مالك بن نبي
مقدمة
يعد مالك بن نبى المفكر الجزائرى أحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية فى القرن العشرين ويعتبره المفكرين والباحثين امتداد للعلامة ابن خلدون ويعتبر مالك بن نبي ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملامح الفكر الإسلامي الحديث، خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها من المدارس الأخرى بدراسة مشكلات الأمة الإسلامية؛ انطلاقا من رؤية حضارية شاملة ومتكاملة.
فقد كانت جهوده لبناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسة المشكلات الحضارية عموما متميزة؛ سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو المناهج التي اعتمدها في ذلك التناول.
وكان بن نبى أول باحث حاول أن يحدد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، ويبعد في البحث عن العوارض.
وكان كذلك أول من أودع منهجا محددا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ".
حياته
- ولد في مدينة تبسة في الشرق الجزائري سنة 1905م ، في أسرة فقيرة بين مجتمع جزائري محافظ تخرج بعد سنوات الدراسة الأربع، في مدرسته التي اعتبرها "سجناً يعلّم فيه كتابة "صك زواج أو طلاق" وتخرج سنة 1925م.
- سافر بعدها مع أحد أصدقائه إلى فرنسا حيث كانت له تجربة فاشلة فعاد مجددا إلى مسقط رأسه. وبعد العودة بدأ تجارب جديدة في الاهتداء إلى عمل، كان أهمها، عمله في محكمة (آفلو) حيث وصل في (مارس 1927م)، احتك أثناء هذه الفترة بالفئات البسيطة من الشعب فبدأ عقله يتفتح على حالة بلاده.
- ثم أعاد الكرة سنة 1930م و لكن هذه كانت رحلة علمية. حاول أولا الالتحاق بمعهد الدراسات الشرقية، إلا أنه لم يكن يسمح للجزائريين أمثاله بمزاولة مثل هذه الدراسات. تركت هذه الممارسات تأثيرا في نفسه. فاضطّر للتعديل في أهدافه وغاياته، فالتحق بمدرسة (اللاسلكي) للتخرج كمساعد مهندس، ممّا يجعل موضوعه تقنياً خالصاً، بطابعه العلمي الصرف، على العكس من المجال القضائي والسياسي.
- ثم انغمس في الدراسة، وفي الحياة الفكرية، كما تزوج فرنسية واختار الإقامة في فرنسا وشرع يؤلف، في قضايا العالم الإسلامي كله، فكان سنة 1946 كتابه "الظاهرة القرآنية" ثم "شروط النهضة" 1948 الذي طرح فيه مفهوم القابلية للاستعمار و"وجهة العالم الإسلامي" 1954،أما كتابه " مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" فيعتبر من أهم ماكتب بالعربية في القرن العشرين.
- انتقل إلى القاهرة بعد إعلان الثورة المسلحة في الجزائر سنة 1954م وهناك حظي باحترام، فكتب "فكرة الإفريقية الآسيوية" 1956. وتشرع أعماله الجادة تتوالى، وبعد استقلال (الجزائر) عاد إلى الوطن، فعين مديراً للتعليم العالي الذي كان محصوراً في (جامعة الجزائر) المركزية، حتى استقال سنة 1967 متفرغاً للكتابة، بادئاً هذه المرحلة بكتابة مذكراته، بعنوان عام"مذكرات شاهد القرن".
فكره
مثلت مذكراته صورة عن نضال (مالك بن نبي) الشخصي في طلب العلم والمعرفة أولاً، والبحث في أسباب الهيمنة الأوروبية ونتائجها السلبية المختلفة وسياسة الاحتلال الفرنسي في الجزائر وآثاره، ممّا عكس صورة حية لسلوك المحتلين الفرنسيين أنفسهم في (الجزائر) ونتائج سياستهم، ووجوهها وآثارها المختلفة: الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعي.
الإستعمار والحركة الوطنية
ممّا عبر بشكل قوي عن صلته بوطنه، وآثار الاستعمار والدمار الذي أحدثه في (الجزائر) سياسياً، وزراعياً، واقتصادياً، وثقافياً، واجتماعياً، فهو شاهد على حقبة مظلمة في تاريخ الجزائر وظروف مواجهة الفعل الاستعماري العنصري، فكانت الشهادة قوية زاخرة، وستبقى من المناجم الثرية للباحثين في أكثر من مجال من مجالات الحياة المختلفة، وفي مقدمتها المجال الاجتماعي والثقافي والسياسي أولاً وأخيراً، حيث يسجل لنا مالك مواقف مختلفة في مسار الحركة الوطنية نفسها، مما خدم القضية الوطنية في (الجزائر) ومما خذلها منذ أصيب المجتمع بمرض (الكلام) بتعبير (مالك بن نبي) نفسه، بعد إخفاق (المؤتمر الإسلامي الجزائري) سنة (1936) إلى (باريس) في الحصول على مطالبه "ولا يستطيع أحد تقييم ما تكبدنا من خسائر جوهرية منذ استولى علينا مرض الكلام، منذ أصبح المجتمع سفينة تائهة بعد إخفاق المؤتمر" المؤتمر ذلك المشروع الذي قضى نحبه "في الرؤوس المثقفة: مطربشة كانت أم معممة" فكان ذلك عبرة للحركة الوطنية التي فصلت الخطاب فيها ثورة نوفمبر (1954-1962)، في ليل اللغط الحزبي البهيم؛ فكانت هذه الثورة (جهينة الجزائر) التي قادت إلى استقلال مضرج بالدماء والدموع.
