ملك السجن .. قصة واقعية من داخل الزانزنة
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
تأخر هذا الكتاب عن وقته كثيرا لأن صاحب وقائعه المثيرة ليس من أرباب القلم فيكتب عن نفسه, ولكنه فى بطن المحنة الضروس كان من أصحاب العمل, بل من أصحاب السبق فيه, فأصبح اسمه على لسان كل من عايشه فى سجن من السجون العديدة العديدة التى تنقل بينها من إخوانه أو من نزلاء أو سجانة أورجال الأمن, وما زالت نوادره الكثيرة محل التندر فى جلسات الإخوة كلما عادت بهم الذكريات إلى تلك الأيام الخالية لأخذ العبرة....
لقد ذاعت شهرته حتى كان جديرا بحق أن يوصف بـ( ملك السجن) وهذا اللقب... اعتاد المساجين إطلاقه على مدار السنين ومختلف السجون على النزلاء الذين يكون لهم نفوذ وسطوة تفوق نفوذ الإدارة الحقيقية, فيعمل له النزلاء والإدارة ألف حساب, ويكون ذلك الشخص فى العادة من الأشخاص الذين فقدوا الأمل فى الخروج لكثرة الأحكام التى تراكمت عليه حتى تتعدى المائة عام أوالمائتين, وعندها لم يعد يخشى من صدور أية عقوبة جديدة توقع عليه من قبل الإدارة أو من قبل القضاء بل إن بعضهم يصبح لديه هواية تقديم المخدرات بنفسه للإدارة ليظفر بتقديمه للمحاكمة ليتباهى برصيده من السنين ويستفيد من جلسات المحاكمة فى الإطلال على الحياة من شباك السيارة التى تنقله فضلا عن استخدامه هذه الفرصة فى تهريب الممنوعات لذا كان من المهم فى حياة أى مسجون جديد فى أى سجن أن يتعرف عندما تطأ قدماه هذا العالم الغريب على ملك السجن فيه... لكن رشدى عفيفى رجل قصتنا كان ملكا بحق من نوع جديد, لأنه تربع على عرش الحب فى قلوب إخوانه وعلى عرش الإعجاب فى نفوس السجانه وعلى عرش الخشية منه فى نفوس رجال الإدارة والأمن, فله كل نوع من القلوب نوع خاص من المشاعر.
لقد ترك فى كل سجن حل فيه سجلا حافلا من الأ‘مال التى كان يتقرب بها إلى الله بتخفيف المحنة عن إخوانه, أو بتهريب كل الممنوعات إليهم من مواد تموينية أو نقود أو جاز أو بتفح الزنازين المغلقة, أو بتقليم أظافر السجانه وكسر شوكتهم, وبالجملة فى إحباط كل سياسة لضغط والتكدير والحرمان التى كان رجال الأمن يعتمدون عليهما لتحطيم روح هذه الجماعة المجاهدة و أسعدنى الحظ بالسكن معه فى السجن القناطر الخيرية بعنبر بالدور الثالث زنزانة 13.
كما كنا فى فترة الإعتقال التى أعقبت السجن فى عنبر 8 المخصص للمغضوب عليهم من المعتقلين وكان وعدى له بكتابة نوادره عندما انتقلنا إلى زنزانة 13.
وتمر السنون بعد الإفراج عنا وهذا الوعد لا يغيب عن بالى حتى أعاننى عليه أخى محمود حامد بدوام تذكيرى ومدى بالمعلومات التى مدنا أن ننساها وكذلم أخى الأستاذ فتحي الخولي اتلذى حصل هلى الجنسبى السعودية بعد أن سحبت منه فى العهد النصرى الجنسية المصرية.. بعد أن عمل معه الأخ رشدى بالسعودية بعد خروجه من مصر فشكر الله لهما أن جدد العزم وأعانانى على الوفاء بالعهد.
وجزى الله الأخ رشدى عن إخوانه وعن دعوته خير الجزاء, وجمعنا الله بمنه وفضله فى مستقر رحمته مع الذين سبقونا بالإيمان ن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا, آمين....
ملك السجن من الدار للنار
رجل قصتنا هو الأخ رشدي عفيفي إبراهيم شوشة, شيخ خفر بلدة كفر وهب مركز قويسنا من مواليد سنة 1927 كان فى أوساط العقد الثالث من عمره عندما حكم عليه بالسجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة. قضاها بين ليمان طره والواحات وسجن القناطر ولم يمض على الإفراج عنه عدة أشهر حتى أعيد اعتقاله لمدة ست سنوت قضاها بين معتقل أبى زعبل ومعتقل طره ...فبلغ مجموع ما قضاه السجن والاعتقال ستة عشر عاما قبل أن يفرج عنه 1971.
عاد يعد هذا العصر الطويل من الجهاد إلى كفر وهب ليعمل فى الزراعة لا فى مشيخة الخفر, ولكن شتان بين الشيخ الخفر صاحب العمر الأول وبين ملك السجن صاحب العمر الثانى.
يقول عن نفسه :" إننى أعتبر أن دخولى السجن هو نقطة تحول فى حياتى فلو لم أدخل السجن مع الإخوان لدخلته فى أنواع كثيرة من الجرائم... بحكم معرفتى الواسعة باللصوص وتجار المخدرات والقتلة" ينفرد رشدى بملكات كثيرة نابعة من قيم الريف الأصيل مكنته من تيسير الحياة على الإخوان داخل السجون... فقد حباه الله برجولة مبكرة واستعدادا فطريا فى مواجهة المشكلات, وروحا محبة للخير وقدرة على التداخل مع الحرس ةالسجانى ومع كل موظفى السجن, مما ممكنه من تهيئه جو معيشى للإخوان داخل كل سجن حل فيه, وكان يتخير معاونيه من الإخوان الذين لهم نفس الخصائص ولكنهم جميعا لا يستطعون العمل بدونه.... وقد عطل بذلك مفعول لائحة السجون وأحبط كيد الحاقدين.. حتى شعر كثير من السجانة .. إنها تحولت إلى فنادق لكثرة ما أصاب الحياة داخلها من تغيير لم يكن فى حساب من اصدورا الأحكام أو خططوا لوأد الدعوة بين الجدران.
مر رشدى هفيفى بعد القبض عليه عام 1954 بكل صور التعذيب بمبنى القلعة والسجن الحربى قبل أن يدخل ليمان طره لتنفيذ الحك الذى صدر عليه من محكمة الشعب..ز قضى بالقلعة عشر أيام كان يظن فيها أن القيامة قامت من هول ما ترض له من تعذيب ثم ترحل ضمن 150 أخا من المنوفية إلى السجن الحربى فأنساه السجن الحربى أهوال القيامة الصغرى عندما عاش هول القيامة الكبرى , فمكاتب التحقيق بالسجن الحربى يسميها رشدى مجموعة من الورش او محلات الجزارة لكثرة الآلات التى تستخدم فى التعذيب وفى تعليق الآدميين كالذبائح من ايديهم وأرجلهم من خلاف.
ويتعدب رشدى من رؤيته لنوع جديد من الزبانية لا تكف ألسنتهم عن قذف الحمم وهم يقدمون الطعام للمعذبين حتى يصير الطعام كالزقوم.. يضحك رشدى حين يتذكر ذلك ويقول: كنت إذا أكلت ينهال على ضربا قائلا:( هل لك نفس تأكل يا ابن الكلب) وإذا امتنعت عن الطعام ينهال ضربا قائلا: (ألا يعجبك الأكل يا ابن الكلب)... وإذا سألنى هل أنت من الإخوان وقلت لا ينهال ضربا قائلا بتهكم: يعنى مظلوم يا ابن الكلب؟ وإن قلت نعم منهم قال: وهو يضرب: هل لك عين تقول نعم يا ابن الكلب.
ويتذكر رشدى حينما لافضوا التوقيع على الادعاءات تمهيدا لتقديمهم للمحاكمة وكيف أن حمزة البسيوني قال لهم: غذا لم توقعوا فليس لتوقيهكم أهمية, فالسجن الحربى موجود وفى استطاعتى أن تظلوا عنا عشر سنوات حتى لو أخذتم حكما بالبراءة, ,:أن هذا الكلام يشجعهم على التوقيع ليظفروا بأية أحكام تنقلهم إلى عالم السجون الذى ستحكمه لوائح وقوانين ستكون ولا شك أخف وطأة من هذا الجحيم, وقد جمع حمزة البسيوني السجانة فى شكل حلقة وانهال على الجميع بالكرابيج حتى أعجزهم, ولم يكن يؤلم رشدى من ذلك كله إلا ما أصاب الحاج عشماوي سليمان ذلك الشيخ الكبير ذا اللحية البيضاء التى أغرت السجانى عليه بالمزيد, وأخذت الجاويش محمود الشفقة بهؤلاء المعذبين بعد صرفهم إلى سجن 4 فأغلق عليهم الأبواب وقال : أريد أن أعرفكم شيئا حتى لا تتسبوا لأنفسكم فى الأذى... ( فأنتم لستم ذاهبين إلى محكمة فيها قضاة بل جميعهم من الضباط وأمامهم الكشوف بالأسماء مؤشر عليها بالأحكام مسبقا حتى قبل القبض عليكم, ورغم كلام الجاويش المقنع إلا أنهم أصروا على الإمتناع على التوقيع على الاتهامات الموجهة إليهم وتنتهى التمثيلية الهزلية بنطق الأحكام, وما زال الأخ رشدى يتذكر ما حدث له فى المحكمة من طرائف, فعندما طالب المدعى برقبة المتهم سعد حجاج صاح الأخ الظريف قائلا: صل على البنى يا شيخ هى رقبة فرخة, وضج الجميع بالضحك وكان نصيب رشدى عشر سنوات مع الأشغال الشاقة وفى يوم ترحيله إلى ليمان طره مع المجموعة التى حكم عليها بالأشغال الشاقة المؤبدة ارتفعت أصواتهم امام باب لسجن بنشيد " الله أكبر فى سبيل الله أدخلنا السجون, الله أكبر وليكن بعد الحوادث ما يكون" ثم أشفعوا النشيد بالهتاف المعتاد لدى الإخوان " الله أكبر ولله الحمد, الله غايتنا , والرسول قدوتنا , والقرآن دستورنا, والجهاد سبيلنا والموت فى سبيل الله اسمى أمانينا" فاغتاظ حمزة البسيوني م ذلك برغم أنهم لم يصبحوا فى عهدته ما داموا قد خرجوا من بابا السجن الحربى, إلا أن ذلك لم يمنعه من تجريده من حمله الحراس لضربهم ضربامبرحا بالكرابيج حتى رجاه ضابط الرحلة ان يكف لأنهم سيتأخرون عن الوصول إلى الليمان.
رشدي فى ليمان طره
كان الإخوان حديثى عهد بالسجون وبمعاملات السجانة والنزلاء عامة ولا مفر للنزيل داخل هذا العالم من ضروريات لابد من توافرها لكى تحفظ عليه حياته, لأن طعام السجن وملابسه من ظروف العمل فى الجبل لا تساعد على الحياة الصحية, ويمكن أن يستهلك الإنسان سريعا إذا لم يتدارك نفسه بتوفير ضروريات الحياة... وهذه الضروريات لا تتوافر داخل عنابر السجون إذ كيف يعيش خمسة أفراد عم مجموع أفراد كل زنزانة تقريبا على فنجان واحد من العسل للإطار, أو قطعة جبن جافة كأنها من الجبس.. هذا إذا انتظم صرف هذه المقررات, وكذلك يصرف لهم قراونة من الفول الذى يغطيه السوس, فإذا ما أجروا عليها التنظيف والتقشير انخفضت إلى الثلث ونفس الأمر فى العشاء حيث يقدم نوع من الخضار لا يعرف كنهة - أطلق عليه الإخوان اسم اتلزق فيلم – مع قطع من الجلد والعظام تبقت من اللحمة التى نهبها السجانة والموظفون, وكنا نتعجب من هذا النهب المستمر المنظم والذى لا يسمح بالخطأ ولو ليوم واحد, ولم يكن شكلها يغرى باكلها وكثيرا م كان يعافها بعض الإخوان, والبعض كان يقوم بغسلها اولا بالصابون حتى يطمئن إلى نظافتها لأنها تنقلت من يد إلى يد قبل أن تصل إلينا.
كان من الطبيعى أن يصطدم الإخوان بهذا الجو الجديد وخاصة أن معظم من صدرت عليهم الأحكام كانوا من الطلبة والعمال, وقليلا من أهل الريف, وكانت الغالبية من صغار السن الذين لم يخوضوا مثل هذه التجارب القاسية من قبل, وكان نظرة المسجونين إلى الإخوان على أنهم سياسيون يملكون كثيرا من المال, أو بتعبير آخر كانوا ينظرون إليهم نظرتهم إلى السياح, فكانت تباع لهم الممنوعات التى تيعين على استمرار الحياة بأسعار مرتفعةو فلكى يستبدل الأخ حلته القديمة المهلهلة التى سلمت له عند الدخول أو بطانيته الممزقة التى تفوح منها رائحة الزيون أو يحصل على كةز من الجار لتسخين الطعام و أو يظفر ببلصة أو بكمية من الشاى كان لابد أن يدفع ثمن كبير أضعاف ما يدفعه المسجون العادى , والثمن هنا هو عدد من السجائر فكل شىء فى السجن يقوم بالسيجارة لأن النقود ممنوعة, بل إن بعض الأعمال يؤديها بعض النزلاء لبعض بعدد من الأنفاس من السيجارة.
ويغيب عن نزلاء السجن أن الإخوان أصحاب دخول بسيطة, فالطلبة يتلقون العون البسيط من ذويهم, والموظفون انقطعت رواتبهم حتى أن كثيرا من الأسر خارج السجن تعرضت لأسوأ حياة.
وهنا يبدأ دور الأخ رشدى فى الظهور..ز صحيح أنه اشترك مع الجميع من قبل فى مقاومة أطواق الحديد التى يبلغ وزنها 3 كيلوا لكل أخ, وتلتف السلسلة حول وسطه ونزل لتحيط بالقدمين حيث كان التحيل على خلع الحديد ليلا وهو أمر ممنوع وفى أى وقت يعرض صاحبه للجلد لكن نجح الإخوان فى عمل أقفال لها تفتح وتقفل متى شاء الأخ.. كذلك عملوا على تخفيض الأوزان.كذلك اشترك مع إخوانه فى رفض الاستحمام عرايا مثل بقية المساجين, ونجحوا فى الإستحمام بالسراويل, وفى عمل أبواب للحمامات, وفى رفض قيام اثنين من المساجين بحلق عانة كل أخ, وتسلموا الماكينات لحلقها بأنفسهم رغم أن السيد الضابط اعتبر هذا التصرف نوع من الشذوذ.. كذلك نجح مع إخوانه فى طلاء جدران الزنزانات بالجير بدلا من اللون الأسود, وفى إدخال لمبات كهرباء فيهاو لكن رشدى بدأ ينفرد بأعمال جديدة لا يقوى عليها غيره, فعندما رأى استغلال النزلاء لظروف الإخوان فى بيع ضروريات الحياة اتصل على الفور بحسه الأصيل بالأخ حسن دوح المسئول عن الإخوان بالليمان فى ذلك الوقت وعرض عليه فكرته فى تخفيف السعار وذلك بأن يطلب من جميع الإخوان أن يكفوا عن الشراء , ويترك الفرصة له وحده للتفاهم مع نزلاء السجن وتصل جميع رغبات الإخوان من خلاله.
رشدى رئيسا للمصلب ثم فى البدلة الحمراء
كلما ورد إلى الليمان وارد جديد سواء من النزلاء العاديين أو من الإخوان تقضى اللوائح بقضائهم 21 يوما تحت الملاحظة فى زنازين خاصة لهذا الغرض بعيدا عن عنابر الليمان الأربعة الكبيرة التى يفصلها عن بعضها أسوار عالية ولكل عنبر باب خاص يقف عليه السجان ومعه دفتر لتسجيل كل من يدخل أو يخرج, ويتكون العنبر من أربعة أدورا وكان مجموع من فى الليمان حوالى أربعة آلاف.
أثناء فترة الملاحظة يتم الكشف على النزلاء صحيا ويتم توزيعهم على الأعمال المختلفة بالجبل, وكانت فرق الجبل سبعا تسمى كل منها جمالة, وكان الإخوان موزعين على جميع الفرق ابتداء من = 1 – جمالة وحتى = 7 – جمالة, لتضمن الإدارة عدم تجمعهم فى مكان واحد لتراقب عملهم فى قطع الأحجار وحملها على خير وجه, ولكن رشدى لم يترك هذه الفرصة تمر دون أن يكون هو رجلها مع عدد قليل من الأخوة نجحوا فى جعل بعض المساجين يقومون بكثير من العمل نيابة عن شباب الإخوان الذين كان معظمهم من الطلبة ويشق عليهم تنفيذ ما يطلب منهم وهو حمل متر مكعب من الأحجار فى كل يوم وينزل حفرة أو يخرج الأحجار من حفرة عميقها عشرون مترا.. وبالعملة الوحيدة فى السجن السجائر أمكن حل هذه المشكلة.. بالنسبة لكثير من الطلبة... ولما فطنت الإدارة إلى هذا الشكل من التعامل بين النزلاء و الإخوان أسرعت بتجميع الإخوان فى فرقة واحدة -2 – جمالة ومن داخلها وعلى كل مصلب رئيس إذا لم يسلم المقطوعية كاملة فإنه يلبس البدلة الحمراء ويوضع فى التأديب.
وتوالت الجزاءات على رؤساء المصالب فكما عينت الإدارة رؤساء للمصالب التسعة كان نصيبهم آخر اليوم العقاب ولبس البدلة الحمراء ودخول التأديب... وكان رشدى فى مقدمة الداخلين الذين وصل عددهم سبعين أخا, ولم تفت الإخوان روحهم المرحة فكان بعضهم يقول أنا أول من لبس الحمراء فى الإسلام.
وصبر الإخوان بكل الحيل على المدة التى تنص عليها اللائحة للمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة, وهى ضرورة قضاء سنتين كاملتين فى العمل بالجبل وبعدها يحولون إلى ورش السجن المختلفة حيث تنتهى صفة الأشغال الشاقة وتبقى صفة السجن إلى آخر المدة المحكوم بها.
لكن اتضح للإخوان أن للإدارة نية سيئة حين حرمتهم من هذا الحق قائلة: إنكم مسجون من نوع خاص ستقضون مدة العقوبة كلها فى الجبل.
وحاول الإخوان أن يقدموا شكاوى من هذه المعاملة المقصودة أو يجدوا تفسيرا لها, فلم يستطيعوا, فأوصوا الأهالى بتقديم شكاوى فى كل مكان لتدارك الأوضاع التى تتردى كل يوم خاصة بعد أن وصلتهم أخبار بنية الحكومة المبيتى لهم فى الجبل.
فشلت حركة أبو نوار فى الأردن فدفع الإخوان فى الليمان الثمن
كان فشل حركة على أبو نوار بالأردن هو السبب المباشر وراء هذه المعاملة السيئة – أو الشدة – بلغة السجون لأن الإخوان المسلمين فى الأردن وقفوا فى جانب الحياة النيابية ضد محاولة انقلاب عسكرية قام بها علي أبو نوار لحساب جمال عبد الناصر.
لأنهم أخذوا الدرس واضحا من هذا اللون من الحكم الجبرى الذى يتخفى فى شعارات قومية وإنسانية, ويعمل لحساب القوى الخارجية قبل أن يعمل لحساب الأمانى الوطنية.. فكانت خيبة أمل الحكم فى مصر قوية ودفع الثمن إخوان الليمان... فكثرت التهديدات من الضباط وتعددت التفتيشات الإستفزازية للزنازين, وابتدأ التأديب برؤساء المصالب ذوى الحلل الحمراء , وتكررت تلميحات الشاويشية والسجانة... وتطوع بعض الأصدقاء من السجانة ومن المسجونين العاديين اللذين يعملون فى مكاتب الإدارة ويتسمعون الأخبار بتحذير الإخوان من شر يبيت لهم, مؤامرة تدبر لإبادتهم بالجبل.
قويت شكوك الإخوان من تعمد إهانة الإدارة لهم فى الزيارات أمام عائلاتهم, وكذلك من تعنتها معهم فى مقطوعية الجبل فى الوقت الذى تدلل فيه اليهود المحكوم عليهم فى قضية فضيحة لافون.
سرى الهمس بين الإخوان بأن النية مبيتى لاصطناع ( كبسة) فى الجبل تبرر ضربهم بالنار بدعوى منعهم من الهرب, وعندما تنفس صباح السبت الموافق أول يونيو فتح السجانة الزنازين كالمعتاد وصاحوا على العمل.. ونزل الإخوان لا ليذهبوا إلى الجبل ولكن ليسلم كل واحد منهم ورقته التى يطلب فيها من النيابة العامة التحقيق فى سوء المعاملة والسر فى استمرارهم فى العمل فى الجبل حتى اليوم خلاف ما تقضى به اللائحة التى تطبق على غيرهم من النزلاء, ثم عادوا أدراجهم إلى الزنازين بالدور الثالث عنبر(1) مرة أخرى بعد أن تسلم الملازم عبد العال سلومة ضابط العنبر هذه الأوراق أعطى الأوامر للإخوان ليدخلوا زنازينهم.
وعند الساعة العاشرة وصل العقيد السيد والي مدير الليمان ومعه كبار ضباط السجن إلى العنبر, وادوا على أربعة من المسئولين عن الإخوان ليتحدثوا معهم ثم صرفهم بعد أن زجوا بأحدهم إلى التأديب.
