن نصل فى حركتنا إلى شئ!

والبصيرة، منها جزء يكتسب بالتعليم، أى التعرف على السنن الربانية من كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وتدبر التاريخ وأخذ العبرة منه والتعرف على أحوال الأمة الحاضرة والأسباب التى أدت إلى الواقع الذى تعيشه الأمة فى وقتها الحاضر والتعرف على مخططات الأعداء، والطرق التى يتخذونها لمقاومة الإسلام ومحاولة القضاء على الحركة الإسلامية

ومنها جزء يكتسب بالخبرة من التجارب التى تمر بها الحركة، والنتائج التى تترتب على كل تحرك .

ومنها جزء يكتسب بالتربية، عن طريق المشاورة التى تتم بين القائد وأعوانه، والتى يتم فيها تمحيص الآراء وبيان وجهات النظر، لا التى تتم صورياً بين عدد محدد من الرجال، بين ضغط السمع والطاعة، والتهديد بالإخراج من الجماعة للذين يتكرر منهم الاعتراض!

وحين لا توجد هذه البصيرة، أو حين تكون ناقصة، يحدث كثير من التخبط الذى يحدث فى واقعنا المعاصر !


تلك بعض المواصفات الضرورية فى بناء القاعدة، فهل استكملناها حقاً ؟

إنه يجب أن يكون فى حسناً ابتداء أننا لا نهدف إلى مجرد إقامة جماعة تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وتؤدى الشعائر التعبدية على صورة من الصور، ثم تقوم بالدعوة إن هذا يكون عملاً مبروراً فى ذاته، مأجوراً إن شاء الله يوم القيامة، ولكنه ليس هو الذى ينقذ الأمة الإسلامية مما هى فيه، ولا هو الذى يعطى النموذج الذى يحول الجاهلية عما هى فيه!

والمطلوب الحقيقى من العمل الإسلامى هو هذا على وجه التحديد: إنقاذ الأمة الإسلامية مما هى فيه، ومحاولة تحويل الجاهلية عما هى فيه

وهذا الهدف لا يتحقق إلا بإنشاء جماعة على مستوى فائق، على النسق الذى قامت به الجماعة الأولى على يد المربى الأعظم عليه صلوات الله وسلامه، وإن لم تكن على ذات المستوى، الذى قد يتعذر الوصول إليه فى أى جيل من الأجيال

وذلك يقتضى البدء بإنشاء القاعدة الصلبة وتربيتها على أعلى ما يتاح لنا من مستويات التربية، وتنقيتها من الشوائب بأقصى ما يتاح لنا من وسائل التنقية، ثم من بعد ذلك دعوة الجماهير

ووسيلتنا فى التربية هى ذات الوسيلة التى استخدمها المربى الأعظم (صلى الله عليه وسلم) : تعميق الإيمان بالله واليوم الآخر، وعميق الصلة بالله ، وتعويد النفوس على الحياة فى معية الله، والتدريب على ممارسة السلوك الإيمان فى عالم الواقع ثم تعميق الوعى، بالوسائل التى تؤدى إلى تعميقه، على أن نأخذ فى اعتبارنا أن القدوة هى الوسيلة الأولى – والكبرى – فى عملية التربية، ثم تأتى بعدها الموعظة والنصائح والدروس، مع الرعاية والمتابعة والدأب والصبر، حتى تستجيب النفوس ثم تستقيم

جهد ضخم فى الحقيقة، وهو على ضخامته لا يؤتى ثماره فى يوم وليلة، ولا يمكن استعجاله، ولا يمكن تخطيه، إذا كنا جادين فى القيام بعمل ينقذ الأمة مما هى فيه، ويسعى إلى تحويل الجاهلية عما هى فيه !

توسيع القاعدة

فى مرحلة من مراحل المسيرة يأتى دور توسيع القاعدة، عن طريق توجيه الدعوة للجماهير، وهذه المرحلة يمثلها فى حياة الجماعة الأولى، جماعة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، دخول أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب فى الإسلام، بعد ما كانت القاعدة الصلبة قد تم بناؤها من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم، وهؤلاء هم الذين قال الله عنهم : ((ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه))(التوبة : 12.)

وهؤلاء جنود وأعوان، اجتذبتهم الدعوة فدخلوا فيها، وأخصلوا لها، وجندوا أنفسهم للدفاع عنها ضد أعدائها، وليسوا مجرد جماهير منفلتة بلا ضابط، كالذين تسميهم الجاهلية المعاصرة ((رجل الشارع))، وهى تسمية صادقة، ما أدرى إن كانت جاءت عفواً أم جاءت عن قصد! رجل الشارع هو الإنسان الذى يست له سمات محددة ولا موقف محدد، ولا اتجاه فكرى ثابت! أو هو الإمعة الذى وصفه رسول الله فى قوله : ((لا تكونوا إمعة، تقولوا : إن أحسن الناس أحسنا، وإن أساءوا أسأنا! ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أو أساءوا ألا تظالموا))(هو الرجل الذى تصنعه وسائل الإعلام، ثم تعود إليه، بعد أن تصنعه بوسائلها، فتسأله عن موقفه، فيكون موقفه بالضبط هو ما أرادته وسائل الإعلام!

ليس هؤلاء الذين توسع بهم القاعدة فى المرحلة الأولى من البناء، ولا فى أى مرحلة من مراحلها! إنما توسع بجنود مخلصين، يهبون أنفسهم للدعوة، ينافحون عنها بتوجه مخلص إلى الله

فإذا سأل سائل: ما الفرق إذن بينهم وبين القاعدة الصلبة التى تحدثنا عنها من قبل؟ نقول فى إيجاز : عن القاعدة الصلبة هى التى تعد لتكون الركائز والدعائم، هى القادة، هى الموجهون، هى المربون، أما هؤلاء فهم المدعوون الذين استجابوا للدعوة، والتزموا بها، وانضووا تحت لوائها، فصاروا منها، يتحركون معها ويتحركون بها، ولا يقفون متفرجين، ينتظرون ليروا من الغالب ليتبعوه!

وإذا سأل سائل مرة أخرى: ما الفرق فى منهج التربية، وفى الرعاية والعناية بين إعداد القاعدة الصلبة وإعداد من توسع بهم القاعدة فى تلك المرحلة، نقول بإيجاز: إنه فرق فى الدرجة لا فى النوع. فالمعلم يوجه تعليمه للدارسين جميعاً من حيث المبدأ ، ولكنه يخص المتفوقين بعناية خاصة، لأن استعدادهم أكبر، والمطلوب منهم أكثر، ولا يقبل منهم ما يقبله من الدارس العادى الذى يقف به استعداده عند مستوى معين، ولا يكلفه فوق طاقته، وإن كان النجاح مطلوباً من الجميع، كل بحسب درجته

فإن قال قائل: هل هناك حدود فاصلة تميز هؤلاء عن هؤلاء؟ ألا يمكن أن يوجد فى القاعدة الموسعة من تؤهله طاقاته واستعداداته أن يكون من القادة الموجهين، ويوجد فى القاعدة الصلبة من تقعد به طاقاته واستعداداته عن القيام بتكاليفها؟ نقول: بلى! إن هذا يمكن أن يحدث، وعندئذ يرتفع – أو يجب أن يرتفع – صاحب المواهب إلى منزلة القادة الدعاة المربين، ويتخلف من تقعد به إمكاناته فيصبح مجرد عضو عادى، وتلك مسألة يقدرها المسئولون عن العمل باجتهادهم، وقد يخطئ الاجتهاد وقد يصيب.. إنما المهم من حيث المبدأ أن بناء القاعدة الصلبة يجب أن يوجه إليه أقصى الجهد، وأن يحظى بأكبر قدر من الرعاية والاهتمام. فإقامة الدعائم الرئيسية يختلف ولاشك عن إقامة اللبنات التى يتكون منها البناء، وإن كان هذا وذاك مطلوبين لتشييد البناء، وتلك من بدائه العمل التى لا تحتاج إلى إيضاح

إنما نريد أن نركز هنا على أمر له أهميته: أن توسعة القاعدة بالأعوان المتزمين، الذين يعتبرون أنفسهم جنوداً للدعوة، يأتى بعد تكوين القاعدة الصلبة، لأن المتلقين بداهة يحتاجون إلى موجهين! فإذا دعوناهم وجاءوا، ونحن لم نعد الموجهين بعد، فمن الذين يوجههم؟!

وأمر آخر نريد أن ننبه إليه : أن وسيلتنا البديهية إلى توسعة القاعدة – حين يأتى دورها – هو الدعوة العامة التى توجه لكل الناس، الذين يسمون فى لغة العصر ((بالجماهير)) . ولكن الجماهير ليسوا على درجة واحدة من الاستجابة للدعوة.. فمنهم فريق يمكن – حين تصله الدعوة واضحة صافية على حقيقتها – أن يؤمن بها إيماناً صادقاً، وبجند نفسه لها، متبغياً وجه الله، عاملاً على رضاه.. ومنهم فريق يحسب حساب ((المصالح)) ، حساب الربح والخسارة.. ما الذى يمكن أن يكسبه من الانضمام للدعوة، وما الذى يمكن أن يخسره من جرائها.. ومنهم فريق لا يهمه إلا اتباع الغالب حين تتقرر غلبته، فهو يقف بعيداً عن المعمعة، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ينظر ويتفرج، وقد يتسلى بالفرجة وتتبع أخبار الصراع، حتى إذا تقررت الغلبة بوضوح لأحد الفريقين انحاز إليه، لا إيماناً بمبادئه، ولا تحسماً حقيقياً لها، ولكن لثقل الأمر الواقع فى حسه، فهو بتركيبه النفسية، مستعد أبداً للانقياد للأمر الواقع، الذى يأخذ فى حسه مساحة أكبر من الأمر الذى لم يقع بعد، والذى يحتاج الواقع، الذى يأخذ فى حسه مساحة أكبر من الأمر الذى لم يقع بعد، والذى يحتاج إلى جهد لكى يتحقق، بينما الواقع بالفعل لا يحتاج إلى جهد لمسايرته، وهذا الفريق غير مستعد، بتركيبه النفسى، لبذل الجهد، وخاصة إذا كان الأمر يعرضه للأخطار، لذلك لا يستجيب للدعوة حتى تصبح غلبتها هى ((الأمر الواقع)) الذى لا تحتاج مسايرته إلى شىء من الجهد، ولا التعرض للأخطار

هذه الفئات بأنواعها الثلاثة، توجد فى كل مجتمع، وقد كانت موجودة فى مجتمع الرسول (صلى الله عليه وسلم): فالفئة الأولى يمثلها مجتمع المدينة الذى آمن إيماناً صادقاً وجند نفسه للدعوة، مهتدياً ومقتدياً بالقاعدة الصلبة التى تأسست من المهاجرين والأنصار. وهى الفئة التى أشارت إليها الآية الكريمة : ((والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم))(التوبة : 1..)

ويدخل فيهم الأعراب الذين آمنوا بصدق، والذين أشارت إليهم الآية السابقة : ((ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله فى رحمته إن الله غفور رحيم))(التوبة : 99)

والفئة الثانية هى التى تألفها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالعطايا وبالمنح، وبالتقريب منه (صلى الله عليه وسلم) ، والتى أشارت إليها الآية الكريمة : (( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم))(التوبة : 6.)

أما الفئة الثالثة فيمثلها مسلمة الفتح، الذين أسلموا لما تقررت غلبة الإسلام فى فتح مكة، مع أنهم كانوا يعرفون أن الحق مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولكنهم يقولون، كما حكى عنهم القرآن الكريم : ((وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا))(القصص : 57) .. فلما صار الهدى هو الممكن فى الأرض اتبعوه، ودخلوا فى دين الله أفواجاً كما جاء فى سورة النصر: ((إذا جاء نصر الله والفتح(1) ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجاً(2) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً))(سورة النصر)

وذلك بخلاف المنافقين الذين يظهرون بعد استتباب السلطان، والذين يكونون قبل ذلك بين المتفرجين المنتظرين، ولكن على كره للأمر، وعدم رغبة فى الدخول فيه، أو من المعارضين الذين يجبنون عن المواجهة الصريحة، فينافقون خوفاً وجبناً .

إذا كانت هذه فئات المجتمع – كل المجتمع – فلأى هذه الفئات نوجه الدعوة فى المرحلة الأولى من توسيع القاعدة؟ إننا نظرياً نوجه الدعوة لكل الناس، ولكننا فى حقيقة الأمر نتوقع الاستجابة من فريق معين من الناس، فنركز عليه الدعوة، أو نعتقد أن اعتزاز الدعوة وتمكنها سيكون على يد فريق معين من الناس، فنركز الدعوة عليه .

فإذا تتبعنا مسيرة الجماعة الأولى – جماعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) - نجد أن الدعوة منذ أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالجهر بها، قد وجهت لكل الناس، ولكن التركيز – بعد الهجرة – كان واقعاً على أهل المدينة، الذين سارعوا إلى الاستجابة، والذين قام عليه الصلاة والسلام بتربيتهم بمعاونة القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار، الذين صاروا الآن هم الدعاة وهم الموجهين، وهم المربين، تحت إشراف المربى الأعظم (صلى الله عليه وسلم). وأهل المدينة هؤلاء هم الذين جاهدوا وثبتوا وصبروا على تكاليف الجهاد، وكانوا – مع المهاجرين والأنصار – هم الركيزة الحقيقية للدعوة فى كل أطوارها المقبلة، بينما تأخر التوجه إلى الفئتين الأخريين إلى مرحلة تالية وهذا هو الأمر المنطقى مع سير الدعوة، ومع حقيقة المعركة، وطبيعة الصراع .