علاقته بالثورة الجزائرية
وسرعان ما عمل العملاء والانتهازيون والوصوليون على اغتصابه، وتهميش الشرفاء الأطهار من صانعيه، وفي مقدمة هؤلاء الشرفاء رجال الفكر والرأي ومنهم (مالك بن نبي) الذي قضى يوم (31/10/1973)، في صمت معدماً، محاصراً منسياً، وهي سبة عار في جبين أولئك الديماغوجيين ومنهم (أشباه المجاهدين) الذين باعوا الوطن ـ مقايضة ـ على (طبق من ذهب) لعملاء الاستعمار، وبيادقه، وأحفاده انتماء، وهوى؛ ليمرغوا سمعته في الأوحال العفنة.
مؤلفاته
- الظاهرة القرآنية
- شروط النهضة
- فكرة كومنولث إسلامي
- مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي
- مشكلات الحضارة
- مذكرات شاهد للقرن
- القضايا الكبرى
- في مهب المعركة
- الصراع الفكري في البلاد المستعمرة
- دور المسلم ورسالته
- تأملات
- بين الرشاد والتيه
- مجالس دمشق
- وجهة العالم الإسلامي
- من أجل التغيير
- مشكلة الثقافة
- ميلاد مجتمع
- المسلم في عالم الاقتصاد
- فكرة الإفريقية الآسيوية
أهم رؤاه الفكرية
شروط النهضة عند مالك بن نبي
- لم يكن ابن نبي مفكرا إصلاحيا بالمعنى المتعارف عليه عند معظم من تناول مؤلفاته، بل كان في جوهره "شخص الفكرة"، كان بالأساس تعبيرا عن رؤية منهجية واضحة، ومفكرا معرفيا، أدرك أزمة الأمة الفكرية، ووضع مبضعه على أُس الداء، وهو بنيتها المعرفية والمنهجية، إنه -من دون شك- واحد من أهم رواد مدرسة "إسلامية المعرفة" وإصلاح مناهج الفكر، وإن مفاتيح مالك لا تزال تملك قدرة توليدية في مجال المفاهيم والمنابع والعمارة الحضارية بكل امتداداتها وتنوعاتها".
- لا غرابة أن نجد من الدارسين للفكر الإسلامي الحديث من يعتبر مالك بن نبي بمثابة ابن خلدون العصر الحديث، وأبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون، ومع أنه قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة تمثلا عميقا، واستلهم في أحايين كثيرة أعمال بعض الفلاسفة الغربيين فإن ابن خلدون بالذات يظل أستاذه الأول وملهمه الأكبر".
- ومالك نفسه لا يخفي تأثره بفكر ابن خلدون ونظرياته حول العمران البشري، بل أشار إلى ذلك في مواضع شتى من كتبه، كما ذكر ذلك في مذكرات حياته "شاهد القرن" .
- وهكذا ظهر "مالك بن نبي" وكأنه صدى لعلم ابن خلدون، يهمس في وعي الأمة بلغة القرن العشرين، فأظهر أمراض الأمة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات، ووضع الاستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته، ورصد أساليبه الخبيثة في السيطرة على الأمم المستضعفة، وخاصة المسلمين، ووضع لهم معادلات وقوانين "الإقلاع الحضاري"..
- ولكن الأمة لم تقلع حضاريا؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها ومؤسساتها، وإما لضعف المحرك المقرر أن يقلع بها، وإما لاجتماع السببين معا. ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلات والقوانين "نظريات" مفيدة للمحركين الذي يهتمون بانطلاق "المشروع الحضاري" للأمة.
مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي
- ينبني مفهوم الحضارة عند ابن نبي على اعتقاده الراسخ بأن "مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها".
- وانطلاقا من هذا الاعتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة "فقه" حركتها منذ انطلاقتها الأولى إلى أفولها يحاول ابن نبي إعطاء تعريف واسع للحضارة، يتحدد عنده في ضرورة "توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه".
- وعلى هذا فكل ما يوفره المجتمع لأبنائه من وسائل تثقيفية وضمانات أمنية، وحقوق ضرورية تمثل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه.
