الإسلاميون في الواقع السياسي العربي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإسلاميون في الواقع السياسي العربي

تحرير : شفيق شقير

أبريل / نيسان 2006

شبكة الجزيرة نت البحوث والدراسات

كلمة المحرر

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد أحداث سبتمبر / أيلول , قادت واشنطن حملة عالمية ضد ما تسميه الإرهاب وتحديدا ضد ما سمته بإرهاب الجماعات الإسلامية المتطرفة وأدى بها ذلك إلى الدخول في حربين ضد بلدين مسلمين , أفغانستان والعراق .

وتركت هذه الحملة تأثيرها على التيارات والجماعات الإسلامية وأدخل بعضها تعديلات على خطابه أو على أدائها , قسرا أو طوعا , كما نتج عن ذلك أن دخلت أو تغذت ظواهر جديدة مثل ظاهرة " الطائفية " و" الجهادية " ويقصد بالأخيرة الجماعات التي أجازت لنفسها استخدام العنف ضد المدنيين لتحقيق ما تؤمن به .

وظهر نوع جديد من العلائق التي تربط الإسلاميين بغيرهم , سواء مع العدو أو مع الصديق فقد أظهر الإسلاميون مرونة غير مسبوقة , من ذلك إقدام حماس على الدخول أو بالأحرى تولي السلطة التنفيذية التي من المفترض أنها انبثقت عن اتفاق أوسلو الذي ترفضه الحركة , وكذلك تحسنت علاقة بعض التنظيمات الإسلامية وبنسب متفاوتة مع أنظمتها الحاكمة , كما هو الشأن مع الحالة الإخوانية أو تلك الحالات المشابهة لها , مع لحظ الاستثناء في الجناح الإخواني السوري , حيث تتجه العلاقة نحو الأسوأ .

وتعاونت مع واشنطن بعض الفصائل الإسلامية في العراق , مثل المجلس الأعلي للثورة الإسلامية , فيما جرت حوارات غير رسمية بين واشنطن وبعض الإسلاميين , ومثل الحوار الذي جرى في بيروت والذي شاركت فيه عدة أطراف من بينها حماس وحزب الله .

أما الحالة السلفية فقد أفرزت في داخلها خطوطا جديدة بعضها اتخذ شكلا مستقرا وبعضها ما زال في طور التشكل , وذلك تبعا للتمزق الذي أحدثه تنظيم القاعدة والذي أغلب عناصره من السعوديين , كما أن مرجعيتهم الفقهية تعود إلى المشرب " الوهابي " أو السلفي كما يفضلون أن يطلقوا على أنفسهم .

والزلزال الذي هز العراق بعد سقوط حكم صدام حسين دفع بتنظيمات شيعية إلى الواجهة بقوة , وتصاعد الخطاب الطائفي وترجم على الأرض عنف مذهبي دام , أما على المستوى الفكري والسياسي فقد أصبح التفرقة بين الحركات الإسلامية السنية والشيعية أمرا لازما , فالاختلاف الفقهي واختلاف القراءة التاريخية لبعض الأحداث الدينية كان محدود الفعالية في تلك التنظيمات إلى ما قبل بدء الحرب على بغداد فبعد ذلك أصبح شاخصا وبقوة في أدبياتها وفي تصرفاتها وتوجهاتها .

وهذا الملف الذي شارك فيه نخبة من الكتاب المهتمين والمتخصصين , بالتأكيد لا يغطي كل الجوانب التي يجب أن تخضع للدراسة والمراجعة في خطاب وأداء ومستقبل الحركات الإسلامية الفاعلة في واقعنا العربي لأنها مسائل متشعبة وجدلية تسيل مع الزمن , وهو لا يعطي أجوبة كاملة عن الأسئلة الجديدة التي ألقت بثقلها على الواقع العربي لأن هذا الواقع مشغول بتلقي الأسئلة وتدويرها أكثر من الإجابة عليها .

ولكنه وهو الأمل منه أن يشير وأن يضع اليد على نقطة التحول ومسارها , ويحاول أن يختصر الصورة ويوصلها لأكبر جمهور من القراء خدمة لمتصفحي موقع الجزيرة , وبالطبع من بينهم من يعنيهم الأمر بأى صورة من الصور , أو بأى شكل من الأشكال .

معلومات أساسية الحركات الإسلامية البارزة في الوطن العربي

كمال القصير

الجزيرة نت

تتعدد الاتجاهات الإسلامية داخل المشهد السياسي العربي برؤى ومذاهب فكرية مختلفة , وتنقسم إلى اتجاهين سني وشيعي , ولا تخل الحركات السنية ممن يتبني في بعض مكوناته السياسية خطا شيعيا مثل حركة الجهاد الإسلامي , كما أن هناك في الاتجاخ الشيعي من يتبني بعض الخطوط الفقهية السنية في أدبياته وذلك مثل التيار الخالصي .

الأحزاب السنية

وفي ما يلي الأحزاب السنية :

الإخوان المسلمون

بدأت حركة الإخوان المسلمين كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة في مصر كحركة شبابية أسس الشيخ حسن البنا بناءها الفكري سنة 1928.

وتحققت كتنظيم عملي سنة 1944 ثم تمددت الحركة ليصير لها فروع في البلدان العربية مثل سوريا وفلسطين والأردن والسودان والجزائر واليمن .

يدعو الإخوان المسلمون الأنظمة العربية إلى تطبيق الشريعة الإسلامية , وأن سبب تأخر المسلمين وانحطاطهم هو عدم تطبيقها , وقد ظهرت هذه المبادئ في الإنتاج الفكري للإخوان وكتابات منظري الجماعة الذين أثروا في مسارها كسيد قطب وعبد القادر عودة ومعاصرين مثل يوسف القرضاوي وفتحي يكن ومحمد أحمد الراشد وفيصل مولوي .

ساهم تنظيم الإخوان في حرب 1948 في فلسطين كما ساندوا حركة يوليو / تموز 1952 ليصطدموا بعد ذلك معها , وعرف تاريخ الإخوان مواجهات أخرى غيرت مسار الجماعة في بلدان أخري مثل أحداث حماة في سوريا .

وللإخوان المسلمين وبعض من يتبني أفكارهم الإصلاحية حضور بارز في المشهد السياسي العربي في عدد من البلدان كمصر والمغرب والأردن وغيرها .

ويعرف الإخوان في سوريا خلال الأونة الأخيرة حالة من الحراك ضمن خط المعارضة لتغيير النظام في سوريا .