إن الصراع بين الحق والباطل لابد أن يقع - سنة من سنن الله – منذ اللحظة التى يوجد فيها للحق رجال يؤمنون به ويعملون على نشره وتمكينه فى الأرض. فالجاهلية لا يمكن – بحال من الأحوال – أن تصير على دعوة الحق، ولا أن تهادنها، ولو لم تتعرض لها الدعوة على الإطلاق : ((وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين (87) قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن فى ملتنا))(الأعراف : 87-88).

هكذا! لا مهادنة، ولا صبر حتى يحكم الله بما يشاء! وإنما عدوان وإخراج، ومطاردة وإيذاء! فمن الذى يستجيب للدعوة فى المراحل الأولى من ذلك الصراع الذى يدور بين الحق والباطل؟ أيستجيب الذين يبحثون عن المصالح الدنيوية، ويحسبون حساب الأرباح والخسائر بمقياس تلك المصالح؟ أيستجيب الذين يناقدون بطبيعة تركيبهم النفسى للأمر الواقع، ولو عرفوا ما فيه من السوء، ولا يتجهون إلى الأمر الذى يجب أن يقع، ولو عرفوا أنه خير من واقعهم الذى يعيشون فيه، لأنه يحتاج فى تحقيقه إلى جهد، وهم لا يحبون بذل الجهد ويعرضهم للأخطار، وهم لا يحبون أن يتعرضوا للأخطار؟!

إنما يستجيب فى المراحل الأولى من الصراع، الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر .. الذين يحسبون الكسب والخسارة بالميزان الربانى، لا بالميزان الأرضى الذى تزن به الجاهلية، ولا تعرف ميزاناً سواه :

((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنلزنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط))(الحديد : 25)).

الميزان الذى يقول: متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى: ((قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً))(النساء : 77).

الميزان الذى يقول : إن كل ما فى الأرض من متاع ومصالح وروابط لا يعدل حب الله ورسوله والجهاد فى سبيله : ((قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين))(التوبة : 24).

الميزان الذى يقول : إن الباقيات الصالحات خير من كل زينة الحياة الدنيا : ((المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً))(الكهف: 46).

والذى يقول: إن التجارة الرابحة – التى تنجى من عذاب الله – هى الإيمان بالله ورسوله والجهاد فى سبيل الله : ((يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم(1.) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون(11) يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ومساكن طيبة فى جنات عدن ذلك الفوز العظيم(12) وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين))(الصف : 1.-13)

والمراحل الأولى من الدعوة هى مراحل البذل والفداء، ولذلك لا يصلح لها الذين يبحثون عن مكاسب الأرض، سواء المال والثروة والمتاع الحسى، أو الوجاهة والبروز والأتباع والأنصار هؤلاء لا يصلحون مؤسسين فى القاعدة الصلبة، ولا تتسع بهم القاعدة حين يأتى أوان التوسيع!


إذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر فينبغى أن نجعل فى بالنا عدة أمور، سواء بالنسبة للقاعدة الصلبة، أو القاعدة الموسعة، بل حتى بالنسبة للجماهير العريضة التى تدخل أفواجاً فى النهاية، فهؤلاء أيضاً لابد أن يصحح لهم إسلامهم، ولا يتركون بلا ضابط كما تفعل الجاهلية المعاصرة ((برجل الشارع))، تسلبه كيانه الآدمى، وتوهمه فى الوقت ذاته أنه أحد العمد التى يقوم عليها النظام!

ليس فى الإسلام ((رجل الشارع)) ، ولا ((امرأة شارع))، إنما هناك مسلمون ومسلمات ملتزمون كلهم – أو يجب أن يكونوا ملتزمين – بالحد الأدنى على الأقل، الذى يجعلهم فى ميزان الله مسلمين، وتلك فى الدولة الإسلامية مهمة ولى الأمر، فمن التزم من تلقاء نفسه فقد وفى بما يجب عليه تجاه ربه، ومن لم يلتزم السلطان كما قال عثمان رضى الله عنه: ((يزع الله بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن))

ومن ثم فكل الناس داخل فى مجال الدعوة، ولكن خطوة بعد خطوة، كما كان الشأن مع الجماعة الأولى، حسب السنن الربانية التى تتكرر كلما تكررت ظروفها ومقتضياتها


إذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر فسنجد الأمة – إلا ما رحم ربك – فى حالة (الغثاء) التى وصفها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل أربعة عشر قرناً، حين قال : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))، قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن فى قلوبكم الوهن)). قالوا : وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت))


فإذا كان هذا حال الأمة التى توجه إليها الدعوة، سواء لإقامة القاعدة الصلبة، أو القاعدة الموسعة، أو لعامة الناس، فيجب أن نتعرف على الأسباب التى أدت بالأمة إلى هذا الوضع، لكى نصف العلاج الناجع، كما يفعل الطبيب حين يستدعى لعلاج المريض، يفحصه أولاً ليعرف حقيقة مرضه، ثم يصف الدواء.

ولا يحسبن أحد – بادئ ذى بدء – أن القاعدة الصلبة التى تقع عليها مهام الدعوة قد أنزلت من السماء، مبرأة من العيوب! كلا إنها جزء من هذه الأمة تعيش نفس ظروفها، وتتعرض لذات أمراضها. ولكن إذا كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول : ((خياركم فى الجاهلية خياركم فى الإسلام إذا فقهوا)).. فلنقل: إنه فى الجاهلية الجزئية التى قال ابن تيمية رحمه الله إنها توجد فى كثير من أقطار الإسلام، يوجد ((خيار)) يمكن بالجهد اللازم الذى يبذلونه فى ذوات أنفسهم أن يشكلوا نواة للحركة، ثم ((خيار)) آخرون يمكن بالجهد اللازم كذلك أن يشكلوا القاعدة الموسعة التى تتكون حول النواة وتقتدى بها، ثم يأتى بعد ذلك دور عامة الناس، فيكون منهم خيار بقدر من الله يستجيبون ويلتزمون، وآخرون يزعهم السلطان إذا لم يزعهم القرآن.

والآن فلننظر فى أحوال هذا الجيل الذى توجه إليه الدعوة.. ما الذى أوصله إلى حالة الغثاء التى يعيش فيها، ليتبين لنا من أين نبدأ علاجه، وليتبين لنا كذلك الخطوات اللازمة للعلاج .

هناك أمراض كثيرة فى الحقيقة أصابت الأمة فى مسيرتها التاريخية، بعضها جاء من داخلها، وبعضها جاء من قبل أعدائها. وقد يكون من الصعب إحصاؤها تفصيلاً، ولكنا نزعم أن هناك أمراضاً بارزة لا تخطئها عين الفاحص .

من أبرز هذه الأمراض الفكر الإرجائى، الذى يقول إن الإيمان هو التصديق القلبى والإقرار باللسان، وإن العمل ليس داخلا فى مسمى الإيمان!

فأما أن التصديق القلبى والإقرار باللسان لازمان لإثبات الإيمان فأمر لا خلاف عليه، وأما أن العمل لا يدخل فى مسمى الإيمان فبدعة خطيرة، وانحراف شديد عن حقيقة هذا الدين، الذى قام – وما يمكن أن يقوم – بغير عمل وجهد ضخم، يبذل فى واقع الأرض، وما كان يمكن أن تزول غربة الإسلام التى كان فيها أول مرة بمجرد التصديق والإقرار، بل لا يمكن أن يقوم أى نظام فى الأرض فضلاً عن أفضل النظم كافة، بمجرد التصديق والإقرار، بل لا يمكن أن يقوم أى نظام فى الأرض فضلاً عن أفضل النظم كافة، بمجرد التصديق والإقرار، إن لم يبذل عمل معين لتحويل هذا التصديق القلبى والإقرار اللسانى إلى واقع مشهود!

وأيا كانت الأسباب التاريخية التى أدت إلى تفشى الفكر الإرجائى، فقد أحدث مفاسد عظيمة فى بنية الأمة منذ أخذت تتفلت من التكاليف، ثم يوهمها الفكر الإرجائى أنه لا بأس عليها من هذا التفلت، ما دام قلبها عامراً بالإيمان! وتندرج الأمة فى التفلت حتى تقع فى الشرك الواضح الصريح، سواء شرك الاعتقاد أو شرك العبادة أو شرك الحاكمية، ثم يظل الفكر الإرجائى يوهم الناس أنهم ما زالوا بخير، وما زالوا مؤمنين!

ولنتخيل مدرسة يحضر إليها الطلاب للدراسة، ثم بعد حين يتفلتون من استذكار دروسهم، ثم يتفلتون حتى من حضور الدروس، ويقال لهم مع ذلك: لا بأس عليكم ما دام كان فى نيتكم أن تحضروا، وإنما تقاعستم عن الحضور كسلا لا جحوداً! وما دامت أسماؤكم ما زالت موجودة فى سجلات المدرسة ولم تطلبوا سحبها من السجلات!

هل يمكن إنجاز شىء فى واقع الأرض بهذه الروح المتقاعسة المتواكلة التى تعيش فى خدر الوهم وتحسب أنها على شىء حقيقى؟

فإن لم يكن يمكن أن يتم شىء على الإطلاق بهذه الروح، فهل يمكن أن يقوم الإسلام بالذات بمثل هذه الروح، وهو الذى نزل ليكون حركة شاملة تشمل الحياة كلها بجميع جوانبها وجميع مجالاتها، وتشمل الأرض كلها، والبشرية كلها، بقدر ما يصل الجهد، وبقدر ما قدر الله فى سابق علمه؟

هل يمكن إزالة الفتنة التى هى عقائد فاسدة ونظم فاسدة وجيوش تحمى العقائد والنظم الفاسدة، بمجرد التصديق والإقرار؟ هل يمكن إزالة الفتنة التى تقع على البشر فى الجاهلية، بسبب الجاهلية ذاتها، بغير جهاد فى واقع الأرض : ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله))(الأنفال : 39)


إن هذا المرض بالذات – مرض الإرجاء – إن أصاب أية أمة من أمم الأرض، فما كان ينبغى أن يصيب أمة الإسلام، التى أخرجت للريادة، والشهادة على كل البشرية : ((وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا الكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس))(الحج : 78)


ثم جاء الفكر الصوفى على خط مواز للفكر الإرجائى، وإن كان على نحو آخر .

الفكر الإرجائى أخرج العمل كله من مسمى الإيمان، أما الفكر الصوفى فقد ركز على نوع واحد من العمل، وأخرج سائر أنواعه من مستلزمات الإيمان. ركز على العبادة بمعناها الضيق المحصور فى الشعائر التعبدية والذكر، وأهمل من أنواع العبادة عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والجهاد فى سبيل الله، وكلها منصوص عليه نصاً واضحاً فى كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) : ((الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور))(الحج : 41) . ((فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة))(النساء : 74). ((وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين(141) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين))(آل عمران : 141 – 142). ((هو الذى جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور))(الملك:15) . ((هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها))(هود : 61)

إن الذكر مطلوب، ولا عبادة بغير ذكر، ولكن الذكر الذى وصفه الله فى كتابه، ووصف به الصحابة رضوان الله عليهم فى قوله تعالى: ((الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم))(آل عمران : 191) . شىء آخر مختلف عن هذا الذكر الذى ابتدعته الصوفية، وحصرت العبادة فيه، وزعمت أنه هو الذى يوصل إلى رضوان الله، فضلاً عما وقع فى عقيدة الاتحاد والحلول ووحدة الوجود من شرك صريح .

وأيا كانت الأسباب التى أدت إلى تفشى الفكر الصوفى، وجعلته فى وقت من الأوقات هو مدخل العامة الوحيد إلى الدين أو مدخلهم الرئيسى إليه، فقد أحدث هذا الفكر مفاسد كثيرة فى بنية الأمة، ليس أقلها التواكل، وترك الأخذ بالأسباب، وإهمال عمارة الأرض، والانحراف فى عقيدة القضاء والقدر، وعدم إحساس الإنسان بمسئوليته عن خطئه حين يخطئ، والانصراف عن الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والفصل بين الدنيا والآخرة، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة فى حس المسلم، وإفساد التوازن الدقيق الجميل الذى يحدثه الإسلام الصحيح فى النفس، فيجعل الإنسان يعمل بجهده كله فى واقع الأرض، وقلبه معلق بالله واليوم الآخر، أو بعبارة أخرى التوازن الدقيق بين عالم الغيب وعالم الشهادة


ثم كان انحصار الإسلام فى عالم الفرد بمفرده وترك ((الأمور العامة)) التى كلف الله بها الجماعة المسلمة من الأمراض التى أصابت الأمة فى مسيرتها التاريخية الطويلة

إن هذا الدين لم ينزل فقط لإصلاح الأفراد، كل فرد بمفرده، وإن كان هذا هو الأساس الذى لا يقوم بدونه بنيان، ولكن إصلاح كل فرد بمفرده لا ينشئ بذاته مجتمعاً صالحاً كما قد يخيل للإنسان لأول وهلة، فلو تخيلت بناءً كل لبنة فيه سليمة بذاتها، ولكن ليس فيه الملاط الذى يربط اللبنات بعضها ببعض، فلن يكون بناء حقيقياً يصمد للهزات وما أكثرها فى حياة الأمم بل الأفراد، بل لا يصمد للريح، وما أكثر الرياح العواتى!

ولقد ركز هذا الدين تركيزاً واضحاً على الجماعة المسلمة بل على الأمة المسلمة المترابطة المتماسكة المتراصة، لا فى العواطف الوجدانية فحسب، بل فى العمل والتكاليف كذلك ،وكثير من الخطاب الموجه للمؤمنين، الذى يبدأ بقوله تعالى ((يأيها الذين آمنوا ..)) لا يقصد به الأفراد فحسب، كل فرد بمفرده، ولكن يقصد به الجماعة مجتمعة ومشتركة فى المسئولية:" ((يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء))(المائدة : 51). (يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى اللهب بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم(54) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون))(المائدة : 54-56). ((يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أن تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا))(النساء : 135) . ((لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين))(آل عمران:28). (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون))(آل عمران : 1.4). ((وأمرهم شورى بينهم (الشورى: 38) . ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله))(التوبة : 71) . ((إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص))(الصف:4).