وبعد فترة وجيزة تمت فيها الاتصالات مع الجهات العليا بدأوا إحضار السلاسل الحديدية كل سلسلة تتسع لأكثر من عشرين أخا وبدأوا فى فتح الزنازين واحدة تلو الأخرى وسلسلتهم مثنى مثنى, وبعد أن تم سلسلة حوالى اثنى عشر أخا أسرع الأخ مرسي صادق بخطف المفتاح من السجان وفتح به جميع الزنازين حتى يستحيل سلسلة الإخوان مجتمعين, ويضيع على إدارة السجن فرصة سوقهم قسرا إلى مذبح الجبل. وبعد ساعتين حضر اللواء إسماعيل همت وفى أعقابه حضر أحد حراس السجن وهمس فى أذنه, فانصرف على الفور ليعود ثانية بعد دقائق على راس كتيبة بكامل أسلحتها تربو على الألف جندى توجه قسم منهم إلى الدور الثانى الواقع فوق دور الإخوان.. ووقف عشرة من الجنود بصالة الدور الأرضي وبنادقهم مصوبة إلى أعلى.
وبعد فترة حضر أشخاص فى ملابس مدنية ميز الإخوان منهم صلاح الدسوقي وأحمد داوود, وانتفش الطاووس همت أمامهم بعد أن تقوى بالأوامر وصاح على الحراس: اضرب... ففتحت أفواه البنادق برصاص منهمر ظنه الإخوان لأول وهلة من الفشنك على سبيل الإرهاب, ولكنهم سرعان ما تبينوا أنه رصاص حقيقى عندما تساقط الشهداء واحدا تلو الآخر على الطرقات وفوق الكوبرى وأمام أبواب الزنازين, فأسرع الباقون على الفور بدخول الزنازين للإحتماء بها وبعد أن استمر ضرب النار على هذا الحال لمدة ساعة تقريبا توقف فجأة لمدى خمس دقائق ريثما صدرت أوامر جديدة لحملة الشوم الغليظ ليمزجوا الدماء الذكية باللحم الطاهر والكتب الملابس فى مناظر لم يشهد التاريخ أسوأ منها, وسجل الشهداء بسطور من نور مواقف الإيثار والتضحية وأصبح لكل منهم قصة تروى يقول الأخ رشدى:
كان بجوارى أخا اسمه عبد العزيز الجندي من الشرقية جاءته طلقة من شراعة الزنزانة وهو جالس كتفى فى كتفه, وكان أخا كريما حافظا للقرآن جميل الصوت كان إمامنا فى الزنزانة, وكنا نقول له صل ولو بجزء فى الركعة الواحدة من جمال تلاوته وخشوعه. وكان لايكف عن القرأءة حتى وهو سائر فى طابور الليل ذهابا وإيابا مهما حدث لنا من إرهاق فى العمل.. وهو الذى يستحق الشهادة فعلا, وكل من اختارهم الله من بيننا كانوا يستحقونها وأنا أحفظ أسماءهم لليوم وهم:
- الأخ أحمد حامد قرقر
- الأخ أحمد عبد متولي.
- الأخ إبراهيم أبو الدهب.
- الأخ أحمد الشناوي
- الأخ الحاج رزق
- الأخ أنور مصطفى
- الأخ على إبراهيم حمزة
- الأخ خيرى الدين عيطة
- الأخ مصطفى حامد
- الأخ عثمان عيد
- الأخ سيد عزب صوان
- الأخ عصمت عزت
- الأخ عبد الفتاح محمود عطا الله
- الأخ عبد الله عبد العزيز الجندي
- الأخ محمود سليمان.
- الأخ محمود العطار
- الأخ محمد السيد عفيفي
- الأخ محمد قوارة
- الأخ فهمى نصر
- الأخ سيد علي.
وفى الساعة الثانية ظهرا توقف إطلاق النار ونقل المصابون إلى المستشفى بالليمان, ورفض مدير الليمان توسلات الأطباء بنقل الجرحى إلى المستشفيات الخارجية لقلة إمكانات المستشفى بالليمان قائلا: إن لديه تعليمات من فوق بأن يبقوا هنا وصدرت الأوامر بنقل جثث الشهداء خارد الزنازين ورصهم فى طرقات العنبر ومن حولهم الأطباق والجرادل والأرفف والملاعق لأيهام النيابة انهم تمردوا واعتدوا على السجانة وان السجانين قد دافعوا عن أنفسهم فقط وأخمدوا التمرد...
يقول الأخ رشدى: حضر تحقيق النيابة صلاح الدسوقي اركان حرب مصلحة السجون والذى عين فيما بعد محافظا ل القاهرة...
وقد سأل المدير السيد والى أمامنا كم واحدا ماتوا؟
قال المدير : واحد وعشرون.فقال صلاح الدسوقي: فقط؟ احنا كنا عاوزين مائة يموتوا.
فدهش وكيل النيابة ورفع رأيه من على أوراق التحقيق وسأل متعجبا :لماذا؟
فقال له الدسوقى : اكتب كل ما تريد فسوف يلف كل ما تكتبه ويعود إلىّ, فاكتب ما تحب. ويستطرد الأخ رشدى قائلا:
( بعد الحادث أخلت الحكومة ليمان طره من الإخوان ورحلونا إلى سجن القناطر , وذهب وراءنا ضابط العنبر عبد العال سلومة, وأسندوا إليه مرة أخرى مسئولية دور الإخوان بسجن القناطر... وقد استمرت تكديرة القناطر أربعة أشهرو أفهموا العساكر خلالها إننا قد قتلنا عشرين عسكريا وأربعة ضابط ليوغروا صدور السجانة علينا..)
وفعلا كانت التكديرة صعبة فقد كنا ننام فى الزنزانة على البرش ونضع القروانة مقلوبة مكخدة نضع رأسنا عليها, وحدث ذات مرة أن أذّن أحد الإخوة من الشرّاعة.. فأسرعوا بفتح لزنزانة وضربوه علقة شديدة وقالوا سنزيد التكديرة خمسة عشر يوما فوق الأربعة أشهر بسبب هذا الأذان..
ولم نعدم رغم شدة التكديرة وسيلة الاتصال ببعض بواسطة الحائط حيث يضرب الأخ على الحائط فيضع الأخ الآخر فى الزنزانة المجاورة أذنه مكان الضربة ليستمع إلى كلام من بجواره, فقامت الحوائط مقام التليفون فى تنظيم الاتصالات بيننا وعن طريق هذا الاتصال الهاتفى تواصينا إلا نشكو لعبد العال سلومة من أى شىء لأنه كان دائم المرور على الزنازين والسؤال عن طلباتنا من باب التشفى, وظللنا كذلك حتى ساءت صحتنا وكتب طبيب السجن تقريرا يخلى فيه مسئوليته عن صحة الإخوان, لأنها أصبحت فى خطر لعدم التغذية السيلمة والحرمان من التهوية والشمس ودورة المياه.. وأحسسنا أنهم يريدون أن يفكوا التكديرة بشرط أن نطلب نحن ذلك منهم.... ومر عبد العال سلومة وكرر أسئلته... ووجه سؤالا إلىّ كيف الحالى يا رشدى؟ قلت : الحمد لله.
قال: الأكل هنا أحسن.. أم فى طرة ؟
قلت كله نعمة ربنا هو الرازق هنا وهناك.
فلما لم يجد عندى جوابا شافيا.. تحول إلى الآخ عبد المنعم سليم جبارة وقال له: أنا مبسوط لأنك رزين وهادىء وكنت فى الليمان فى حالك وشكلك ومشيك تعجبنى ثم استطرد سائلا: أنا كل ما أدخل زنزانة وأسأل يقولوا متشكرين والحمد لله ما فى عندكم غير هذا.. هل أنتم تحمدون الله حقا على هذا؟فرد الأخ عبد المنعم سليم قائلا: أحب أن تعلم أن حكمى هو تأبيدة وأنا رجل دعوة وصاحب عقيدة, وأنا فى سبيل دعوتى وفى سبيل عقيدتى مستعد أن آخذ هذه التأبيدة على رجل واحدة, فكل ما تعمله لن يؤثر فينا مطلقا. وهذا يؤكد أنكم لم تفهموا الإخوان المسلمين حتى الآن.
فقال له مدير السجن عندما سمع هذا الكلام: من أجلك سوف تتغير هذه المعاملة من الغد..
وفعلا نزلنا فى اليوم الثانى طوابير وفتحوا الزنازين وسمحوا فيها بالطعام وبدأنا مرحلة جديدة فى سجن القناطر... وبعد سنة من وجودى فى سجن القناطر. قاموا بترحيل مجموعة منا إلى سجن الواحات الخارجة وكنت ضمن المجموعة التى رحلت إلى هناك.
رشدى فى سجن الواحات
على أثر ترحيل قسم 2 المؤبدين للحكومة إلى سجن مصر تمهيدا للإفراج عنهم حل محلهم عدد من الإخوان المغضوب عليهم من مختلف السجون مثل سجن القناطر وسجن أسيوط وبني سويف لينضموا إلينا باعتبارنا جميعا معارضين للحكومة.. وبهذا تكون قد وضحت نية الحكومة فى تجميع المغضوب عليهم فى مكان واحد.. ووصل الأخ رشدى ضمن مجموعة القناطر..
كان هذا التجميع مقدمة لترحيل الجميع إلى سجن المحاريق الذى بنى خصيصا بطريقة الزنازين لسهولة الضغط علينا وتكديرنا وتسخيرنا فى الأعمال المختلفة إذا ظل إصرارنا على رفض تأييد الثورة قائما..
أفادنا تسرب هذه الأنباء مقدما فى الإستعداد لهذا اليوم فلم يكن مفاجئا لنا.. أكثر من ذلك أنه أتيحت لنا فرصة على مدار شهر كامل تخلصنا فيها من كل ما لدينا من طيور وأرانب ودواجن بإقامة مختلف الولائم... وحظى الأخ رشدى ومجموعته معنا فى هذا الشهر بأكبر عدد من الولائم جاءت فى الوقت المناسب تعويضا لما مر عليهم من تكديرات وتمهيدات لمرحلة جديدة قادمة لا نعلم ما يخبئه القدر فيها..ز لم يسجل رشدى فى هذا الشهر شيئا جديدا فهو من الذين يقلون عند الطمع ويكثرون عند الفزع. وجاءت أيام الفزع فى سجن المحاريق.. وخرج رشدى من مكمنه يصول ويجول ويحقق ما يعجز عنه الآخرون.
فى سجن المحاريق
فى عصر أحد أيام أغسطس 1958 ولم يكن قد مضى على وجود رشدى فى سجن جناح شهر واحد, فوجىء الجميع بمأمور السجن السيد منير كيرلس يدعو إلى احتماع بجوار مبنى الثلاجة الواقع فى الساحة الكبيرة ليفاجىء الجميع – هكذا توهم – نبأ وصل رتل من سيارات النقل فى نفس الليلة لنقل الإخوان على عجل إلى سجن المحاريق. ومع الغروب وصلت العربات حسب التوقيت الحكيم وأخذت فى ابتلاع الأمتعة وبدأت بالشيوعيين ,اسف الإخوان حين وجدوا فى مخلفاتهم تقارير توصى بتقسمنا إلى فئات: للإعدام... وللنفى مدى الحياة... ولغسيل المخ حسب مقتضى الحال.
توقف رتل العربات فى الطريق ريثما أدى الإخوان صلاة الفجر وبعد الصلاة اعتلوا العربات ليبدأ فصل جديد من تلاوة القرآن وترديد مأثورات الصباح, وكان ذلك كله يعكس معانى الاطمئنان والتسليم... وكان يشيع خلال هذه اللحظات التى تشهد انسلاخ النهار من الليل صمت مقدس له سحره وجلاله.
دخلت القافلة العجيبة مدينة الخارجة عاصمة الوادي الجديد مع شروق الشمس, وهى تقع فى منتصف المسافة بين سجين جناح وسجن المحاريق,وهى لا تعدو كونها كبيرة بكل ملامح القرية من دور ريفية وحارات وأزقة وفقر شديد باد على وجوه الناس, ولم ينس الإخوان أن يتذكروا قصص المروءة والشهامة التى قام بها عمدة البلدة نحو زوارنا الذين كان يكوم وفادتهم وهم فى طريقهم إلى زيارتنا بسجن جناح... كذلك تذكروا كا كان يرسله إلينا سرا كل حين من هدايا من تمور الواحات معرضا نفسه بذلك للخطر..
تجاوزت القافلة مدينة الخارجة مصوبة نحو الشرق فى اتجاه سجن المحاريق وقد خلا الطريق الجديد من السحر والروعة اللذين أحس الإخوان بهما فى الطريق الأول الليلى ما بين جناح ومدينة الخارجة... كان الطريق الجديد معبدا كطريق زراعى مألوف .. وبعد برهة من الوقت تعلقت الأبصار بشىء بعيد بدأ يتضح رويدا رويدا حتى وضحت معالمه تماما.
تلك هى المبانى البيضاء التى تضحك شمس الضحى فوق أسطحها فتزيدها جلاء, وكانت ظلالها تمتد نحو القادم الجديد كأنها أذرع حانية ترحب به وتضمه إلى أحضان قدره الجديد فى سجن المحاريق..
مع ارتفاع شمس الضحى دخل رتل العربات والشاحنات إلى فناء السجن الجديد وقد دخلت كل عربى من المكان الذى راق لها حيث لم تكن أقيمت الأسوار حول العنابر الثلاثة التى يتكون منها السجن يعتمد فى حياته على المياه التى تصله عبر أنابيب ممتدة من عين ماء تقع جنوب المبنى على بعد كيلو مترات . وسرعان ما أفرغت العربات حمولتها التى كانت مكتظة بها لتكتظ بها الزنازين فى العنبرين المخصصين لنا..
يتكون كل عنبر من جناحين كل جناح من عشرين زنزانة على كل جانب عشرة بينهما ممر مسقف فى نهايته من الداخل تقع دورة المياه لكل جناح..
بدخول آخر عربة إلى فناء السجن انتهت علاقتنا بالطاقم القديم من ضباط وسجانة ومأمور وأصبحنا أمام طاقم جديد ووجوه جديدة لم تألفها من قبل, وعلى راسها مأمور السجن الجديد المقدم ضياء الذى وصل منذ أيام... ولقد قدر لى والأخ رشدى ان نعيش فى هذا السجن حتى فبراير 1961 قبل أن نرحل إلى سجن القناطر وأن نشهد فصلا فريدا من تاريخ الدعوات..
استأ هذا الكلام باسم السجن من أول يوم, ولم يحظ بلقب معسكر يوما واحدا كما كان الحال فى جناح.
انتباه
انتباه... يا لها من صيحة مزعجة كريهة يغتم لسماعها كل يعرف مقدار ما تنطوى عليه من عبودية وإذلال للصائح بها, ومقدار ما تنطوى عليه من صلف وغطرسة وغباء للمعنى بها... وهى أسوأ ما ورثنا من الإستعمار فى تربيتنا العسكرية بدل إفشاء تحية السلام, مهما قيل فلا تبريرها خاصة عندما تقترن بالنفير المنفر الذى تكتمل به الطقوس الوثنية فى علاقة الإنسان بأخيه الإنسان...
كانت المظاهرة هذه من النداءات المتوالية والنفير المدوى هو أول ما استقبلنا به صباحا جديدا... فهمنا على الفور أن زوارا غامضين قد وصلوا إلى السجن وأحسسنا من الحركة المحمومة كيفية تنقلهم داخل السجن.. فالنفير يقترب ويبتعد ثم يصلنا صوته من الشرق وتارة من الغرب مختلطا بالسباب والهرولة, فصوت النفير يكشف عن اتجاهات التحركات وسرعتها بل إن ارتعاشته فى الصوت أحيانا كان لها معنى لدينا.
وتسلقنا فوق أكتاف بعضنا لنلقى نظرة من نوافذ الزنازين على ما يجرى ... وفجأة قفز الإخوان إلى الأرض وقبل أن نسألهم عن السبب كانت انتباه المشئومة والنفير والسباب والهرولة وقد وصلت باب عنبرنا مباشرة تسبقها طرقات الأحذية الغليظة وهى تنهب ممر العنبر أمام الزنازين...
الحريق
دلفت الطغمة الشريرة بخيلها وخيلائها إلى العنبر..ز وصدرت التعليمات السريعة بفتح الزنازين.. واحتبست أنفاسنا وترقبنا ما يحدث.
وتوجسنا شرا وتعجبنا من أمر هذا الزائر الغامض الذى تجرى الضباط بين يديه كأنهم صغار الجنود... ولم يكن هناك وقت للتعجب فنداءات الضباط تتوالى.
اخرجوا بسرعة إلى فناء السجن فورا... بكل ما معكم من أمتعة.. انهض بسرعة.ز قم يا ولد... أسرع يا مسجون.. وخرجنا كالقذائف الموجهة.
وما هى إلا دقائق حتى كنا جميعا فى الفناء بعد أن أخليت الزنازين تماما وتركناها خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس.
واستطعنا رغم العجلة أن نتبين الوجوه والرتب التى جردت لهذه المهمة الوطنية الكبرى... كان بينهم الرجل الطيب اللواء محمود صاحب وكيل مصلحة السجون.. رغم أنه يحبنا ونحبه إلا أنه لا يستطيع أن يفعل لنا شيئا, فقلبه مع على وسيفه مع معاوية. وكن من بينهم أيضا العقيد البشلاوى وغيرهما من الضباط المزودين بالسلاح فضلا عن رجال الشرطة العسكرية المدججين بالمدافع الصغيرة والبنادق بكاباتهم الحمراء.
لم تكن الخطورة فى كل هؤلاء.. بل كانت تكمن فى اقل الزوار رتبة وأكثرهم نفوذا وهو الرائد محمود خليل أركان حرب مصلحة السجون ومعنى ذلك أنه على صلة مباشرة برجال الثورة, وله كلمة عليا نافذة على كل الرتب فى المصلحة حتى أن جبار المصلحة اللواء إسماعيل همت المشهور بإجرامه وبطل مذبحة طره.. كان يسير فى ركابه ويتلقى الأوامر منه... أمرنا أن نتخلص على الفور من كل الملابس المدنية ومن كل الأمتعة وتسليم كل ما معنا ونقف صفوفا بملابسنا الداخلية..
كانت نية الإستفزاز واضحة فى كل أمر وكل حركة وكل نظرة إلينا وقمنا بتنفيذما طلب منا, وسرنا صفوفا أما أكوام ثلاثة من البطاطين وملابس السجن الزرقاء والأبراش, وكل منا يتأبط نمرته تسوقه زمجرات البشلاوى وصيحاته إلى إحدى الزنازين, وكلما ازدحمت زنزانة ملأوا الأخرى ثم أحكموا غلق الزنازين وانصرفوا..
وفى اليوم التالى أضرموا النار فى جميع أمتعتنا وأتت النار على أمتعة المؤيدين أيضا من باب الخطأ.. ولم يفلت السجانة والموظفون الفرصة فنهبوا ما استطاعت أيديهم أن تصل إليه قبل أن تأتى عليه النار.
وهكذا خرجنا إلى الحياة البسيطة وتخلصنا من فوارقنا الشكلية ومن كل متاع الدنيا, وهذه الحياة البسيطة لا تتمييز فيها لأحد على أحد فى ملبس أو مأكل أو مسكن.
لم تكد تغلق علينا الأبواب ويبتعد الجيش الظافر بأسلابه وغنائمه مشيعا بالانتباه وأصوات النفير حتى حمدنا الله لعدم وقوع أى اصطدام وأخذنا نستعيد ذكريات هذه اللحظات المفاجئة بكل ما فيها من زمجرات البشلاوى وحركاته, ومن ارتعاشات أحمد سليمان ضابط عنبر 2 حتى أطلق عليه الإخوان أحمد مرعش ومن أشياء كانت تصدر من الضباط والحراس المذعورين, ومن منظر حارس العنبر وقد ألجمه الخوف فلم تخرج من فمه كلمة انتباه والبشلاوى يلكمه فى صدره قائلا:
قول انتباه يا ابن الكلب..
والمسكين يحاول فلا تخرج الكلمة من فمه وهو يتصبب عرقا ويكاد يختنق وهو يستميت فى المحاولة, ارتفعت الضحكات هنا وهناك...
وكاد ذلك يوقعنا فى إشكالات مع إدارة السجن فكان يوصى بعضنا بعضا من خلال الشراعات بالتخفيف من جو المرح حتى لا تظنها إدارة السجن ذات العقلية العسكرية تحديا لها أو استهزاء بها..
عنبر المؤيدين
حدث نفس الأمر مع عنبر 2 الخاص بالإخوة المؤيدين للحكومة ولكن بأسلوب أهدأ وعلى وقت كاف خال من الاستفزازات والسباب وخال من الوعيد غذ لم يكونوا هم المقصودين بهذه التكديرة.. فكانوا هم وكل المرضى عنهم من الشيوعيين والمسجونين العاديين فى عنبر واحد يجمعهم الأمان من الخوف... لقد توهمت السلطات أنها وضعتنا فى غيابة الحب, أو فى بطن الحوت حتى تفنى أجسادنا أو تهلك بمرور الزمن مثلما تبلى نفوسنا, أو تهون روابطنا بوقوع التأييد القسرى للثورة, وما دروا أننا دخلنا مدرسة الأنبياء الذين جعلهم الهل أسوة لنا وعزاء فى الدنيا وجعلهم حجة على غيرنا فى الآخرة.. مهما اجتهدت فى تصوير الإيذاء ومقابلها فى نفوسنا من مشاعر الإيمان والصبر وفقه معانى القرآن الكريم فإننى لن أصور إلا النزر اليسير منها ولن استخرج من كنوز ما فى مشاعرنا إلا ما هو أقل من ذلك...
لم يعد الشعر والأدب بقادرين على أن يمدانا بطاقة الاستمرار وأخليا مكانهما للقرآن الكريم. لذلك فقد الكثير من الشعراء والأدباء الحمس لهما ورأوهما دون ما ينشده صدق التعبير...وكنت كلما عاتبت أحدهم اعتذر قائلا: يا أخى إن أى تسجيل فيه إهانة كبيرة للحقيقة بل فيه إساءة إلى التاريخ.