حركة حماس

(حركة المقاومة الإسلامية حماس ) نموذج وتجربة لها ظروف مختلفة , نشأت من عمق الإخوان المسلمين في فلسطين وشكلت الانتفاضة الأولي بين 1987 -1993 إطار برزت فيه الحركة , وقد كانت قبل ذلك التاريخ ناشطة في الواقع عبر التركيز على المساجد والجامعات وبناء المؤسسات الاجتماعية .

حركة حماس وإن كانت تنتمي مرجعيا إلى خط الإخوان المسلمين , فإنها تحولت إلى تجربة خاصة بأولويات مختلفة ارتبطت بظروف محلية وإقليمية جعلت خيار العمل العسكري عبر كتائب عز الدين القسام الذراع العسكري ذا أولوية , وهي رقم مهم في معادلة الصراع مع إسرائيل .

وتدخل تلك الحركة حاليا مرحلة جديدة من العمل السياسي تضعها أمام استحقاقات جديدة بعد فوزها في الانتخابات واستلامها السلطة .

حركة الجهاد الإسلامي

حركة الجهاد الإسلامي تنظيم فلسطيني يتبني خيار المقاومة وسيلة لتحرير كامل فلسطين , عبر ذراعها العسكري سرايا القدس .

وتقول الحركة إن بداياتها التأسيسية كانت أواخر السبعينيات خارج فلسطين لتشهد بدايات الثمانينيات بناء الحركة تنظيميا في فلسطين بعد عودة فتحي الشقاقي ومجموعة من المؤسسين معه من مصر .

وحركة الجهاد حالة تنظيمية سنية خطا شيعيا على المستوى السياسي حيث تأثرت بثورة الخميني في إيران وكان تصف نفسها في مراحلها المبكرة بـ " أنصار الثورة الإسلامية في فلسطين "

وكان فتحي الشقاقي الأمين العام السابق للحركة يري أن الخميني أطلق الصحوة الإسلامية في المنطقة وفي العالم والحركة لم تشارك في الانتخابات الفلسطينية الأخيرة .

السلفية الوهابية

يطلق مصطلح الوهابية على الدعوة التي أطلقها محمد بن عبد الوهاب في شبه الجزيرة العربية أواخر القرن الثاني عشر الهجري , والمحور الأساس للسلفية الوهابية هو قضية التوحيد وتنقية عقائد المسلمين وسلوكهم مما تعتبره خرافات وبدعا دخيلة .

وتنادي تلك الدعوة بضرورة الرجوع إلى مذاهب السلف في فهم العقيدة والقضايا المستجدة وتعتبر تراث ابن تيمية وابن القيم أكبر دعامة لبنائها الفكري .

وانتشرت دعوة محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية بسبب تبني ابن سعود لها كمذهب لحركته .

وأحيت السلفية الوهابية النقاش في كثير من قضايا الاعتقاد عند المسلمين , واتخذت مواقف مخالفة للكثير من التيارات الإسلامية التي اعتبرتها مخالفة لمنهج الإسلام .

وتحدد السلفية الوهابية لنفسها قواعد علمية من قبيل تقديم النقل على العقل , ورفض التأويل , واعتماد أقوال السلف ,ولها وجود في عدد من البلاد العربية , وهي أقرب إلى كونها دعوة ذات طابع علمي لها أقطابها ممن يشتغلون بعلوم الشريعة , أمثال ابن باز والألباني .

السلفية الجهادية ( القاعدة )

تبلور هذا الخط مؤخرا في تنظيم القاعدة الذي يحيط الغموض الكثير من طبيعته التنظيمية إلا أنه يتمتع بمرونة أتاحت له الوجود في أكثر من دولة , مثل السعودية والعراق إضافة إلى مجموعات صغيرة في عدد آخر من الدول .

ويتزعم التنظيم أسامة بن لادن إضافة إلى أيمن الظواهري الذي كان سابقا قائدا لحركة الجهاد الإسلامي في مصر , وبعد سقوط بغداد برز اسم أبو مصعب الزرقاوى كأحد أبرز قادة التنظيم في العراق , ويقود حربا ضد الأميركيين ويتهم بأنه الأطراف التي تسببت بالحرب الطائفية في العراق .

وقد شكل غزو العراق للكويت وما أعقب ذلك من بروز الوجود الأميركي والأجنبي في المنطقة ملمحا هاما في مسار القاعدة وفكره الرافض للوجود الأجنبي في الجزيرة العربية , وما يصفه التنظيم بالأنظمة الداعمة له .

وتشترك القاعدة مع التيار السلفي في مرجعيتها الثقافية حيث يعتبر تراث ابن تيمية أحد أهم أعمدتها إضافة إلى تميزها بقراءة خاصة لكتابات سيد قطب .

ويقولون بتكفير الحكام وفرضية الجهاد والحاكمية لله ويؤمنون بالقوة خير سبيل للتغيير والتحرير

الأحزاب الشيعية

أما الأحزاب الشيعية فهي كالآتي :

حزب الله

حزب الله أسس كأحد فروع الثورة الإسلامية الإيرانية في لبنان , ذلك في الوقت الذي رفع فيه الخميني شعار تصدير الثورة إلى العالم , ويرتبط حزب الله بالولي الفقيه في إيران ويستمد شرعية وجوده وممارسته عمله منه , ويقول الحزب إن عمله في البدايات عام 1982 كان عبارة عن عمل تنسيقي بين مجموعات دينية وطلاب ولجان ثقافية تعمل ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان , وأثمرت لاحقا صيغة التنسيق تلك في تشكيل حزب الله بشكل رسمي سنة 1985 .

ومنذ اتفاق الطائف عام 1989 أصبح حزب الله العمود الفقري للمقاومة اللبنانية , وأثمرت جهوده تحرير أخر جزء مأهول من الجنوب اللبناني .

وحاليا حزب الله موجود بقوة في الخريطة السياسية للبنان وله تمثيل نيابي ورغم كونه حزبا محليا فإن له دورا إقليميا كبيرا بالنظر إلى كونه طرفا في الصراع مع إسرائيل وهو نشيط على مستوى الخدمات في جنوب لبنان .

المجلس الأعلي للثورة الإسلامية بالعراق

تشكل المجلس الأعلي عام 1982 من طرف عدد من نشطاء الشيعة ليكون مظلة للقوى الشيعية المعارضة , وأصبح محمد باقر الحكيم الذي ترك العراق سنة 1979 وأقام في إيران زعيما للمجلس .

حصل المجلس على دعم مكثف من إيران خاصة أن الحكيم كان يتبني أراء الخميني في السياسة والفقه , ويؤمن بمبدأ ولاية الفقيه , وكان غالب أعضاء المجلس من العراقيين الفارين إلى إيران .