((مثل القائم فى حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا فى مكاننا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً))

((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته))

هذه وغيرها من أمثالها كثير تؤكد المسئولية الجماعية للأمة، التى لا يغنى فيها أن يكون كل فرد قد قام بواجبه الفردى تجاه الله سبحانه وتعالى من ذكر وتقوى وخشوع وأداء للفرائض من صلاة وزكاة وصيام وحج، وإن كان هذا كله لازماً ولا غنى عنه، ولكنه – كما قلنا- لا يقيم بذاته أمة متماسكة عاملة بهذا الدين، فهذا الدين على صورته التى أنزلها الله، وللأهداف التى أرادها الله منه، لا يقوم به أفراد متفرقون ولو كان كل واحد منهم على طهارة القديسيين فى خاصة نفسه، وهو فرض لا يتحقق فى واقع الأرض ما دام البشر بشراً، تدفعهم دوافع شتى، وتضطرب فى نفوسهم شتى الانفعالات والرغبات والشهوات، وما دام الله قد جعل فى كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، ما لم يردعهم رادع: ((وكذلك جعلنا فى كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون))(الأنعام : 123).

وحتى لو كان وجود أكابر المجرمين خاصاً بالجاهلية ولا يقع فى الإسلام، فإن ((القرية العالمية)) التى يزعم الزاعمون أن العالم قد صار إليها بفعل وسائل الاتصال مملوءة بأكابر المجرمين الذين يكيدون للإسلام ويتربصون بأهله، فهل قيام الأفراد – حتى لو قاموا كلهم – بالصلاة والزكاة والصوم والحج، والخشوع والتقوى فى ذوات أنفسهم، يمكن أن يرد كيد أكابر المجرمين، ويرد الفتنة الوافدة على المسلمين من الجاهلية؟ أم يحتاج هذا إلى أمة متماسكة مترابطة قائمة بمسئوليتها الجماعية، عاملة بمقتضى تلك المسئولية، التى يحمل فيها كل فرد نصيبه، والتى لا تتماسك مترابطة قائمة بمسئوليتها الجماعية، عاملة بمقتضى تلك المسئولية، التى يحمل فيها كل فرد نصيبه، والتى لا تتماسك حقاً إذا قال كل فرد فيها: نفسى نفسى، ونكل عن مسئوليته تجاه المجموع .

وهل كان رسول الله يربى أصحابه فرداً فرداً ثم يقيمهم كل فى عالمه الخاص، ويقول له : كن فى نفسك ولا شأن لك بغيرك؟ أم كان يربى كل فرد منهم ليكون لبنة متماسكة مترابطة مع غيرها من اللبنات فى كيان متحد، فيضع فى كل لبنة ذلك الملاط الذى يجعلها تلتصق بغيرها، وتكون على استعداد أن يلتصق غيرها بها ملاط المشاعر المترابطة، والمسئولية المشتركة، وهما صنوان لا يغنى أحدهما عن الآخر .

التكافل مفروض على كل قادر ليقوم فيه بنصيبه، ولكن عائده ينصب إيجاباً وسلبا على مجموع الأمة، فتكون أمة مترابطة متحابة إن قامت به، أو طوائف يحقد بعضها على بعض إن نكلت عنه والجهاد مفروض على كل قادر ليقوم فيه بنصيبه ولكن عائده يعود إيجاباً وسلباً على مجموع الأمة، فتبقى وتتمكن أو يأكلها أعداؤها. والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مفروض على كل قادر ليقوم فيه بنصيبه، ولكن عائده يعود إيجاباً وسلباً على مجموع الأمة، فتكون أمة خيرة أو أمة ملعونة: خيرة إن أمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وملعونة إن نكلت عن واجبها: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله))(آل عمران: 11.) ((لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون(78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون))(المائدة : 78-79)

وأياً كانت الأسباب التى أدت إلى تفشى هذه الروح الفردية الناكلة عن التكاليف الجماعية، وعن الشعور بالمسئولية تجاه المجموع، فقد احدثت هذه الروح مفاسد عظيمة فى كيان الأمة، ليس أقلها التخلى عن واجب النصح للحكام، وهو واجب جعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جزءاً من الدين، بل قال عليه الصلاة والسلام على سبيل التأكيد: ((الدين النصيحة)) قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ورسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وخاصتهم)). وترك الاشتغال بالسياسة، وترك شأن الحكم للحاكم، إن كان عادلاً فهو الخير من عند الله والبركة، وإن كان مستبداً فلا ناصح له من الأمة يرده عن استبداده وظلمه، وإنما يتحلق حوله المنافقون يزينون له كل عمل بعمله، ولا تصل إلى أذنيه صيحة حق، وإن وصلت قام المنافقون حوله بإيغار صدره عليها وعلى قائلها! وليس أقلها فشل كل مشروع يحتاج إلى تعاون جماعى يقوم كل فرد فيه بنصيبه مع الآخرين، وليس أقلها روح التخريب فى الممتلكات العامة والمرافق العامة والمال العام .


ومن الأمراض التى أصابت الأمة كذلك : الفوضى والارتجال والنفس القصير وكلها – فيما أزعم – من أمراض البيئة التى جاء الإسلام فقومها وسددها، بتعويد الناس على النظام، والتفكر والتدبر قبل العمل، وفى أثناء العمل، والنفس الطويل الذى لا يفتر بعد الخطوات الأولى المتحمسة

لقد كان حريصاً أشد الحرص على هذه الأمور، ولم يكن يعتبرها أموراً ثانوية أو هامشية تجئ أو لا تجئ. فقد كان يعلم، وهو النبى الملهم، أنه لا يقوم بناء حقيقى، ولا يستمر راسخاً إذا كانت هذه الآفات تعتوره

جاء على لسان الصحابة رضوان الله عليهم: ((كان رسول الله يصفنا للصلاة كما يصفنا للقتال)).. وذلك إلى جانب الأمر بالخشوع والسكينة. والخشوع فى الصلاة هو عنصرها الروحى الذى يوثق الصلة بين العبد وربه، والدعوة إليه أمر بدهى، ولكن النبى الملهم كان يعلم أنه لا بد نمن عنصر آخر فى بناء الأمة، إلى جانب الصلة الوثيقة بالله، وهو النظام، والنظام عادة نفسية على المصلين يسوى الصف بيده، ولا يبدأ الصلاة حتى يستقيم الصف تماماً، إشعاراً منه بأهمية النظام

ومن الواضح أن النظام جزء لا يتجزأ من هذا الدين، فالصلاة نظام وانضباط، سواء فى تحديد الوقت أو انتظام الصف، أو فى متابعة المصلين للإمام فى الركوع والسجود والقيام، والصيام له نظام ومواقيت، والزكاة لها نظام ومواقيت، والحج له نظام ومواقيت فضلاً عن انتظام الصفوف فى القتال .

وأما العفوية والارتجال فقد تكون من آفات البيئة، ولكن الإسلام قاومها وقومها، بلفت النظر إلى السنن الربانية التى لا تتبدل ولا تتحول، وبالدعوة إلى التدبر والتفكر والتثبت فى الأمور كلها، ولفت النظر إلى مآلات الأعمال، وعدم الاكتفاء بالنظر فى كون العمل مباحاً فى ذاته أو غير مباح، فقد يكون الأمر من المباح بل من المستحب، ولكنه يمنع لما يترتب عليه من نتائج، كما أمر تعالى بعدم سب الأصنام حين ترتب عليه تجرؤ المشركين على سب الله سبحانه وتعالى : ((ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم))(الأنعام: 1.8)

وكما امتنع الرسول عن قتل عبد الله بن أبى، المنافق البين النفاق، لكى لا يتحدث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه، وهم يومئذ إما قد دخلوا الإسلام ولم يرسخ إيمانهم بعد، وإما واقفون يترقبون ولما يسلموا، وانتشار هذه المقالة بينهم يومئذ يعطل الدعوة ويثبط المترددين!

وأما النفس القصير، وفتور الهمة بعد الحماس المشتعل، فقد يكون كذلك من آفات البيئة، ولكن الإسلام عالجه علاجاً رائعاً من كل أطرافه، فمن جهة وجه أنظارهم وأفئدتهم إلى هدف يتجاوز الحياة الدنيا كلها، والأرض كلها، والزمن كله، ويصل إلى بعد لا يدانيه بعد، وهو اليوم الآخر، وما فيه من بعث ونشور، وحساب وجزاء، وجنة ونار .. فوصل العاجلة بالآجلة، وجعل العمل فى العاجلة هو وسيلة الوصول الآمن إلى الآجلة، وليس وراء ذلك بعد تعمل من أجله النفوس ، ولا مدى تتطلع إليه، وتثابر على القيام بمتطلباته، لأن أى فتور فى الطريق قد يقطع الطريق!

ومن جهة أخرى أعطى الرسول (صلى الله عليه وسلم) القدوة والمثل فى المثابرة والدأب ومواصلة العمل بجهاده الذى لا يفتر، واستمراره فى الدعوة فى أحلك الظروف وأصعبها، وعدم الركون إلى اليأس أو التقاعس أو الهمود، فى الوقت الذى كانت الظروف كلها تدعو إلى اليأس والتقاعس والهمود .

ومن جهة ثالثة وجه الصحابة رضوان الله عليهم، والأمة من ورائهم، إلى الدأب والمثابرة، ولو بدت الثمرة بعيدة المنال، فقال لهم (صلى الله عليه وسلم) : ((إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فلغرسها)). وحثهم على مداومة العمل ولو بالقليل دون انقطاع، وكان دائم الاستعاذة من العجز والكسل وكان من نتائج هذه التوجيهات كلها فى الكتاب والسنة فى حياة الأمة المسلمة استمرار الدعوة إلى الله قروناً بعد قرون، واستمرار الجهاد فى سبيل الله قروناً بعد قرون، وحضارة شامخة وحركة علمية ضخمة استمرت فى واقع الأرض عدة قرون .

وأياً كانت الأسباب التى أدت إلى انحسار الروح الدافعة فى حياة المسلمين، وعودتهم إلى طبيعة الفوضى التى تكره النظام، والعفوية التى تكره التخطيط، وقصر النفس الذى يشتعل بسرعة وينطفئ بسرعة، فقد أدت هذه الأمراض إلى مفاسد عظيمة فى كيان الأمة، ليس أقلها من يطلق عليه فى لغة العصر ((التخلف الحضارى))، وليس أقلها موت كثير من المشروعات النافعة قبل أن تؤتى ثمارها، وليس أقلها تبلد الحس على كثير من الأمراض العقدية والفكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية، وعدم التحرك الجاد لتغييرها، وكلها من المنكر الذى أمر الله ورسوله بتغييره، وأنذر الأمة، إذا لم تقم بتغييره، أن يعمها الله بعقاب

  • * *

وحين تجمعت هذه الأمراض كلها فى كيان الأمة حدث أمران عظيمان مما أخبر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : غربة الإسلام، وتداعى الأمم على الأمة الإسلامية .

عاد الإسلام غريباً كما بدأ، فكل مفاهيمه لم تعد هى التى أنزلت من عند الله .

فأما لا إله إلا الله فقد صارت كلمة تنطق باللسان، والقلب غافل عن دلالتها والسلوك مناقض لمقتضياتها، وأما العبادة فقد انحصرت فى الشعائر التعبدية، وهذه ذاتها صارت إلى أداء تقليدى خاو من الروح، ثم صارت إلى تقاعس وتكاسل حتى عن أدائها، والاكتفاء بالنية الطيبة تجاهها .

وأما عقيدة القضاء والقدر فقد انقلبت تواكلاً سلبياً بدل التوكل الصحيح مع العزيمة والأخذ بالأسباب، وانقلبت تبريراً لكل ما يقع من خطأ وقصور وخطايا بأنها كلها من قضاء الله وقدره!

وأما الدنيا والآخرة فقد انفصلتا فى حس الناس فأصبح العمل من أجل الدنيا إهمالاً للآخرة، والعمل من أجل الآخرة إهمالاً للحياة الدنيا ولعمارة الأرض .

وأما مفهوم الجهاد فقد ظل ينحسر وينحسر حتى صار للدفاع فحسب، ثم أصبح تقاعساً حتى عن الدفاع، وهروباً من مقتضاته .

وأما مفهوم التربية فقد صار تعويداً على طقوس وتقاليد، لا ينشئ روحاً مبدعة ولا همة عالية .

وأما مفهوم الصبر والتقوى فقد أصبح سلبية خانعة ترضى بالذل، ولا تتحرك لإزالته .

وعندما حدث هذا الخلل الهائل فى مفاهيم الإسلام حدث ((التخلف)) فى جميع الميادين: التخلف العسكرى، والتخلف السياسى، والتخلف العلمى، والتخلف الفكرى، والتخلف الاقتصادى، والتخلف الاجتماعى، والتخلف الأخلاقى.. وكل أنواع التخلف التى تخطر على البال، لأن العمل المتدفق فى كل هذه الميادين كان يستمد فى فترة التمكين من ذلك المنبع الضخم: من العقيدة الصحيحة فى الله واليوم الآخر .