الحياة فى بطن الحوت
والآن كيف جرى علينا القلم فى بطن الحوت المسمى بعنبر 3 أو عنبر المعارضين؟
طبيعى أن تنقطع الصلة بالدنيا وبأقرب من فيها إلينا وأولهم الأهل فلا زيارات ... ولا مراسلات ولا صحف ولا إذاعة ولا أمانات, ثم زادت العزلة حتى فى بطن الحوت بألا تفتح زنزانتان معا فى وقت واحد لأى سبب من الأسباب..
كان القاسم المشترك بين جميع الزنازين على مدار اليوم والليلة هو الجوع والبرد فالمصروف لنا من الطعام والغطاء ضيئل جدا بالنسبة لجو الصحراء ... كانت أجمل هدية يرسلها الأخ لأخيه عبر شراعات الزنازين هى كسرة خبر .. ويم احتفلنا فى الزنزانة بذكر ميلاد الأخ حامد الغمراوي كانت مفاجأة تورتة مرصعة بعيدان الكبريت نجح وزير تموين الزنزانة فى تدبيرها...
كانت التورتة عبارة عن رغيف من الخبز مدهون بالعسل الأسمر تقاسمناه نحن العشرة عقب الحفل فى نهم وامتنان..
كذلك كانت حيلنا أعجز أمام البرد الشديد... وما أكثر من أصيبوا بأمراض روماتيزمية أقعدتهم عن الحركة تماما.... الرئة الوحيدة فى الأيام الأولى من حياتنا بسجن المحاريق وخاصة فى أعقاب الحريق الذى أتى على أمتعتنا قبل إحكام غلق الزنازين علينا فى بطن الحوت - عبر 3 – كانت تجرى إصلاحات كثيرة بأرض السجن, تستلزم نقل الأحجار والرمال ورفع المخلفات, وسخروا لهذا العمل فريقا منا – أى من المعارضين – ونزهوا عنه كلا من المؤيدين والشيوعيين. كانوا لا يزيدون عن العشرين أخا يمضون سحابة يومهم فى جو مشحون بالعمل والتوتر. حتى إذا ما انتهت أعمال السخرة نبتت فكرة تحويلهم إلى مزرعة السجن المحيطة بعين المياه الواقعة على عبد كيلو مترات جنوب المبنى, ليقوموا بعزق الأرض وحرثها وتنقية الحشائش وبالجملة كل ما يهيىء الأرض للزراعة.
أما ما يخرج منها فإنه يحال بينهم وبينه, حتى لا تختل سياسة الحرمان والتكدير المضروبة علينا.. كنت واحدا من هذا الفريق – سعيت إلى حتفى بطلفى كما يقولون – فعندما سمغت رقيب السجن فى طرقات العنبر:
-هل من متطوعين لينضموا إلى فريق العمل بالمزرعة؟
ناديت بأعلى صوتى: اكتب اسمي فتعجب إخوان الزنزانة قائلين:
-هل جننت.. لقد بح صوت الرقيب دون أن يجاوبه أحد لرؤيتهم الذى يحدث لزملائهم وإخوانهم العرشين الذين يعملون فى إصلاح السجن وتنظيفه فكيف يذهب الإنسان إلى هذه السخرة طائعا..؟
قلت: كلمة المزرعة تشدنى... ولها سحر لا يقاوم لدينا نحن أبناء الريف.. وكل أعمالها الشاقة ستكون محببة إلى نفسى..
-والمعاملة القاسية من السجانة والتعليمات والاستفزازات كيف ستصبر عليها؟
-كل شىء يهون من أجل عيون المزرعة وما قد يأتى من ورائها من صلة بالعالم الخارجى... لابد لهذا الحوت من رئة يتنفس بها وإلا اختنق.. ويتدخل الأخ عبد الرحمن البنان بروحه المرحة قائلا: -دعوه يا إخوة فإنه صاحب مبدأ التغيير ولو إلى اسوأ.
ويتضاحك الباقون قائلين:
-بل هو دبور زن على خربا عشه
زنزانة رقم 13
قامت إدارة السجن بتسكين فرقة المزرعة فى زنزانة واحدة وهى رقم 13 حتى يعامل أفرادها معاملة خاصة لا تخل بسياسة الفتح والغلق لزنازين العنبر.
وعشت فى الدوامة اليومية التى تبدأ فى الصباح بصياح السجانة على العمل فى أعقاب جولة التفتيش التى تشمل أغلب أيام الأسبوع, ومع علم الإدارة بان العنبر على البلاط إلا أن التعليمات تقضى بتوالى عمليات التفتيش لإشاعة القلق والضيق باستمرار, وأيضا لتقوية دواعى الاحتكاك لأن لديهم رخصة تطويره إلى الاحتكام إلى السلاح..
بعد خروجى طابور المزرعة يبدأ الروتين اليومى بالجلوس القرفصاء العد عدة مرات, ثم تتوالى التنبيهات والتحذيرات, وأخيرا ينادى الجاويش: دوغرى فنهب واقفين, ويبدأ السير وحولنا السجانة بالعصى ومن ورائنا عدد من المسجونين العاديين المخصصين للأعمال الخفيفة ويحاذينا عن بعد حنزير من رجال الكتيبة المسلحين بالنبادق.. ويبدأ الجاويش عبد النبى يصول ويجول طول الطريق وكأنه يقود فيلقا حرسيا منتظم الخطىء, وأحيانا يهوى بعصاه الغليظة على ظهور المسجونين لإرهاب الباقين ونحن فى مقدمتهم.. وكثيرا مات تحين الفرصة لنصحه بالإقلاع عن ذلك ولكنه كان كتلة صماء من التعليمات.
وتتكرر قصة الجلوس والتعليمات والتحذيرات فور وصولنا المزرعة وقبل ذهابنا إلى موقع العمل.. كان طابور المزرعة صورة مصغرة لطابور ليمان طرة الذى انتهت مأساته بالمذبحة الشهيرة.. ولا ينسى الجاويش عبد النبى أن يوجه تعليماته الأخيرة إلى حرس الكتيبة قبل انتشارهم على حدود المزرعة قائلا لهم:
-إذا حاول احد هؤلاء المسجونين الاقتراب من أسوار المزرعة أطلقوا عليه النار فورا وفى اليوم التالى سيرقى من أطلق النار ويأخذ شريطا آخر..
ثم يلتفت إلينا قائلا:
-حد يزعل من هذا الكلام
فيرد عليه أحد الإخوة الظرفاء هو الأخ توفيق علام قائلا:
-وهل ضرب النار يزعل حد؟
ويضحك الجميع ما عدا الشاويش عبد النبى طبعا.
ظهور رشدي على المسرح
رغم المعاناه اليومية من هذا الطابور إلا أنه كان فى النهاية هو الرئة الوحيدة التى حفظت على الحوت الحياة..
فكميات ( السريس) التى كنا نهربها معنا يوميا للزنازين كانت ذات نفع كبير طبيا للمحرومين من الشمس ومن الغذاء الكامل...
وذات يوم عند عودتنا إلى العنبر فوجئنا بأن الذى ييسر لنا الدخول من البوابة ويحول دون تفتشنا هو الأخ رشدي عفيفى الذى يجلس على الكرسى بجوار السجان المكلف بالعنبر, ثم كان هو الذى قام وفتح لنا الزنزانة بالمفتاح الرسمى الذى لا يختلف كثير عن سلاح السجان فى خطورته.. كيف استطاع أن يروض السجان حتى أن يسلمه المفتاح عن طيب نفس ليقوم بدوره بدور خطير فى فتح باب أى زنزانة يرغب أفرادها فى الذهاب إلى دورة المياه, أو فى جلب الماء أو فى الاستحمام وهذا يخالف التعليمات المشددة ويناقض قصدهم من التكديرة..
الآن فهمنا لماذا لم يخرج رشدى لطابور المزرعة لأنه كان يخطط ليكون لهذا الحوت أربعين رئة يتنفس بها, لا رئة واحدة وهى مجموع زنازين جناحى العنبر...
ورغم أن الإدارة تأخذ احتياطها بدوام تبديل السجانة المسئولين عن العنبر وجعلهم اثنين لا سجانا واحدا ليكون كل منهما رقيبا على الآخر إن حدث أدنى إخلال..
إلا أن رشدى كانت له مقدرة عجيبة يبدأها بالحديث مع السجانة ممن شراعة الزنزانة ..
لا أدرى ماذا كان يقول لكل منهم ولا كيف يتسلل الحديث بينهما..
لم يخطئه التوفيق مرة واحدة, صحيح إن فترة الترويض كانت تطول أو تقصر للرقابة الشديدة على السجانة والتعليمات الشديدة بعدم التحدث إلينا والإغراء بالترقية فى حالة إيذائنا.. إلا أن شيئا من ذلك لم يحل دون وصول رشدي عفيفي إلى هدفه بفضل الله وحده حيث كانت تنفتح له قلوب السجانة حتى ليقدم أشدهم مراسا على التضحيات معه...
وليس هناك تضحية يقوم بها سجان أكثر من تسليم مفتاح السجن أى تسليم روحه لأحد المسجونين خاصة إذا كان المسجون هذا من المحكوم عليهم فى قضايا الإخوان المسلمين وهو يرى ويسمع كل يوم الوعيد الذى لا يتوقف من جميع الرتب العسكرية بالمصلحة ببلاء العافية وسوء المصير...
لم يكن ما يقدمه رشدى إلى السجان من طعام خفية أو من نقود نجح فى تهريبها وراء هذه النتيجة لأن أياما طويلة مرت وأشهرا عديدة لم نكن نملك فيها من متاع الدنيا شيئا فأى شىء كان لدى رشدى جعله يغرى السجانة على التوالى بهذا التجاوب معه... إنه توفيق الله الذى حبا هبه وبشخصيته الريفية الواعية المثقفة.
شخصية صادقة جذابة حتى أن السجان ليعد مجرد معرفته برشدى مغنما كبيرا ولو كان رشدى خاوى الوفاض. إذ كان يوحى بالشعور بأنه رجل يعتمد عليه حتى وهو داخل جدران السجن.
فكم من مرة استطاع من الداخل أن يحل مشكلة عائلية أو مالية لأحد السجانة فى الخارج.
حتى أحبه السجانة والمسجونين وسرى الهمس بينهم بشأنه, حتى صار هم من ينقل من عنبرنا هو توصية من يأتى بعده بنا جميعا من خلال رشدى.
وهكذا قيض الله لهذا الحوت التنفس الصامت من خلال يفتح الزنازين متى أراد الإخوان فضلا عن تسقط الأخبار فى جلساته مع السجانة الذين كانوا يمدونه بآخر ما يسمعونه من راديو الكتيبة.
وهكذا خفت الجدران واستراحت النفوس ولهجت الألسنة بالحمد والثناء على الله.
كان التقدم نحو الأحسن فى حياتنا فى بطن الحوت يأتى من تقدم الدور الذى يقوم به رشدى مع السجانة.. فطابور المزرعة مهمته محصورة فى جلب السريس" الذى أدخل تحسنا على صحة الإخوان فى الزنازين...
ولكن راحة الإخوان الكبرى كانت تأتى من تولى رشدى أمر فتح الزنازين وغلقها, فإذا ما اشتم رائحة مرور أحد من ضباط السجن أوسع بتسليم المفتاح للسجان وعاد إلى مكانه على البرش داخل الزنزانة... واستمرت الزنازين مغلقة طوال مدة مأمور السجن المقدم ضياء, ومن هنا كان دور رشدى مع السجانة مهما لأنها أربت على السنة والنصف تقريبا.
ولا شك أن لكل سجان قصة مع رشدى لم أظفر بعد بمعرفة ما قابله فى كل حالة على حدة, فكثرة تغيير السجانة معناه كترة تجاربه معهم.
لكن الشىء الثابت المستمر هو دوام توفيق الله له فى كل الأحوال والظروف . وكان الكثير من السجانة يخصون زنزانة رشدى بالفتح ليلا للسهر معه إلى وقت متأخر من الليل, والإخوان يذكرون العديد من قصص رشدى فى ذلك.
فهذا الجاويش"هوهو" الذى نسى الإخوان اسمه الاصلى ونعتوه بهذا الإسم الجديد لأن صياحه بصوته المبحوح طوال اليوم كان هو وهوهوة الكلب سواء, حتى أن أحد الإخوة نسى ذات يوم وناداه قائلا : يا عم هوهو فكادت تحدث مشكلة كبيرة لولا أن الله سلم.
على النقيض من ذلك كان يوجد سجان آلى على نفسه إن يقدم لنا أقصى ما يستطيع من خير إيمانا وإحتسابا لاعتقاده أننا على حق وقد ألزم نفسه بأمرين طول مدة حراسته للعنبر:
عدم الكلام إطلاقا, وعدم تناول أى طعام منا.. ومن ثم فقد حرص على الصيام يوميا لمدة شهرين هى فترة حراسته علينا , إذ نادى عليه أى أخ لا يرد إلا بالإشارة أو بالإيماءة ويزوم من غير كلام حتى مع رشدى... وذلك حرصا منه على عدم إيذاء أى أخ.
هكذا كانت تتوالى علينا الدروس والعبر التى يعاين فيها الإخوة قدرة الله الذى يخرج الماء من الصخر, والذى جعل الإسلام حيا فى قلوب من تتصورهم أجهزة الأمن أبعد الناس عن العاطفة فاختارهم على علم لهذه المهمة الخطيرة.
ولا ننسى أيضا الجاويش السكاسينى الذى كان رشدى يحقق رغبته بفتح الزنازين له, وليتولى إقناعنا بأعمال الثورة المجيدة... وكان يسعد كلما استمع له الإخوان حيث كان يظن أنه سينجح فيما فشل فيه كبار الضباط.
وكان طربه لتجاوبنا معه يجعله يتغاضى عن فتح الزنازين عن طريق رشدى وبعدد كبير من الزنازين. ومن صور المحاورات الظريفة معه أنه دخل إحدى الزنزانات يوم وقال لو علمتم ما وصلت إليه البلد من تقدم فى ظل الثورة لأسرعتم بتأييدها فقال له الأخ أحمد عبيد:
لم يخبرنا أحد يا عم السكاسكينى ونحب أن نسمع منك فقال:
لقد اخترع الجيش المصرى مدفعا له ست وثلاثون عينا تصوب مرة واحدة إلى العدو وبعدها يغوص المدفع بجميع فوهاته تحت الأرض... فأظهر الإخوان التعجب قائلين:
لو أخبرنا أحد بذلك يا عم السكاكينى لتغير موقفنا السياسى ولكنك أنت الوحيد الذى تخبرنا بهذه الأشياء الغريبة ونأمل أن تزودنا بالمعلومات لنراجع أنفسنا.
فيعود إلى زملائه السجانة منتشيا بما حققه من تأثير عجزت أجهزة الأمن كلها عنه, ونشوه الفرح لديه تجعله يتغاضى عن فتح رشدى الزنازين جميعا فى وقت واحد لينتقل الإخوان بينها بحذر وحساب.
قف للأحلام السعيدة فستبدأ الحكومة سياسة جديدة
كان أملنا أن تسير أحوالنا نحو الأحسن... ولكن كان للحكومة قصد رجيم لم يتحقق, وهو إكرامنا على التأييد ولا تعلم أجهزة الأمن السر فى فشل حدوث النتائج السريعة التى كانوا يتوقعونها.
لذلك كان لابد لهم من تغيير طاقم السجن كله من مأمور وضابط وسجانة لتبدأ معنا من جديد بطاقم آخر له شهرة فى البطش والتشديد على رأسه الطاغية فريد شنيشن صاحب التاريخ السود فى سجن قنا.. سجن التغريب ... وقد نزلت علينا هذه الأخبار نزول الصاعقة.
وتبخرت معها أحلمنا السعيدة...
وبدأت سلطات رشدى فى الانحسار...
المحنة تشتد
وجاء الطاغية الذى كنا نخشاه.. وصاحب وصوله توتر عام وسكون مخيف فى جميع أرجاء السجن ذكرنا بأيام الحملة الغشوم التى أشعلت الحريق... لكن تلك الحملة لم تدم إلا أياما قليلة فكيف بهذا الإعصار الجديد الذى سيدوم أشهرا طويلة.
لقد اختارته الجهات العليا لهذه المهمة الصعبة بعد أن أذاع صيته كقائد لسجن التعذيب بقنا.. لقد قضى على التو على الرئة الوحيدة التى كان يتنفس منها العنبر بتوقف طابور المزرعة, :/ا قضى على كل ما نجح فيه رشدى فى علاقته مع السجانة, لأن طاقما جديدا من السجانة قد جاء مع المأمور الجديد, حرص المسئولون على التقائه بالطاقم القديم حتى لا ينتقل إليهم أى تأثير ويكونوا بذلك صالحين لتنفيذى السياسة الجديدة التى ستقوم على أقصى درجات الشدة... ولم يعد رشدى يحلم بوصول المفتاح إلى يده مرة أخرى.
النفير يدوى وانتباه اللعينة تتوالى وبعدها دلفت طغمة الشر من ضباط وجنود إلى العنبر تهرول أمام المأمور الجديد فريد شنين.. لم يلبث أن أصلى كل زنزانة داخلها نارا من وعيده وتهديده. انتهت جولته بسلام وحرنا فى تحليل شخصية الرجل وفى الاحتمالات المتوقعة على يديه... ولم تلبث الأيام أن أخرجتنا من حيرتنا...
فها هى التفتيشات اليومية تشدد ولما كانت الزنازين خاوية ولابد للحملة أن تعود ظافرة بالأسلاب والغنائم فلم يكن أمامها إلا حمل الأثقال من الأحذية والشباشب وتجريدها منها... وما يفلت من أيديها تستعمله جميعا بعد المعركة..
ولقد بالغ الإخوة المسئولون فى التنبيه والتحذير من أى شىء ممنوع حتى لا يتخذه المأمور حجة للنيل منا, وهو الذى أطلق قذيفة بيننا قائلا: ( إن فى سلطتى أن اصطنع موقفا يبرر لى قتل أى عدد منكم وعندئذ سأقدم لمحاكمة صورية أحال بعدها إلى الاستيداع ريثما أتسلم إدارى أى مؤسسة أو شركة بضعف مرتبى الحالى).
وهكذا فقد أضيف إلى معاناتنا للجوع والبرد عنصر جديد لا تتم المحنة إلا به هو الخوف مما يخبئه لنا الغد على يد هذا الطاغية الجديد...
مرت أربعة أشهر عجاف لم يجد فيها شنيشن ثغرى ينفذ منها إلينا كان الإخوان قد أجهدوا فيها صحيا برغم معنوياتهم العالية النابعة من شدة القرب إلى الله, ومن الشعور بالانتصار... إلا أن هذه الروح العالية لم تمنع من انتشار الأمراض كأمراض نقص التغذية وأمراض زيادة الرطوبة....
بأية حال عدت يا عيد
وجاءت فكرة الإحتفال بعيد النصر من نبت أذهان المؤيدين بعنبر 2 هم وبعض الشيوعيين لتكون مرآة ولائهم للثورة..
وفى الليلة الموعودة أخرجنا على الفور بسيل من السجانة وأجلسنا فى الجانب الأيمن المخصص لنا من السرادق الكبير المقام بين العنبرين, وفى الجانب الأيسر جلس المؤيدون فى المقدمة يليهم الشيوعييون المعتقلون الموجودون بعنبر 1 فقد حرموا لحسن حظهم من هذا الحفل, لأنهم كانوا حديثى عهد بتكديرة يساقون بسببها كل صباح مشيا على الأقدام لإصلاح بعض الطرق حول السجن...
كان كل ما يقال فى الحفل الذى بدأ بكلمة الافتتاح من المأمور فريد شنيشن ثم من أزجال وكلمات وتمثيليات مليئة بالغمز واللمز والنفاق..
ولذلك اقترن الغضب فى نفوسنا بالاستصغار لما يجرى ولم نشارك بأى تصفيق.
واعتبر المأمور ذلك إهانة له شخصيا وتحقيرا للمناسبات الوطنية ثابتا.
وبتنا ليلة مليئة بالترقب وأصبحنا صباحا ثقيل التنفس, ولم يمض يومان على هذا الحفل حتى الرد على موقفنا بترحيل جميع المؤيدين إلى القاهرة للإفراج عنهم....
ولم ينسوا بدورهم أن يختموا حفلهم بالهتافات بحياة الزعيم والثورة ولكن الرد الحاسم على موقفنا لم يأت بعد. غذ فوجئنا فى اليوم التالى للترحيل بحركة فى السجن فى صباح يوم قارس البرد من أيام يناير فقمنا من نومنا فزعين على صرير الأبواب ووقع الأحذية الغليظة وهو تجوس خلال الزنازين تدوس كل شىء فى طريقها وسط عاصفة من النداءات والأوامر بالخروج السريع إلى فناء السجن دون توان أو مناقشة..
وبعد لحظات كنا جلوسا القرفصاء فى صمت رهيب كأن على رؤسنا الطير لا يقطعه إلا حركة الحراس المذعورة...
والكل فى انتظار قرارات الطاغية الذى سيثأر بها لكرامته وكرامة الثورة من موقفنا من الحفلة وما هى إلا دقائق حتى خرج علينا يتهادى فى زينته, ووقف أمامنا بقامته الفارعة وعيونه الجاحظة وانبثق فمه عن سيل الحمم.. ( لقد قررت الدولة أن تستفيد من عضلاتكم, لأنها يئست عن عفوكم الصلبة وستقومون بشق الترع والمصارف إلى ما يشاء الله حتى تستجيبوا لما نطلبه منكم).
ران صمت رهيب فى أعقاب هذه الكلمات الحاسمة لأننا أدركنا منها بحسنا المتمرس على فهم أساليب الطغيان شيئا أعمق من السخرة فى العمل, مثلما حدث مع إخوة فى ليمان طرة حيث اتخذ الإنتاج وكمياته ذريعة للإحتكاك الذى وصف بالتمرد , وعليه فقد استدعيت دواعى الأمن قمعه بالسلاح... انصرف المأمور بعد كلماته المنتقاه وتوالت النداءات الغليظة بعد توزيع أدوات العمل من فؤوس وكوريكات ومقاطف.