ومن ضمن مكونات المجلس الأعلي الجناح العسكري فيلق بدر الذي أسسه محمد باقر الحكيم , بقيادة أخيه عبد العزيز الحكيم , وكان فيلق بدر يتخذ من إيران مقرا له .

وبعد سقوط بغداد , وقيام بول بريمر بحل المليشيات الخاصة بموجب قرار 96 , أعلن فيلق بدر أنه أصبح منظمة سياسية واتخذ مقرا له قرب وزارة الداخلية العراقية .والمجلس الأعلي موجود بقوة في السلطة ضمن الائتلاف الشيعي , وكذلك في دوائر مهمة مثل وزارة الداخلية .

التيار الصدري

ولد التيار الصدري ولادة عراقية , وارتبط بأسماء كبيرة تشكل عمقه المرجعي كمحمد صادق الصدر , ومحمد باقر الصدر الذي يعتبر أستاذا لمحمد صادق الصدر والد الزعيم الديني مقتدى الصدر .

ينشط التيار الصدري في مدينة الصدر ببغداد التي تشكل رصيده الجماهيري ورافده السياسي والعسكري المرتبط بجيش المهدي المتشكل في تلك المدينة .

تعود بدايات الفكر الصدري إلى الدعوة التي أطلقها محمد صادق الصدر لإصلاح المجتمع وانتقاد الأوضاع العامة في العراق ثم تأسيس الحوزة العلمية التي اجتذبت فئات عريضة من شيعة العراق .

كانت علاقة التيار الصدري بنظام صدام حسين متوترة وكان من نتائجها إعدام محمد باقر الصدر ليليه مقتل محمد صادق الصدر فيما بعد سنة 1999 .

وبعد سقوط بغداد عاد التيار الصدري إلى الواجهة مع بروز مقتدي الصدر , ونظم ما عرف بجيش المهدي الذي أصبح منافسا لمنظمة بدر , وانخرط الجيش في عدد من المواجهات مع القوات الأميركية خاصة وأنه لا يزال يعتبرها قوة احتلال ويطالب بجلائها .

أما المرجعية الدينية للتيار فما زالت تتمثل في مكتب " الشهيد الصدر " وينتمي إليه عدد من العلماء والأتباع التاريخيين , وفي غياب مرجع ديني قوى من آل الصدر فإنهم يقلدون كاظم الحائري في إيران باعتباره أقرب إلى منهج محمد صادق الصدر .

أما على المستوى السياسي فإن الكتلة الصدرية متحالفة مع الائتلاف العراقي الموحد , كذلك فإن زعيمه مقتدى الصدر يتمتع بفاعلية داخل المشهد العراقي ويعمل على بناء علاقاته الخاصة مع الخارج .

التيار الخالصي

يرجع التيار الخالصي على مستوى المرجعية إلى الشيخ مهدي الخالصي أحد أبرز قادة ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني للعراق , والتيار له منهجه الفقهي الخاص الذي يقترب في كثير من تفاصيله من السنة .

مثل التيار الخالصي خطا معارضا لفترة طويلة , وكان محمد مهد الخالصي حفيد الخالصي الكبير من أوائل المعارضين لحزب البعث في العراق حيث قاد حركة جماهيرية إبان عقد السبعينيات انتهت باعتقاله سنة 1979 . ولم يفرج عنه إلا بعد الثورة في إيران ليخرج بعدها من العراق ويحكم عليه بالإعدام غيابيا .

التيار الخالصي بمواقفه الفقهية والسياسية يعتبر حالة متميزة ضمن المشهد الشيعي في العراق فمنذ بداية الدخول الأميركي إلى العراق أعلن رفضه للاحتلال وطالب بمقاومته .

وفي خطوة تالية أعتبر أن التصويت على الدستور العراقي خضوع لضغوطات خارجية وقبول بدستور يمهد لتقسيم العراق وسلخه عن محيطه العربي , واعتبر سامي العاملي مدير مكتب الخالصي أن قرار المرجعيات في النجف غير ملزم لهم في هذا الشأن وأن لديهم مرجعياتهم الخاصة .

التيار الخالصي وإن كان بعيدا عن العملية السياسية نتيجة لمواقفه السابقة , فإن الشيخ جواد الخالصي أحد رموز التيار يعتبر نشيطا في الواقع من خلال قيادته للمؤتمر التأسيسي الوطني العراقي المشكل من سنة وشيعة .

الخطاب الإسلامي في علاقته مع الآخر

الإسلاميون ومكونات الخطاب الوطني

ضياء رشوان

متخصص في الجماعات الإسلامية

قد يبدو غريبا للبعض أن يأتي هذا المقال في مقدمة القسم الذي يعالج " الخطاب الإسلامي في علاقته بالآخر" بما قد يعطي الانطباع بأن الوطن بالنسبة للإسلاميين " آخر " ينظرون إليه مثل نظرتهم إلى غير المسلمين والغرب وإسرائيل , والذين تدرس رؤية وعلاقة الإسلاميين بهم المقالات الثلاثة التالية في نفس القسم . محاور اختلاف الخطاب

إلا أن الحقيقة غير ذلك . فوضع ذلك المقال في هذا القسم من الملف مقصود به السعى لمعرفة حقيقة موقف الإسلاميين بمختلف فئاتهم من ذلك الخطاب الوطني الذي يبدو ملتبسا شأنه في ذلك شأن موقفهم حيل الأطراف الثلاثة المشار إليها .

الخطاب الوطني تاريخيا

فضلا عن ذلك , فالخطاب الوطني كما استقر معناه في الواقع العربي بدءا من النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم , يتضمن مواقف محددة تجاه تلك الأطراف الثلاثة وقضايا وأطراف أخرى أضحي وجودها معا في ذلك الخطاب هو ما يميز ويعطيه تلك التسمية .

فقد عرف العالم العربي بمختلف مجتمعاته وبلدانه خلال تلك الفترة عديدا من الخطابات السياسية والفكرية التي تبنتها مختلف القوى السياسية والاجتماعية فيه من يسارية إلى قومية إلى ليبرالية إلى إقليمية إلى غيرها اصطلح على وضعها جميعا تحت اسم واحد هو " القوى الوطنية " ووصف خطابها بأنه " خطاب وطني ".

والحقيقة أن الاختلافات الأيديولوجية العميقة بين تلك القوى وخطاباتها لم تؤثر على وضعها معا في تلك الفئة الموحدة , حيث أن ذلك اعتمد بصفة رئيسية على تشابه مواقفها من قضايا وأطراف محددة هي نفسها التي التبس واختلف موقف الإسلاميين منها , مما دفعهم أنفسهم ودفع الأخرين إلى وضعهم وخطابهم خارج حدود " الخطاب الوطني " .