- ويتبين من خلال هذا أن مفهوم الحضارة عند ابن نبي شــديد الارتباط بحركة المجتمع وفاعلية أبنائه؛ سواء في صعوده في مدارج الرقي والازدهار، أو في انحطاطه وتخلفه، وبالتالي فلا بد من فهم عميق، و"فقه حضاري" نافذ لكل من يريد دراسة المجتمعات دراسة واعية وشاملة؛ لأن حركة المجتمعات الحضارية ظاهرة تخضع كغيرها من الظواهر الإنسانية "لسنن" و"قوانين" اجتماعية وتاريخية ثابتة، لا بد من الإحاطة بها، وإدراك كنهها لكل من يريد أن يعيد لأمته مجدها الحضاري، ويحقق لها ازدهارها المنشود. وهذا ما أكده بقوله: "إن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة أن نفكر في عناصرها تفكير الكيماوي في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه؛ فهو يحلل الماء تحليلا علميا، ويجد أنه يتكون من عنصرين (الهيدروجين والأكسجين)، ثم بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطينا الماء، وهذا بناء ليس بتكديس"
- والعناصر الضرورية التي تتشكل منها كل الحضارات -حسب مالك- هي ثلاثة: الإنسان + التراب + الوقت ..(1)
الحضارة إبداع وتميز وليست تقليدا وتبعية
- يدعو مالك بن نبي في جل كتاباته إلى ضرورة إبداع بدائل فكرية ومناهج علمية مستقلة تتناسب مع البيئة الإسلامية بدل استيرادها كما هي من الغرب الأوربي. ويلح على ضرورة الاستقلال الفكري في دراسة مشكلاتنا الحضارية والاجتماعية؛ لأنه يعتقد -كغيره من الدارسين للحضارات الإنسانية- أن هناك خصوصيات كثيرة تتميز بها كل حضارة عن غيرها. "فلكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها، وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به نحو الأشياء، بينما الحضارة الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها، سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة.. نحو الأفكار"
- ومن أهم الخصوصيات التي ميزت نشوء الحضارة الإسلامية أن نشوءها سببه الوحي الرباني؛ مما جعلها حضارة خالدة خلود المبادئ والتعاليم التي تحملها وتدعو إليها، "فجزيرة العرب.. لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء لا ينتفع به؛ لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان، التراب، والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح: مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ؛ حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء -كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن- نشأت بين هذه العناصر الثلاثة (الإنسان + التراب + الوقت) المكدسة حضارة جديدة؛ فكأنها ولدتها كلمة "اقرأ" التي أدهشت النبي الأمي، وأثارت معه وعليه العالم".
- ولهذا "فالحضارة" لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها؛ لأن "الحضارة" إبداع، وليست تقليدا أو استسلاما وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء التي أنتجتها حضارات أخرى؛ "فبعض القيم لا تباع ولا تشترى، ولا تكون في حوزة من يتمتع بها كثمرة جهد متواصل أو هبة تهبها السماء، كما يهب الخلد للأرواح الطاهرة، ويضع الخير في قلوب الأبرار ..(2)
- فالحضارة من بين هذه القيم التي لا تباع ولا تشترى.. ولا يمكن لأحد من باعة المخلفات أن يبيع لنا منها مثقالا واحدا، ولا يستطيع زائر يدق على بابنا أن يعطينا من حقيبته الدبلوماسية ذرة واحدة منها"
الحضارة هي التي تلد منتجاتها
- وبما أن الحضارة إنجاز لا يمكن أن يوهب أو يشترى أو يستورد؛ فإن بن نبي أولى كل اهتمامه لتحريك الإنسان المسلم الذي يمثل بالنسبة له جوهر الحضارة وعمودها الرئيسي نحو مواقع "الفعالية" و"العطاء" و"الإنتاج"؛ لأن "المقـياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها"، وسيكون من السخف والسخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة، حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها" ..(3)
- وعملية استيراد أشياء الغرب ومنتجاته، والاكتفاء بذلك سبيلا للتقدم.. أشبه بالذي يحاول أن يعالج أعراض المرض ونتائجه البارزة الظاهرة للعيان، بدل أن يعالج أسبابه العميقة، وأصوله الباطنية؛ مما يظهر المرض في الظاهر كأنه قد اختفى، لكنه في الحقيقة لا يزال ينخر صحة المريض، ويستنزف قواه في الباطن. لهذا علينا في معاجلة تخلفنا -كما يرى أحد تلاميذه ابن نبي- ألا نتبع سبيل الاستيراد؛ فنحاول أن نصبغ من الخارج دارنا المتهدمة بلون الحضارة الغربية ونملؤها بأثاثها، ونقتنع بذلك كوسيلة تجعل دارنا المتهدمة المحطمة دارا قوية شديدة الأركان. فإن النظرة البسيطة تشير إلى أن الدار تستدعي مهندسا يدرس أسباب الخلل الذي يوشك أن ينقض البناء، لا تاجرا يملأ البيت بالأدوات والأثاث" ..(4)
- وطالما بقي المجتمع الإسلامي عاجزا عن إيجاد البدائل الفكرية والمنهجية التي تنسجم مع عقيدته وواقعه؛ فهذا يعني أن هذا المجتمع ما زال يعاني من التبعية والتخلف، ولم ترقَ أفكاره بعدُ إلى درجة الاستقلال والتحرر الشاملين، وهذا هو الذي يشكل خطرا على حاضر ومستقبل المسلمين في نظر ابن نبي؛ لأن "المجتمع الذي لا يصنع أفكاره الرئيسية لا يمكن على أية حال أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه، ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه، ولن يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج.. فعلينا أن نكتسب خبرتنا؛ أي أن نحدد موضوعات تأملنا، وألا نسلم بأن تحدد لنا بكلمة، علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية، واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي والسياسي" ..(5)
- يرى بن نبي أن الاضطراب والفوضى والتناقض والغموض، وغير ذلك من السلبيات التي تتصف بها بعض النتائج الفكرية في العالم الإسلامي إنما ترجع في جانب كبير منها إلى تلك "القابلية للاستعمار" التي تسكن نفوس أبناء هذا المجتمع، وتدفعهم من موقع الدونية والتقليد إلى تمثل أشياء الغرب وأفكاره دون أي دراسة دقيقة وواعية بالتمايز الحضاري الشاسع الموجود بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الغربية ..(6)
- وبدل أن تساهم كتابات أولئك المغتربين في تشييد البناء الحضاري للأمة الإسلامية، نجدهم يلجئون إلى تكديس "المعارف"، والانجذاب إلى الإكثار من الألفاظ الرنانة، وتلويك المصطلحات الغربية التي فقدت الحياة بمجرد قلعها من بيئتها الحضارية الأصيلة في الغرب. وطبيعي أن هذا التكديس لا يؤدي إلى إنشاء حضارة؛ لأن "البناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس، ولنا في أمم معاصرة أسوة حسنة.