وخرج طابور طويل من البوابة الشماليى للسجن فى اتجاه الصحراء الغربية يتكون من مائتين من الشباب المسلم الفتى كلهم من العقد القالق إلا قليلا ممن هم حكم الآباء , ملابسهم زرقاء, أغطية رؤوسهم بيضاء يحملون أدوات العمل على أكتافهم المعتزة, وخلفهم يسير طابور آخر من ستمائه شيوعى بملاس الاعتقال المتسخة البيضاء حفاة الأقدام وأمام الجميع عربة حراسى تحمل الحملة وخلفهم عربة أخرى تحمل ثلة من الجنود المسلحين وعلى الجانبين جنزير كبير من الحراس المدججين بالأسلحة...
وهناك فى جوف الصحراء وفى المكان المخصص للعمل وجدنا كل شىء معدا لاستقبالنا, وتوقف الطابور إلى أن تمت مراسيم توزيع العمل علينا وعلى الشيوعيين مشفوعة بالتهديدات اللازمة إن حدث أى تقصير فى تسليم المقطوعيات... مقرونة بأقصى التشديدات العسكرية على الحراس ليراقبوا التنفيذ بدقة وليمتنعوا تماما عن الحديث مع أى مسجون أى معتقل خشية أن نستميلهم إلينا او على حد تعبير الضابط لهم ( حتى لا يلفوكم)..
وانتشر الحراس المسلحون فى دائرة كبيرة حول منطقة العمل وعلى المرتفعات الجبلية المحيطة بالموقع ونصبت المدافع المصوبة نحونا لكل من تسول له نفسه فى الهرب أو التفكير فى التمرد.. ولا ندرى كيف نجح الأخ رشدى فى عدة أيام من فتح حديث مع أحد الحراس حتى نسى الحارس نفسه, ولما شعر أن الحديث مع رشدى قد استهواه, وأن سلاحه بدأ يتراخى من يده, فزع كمن لدغه الثعبان قائلا: الله الله... أنت حتلفنى... انتباه يا مسجون وابتعد عن رشدى بسرعة الصاروخ.. فصرنا نتندر بذلك فيما بيننا... لأن رشدى لم ييأس ويحاول فتح أى ثغرة فى جدار التعليمات..
رشدى أتته الفرصة
وأتت الأخ رشدى الفرصة عندما تقرر إيقاف عمل الصخرة على الفور وتحويلنا بعده إلى الأراضى المحيطة بالسجن, وإلى فناء السجن وإلى الأراضى الواقعة حول مزرعة السجن...
جاء هذا التحول الفجائى القدرى بعد قصى طويلة عشناها فى شق الترع والمصارف, ورد ذكرها بالتفصيل فى كتاب " عندما غابت الشمس" ولأننا فى هذا الكتاب الصغير نتناول كل ما له علاقة بالأخ رشدى بالدرجة الأولى, لذلك تجاوزت هذه الفترة لأصل مباشرة إلى الظروف التى استجدت, وفتحت الباب لرشدى لنرى فيها صولاته وجولاته العجيبة, كان سبب التحول الفجائى وفاة شخص شيوعى بمعتقل " أبو زعبل" يسمى شهدي عطية على اثر مشادة وقعت بين إدارة المعتقل والشيوعيين استخدمت فيها العصى لتفريق المعتقلين من الشيوعيين وكان عددهم 200 فأصابته ضربة طائشة أودت بحياته...
لم يعلم عبد الناصر بخبر الحادث إلا داخل البرلمان اليوغوسلافى حيث كان فى زيارة رسمية ليوغوسلافيا, وكان حاضرا فى الجلسة البرلمانية التى وقفت حدادا على وفاة أحد الكوادر المناضلة فى سبيل قضايا التحرير...
وعلم عبد الناصر عقب وقفة الحداد بتفاصيل ما وقع من المترجمين المرافقين. وما أسرع أت تحركت قيم العدل والتصحيح هذه المرة لا لشىء إلا لأن وراءها مصلحة..
فلم ينتظر العود إلى أرض الوطن وإنما سبقت قرارات جمهورية حاسمة بفصل اللواء أحمد زكي شكري مدير مصلحة السجون, واللواء إسماعيل همت وكيل المصلحة, والعقيد البشلاوى, وغيرهم من الضباط ولم يقف الأمر عند هذه القرارات بل تبعتها تعليمات مشددة برفع الضغط عن السياسيين فى جميع المعتقلات, وكان المقصود الشيوعيين, لأن جميع الإخوان تضمهم السجون.. وحيث إنه يوجد معنا بسجن المحاريق ستمائة معتقل شيوعى فقد كان سجننا هو أخصب ميدان لتطبيق قرارات التخفيف... وأراد الله أن يشملنا التخفيف بجوارهم من حيث لا نحتسب, ومن حيث لم تتجه إلى ذلك نية أحد من المسئولين لكن هذا التحول الفجائى لم يكن على هوى الحقد الأصغر – أعنى الضابط عبد العال سلومة الذى بنى مجده على صلته العلوية بأجهزة الأمن, ونجح بسبب ذلك فى جذب بعض رجال الإدارة إلى صفه بحيث يعملون بوحى منه اتقاء لشره وإملا فى تزكيتهم لدى رئاسته الخفية...
فكيف يوفق اليوم بين صورته تلك وقرارات تخفيف المعاملة؟ إنه يبذل أقصى جهده لإخراجنا من دائرتها وجعلها مختصة بالشيوعيين..
لولا أن شخصية المأمور حالت دون تحقيق أمنيته لعدم وجود أوامر كتابية بهذا التفريق.
ومع ذلك لم ييأس عبد العال سلومة فمسئوليته المباشرة عن عنبرنا يعطيه الكثير نم الحقوق, وتعطيه إمكانية تصعيد أى موقف فردى بحيث يؤدى إلى كارثة جماعية, وله فى ذلك خبرة سابقة وتاريخ معروف.
ولما تحيرت إدارة السجن فى إيجاد أعمال سخرة قادرة على استيعابنا فقد رأى المأمور شنيشن أن يستعين ببعض الإخوان فى تنظيم أعمال المكاتب والمطبخ, كذلك أعاد الفرقة الخاصة بالمزرعة فى شكل جديد خاصة بعد أن ورد للمزرعة أكثر من عشرين عجلا وحمارا ويسمى فى الدفاتر الرسمية ( عنتر) ولكن الإخوان أطلقوا عليه اسم الرماح تيمنا بأول صاروخ عملته الثورة يحمل هذا الإسم.
ولم يستأمن المأمور سوى الإخوان على هذه الأعمال من خلال كل التعليمات المشددة التى لم يتهاون فيها يوما.
ووجد رشدى فرصته فى العمل فى فريق المرزعة لأن جميع الإخوان تخرج من الصباح فى طوابير الأشغال العديدة ولا يبقى بالعنبر سوى الكبار السن والمرضى, وهؤلاء يسهل على رشدى تدبير أمرهم مع جاويش العنبر لحين عودتنا من العمل فى الظهيرة... وبعد ذلك يعود رشدى لعادته القديمة فى احتواء السجانة وتسلمك المفتاح ومباشرة أعمال السجانة كاملة.
لكن فترة المزرعة ستكون فرصة سانحة له للقيام بأعمال كثيرة..
وهكذا عملت حاسته السادسة على اختيار الموقع المناسب لنشاطه الجديد فى خدمة إخوانه..
ومن هنا حتى نهاية الأيام المقدرة علينا بسجن المحاريق ثم ما تلاها من سنين قدرت علينا فى سجن القناطر .. يأتى رشدى بكثير من الأعمال التى لا يقوى عليها غيره والتى جعلته بحق جديرا بلقب ملك السجن.
على حدود المزرعة
عندما ورد الخطاب بتخفيف معاملة السياسيين تحول طابور الجبل إلى العمل فى الأراضى الواقعة حول السجن, أو فى الإصلاحات الداخلية أو فى الأراضى الواقعة حول المزرعة ولم يأتمن طاغية السجن شنيشن سوى الإخوان ليشرفوا على الزراعة فى داخل المزرعة وكذلك ائتمن اثنين من الإخوان مع الباشكاتب خزنة الفلوس..
فأحب الباشكاتب أن يلعب ويختلس مبلغا من المال دون أن يشعر الإخوان, وتلتصق بهم التهمة, وفعلا سرق مباغا من الخزانة ووجد الإخوان العاملون معه فى آخر الشهر عجزا, فجردوا الخزانة عدة مرات ووجدوا أن هناك عجزا فى الحسابات ونفس الرقم هو هو فى كل مرة فبلغوا المأمور بهذا, فقال المأمور: تأكدوا . فقالوا: تأكدنا فنادى المأمور للباشكاتب وقال له: إ، الخزنة فيها عجز فقال: وماذا أفعل أمشى وأترك لهم المفتاح فقال له المأمور : ( حاسب حاسب أترك ما فى دماغك, هؤلاء الناس آمناء, أنا آمنهم على بيتى ولا آمن إخوانى على بيتى.
أنا عارف لماذا حبس هؤلاء الناس , هؤلاء الناس أطهر ناس موجودين على وجه الأرض).
ومن تبقى من الإخوان اشترك مع الشيوعيين فى الأعمال الأخرى...
كنت ضمن المجموعة التى تعمل فى المزرعة تحت رئاسة الآخرين الكريمين الحاج مصطفى الكومي عمدة كفر حكيم,والأخ سعد لاشين من رجال الشرقية الكرام... وفى حالة غياب أحدهما يقوم الأخ أحدهما يقوم الأخ أحمد حسنين بمهمته.
وكان الأخ رشدي عفيفي و عصب هذه المجموعة الزراعية...
اخترت مع أخويى يوسف كمال وأحمد حسين العمل فى نقل السماد من الحظيرة التى تضم عشرين عجلا إلى المزرعة على ظهر الحمار عنتر ( الرماح بتعبير الإخوان) وكان حمار عنيدا كثيرا ما ألقى بمن عليه وما عليه على الأرض وعجز كثير من الإخوان عن ترويضه, وقد أدخل علينا السرور وأصبح مادة تفكهنا لكن الأخ سعد لاشين تحدى الجميع ونجح فى ترويضه وعجبنا عندما وجدنا الحمار ينقاد له, وأراد الأخ سعد أن يؤكد لنا قدرته التامة عليه فعزم أن يصل به إلى السجن راكبا, لوصل ما معه من البيض الذى اشتريناه من أهل الواحة ثم يعود إلينا ولكن الحمار ألقى فى منتصف الطريق وأصبح منديل البيض عجة, فعاد إلينا مصفرا وبياضا و لم ينج من قفشاتنا.
لكن من أين جاءنا هذا البيض أو غيره من الممنوعات كالتمور واللحوم والشاى؟
لذلك قصة بطلها رشدي عفيفي حيث اعتدنا كل صباح بعد أن تصل فرقة العمل إلى المزرعة إلى مواقع العمل أن يأتينا أطفال أهل الواحات فى أجسامهم النحلية وملابسهم الرثة..
كان لهم ظرف وخفة روح جذبتنا إليهم... وحرصنا كل صباح على إحضار يمكن اقتطاعه من مقرراتنا ليومية من الخبز لهم... وتطوح الأخ المرحوم رجب الخميس, بجمعهم وتعليمهم الصلاة والآداب الإسلامية والقراءة والكتابة,وكان تعجبنا الشديد لفرحهم بالملح الحصى حيث كانوا يمتصونه بشغف وكأنه نوع من البونبون, وعلمنا أن أجسامهم فى حاجة شديدة إلى الملح لعدم توافره لديهم, وأن أهل الواحات يستخدمون فى طعامهم طبقة السبخ التى تظهر على وجه الأرض فى الصباح وطعامهم كله من التمر والباميا والباذنجان المر...
وأبى الأهالي إلا أن يقابلوا إكرامنا لأبنائهم بكرم مثله, فأحضر الأطفال معهم بعض التمور على سبيل الهدية فأبينا إلا شراءها ودفع ثمنها نقدا.
وهنا بدأ دور رشدى يتبلور فى تنظيم العلاقة مع آباء الأطفال وكيفية تدبير النقود اللازمة وشيئا فشيئا.. قام بجوار نشاطنا التربوى مع الأطفال سوق حرة من المبادلات بين رشدى وأهل الواحة وعلى رأسهم الشيخ حلبى ... ونجح رشدى أيضا فى جمع السجانة والحراس لا يشعرون بهذه الصلة... وبدأ هو الذى يتولى إدخال هذه الأشياء إلى العنبر..
ونجح فى جعل سجان المزرعة الملكى للمزرعة وكلاهما من المنوفية – محافظة رشدى – يطلبان من قائد السجن إبقاء رشدى معهم لوقت متأخر بالمزرعة بعد عودة فرقة المزرعة بحجة لعمل الاتصالات بعيدا عن العيون...
وأصبح له فى كل يوم قصة جديدة بل ملحمة, سواء وهو فى المزرعة أ و بعد عودته منها حيث يتولى أمر المفتاح نيابة عن السجانة حتى يحين موعد خروجه إلى المزرعة فى الصباح..
سوق تحت الأرض
لم ينتبه السجانة ولا الحراس إلى طبيعة السوق الواسعة إلى يديرها رشدى حيث كانوا يتصورن مقابلته لأهل الواحات مجرد دردشة لنهم ادرى الناس بفقر هذه البلاد ولا يتوقعون دورا لهم....
لكن كان يتم فى هذه اللقاءات دفع ثمن الطلبات والاتفاق على أماكن الحفر التى توضع فيها التمور واللحوم والبيض والشاى فى مواقع عمل الإخوان الواقعة خارج دائرة المزرعة, وبهذا تصل فرق العمل فى الصباح إلى مواقعها سواء حول المزرعة, أو داخل المزرعة, ويتشدد الحراس فى منع أى اتصال, ويبتعد أهل الواحات بعيدا ولا يأتى سوى الأطفال الذين يفرحون بالخبز ولا تثير الأمور لدى الجميع أى ريبة, حتى لدى الشيوعيين الذين تخلتط فرقتهم بنا حول المزرعة ويستخرج رشدى ما فى الحفر ويرتب دخولها إلى العنبر مع عودة الطابور أو أثناء توصيله لإنتاج المزرعة من خضروات إلى المطبخ تار على الحمار, وتارة أرى يضع الممنوعات تحت الملوخية أو الرجلة أو الباذنجان, وهى الأصناف التى تخرج من المزرعة لمطبخ السجن.. أو عند عودته بمفرده فى وقت متأخر من الليل فى حراسة السجان.. لم يكن المر يسلم من مواقف محرجة لرشدى وكان يتصرف فى كل موقف عفو الخاطر بما حباه الله من لباقة وحسن التصرف وقدرة على الخروج من المآزق..
اضطر ذات مرة إلى استخدام القوة على سبيل التخويف لبعض السجانة وقد أعطاه الله عودا مفتوى وجسما رياضيا يدعوه إلى مازحة بعض السجانة وإلقائهم أرضا...
اعترضه ذات يوم أحد السجانة ولم يسمح له بالتأخير فى المزرعة بعد عودة فرقة الزراعة إلى العنبر وأصر أن ينزل رشدى مع الفرقة ولا يبقى بالمزرعة... فهاج رشدى وبحث هنا وهناك حتى عثر على فأس وشهرها على السجان واضطرب السجان للمفاجأة وتدخل الأخ سعد لاشين مسئول الفرقة على الفور وتدخل السجانة الذين يحبون رشدى, وانتهى الموقف بالصلح وعودة الأمور إلى مجاريها وبقاء رشدى بالمزرعة..
عم دوريش
من حب الأطفال للأخ رشدى تسرع أحدهم بإخباره بأن أباه وضع إليك المذبوح فى الحفرة فنادى عليه نداء سمعه الحارس... ولم يكن الطفل يستطيع نطق الإسم فقال:
يا عم درويش ( الديك فى الحفرة( ففطن أحد الحراس المنتشرين حول سور المزرعة إلى مغزى العبارة فأخذ يراقب تحركات رشدى... وأحس رشدى بالمراقبة وابتعد عن مكان الحفرة..
جاءته المقادير بالحل عندما أعطى الحاج مصطفى الكومي بعض الكوسة لأحد الحراس لكن سجان المزرعة المرافق للفرقة اعترض على ذلك وأمسك بالحارس بتهمة السرقة,فتدخل الحارس الأول من جانب زميله, وتدخل سجان آخر فى جانب سجان المزرعة وحميت المشاجرة بين الجميع, وسنحت الفرصة لرشدى لإخراج الديك من الحفرة بسرعة البرق وتسليمه لبعض الإخوة الذين أوصلوه إلى العنبر... ودخل رشدى بعد ذلك لفض المشاجرة..
صاح الغراب
فى احد الأيام عندما كانت فرقة المرزعة تتهيأ للعودة فوجئنا برشدى يدخل مسرعا ومعه كيس به سبع دجاجات مذبوحة ومنظفة من الريش وكانت هذه أكبر كمية أحضرها مرة واحدة.. فأخذ الإخوان يمزحون معه وأسهمت معهم فى ذلك بقولى:
إننى أشك فى كونها دجاجا وأغلب الظن أنها من الغربان التى كانت تملأ المزرعة ثم تناقص عددها هذه الأيام.
فضحك الإخوان ولم تمض دقائق حتى صاح أحد الغربان من فوق رؤسنا فقلت له على الفور. أيوه رشدى جاى لكم ( أى الغربان).
فأغرق الباقون فى الضحك وتوالت القفشات حتى باب العنبر...
وليمة الديك الرومى
لما ذاع صيت رشدى بين الإخوان دعاه الأستاذ محمد حامد أبو النصر عضو مكتب الإرشاد فى وقتها, ومازحه قائلا إننى سأعترف بقدراتك إذا استطعت أن تحضر لنا ( ديك رومى) فوعده رشدى بذلك.. ولم أكن أتصور شخصيا أن أهل الواحة الفقراء يقومون بتربية الديوك الرومى, المهم أن رشدى عثر على من يحقق طلبه, ولا أدرى كيف ذلك لأن الناس الذين أراهم لا يقوون على تربية العصافير.. وما هى إلا أيام حتى كان الديك الرومى ثاويا فى الأطباق فى زنزانة الأستاذ أبو النصر... فأرسل إلى رشدى ودعاه إلى العداء مع أفراد زنزانته احتفاء بهذه المناسبة الفريدة...
ولكن رشدى اعتذر فتعجب الأستاذ وسأله عن سبب الاعتذار فقال رشدى:
لا أحب أن أسبق إخوانى بأكل الديك الرومى.... أنا أكون أول من يحضره وآخر من يأكله... وأنت تحتصنى بالعزومة لأننى أحضرته, ولماذا لم تختص غيرى ممن لم يحضره كان رشدى بذكائه الريفى يمهد لأمر آخر, لأنه كان يعمل كرم وسخاء الأستاذ محمد أبو النصر فلطالما أنفق الأستاذ حامد بسخاء فى سجن جناح على طاقم السجن كله وكل أمواله مرصودة فى سبيل الدعوة وقصص إنفاقه فى السراء والضراء سرا وعلانية معروفة لنا جميعا..
ولكن كان رشدى يمهل لجعل الأستاذ حامد يشترى لكل زنزانة ديكا على نفقته الخاصة فلما سمع الأستاذ حامد قول رشدى قال له:
فى نظير كلمتك هذه هات لكل زنزانة " ديك رومى" ما دام ذلك فى استطاعتك... وتحقق غرض رشدى وتوالت الديوك الرومى على جميع الزنازين وربما لم يكن فى استطاعة مأمور السجن وضباطه أن يظفروا بشىء من هذا لكنها قدرة الله التى لا يعجزها شىء والذى روق مريم فى محرابها من غير حول منها ولا قوة ( قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يزرق من يشاء بغير حساب).
مؤامرة على الثور
قصة العجول العشرين الموجودة فى مزرعة السجن تعود إلى ما سبق أن روجته الدعاية المصرية عن إصلاح الوادى الجديد وقيام مصنع الألبان به وبدلا من إحضار الأبقار لهذا الغرض وصلت العجول واحتاروا فى أمرها لأنها صغيرة لا تصلح للعمل ولا للألبان فكانت عبئا على المزرعة...
وفى مكان آخر من الحظيرة كان يوجد عدد من الثيران المخصصة لأعمال الحرث, لم يقف طموحات الأخ رشدى عند حدود الديوك الرومية بل وصلت جرأته إلى أحد الثيران أيضا حيث انتهز فرصة هياجه وأقنع السجان بأن الثور مريض بحصر البول وإذا لم تسرع الإدارة بذبحه سيموت بسبب تسمم لحمه ودمه من البوينا وتتحمل إدارة السجن المسئولية...
وانتدبت الإدارة أحد الإخوان ممن يدرسون بكلية الطب البيطرى وهو الأخ فاروق حسين ليرى رأيه النهائى فأستقر رأى الجميع على ذبح الثور والتفت مصلحة المساجين مع مصلحة السجانة وكل الفئات فى ذبح هذا الثور..
وأخذنا الإذن بذلك وأحضر الثور إلى فناء السجن وخرج الجميع ليشهدوا الفصل الأخير من المؤامرة وليشتركوا فى تقييد الثور قبل ذبحه وسلخه وتوزيعه على جميع الفئات وعاش السجن فى نشوة الانتصار لمدة أسبوع أو يزيد حتى أصبح الجميع يحلم بالإتيان على العجول جميعا واحدا وراء الآخر..
كارثة تقترب
أما الضباط عبد العال سلومة – الحقد الأصغر – قائد عنبر 3 الخاص بالمعارضين فكان يستاء لرؤية التخفيف فى المعاملة وللروح التى ظهرت نحونا من الإدارة الجديدة...