والأطراف والقضايا التي استقر الأمر على اعتبار الموقف منها هو المحدد للوجود في أو الخروج من " الخطاب الوطني " هي ثلاث أساسية :

1- أولها هو الدعوة إلى استقلال الدولة القطرية أو الأمة كاملة عن الخارج والذي يتمثل بصورة خاصة في الغرب وإسرائيل , وذلك بغض النظر عن أى رؤى أو مواقف أيديولوجية إيجابية تجاه بعض ركائز وأفكار الأول من بعض القوى السياسية وبخاصة التيار الليبرالي .
2- ويتمثل الموقف الثاني في المساواة بين " المواطنين " بداخل الدولة أو الأمة بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو أصلهم العرقي واعتبارهم جميعا شركاء في وطن أو أمة واحدة وذلك أيضا بغض النظر عن سعى بعض القوى السياسية إلى تغليب فئة اجتماعية على غيرها أو سعى بعضها الآخر إلى إقامة دولة ذات طابع عربي قومي استنادا إلى انتماء غالبية السكان إلى الأصول والثقافة العربية .
3- ويتعلق الموقف الثالث بطبيعة الدولة التي حكمتها أو تسعي لإقامتها تلك القوى السياسية العربية , حيث إنها عندها جميعا دولة ذات طابع مدني حديث لا تقوم على أسس دينية , بغض النظر عن إيراد بعض تلك القوى لمبادئ وملامح إسلامية عامة ترى ضرورة وجودها في تلك الدولة المدنية الحديثة .

الإسلاميون والخطاب الوطني

في مقابل هذا المفهوم الواسع والسائد للخطاب الوطني الذي انضوت تحته مدارس وقوى أيديولوجية متنوعة كان للقوى الإسلامية خطابها المختلف في المضمون الأيديولوجي عن خطاباتها , وهو ما انعكس على اختلافه معها أيضا في اثنين من المواقف الثلاثة الرئيسية التي تميز الخطاب الوطني عن الخطاب الإسلامي .

فالخطاب الإسلامي بشتى فئاته لم يختلف يوما مع الخطاب الوطني في الموقف الأول المتعلق بالحرص على استقلال الدولة أو الأمة عن الخارج والذي يتمثل بصورة خاصة في الغرب وإسرائيل , بل وقد أخذ البعض على ذلك الخطاب مغالاته أحيانا في ذلك الحرص والدعوة إليه .

أما الموقف الثاني للخطاب الوطني الأخذ بالمساواة بين " المواطنين " بداخل الدولة أو الأمة بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو أصلهم العرقي واعتبارهم جميعا شركاء في وطن أو أمة واحدة فقد اختلف معه الخطاب الإسلامي بصفة عامة في اخذه بتمييزين بين هؤلاء الشركاء .

أولهما : بين المسلمين وغير المسلمين .

وثانيهما : بين الرجال والنساء من المسلمين .

واختلف أيضا الخطاب الإسلامي مع الخطاب الوطني بشأن القضية الثالثة الرئيسية وهي الموقف من طبيعة الدولة التي يسعي لإقامتها , حيث بدت دولة دينية أو ذات طابع ديني على الأقل تقوم على أسس دينية وتخضع لحكم الشريعة الإسلامية وتستمد شرعيتها ومصادرها التشريعية من النصوص المقدسة وأفكار الحاكمية وليس من الشعب أو الأمة , ويهيمن على مقدراتها الفقهاء والمجالس الاستشارية المعينة غير الملزمة وليس السياسيون والمنتخبون في مؤسسات راسخة ذات صلاحيات واختصاصات ملزمة ..

مراحل الاختلاف .... تاريخيا

والحقيقة أن هذين الاختلافين الرئيسيين بين الخطاب الإسلامي عموما والخطاب الوطني بمختلف المدارس السياسية والأيديولوجية المنضوية ضمنه لم يظلا ثابتين وبنفس العمق والمساحة طيلة الوقت , فقد مرا بمراحل تاريخية مختلفة يمكن تلخيصها في ثلاث كبرى خلال العصر العربي الحديث .

المرحلة الأولي

استغرقت المرحلة الأولي السنوات الممتدة من بداية الاستعمار الأوروبي لمختلف الدول العربية منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى استقلالها واحدة بعد الأخرى منذ منتصف القرن العشرين , أى لنحو مائة عام .

شهدت تلك المرحلة ظهور الخطاب الوطني الذي حملته قوى سياسية وفكرية متنوعة الأيديولوجيات وذلك في ظل وجود سابق لصور متنوعة من التيار الإسلامي في مختلف البلدان العربية , وهيمن على الجميع هاجس تحقيق الاستقلال الوطني والتخلص من الاستعمار الغربي .

وأدت تلك الهيمنة إلى أن يقترب الخطابان بصورة ربما لم تحدث بعد ذلك مطلقا رغم استمرار الاختلافات الأيديولوجية والسياسية بين الخطاب الإسلامي ومختلف القوى السياسية والفكرية الأخرى المنضوية ضمن الخطاب الوطني , والتي ظهرت بعض تجلياتها في بعض الوقائع حول المساواة بين المسلمين وغير المسلمين والرجل والمرأة .

وربما كان السبب الرئيسي لهذا التقارب هو ثقل مهمة الاستقلال الوطني في ظل الاستعمار الأوروبي وعدم ورود قضيتي بناء الدولة المستقلة وطبيعتها وموقع المواطنين فيها كقضايا عاجلة على جدول الأعمال العام في البلدان العربية , مما أخفي الاختلافات حولهما بين الخطاب الوطني والخطاب الإسلامي .

المرحلة الثانية

في المرحلة الثانية اللاحقة وهي تلك التي تلت الاستقلال المتتابع للدول العربية عن مستعمريها الأوروبيين السابقين وبدء بناء دولة ما بعد الاستقلال الوطنية في كل منها , بدا الخطابان الإسلامي والوطني في أقصي درجات الخلاف فيما بينهما فيما يخص القضايا الثلاث التي يتميز كل منهما تجاهها عن الآخر .

قامت القوى السياسية غير الإسلامية المعروفة بالقوى الوطنية , وبخاصة أجنحتها القومية واليسارية بقيادة الثورات والانقلابات والمفاوضات التي أفضت إلى حصول الدول العربية على استقلالها , في الوقت الذي لم تتبلور القوى الإسلامية بصورة تؤهلها للمشاركة المباشرة في تلك المهمة التاريخية مما أدي إلى تتابع الصدامات بين الأولي التي أضحت هي بانية دولة ما بعد الاستقلال والمسيطرة عليها , وبين الثانية التي تحولت إلى موقع المعارضة لهذه الدولة الجديدة .