- إن علينا أن ندرك أن تكديس منتجات الحضارة الغربية لا تأتي بالحضارة.. فالحضارة هي التي تكون منتجاتها، وليست المنتجات هي التي تكون حضارة.. فالغلط منطقي، ثم هو تاريخي؛ لأننا لو حاولنا هذه المحاولة فإننا سنبقى ألف سنة ونحن نكدس ثم لا نخرج بشيء".
- وهكذا نجد هؤلاء المغتربين والمتمثلين تقليديا لأفكار الغرب لا ينظرون إلى الحضارة الغربية إلا من خلال قشورها، ولا ينقلون منها إلا ما يسميه ابن نبي "بالأفكار الميتة" أو "القاتلة" التي ترمي بها إليهم هذه الحضارة عن طريق مراصدها الفكرية حتى يظلوا تابعين لا مبدعين، منفعلين لا فاعلين. وهذا عكس ما فعلته "النخبة المثقفة" في اليابان مثلا التي استطاعت في تعاملها مع الغرب أن تفرق بين ما هو صالح للاقتباس، لا بد منه ولا ضرر يخشى منه، وما هو طالح وخاص بالقيم والأخلاق الغربية التي تتعارض مع قيم الإنسان الياباني وأخلاقياته ..(7)
الدورة الحضارية عند مالك بن نبي
- استخلص ابن نبي من قراءاته المتعددة للتاريخ البشري وفلسفته، ولتاريخ الحضارة الإسلامية على وجه الخصوص أن مسيرة الأمم والجماعات تخضع لنـظام دوري، قلما تنجو أي أمة من الأمم من جريانه. وهذا في نظره هو الذي يجعل الأمة في فترة من فترات تاريخها الحضاري تسجل مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، تبقى خالدة في سجل تاريخها وتاريخ البشرية من حولها، كما تسجل عليها في فترات أخرى انتكاسات وهزائم حضارية وعمرانية وعسكرية، وغير ذلك من الحالات المرضية التي تهوي بالأمة إلى مهاوي التخلف والانحطاط في آخر طور من أطوار دورتها الحضارية.
- وهكذا تلعب الشعوب دورها، وكل واحد منها يبعث ليكون حلقته في سلسلة الحضارات، حينما تدق ساعة البعث، معلنة قيام حضارة جديدة، ومؤذنة بزوال أخرى"
- ويرى ابن نبي أن هذا القانون طبيعي جدا؛ لأنه يخضع لنفس النواميس التي تخضع لها باقي مخلوقات الله في هذا الكون؛ فاليوم يبدأ بالشروق والزوال، ثم يتبعهما الغروب الذي يسدل الظلام على الكون، والشهر كذلك يبدأ ببزوغ الهلال، ثم يستكمل تدريجيا دورته؛ لينتهي بعد ذلك إلى الزوال ليبدأ شهر آخر، واحدا بعد الآخر في إطار سلسلة دورية مستمرة. انطلاقا من هذا يقول ابن نبي: "إذا نظرنا إلى الأشياء من الوجهة الكونية؛ فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس؛ فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر" ..(8)
- ولا يعني هذا أن التاريخ يفرق هداياه، أو يوزع أمجاده لأي كان، كما تنشر الشمس أشعتها حينما تؤذن بالشروق، لكن التاريخ كتلة من السنن والنواميس الإلـهية التي تتحكم في توجيه الأفراد والمجتمعات على السواء. وهذه السنن والقوانين لا بد من استيعابها، والسير على هداها لمن أراد النهوض والريادة الحضارية. أما الذين لا يحترمونها ولا يستوعبون عبرها ومراميها؛ فإن حركتهم تكون حركة مضطربة لا يحكمها ضابط ولا هدف؛ مما يؤدي إلى مصادمة السنن الهادية إلى البناء والدخول في فترة الخمول. و"من عادة التاريخ ألا يلتفت للأمم التي تغط في نومها، وإنما يتركها لأحلامها التي تطربها حينا، وتزعجها حينا آخر؛ تطربها إذ ترى في نومها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم، وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبار عنيد" ..(9)
- ولكي يخرج المسلمون مما هم عليه الآن من سبات حضاري وخذلان لا بد أن يستوعبوا سنن الله الثابتة في الكون التي يخضع لها الأفراد والجماعات؛ لأنهم بهذا الاستيعاب فقط يمكن أن تكون حركتهم في التاريخ حركة ثابتة وهادفة بدل أن تبقى كما هي عليه الآن حركة عشوائية تحكمها الصدف، وتوجهها الأهواء الفردية والنزوات الشخصية. "فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا، ولعل أعظم زيفنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية، ومن هنا تبدأ الكارثة، ويخرج قطارنا عن طريقه؛ حيث يسير خبط عشواء" ..(10)
- ويرى ابن نبي في هذا الصدد أن كل الحضارات الإنسانية خضعت لنفس هذا القانون الدوري المتحكم الذي تخضع له الحضارة الإسلامية بدورها ..(11)
وختاما لا بد من الإشارة إلى جملة من الملاحظات التي تتعلق بفكر مالك بن نبي:
- أولا: على الرغم من اهتمام ابن نبي بقضايا الحضارة ومشكلاتها فإن ذلك لم يجعله ينحو بتحليلاته منحى التجريد والنظر البعيدين عن هموم الأمة الإسلامية وقضاياها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية؛ بل ظل على الدوام ملتصقا بواقع الأمة، وراصدا لمختلف التحولات التي تطرأ عليها.