فلما جف النبع فى قلوب الناس – إلا من رحم ربك – لم يعد هناك ما يغذى العمل فى النفوس: ((ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب))

عندئذ تداعت الأمم على الأمة التى أصبحت كغثاء السيل

جاء الأعداء المتربصون الذين قال الله فيهم : ((ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم))(البقرة : 12.). ((ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا))(البقرة: 217)

جاءوا وقفى تخطيطهم أن يقضوا على هذا الدين قضاء كاملاً فى هذه المرة، وليس مجرد أن يكسروا شوكته ويتغلبوا عليه

وربما لم يكن هذا الهدف جديداً فى ذاته، فقد كان هو الذى حرك هرقل فى أول التاريخ لمحاولة وأد هذا الدين قبل أن يستفحل أمره وكان هو الذى حرك الحروب الصليبية فى عصور أوروبا الوسطى وهو الذى يحركهم اليوم، ولكن ربما كان الجديد فى الهجمة الصليبية المعاصرة – التى بدأت فى الواقع بعد طرد المسلمين من الأندلس – أنهم جاءوا وهم أكثر اقتناعاً بإمكان تحقيق هدفهم هذه المرة، لما رأوه من الأمراض المتفشية فى كيان الأمة، ولما استحدثوه من أسلحة الصراع، سواء منها الحربى أو السياسى أو الاقتصادى، وأخطرها جميعاً ما نسميه ((الغزو الفكرى)) الذى يسعى إلى اقتلاع العقدية من القلوب، وهو ما نصحهم به لويس التاسع بعد خروجه من سجنه فى المنصورة وعودته إلى قومه يقول لهم : إن أردتم التغلب على المسلمين فلا تعتمدوا على السلاح وحده، فقد رأيتم نتيجة الاعتماد على السلاح، ولكن قاتلوهم فى عقيدتهم، فهى مكمن القوة فيهم، ومكمن الخطر علينا.. وذلك فضلاً عن دخول اليهود بكيدهم كله فى حلبة الصراع، من أجل إنشاء إسرائيل .

ولقد قام الغزو الفكرى بما لم يستطع أن يقوم به سلاح آخر مما استخدم من قبل مع المسلمين

هزم المسلمون أكثر من مرة فى التاريخ، ولكن الهزيمة العسكرية لم تؤثر فيهم ولم تجعلهم يتخلون عن عقيدتهم أو يستبدلون بها غيرها

هزموا أمام الصليبيين، وهزموا أمام التتار، ولكن النداء الربانى كان يملأ قلوبهم: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين))(آل عمران: 139) ((وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين(146) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين(147) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين))(آل عمران: 146-148)

كانوا مؤمنين، وكانت المعركة فى حسهم جهاداً فى سبيل الله.. فما لبثوا أن تجمعوا بعد تفرق، وعزموا بعد وهن، واستعدوا بعد تفريط، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة .

وحتى فى عمق الهزيمة لم يخطر فى بالهم قط أن أعداءهم خير منهم، فأعداؤهم كفار وهم مؤمنون، وموطن الاستعلاء هو الإيمان بصرف النظر عن النصر أو الهزيمة فى ميدان القتال .

أما فى هذه المرة فلم يكن هناك استعلاء بالإيمان، بل كانت الهزيمة الروحية أمام الأعداء، فتمكن الغزو الفكرى بصورة لا تخطر على البال .

وفى خلال قرن واحد، بل فى خلال نصف قرن فى بعض الأحيان، تبدلت الأمة تبدلاً كاملاً كأن لم تكن فى يوم من الأيام هى أمة الإسلام!

تبدل مصدر التلقى، لم يعد هو الإسلام، لم يعد هو الله ورسوله، إنما صارت ((الحضارة الأوروبية) هى المصدر، وهى المثال المطلوب استيعابه والصيرورة إليه .. لم يعد هناك صدى فى النفوس لقوله تعالى : ((أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون))(المائدة:5.) بل صار وصف ((الحضارة)) الغربية بأنها جاهلية يعتبر كفراً فى نظر المستعبدين للغرب، الذين أكل الغز الفكرى قلوبهم وأصبح حجاب المرأة المسلمة هو السجن والظلام، وانطلاقها عارية فى الطريق هو التقدم والتحرر، وأصبح الإلحاد والكفر والسخرية بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) هو عنوان ((حرية الفكر))، وأصبح الانسلاخ من الإسلام والانتماء إلى الغرب رتبة ونيشاناً يتباهى به العبيد

ثم دخلت ((المذاهب الفكرية)): الوطنية والقومية والعلمانية والاشتراكية والديمقراطية.. إلخ. لتكون البديل الفكرى من الإسلام من جهة، ولتمزق هذه الأمة مزقاً متفرقة من جهة أخرى، ليسهل على العدو التقامها وابتلاعها بعد أن تعذر عليه ازدرادها وهى موحدة تحت رباط الإسلام، حتى وإن لم تكن وحدة سياسية كاملة بالمعنى الصحيح .

حضيض لم تصل إليه الأمة الإسلامية فى تاريخها كله، ولكنه منطقى مع غثاء السيل، لا يتوقع لها سواه


هذا الواقع هو الذى واجهته – وتواجهه – الصحوة الإسلامية

أما الصحوة ذاتها فهى قدر الله الغالب فوق كيد الأعداء كله، وتدبيرهم للقضاء على الإسلام: ((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون))(يوسف: 21)

لم يكن أحد يتوقع الصحوة، لا من الأعداء ولا من المسلمين أنفسهم!

أما الأعداء فقد كانوا ينتظرون وفاة الرجل المريض، كما كانوا يسمون الخلافة العثمانية فى آخر عهدها، لينقضوا على تركته، يمزقونها إرباً إرباً، ويقضون بذلك القضاء الأخير على الإسلام .

وأما المسلمون فقد كان اليأس والاستسلام للأمر الواقع قد سيطر على كثير منهم، فعادت أقصى أمانيهم أن يتخلصوا ولو تخلصاً جزئياً من قبضة العدو الخانقة، وأن يدعهم العدو يعيشون ولو فى ذيل القافلة وأنفهم فى الرغام

ولكن قدر الله الغالب، ووعده الدائم أن يبعث فى هذه الأمة من يجدد لها أمر دينها، قد جاء بالصحوة رغم كل الكيد، وكل التخطيط .

ونحن نستبشر بقدر الله، ونطمئن إلى وعده الكريم بأن يظهر هذا الدين على الدين كله. ونحن على يقين بأن المستقبل للإسلام: ((هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون))(الصف : 9)

ولكن الذى نناقشه هنا هو أسلوب العمل الذى يجب أن تنتهجه الصحوة، فإنه لابد من عمل يعمله البشر ليتم قدر الله، لا عجزاً من الله سبحانه أن ينفذ قدره، ولكن لأن سنته قد اقتضت أن يكون هناك بشر يعملون، يكونون ستاراً لقدر الله : ((ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض))(محمد : 4). ((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم))(الرعد:11).

فما طريق العمل؟

تخطر فى بال العاملين عدة وسائل وعدة أساليب، نحب هنا أن نستعرضها، لنعرف ما لها وما عليها، ولنتدارس معاً أيها أجدى نفعاً، وأنسب لأحوال الأمة التى وصفناها من قبل: الوعظ. التربية الروحية. الشحن العاطفى. التوعية الفكرية. التربية الجهادية

ونقول بادئ ذى بدء: إن كل الوسائل مطلوبة ولا غنى عنها، ولكن الذى نناقشه هو مدى جدوى أى منها حين تستخدم بمفردها، لا على أنها وسيلة من الوسائل ولكن على أنها هى الوسيلة وهى المنهج وهى الطريق

ونبدأ بالوعظ، لأنه وسيلة ذات إغراء شديد عند كثير من الناس! ويعتقد الواعظ أنه بمقدار ما يكون هو متحمساً لموعظته، مؤمناً بها، منمقاً لألفاظها، بارعاً فى صياغتها، يكون تأثيرها فى نفوس المستمعين، وهو وهم يكذبه الواقع!

كم طناً من المواعظ يلقى فى العالم الإسلامى كله من المحيط إلى المحيط يوم الجمعة من كل أسبوع، وكم غيرت من واقع المسلمين فى العالم الإسلامى كله من المحيط إلى المحيط؟!

إذا قلت لا شىء : فهل تعدو الحقيقة؟!

إن استخدام الموعظة فى الدعوة أمر ربانى: ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة))(النحل : 125)

ولكن الله لم يقل إن الموعظة وحدها هى الوسيلة للدعوة، ولم يقل إنها حين تستخدم وحدها تؤتى ثمارها! إنما المنهج الربانى: أنه يرسل بالموعظة رسولاً يكون هو بذاته القدوة للناس لكى يستوعبوا الموعظة أولاً ثم يطبقوا مقتضاها بعد ذلك :

((كان خلقه القرآن)) هكذا وصفت عائشة رضى الله عنها خلق رسول الله .

فلم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مجرد خطيب يقف على المنبر ليعظ الناس، إنما كان قبل ذلك مربياً بالقدوة فى شخصه الكريم، وكانت الموعظة وسيلة من وسائله لتوصيل الدعوة للناس.. بل إنه (صلى الله عليه وسلم) هو الذى قال الصحابة رضوان الله عليهم إنه كان يتخولهم بالموعظة، أى بين الحين والحين، مخافة السآمة! السآمة من أى شىء؟ من موعظته ، وفى نفوس من؟ فى نفوس الصحابة رضوان الله عليهم، الذين كانوا يلتقطون كل كلمة يقولها بالإقبال والرغبة والحب، ليقينهم أنها طريقهم إلى الجنة! فكيف بنا نحن البشر العاديين حين تكون كل بضاعتنا هى الوعظ و ((الإرشاد))!

وهل يصلح الوعظ والإرشاد وحده على فرض تقبل الناس له وعدم سآمتهم منه، وهو فرض غير صحيح، هل يصلح وحده لمعالجة شىء من تلك الأمراض التى أشرنا إليها آنفاً، والتى توغلت فى كيان الأمة قبل الغزو الأخير وبعده؟ هل يصلح لمعالجة الفكر الإرجائى الذى أخرج العمل من مسمى الإيمان، وأوهم الناس قرون طويلة أنهم يمكن أن يكونوا مؤمنين ولو لم يعملوا عملاً واحداً من أعمال الإسلام؟ هل هؤلاء يمكن أن ينقلهم الوعظ – وحده – إلى العمل بمقتضى الإيمان، بما يتضمنه العمل من بذل الجهد وتحمل المشقة وتحمل المسئولية، والالتزام والانضباط؟!

لو كان هذا ممكناً فلماذا لم يحدث بالفعل، ونحن ما قصرنا فى إلقاء المواعظ فى كل يوم جمعة، وفى مناسبات إثر مناسبات، وفى الإذاعة وفى التلفاز؟

وهل يصلح – وحده – لإخراج من غرق فى الصوفية، وفى التبرك بالأضرحة والعتبات، والاعتقاد بقدرة الأولياء على كشف الغيب، وعمل المعجزات التى يسمونها كرامات؟ هل يصلح وحده لإخراج هؤلاء مما غرقوا فيه من انحرافات؟!

وهل يصلح لتغيير ما درج الناس عليه من الفوضى التى تكره النظام، والعفوية التى تكره التخطيط، وقصر النفس الذى يشتعل بسرعة وينطفئ بسرعة؟

وهل يصلح لتغيير ما درج عليه الموظفون من إهمال الأعمال والتسويف فى إنجازها، واستحلال الراتب على مجرد الحضور فى الميعاد أو بعد الميعاد، والانصراف فى الميعاد أو قبل الميعاد؟ وتغيير ما درج عليه العمال من الغبش والتدليس فى العمل، وعدم الإخلاص فى أدائه ما لم يكن عليهم رقيب عتيد يحصى عليهم أعمالهم، مع استحلال الأجر المقدر للعمل الكامل الذى لا نقص فيه؟ وتغيير ما درج عليه الناس من خلف الوعد وعدم التقيد به، وعدم الشعور بالتأثم من إخلافه لا لبضع دقائق ولكن أحياناً لبضع ساعات أو بضعة أيام أو بضعة أسابيع؟ وأحياناً إلى نهاية الحياة!

وهل وهل وهل ؟!

يقول الوعاظ: وماذا نملك غير الوعظ؟ نحن نقوم بواجبنا، وإنك لا تهدى من أحببت، والهداية من الله !

الهداية من الله نعم! ولكن الله وضع منهجاً للدعوة، قوامه القدوة والتربية، ومن وسائله الوعظ مع القدوة والتربية، وعندئذ تعطى الموعظة ثمارها بإذن الله .

ولا نقول مع ذلك إن الموعظة وحدها لا تؤتى ثمارها أبداً، حاشا لله! وإنما نقول إنها وحدها إن صلحت فى أحوال نادرة فى إصلاح أفراد، فإنها لا تصلح لإصلاح أمة بلغ الفساد فيها مبلغه، ولا تصلح لإقامة دعوة تريد أن تعبد بناء أمة وصلت إلى درجة الغثاء!


التربية الروحية ضرورة لا غنى عنها فى البناء .. بل لا يتصور أن يقوم بدونها عمل دعوى على الإطلاق، إذا عنينا بالتربية الروحية تعميق الصلة بالله، وترقيق القلب لعبادته سبحانه، وتذكير الإنسان باليوم الآخر، وربط مشاعره بالموقف الذى يلقى الله فيه .. وقد كان هذا جزءاً بارزاً وأساسياً من عمل الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى تربية أصحابه رضوان الله عليهم فى مكة خاصة، حين فرض عليهم قيام الليل لتعميق هذه الصلة وتثبيتها وترسيخها.. ولكن هذا كله كان إعداداً لأمر آخر، ولم يكن هو فى ذاته الغاية!

والمتأمل فى سورة المزمل: يتبين أنه مع الأمر بقيام الليل كانت هناك إشارة واضحة إلى تكاليف قادمة، جعل قيام الليل توطئة لها، وإعداداً للقيام بها : ((يأيها المزمل(1) قم الليل إلا قليلا(2) نصفه أو انقص منه قليلا(3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً(4) إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلاً))(المزمل: 1-5)

كما يتبين المتأمل حكمة الله جل وعلا فى اختيار قيام الليل ليكون أداة للتهيئة المطلوبة: ((إن ناشئة الليل هى أشد وطئاً وأقوم قيلاً))(المزمل : 6)، أى أعمق أثراً فى تهيئة النفوس لاحتمال التكاليف .