وكان لا يكف لسانه عن إلقاء السموم والحمم لزرع اليأس فى النفوس, فتارة يقول: إ،كم سوف تبقون هنا إلى الأبد, وإذا خرج منكم أحد سأقطع ذراعى... وتارة يقول: سأعود إليكم بعد خمس سنوات قائدا لهذا السجن وتكونون جميعا يومها قد أصبحتم من العجزة تمشون على عكاكيز... أتذكر ذك الآن وأنا أكنب هذه الصفحات عن أخى رشدى بمدينة ميونخ بألمانيا الغربية, وقد مضى على وجودى فيها حتى الآن ثمانى سنوات ونصف السنة, زرت خلالها معظم الدول الأوربية والأمريكية فضلا عن البلاد العربية وأديت حج بيت الله الحرام عدو مرات قابلت فى أغلبها أخى رشدي عفيفي فى منى وعرفات فى الوقت الذى لقى فيه عبد العال ربه منذ عدة سنوات..
( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل) ونتأدب بأدب الإسلام قائلين لقد قضى إلى ما قدم.
ولا شك أنه نطق بهذه العبارات التى كان يسمعها من الأوساط المظلمة التى تعودت التخطيط لإطفاء نور الله بأفواههم..
ولعل ذلك يكون درسا لمن لم يتعظوا مما أصاب من قبلهم فيراجعون أنفسهم ويبحثون عن أسلوب آخر مشاكل الأمة البائسة..
المهم أن عبد العال سلومة قد وأتته الفرصة التى كان ينتظرها ليحكم قبضته علينا... فهو دائم الترقب لأى خطأ نقع فيه ليسوىء موقفنا مع الإدارة الجديدة, هذه الفرصة أتته فى صورة خطاب ورد من أهل الأخ سيد دسوقي الطالب بكلية أصول الدين بالعباسية – حصل على الدكتوراه وهو اليوم أستاذ بنفس الكلية – غذ أن جميع الخطابات تراجع وهى صادرة أو وهى قادمة فلا حرمة لشىء عند هذا النوع من البشر..
وجد أهل الأخ سيد يقولون له أنعم أرسلوا كل ما طلبه مع السجان زكى.. وكذلك حملوه خطابات من أهل بقية الإخوة المسجونين من حى العباسية.. فطرب عبد العال لوقوعنا فى هذا الفخ حيث اكتشف وجود شبكة اتصال بيننا كمسجونين والخارج محورها السجان زكى..
وما أسهل تضخيم الأمور – بحيث يقول إنه تجمعت لديه خيوط مؤامرة كاملة لقلب نظام الحكم – وما أسهل تغيير الحقائق فى هذه الحقبة الغابرة من تاريخ مصر..
لم يستطع أن يكتم مشاعره فنادى على سيد دسوقي وتوعده, وأراه الخطاب وسأله عن السجان زكى فأنكر الأخ سيد معرفته بأى شىء .. لكن عبد العال سلومة كان مطمئنا لأن القطار سيصل بعد يومين والسجان زكى فى إجازة وقادم فعلا بقطار الواحات الذى سيقوم من مدينة المواصلة بعد غد ولا شىء على وجه الأرض يحول دون حضوره إلى المحطة المشئومة التى تسمى محطة السجن فى الوقت المناسب, فالقطار يقطع الصحراء القاحلة إلى أن يصل إلى أول محطة له وهى محطة السجن قبل الوصول غلأى مدينة الخارجة فأى عاصم لنا من شره...
أدرك الإخوان هول الموقف الذى سنتعرض له... ولم يكن لنا سلاح أمام أى موقف سوى الدعاء والذكر, فنبه الإخوان المسئولون علينا من خلال الأخ رشدى الذى يتولى أمر مفتاح العنبر بعد عودته من المزرعة وبعد انصراف قائد العنبر ظهرا... نبهوا عليه بالإكثار من دعاء " ياحى يا قيوم برحمتك نستغيث" وأصبح للزنازين دوى كدوى النحل... وعلمتنا التجارب أن ادعاء والالتجاء إلى الله قبل الأخذ بالأسباب هو أقصر طريق للحل فى حياة المؤمن , وأكسبتنا التجارب حسن المعاملة مع الله والثقة فى قدرته التى لا تغلب حتى كنا نهوى التفرج على تصاريف القدر... فهو يخرجنا من المأزق ويحمينا من الشرور..
ولمعت فكرة جديدة فى ذهن رشدى فجسمه دائم الحركة وعقله دائم التفكير وخطواته دائمة التوفيق. لقد تذكر أن الأخ المهندس محمد سليم من إخوان الإسكندرية يزوره والده الآن فى المكتب. وهو رجل كبير السن لم يرى ابنه منذ سنوات فحمله الشوق لرؤية ابنه إلى مكابدة السفر فى كل أنواع المواصلات الأرضية من الإسكندرية حتى وصل اليوم لزيارته..
ولأن الواحات ليس لها الإفطار واحد كل أسبوع هو الذى سيعود فيه والد الأخ محمد سليم اليوم, فإن نفس القطار هو الذى سيحضر فيه كل من كان فى الإجازة من السجانة ومنهم السجان زكى الموجود الآن فى مدينة المواصلة لوصول القطار..
وبحيلة من رشدى أوصل لوالد محمد سليم القصة كاملة ليبحث عن السجان زكى ويتسلم منه كل ما معه.. ووصل والد الأخ محمد سليم فى اليوم التالى إلى مدينة المواصلة وسط حشد كبير من الناس... وهجم على القطار حشد أكبر فكيف لهذا الرجل العجوز ان يتعرف على السجان زكى وسط الزحام قبل أن يتحرك القطار... واعتمد على الله وانتظر حتى استقر الركاب على مقاعدهم.. وسأل شبك القطار أول من وجده أمامه
يابنى هل تعرف السجان زكى؟
-أنا السجان زكى ياعمى ... ماذا تريد منى؟
الحمد لله يا ابنى أنت زرت بيت الأخ سيد دسوقي وأحضرت معك له ولإخوانه خطابات وبعض الممنوعات... لمذا تسأل عن ذلك.
لأنه قد عرف أمرك من خطاب وصل الأخ سيد دسوقي والإخوة هناك يطلبون منك تسليمى كل ما معك فأنا والد الأخ محمد سليم..
جزاك الله خيرا يا ابى وهاك كل ما معى...
وحان موعد وصول القطار وخرج عبد العال سلومة بنفسه إلى محطة القطار ومعه بعض الجنود لضبط الواقعة والقبض على الجاويش.. ووصل القطار ونادى عبد العال سلومة:
-أين الشاويش زكى؟
-تمام يا أفندم أنا الشاويش زكى؟
-تعال يا بن ال..... فين شنطتك ... فتشه يا عسكرى.. لا تتكلم يا مجرم... وفوجئوا بوجود ممنوعات معه تخص الشيوعيين.
ولم يجد معه أى شىء يخص الإخوان, فجن جنون عبد العال سلومة وألقى القبض على الجاويش.
فى الوقت الذى وقف فيه السجان زكى وهو مندهش يتفرج على ما يحدث للجاويش زكى من قوة الكتيبة, حيث كانت هناك قوتان إحداهما كتيبة من الجيش وفرقة أخرى من السجانة, ولم ينبه عبد العال سلومة أن هناك زكى آخر من قوة الكتيبة.
ومن حكمة الله أن الجاويش زكى كان يعامل الإخوان معاملة سيئة, فوقع فى شر أعماله وفدى الله السجان زكى بجاويش الكتيبة.
وتعجبنا من تصاريف القدر الذى حمانا وعاقب من أساء إلينا فى نفس الوقت , ورد كيد الحقد الأصغر. فأى قدرة أعظم من قدرة الله.
حفلة الليمونادة
عجز الحقد الأصغر عن تفسير الموقف وأخرج غيظه فى موجة تفتيش جارفة اكتسحت كل ما وجدت فى الزنازين ولكنها لم تجد كل ما كان لدينا حيث غارب عنهم وجود مخبأ سرى فى كل زنزانة تحت الأبراش حتى يستحيل معرفة المخبأ إلا بحفر الأرض كلها.
وفيها أسرعنا بدفن ما تخوفنا عليه.. ووجد السجانة فى إحدى الزنازين حمسة كيلو سكر فألقوا بالكمية كلها فى جردل الماء..
وبعد انصراف حملة التفتيش أخرج رشدى كمية من الليمون من المخابىء وعصرها على ماء الجردل بعد أن ذوب السكر ووزع مشروع الليمونادة على جميع الزنازين.. وطويت هذه الصفحة من مغامرات رشدى فى سجن المحاريق بمفاجأة الترحيل إلى سجن القناطر الخيرية.
الأيام الأخيرة
كان مأمور السجن الطاغية فريد شنيشن قد بدأ فى أيامه الأخيرة بفصح عن تقديره لنا بأسلوب عملى أدركنا مغزاه حين وضع جميع مرافق السجن تحت إشرافنا وخاصة موقفى المخزن والمزرعة والخزينة المالية.
لقد تفتحت عيناه على الحقيقة وصدقت فراستنا فيه, وكلما اقتربت أيام إدارته من نهايتها كلما أفصح عن تقدريه لنا والإشادة بعزيمتنا, وكثيرا ما جهر بأمانتنا فى إدارة مرافق السجن بعد أن وصله خطاب شكر من إدارة مصلحة السجون لدقة وضبط الأعمال المالية والإدارية وكان شجاعا فى نسب هذا الفضل لأهله.
ومر علينا بالزنازين دامع العينين مودعا وبرفقته المأمور الجديد يحيى شاكر ولم ينس أن يوصيه قائلا:
( أنت مع أأمن الناس وأرجل ناس فى البلد..وسلم لهم كل شىء فى السجن... وكن مطمئنا مطمئنا إلى أن خطابا سيصلك من المصلحة يخصك بالشكر)..
أسرار وألغاز وراء ترحيل الإخوان إلى وادى النيل
( بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك فى قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا)..قطر خارج دائرة الزمن يسير مرة واحدة كل أسبوع من بلدة المواصلة حتى مدينة الخارجة عاصمة محافظة الوادى الجديد – وهو الإسم الذى أطلق على الواحات الخارجة بعد الوحدة مع سوريا.
وكلمة الوادى الجديد التى لعبت بمشاعر الأمة وأحلامها فى الرخاء ومضاعفة الدخل سنين عديدة تثير فى نفوسنا نوعا عكسيا من المشاعر وهى مشاعر الألم لصورة فريدة من صور الخداع والزيف حيث كانت السياسة غير الرشيدة أولا وأخيرا وراء إشاعة قصة الوادى الجديد على أوسع نطاق.
إذ كان المقصود بها أولا وأخيرا الرد على ما أشيع فى سوريا بعد الوحدة من أطماع مصر فى مزارعها وغلالها, ولقد سمعت بأذنى فى سجن جناح خطبة لجمال عبد الناصر يتحدث فيها عن الوادى الجديد وينفعل قائلا:
" وستأكلون منه قمحا هذا العام" وضجن الأكف بالتصفيق, وبحت الحناجر) بالهتاف وتففت الصحافة بعد ذلك اخضرار الصحراء عند مروره عليها.
وكنا نرى بأعيننا ما يسمعه الناس بآذانهم ونسمع من المقربين من مهندس الإصلاح ما لا يعلم أحد عنه شيئا.
فتلك مساحات كبيرة ملاصقة لمزرعة السجن زرعت على الفور فمحا ولم يهتم المهندسون بكون السنابل خالية من الحبوب لضعف الأرض والتربة فحسبهم أن الرئيس ومرافقيه سيشاهدون المساحات الخضراء التى تحيط بالمطار.
ولكن الأحداث شغلت جمال عبد الناصر حتى ضم القمح ولم ييأسوا من حضوره, فتركوا أكوما فى الأرض شهورا لعله يراها على هذا الحال, أو على الأقل تلتقط لها الصور.
-مصنع الألبان الذى نمده مئات الأبقار باللبن بزعمهم كانت نواته ما يقرب من عشرين عجل ذكرا لم تتحول إلى أبقار بعد ذلك أبدا واستقر بها المقام فى خطيرة مزرعة السجن.
ترعة الماء الت رايناها فى الصورة كأنها صغيرة عبارة عن جدول ماء عادى يسهل القفز على شاطئيه.
حدثنا مهندسوا الإصلاح عن شرائهم حبالا بخمسة وعشرين ألفا من الجنيهات لأغراض لا يفهونها..
فى طابور العودة من المزرعة قلت لإخوانى حين رأيت قطار الواحات وهو يظهر ويختفلا خلف التلال كثعبان له فحيح.
متى يأتى اليوم ويأذن الله بركوب هذا القطار مرة أخرى فتضاحكوا من هذا المطلب العسير الذى لا يظفر به إلا من قطع شوطا طويلا فى تأييد الثورة وإظهار الولاء ,اصبح على أبواب الإفراج. وكان الواقعيون من المؤيدين يرون فى مجرد الترحيل إلى سجن الوادى بعيدا عن هذا التيه ثمنا عادلا لتأييد حتى لو تأخر الإفراج.
بعد مرور عدة أيام على هذا الحديث وبالتحديد يوم 28 فبراير سنة 1961 الذى يوافق العاشر من رمضان المعظم سمعنا حركة غير عادية داخل العنبر. كنا نجلس ثلاثتنا أنا والأخ عبد الرحمن البنان والأخ أحمد حسين نقرأ فى سيرة ابن هشام خلف العنبر فجاءنا من يقول:
إن كشفا وصل لإدارة السجن بترحيل سبعين أخا إلى سجن القناطر الخيرية اختلطت الدهشة بالفرحة بالتوجس فغى نفوسنا لمعرفتنا ما ينطوى عليه هذا العمل من أغراض مباحثية لأن الترحيل لم يشمل الجميع وهكذا يؤدى ضياع الثقة إلى عدم رؤية الأشياء من زواياها المضيئة.
أما ثقتنا فى الله فقد عودتنا أن نرى الأشياء بغير العين التى يرى بها خصومنا الأحداث.
إننا نراها واتساعا حين يرونها هم هما وضيقا, نراها عافية ومنحة حين لا يرونها إلا بلاء ومحنة ... ونراها كرامة وشهادة حين لا يرونها إلا قتلا وإعداما.. ونرى نصر الله قريبا حين يرونها بعيدا... بعيدا.ز ( فأما الذين آمنوا فزادهم إيمانا وهم يستبشرون).
وتمت المفاجأة بوجود اسمى واسم الأخ رشدي عفيفي بين هؤلاء المرحلين.. وضمن ركاب القطار الذى سبق أن رأيناه عند عودته إلى أحضان الوادى الخصيب... وبعد صلاة الفجر أخذنا نعد أمتعتنا استعدادا للسفر. ومع شروق الشمس وصلت العربتان المخصصتان لنقلنا إلى محطة القطار وتجمعنا فى الساحة المجاورة لمبنى الإدارة وحضر المأمور يحيى شاكر الذى خلف فريد شنيشن وودعنا واحدا واحدا وأذن للإخوة المقيمين بالعنبر أن يخرجوا لوداعنا, وتبادلنا العناق وهطلت الدموع – دموع الحب – من حول العربتين السابحيتين فى موج أزرق من حلل الإخوان وفى أشعة غير مرئية من خفقات القلوب وكان موقفا مثيرا ذرفت له دموع المشاهدين من رجال الإدارة وعلى راسهم المأمور الذى أقسم أنه لم ير فى حياته ولم يسمع عن مجموعة من الناس بينها مثل هذا الحب الصادق العجيب.
وأقلعت العربتان والأيادى متشابكة مع بقية الجسم الذى تركناه وديعة عند الله فى هذا الوادى السحيق. وعجزت الأيدى عن ملاحقة السيارات المسرعة فأخذت الأرجل تعدو وتسابق الريح حتى كلت.. فامتدت الأذرع بالتلويح ثم أخذت تشير بالمناديل حتى اختفينا عن الأنظار.
رشدى فى سجن القناطر
توارت شمس أول مارس 1961 الذى وصل فيه القطار إلى محطة الجيزة فلم تطلع , وهطلت دموع السماء مدرارة على عربات السجون المغلقة التى اقلتنا من محطة الجيزة إلى سجن القناطر الخيرية. وكان لرؤيتنا الأمطار بعد طول حرمان سحره البالغ فى النفوس.. حتى لكان القطرات تنزل على شغاف قلوبنا.
واستطعنا رغم القضبان والحراس أن نحس بدبيب الحياة فى شوارع القاهرة وقد أنسانا اللحظات سعيدة أى تفكير فى المجهول الذى سنقدم عليه إلى أن أفقنا من أحلامنا على أبواب سجن القناطر.
بعد إجراءات التسليم والتسليم والتفتيشات والتعليمات اللازمة, تم تسكيننا بدور 3 بعنبرا.. وجاء حظى فى السكن مع الأخ رشدى زنزانة واحدة وهى زنزانة رقم 13..
واستقبلنا إخواننا المؤيدون الذين يشغلون الدور الثانى بالترحيب وزودونا بكل الممنوعات.
وهؤلاء المؤيدون جمعتهم المباحث من مختلف السجون منذ عدو سنوات ومع هذا لم يتم الإفراج عنهم حتى ساعة وصولنا , لأنهم فوتوا على أجهزة الأمن قصدها من تفتيت وحدتهم وتمزيق روابطهم وبذر الشكوك بينهم عندما أقدم أغلبهم على التأييد بطريقة جماعية.. فوقفوا بذلك فى منتصف الطريق.. تؤمل فيهم أجهزة الأمن وتخشى فى نفس الوقت من الإفراج عنهم .. لها فيهم عيون تنظر وآذان تسمع ستعتمد عليهم فى معرفة كل شىء عنا بعد أن استغلق عليها أمرنا وربما نجحت فى إذكاء الصراع مرة أخرى..
وفى هذا السجن يتجمع معظم الذكريات بل ومعظم المغامرات التى قام بها رشدى حيث إن مغامرة لا تسمى إلا إذا أصبحت الأخطار وأصبحت معظم الطرق إن لم يكن كلها مسدودة..
وهنا تظهر براعة المغامر الذى يفتح لنفسه طريقا متحديا كل الأخطار وهنا يكون مفتاح شخصية رشدى الذى يحس بالمتعة حين يتحدى الأبواب المغلقة بإيمان ثابت وعزم قوى وبفراسة لا تخيب, وبنظرة بعيدة تمكنه بهدوء من الوصول إلى أهدافه.
ويزيد على كل ذلك اختلاطه الواسع بكثير من الناس مما مكنه من معرفة مفتاح شخصية كل ضباط وكل سجان وهذه المعرفة هى بداية التعامل..
ولقد كان سجن القناطر الخيرية مسرحا لعملياته البارعة, لأن هذا السجن كان واقعا تحت قبضة المباحث العامة, وقريبا منها ولأن طبيعة مبانيه تحدد حركة الإنسان وتقف أمام رغباته.
ونظرا لأن طعام السجن من الرداءة بحيث تعافه النفس, فقد فكر الإخوان فى أن يدخلوا عليه بعض التعديلات والإضافات وهذا يتطلب ان يوضع على النار والنار فى قانون السجن جريمة, وعقاب من يوقد نارا بأى وسيلة الجلد على الظهر, وبطبيعة الحال فإن الحصول علة الوقود صعب فالكيروسين ( اجاز) ممنوع إلى غير ذلك ومن يحرز أى شىء من ذلم فالجلد له بالمرصاد.
وكان طبيعيا أن نتحدى هذه الأوضاع وهذه القوانين حتى نستطيع أن نبقى على حياتنا طوال فترات السجن الطويلة, فالصبر على أيام وشهور جائزا أما أن نظل نتناول طعاما تعافه النفس طوال السنين فهذا والموت سواء ... ولهذا كان من الضرورى الحصول على الجاز بأى وسيلة مهما كلفتنا ولذا فإن المغامرات العديدة تدور أولا حول هذا الوقود, وسنرى أن الحصول على "كوز جاز" أمر شاق لدى جميع المساجين وثمنه مرتفع جدا لأنه سلعة استراتيجية تقييمها قد يرتبط بحياة الإنسان , كما يرتبط البترول بحياة الصناعة فى أوربا ,إذا كانت سياسة أوربا الآن فى المنطقة العربية مرتبطة بالبترول ضمن ما ترتبط. فإن منع البترول عنها كما حدث فى حرب 1973 يهددها بكارثة, ولذا فإنها تجمع إمكانيات للحصول على هذه السلعة اإستراتيجية.
وما يحدث فى هذا العالم الواسع كان يحدث فى عالمنا الصغير على مستوى ( كوز الجاز الصغير) الذى من أجله تنسج الحيل وتوضع الخطط وتعظم الأخطار.
يحدثنا رشدى عن نفسه فيقول:
" وكنت مسئولا عن الشاويشية وعن الممنوعات, وكانت هذه وظيفتى فى أى سجن مع الإخوان, وكانت والحمد لله شغله موفقة فعندما تم تسكيينا فى دور 3 بعنبر بسجن القناطر كان شاويش الدور اسمه أنور العشري ولكن كل من بالسجن يسمونه أنور العتم,يقول عن نفسه أنا مثل العقرب أى مسجون أمر عليه ألدغه .. رفض المؤيدون بدور 2 وجود أنور العتم سجانا عليهم فسلمه المأمور دور 3 والخاص بالمعارضين وشاءت إرادة الله أن تسخره لخدمتنا لدرجة أن الناس أخذهم العجب فقد كان أنور العتم من المنفية من قرية تسمى بير شمس تابعة لمركز الباجور ,لما عرف اننى من المنوفية وأـحمل مسئولية بين إخوانى قال لى من بيده العصبة: لازم أطول رقبتك يا رشدى أمام الإخوان... هم جاءوا بى لكى أعذبهم, ولكن أنا لازم أطول رقبتك.. ولهذا كان يسلمنى المفتاح ويجلس فى المكتب دون عمل أى شىء لدرجة أن المؤيدين قالوا نريد أن يأتى إلينا أنور العتم رغم أنهم رفضوه من قبل..ز خدم معنا بارتياح ستة أشهر كاملة..