ونظرا لاحتدام الانقسام الأيديولوجي والسياسي في تلك السنوات على الصعيد العالمي بين المعسكرين الشرقي الاشتراكي والغربي الرأسمالي وامتداده إلى داخل البلدان العربية , فقد بدت معارضة القوى الإسلامية لنظمها الجديدة ذات الهوى الاشتراكي والقومي وكأنه انحياز منها للمعسكر الغربي الذي ضم الدول الاستعمارية السابقة وقادته الولايات المتحدة الأميركية , الأمر الذي ألقي شبهات كثيفة على حقيقة موقف الإسلاميين من قضية الاستقلال الوطني نفسها .

كما أن طبيعة دولة ما بعد الاستقلال التي بنتها القوى الوطنية غير الإسلامية المدنية والحديثة وموقفها من المساواة بين مختلف فئات شركاء الوطن ضمن تلك الدولة بغض النظر عن دينهم أو جنسهم , واجهها إغراق القوى الإسلامية في تبني مفهوم الدولة ذات الطابع الديني والاعتماد على الانتماء الإسلامي كمعيار للمواطنة في هذه الدولة فضلا عن بروز التمييز بين الرجل والمرأة في خطابها لصالح الأول .

المرحلة الثالثة

وتأتي أخيرا المرحلة الثالثة وهي المستمرة حتى اليوم والتي يمكن تأريخ بدايتها مع مفتتح الثمانينيات من القرن العشرين حيث اجتمع تغيران جوهريات أعادا صياغة العلاقة بين التيارات الوطنية والتيارات الإسلامية .

تمثل التغير الأول في تراكم المشكلات والإخفاقات على دولة ما بعد الاستقلال الوطني سواء بسبب أخطائها الداخلية أو حصارها الخارجي من القوى الغربية مما فتح الباب أمام تغيرات كبيرة في القوى المهيمنة على تلك الدولة حيث تتابع الأجنحة اليمينية والمتغربة عليها في مختلف البلدان العربية , وهو ما أعاد بدوره طرح الخطاب الإسلامي من جديد على ساحة العمل العام فيها كبديل قد ينجح فيما فشلت فيه القوى الوطنية .

في نفس التوقيت تقريبا – وربما قبله بسنوات قليلة – واجهت الساحة الإسلامية تحديا غير مسبوق , حيث ظهرت التيارات الأكثر غلو في التفسير والرؤية والموقف والتي ضمها الفكر الجهادي العنيف بمختلف مدارسه , والتي ميزها الرفض القاطع لكل من مشروع وخطاب القوى الوطنية والقوى الإسلامية ذات الطابع السياسي الاجتماعي التي ظلت تحتكر ساحة العمل الإسلامي بمفردها طول المرحلتين السابقتين .

التشدد والاعتدال في الخطاب الإسلامي

أدي ذلك الانقسام الجوهري في التيارات الإسلامية والانهيار الحاد في شرعية الدولة الوطنية , إلى تبلور خطابين إسلاميين مختلفين جذريا فيما يخص القضايا الرئيسية الثلاث المكونة للخطاب الوطني :

• خطاب متشدد مغال يؤكد على موقف استقلال الأمة عن القوى الخارجية التي لم تعد بالنسبة له غربية بل صليبية ويهودية , بينما يتبني مفهوم الدولة الدينية القائمة على الحاكمية الإلهية والتي ينقسم سكانها إلى مسلمين وذميين وكافرين مستأمنين من ولي الأمر , وتبدو فيها المرأة في أقصي خلفية المشهد الذي يتصدره الرجل وحده .
• أما الخطاب الآخر المعتدل الذي تبنته الحركات الإسلامية السياسية الاجتماعية فقد أعاد تأكيد مواقفه التي تبناها في المرحلة الأولي من قضية الاستقلال عن الخارج الأجنبي والذي غلبت عليه رؤيته له كغرب مختلف ومعاد حضاريا وسياسيا أكثر منه دينيا .

بينما راح موقفه تجاه قضيتي طبيعة الدولة والمساواة بين سكانها يخضع تحت وطأة متغيرات جديدة لإعادة قراءة وتعديلات مهمة راحت تتضح في السنوات التالية :

1. من الناحية الأولي حسمت كثير من القوى الإسلامية السياسية الاجتماعية موقفها من المشاركة في الحياة السياسية والانتخابية التي بدأت في التبلور بصورة مشوهة على النمط الليبرالي الغربي في معظم البلدان العربية منذ منتصف الثمانينيات بدءا بجماعة الإخوان المسلمين في مصر ثم الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر ومعهما وبعدهما قوى أخرى إسلامية عديدة .
2. وفد على معظم تلك القوى الإسلامية رموز فكرية وسياسية من أصول قومية ويسارية وليبرالية , فضلا عن تحول أغلبية عضويتها إلى جيل مختلف من أبناء الطبقات الوسطي المتخرجين من الجامعات المدنية والمتأثرين بالأفكار السياسية المدنية الوافدة من المدارس الفكرية والسياسية الأخرى غير الإسلامية , مما فتح الباب بداخلها لإعادة النظر في طبيعة الدولة المنشودة والعلاقة بين سكانها ومراكزهم القانونية فيها .
3. وخلال السنوات العشر الأخيرة ومع تزايد حركة العولمة وبخاصة الإعلامية , وتصاعد النشاط السياسي في البلدان العربية الذي اقترن ببروز أكبر للقوى الوطنية المنتمية للأيديولوجيات اليسارية والقومية والليبرالية في المجال العام بما تطرحه من مواقف واضحة تجاه القضيتين الرئيسيتين اللتين تميزا الخطاب الوطني , زادت حدة المراجعة بداخل التيار الإسلامي السياسي تجاههما .
4. شهدت نفس السنوات تحولا جوهريا فيما يخص مواقف القوى الإسلامية السياسية من الاحتلال العسكري الإسرائيلي في فلسطين ولبنان , ثم بعد ذلك بعض منها تجاه الاحتلال العسكري الأمريكي في العراق , حيث لم تعد مجرد قوى رافضة نظريا للاستعمار الأجنبي وداعية لاستقلال الوطن بل أضحي بعض ممثليها مثل حركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين السنيتين وحزب الله اللبناني الشيعي رموز للمقاومة الوطنية .
5. وأتي المتغير الخامس لكي يدعم من مراجعات قوى التيار الإسلامي السياسي لمواقفها من قضيتي طبيعة الدولة والعلاقة بين سكانها ,وهو التحول الواسع والجذري لعديد من قوى التيار الجهادي العنيف المحلي عن مواقفها المغالية المتشددة ,إلى حيث انخرطت بصورة أو بأخرى ضمن التيار الإسلامي الآخر الذي ازداد اتساعه وهو التيار السياسي الاجتماعي المعتدل .
6. وتمثل المتغير السادس والأخير في نجاح حزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا في الوصول إلى الحكم بهذا البلد نهاية عام 2002 , ونجاح حكومته بعد ذلك في التعايش مع نموذج الدولة المدنية العلمانية الكمالية الذي يستبعد الدين من المجال السياسي العام و وبما يتضمنه من مساواة تامة بين كافة المواطنين بغض النظر عن دياناتهم والرجل والمرأة .