وخلاصة الأمر أنه لابد من تعميق الصلة بالله سبحانه وتعالى ليقوم الإنسان بحمل التكاليف التى يفرضها هذا الدين على الوجه الأكمل، وأخصها الجهاد، والصبر على الابتلاء.. أما حين تكون التربية الروحية غاية فى ذاتها، أو حين تكون هى نهاية الشوط فى عملية التربية فماذا يكون؟! يكون – والتشبيه مع فارق قليل- كالجندى الذى تدربه على فنون القتال، وليس فى نيتك أن ترسله إلى المعركة قط! أو كالأساس الذى تدكه دكا متيناً وليس فى نيتك أن تقيم عليه أى بناء!

إن هذا الدين شأنه عظيم إنه المنهج الربانى لإصلاح الحياة كلها، وإنشاء الإنسان الصالح، الذى يقوم بالخلافة الراشدة فى الأرض.. إنه ليس مجرد سيحات روحية وإشراقات، مهما يكن من عمق هذه السبحات، ووضاءة تلك الإشراقات.. إنه حهد وجهاد، وصراع حاد مع الباطل، وإيجابية بناءة تهدم الباطل وتشيد الحق والتربية الروحية زاد لهذا كله، وليست هى غاية الغايات .

إن الإنسان فى حلبة الصراع يجهد ويتعب، ويحتاج إلى سند يقويه، يمنعه من السقوط، ويمنع عنه الوهن الذى قد يعتريه، وهنا تبرز تلك الطاقة الروحية تقيه من الوهن، وتقويه على الصمود، بما تمده من طاقة، وتشع فى كيانه من نور .

والإنسان فى حلبة الصراع قد يستوحش، حين يتكاثر عليه الأعداء، ويجد نفسه وحده، أو يجد من حوله مستضعفين مثله لا يملكون نصره، وهنا تبرز تلك الطاقة الروحية تؤنسه بذكر الله فلا يستوحش، وتذكره بالثمرة الجنية فى اليوم الآخر فيجد فى السعى .

والإنسان فى حلبة الصراع قد يفتقد المتاع الحسى، والأهل والأصحاب، والفراش الوثير، والطعام الوفير، فتحن نفسه لذلك كله، أو لشىء منه، فيثاقل إلى الأرض، وهنا تبرز الطاقة الروحية توازن فى حسه ثقلة الأرض، وتعوضه عن حرمانه بمتاع أعله: معية الله، ورضوان الله، والجنة .

إنها الزاد الذى يحتاج إليه المسافر ليقطع الرحلة فى أمان فأما إن كان قاعداً لا يتحرك فما قيمة الزاد !

هل تغير التربية الروحية – وحدها – من واقع الأمة الهابط إلى الحضيض؟

حقاً إنها تنقذ أفراداً من الضياع القاتل، وتبنى لهم سياجاً يحميهم من المهلكات، ولكنها لا تنقذ الأمة من ا لضياع لأنها لا تدفع بجنود إلى حلبة الصراع، ولا تشارك فى التدافع الذى قال الله إنه هو الأداة الربانية لحفظ الأرض من الفساد : ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين))(البقرة : 251)


الشحن العاطفى مطلوب فى الدعوة مطلوب أن يتحمس الناس لما يؤمنون به، ولا يكونوا كالخشب المسندة، لا تتحرك ولا تحدث حركة، فالدعوة لا تنتشر بأمثال هؤلاء ولو كانوا هم أنفسهم مستجيبين وملتزمين .. ولكن الحماسة وحدها لا تؤدى إلى شىء، وقد تضر أكثر مما تنفع! فالحماسة كثيراً ما تكون على حساب الوعى، وعلى حساب العلم الصحيح، وعلى حساب الخبرة، وهنا تفقد كثيراً من مزاياها، وتنشأ عنها أضراراً كثيرة، خاصة إذا انقلبت إلى عصبية لشخص أو لجماعة أو لحزب أو لفكرة أو لمذهب، فإنها عندئذ تغلق على صاحبها منافذ المعرفة النافعة، وتبث فيه العناد واللدد فى الخصومة، وتدفعه إلى المراء المذموم .

وكثير مما يجرى فى الساحة اليوم من تفرق وتشرذم وتخاصم وتنابذ منشؤه حماسة زائدة عن الحد، لشىء يعتقد صاحبه أنه الحق كل الحق، وأن ما عداه باطل كامل البطلان!


التوعية الفكرية من ألزم اللوازم للدعوة فى كل وقت، وفى وقتنا الحاضر هذا أكثر من كل الأوقات، فالغبش الذى أحاط بالإسلام وحقائقه فى نفوس الناس فى الغربة الثانية للإسلام غبش كثيف شامل، يحتاج إلى توعية شاملة بحقائق الإسلام ومفاهيمه، بدءاً بمفهوم لا إله إلا الله، وتوعية مركزة بمقتضيات لا إله إلا الله، ونواقض لا إله إلا الله، ومقتضياتها، ونواقضها، وإن كانت التوعية مطلوبة بالنسبة لكل المفاهيم على السواء مفهوم العبادة، ومفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الدنيا والآخرة، ومفهوم عمارة الأرض، ومفهوم التربية، ومفهوم الجهاد والتوعية مطلوبة كذلك لمعرفة واقع الأمة والأسباب التى أدت إليه، فبغير هذه المعرفة لا نستطيع وضع المنهج المناسب للدعوة، ولا وسائل العلاج، وكثير من أحوال الأمة لا يدركه كثير من الناس على حقيقته، وإن عرفوا عموماً أن الأمة منحرفة عن الصورة الصحيحة، وعزوا ذلك عموماً إلى البعد عن حقيقة الإسلام، ولكن مدى البعد يخفى على كثيرين، وخطورة الانحراف لا يقدرها حق قدرها كثيرون!

والتوعية مطلوبة مرة أخرى لمعرفة مكائد الأعداء ومخططاتهم للقضاء على الإسلام. وكثير من الناس – من الدعاة أنفسهم – لا يتابعون ما يحدث على الساحة، وما يجد من مؤامرات، اعتماداً على معرفتهم العامة بأن اليهود والنصارى أعداء، وأنهم لن يكفوا عن الكيد للإسلام! وهذا وحده لا يكفى! وكثير مما تستدرج إليه الجماعات الإسلامية من المواقف التى لا تخدم الدعوة سببه هذا الجهل بما يدبره الأعداء من صنوف الكيد، بينما الأعداء – بوسائلهم – يعرفون كل ما يسره الإسلاميون وما يعلنونه، ويتابعونه متابعة دقيقة كل ما يدور فى العالم الإسلامى من حركات وأفكار، فيخططون على علم، ونحن فقط نتلقى الضربات!

حقاً إن التوعية الفكرية من ألزم اللوازم للدعوة فى وقتها الحاضر، ولكنها وحدها – لا تؤدى إلى شىء حقيقى فى واقع الحركة، ما لم تكن زاداً لعقيدة صحيحة وحركة واعية، تزيدها المعرفة وعياً وتبصرها بمزالق الطريق، أما حين تتحول إلى ثقافة – مجرد ثقافة – فهى ترف عقلى لا يغير واقع النفوس .


التربية الجهادية من لوازم الحركة، فالنفوس الرخوة التى لا تقدر على تكاليف الجهاد لا تصلح لحمل الدعوة، ولا للتحرك فى وسط الأشواك، وفى مواجهة الوحوش الضارية التى تفتح أفواهها وتمد مخالبها لتنهش من تطوله من جنود الدعوة، وتفتك به بعد أن تذيقه العذاب الأليم .

ولكن التربية الجهادية – وحدها – لا تكفى لإقامة دعوة، بل لا تكفى حتى لحماية الدعوة من الأعداء، بل كثيراً ما تكون سبباً فى ضراوة الضرب من قبل الأعداء حين تنقصها الخبرة السياسية والخبرة الحركية، والوعى بحقيقة المعركة وحقيقة الأعداء، وحقيقة الجهد المطلوب للمواجهة، ونوع الجهد اللازم للصراع. وأخطر ما يقع من الحركات التى تعتمد التربية الجهادية وحدها، أو تركز عليها أكثر من متطلبات التربية الأخرى، أنها تسارع إلى الصدام – أن تستدرج إلى الدخول فى صدام – قبل أن تتضح للناس حقيقة القضية، قضية لا إله إلا الله، وقبل أن تستبين سبيل المجرمين كما فصل كتاب الله، فتتعرض الحركة للضرب المميت والناس يتفرجون، ويتاح للطغاة أن يضحكوا على ((الجماهير)) فيقولوا لهم: إننا لا نحارب الإسلام، وإنما نحارب الإرهاب!


من أجل ذلك كله نصر على التربية البطيئة الشاملة، التى تبدأ بإنشاء القاعدة الصلبة ثم تتوسع على مهل، ولو استغرق ذلك عدة أجيال!

إن مجموع الأمراض التى أصابت الأمة وحولتها إلى غثاء كغثاء السيل، ثم جلبت إليها الأعداء يتداعون عليها كما تتداعى الأكلة على قصعتها أخطر من تعالج علاجا سطحيا، بالوعظ أو التوجيه الروحى أو الشحن العاطفى أو التوعية الفكرية أو التربية الجهادية، إذا استعملت أى واحدة من هؤلاء بمفردها على أساس أنها علاج سريع ينقذ الأمة من واقعها، وينقلها من حال إلى حال .

لسنا بصدد ترميمات جزئية فى بناء قائم ولكننا بصدد تجديد الأساس لبناء كان قد أوشك على الانهيار، وكل ترميم يفقد قيمته ويفقد فائدته إذا لم يجر تجديد الأساس .

أساس هذا الدين لا إله إلا الله!

((ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء(24) تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون))(إبراهيم: 24-25)

وسؤال واحد، تحدد إجابته القضية تحديداً واضحاً حاسماً لا لبس فيه: هل الناس- إلا من رحم ربك- على وعى بحقيقة لا إله إلا الله؟

الجواب عندى واضح

إن كثيراً من الدعاة أنفسهم مازال لديهم غبش كثيف حول مقتضيات لا إله إلا الله، وبالذات حول نواقض لا إله إلا الله، لأنهم هم أنفسهم لم يتخلصوا بعد من آثار الفكر الإرجائى، الذى أخرج العمل من مسمى الإيمان

وكثير من الدعاة لم يدركوا بعد مشكلة((الجماهير)) الحقيقية، ومدى بعدهم عن حقيقة الإسلام،ومن أجل ذلك تعجلوا فى تجميعهم، وفى التحرك بهم، قبل أن تتضح لهم حقيقة القضية التى يدعون إليها، ويجمعون من أجلها!

من أجل ذلك نصر على أن نقطة البدء هى إنشاء القاعدة الصلبة على ذات المنهج الذى أنشأ به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قاعدته الصلبة، وإن كان من المستحيل أن تصل هذه إلى المستوى ذلك الجيل أما المنهج فشىء آخر المنهج ثابت لا يتغير، والتربية على أساسه واجب دائم لا تتغير، أياً كان المستوى الذى يصل إليه المربون والمتلقون، ولكل درجات مما عملوا

والدرس الأول فى بناء القاعدة الصلبة هو درس لا إله إلا الله، علماً بها، وتربية على مقتضياتها، لإعداد الدعاة الذين يوجهون القاعدة الموسعة، حين يأتى دور توجيه الدعوة إلى الجماهير


الواقع والمثال

من الواضح أن الواقع قد اختلف كثيراً عن المثال

وقد استعرضنا من قبل بعض أسباب هذا الاختلاف بين الواقع الذى حدث بالفعل، والمثال الذى كان يجب أن تسير عليه الأمور، وبعض النتائج التى ترتبت على ذلك الاختلاف

وهنا بعد أن فصلنا الحديث عن المنهج النبوى فى إنشاء القاعدة الصلبة، ثم توسيع القاعدة بمعاونة القاعدة الصلبة، تحت إشرافه (صلى الله عليه وسلم) ، نعود إلى شىء من التفصيل فيما حدث من افتراق بين الواقع والمثال


التعجل هو الطابع العام للتحرك الذى قامت به الصحوة الإسلامية منذ قيامها

هناك ابتداء تعجل فى إنشاء القاعدة ذاتها

لو كنا أخذنا منذ البدء فكرة صحيحة عن نوع الخلل الذى حدث فى بنية الأمة، والذى نشأ عنه ما نشأ من غربة الإسلام بين أهله، وتداعى الأعداء على الأمة من كل حدث وصوب.. وأخذنا فكرة صحيحة عن نوع الجهد المطلوب لإصلاح هذا الخلل الهائل فى بنية الأمة .. وأخذنا فكرة صحيحة عن الجهد الجبار الذى بذله الأعداء فى التخطيط والإعداد لمحاولة القضاء على الإسلام، فقد كنا جديرين أن نتمهل كثيراً فى الحركة، ولا نتعجل فى المسير .