عندما أمسك السجان بتلابيبى
اتفقت ذات مرة مع المخزبجى على خطة فيها تمويه على جميع السجانة وذلك بوضع الجاز فى القسط الذى يستخدم فى نقل اللبن عادة وعند بوابة الوسط شك السجان فى الأمر فتحرج من منعة حمله... ولمنه فى نفس الوقت كان خائفا جدا لأن المأمور موجود فى المكاتب, ومن الممكن أن يخرج فيمسك بى فجأة ويجازيه بالخصم أو الحبس أو بهما معا, وهذا الخوف جعل السجان يمنعني من السير, وأصر السجان على هذا المنع فماذا أفعل؟ لا حيلة امامى فالمخزنجى أغلق المخزن وانصرف والجاز ضرورة ملحة, والدقيقة فى هذه اللحظات لها قيمتها, إذن لا تنفع مع الشاويش على أن يقبض علىّ وأسير معه على أنه ممسك بى ومعى الجاز.. فإن وصلت إلى باب العنبر ولم يخرج المأمور فكفى الله المؤمنين القتال ويتركنى لحالى, وإن خرج المأمور فإنه يسلمنى ومعى الجاز إليه, وبهذا يكون قد أدى واجبة وأخلى طرفه من الموضوع وأتولى أنا أمر نفسى مع المأمور, وفعلا سار الشاويش مسكا بتلابيبى حتى باب العنبر ولم يخرج المأمور وفزنا بقسط الجاز.
الجاز فى قسط اللبن
فى مرة جئت بقسط من اللبن يسع صفحتين ونصفا ملائه جازا وحمله الإخوان , وكان عندى شعور فى هذا اليوم أنه ستحدث وشاية ويهجمون علينا, فطلعت بالقسط وأفرغته فى جرادل, وقلت للإخوان وزعوه على الحجرات سرعة وأعطيت القسط ل× سعد ليغسله جيدا باللوف والصابون وبعد غسله وضعته على السلم وسكبت فيه بعض اللبن. ونظرت فإذا بضابط وخمسة عساكرا يصعدون السلم لضبط الجاز فقابلته على السلم وقلت له:
-هل جئت زائرا أم قابضا؟
-جئت قابضا
- لماذا
- لأن خبرا جاءنا أنك أدخلت جازا فى قسط من اللبن.
- هل هذا معقول.. على العموم نحن عندنا القسط لا يزال فيه اللبن.
- فنظر الضابط فى القسط فوجد فيه اللبن.
فقال إذن هذه شكوى كيدية... مع أنه لو نظر عن قرب لشم رائحة الجاز على حافته.
بالأحضان
فى مرة أخرى كان عندنا صفيحة جاز فى المخازن نترقب الفرص لتهريبها غلأى العنبر وتوزيعها على زنازين الإخوان, وكان المؤيدون ملأوا رأس وكيل السجن الرائد إبراهيم مصطفى بأننى أخطر واحد فى إدخال الممنوعات وكان هذا الضابط إذ رآنى يركبه عفريت ولو كنت ماشيا مع شاويش ومن أجل هذا كنت أتلاشى أن أصطدم به وعموما ماذا سيعمل فينا أكثر مما نحن فيه وانا مسجون ولابس بدلة السجن, ولكن كنت أخاف على الشاويشية والعسكر, لأنه لو ثبت على أى عسكرى فى البلاغات شىء سيلحق بهم الأذى بسببى, فأنا لا أرض هذا ولما تحققت أن الضابط إبراهيم مصطفى غير موح\جود بفناء السجن نزلت لإحضار صفيحة الجاز فرأيت الأخ فرج مناع قادما ومعه مسجون ذو لحية حامى الصفيحة ويسير وسط عدد من المساجين لن أمين مخازن السجن عندما استبطأ حضورى ووجد أمامه الأخ فرج سلمها له... وبينما كان فرج وموكب الصفيحة سائرا رآهم شاويش اسمه ملاك فانوس فمشى وراءهم مسرعا ليلحلق بهم ويضبطهم...
فأسرعت بدورى وقابلته ومددت له الأيدى لأسلم عليه فلم يقف لأنه كان يجرى وراء الأخ وأنا أريد أن أوقفه فقلت له أنا أمد إليك يدى وأنت لا تسلم على ّ؟
إيه رأيك لازم آخذك بالحضن وفعلا أخذته بالحضن وكتفته حتى لا يتحرك وفعلا عطلته حتى وصل الأخ فرج والمسجون حامل الجاز إلى العنبر لكن الشاويش صرخ وقال : الحقنى يا حضرة الصول ( مساعد) فجاء الصول وقال : ماذا حدث يا رشدى فقلت له : أما مددت يدى لأسلم عليه فلم يمد يده فحلفت لازم أخذه بالحضن , فقال الشاويش ملاك: يا حضرة الصول: هو أمسكنى لأن فيه صفيحة جاز جاءت لعنبر الإخوان.. وحملها واحد مسجون نوبتجى له لحية ورشدى حضنى حتى لا أمسك صفيحة الجاز, والصول كان يعرف أننى أعمل ذلك وكل العساكر يعرفون كذلك... فقال الصول لى : اذهب يا رشدى إلى العنبر لأن المأمور لو خرج ورآك الآن معنا سيكدرنا كلنا, فدخلت العنبر ومسكنا المسجون الذى حمل صفيحة الجاز وحلقنا له لحيته بسرعة حتى لا يتعرف عليه أحد وجاء صاحبنا فقدم الشكوى فأمر االضباط الشاويش أن يأتوا له بكل النوباتيجية الأربعة , وهم من المساجين العاديين المخصصين لحمل الزبالة والأكل والنظافة, ونزل الشاويش بالمساجين الأربعة وبحثوا عن السجون صاحب اللحية الذى حمل الصفيحة فلم يجدوه بينهم , وأتوا بالدفتر ووجدا نفس الأسماء, وسألوا الشاويش ملاك أين المسجون الذى قلت إنه حمل صفيحة الجاز للإخوان وهو صاحب لحية فتلعثم ولم يستطع الكلام.
وعملوا للشاويش تحقيقا وعزلوه من شاويش إلى عريف وقال كل الشاويشية له أنت لأن تستطيع أن تفعل مع عمك رشدى شيئا.
هل تكتب السحر؟
وفى مرة أخرى كان هناك شاويش اسمه أحمد سليمان قال لى:
سأسالك سؤالا أرجوا أن تجيبنى عليه بصراحة فقلت له : اسأل فقال:
-هل أنت تكتب السحر
- السحر حرام ونحن مسلمون.
- هذا غير معقول.. أنا عمرى كله فى مصلحة السجون ولم أرى مسجونين يتكلمون على واحد مثلك أبدا.
- نحن أناس مسلمون ومظلمون وربنا سبحانه وتعالى هو الذى سهل لنا الأمور لعلمه أننا مظلمون وهو الذى يصنع المحبة فى قلوب الجميع لنا.
عهد على ليلة النوبتجية عندى سأعطيك المفتاح وتفتح على إخوانك باب الزنازين ليشموا الهواء وميلأون الماء ويتزاورون.
أناس محترمون
وبالنسبة لحجرته كانت لا تغلق كان دائما فيها مجلس عسكرى كان العساكر يتركونها مفتوحة ويجلسون معنا ويأكلون ويشربون الشاى لدرجة أن أى شاوي شفى الإدارة لم يجدوه يقولون لعله فى زنزانة 13 عند رشدى.
وكان الشاويش الذى ياتى عندنا فى الدور يقول له زملاءه: انت محظوظ لأنك ستذهب عند الإخوان عند الناس المحترمين.. أنت تذهب للأخ رشدى وتعطيه المفتاح وتريح نفسك ليس لك دعوة بأي واحد منهم لأنك مهما قلت لهم فلن يسمعوا الكلام أحد غير الأخ رشدى لأنه لة قال الواحد للجماعة ادخلوا فى دقيقة لا تجد واحدا خارج الزنزانة.
عندما عملت طبيبا للأسنان
لما ذاع صيتى فى السجن جاءنى مسجون عادى يعمل فى غلاية البخار بالسجن اسمه أحمد الحنفي, وقال : يا عم رشدى أنا أخذت تأبيدة وأحب المغامرات وأحب قراءة روايات المغامرات, وأنا أبيع صفيحة الجاز بجنيه للمسجين ( وهذا كان سنة 1962) وفى سبيل أن أراك وأعرف منك كيف تدخلها دون أن يمسك أحد سأعطيها لك بدون فلوس فقلت له: لا مانع وأخذت منه الصفيحة وبدأت أفكر فى كيفية إدخالها وعلى بوابة الوسط عسكرى من أسيوط اسمه واصف أبو الخير, وباب الوسط هذا ضيق جدا وهو خاص للتفتيش حتى لو كان مع المسجون بصلة فإنها تؤخذ منه فكيف سأمر ومعى صفيحة الجاز وبدأت أفكر فى مدخل للحديث مع الشاويش واصف, لأن كل واحد منهم كان له مدخل للحديث وكل واحد له لغة وأسلوب, وهذا الشاويش كان كلما قابلنى يشتكى لى من المرض فطبعا سأفتح الحديث معه من هذا الباب فقلت له:
-صباح الخير يا ابو الخير.
صباح الخير
- مالك عينك حمراء؟
- لم أنم طول الليل لأننى متعب وضرسى يتعبنى جدا.
- - افتح فمك ( وطبعا أنا لست طبيا ولكن لازم أمثل دور الطبيب حتى تمر الصفيحة) ونظرت فمه قائلا: بسيطة سأسألك بحاجة من العنبر لتريحك.
- - يا عم إحنا بنتعبك معنا ونتثاقل عليك.
- ( ورجعت إلى العنبر لأتى بالأخ أحمد شعلان رحمه الله و ليحمل الصفيحة, وأنا سأقوم بدور الطبيب وهو يحمل الصفيحة... بهذه المناسبة فالأخ أحمد شعلان قد استشهد هو وزكريا المشتولي وبدر القصبي فى القلعة سنة 1965), وكان الأخ أحمد شعلان يعمل مسئولا عن الأطباء فمن أراد تبليغ عيادة يكون عن طريقه فقلت له : انزل لتأخذ الصفيحة وأنا سأشتغل وقبل حملها أعطنى إشارة خفيفة.
- وقفت مع الشاويش وقلت له : افتح فمك ففتح فمه ورفعت رأسه للوراء بحيث لا يرى أحدا يمر من الباب وظللت أدعك بالقرنفل الذى كنت أحضرته من العنبر فى أسنانه حتى مر الأخ أحمد من ورائى وظللت أعمل هكذا حتى دخل الأخ أحمد العنبر.. وقال الشاويش : ما رأيك أنا استرحت قلت له: - وأنا استرحت أكثر منك..
وكان هناك سجان يرى هذا المنظر فضحك جدا لأن كل شاويش له أقارب أو بلدياته والسجن فيه عصبة ليست موجودة فى الخارج فجاء الشاويش هذا وقال هذا احسن شىء لأنه منعنا من إدخال أى حاجة لواحد من بلديتنا مع أننا زملاؤه فى العمل, وأما المسجون أحمد حنفي فقد رأى هذا فضرب كفا على كف وقال : أنا ختمت باصابعى العشرة للأخ رشدى... وبر بوعدة ولم يأخذ ثمن الصفيحة.
عناية الله
يقول رشدى:
طوال مدة السجن أو الإعتقال لم يمسكواعلى ّ أى شىء مطلقا مع أن أى مسجون عادى لو أراد أن يهرب علبة ( سلمون) مليانة جاز تكون معجزة لو هربها.
لو قابلك الضابط؟
يقول رشدى:
فى مرة أرسلت العسكرى المكلف بالدور الذى يسكن فيه الإخوان ومعه المساجين النوبتجية إلى لإحضار صفيحة من الجاز.. وتصور هذا الموقف الذى يطيع فيه السجان أوامر مسجون بإحضار ما هو ممنوع مع علمه بخطورة هذا العمل على وظيفته.
وحينما وصل السجان رفض المخزنجى ان يعطيه شيئا, فقال له أتعطى رشدى وهو مسجون وتأمن له وتخاف منى وأنا السجان صاحب الصفة الرسمية, ,اخذخ يقسم له أن رشدى هو الذى أرسله فقال المخزنجى: أنا أعلم تماما أن رشدى هو الذى أرسلك ولكنى لا أطمئن ولا اثق فى قدرتك على توصيل الصفيحة, أما رشدى فعنده ألف وسيلةلتوصيل صفيحة الجاز ثم بادره بسؤال : ماذا لو أخذت الصفيحة وقابلت احد الضباط؟ ماذا تقول؟
وتعلثم السجان وقال كلام صحيح ماذا أقول؟ فقال المخزنجى: هل عرفت إذن؟
كشكش
المساجين لهم ممالك داخل السجن بعضها قائم على العصبيات وبعضها قائم على الهالات التى يحيطون بها أنفسهم بأن يسموا أنفسهم بأسماء تتناسب ومكانتهم فى السجن فمنهم من يسمى نفسه ألطه أو زلطة أو بمبة... وهكذا وفى يوم طلع أحد المساجين إلى الدور الذى يسكن فيه الإخوان, وكان هذا المسجون يسمى نفسه كشك معروف بإجرامه.. وكان غاضبا من بعض الإخوة, وألقى ببعض الكلمات التى لا تتناسب مع مكانتنا ورفع صوته ليشعر المساجين أنه يتحدى الإخوان الذين لا تقف أمامهم قوة ثم نزل سريعا.. يقول رشدى: خرجت من حجرتى فلم أجده فنزلت إليه ومعى الإخوان سلطان حسن وطلعت الشناوي, وأمام المساجين أشبعناه ضربا ولما وجد نفسه ضعيفا قال كفاية كده يا أخ رشدى خد رجالتك واطلع).. كنت أعرف أن طبيعى هؤلاء لا يقنعها ولا يردعها سوى هذا الأسلوب وإذا انهزم الإخوان أمامه فإن بطشه على جميع المساجين سيزداد ..
ولا منى بعض الإخوان على ذلك.. وحاولوا ترضيته ولكن كان هذا هو اجتهادى بحكم خبرتى بالناس ومعايشتى لأصناف المجرمين..
عندما سجدت لله شكرا يقول رشدى:
أحكمت إدارة السجن رقابتها هذه المرة وأصبحت لا أستطيع الخروج وعاش الإخوان فترة من الزمن من غير أن يوقدوا نار وفكرت كثيرا ولم أهتد إلى حل.. وجاء الحل هذه المرة هدية من الله إلى الإخوان, لأنى لا أنام طالما أن إخوانى غير مرتاحين وإضافة إلى ذلك أننى قد أصبحت عاجزا عن مزاولة هوايتى. لقد فتح باب السهر بالليل فى بعض الورش لبعض الإخوة من ذوى الفنون وذلك استعدادا فقامة معرض السجون, وفى ظلام الليل وغيبة الضباط ليلا فتح الباب علينا ووقفت فى الوسط بين الزنازين ( الباسطة)
ووقع بصرى على مالم يكن يخطر على بال.
اثنان من الحراس ليلا يحمل كل منهما صفيحة من الجاز على كتفه ويصعدان بهما درجات السلم إلى الإخوان, وأمام هذا المنظر نزلت على الأرض ساجدا لله على أن حول قلب السجان الغليظ إلى قلب رحيم بالإخوان هذا السجان الذى يراقب الممنوع, هو نفسه الذى يجمل هذا الممنوع على كتفه إلى الإخوان فى جنح الظلام... أليس فى هذا عناية من الله؟
الشاى فى ملابس المأمور
يقول رشدى:
تخيل أن الشاى وهو من الممنوعات كان يدخل بكميات ضخمة جدا .. وهذه الكميات تدخل فى ملابس المأمور ( المدير) وهى داخلة لتغسل فى السجن.. لا ضباط ولا شاويش ولا أى واحد يستطيع تفتيش ملابس المأمور, طبعا لأن فيها ملابس زوجته واولاده, وكان يوضع لنا فيها الشاى فكان ربنا سبحانه وتعالى ميسرا هذا بشكل لا يتصور..
قليل الأصل من الدرجة الأولى
ذات مرة اقترح بعض المؤيدين على المأمور أن يوقف البوليس الحربى أو على الأقل أن يضح سجانا يسمى ( أدهم) لأن أدهم كان مثل الكلب يشم الممنوعات من على بعد, وقليل الأصل من الدرجة الأولى.. حتى أنه فى مرة أغمى عليه بسبب أزمة قلبية وارتمى فى الحوش وحمله مسجون إلى المستشفى ومع أنه مغمى عليه إلا أنه عندما شعر بشىء فى عمامة المسجون الذى يحمله تطوعا رأفة به نادى بصوت ضعيف على سجان اسمه عبد الحميد أمين وقال له وهو مغمى عليه: فتش عمامته (يقصد عمامة المسجون الذى تطوع بحمله)
رغم أن عمامته لم يكن فيها غير كيس شاى وبصلة, المهم وقف أدهم حارسا وكان معنى هذا هو حرماننا من الممنوعات, ويريد السميع العليم انه فى نفس اليوم الذي وقف فيه فى الفناء صدر أمر بالسهر إلى الساعة 9 ليلا للمساجين وإذا جاء المفتاح فى يد أى شاويش آخر أصبح فى أيدينا.
عندما أطفأت كل أنوار السجن
رغم أننا ممنوعون رسميا بأوامر من أجهزة الأمن من مزاولة أى نشاط ثقافى او رياضى إلا أن إدارة كل سجن ننزل فيه كانت تحرص على الاستفادة من خبراتنا بطريقة غير رسمية, ثم تنسب كل ذلك للمساجين العاديين . حتى إن الإدارة كانت تحضر عددا من الإخوان الجامعيين ليجلسوا فى فصول محو الأمية لتثب للزوار أنهم تعلموا القراءة والكتابة فى السجن وبعضهم منح شهادة محو الأمية رغم أنه فى الجامعة... أتتنى الفرصة ليلا بالاتفاق مع أسطى الكهرباء بإطفاء أنوار جميع عنابر السجن والأحواش لمدة عشر دقائق أكون خلالها قد أسرعت بأكبر حمولة من الشاى فى تاريخ سجن القناطر حيث ملأنا ملاءة بيضاء حملها اثنان من الإخوان كل واحد من طرف وطار بها من المخزن مرورا ببوابة الوسط وبحوش عنبر 2 وحوش عنبر 1 ودخولا من باب العنبر وصعودا بها إلى دور الإخوان واستفدت من كون جميع الزنازين مغلقة ولا يوجد أحد فى الخارج وهى مجموعة الهوايات فى الورش وقد انطفأت الأنوار عليهم.
وعادت الأنوار بعد أن اطمأننا إلى نجاح العملية تماما.. ولم يفطن أحد إلى سر انطفاء النور.
رزق من الله
يقول رشدى: بعد فترة من بقائنا بسجن القناطر نجحنا بفضل الله فى جعل طبيب السجن يكتب غذاء طبيا لستة وتسعين واحدا من الإخوان وهو كثير حتى أصبح فى كل حجرة الكثير من اللبن والبيض والفاكهة فكنت كلما أدخل حجرة اجدها مليئة بالخيرات, ولذلك كنت دائما أردد ألاية الكريمة( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله) نعم هو من عند الله... كانت رحمة الله بنا واسعة فكنا نشعر بها كما لو كنا نمسكها فى ايدينا.
ارجع يا شاويش
ذات مرة فى الليل أخذنى شاويش السجن إلى مكان لنأتى بالممنوعات وهو يقول:" أنا لا أعرف كيف أننى أمش معك فى هذا الموضوع مع علمى أنه لو عرف هذا لعملوا لى مجلس عسكرى".... قلت له: ارجع يا شاويش. فقال: لا أدرى ما الذى يدفعنى إليك وأنا الذى انادى عليك لتأخذ الممنوعات. فقلت له: الله الذى يدفعك إلينا..
الجزاروالدبيحة
قال رشدى:
ذات مرة جلس عسكرى معى فقال لى: نحن بالنسبة للمسجون كالجزار والدبيحة فالجزار لا يشعر بعاطفة نحو الذبيحة, ونحن لا نشعر بعاطفة نحو المسجون لكن أى واحجد منا مع الإخوان خاصة قلبه يتقطع من الداخل لإاريد أن اسألك لماذا يحدث لنا هذا؟
فقلت له: هذا من عند الله لأننا جميعا مجاهدون ومظلومون.
أمين المخزن يعتذر لى
يقول رشدى:
أنا كنت عاملا باستمرار خطين للممنوعات حتى إذا عرف خط وقفل يكون الخط الثانى مفتوحا لأن الممنوعات هى حياتنا لأن أكل السجن لا يكفى ولا يؤكل بدون تعديل ذكى, فكان من ضمن الخطين المخازن وفى مرة أحب أمين المخازن عبد الباقى أن يسوق تقله علينا فأرسل إلىّ قلم أذهب إليه حتى أفلس ولم يجد له حيلة فجاء بنفسه مع ولدين صغيرين لطبيب من الإخوان كستار لمجيئه , ولما كشف عليهما قال : أين عم رشدى, فطلبونى فلم أذهب وبعد إلحاح من الإخوة ذهبت إليه وسلمت عليه , قال يمازحنى( المنوفى لا يلوفى) فقلت له: هذا أحسن من أن يكون عبيطا يضحك عليه ثم قلت له: اسمع منى كلمات: نحن ناس تحت رعاية ربنا, ولن يغلق أمامنا أبوابه فإذا أغلق باب فسيفتح لنا باب غيره قبل غلق الأول, وإذا كنت تحب أن تتعامل معنا على هذا الأساس فلا مانع وإذا لم تحب أن تتعامل معنا فاعمل ما تريد, وإذا أردت أن نثبت لك ذلك فانتظر, وأتيت له بحاجتين من الممنوعات وقلت له أغلقت مخازنك فى وجهنا فربنا فتح أبوابا أخرى كثيرة.
فقال : طيب من يأتى لك بها
قلت: هذا ليس من حقك.
فقال: أنا مخطىء وما فات انتهى ونفتح صفحة جديدة وتعال الآن خذ شيئا فقلت له: بعد أيام حتى ننتهى مما عندنا.
فقال: من هذا أفهم أنك زعلان ولازم تأخذ حاجة الآن ولن أحاسبك عليها .