- ثانيا: تتبُّع مالك بن نبي لواقع الأمة الإسلامية ورصده لمختلف ظواهره لم يجعل فكره يتيه في طلب حلول جزئية أو ترقيعية لمعالجة هذا الواقع؛ بل نفذ ببصيرته ليكشف الخيوط الرابطة لتلك الظواهر، وليضع الحلول المناسبة لمشكلات الأمة، على شكل معادلات رياضية وقوانين دقيقة.
- ثالثا: إن أهمية فكر مالك بن نبي وسمو اجتهاداته لم تقابلها بعض الدراسات والبحوث القادرة على النفاذ إلى مقاصدها، وهذا ما يدعو إلى ضرورة بذل المزيد من العناية بهذا الفكر، وذلك بالآتي:
- 1- إعادة نشر كثير من مؤلفاته والتعريف بها ومدارستها بعمق.
- 2- وضع مفاتح منهجية لتتبع اجتهادات هذا المفكر في مختلف المجالات، وتعميق النظر في "المفردات" و"المفاهيم" و"المعادلات" و"القوانين" التي أبدعها بقصد استيعابها والبناء عليها، وتوظيفها لتحليل وتوليد الحلول المناسبة لكثير من المشكلات الحضارية المستجدة في واقع الأمة ..(12)
المستشار عبد الله العقيل يكتب عن علاقته بمالك بن نبي
بقلم/ المستشار عبدالله العقيل
معرفتي به
تربطني بالمفكر الجزائري الأستاذ الكبير مالك بن نبي روابط فكرية، فقد سعدتُ بقراءة أول كتاب له بالعربية وهو (الظاهرة القرآنية)، وشدّتني لقراءته والتمعّن فيه المقدمة التي دبّجتها يراعة الأديب اللغوي الكبير الأستاذ محمود محمد شاكر، فضلاً عن أن مترجم الكتاب الدكتور عبد الصبور شاهين من الزملاء الأعزاء الذين جمعتني وإياهم روابط العقيدة والعمل المشترك في ميدان الدعوة إلى الله، فكان اضطلاعه بالترجمة حافزًا لي لقراءة كتاب عن مؤلف لا أعرفه من قبل، ثم تتابعت قراءاتي لما صدر بعد ذلك من كتبه المترجمة إلى العربية التي وجدتُ فيها نظرة تستوعب مشكلات الحضارة وحل معضلات العصر وبناء شخصية المسلم المعاصر؛ البناء العقدي الإيجابي المبني على النظر والتدبر في حقائق الكون والحياة والنفس الإنسانية ومساربها ومحاربة التخلف الفكري والحضاري لمواجهة ضرورات العصر ومنطلقاته.
ثم شاء الله أن ألتقي المفكر الجزائري أول مرة في الكويت حين دعوناه للموسم الثقافي هناك أواخر الستينيات، وكان لنا معه حوارات وندوات وأحاديث ومناظرات، خرجتُ منها بأن الأستاذ مالك بن نبي طراز فريد من المفكرين الذين يستخدمون العقل في تعضيد ما ورد بالنص ويؤثرون التحليل للمشكلات ودراستها دراسة استيعاب، ويطرحون الحلول لمعضلاتها على ضوء التصور الإسلامي وفي ظل القرآن وهدي السُّنَّة.
من تلامذته
ولقد تأثر به قطاع عريض من الشباب في المغرب والمشرق على حد سواء، فكان منهم الأستاذ رشيد بن عيسى من الجزائر، والأستاذ عمر مسقاوي من لبنان، والأستاذ جودت سعيد من سوريا، ود. عبد الصبور شاهين من مصر وغيرهم من الذين حملوا الفكر الإسلامي المعاصر، فلقد كانت المدارس الفكرية للبنا والمودودي وسيد قطب ومالك بن نبي، ينتظم في عدادها الألوف من شباب العالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص.
مؤلفاته وآثاره
لقد أسهم الأستاذ مالك بن نبي بالعديد من المؤلفات التي ترجم بعضها إلى اللغة العربية كلها تدور حول مشكلات الحضارة، وفي مقدمة هذه الكتب: كتاب (الظاهرة القرآنية)، وكتاب (وجهة العالم الإسلامي)، وكتاب (الفكرة الإفريقية الآسيوية)، وكتاب (شروط النهضة)، وكتاب (يوميات شاهد للقرن)، وكتاب (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)، وكتاب (آفاق جزائرية)، وكتاب (المسلم في عالم الاقتصاد)، وكتاب (لبيك)، وكتاب (بين الرشاد والتيه)، وكتاب (إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث)، وكتاب (تأملات)، وكتاب (في مهب المعركة)، وكتاب (فكرة كومنولث إسلامي)، وكتاب (القضايا الكبرى)، وكتاب (مشكلة الثقافة)، وكتاب (ميلاد مجتمع)، وكتاب (من أجل التغيير)، وكتاب (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة)، وكتاب (دور المسلم ورسالته في القرن العشرين)، وغيرها كثير بالعربية والفرنسية.