هل كانت المواصفات المطلوبة فى القاعدة الصلبة واضحة فى أذهاننا حين بدأنا الدعوة؟ هل كان واضحاً فى أذهاننا أن توجيه الدعوة((للجماهير)) قبل إعداد القاعدة قد يعرضنا لموقف صعب، حين تتدفق الجماهير بالشحن العاطفى، ثم لا تجد موجهين ومربين، لأننا لم نعد بعد الموجهين والمربين الذين يمكن أن يستوعبوا تلك الجماهير؟ وهل كان واضحاً فى أذهاننا أن تجميع الجماهير بالشحن العاطفى دون تربية حقيقية تترتب عليه نتائج خطيرة فى سير الدعوة حين تنزعج السلطات المحلية والعالمية، فتغضب فتضرب، والناس على غير استعداد بعد للضرب، بل القاعدة ذاتها لم تعد إعداداً كافياً لتلقى الضربات؟

أعتقد من رؤية واقع المسيرة، أن هذه الأمور لم تكن واضحة بالقدر المطلوب،فالقاعدة ذاتها شكلت على عجل من الخامات الموجودة فى ذلك الحين. وحقاً إنه لا يمكن فى أى وقت أن تبدأ حركة إلا بالخامات الموجودة فى حينها، تلك بديهية. ولكن الخامات يجب أن تنتقى بعناية فائقة، ويجب أن تبذل عناية فائقة فى إعدادها، وتنقيتها من شوائبها، قبل أن تسند إليها مهمة العمل فى الدعوة، خاصة إذا كانت الدعوة تقوم فى مثل الغربة التى كان عليها الإسلام، وتواجه مثل العداوة التى واجهتها من الأعداء

ونحن الآن لا نوجه لوماً لأحد، وكل عمل فى سبيل الله مأجور بإذن الله، ولكنا نبين فقط مدى الفرق بين ما كان، وما يجب أن يكون .

ولا شك أن الداعية الأول- عليه من الله رحمة، وجزاه الله خيراً بما قدم- قد بذل جهداً واضحاً فى تنقية تلك الخامات من بعض ما كان عالقاً بالمجتمع كله من أوشاب، فأخرج من نفوسهم الانحصار فى الفردية الضيقة، ورباهم على روح جماعية متحابة متراصة متعاونة متكافلة، تربط بين أفردها أخوة الإسلام، وأخرجهم من الاشتغال بالعبادة الفردية المنحصرة فى شعائر التعبد، إلى العبادة بالمعنى الأوسع الذى يدخل فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإقامة مجتمع مسلم يحتكم إلى شريعة الله، كما رباهم على كثير من الأخلاقيات الفاضلة، وعلى الفدائية لدين الله .

ولكن واقع المسيرة يدلنا على نقص كبير فى الوعى السياسى والوعى الحركى وأخطر من ذلك نقص فى إدراك حقيقة القضية، وحقيقة الهدف الذى نسعى إليه .

لقد سعينا إلى تكوين قاعدة جماهيرية واسعة لنستعين بها على الوصول إلى الحكم على أساس أنه حين نصل إلى الحكم نطبق شريعة الله .

هدف مشروع فى ذاته، ودع عنك موقف الجاهلية التى تجعل من حق كل إنسان أن يسعى للوصول إلى الحكم إلا الإسلاميين! فهم وحدهم يصبحون مجرمين إذا سعوا للوصول إلى الحكم! دع عنك هذا فهو موقف معروف من الجاهلية تجاه دعوة الحق، منذ كانت جاهلية فى الأرض، ودعاة يدعون بدعوة الحق. ((شنشنة نعرفها من أخزم)) كما يقول المثل العربى المشهور! سواء جاء((أخزم)) من الشرق أو الغرب أو من داخل البلاد!

ولكن القضية ليست فى مشروعية الهدف إنما هى فى سؤال أساسى: هل مجرد تطبيق الشريعة يكفى لإصلاح حال الأمة التى وصلت لأن تكون غثاء كغثاء السيل، أم يحتاج الأمر إلى متطلبات أخرى قبل ذلك، وبعد ذلك وفى أثناء ذلك؟!

لو أن الداعية الأول- رحمه الله- أعلن للصفوة التى اختارها لتكون هيئة تأسيسية لجماعته ما أعلنه((للجماهير)) عام 1948م (أى بعد عشرين سنة من بدء الدعوة) لتغيرت أمور كثيرة فى خط السير! فى عام 1367هـ (1948م)، وتحت عنوان: ((معركة المصحف))، قال الإمام الشهيد: ((الإسلام دين ودولة ما فى ذلك شك، ومعنى هذا التعبير بالقول الواضح أن الإسلام شريعة ربانية جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية، وكلت حمياتها ونشرها والإشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها، وتبليغها للذين لا يؤمنوا بها إلى الدولة، أى إلى الحاكم الذى يرأس جماعة المسلمين ويحكم أمتهم، وإذا قصر الحاكم فى حماية هذه الأحكام لم يعد حاكماً مسلماً، وإذا أهملت شرائع الدولة هذه المهمة لم تعد دولة إسلامية وإذا رضيت الجماعة أو الأمة بهذا الإهمال ووافقت عليه لم تعد هى الأخرى إسلامية، مهما ادعت ذلك بلسانها وإن من شرائط الحاكم المسلم أن يكون هو نفسه متمسكاً بفرائض الإسلام، بعيداً عن محارم الله، غير مرتكب للكبائر، وهذا وحده لا يكفى فى اعتباره حاكماً مسلماً حتى تكون شرائط دولته ملزمة إياه بحماية أحكام الإسلام بين المسلمين، وتحديد موقف الدولة منهم بناء على موقفهم هم من دعوة الإسلام))

ترى لو كان أعلن ذلك منذ البدء، هل كانت ستتدفق الجماهير التى تجمعت حوله عن طريق الشحن العاطفى حتى بلغت نصف مليون، معظمهم من الشباب، فى شعب لم يكن يتجاوز تعداده يومئذ تسعة عشر مليوناً من البشر؟ بل هل كانت((الصفوة)) ذاتها تتجمع بمثل هذه السهولة التى تجمعت بها، منساقة بعواطفها نحو الهدف الكبير؟

لا أظن

ثم هل كانت ستتكون من نفس الأشخاص الذين تكونت منهم بالفعل أم من غيرهم؟

لا أدرى! ولا أحد يستطيع أن يقطع فى ذلك بيقين .

ولكن أيا كان الأشخاص الذين كانت القاعدة ستتكون منهم يومئذ، فقد كانوا سيكونون أصلب عوداً، وأكثر دراية، وأطول نفساً، وأقل تعجلاً مما كانوا بالفعل، فما كانوا سينساقون بعواطفهم، ولا كانوا سيعتقدون أن الهدف سهل المنال قريب التحصيل، فيجندوا أنفسهم وأعصابهم، كما فعل كثير منهم، لفترة محدودة من الزمن، يعتقدون أن كل شئ سيتم فى خلالها بما أعدوه من وسائل الوصول كانوا سيعلمون أن المشوار طويل طويل، وأن الجهد المطلوب غاية فى الضخامة، وأن الوسائل المطلوبة أكثر بكثير مما هو معد.. لأن المطلوب ليس مجرد ترميمات فى بناء قائم، ولكنه إعادة تثبيت الأساس.

أما الجماهير فما أظنها كانت ستقبل مع إعلان هذه المبادئ! فقد كانت ستعلم أنها قضية أخطر بكثير من مجرد الاستماع إلى الكلام المؤثر، والامتلاء العاطفى، الذى كانوا يسمونه((الروحانية))والمتعة بلقاء الأحباب، والنشوة بالكثرة التى تتكاثر على الدوام .

كانت ستعلم أنه صراع مع الجاهلية يعرض الإنسان لكثير من المخاطر، التى لا ينبغى((للعاقل!)) أن يعرض نفسه لها((وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا))(القصص: 57)

عندئذ كانت الحركة ستمضى بطيئة الخطى، ولكن على منهج أصح! كانت القاعدة الصلبة ستتكون فى بطء من رجال يختارون على مهل بعين فاحصة لا تختار إلا أصلح الخامات الموجودة، ثم يبذل فى إعدادهم الجهد اللازم ليكونوا نواة صالحة للعمل، بالتربية الروحية، والتربية الخلقية، والتربية الفكرية، والتربية النفسية، والتربية بالعلم الشرعى الصحيح، فى ظل المنهج الربانى العظيم: ((كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة))

وكانت القاعدة ستتوسع، حين يأتى أوان التوسع، بعد إعداد القاعدة الصلبة، بجنود جندوا أنفسهم للدعوة على بصيرة بحقيقة القضية ومتطلباتها، ووعى صحيح بحالة الأمة وما لحقها من الأمراض، وتقدير سليم لطبيعة العمل فى كل مرحلة من مراحل الحركة، وذلك قبل التوجه لعامة الجماهير لينظموا للدعوة وينضووا تحت لوائها .

وكان((العمل السياسى)) بمعنى الاشتغال بالقضايا الوطنية والقضايا الاجتماعية وما شاكلها، سيتأخر بعض الوقت، ريثما يتم التمكين الصحيح للأساس الصحيح، المتمثل فى العقيدة الصحيحة والتربية على مقتضياتها، فى محيط الذين استجابوا للدعوة، وجندوا لها أنفسهم (بما يقابل مجتمع المدينة فى جماعة الرسول ثم كان سيحدث الصراع! وهو أمر لا مفر من حدوثه حسب السنن الربانية التى قدرها الله فى حياة البشرية! وهو يبدأ دائماً من جانب الجاهلية حين تستشعر الخطر من مجود جماعة مؤمنة فى الأرض، ولو كانت قليلة العدد، ولو كانت من جانبها لا ترغب فى الدخول فى الصراع: ((إن هؤلاء لشر ذمة قليلون(54) وإنهم لنا لغائظون(55) وإنا لجميع حاذرون))(الشعراء: 54-56)

ولكن كان المتوقع أن يتأخر الصراع عن موعده الذى وقع فيه، بحيث يعطى فرصة أكبر لتربية القاعدة الصلبة، ثم تربية القاعدة الموسعة بالقدر المتاح من التربية، ثم إنه حين كان يقع على قوم كفوا أيديهم، ولم يعملوا شيئاً إلا أن يقولوا((ربنا الله))، فإن هذا كان سيعجل فى تنمية وعى((الجماهير)) بحقيقة القضية، فلا تلتبس فى ذهنهم بغيرها من القضايا التى تلبست بها بالفعل، وكان سيصعب على الطغاة تطويع الجماهير لهم من خلال القهر مرة ومن خلال وسائل الإعلام المزيفة مرة، حين تستبين سبيل المجرمين بتفصيل الآيات، على المنهج الربانى القويم، ويعرف الناس على أى أساس يقررون مواقفهم: ((وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين))(الأنعام: 55)


الذى حدث بالفعل كان على خلاف ذلك

تأخر الإعلان عشرين سنة كاملة عن موعده، وفى تلك السنوات كانت الجماهير كثيرة قد تدفقت على الحركة غير مستشعرة بما يحيطها من أخطار! واختلطت الدعوة، وهى لم تخلص بعد للا إلا إله إلا الله، بكثير من القضايا السياسية والقومية والاجتماعية، على ظن من القائمين بالدعوة أن هذا سيمكن للدعوة بتوسيع قاعدتها الشعبية، وأن الجماهير يجب أن تشرك فى الأمر، وذلك بتناول القضايا التى تشغل بال الجماهير فى ذلك الوقت، حتى كانت القنبلة التى فجرت الموقف كله فى فلسطين عام 1948م عندئذ بدأ الهجوم الوحشى على الحركة بأبشع صورة يمكن أن تخطر على البال

نعم كانت الحرب على الدعوة متوقعة، لأنها كما قلنا سنة من سنن الله، وكان الإمام الشهيد يقول لأعوانه وأتباعه: ((أحب أن أصار حكم أن دعوتكم لازالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيراً من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، كوفى هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات)) ولكن الصورة التى تمت بها الحرب لم تكن تخطر على البال .

وتوالت المذابح منذ ذلك الحين وما تزال

لقد انكشفت للغرب الصليبى موضع الخطر على وجه التحديد، إنه الإسلام السياسى الذى لا يقنع من الإسلام بشعائر التعبد ومشاعر القلوب، إنما يريد أن يكون منهجاً مطبقاً فى واقع الأرض، يحكم حياة الناس كلها : سياستها واقتصادها واجتماعها وفكرها وأخلاقها، وكل مجال من مجالاتها! وهل يوجد – فى نظر الغرب – أخطر من ذلك على وجه الأرض؟

لابد إذن من مكافحته لابد من تجنيد القوى كلها ضده لابد من متابعته ومطاردته لابد من تجفيف منابعه .. لابد من تشويه صورته حتى لا يقبل عليه الشباب فتزيد خطورته!

ولقد أشعل نار الحقد فى قلوب الصليبية الصهيونية أمران فى وقت واحد: الأول وقع المفاجأة على الصليبية التى كانت تتوقع بعد تخطيط مائتى عام أون أكثر أن تنجح فى القضاء على الإسلام، ففوجئت به يستيقظ من رقدته! والثانى تهيؤ اليهودية العالمية لإقامة دولتها على أرض الإسلام بعد سعيها الحثيث لإماتته، حتى تنشئ دولتها فى أمان من الأخطار، فإذا بها تفاجأ بالخطر وجهاً لوجه! وتلاقى الأمران معاً وتفاهما على ضرورة القضاء على عدوهما المشترك الخطير

هل كان يتوقع أن تنجو الحركة الإسلامية من عداوة الصليبية الصهيونية وكيدها، ومحاولة القضاء عليها؟

نعتقد أن ذلك محال!

ولكنا نعتقد مع ذلك أن صورة أخرى كانت قمينة أن تقع لو سارت الأمور على المنهج الصحيح، لو كانت ((الجماهير)) التى أشركت فى الصراع قبل الأوان على وعى بحقيقة القضية، وحقيقة الصراع! ولن تكون الجماهير على هذا الوعى حتى تكون قد تربت من قبل، ولن تتربى التربية المطلوبة حتى تكون القاعدة قد تم إنشاؤها على منهج سليم! وهكذا أدى النقص فى الحلقة الأولى إلى نقص متسلسل فى بقية الحلقات! ثم كان ما أشرنا إليه فى الفصول الأولى من ردود فعل للضربات الوحشية من قبل الأعداء، زادت من الغبش سواء فى القاعدة أو عند الجماهير، ونقصد بذلك دخول بعض فصائل العمل الإسلامى فى البرلمانات، وما صاحب ذلك من تمييع لقضية الشرعية، وقضية الإلزام فى تحكيم شريعة الله، ودخول فصائل أخرى فى صراع مسلح مع السلطات، مما أدى إلى تهميش القضية الأساسية، وتحول الأمر فى حس الناس إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب

ثم اشتطت فصائل أخرى من فصائل العمل الإسلامى فدخلت فى معارك دموية مع الناس.. مع ((الجماهير)) على أساس أنهم كفار يجوز قتلهم ما داموا لم يدخلوا فى ((الجماعة المسلمة))!