خذها وارميها حتى تشعرنى أنك اصطلحت.
فقلت فى نفسى : سبحان الله إنها رحمة الله.
متشكر يا رشدى
وفى مرة آخرى جئت بصفيحة جاز ولم يكن هناك أحد على بوابة الوسط فمررت بسلام حتى باب العنبر, وفجأة وجدت الضابط أحمد لطفي أمامى على باب العنبر والصفحية بيدى ماذا أفعل؟ لو جريت تكون جناية ولو دخلت عليه بها تكون قضية, المهم هدانى الله عزوجل إلى وضعها على الأرض أغلقت الباب الحديدى ومثلت دور العسكرى وعندما اقترب منى فتحت الباب على آخره وقلت بصوت عال انتباه, تمام يا سعادة البيه وهذا العمل أسعده لأنه كان مغرورا فنسى أو أنساه الله أننى أحمل الصفيحة. فقال : متشكر يا رشدى متشكر جدا يا رشدى ومضى وحملت الصفيحة إلى الإخوان.
يا دنيا غري غيري
يقول الأخ رشدى:
كنت أمشى فى فناء السجن وأنا كلى سعادة من الداخل بفضل الله علينا وأشعر برضاء الله علينا وكنا فعلا قريبين من الله, لا إنشغال لنا بغيره ولا تجارة ولا أرض ولا مصنع ولا وظيفة تشغل واحدا منا وما كانا عندنا غير العبادة والعلم, فكنا أقرب ما نكون إلى الله حتى أنه فى مرة كان الأخ سيد علي يجلس على البرش ويقول بصوت مرتفع: يا دنيا غري غيري فقال له الأخ عبد الحليم خفاجي ضاحكا, واين الدنيا التى ستغرك يا سيد وأنت لا تملك غير البطانية والبرش, هلا قلت يا دنيا غرينى, وكان الأخ سعد مسرور يؤلف زجلا جميلا جدا يقول فيه: سلمها لله ترتاح وبإيدة هو المفتاح.
وكان الأخ عبد الخالق الشامي عليه رحمة الله يقول " أنا أنام على باب ربنا وأنفخ بطنى لما يفتح لى الباب أخرج" ولعل هنا أحسن لنا من الخارج( والله يعلم وأنتم لا تعلمون)
فالسجن فى الواقع سيىء جدا والأحسن أن يكتبوا على سجن بدلا من دار الإصلاح والتقويم ( داخله مفقود وخارجه مولود)
عندما انقسم السجانة إلى طابورين
كان العسكر كلما أرسلهم ليفتشوا, يفتشون ولا يخرجون شيئا, وفى مرة قال الضابط للعساكر بعد جمعهم: نحن سنفتش الزنازين (الإخوان) فمن سيفتش تفتيشا دقيقا يأتى فى طابور, ومن لم يفتش تفتيشا دقيقا يأتى فى طابور, وانقسموا نصفين وخرجت المجموعة التى وعدت أن تفتش تفتيشا دقيقا, ومرت على الحجرات عندنا من غير تفتيش وتركوا كل الممنوعات وقالوا للضابط: لم نجد شيئا أبدا, فقال : كان أحسن أرحتمونا وقلتم لن تفتشوا تفتيشا سليما, وهذا لأننا كنا نتعامل مع الجميع معاملة طيبة سواء من يعمل معنا أو مع من هو بعيد, لأننا نعمل حساب اليوم والمستقبل حين تدور الدائرة ويأتى هذا الجندى عندى فكنا نتعامل معهم على المدى البعيد وكان الله يضع فى قلوبهم الرحمة بنا.
الانفصال والاعتقال للسياسيين القدامى
فى 28 سبتمبر سنة 1961 وقع انفصال سوريا وقد أريك فيما أريك الخطط المبيته لنا فى سجن القناطر وشغلهم باعتقالات جديدة لرؤوس الإخوان فى كل محافظة ولكل السياسيين القدامى والعسكريين المغضوب عليهم, وكذلك الإقطاعيين ومن على شاكلتهم وتأهب السجن لاستقبال هؤلاء النزلاء الجدد فوضعوا أكثر من عشرين من المعتقلين الجدد من زعماء الإخوان بالدور السادس عنبر (ب) حتى لا يختلطوا بنا ووضع السياسيون القدامى والعسكريون والإقطاعيون فوقنا فى الدور الرابع بعنبر ( أ) بعد ترحيل من كان فيه من تجار المخدارت وكبار السن والمرضى ممن يسمون (بالتحف) إلى سجن أبى زعبل على عجل تسبب فى موت سبعة منهم فى الطريق كما سمعنا من السجانة.
وخصصت زنزانة فى الدور الأول لفؤاد سراج الدين وإبراهيم فرج واللواء عاطف نصار من زعماء حزب الوفد, لمعاملتهم كمسجونين سبق الإفراج عنهم بعفو صحى, ولكنهم رفضوا خلع الملابس المدنية, واصروا على ان يعاملوا كمعتقلين مثل بقية السياسيين ,لكن الضابط إبراهيم مصطفى وكيل السجن تلطف معهم حتى أقنعهم بتنفيذ التعليمات بعد أن وعدهم بنفس معاملة المعتقلين التى تتميز عن معاملة نزلاء السجون حيث يقوم المتعهد بتوريد الغذاء لهم من الخارج ما عدا لبس الملابس المدنية.
لم يكد باب الزنزانة يغلق عليهم ويكتنفهم ظلام الليل حتى أصيب اللواء عاطف نصار بشلل نصفى من هول الصدمة.
الإخوان يمسون عليك يا باشا
لم يترك الأخ رشدي عفيفي الفرصة تمر فقد دفعته شهامته فضلا عن تربيته الإسلامية إلا أن يملأ ترمسا بالشاى ويرسله مع الشاويش خفر الليل ومعه ثلاثة أكواب , وفجىء ثلاثتهم بأكواب الشاى تقدم لهم من شراعة الزنزانة فى الظلام على يد خفر الليل وهو يقول لفؤاد سراج الدين الإخوان بدور 3 يمسون عليك ياباشا ويطمئنونكم بتدبير كل أموركم فى الصباح إن شاء الله.
يقول فؤاد سراج الدين فيما بعد: كانت هذه أحلى كوباية شاى شربتها فى حياتى وكانت أحلى وأجمل تحية قدمت لى.
خطابات للأسر السياسيين
وجاء الصباح وكشف عن أكبر مشكلة يعانى منها السياسيون منذ أربعة شهور منذ أول يوم اعتقلوا فيه, وأثناء وجودهم بالقلعة لعدة أشهر قبل أن يتم نقلهم إلى سجن القناطر, وهى مشكلة انقطاع أخبار الأهل عنهم لحرمانهم من المراسلات والزيارات حتى ساءت أحوالهم النفسية فهون الإخوان المكلفون بهم الأمر عليهم وجاء دور رشدى ليتولى حل هذه المشكلة الكبيرة التى يتحدى بها سياسة امن الدولة نحوهم.
واستطاع رشدى بخطوطه الخلفية أن يخرج جميع الخطابات التى كتبها السياسيون لذويهم وكانوا فى يوم عيد وهم يتناولون الأوراق والأقلام ليكتبوا لأحيائهم وأزواجهم وأبنائهم, وعين الأخ رشدى لكل واحد من السياسيين بيت واحد من الإخوان ليرسلوا الرد المفصل عليهم ثم تتولى أسر الإخوان تسليم الخطابات لأبنائهم عند حضورهم للزيارة وعن هذا الطريق تصل الردود لهم وكانت فرحتهم بوصول الخطابات من أسرهم تعادل الإفراج عنهم.
وكانوا سعداء برعاية الإخوان لهم كاليتيم الذى وجد أخير من يكفله
وأحسسوا جميعا بإنتمائهم إلى دين الإسلام العظيم الذى طالما نسوه فى غمرة الصراعات الصغيرة وقد عبروا عن ذلك بشتى الوسائل
معركة الشمع الأحمر
فى 10 أغسطس سنة 1962 فوجئنا بنقل الإدارة لثلاثين أخا من المؤيدين إلى دور الخاص بالمعارضين بعد أن تحققت أجهزة الأمن أنهم عادوا أدراجهم إلى صفوف الجماعة, وأصبحوا على علاقة وثيقة بنا وقضوا على ظاهرة استمرار تأييد الثورة فى المناسبات الوطنية, فكان هذا النقل عقابا لهم على هذا التعاطف, وزرعا لليأس فى نفوسهم من توقع الإفراج ونشرا للذعر فى نفوس المتبقين بدور 2 الخاص بالمؤيدين الذين لم يشملهم النقل, حتى لا يحذوا حذو المغضوب عليهم وما علمت الإدارة أن مساحة التعاطف أكبر من هذا العدد القليل وأن المتبقين بدور 2 لا يقلون إخلاصا لدعوتهم وقيمها عمن انتقلوا إلينا, ولكننا تعودنا أن الأجهزة الرسمية لا ترى إلا بعين واحدة , ولا تسمع إلا بأذن واحدة فهى لذلك دائمة العثرات, وترتب على نقل هذا العدد الجديد إلينا إعادة تسكين الإخوان بدور 3, وبالتالى تغير سكننا من زنزانة 13 إلى زنزانة رقم 19 وهى زنزانة كبيرة, تقع على السلم مباشرة, وزاد عددنا إلى حوالى اثنى عشر أخا, وأصبحت هذه الزنزانة الكبيرة هى غرفة عمليات رشدى الجديدة.. وكان حظ من فيها أنها تفتح فى أغلب الليالى لينعقد فيها المجلس العسكرى لشرب الشاى بقيادة رشدى, ولم نكد نستقر فى الوضع الجديد حتى سمعنا همسا فى كل أنحاء السجن.
لكن الهمس الذى وصل إلينا فى أحد الأيام يفيد أن الإدارة تعد حملة خاصة لا تبقى ولا تذر وستتبع أسلوبا جديدا فى التفتيش حيث ستقوم بإخراجنا أولا خارج الزنازين ثم تكتسح كل ما بداخل الزنزانة ثم تعيد إدخالها بعد تسليم كل منا بطانيتين وفرشا من جديد كأننا نزلنا لأول مرة وبهذا يكون كل ما عدا ذلك من الممنوعات فضلا عن توقع العقاب على نوعية الممنوعات وهنا ازدادت حيرة جميع الإخوان.
وكنت أشد الجميع حيرة فى أمر بحث كتبته عن الشيوعية إذا ضبط معى يتسبب فى كارثة للجميع فليس هناك أخطر من الأشياء المكتوبة لدى المسجونين السياسيين بل إن الورقة البيضاء أو القلم يعاقبون عليها أشد العقاب, فكيف ببحث كبير ينم عن إعداد وترتيب وعن سلسلة طويلة من الممنوعات والتهريب فضلا عن موضوعه الذى سيفسر ألف تفسير.
اقنع رشدى السجان المخصص لدور المعارضين بفكرة نقل الممنوعات إلى مخزن الجاويش نفسه لأنه لم يحدث فى تاريخ التفتيشات أن مخزن السجان يتعرض للتفيش, لأنه هو عين الإدارة ويدها التى تختاره بمواصفات خاصة تصلح لمضاعفة آلامنا, ولكن الله كان لهم بالمرصاد فيلين لنا القلوب الصلبة, وقبض الله الأخ رشدى ليحقق فى هذا نجاحات عديدة ذهبت مضرب الأمثال بيننا, ولا ندرى كيف نجح فى إقناع السجان محمد البطل الرجل الغليظ الفظ بأن توضع جميع الممنوعات فى مخزنه, وقد تم ذلك بعد جمعها من جميع الزنازين وسارعت بوضع صيدى فى مكان أمين فى مخزن الجاويش بنفسى.
ولكن يبدو أن حجم الكارثة سيكون أكبر مما نتوقع لأن إدارة السجن أجلت التفيش المسائى إلى الصباح بعد أن أحضر الضابط بنفسه , وأجرى أسلوب التفتيش الجديد على عدة من الزنازين فطن خلالها أن شيئا غير عادى قد حدث لخلوها من أى ممنوعات, ونظرا لضيق الوقت فقد اوقف الاستمرار فيه بعد أن فطن بذكائه أو بوشاية وصلت إليه أن الممنوعات قد جمعت فى مخزن الجاويش, فعمد إلى مخزن الجاويش مباشرة ونادى على الجاويش فجاءه ممتقع اللون, وأمره بإحضار الشمع الأحمر والنار ليختم لى باب المخزن إلى أن يأتى فى الصباح ويتولى تفتيشه بنفسه فأطاع الجاويش الأمر وهو يرتجف وقد تحقق المسكين من نهايته فى هذا اليوم الحزين, ولما انصرف الضابط على رأس الحملة ظهر فارس الميدان رشدى ليهون على الجاويش الأمر ولكن بطريقة لم تخطر على بال أحد.
فقد نجح رشدى ومعاونوه من الإخوان فى إقناع جاويش العنبر محمد البطل وكذلك صول السجن بسرعة التتميم فى هذا اليوم ( أى إدخال المساجين) حتى يتاح لنا فرص التصرف وشارك الصول والجاويش فى الخطة بعد أن أقنعهم رشدى بأهمية رفع الشمع الأحمر المختوم ودخول المخزن ونقل كل الممنوعات فورا لحفظه عند إخواننا المؤيدين الموجودين فى الدور الذى يقع أسفل دورنا المخصص للمعارضين حيث لا يتطرق إلى الإدارة الشك فيهم لصلة المؤيدين بأجهزة الأمن, وإعلانهم التأييد فى كل المناسبات وطمأن رشدى بالهم بإمكان إعادة الشمع مختوما كما كان, وأحضر لهذا الغرض قطعة شمع خام وختما به أرقام ولم يعجز إن إحضار النار الممنوعة أيضا لهذا الغرض وأغلقت أبواب جميع الزنازين, ولما وجد رشدى ان الجاويش متردد قال له رشدى: أنت ذاهب للمجلس العسكرى لا محالة فساعدنا على فتح المخزن لنمنع الكارثة لأنك لا تدرى ما فيه, وقال لأه أيضا : أنت تعرف أننا عفاريت أم لا؟ فقال عارف. فقال له: وتعرف أننا رجال أم لا؟ فقال : أعرف, فقال له : اتركنا نفتح المخزن وكن مطمئنا أننا سنعيده كما كان بعد نقل الممنوعات الخطرة, فقال : لا مانع, وأغلقت الأبواب وبدأت الحركة المحمومة بين الدورين المؤيدين حتى نقل جميع الممنوعات ومن بينها كشكول البحث إلى زنازين المريدين وأعيد غلق وتشميع المخزن كما كان,و الكل وراء الشراعات يتابع هذه الحركة المباركة التى لاتقل مشاعر القلق والتوتر فيها عن مشاعر القائمين ليلة 23 يوليو 1952م
وكان المعتقلون السياسيون من وراء العهد السابق وضباط الجيش وكبار رجال مصر فيما قبل الثورة يسكنون الدور الرابع فوق المعارضين وينالون معاملة خاصة مريحة, لذلك أتيح لهم ان يظلوا خارج الزنازين ويتابعوا هذه المغامرة بكل الإعجاب وكانت أياديهم تلوح لنا بالتشجيع.
وبعد هذه المغامرة المثيرة المحفوفة بالمخاطر تم قفل الباب ووضع الشمع الأحمر والختم كما كان وهذا توفيق الله.
وذهب الأخ رشدى إلى الجاويش وقال له: لم نستطيع فتح الباب, فقال الجاويش: يا عم رشدى أعمل معروف وأعمل ما تشاء, فنظر رشدى إلى الباب وقال للجاويش: انظر إلى الباب هل فتح؟ فقال الجاويش والله لم يفتح فقال له: انظر مرة أخرى. فقال : لم يفتح فقال له رشدى : نحن فتحناه وأخرجنا كل الممنوعات وأعدنا الشمع والأختام كما كان طلع الصباح وجاء الضابط الهمام بحملة من العساكر مطمئنا إلى أنه قد وضع يده على أخطر ما تحويه زنازيننا من ممنوعات, ولعله كان يمنى نفسه بالحظوة لدى المسئولين لما سيقدمه لهم من قرابين, واطمأن إلى وجود الشمع فى مكانه واقتحم المخزن بالجنود ولم يجد إلا ما تركناه له عامدين من ممنوعات تشفى غليله كبعض علب الغاز, وزجاجات الزيت وباكوات الشاى وهو أمر مخاطره محدودة على كل حال, ومتوقعة فى السجون وليست هى المنوعات الحقيقية على المسجونين السياسيين فجن جنونه وخرج مذهولا ولم يستطع تفسيرا وظنى أنه إلى اليوم لم يجد هذا التفسير.
ولم يصدق الشاويش محمد البطل ما حدث وما رأى بعينيه وقال : والله العظيم لو أخذت خصم 15 يوما ما كنت سأغضب لأنكم فعلا رجال.
تغيير الخطة
عقب هذا التفتيش عمل رشدى على تغيير خطة المخابىء بحفرها فى أسقف الشابيك وعند كل مساء ترفع من حافتها المسامير وتخرج الممنوعات وفى الصباح تعود شبابيك مسمرة لا يرقى إليك الشك وكان هذا المخبأ هو أكثر اماكن أمننا لكتاباتى.
بندق ... موسى
وحتى نأمن مفاجآت التفتيش فى الصباح والمساء ونحن داخل حجراتنا لا نعرف ما تخبئه لنا إدارة السجن, كان رشدى يتسلق نافذة الحجرة فى الصباح الباكر, ويمد ذراعه للخارج ممسكا بمرآة تكشف له الحركة كاملة فى حوش السجن ونحو الإدارة,ويحدث هذا مساء بعد انصراف السجانة حيث يعودون مرة ثانية للتفتيش بعد أن نكون قد اطمأننا لانصرافهم,ولا يحاول احد من الإخوان أن يخرج ما يخبئوه من ممنوعات لاستعمالها إلا إذا سمع نداء رشدى حسب الشفرة المتفق عليها, فإذا رأى رشدى خطرا نزل على النافذة وتسلق شراعة الباب لينادى فى العنبر بأعلى صوته ( بندق) وغذا ما زال الاخطر نادى بأعلى صوته ( موسى) وكلنا بالطبع يعرف هذا وبندق هو اسم لأخ يؤذن لنا فى جميع الأوقات بصوت ندى وكان يذكرنا ببلال – رضى الله عنه – خلقا ولونا والآخر هو الأخ موسى جاويش.
بأية حال عدت يا عيد
وجاء العيد وكانت من عاداتنا أن نعمل حفلا يوم العيد لنخرج جميع الإخوان من دائرة الحزن على فراق الأهل والأولاد, فانتخبنا عدة أفراد منا ليعيدوا على المعتقلين فى دور 4 فوجدوهم بين مستلق على الأرض يبكى وبين من أحمرت عيناه من البكاء الشديد وحالتهم فى غاية البؤس وظل الإخوان معهم حتى أنزلوهم من فوق, وقالوا لهم: أنتم الحكام فى المباريات التى ستجرى ونزلوا فعلا ورأوا الشباب الذين حكم عليهم بعشر سنين يضحكون ويمرحون وكنا قضينا منها ثمانية أعوام فكانوا يقولون: هذا الشاب الصغير قضى 8 سنوات فى السجن, وما زال يضحك وحالته حسنة هكذا , ونحن لم يمض علينا أسابيع وحالتنا بهذه الصورة, هؤلاء ليسوا بشرا وكانوا ينظرون إلينا نظرة احترام وتقدير ومر اليوم, وقالوا لنا: لو لم تأتوا بنا من الزنازين كان نصفنا ذهب إلى مستشفى الأمراض العقلية وتأثروا بهذه المعاملة الكريمة لدرجة أن من يفرج عنه منهم كان يمر على جميع الإخوان زنزانة زنزانة ويحتضن كل أخ ويطلب منا الدعاء ويقول: أنتم أحسن ناس موجودين على وجه الأرض.
أنطش الولد طلعت
كان رشدى له مكانة بين المسجونين والسجانة عظيمة, وكانت له مكانة أعظم بين إخوانه فهو الذى يسهر على راحتهم وهو بجانب ذلك المتواضع جدا المتفانى وظهر ذلك بوضوح عندما أتى يوم الإفراج عن رشدى من السجن كان يوما حافلا احتفل به المسجونون وودعه السجانة والضباط بحفاوة عند الباب وظلوا يذكرونه بعد خروجه ويراسلونه ويتندرون على أيامه حتى ان أحد الصولات أرسل إليه يقول بهذا النص( لقد أنطش الولد طلعت فى السجان وأمسك منه بصفيحة جاز) وطلعت هذا أحد الإخوة الشباب الذى كان يساعد رشدى وحاول أن ينوب عنه فى تقديم الخدمات وكلمة الصول معناها: " فين أيامك يا رشدى لا يمكن أن يقوم مكانك أو مقامك أحد".
الإفراج وعودة رشدي إلى القرية
يقول رشدى:
أنا خرجت من السجن يوم 12/ 12/ 1964 بعد قضاء عشر سنين كاملة رغم أن المسجون العادى يقضى السنة تسعة شهور أو يقضى نصف المدة إذا حكم عليه بعشر سنوات يقضى خمسا فقط, وإذا حكم عليه بتأبيدة ينفذ منها 15 سنة فقط وهكذا, يستفيد من ذلك القاتل والسارق والمختلس والزانى ما عدا نحن, إذ علينا ان نقضى المدة كاملة, ولما خرجت لم تكن عندى فرحة الإفراج ويعلم الله ذلك لأنى تركت إخوانا لى لا يزالون فى السجن وصعب ذلك علىّ جدا وكانت الفرحة ستكون كاملة لو خرج جميع الإخوان, ولما خرجت جلست مدة 4 شهور رأسى يدور ويلف كلما تذكرت الإخوة الذين تركتهم فى السجن تذكرت شابا اصابه المرض او شيخا انحنى ظهره رغم أن صحتى يوم خروجى كانت طيبة جدا بفضل الله تعالى كأنى لم أكن فى السجن, لو لم أعش فى كدر بل عشت المدة فى رضا الله ولم أمرض طوال هذه المدة ووجدت من مثل سنى فيهم من انحنى ظهره أو خلع كل أسنانه أو انهكه المرض وسألت فإذا بهم يقولون: هموم الدنيا والأولاد والمعيشة والناس كأنهم أشباح أو اشباه رجال ولما خرجنا سبقتنا إشاعة تقول إننا لن ننجب مرة أخرى وأن الحكومة أعطتنا دوءا حتى لا ننجب وتنقرض ذريتنا من بعدنا فيريد السميع العليم أن كثيرا من الإخوان بعد خروجهم رزقوا بولدين فى بطن واحدة, وهذا يشبه ما حدث مع المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة عندما مرت عليهم فترة دون إنجاب سرت إشاعة أنهم لن ينجبوا فى المدينة ولكن الله فتح عليهم وعلينا.