ولقد أحدثت موضوعات هذه الكتب أثرها في توعية الشباب عن الاستعمار الغربي الذي يجثم على صدور الشعوب الإسلامية، وأساليبه في إذلال هذه الشعوب، كما تكلم مالك بن نبي عن النهضة وشرائطها، والحضارة الغربية وطرق مواجهتها، والشخصية المسلمة ومواصفاتها، ولقد لفت الأستاذ مالك بن نبي نظر الأمة الإسلامية إلى أن الأخطر من الاستعمار هو القابلية للاستعمار؛ لأن النفوس إذا ضعفت وانهزمت من داخلها، تكون خير وعاء لاستقبال الاستعمار والرضا به والسير وراء حضارة الغالب والتخلي عن أمجاد الماضي وأصالته، والالتصاق بكل ما يرد من المستعمر من خير وشر وحلو ومر وصواب وخطأ، دون تمييز أو انتقاء، بل بتقليد المغلوب للغالب والعبد للسيد، وأوضح لها بأن القوي الغالب هو الله، فلا غالب إلا الله، وأن المسلم الحق هو الأعلى وأن الإسلام هو الدين الحق وأن المستقبل للإسلام.
ومن هذه النظرة المعتزة بدينها والمستعلية بإيمانها الآخذة بخير ما في الحضارات، المعرضة عن سوءاتها، أهابت مؤلفات مالك بن نبي بأمة الإسلام أن لا تكون من عبيد الاستعمار، وأن لا تكون مسخرة لأعماله ولا سوقًا لمنتجاته، وأن لا تفقد أصالتها بتقليده في كل شيء حتى الأفكار كما يفعل المستغربون والمخدوعون بحضارة المستعمر من العلمانيين والحداثيين والإمعات الراكضين وراء كل ناعق.
مولده ونشأته
وُلِدَ الأستاذ مالك بن نبي سنة 1905م بمدينة قسنطينة بالجزائر، وهو ابن الحاج عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي، ثم انتقلت أسرته وهو طفل إلى بلدة (تبسة) وهناك بدأ يتردد على الكتَّاب لتعلم القرآن الكريم، وفي الوقت نفسه، كان يدرس بالمدرسة الابتدائية، وكان فيها متفوقًا، وبعدها انتقل إلى التعليم الثانوي بمدينة (قسنطينة) وكان وقتها يحضر دروس الشيخ ابن العابد في الجامع الكبير والشيخ مولود بن مهنا. وكان يميل إلى القراءة منذ صغره فقرأ في الشعر الجاهلي والأموي والعباسي، وتأثر بشعر امرئ القيس والشنفرى وعنترة والفرزدق والأخطل وأبي نواس وحتى أصحاب المدرسة الحديثة كحافظ إبراهيم ومعروف الرصافي وشعراء المهجر كجبران خليل جبران وإيليا أبي ماضي، وكان بقرب بيته مقهى، وبالقرب منها مكتب الشيخ عبد الحميد بن باديس - رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين - يلتقي فيه التيار الناشئ من المدرسين وأتباع ابن باديس، وقد تأثر بهما كمدرستين إحداهما سياسية والأخرى إصلاحية. وبعد التخرج في الثانوية مارس أعمالاً عدة، ثم سافر إلى فرنسا سنة 1930م؛ لغرض الدراسة في معهد الدراسات الشرقية، فلم يتيسر له ذلك، فسجل نفسه في (معهد اللاسلكي)، ثم التحق بمدرسة الكهرباء. وتخرج من باريس مهندسًا سنة 1935م، وكانت دراساته تنصب في معرفة أمراض العالم عمومًا، والجزائر خصوصًا، وتشخيص علاجها واقتراح الحلول لها، ويعتبر أن الدين أصل الحضارات؛ لأن الحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي من السماء يكون للناس شرعة ومنهاجًا.
وإن الدين إذا ضعف في نفوس أصحابه، فقد الإنسان جانبه الروحي، والتصق بالأرض وما عليها التصاقًا يعطل ملكات عقله ويطلق غرائزه الدنيوية من عقالها لتعيده إلى مستوى الحياة البدائية، ثم رحل إلى مصر سنة 1956م، ثم عاد إلى الجزائر سنة 1973م، حيث توفي في شهر أكتوبر من العام نفسه.
أفكاره ومدرسته
وقد أعطى الفكر الإسلامي عصارة أفكاره وخلاصة تجاربه، واستقطب العديد من شباب المشرق والمغرب الذين اتخذوا من أفكاره مناهج للتعامل مع الحضارة المعاصرة بأخذ الصالح منها، واطراح الطالح، وتسخير العقل لإعمال النظر في التراث الإنساني وإخضاعه للمقاييس والمعايير الإسلامية التي تريد للإنسان أن يعيش عزيزًا مكرمًا في هذه الدنيا التي استخلفه الله فيها ليعمرها بعمل الخير، وفعل المعروف، وإحسان العبادة لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
إن الأستاذ مالك بن نبي (رحمه الله) كان شعلة نشاط، وكان منظّرًا فكريًا، ودارسًا متعمقًا، قدم الفكر الإسلامي الأصيل الذي أعاد لشباب الأمة ثقته في دينه والتزامه بمفاهيمه وتطبيقه لأحكامه، فالتقى تلامذته وحملة أفكاره بتلامذة المودودي وتلامذة سيد قطب، فكان هؤلاء ومن قبلهم تلامذة حسن البنا هم ركائز الصحوة الإسلامية الراشدة في العالم الإسلامي كله وتيارها الديني الذي سيجرف بإذن الله كل المفاهيم والأفكار العلمانية التي نشرها الاستعمار وروج لها الغرب في ديار المسلمين.