وكان لهذا الأمر أسوأ الأثر على العمل الإسلامى كله. ففضلا عن النفور العام عند الناس من هذه الأعمال التى لا سند لها من شرع الله، فقد وجدت وسائل الإعلام المتربصة بالحركة الإسلامية فرصة مواتية لتلوين الساحة كلها بلوم الدم المراق، مع أنه لا يمثل إلا جزءا ضئيلاً من الساحة، ووصمت كل عمل إسلامى أيا كان نوعه بأنه عمل إرهابى ينبغى أن يحارب وتجفف منابعه!

وما كانت وسائل الإعلام العالمية فى حاجة إلى من ينبهها أو يحفزها إلى انتهاز هذه الفرصة، فهى – بموقفها المعادى للإسلام أصلا – جاهزة لتلقف مثل هذه الفرصة واستغلالها إلى أقصى حدود الاستغلال! كما كان رد الفعل سيئاً بالنسبة للغبش الذى يحيط بقضية لا إله إلا الله، سواء بالنسبة للقاعدة أو بالنسبة للجماهير، فقد انبرى أصحاب الفكر الإرجائى ينافحون عن فكرهم بشدة، وينشرونه بكل وسائل النشر، بل وقع فى الدوامة ((علماء)) ممن يعتبرهم الناس من أهل الذكر الذين يرجع إليهم، فراحوا ينفون الوقوع فى الشرك عن الواقعين فيه بحرارة وبضراوة، ويمنحونهم شهادات موثقة بالإيمان!ن ويهونون فى حس الناس هذا الجرم الهائل فى حق الله، وهو الإعراض عن شريعته، وتحكيم الشرائع الجاهلية بدلا منها، على أنه مجرد معصية لا تستحق حتى أن يشار إليها بالإنكار! ولقد كان الأحرى أن تأخذ القضية مسيرة أطول على الخط التعليمى، تبدأ بالقاعدة ثم – على مهل- تتوسع بتوسع القاعدة، دون الدخول فى معركة مع ((الجماهير))

  • * *

ثم تشرذم العمل الإسلامى لأسباب متعددة .. منها غياب قيادة كبيرة تضم العمل الإسلامى وتوحده، أو فى القليل تقرب بين مختلف اتجاهاته، ووجوده قيادات صغيرة، كل منها يعتد بنفسه ورأيه، ويرى أنه وحده على صواب والكل غير مخطئون.

ومنها أن كثيراً من الشباب القائم بالدعوة لم ينشأ فى داخل تجمع يربى فيه روح الأخوة وترابطها، إنما تنشأ على ترابط فكرى هش، يسهل فسخه عند وقوع أى خلاف فى التفسير أو التأويل أو الفهم، فسرعان ما تنقسم الجماعات، وينقلب بعضها على بعض.

ومنها نقص فى العلم الشرعى الذى يشكل الضوابط الضرورية للفكر وللسلوك.

ومنها بطبيعة الحال، العمل الدائب من الأجهزة المعادية للإسلام، لتعميق الخلافات وتقطيع الروابط بين الناس.

هلى يرجى لهذا الحال إصلاح؟ هل يرجى من الذين تعجلوا فى شتى الاتجاهات أن يراجعوا المسيرة، ويصححوا ما وقعوا فيه من أخطاء، ويبدءوا من جديد على هدى من المنهج النبوى السديد؟

إن ما وقع بالفعل هو قدر من أقدار الله .. ولكنا تعلمنا من كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) أن الإيمان بقضاء الله وقدره لا ينفى مسئولية الإنسان عن خطئه حين يخطئ، ولا يمنعه من السعى إلى تصحيح ما أخطأ فيه.

فهل يرجى أن يصحح العمل الإسلامى مساراته، ويبدأ جولة جديدة أقرب إلى السداد؟!

إن تصحيح المسار واجب على كل حال .. ولكن ربما يقول قائل: إن الأعداء لن يتركوا العمل الإسلامى يصحح مساراته، وسيعاجلونه بالحرب قبل أن يتمكن من التصحيح، بل قد تكون من عوامل الشحذ، وزيادة الوعى عند الناس بحقيقة المعركة بين الجاهلية والإسلام.

ويظل واجب النصيحة واجباً فى جميع الأحوال: ((الدين النصيحة)) قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال : ((لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وخاصتهم)).

نظرة إلى المستقبل

ينزعج كثير من الناس حين ينظرون إلى الواقع الراهن، سواء بالنسبة للحرب الضارية التى توجه إلى الحركات الإسلامية فى كل الأرض، أو بالنسبة لما وقع – وما يزال يقع – من الاضطراب فى مسيرة الحركة من جهة أخرى، فيحسبون أن العمل الإسلامى ليس له مستقبل، وأن الواقع السيئ الذى يعيشه المسلمون اليوم سيستمر على ما فيه من السوء، أو أنه صائر إلى مزيد من السوء.

أما نحن فنعتقد اعتقاداً راسخاً أن المستقبل للإسلام.

ولسنا نبنى رؤيتنا على أوهام، ولا على أحلام، ولا نحن كذلك نغمض أعيننا عن العراقيل القائمة فى وجه العمل الإسلامى من داخله أو من خارجه، ولا نقلل من شأنها، ولا من تأثيرها على العمل الإسلامى.

ولكنا نؤمن إيماناً جازماً أن البشر ليسوا هم الذين يقدرون الأقدار، سواء منهم العدو أو الصديق، إنما الله هو الذى يقدر، وهو صاحب الأمر من قبل ومن بعد، ومشيئته هى النافذة، وقدرة هو الغالب: ((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون))(يوسف:21)

والله هو الذى قدر لهذا الدين أن يبقى فى الأرض وأن يظهر على الدين كله: ((هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون))(الصف: 9) ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار))

وقدر الله يجرى من خلال سننه التى لا تتبدل ولا تتحول ، ومن خلال وعده ووعيده، ومن خلال مشيئته الطليقة التى تقول للشىء كن فيكون، وتخلق الأسباب التى يتحقق بها كل شىء حين يقدر له أن يكون.


وإذا نظرنا إلى الموقف على ضوء السنن الربانية، وعلى ضوء وعد الله ووعيده، فسنجد على الساحة عنصرين متصارعين: الحركات الإسلامية من جهة، وأعداء الإسلام من صهيونيين وصليبيين وأعوان لهم من جهة أخرى. فما الذى يتوقع لكل من العنصرين فى المستقبل القريب أو المستقبل البعيد؟

فأما الحركات الإسلامية فقد أسهمت فى العمل الإسلامى بجهد واضح لا شك فيه. وانتشار الروح الإسلامية على مستوى العالم الإسلامى كله، والرغبة الحارة فى العودة إلى الإسلام فى محيط الشباب خاصة، راجعان بعد فضل الله ومشيئته إلى الجهد الذى بذلته الحركة فى أكثر من نصف قرن من الزمان، منذ سقوط الخلافة إلى الوقت الراهن.

ولكن السلبيات القائمة فى العمل الإسلامى معوق واضح يبدد كثيراً من طاقة العمل ويبعثره، ولا يجعل الجهد يؤتى ثماره المرجوة، فهل يستمر الوضع على هذا الحال؟

((قل لا يعلم من فى السموات والأرض الغيب إلا الله))(النمل: 65)

ولكن الأمر لا يخرج عن أحد احتمالين: إما أن يستمر الوضع على حاله، وإما أن يتغير.

ونحن نرجو – من خلال التجارب المرة التى يمر بها العمل الإسلامى – أن يتغير الوضع إلى الصورة الصحيحة، وأن تتلافى الأخطاء التى وقعت، وتبدأ مسيرة سليمة على منهج سليم.

ولكنا نفترض الفرض الأسوأ، وهو إصرار العاملين فى حقل الدعوة على مواقفهم، على اعتبار أن منهج كل منهم هو المنهج الأصوب، وأن ما يدعو إليه غيره بعيد عن الصواب، أو على أساس أنه لا يمكن التراجع بعدما مضت كل حركة فى طريقها خطوات ليست بالقليلة، أو على أى أساس آخر مما يمكن أن تبرر به كل حركة إصرارها على موقفها.

فماذا يحدث حينئذ؟ هل يعجزون الله؟ أم ينفذ الله قدره رضى الناس أم أبوا؟

إن أداة التغيير موجودة على الدوام فى سنة الله عز وجل: ((وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم))(محمد : 38)

فإذا كان قدر الله أن يبقى هذا الدين، وأن يظهره على الدين كله، كما أخبر سبحانه فى كتابه المنزل، وعلى لسان رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، فلن تقف سلبيات العمل الإسلامى الراهن أمام قدر الله ومشيئته، وسوف ينفذ الله وعده، ويخلق لنفاذه ما يشاء من الأسباب: ((إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شىء قدراً))(الطلاق:3). ((يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم))(المائدة : 54)

  • * *

أما الأعداء فلننظر ماذا يخصهم من سنن الله، ومن وعده ووعيده.

أما الغرب الصليبى، فأشد ما ينطبق عليه من السنن الربانية هو قوله تعالى: ((فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء))(الأنعام : 44) .. ذلك أنهم أرادوا الحياة الدنيا وعملوا من أجلها واجتهدوا فوفى الله لهم أعمالهم فيها بحسب سنة من سننه: ((من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون))(هود : 15) .. وذلك أيضاً حسب مشيئة إلهية مسبقة، أنه يعطى الدنيا للمؤمن والكافر على السواء، كل بحسب اجتهاده، ولا يمنعها عن الكفار، بل قد يزيدهم منها ليزدادوا كفراً : ((كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً))(الإسراء : 2.) . ((ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لأنفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين))(آل عمران : 178).

فإذا كان الغرب اليوم ممكنا فى الأرض، ومستعلياً فيها حسب هذه السنن الربانية، فإن هذه السنن ذاتها تقول إن ذلك الإملاء لا يدوم إلى الأبد، إنما هو موقوت بقدر يأتى من عند الله فى موعده المقدر له : ((فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون(44) فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين))(الأنعام : 44-45)

وعلى الرغم من فتح أبواب كل شىء عليهم فإنهم يعيشون فى الضنك الذى توعد الله به المعرضين عن ذكره.

((ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى))(طه:124)

والضنك الذى يعيشه الغرب – المفتوح عليه أبواب كل شىء من أسباب التمكين المادى – يتمثل الآن فى القلق والجنون والانتحار، والأمراض النفسية والعصبية، والخمر والمخدرات والجريمة، والإيدز، وما قد يجد من الأمراض التى لم تكن موجودة من قبل، أو لم تكن تأخذ صورة الوباء كما هى اليوم، وفى الأزمات التى تحيط بالعالم كله سواء كانت أزمات اقتصادية أو سياسية أو حربية أو فكرية أو خلاف ذلك وذلك لن باب البركة وباب الطمأنينة ليسا من الأبواب التى تفتح للكفار حين ينسون ما ذكروا به، لأنها خاصة بالمؤمنين، يتفضل بها الله عليهم فى الحياة الدنيا، فضلاً عن نعيم الآخرة : ((ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض))(الأعراف:96) . ((الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب(28) الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئاب))(الرعد : 28-29)

وخلاصة القول : إن الغرب اليوم يملك كل وسائل القوة المادية، ولكنه لا يملك القدرة على الاستمرار، لأنه خاو من العوامل التى يكتب الله لأصحابها الاستمرار، وهى الإيمان بالله واليوم الآخر، وعمل الصالحات.

ولا شك أن لديهم أعمالاً صالحة، كالخدمات الطبية، وتيسير سبل الحياة بما يوف جزءاً من المشقة التى يكابدها الإنسان فى الأرض، ولم تخل جاهلية من جاهليات التاريخ من أعمال صالحة يقوم بها بعض أفرادها، ولكن ذلك لا يمنع عنها صفة الجاهلية من جهة، لأن هذه لا تزول عن الإنسان إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر واتبع ما أنزل الله. ومن جهة أخرى فإن تلك النقط البيضاء المتناثرة فى الثوب الأسود الممتلئ بالشر، لا تغنى عن أصحابها شيئاً، ولا تمنع عنهم الدمار الذى تقرره السنن الربانية لهم مهما طال الإملاء لهم.

إن الإلحاد الذى تنشره الحضارة الغربية،ن والانحلال الخلقى الذى تنشره وسائل إعلامها، والخواء الروحى، والانغماس فى المتاع الحسى إلى آخر المدى، وتزيين الحياة الدنيا، ونسيان الآخرة نسياناً كاملاً، والغفلة عن أن الله يحصى على البشر أعمالهم ويحاسبهم عليها، كل هذا لا يصنع حضارة حقيقية يكتب الله لها الاستمرار فى الأرض، ولو أملى لأصحابها فترة من الزمان لحكمة يريدها.