ولم تطل بنا الأحلام السعيدة وحيث لم أكد أفكر فى كيف أبدا حياتى من جديد وكيف أصلح ما حدث فى الأسرة من تغيير نتيجة غيابى عنهم هذه المدة الطويلة.. حتى سمعت نبا اعتقالات جديدة لن الحكومة اكتشفت وجود تنظيم جديد للإخوان المسلمين!
وعلى ذلك فقد أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قرارا 6/9/1965 باعتقال كل من سبق اعتقاله ومن هذا الطريق قبض على مرة أخرى دون أن أدرى شيئا عن التنظيم الجديد!
وأمضيت فى هذا الاعتقال ست سنوات عجاف جعلتنا نترحم على أيام السجن..
وجاءت محنة 1965
يقول رشدي:
" بعد مرور ثمانية أشهر على الإفراج فوجئت بالقبض على مرة أخرى فى 15/ 8/1965م وتنقلت بين معتقل طره والفيوم والسجن الحربى ومعتقل أبو زعبل " ونعن كانت فترة الاعتقال أقسى من السجن لاعتبارات كثيرى منها:
التهديد الصريح من جمال عبد الناصر حين قال فى مؤتمر الطلبة العرب فى موسكو: إن الإخوان المسلمين استغلوا العفو عنهم كى يتآمروا مع مصادر أجنبية, وأنه لا يمكن أن يقابل ذلك باللين, لأنه عفا عنهم مرة ولن يستطيع أن يعفو مرة أخرى..
كانت هذه العبارة إيذانا بتنافس أجهزة الأمن العديدة فوقع الإخوان فريسة بين جهاز الأمن والشرطة العسكرية..
ولم تكد تنتهى التحقيقات والمحاكمات حتى كان هناك تصريح آخر جاء فى إحدى خطب الرئيس " بأن الذين لم تشملهم المحاكمات سيبقون بالمعتقلات إلى الأبد" ومنها أن الاعتقالات شملت العديد من الفئات لمجرد نشاطها الإسلامى سواء كانت من الإخوان أم لا..
مما أحدث موجات من الذعر فى نفوس المعتقلين جعل بعضهم يسعى إلى كسب ثقة الدولة بأى ثمن وكان الإخوان الذين خرجوا من السجون بعد عشر سنوات مرتعا خصبا لمن يكتب عنهم.. وذلك إظهارا للولاء للسلطة .. ولا شك أن رشدي واحد من هؤلاء وسيتتبع الكثيرون حركاته وأقواله لنقلها أولا بأول لأنه ساد شعور عام لدى الدولة بأن ثبات المعارضين من الإخوان هذه السنوات الطوال فى السجون هو الذى جدد روح الإخوان من جديد وهو الوقود الذى اشعل فى نفوس الشباب حب الجهاد لكثرة ما ردد شباب التنظيم الجديد ذلك فصب المسئولون على رؤوس الإخوان الذين خرجوا من السجون سوط عذاب وهم تارة ينعتونهم بالمعارضين او بالعشرات لأنهم خرجوا بعد عشر سنوات من السجن.
فكيف تستطيع روح رشدي المغامرة أن تعمل فى هذا الجو الجديد وإلى من يوجه خدماته وسط هذا الخليط وما نوع الممنوعات الجديدة ولماذا عرض نفسه لخطر جسيم؟.
هذه كلها أسئلة لا يستطيع أن يجيب عنها ولكن تصرف رشدي هو الذى يجيب حسب مقتضى الحال.. فالمؤيدون الجدد فاقوا مؤيدى السجون فى ابتكار أساليب الولاء, كأن يكتبوا بدمائهم وثائق ولاء للثورة وتأليها لقائدها.
ثم تطورت الأساليب بالتنقيب عن كل من يشتم منه أى حرص علي الجماعة وإعلان اسمه للمسئولين وإحصائهم فى جميع العنابر..
وابتكروا أسلوبا شيطانيا أوحوا به للإدارة بمنع التكافل بين الذين تأتيهم أمانات من ذويهم يشترون حاجاتهم من مقصف المعتقل وبين الفقراء الذين لا يصلهم شىء لأن التكافل هو الذى يقوى الروابط بين أفراد الجماعة على حد تصورهم.. فكان تنبيه إدارة المعتقل على حسب تعليمات أجهزة الأمن بأن يأكل أصحاب الأمانات مع بعضهم ويكتفى المعدمون بأكل المعتقل الردىء.. وإذا اكتشفت الإدارة بأساليبها وعن طريق عيونها المبثوثة فى كل العنابر أى مخالفة لذلك فإن ذلك معناه إصرار المخالفين على التكافل وبالتالى على إحياء جماعة الإخوان... مما يكشف عن وجود تنظيم ضد الدولة.. دب الذعر فى جميع العنابر والاستياء فى نفوس الصالحين لمحاصرة القيم الإنسانية بل وخنقها فى النفوس, وقاوم الإخوان الصادقون هذا الإسفاف بكل الحيل, وجاء دور رشدى ليحاول علاج الموقف فى العنبر الذى كان فيه, فهداه تفكيره يوما ما بعد فترة من تطبيق هذا النظام اللعين إلى عمل طبق سلطة كبير للعنبر كله, لتزول الحساسية نحو قرار المنع اللعين.. ولكن سرعان ما وصل أمر طبق السلطة الكبير إلى الإدارة التى أبرقت إلى وزارة الداخلية به وعلى الفور استدعى رشدي ومن اشترك معه فى إعداده ورحلوا إلى معتقل القلعة للتحقيق معهم بجريمة بعث تنظيم الإخوان الجديد.. وتألم من فى المعتقل وطال غياب رشدى وإخوانه فترة أحدثت سحابة من الجزع والحزن لدى الجميع, وعمقت جذور الفزع والخوف فى نفس كل من فكر فى أى قيمة أخلاقية..
ولم يعد رشدي من القلعة إلا بعد الهزيمة فى حرب 1967 حيث وضع فى عنبر المغضوب عليهم.. وكمن معه أيضا فى هذا العنبر العجيب مثلما قدر الله سكننا معا فى أكثر من زنزانة فى السجون.
حرب 1967
تأزمت الأمور بين مصر وإسرائيل فى فترة وجود رشدى بالمعتقل وفوجئنا بإعلان حالة الطوارئ وبتخلية الدور العلوى بالمعتقل لتتخصيصه للمعتقلين من اليهود..
وتشاور الإخوان فى هذا الموقف المفاجىء ورأوا من الحكمة والواجب معا أن نكتب للمسئولين بأننا على استعداد للذهاب إلى ميدان المعركة ومن يبقى على قيد الحياة يعود إلى المعتقل , ولا يعقل أن تدخل الأمة حربا مع اليهود وهى ممزقة الصف وتضع خيرة أبنائها فى المعتقلات والسجون..
وكنا صادقين فى هذه النية من جهة, ومن جهة أخرى لنقطع الطريق على المتربصين بنا فى حالة الهزيمة حتى لا يقولوا بأننا طعنا الثورة من الظهر وتآمرت الرجعية مع الأعداء وأنهم فرحوا فى الهزيمة وكل هذا متوقع من المهزوم..
زنازين شمال
ورفض فريق من الأخوة بمنطق آخر لم يوافق عليه أحد منا, وهو أن كفرا يحارب كفرا فلا دخل لنا بينهما... وذلك انبعاثا من تفكيرهم الخاص الذى كان قد بدأ يسيطر عليهم فى أواخر فترة السجون بتكفير الحاكم والحكومة والمجتمع, وهم قلة لم يوافقهم أحد على هذا الفهم الخاطىء.. ولم يكن الرافضون كلهم على هذا الفهم بل كان من بينهم من رأى أننا لا يجب بأى اقتراح من وراء الجدران مادمنا لا نعلم الحقائق كاملة..
وجن جنون الإدارة وأبلغت الأمر على الفور للمباحث العامة التى قررت على الفور عزلهم جميعا فى عدة زنازين بالدور الأول سميت زنازين شمال.. ومنعت عنهم التعامل مع الكانتين والخروج لأى طابور تمهيدا للنظر فى أمرهم بعد الحرب..
وجاءت الحرب وحلت الهزيمة.. وازدادت ضراوة أجهزة الأمن شأن كل مهزوم يلعق جراحه.. ووسط هذا الجو القاتل والمآسي المتلاحقة لم يغفل ردى عن إخوانه بزنازين شمال برغم عدم موافقته على أفكارهم ومعتقداتهم, لكنه شأن غيره من الإخوان ممن يحملون لهم العذر مما لا قوة معتبرا ذلك من الأزمات النفسية الحادة..
وخرج رشدى من مكمنه مرة أخرى ونجح وسط هذا الجحيم فى تنظيم جميع الممنوعات لهم حتى أغرقهم بكل الطيبات..
نجح رشدى بتوفيق الله رغم عيون أجهزة الأمن المفتوحة وعيون السجانة والإدارة والبشايش..
وكانت حلقة من أغرب ما قام به رشدى فى تاريخ السجون والمعتقلات , لأن تزويد هؤلاء الإخوة بحاجتهم قد جعل رشدى على صلة بالإخوة الموثوق بهم سرا بجميع العنابر , فهو يأخذ من إخوان هذا العنبر حلاوة ومن أخر جبنة ومن ثالث نقودا, وهكذا على مدار معتقل أبو زعبل كله, وكان من الممكن فعلا أن يكشف ذلك عن وجود تنظيم حقيقى على مدار المعتقل ينتسب إليه جميع الإخوة الصادقين ولكن كان يتم ذلك دون أن يحس أحد من المرابين بهذه الحركة البارعة التى لم يستطع أحد كشفها بقدرة الله وعنايته ثم بفضل رشدي عفيفي..
كان رشدى يردد وهو يتحرك ( فأغشيناهم فهم لا يبصرون) حتى أن الأخ محمد قطب قال : لو وضعونا تحت الأرض فإن الأخ رشدى سوف يوصل الطعام إلينا من خلال المواسير..
ووصلت برشدى الجرأة مرة أنه رتب مع السجانة دخوله بنفسه إليهم ليرفع من معنوياتهم ويبلغهم تحيات إخوانهم..
الجيش العقائدى للإخوان
عندما بدأت الإفراجات بعد عدد من السنين استثنت أجهزة الأمن من المفرج عنهم من سبق خروجه من السجن بعد انقضاء المدة كاملة وهم الموصوفون بالعشرات أو المعارضين مع قلة ممن كشفت فترة الاعتقال عن ولائهم لجماعة الإخوان ورحل هؤلاء جميعا إلى معتقل طره ليبقوا فيه إلى البد باعتبارهم الجيش العقائدى للإخوان على حد تعبير عبد الناصر.
وذهب رشدى بالطبع إلى معتقل طره السياسى الذى اختاروا لقيادته عبد العال سلومة صاحب السمعة السيئة فى السجون, وتعرضنا فى هذا المعتقل لنوع جديد من المتاعب يطول شرحها حيث ظهرت فئة المؤيدين مرة أخرى بشكل أكثر ضراوة..
يقول رشدى:
ذات مرة جاءنى واحد من المؤيدين وجلس يمدح فى عبد العال سلومة, وطبعا عرفت أنه عميل له. ولن أتركه يمدح وأنا أعرف أنه منافق وسيبلغه فقلت له:
أنا أعرف عبد العال سلومة منذ أن كان بنجمة واحدة ( ملازم) وهو الآن ( مقدم) وأنت لا تعرفه إلا من سنة واحدة – هذا من أحقد الضباط على المسلمين.. هو السبب فى حادث طره وهذه المسألة تجعل عبد العال سلومة يرتعد جدا ويرتجف, وأنا أعرف أنه سيوصل الكلام, وفعلا وصل له الكلام , ولما قال له إن رشدي بيقول إنك السبب فى حادث طرة أصفر كالليمونة لأنه اشترك فى قتل 21 مسلما , فقال له عبد العال : أنا أريد أن أقابل رشدى, وجاء الأخ المؤيد, وقال : أنا نقلت الكلام لعبد العال وهو يريد مقابلتك, فقلت له : أنا أعرف أنك ستنقل ذلك, وأنا قلت ذلك لتوصله له . فقلت: أنا لا مانع من الجلوس معه ومع جده وعنده فى مكتبه على شرط ألا أجد الباب مغلقا وإلا سأرجع فورا, لأن عبد العال كان عنده خطة: أى واحد جاءه من المعتقلين يتركه على الباب ساعة أو أكثر بصورة غير كريمة,وفيها نوع من الإذلال.
وأنا طبعا غير سلومة أو غيره من البشر[ فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياه الدنيا] فراح صاحبنا وأبلغه, وذهبت وكان الباب مفتوحا فوقف عبد العال وسلم على ثم سأل سؤالا فقال: ما رأيك فى جمال عبد الناصر ؟ ولم يكن عبد الناصر قد مات بعد . فقلت له سأقول لك الحكاية أولا قبل الإجابة: لما كنت فى السجن المرة الأولى توفى والد واحد فى البلدة عندنا , ولما خرجت جاء إلى وقلت له معزيا: أنا لما علمت بموت والدك حزنت فكان رده مفاجأة لى حيث قال : كيف زعلت أنت, إن أسعد يوع عندى كان يوم موت والدى. فقلت له: كيف؟ فقال ( أنا لم أر منه يوما يسر خاطرى) فتصور إذا كان هذا رأى واحد فى والده, فأعتقد أنك عرفت فى جمال عبد الناصر والحكومة؟
وإذا قلت لك إن الحكومة ممتازة أكون منافقا وأنا سأقول لك شيئا لو أنى لا أحترمك هل ستحبنى . فقال : لا, فقلت له: إذا كان عبد الناصر حبسنا فهل نحبه؟ ماذا تريد منى أن أقول فى عبد الناصر؟ فقال: أنا أعرفك أنك رجل طيب وأريد أن نفتح معا صفحة جديدة وعهدا جديدا, وأنا سأعمل ما فى وسعى لتخرج إفراج, وهو يقول هذا لينسينى انه السبب فى حادث طره و طبعا هو ليس فى وسعه إفراج أو شىء, والله إذا أراد أن نخرج سنخرج رغم أنف الجميع..
ليلة موت عبد الناصر
يقول رشدى:
فى هذه الليلة كنت بالزنزانة مضجعا فجاء أحد الإخوان ومال علىّ وقبلنى من جبهتى وقال : مبروك جمال عبد الناصر مات فقلت: كيف هذا؟ وقمت فوجدت هناك أصواتا بين الإخوان, فقال لى الشاويش: يا أخ رشدى, أنا أرى الإخوان يعملون حلبة ثم يسجدون, ماذا حدث فقلت: انتظر حتى نتأكد, يقال إن جمال عبد الناصر مات, وظللت أتتبع أصل الخبر حتى سمعته فى الراديو فتأكدت من الخبر, فرجعت فقابلنى الشاويش فقلت له : تعال فاسجد معنا يا شاويش.
فى ضيافة الرحمن
اختلط الفرح بالتوجس فى نفوس الإخوان بعد موت عبد الناصر.. فرغم إيغاله فى العلاقة مع روسيا, إلا أننا كنا ندرك أنه مع ذلك من أمريكا قريب وإلى عبادة الذات أقرب.. فهو فى النهاية صمام أمان من تغلب أحد فرسى الرهان فهو يمسك بلجام الحصان الروسى تارة وبلجام الحصان الأمريكى تارة أخرى.
ولكن الخطورة تأتى عندما يفلت الزمام وينطلق كل حصان على وجهه يريد أن يسبق الآخر.. هنا يكمن الخوف من مغبة السباق..
وكان الجميع يشفق من مصير البلد بعد وفاة عبد الناصر, لأنه أوصلها إلى مرحلة القابلية للصراع الذى لا يعرف نتيجته إلا الله.
ولم يكد السادات يتولى السلطة حتى فطن الجميع فى الأيام الأولى من حكمه ان فرسى الرهان ما زالا على حالهما وأن القيادة السياسية ليست فى السادات بل تتستر وراءه.
ولم تلبث الصراعات ان برزت على السطح ونجح السادات فى القضاء على جميع مراكز القوى قبل أن يستخدمه أى مركز فى تحقيق مأربه, ولجأ السادات على الفوز إلى الضرب على وتر الحرية والديمقراطية وأعطى حكمه مسحة من الإسلام برفع شعار دولة العلم والإيمان بديلا لشعار العلم والتكنولوجيا الذى انتهجه عبد الناصر.. فالتفت حوله القلوب وأملت فيه خيرا وجاءت تصفية المعتقلات والسجون علامة قوية على طريق الحرية..
فعاد رشدى وإخوانه إلى خارج أسوار السجن مرة أخرى, وإذا كان هذا التغيير قد أحدث موجة كبيرة من التفاؤل إلا أن فريقا من الإخوة ظل على توجسه لمعرفته بطبيعة شخصية السادات التى لم تتغير من داخلها ولكن جاء التغيير من الخارج لدواعى مصلحة تثبيت الحكم وكسب التأييد الشعبى له.. ولم يكن أمامه من سبيل إلا هذا السبيل, وهنا انقسم الذين أفرج عنهم فى عهد السادات إلى فريقين فريق متفائل يؤمل فى العهد الجديد خيرا, وفريق على ما هو عليه من الحذر ويحمد الله الذى أدرى المقادير بالعافية, ولكن لا يزيله الحذر مما يخبئه القدر بعد أن تستعيد الديمقراطية دورها فى إيجاد الزعامة الجديدة التى تقود التغيير على وفق هوى القوى الكبرى التى ما تزال هى الموجهة الحقيقية للأحداث..
وإذا كان الفريق الأول قد فضل البقاء بمصر لإعادة بنائها فى ظل العلم والإيمان, فإن عددا كبيرا من الفريق الثانى فضل الهجرة فى أرض الله وفى كل خير.. ويقينى أن رشدى لم يكن إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. فهو رجل بسيط لا يجهد ذهنه كثيرا فى عواقب السياسة, ولكنه يحمل إيمانه فى قلبه يجاهد به الباطل ويخدم به إخوانه ويعمل لدعوته حيثما وضعته المقادير. فلم يكن رشدى من الذين ينظرون إلى الإفراج والعافية وإقبال الدنيا على أنه تعويض ربانى عما لاقاه فى سبيل الله كما فهم بعض المفرج عنهم خطأ, بل إنه نظرته السليمة يعلم أن العافية وإقبال الدنيا هو نوع جديد من الابتلاء لا ينجح فيه إلا القليل, وذلك تحقيقا لقوله تعالى:
( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) وأصبحت نفس رشدى نفوس كثير من المفرج عنهم مهيأة لتقبل الأقدار الربانية والابتلاءات الإلهية بالخير وبالشر, فهى دائمة التسليم لله ودائمة التوكل على الله ليقدر الله لها الخير حيث كان.. وقد اختار الله لأخيه أبو الفتوح عفيفي اليوم عضوا بمجلس الشعب.. واختار لرشدي أرض الحرمين الشريفين ميدانا جديدا ل الجهاد لتكون فرصة النجاح فى الابتلاء بالخير أكبر تخفيفا من الله ورحمة كيف لا وهو دائم القرب من بيته الحرام ومن مقام رسول الله.
ليس ذلك فحسب بل أتاحه له قربه فى كل عام فى موسم الحج من قيام الكثير من الخدمات التى لا تحتاج إلى مغامرة, بل إلى مثابرة وسهر وجهد وإتقان وهى من طبيعة رشدى العادية التى لا يتكلفها, بل لعله يمرض روحيا وجسديا إذا توقف عنها.
ومن ثم فقد تولى الله أمره واختار له أرض الحجاز مقاما.. وذهب بهذا الخير الحاج فتحي الخولي من الرعيل الأول للإخوان الذين نهلوا من نبع الإمام الشهيد الصافى والذين هاجروا من مصر قبل ان تمتد إليه يد الطغيان وحصل على جنسية أهل البلاد.ولا أدرى كيف ساق القدر رشدي إليه فمهما كان تخطيط البشر فإن الفاعل الحقيقى فى النهاية هو الله.. وكان نزول الأخ رشدي على الأخ فتحي الخولي خيرا وبركة حيث لم يقتصر عمله فى جدة على حراسة مدرسته الخاصة ورعاية شئونها فلم تكن روحه الوثابة لتقف عند حدود أبواب المدرسة بل غلبت طبيعة المغامرة والمحبة للخير والإسلام فصار ذراع الحاج فتحي الخولي اليمنى فى كل أعماله وفى أرضه الزراعية فى خيبر وكلما جاءت مواسم الحج لا تراه هناك إلا مشغولا بنصب الخيام فى منى وعرفات أو مشغولا بإعداد الطعام للحجيج.
وكم كانت سعادتى وكم كان شكرى لله كبيرا حين قابلته هناك أكثر من مرة ووجدته كما هو لم يتغير بنفس الروح والحيوية والتواضع والتفانى, فهو الملك المتوج فى كل مكان يحل فيه بفضل الله وبنعمة هذا الدين الذى أعزنا الله به.
وكلما نظرت إلى رشدي ملك السجن تذكرت قوله تعالى [ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين – ونمكن لهم فى الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون] صدق الله العظيم.