خاتمة

في ظل تلك المتغيرات الجديدة يبدو التيار الإسلامي السياسي الاجتماعي بمختلف قواه اليوم بالعالم العربي في حالة مراجعة هائلة لكثير من أفكاره ومواقفه التقليدية من عديد من القضايا والموضوعات , وفي مقدمتها قضيتا طبيعة الدولة والعلاقة بين سكانها ومراكزهم القانونية .

ولا شك أن بعض تلك القوى الإسلامية قد اقترب كثيرا من الخطاب الوطني في مواقفه المعروفة من هاتين القضيتين , ومن أبرزها حالة حركة النهضة التونسية وبعض الفصائل المغربية وحزب الوسط في مصر وحركة حماس في فلسطين وجماعة الإخوان في كل من الأردن ومصر .

ومع ذلك يظل الحسم الأخير والواضح لمواقف كل قوى هذا التيار من هاتين القضيتين غير مكتمل بعد وفي طور التشكيل بما يرجح أن تشهد السنوات القليلة القادمة انضماما شبه نهائي للخطاب الإسلامي للخطاب الوطني في مواقفه من القضايا الثلاث , مع استمرار احتفاظه بكل خصائصه الفكرية والأيديولوجية والحركية التي ترشحه لأن يكون التيار السياسي الأكبر في العالم العربي.

رئيس تحرير " دليل الحركات الإسلامية في العالم " مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بجريدة الأهرام المصرية .

الإسلاميون ومفهوم المواطنة

عبد الوهاب الأفندي

متخصص في الجماعات الإسلامية

في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في ماليزيا في عام 1985 , كانت هناك منافسة حادة على كسب أصوات الناخبين الماليزيين بين الحزب الإسلامي الماليزي ( باس ) والجبهة القومية المالاوية المتحدة ( أمنو) وهو الحزب القومي الذي ظل يقود ماليزيا منذ الاستقلال .

الاستيعاب ... ثقافة وسياسة

وفي مناورة بدا أنها كانت غاية في الذكاء ( أو الانتهازية ) قرر زعماء ( باس ) أن يحاولوا اجتذاب أصوات الأقليات غير المالاوية , وهي الأقلية الصينية ( 40% ) والهندية ( 10% ) بإعلان معارضتهم للسياسة الرسمية التي تعطي الأفضلية في وظائف الدولة والدعم الاقتصادي للمالاويين المسلمين , أو " أبناء البلد " بحسب التعبير الرسمي , على حساب الأقليات العرقية الأخرى ( ومعظم أفرادها من غير المسلمين ) .

خصوم ( باس )في ( أمنو) دفعوا ببطلان هذا الموقف من منطلقين :

1. الأول أن التمييز لصالح أبناء البلد هو من قبيل التمييز الايجابي لأن هؤلاء ما زالوا في وضع اقتصادي واجتماعي متدن بالقياس إلى الآخرين .
2. والثاني أن المالاويين مسلمون بأجمعهم , مما يعني أن التمييز لصالحهم لا يخالف الإسلام الذي يرفض بحق التمييز على أساس العرق , لكن لا يرفضه على أساس الدين .

مهما يكن فإن حزب ( باس ) خسر خسارة كبيرة في تلك الانتخابات , لأنه فقد أصوات المالاويين دون أن يكسب أصوات الأقليات , هذا الموقف من الحزب الإسلامي لم يكن المحاولة الوحيدة ولا الأولي لحزب إسلامي لاتخاذ مبادرة للتعامل مع قضايا المواطنين غير المسلمين .

طروحات الاستيعاب

شهد عام 1985 أيضا تأسيس الجبهة القومية الإسلامية في السودان , والتي ما لبثت أن أخرجت وثيقة تحت مسمي " ميثاق السودان " تدعو فيها إلى حل لقضية الجنوب على أساس المساواة في المواطنة بين جميع السودانيين دون تمييز على أساس العرق أو الدين .

ودأبت حركة الإخوان المسلمين منذ أيام مؤسسها الشيخ حسن البنا على خطب ود الأقباط بل محاولة ضم بعضهم إلى عضويتها أو وضعهم على لوائحها الانتخابية , واستمر هذا التقليد وتطور حتى بلغ في حزب الوسط الذي سعي إلى تأسيسه بعض قادة الإخوان في منتصف التسعينيات أن كان هناك مواطنون غير مسلمين من بين المؤسسين .

ولكن هذه المواقف التي عبرت عن حسن النية تجاه المواطنين غير المسلمين عانت من إشكالين رئيسين :

1. الأول هو توجس المواطنين المستهدفين من هذه المبادرات وقلة حماسهم لها , خاصة وأن لهم خيارات أخرى أفضل في الأحزاب العلمانية .
2. والثاني , وهو ذو علاقة بالأول , هو أن هذه الحركات لم تطور إطارا فكريا أو أخلاقيا مقنعا يشير إلى أن هذه المبادرات تتبع من فهم هذه الحركات لقيم الإسلام , بدلا من أن تكون هذه المبادرات مجرد أطروحات انتهازية لكسب دعم غير المسلمين , أو على الأقل تحييدهم ريثما يثب الإسلاميون إلى السلطة فيقومون بتطبيق برامجهم التي لا مكان فيها للمسلمين غير الملتزمين فضلا عن أن تتسع لغير المسلمين .
3. هذا الوضع بدأ يشهد تطورا ملحوظا بدأت بعض ملامحه تتشكل منذ الستينيات , وأن كان لم ينضج إلا مع مطلع الثمانينيات وتمثل في ظهور تيارات وحركات فكرية تدعو إلى استيعاب الآخر من منطلق أطروحات تستلهم التراث الإسلامي على أساس فهم جديد للنصوص والتاريخ والواقع .

وكان من أبرز هذه المحاولات كتابات الدكتور محمد فتحي عثمان ( مصر ) الذي نشر في مطلع الستينيات كتابه " الفكر الإسلامي والتجديد " ودعا فيه إلى تبني خطاب إسلامي يستند إلى حقوق الإنسان .