ولسنا نحن الذين نقول ذلك إرضاءً لعواطفنا، أو تصديقاً لأحلامنا! فمن قبل سنوات قال برتراندرسل: ((لقد انتهت حضارة الرجل الأبيض، لأنه لم يعد لديه ما يعطيه))

ومن قبل قال ألكسيس كاريل: ((إن هذه الحضارة آيلة للانهيار))

وبالأمس شهدنا انهيار الشيوعية، وفى الوقت الحاضر تكتب الصحف الغربية – والأمريكية من بينها – تقول : هل بدأ انهيار أمريكا؟

ولسنا من السذاجة بحيث نعتقد أن ذلك سيتم غداً صباحاً! فما زال فى هذه الحضارة الجاهلية من العوامل ما يمكن أن يمد لها فترة من الزمن بحسب السنن الربانية: عبقرية التنظيم، والجلد على العمل، والحرص على الإتقان، والقدرة على التخطيط. فضلاً عن كون البديل الحضارى الذى يؤدى ظهوره إلى سرعة انهيار تلك الحضارة لم يظهر بعد !

ولكن هذا كله لا يغير المصير، لأنه سنة من سنن الله!

  • * *

أما اليهود فلهم شأن مختلف

لقد كتب الله عليهم الذلة والمسكنة بما قدمت أيديهم، ولكنه جعل لذلك استثناء.. أو استثناءات.

((وقضينا إلى بنى إسرائيل فى الكتاب فتفسدن فى الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيراً(4) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً(5) ثم رددنان لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً (6) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً(7) عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا))(الإسراء : 4-8)

((ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس))(آل عمران:112)

وهم الآن فى قمة استثناءاتهم التى وعدهم الله بها .. مسيطرون على كل الأرض إلا ما رحم ربك، يعينون رؤساء الجمهوريات، ويملون عليهم سياستهم، ويعزلون من يغضبون عليه ويسقطونه من سلطانه، ويقتلون من يقف فى طريقهم كما قتلوا كنيدى وغيره من الناس .. ولكن هذا كله استثناء من القاعدة!

((وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب))(الأعراف:167)

تلك هى القاعدة الدائمة، وما دون ذلك استثناء، والاستثناء بطبيعته لا يدوم، لأنه مخالف للقاعدة!

والقاعدة من تقدير الله سبحانه وتعالى، والاستثناء يتم بقدر بقدر منه كذلك، ولكن طبيعة الأمور أن الاستثناء ينتهى ويعود الأمر إلى ما تقرر فى القاعدة، حسب وعد الله ووعيده.

وقد لا نعلم نحن الحكمة الربانية فى تلك الاستثناءات المذكورة فى آيات الكتاب، ولكن وقوعها محقق سواء فهمنا حكمتها أم غابت الحكمة عن أفهامنا.. والمهم أن ندرك أنها استثناء من القاعدة، وأنها موقوتة بأمد محدود.

واليهود أنفسهم يعلمون ذلك! ويعلمونه من كتبهم ذاتها لا من المصادر الأجنبية عنهم!

وحين تنهار الجاهلية المعاصرة بمقتضى السنة الربانية، بحكم ما تشتمل عليه من الفساد، فإن البشرية تكون فى حاجة إلى البديل الذى يملأ الفراغ.

والإسلام هو البديل، هو الذى يعيد للأرض رشدها ويصلح أحوالها ويشفيها من أمراضها:

((يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين(15) يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم))(المائدة : 15-16)

الإسلام هو المنهج الكامل القويم الذى لا عوج فيه، ومناهج الجاهلية دائماً ذات نقص واعوجاج.

واليوم يفر مئات الألوف كل عام من الظلمات التى يعيشون فيها إلى نور الإسلام، لا اتباعاً لنموذج قائم، فالمسلمون فى واقعهم المعاصر لا يمثلون نموذجاً يحتذى، بل هو نموذج حرى أن يصد الناس عن الإسلام!

ولكن لذع الضياع يدفع بعض الناس إلى البحث عن طريق الخلاص، فيجدونه فى الإسلام!

إن الغرب الضائع يملك علماً وحضارة مادية فائقة، ولكنه يفتقد الروح.. الروح المهتدية إلى الله.. المهتدية بهدى الله. والإسلام هو الذى يملك تلك الروح، وهو فى الوقت ذاته لا يجعلها بديلاً من العلم والحضارة المادية، إنما هى التوأم المكمل:

((إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين(71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين))(ص : 71-72)

قبضة الطين ونفخة الروح معاً هما ((الإنسان)). الإنسان المتكامل المترابط المتوازن. الإنسان الراشد، الذى يقوم بعمارة الأرض على هدى وبصيرة، ويتطلع فى الوقت ذاته إلى اليوم الآخر، الذى تكتمل فيه الحياة :

((هو الذى جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور))(الملك:15)

((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا))(القصص: 77)

((وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم))(التوبة : 72)

الإسلام هو المنقذ الذى يملك ما تحتاج إليه البشرية وتتطلع إليه .

يقول الأمير تشارلس ولى عهد بريطانيا فى محاضرة قيمة ألقاها فى قاعة المؤتمرات بوزارة الخارجية البريطانية فى ديسمبر من عام 1966م، تحمل دلالة واضحة بالنسبة للمعنى الذى أشرنا إليه:

((إن المادية المعاصرة تفتقر إلى التوازن. وأضرار عواقبها بعيدة الأمد فى تزايد إن القرون الثلاثة الأخيرة شهدت – فى العالم الغربى على أقل تقدير – انقساما خطيرا فى طريقة رؤيتنا للعالم المحيط بنا. فقد حاول العلم بسط احتكاره، بل سطوته المستبدة، على طريقة فهمنا للعالم. وانفصل الدين والعلم عن بعضهما البعض، بحيث صرنا الان كما قال الشاعر ((وردزورث)) لا نرى إلا القليل فى أمنا الطبيعة التى نملكها))

لقد سعى العلم إى انتزاع الطبيعة من الخالق، فجزأ الكون إلى فرق، وأقصى ((المقدس)) إلى زاوية نائية ثانوية من ملكة الفهم عندنا، وأبعده عن وجودنا العملى. والآن فقط بدأنا نقدر العواقب المدمرة. ويبدو أننا نحن ك- أبناء العالم الغربى – قد فقدنا الإحساس بالمعنى الكلى لبيئتنا، وبمسئوليتنا إزاء الكون كله الذى خلقه الله، وقادنا ذلك إلى فشل ذريع فى تقدير أو إدراك التراث وحكمة السلف، ذلك التراث المتراكم على مدار القرون. والحق أن ثمة تحاملا شديدا على التراث، كما لو كان جذاما اجتماعياً منفرا.

وثمة الآن فى نظرى حاجة إلى مقابلة كلية شاملة. لقد أدى العلم لنا خدمة جليلة فى تبيانه لنا أن العالم أعقد بكثير مما كنا نتخيل. ولكن العلم فى شكله المادى الحديث، الأحادى، عاجز عن تفسير كل شىء. إن الخالق ليس ذلك الرياضى الذى تخيله نيوتن،ن وليس صانع الساعة الأول. إن انفصال العلم والتكنولوجيا عن القيم والموازين الأخلاقية والمقدسة قد بلغ حداً مريعاً مفزعاً. وهذا ما نراه فى التلاعب بالمورثات (الجنيات) أو فى عواقب الغطرسة العلمية التى تتجلى فى أبشع صورها فى مرض جنون الأبقار.

لقد كنت أستشعر دائماً أن التراث فى حياتنا ليس من صنع الإنسان، إنما هو إلهام فطرى وهبه الخالق لنا لإدراك إيقاع الطبيعة، والتناغم الجوهرى الذى ينشأ عن وحدة أضداد متفرقة، ماثلة فى كل مظهر من مظاهر الطبيعة. إن التراث يعكس النظام السرمدى للكون، ويشدنا إلى الوعى بالأسرار العظيمة للكون الفسيح، بحيث نستطيع – كما قال الشاعر ((وليم بليك)) – أن نرى كامل الكون فى ذرة، ونرى الأبدية فى لحظة.

إن الثقافة الإسلامية فى شكلها التراثى جاهدت للحفاظ على هذه الرؤية الروحية المتكاملة للعالم بطريقة لم نجدها نحن خلال الأجيال الأخيرة فى الغرب موائمة للتطبيق. وهناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من رؤية العالم الإسلامى فى هذا المضمار.

إننا – نحن أبناء الغرب – نحتاج إلى معلمين مسلمين ليعلمونا كيف نتعلم بقلوبنا كما نتعلم بعقولنا. وإن اقتراب الألف الثالثة قد يكون الحافز المثالى الذى يدفعنا لاستكشاف هذه الصلات وتحفيزها. وآمل ألا نفوت الفرصة السانحة لإعادة اكتشاف الجانب الروحى فى رؤيتنا لوجودنا بأجمعه))


الإسلام هو المنقذ، وهو البديل القادم بإذن الله!

وقدر الله غيب، ولكن له إرهاصات.

لو كان فى قدر الله أن ينتهى هذا الدين من الأرض، فقد كان الكيد الصليبى كفيلاً بالقضاء عليه يوم أطاح بالدولة العثمانية وألغى الخلافة، وظنت الصليبية الصهيونية يومئذ أنها ظفرت أخيراً بعدوها اللدود، وأجهزت عليه! ولكن قدر الله كان غير ذلك، كان هو الصحوة الإسلامية!

ولما جن جنون الصليبية الصهيونية من الصحوة، قاموا يضربونها بكل ما يملكون من وسائل البطش، بالسجن والتشريد والتعذيب والقتل، ظناً منهم أن هذا هو طريق الخلاص من العدو الذى لم تقتله الضربة التى ظنوها هى القاضية.. ولكن قدر الله كان غير ذلك، كان مزيداً من انتشار الصحوة فى كل الأرض!

والأرهاصات كلها تقول: إن الإسلام هو البديل القادم، الذى يصلح ما أفسدته الجاهلية فى الأرض!


الإسلام قادم من أى طريقيه جاء. الطريق الهادئ البطئ المتدرج، الذى نحبه ونرتضيه وندعو إليه، ولو استغرق تمامه عدة أجيال، أو الطريق الصاخب العنيف الذى تغذيه حماقات الغرب وحماقات إسرائيل!

إن الصليبية الصهيونية التى تسيطر على الأرض اليوم، تعمل بحماقة ضد مصالحها ! إنها – بعنف البطش الذى توجهه ضد الحركات الإسلامية – تولدت أجيالاً من العمل الإسلامى أصلب عوداً، وأطول نفسا، وأكثر وعياً، وأشد مراساً من الذين تحاربهم اليوم!

وعقلاؤهم يعرفون ذلك، ويحذرون قومهم منه، ولكن الحقد الذى فى قلوبهم يعميهم عن رؤية هذه الحقيقة، ويصم آذانهم عن الاستماع للنصيحة، ولو جاءت من عقلائهم أنفسهم!

ويتم ذلك بقدر من الله، وحسب سنة من سنن الله : ((وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال(45) وقد مكروا مكرهم))(إبراهيم : 45-46)

إن الانفجارات الكبرى فى التاريخ تحدث دائماً حين يشتد ضغط الطغاة على تيار صاعد! يشتد عليه الطغاة ليكبتوه، فيكون هذا الضغط ذاته هو الذى يولد الانفجار، ويكون الضحية فيه هم الطغاة

والذى تفعله الصليبية الصهيونية اليوم – بحماقة – هو هذا الضغط الذى يولد الانفجار.


وبضربة قدر واحدة تتم ثلاثة أمور فى وقت واحد

يتم أولاً عقاب الأمة الإسلامية على ما فرطت فى دين الله

لقد حمل الله هذه الأمة أمانة لم يحملها لأمة سابقة فى التاريه، حين كرمها بأن تكون أمة خاتم الأنبياء، وجعل فى حمل هذه الأمانة خيرية الأمة وفضلها على الأمم السابقة: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله))(آل عمران : 11.). ((وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً))(البقرة: 143)

ولكنها غفلت حيناً من الدهر، ونسيت رسالتها لا تجاه البشرية فحسب، بل تجاه نفسها كذلك .. عندئذ قدر الله لها أن تعاقب على يد أعدائها، كما أنذرها رسولها: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تدعى الأكلة إلى قصعتها)). قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : ((بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن فى قلوبكم الوهن)). قالوا : وما الوهن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم(حب الدنيا وكراهية الموت))

وفى الوقت الذى قدر الله فيه عقاب الأمة على يد أعدائها، مكن لهؤلاء الأعداء فى الأرض، حسب سنته فيمن نسوا ما ذكروا به وليتم بشأنهم قدر آخر هو التدمير فى الموعد المقدر عنه الله عقاباً لهم على إعراضهم وطغيانهم وتجبرهم، فضلاً عن القدر المقدر لهم يوم القيامة، والذى قال الله عنه : ((ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون))(النحل : 25) . ((ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لأنفسهم إنما لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين))(آل عمران : 178)

ويتم كذلك فى الوقت ذاته تمحيص المؤمنين : ((وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين))(آل عمران:141)

وكما تمت تربية موسى فى قصر فرعون بقدر من الله، يتم اليوم بقدر من الله مولد جيل جديد، جيل ما بعد الغثاء، على يد الأعداء الذين يكيدون لهذا الدين: ((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)))(يوسف:21)

  • * *

ولن يكون الأمر نزهة قريبة بالنسبة للمسلمين إنما هى تضحيات، ودماء ودموع، وعذاب ومعاناة، ولأواء وابتلاء، وجهد دائب لا يهدأ (( وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء))(آل عمران : 14.)

لابد من ثمن يدفعه المسلمون جزاء تفريطهم فى دين الله، ولابد من جهد يبذلونه ليعودوا إلى الطريق

ولكن عزاءهم، وهم يقدمون الشهداء، ويتحملون العذاب، ويبذلون الدماء والدموع، أنهم يجاهدون فى سبيل الله، لتكون كلمة الله هى العليا، وليكونوا هم ستاراً لقدر الله الذى سيمكن لهذا الدين

وعزاؤهم أن لهم فى الآخرة الجنة، ورضوان الله: ((وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم))(التوبة:72)