وسيطرح الحل الإسلامي بديلاً عن الحلول المستوردة التي جنت على أمتنا وفرَّقتها شيعًا وأحزابًا وطوائف وقوميات، فالحل الإسلامي هو فريضة وضرورة وهو العلاج لكل المشكلات والمجيب عن كل التساؤلات والمداوي لكل الجراحات.
من هذا المنطلق كانت كتابات هؤلاء العمالقة من المفكرين الإسلاميين، تشد الشباب لتبوُّؤ مكان الصدارة والسير قدمًا إلى الأمام في ركب الحضارة المعاصرة، التي تستلهم ماضي الأمة وأمجادها في شق طريقها نحو الحياة الحرة الكريمة في ظل الإيمان.
وإذا كان مالك بن نبي قد امتلك زمام التعريف الحضاري بمعظم جوانب العطاء الإسلامي للحضارة البشرية، فإنني أرى أن الآثار التي خلفها لنا هذا المفكر الإسلامي هي بعض الزاد الحضاري الإسلامي الذي يمكن للمسلمين اليوم أن يطرحوه أمام العالم، فالأفكار التي طرحها مالك بن نبي أفكار ناضجة في ميادين العلاقات الدولية والنظم السياسية والفكرية والثقافية والتربوية والتنموية مما تحتاجه المجتمعات البشرية الحديثة.
ولقد قدّم الأستاذ مالك بن نبي الأنظمة الإسلامية في قالب حضاري وأسلوب معاصر كما تمكن من تجزئة الاحتياجات الحضارية للمجتمعات البشرية حيث فصلها وطرح البديل الإسلامي مقارنًا مع النظم الإنسانية الوضعية، فكان بهذا الأسلوب صاحب مدرسة نقلت إلى العالم جوهر الإسلام وبدائله التي تتقزم أمامها كل النظريات البشرية الوضعية، مما رسخ الاعتزاز بالإسلام وحلوله في نفوس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وحصّن أفكارهم التي كانت في مطلع هذا القرن تستسهل قبول الفكر التغريبي المادي الذي سيطر فترة من الزمن على بعض العقول.
شهادة بحقه
يقول الأستاذ الكبير أنور الجندي: «فقد العالم الإسلامي واحدًا من أعلام الفكر الإسلامي الحديث هو الأستاذ مالك بن نبي المفكر الجزائري، الذي قدّم في السنوات الأخيرة عددًا من المؤلفات البارعة حول موضوع «الإسلام ومواجهة الحضارة»، فهو موضوعه الأول وقضيته الكبرى التي حاول منذ أكثر من عشرين عامًا أن يقدّم فيها وجهة نظر جديدة نابعة من مفهوم الإسلام نفسه ومرتبطة بالعصر في محاولة لإخراج المسلمين والفكر الإسلامي من احتواء الفكر الغربي وسيطرته وكسر هذا القيد الضاغط الذي يجعل الفكر الإسلامي يدور في الدائرة المغلقة التي نقله إليها اجتياح التغريب والغزو الثقافي لقيمه عن طريق المدرسة والثقافة والصحافة، وفي محاولة لدفع المسلمين إلى التماس مفهومهم الأصيل والتحرك من خلال دائرتهم المرنة الجامعة القائمة على التكامل والوسطية والمستمدة لقيمها الأساسية من القرآن.
والجديد في دراسات مالك بن نبي ورسالته بالنسبة لمدرسة اليقظة الإسلامية المتصلة العُرَى منذ نادى الإمام محمد بن عبد الوهاب بأول صوت عال كريم في سبيل إيقاظ المسلمين على كلمة التوحيد في العصر الحديث، ثم تتابعت الحلقات في دعوات متعددة قام بها الإمام محمد بن علي السنوسي ومحمد بن أحمد المهدي وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا وحسن البنا وغيرهم.
هذا؛ والجديد أن حامل لواء هذه الفكرة رجل ولد في أول هذا القرن في الجزائر المحتلة بالاستعمار الفرنسي، وقد وُلد في قسنطينة التي خرجت الإمامعبد الحميد بن باديس، وشهد في مطالع حياته ذلك الجو القاتم المظلم الذي حاول الاستعمار فيه أن يخرج الجزائر من الإسلام ومن اللغة العربية جميعًا.