وقد استجاب لهذه الدعوة عدد من الكتاب والمفكرين كان من أبرزهم الكاتب ( المصري أيضا ) فهمي هويدي في كتابه " مواطنون لا ذميون " الذي دعا فيه إلى التخلي عن المنهج القديم في التعامل مع الأقليات غير المسلمة والتعامل معها على أساس المساواة .

وقد جاءت بعد ذلك إضافات مهمة , أبرزها مساهمة الدكتور سليم العوا , الذي برر لهذا التحول بالانتقال من شرعية الفتح إلى شرعية التحرير , وبحسب العوا فإن وضع غير المسلمين في الدول الإسلامية التقليدية انطلق من كونهم كانوا خاضعين للفتح الإسلامي , ولكن غير المسلمين أصبحوا شركاء كاملي العضوية في الدولة الحديثة من منطلق مشاركتهم المتساوية في النضال من أجل التحرير .

وكانت هناك أيضا مساهمة المستشار طارق البشري الذي نبه إلى أن قيام الدولة التي تقوم على الأساس الجغرافي يتطلب التحول من اعتبار الدين أساس المواطنة كما كان الأمر في الدولة الإسلامية التقليدية , إلى اعتبار الانتماء الجغرافي هو المعيار .

الحركات الإسلامية واستيعاب الآخر

ولكن هؤلاء المفكرين ,وإن كانوا ينتمون إلى التيار الإسلامي العام , لم يكونوا أعضاء في الحركات الإسلامية الناشطة سياسيا , وعليه فإن أفكارهم لم يتم تبنيها على الفور من قبل هذه الحركات .

من جهة أخرى فإن بعض الحركات التي نشأت في الحقبة الأخيرة , مثل حزب النهضة في تونس ( أسس في عام 1981 تحت مسمى الاتجاه الإسلامي ) طرح منذ البداية خطابا منفتحا على الآخر وملتزما بالديمقراطية كمنهج وتوجه .

على سبيل المثال نجد زعيم الحركة الشيخ راشد الغنوشي كان يصرح منذ مطلع الثمانينيات بأن حركتهم تقبل بالديمقراطية حتى وإن جاءت إلى السلطة بحزب معاد للإسلام مثل الحزب الشيوعي .

وقد شهدت الآونة الأخيرة ظهور تيارات من نفس التوجه , مثل حزب العدالة والتنمية في المغرب , وحزب الوسط في مصر ,وتجمع الليبراليين الإسلاميين وحركات أخرى في اندونيسيا , وغيرها , وقد يصنف البعض حزب العدالة والتنمية في تركيا في هذه المجموعة , وإن كان الحزب ينفي عن نفسه صفة التوجه الإسلامي ( وهو تبرؤ يؤيده منتقدوه من شركائه السابقين في حزب الفضيلة ) .

ولكن لا أحد يجادل في إسلامية الأحزاب التي تحتل أكثرية المقاعد في البرلمان العراقي الذي انتخب في يناير الماضي , ولا في أن هذه الأحزاب تؤمن بالمواطنة المتساوية للجميع .

وقد يري البعض تطبيقا عمليا لمثل هذه المبادئ في السودان الذي قبلت حكومته ذات التوجه الإسلامي بدستور ينص على ضمان المواطنة المتساوية للجميع بعد توقيع اتفاق سلام وشراكة في الحكومة مع حركة التمرد الجنوبية التي يغلب على قيادتها غير المسلمين .

المشاركة ولهم اليد العليا

منتقدو الحركات الإسلامية ما زالوا يتشككون حتى في صدق التزام الحركات التي أعلنت قبولها غير المشروط بالديمقراطية وحق المواطنة للجميع والالتزام بحقوق الإنسان وذلك أساسا من منطلق ما يرون أنه هشاشة الحجج التي يستند إليها أصحاب المواقف الجديدة من المنظور الإسلامي التقليدي .

ويري بعض هؤلاء المنتقدين أن الاحتجاج بـ " صحيفة المدينة " ( التي يسميها البعض دستور المدينة) التي نظمت التعايش بين المسلمين واليهود في بداية العهد النبوي لا يصح لأن تلك الصحيفة ركزت على محورية دور الرسول ( صلي الله عليه وسلم ) باعتباره القائد الأعلي والحكم بين أهل الصحيفة , مما يجعل دور المجموعات غير المسلمة تابعة للمسلمين .

ويشير البعض إلى أن أكثر الإسلاميين انفتاحا , مثل الغنوشي , يشترطون للمواطنة المتساوية في الدول الإسلامية إعلان الولاء لها ولدستورها , وهو ما يشبه المصادرة على المطلوب .

ويتساءل المنتقدون عن حركات , مثل حزب الوسط الذي قبل بكل الأطروحات المتعلقة بالمواطنة المتساوية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان : ما الذي بقي من إسلاميته ؟

وهل تخلت هذه الأحزاب إلى الأبد عن مبدأ تطبيق الشريعة , أم هذه مجرد تكتيكات مرحلية تعود بعدها الأحزاب إلى برامجها التقليدية المعروفة بما فيها مختلف أنواع التمييز ضد المرأة وغير المسلمين ومن يخالفهم الرأي ؟

المجتمع الإسلامي أولا

وهذا بدوره يطرح سؤالا جوهريا : بما أن مبرر وجود الحركات الإسلامية هو إقامة نظام إسلامي تحكمه قيم الإسلام , فكيف يستقيم هذا مع إعطاء الاعتبار لمواقف القوى الرافضة أو حتى المعادية لفكرة المشروع الإسلامي من الأساس ؟ ألا يهدد ذلك بتفويض المشروع من أساسه ؟ ألا يساوى هذا المطالبة بإعطاء الجماعات المعادية للديمقراطية دورا في تحديد مسار الديمقراطية ؟

هذا هو تحديدا الاعتبار الذي دفع ببعض المفكرين الإسلاميين مثل السيد أبو الأعلي المودودي في باكستان وسيد قطب في مصر وآخرين إلى الاحتجاج بأن الأولوية يجب أن تعطي لإنشاء المجتمعات الإسلامية النقية حتى تقوم هذه بدورها بإنشاء الدولة الإسلامية التي تناسبها , وهي دولة للمسلمين الأطهار الأتقياء فقط , ولمن يقبل التعايش معهم بشروطهم .

وكما هو الحال مثلا في الدولة النرويجية التي صممت للنرويجيين فإن من يريد أن يكتسب جنسية هذه الدولة يجب أن يسعي لذلك على شروط هذه الدولة وفي إطار القواعد التي تحكمها .