وقد كانت له جذوره التي استمدها من بيئة مسلمة أصيلة حافظت على تراثها واستطاعت أن تعتصم بالقرآن، فلما أتيح له أن يتم تعليمه أوفد إلى باريس ليدرس الهندسة في جامعتها، فلم يصرفه ذلك عن معتقده وإيمانه فكان مثلاً للصمود في وجه اجتياح التغريب ومحاولة الاحتواء التي سيطرت على الكثيرين من أبناء المسلمين الذين أتيحت لهم الدراسة في الغرب، فلما أتم دراسته وأحرز شهادته وجد الأبواب كلها قد أغلقت أمامه، وأحس أن تصميمه على تمسكه بمعتقده سيحول بينه وبين الوصول إلى مكانته كمهندس وعالم، فلم يثنه ذلك شيئًا وواجه الموقف في إيمان ورضا بكل شيء في سبيل أن لا تجتاحه الأهواء المضلة، ولقد حاول الاستعمار معه كل محاولة من إغراء وتهديد حتى عزل والده في الجزائر عن عمله واضطر مالك بن نبي أن يترك بيئته كلها وقد استفاضت بدعوة ابن باديس، ولجأ إلى مكة المكرمة فأقام بها، ثم قدم القاهرة فأخرج فيها موسوعة عن الحضارة في أكثر من سبعة عشر كتابًا كان يكتبها بالفرنسية ويترجمها الدكتور عبد الصبور شاهين إلى العربية، ثم لم يلبث بعد أن توسعت اجتماعاته بالمسلمين في مكة والقاهرة أن حذق العربية وبدأ يكتب بها رأسًا، وكشف عن تلك الأزمة العاصفة التي تواجه المؤمنين الثابتين على عقائدهم في وجه الإغراء.
وقد قامت نظرية مالك بن نبي على مفهوم أسماه «القابلية للاستعمار»، وقد دعا المسلمين إلى التحرر من هذا الخطر، وذلك بالعودة إلى الاستمداد من مفهوم الإسلام الأصيل المحرر بالتوحيد عن وثنية العصر وماديته». انتهى.
ندوة عن أفكاره
وقد أقيمت ندوة دولية في ماليزيا سنة 1991م عن فكر مالك ابن نبي وأطروحاته تحدث فيها كل من: أنور إبراهيم - وزير المالية الماليزي - والدكتور عبد الله عمر نصيف - الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، ونوقشت فيها أوراق عمل لكلّ من: أسماء رشيد من باكستان عن مقارنة الفكر الاقتصادي لدى كل من العلاّمة محمد إقبال [خاصة كتابه (علم الاقتصاد)]، ومالك بن نبي [خاصة كتابه (المسلم في عالم الاقتصاد)]، والورقة الثانية للدكتور عمار الطالبي من الجزائر وموضوعها (فكر مالك بن نبي وعلاقته بالمجتمع الإسلامي المعاصر)، والورقة الثالثة للدكتور ظفر إسحاق الأنصاري من باكستان وموضوعها (رؤية مالك بن نبي وتقويمه للتيارات الفكرية والسياسية المختلفة التي تكمن وراء الأوضاع الراهنة في العالم الإسلامي)، أما الورقة الرابعة فهي للبروفيسورمحمد كمال حسن من ماليزيا، وموضوعها (تأملات حول بعض أفكار مالك بن نبي وأطروحاته).
أما الدكتور عبد الصبور شاهين أبرز من ترجموا مؤلفات مالك ابن نبي من الفرنسية إلى العربية، فقد قال: إن حياة مالك بن نبي ككاتب ومفكر عرفت طورين رئيسين: طور ما قبل مصر، حيث كان يعيش ما بين بلاده الجزائر، وفرنسا التي تعلم فيها. والطور الثاني يبتدئ بقدومه إلى القاهرة سنة 1956م، حيث ابتدأت رحلته كمفكر إسلامي نتيجة احتكاكه برجال العلم والفكر الإسلامي، وبدأ يتعرف على مصادر الثقافة الإسلامية الأصيلة.
كما كانت صلته الطيبة برجال الحكم بمصر آنذاك مجالاً متنفسًا للكتاب الإسلامي في ذلك الوقت حيث إن السلطات الثورية، كانت قد ضربت حصارًا على الكتاب الإسلامي إبّان حملتها الشرسة على الحركة الإسلامية.
في هذا الإطار كان يسرّب كل ما يترجمه لمالك بن نبي إلى الشهيد سيد قطب داخل السجن.
إن مالك بن نبي (رحمه الله) كان أحد عمالقة الفكر الإسلامي في هذا العصر، وقد قدّم الفكرة الإسلامية وأحسن عرضها على جماهير الأمة الإسلامية خاصة شبابها الذين ترك فيهم الآثار الطيبة.
ومهما كان في هذه الأفكار من ملاحظات فهي بمجموعها تشكّل رافدًا من روافد الفكر الإسلامي المعاصر يمد الشباب بالزاد الفكري الذي يقف في وجه الأفكار المستوردة من الشرق والغرب على حد سواء. رحم الله الأستاذ مالك بن نبي، وجزاه الله عما قدم خير الجزاء.
ألبوم صوره
من-اليمين-عبد-السلام-الهراس-مالك-بن-نبي-الأمير-محمد-الخطابي-كمال-الحناوي-مدير-وكالة-الشرق-الأوسط-عبد-الوارث-الدسوقي-مدير-جريدة-الشعب |
المراجع
1- مقال لـ د.إبراهيم رضا: أستاذ بكلية الآداب جامعة القاضي عياض – مراكش/ المغرب.
2- مالك بن نبي، شروط النهضة، ص: 51.
3- مالك بن نبي: في مهب المعركة، ص: 117.
4- مالك بن نبي: شروط النهضة، ص: 42.
5- مالك بن نبي: تأملات، ص: 167.
6- مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص: 151.
7- مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص: 152.
8 -مالك بن نبي، تأملات، ص: 164.
9- مالك بن نبي: شروط النهضة، ص: 19-20.
10 - المصدر نفسه، ص: 49.
11- مالك بن نبي: شروط النهضة، ص: 20.
12- مقال لـ د.إبراهيم رضا: أستاذ بكلية الآداب جامعة القاضي عياض – مراكش/ المغرب.