الإشكال في هذا الرأي هو أن الجماعات المعنية لا تلتزم به , على سبيل المثال فإن الجماعة الإسلامية في باكستان كان ينبغي أن تمتنع عن الاشتغال بالسياسة حتى تنجح في إنشاء المجتمع الإسلامي الذي تنشده ولكنها ظلت تشتغل بالسياسة وتدخل في تحالفات ومنافسة مع أحزاب علمانية وتتعامل مع واقع يستصحب المساواة في المواطنة كمبدأ أساسي .

ولعل مشكلة الحركات الإسلامية كما كان الحال مع حماس وقبلها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر , وهو أنها نجحت سياسيا بصورة أسرع مما كانت تتصور , فوجدت نفسها في قيادة مجتمع غير المجتمع المثالي : النقي " الذي كانت تطمح إلى قيادته وهي لم تكن مؤهلة لهذا الوضع .

أزمة ثقافة أم أزمة مواقف ؟

إن مفهوم المواطنة بمعناه المعاصر لا ينفصل عن التركيبة الديمقراطية للدول الحديثة حيث يشير إلى العضوية الكاملة في الجماعة السياسية والشراكة في اتخاذ القرار عبر آليات متفق عليها .

وهذا يميز الديمقراطي عن الأنظمة الأخرى من ملكية ودكتاتورية وأوليغارشية وغيرها التي تتولي الأمر فيها طبقة حاكمة معينة دون بقية أفراد الشعب .

وقد شهد مفهوم المواطنة تطورا مطردا باتجاه توسيع قاعدته وتعميق معناه وزيادة الحقوق المترتبة عليه .

فقد كانت البداية الصراع بين الملوك والنبلاء ومطالبة الآخرين بدور في اتخاذ القرار , ثم تفجر بعد ذلك الصراع بين الأرستقراطية والطبقة البرجوازية , وهو صراع كان من بعض مظاهره الثورة الانجليزية (1688 )ثم الفرنسية (1789) ثم جاء بعد ذلك نضال الطبقة العاملة من أجل حقها في المشاركة العامة فدور المرأة وأخيرا الأقليات الدينية والعرقية .

وما تزال هذه الصراعات مستمرة ومع كل تطور كانت طبيعة وشكل الدولة وتوجهاتها تتغير لتستوعب المتغيرات والمطالب الجديدة .

بحسب آراء بعض المستشرقين والمفكرين الغربيين فإن فكرة المواطنة ( ومعها مفهوم المجتمع المدني ) في جوهرها فكرة غربية المنشأ والمصير , وأنها استندت إلى نشأة المدينة ودورها ككيان مستقل في مطلع العهد الرأسمالي , ويضيف هؤلاء بأن هذه التقاليد لم توجد خارج المجتمعات الغربية وتحديدا ليس في العالم الإسلامي .

ويستشهد برنارد لويس بعدم وجود تعبير يقابل لفظ المواطن ( سيتيزن ) في اللغات الإسلامية الرئيسية ( العربية والتركية والفارسية ) وأن عبارة المواطن المستخدمة تعني الشريك في الوطن لا تحمل نفس الدلالات .

وبحسب هذه الرؤية فإن إشكالية المواطنة في العالم الإسلامي هي إشكالية ثقافية عامة تتجاوز مواقف الإسلاميين إلى أزمة في الثقافة السياسية الإسلامية عموما .

هذه التحفظات لا تأخذ في الاعتبار أن العبارة المعادلة للفظ " مواطن " في الخطاب الإسلامي هي لفظ " مسلم " لأن المجتمع الإسلامي كان نظريا مجتمعا يقوم على أساس الرابطة الدينية , وهو مجتمع يتساوى جميع أفراده في الحقوق وبحسب الحديث النبوي تتكافأ دماؤهم ويسعي بذمتهم أدناهم "

وفي هذا المجتمع فإن أى شخص بمجرد أن ينطق بالشهادتين يصبح عضوا كامل العضوية في الجماعة السياسية له كامل الحقوق وعليه كامل الواجبات .

ضرورة التعايش

وقد تداول بعض المعلقين من شراح الحديث في عبارة يسعى بذمتهم أدناهم " ( أ أن أى التزام من أقل المسلمين شأنا تجاه عضو من خارج الجماعة – مثل بسط الحماية عليه – يلزم المجتمع ككل ) وهل تشمل النساء والأطفال والعبيد أم لا ؟ ورجح أكثرهم أنها تشمل الجميع ما عدا الأطفال .

الإشكال الذي يواجه الجماعات الإسلامية المعاصرة هو ترجمة هذه المفاهيم في الواقع المعاصر الذي لم يعد فيه الدين هو أساس الجماعة السياسية , ونقل الحقوق التي كانت للمسلم إلى كل مواطن , ففي المجتمعات المعاصرة توجد أقليات غير مسلمة في الدول الإسلامية مثلما توجد أقليات مسلمة خارجها .

وقد تواضع المجتمع الدولي على مواثيق دولة تقوم على الاحترام المتبادل والحقوق الكاملة للجميع .

وبحسب بعض المفكرين الإسلاميين من أمثل قطب والمودودي فإن على المسلمين أتباع السنة النبوية بالهجرة والانفصال عن الآخرين لتشكيل مجتمعهم النقي .

ولكن هذا الخيار لم يعد عمليا في الواقع الدولي المعاصر لانعدام الأماكن المتاحة للهجرة الجماعية ( إذا استثنينا القارة القطبية الجنوبية ) مع تداخل المجتمعات ووجود أقليات كبيرة في بلدان غير مسلمة , في الهند وحدها هناك قرابة المائتي مليون مسلم , ومن غير العملي مطالبتهم جميعا بالهجرة , إذن التعايش أصبح أمرا لا مفر منه , مما يستوجب إعادة النظر في المفاهيم الإسلامية على أساس المعاملة بالمثل .

هناك إشكال آخر يواجه الحركات الإسلامية , وهو أنها في كثير من الأحيان تخلط بين الشوفينية العرقية والتوجه الإسلامي , خاصة في المناطق التي يتقاطع فيها الصراع العرقي مع الصراع الديني , كما هو الحال في أفريقيا ( نيجيريا والسودان على سبيل المثال ) أو تركيا أو قبرص وماليزيا وغيرها .. وهذا وضع تجب إعادة النظر فيه على أى حال .

الحركات الإسلامية – بعضها على الأقل – خطت خطوات لا بأس بها في اتجاه التعامل بانفتاح وعقلانية مع هذا الواقع المستجد , ولكنها لم تبلغ بعد مرحلة القبول المبدئي له والاعتراف بأنه ليس مضايقة مرحلية بل أمر لازم لا فكاك منه ,ولعل السبيل إلى هذا ليس تغييرا أحاديا في أطروحات الحركات الإسلامية , بل الدخول في مفاوضات مع القوى السياسية الأخرى للتوافق على عقد مواطنة جديد يضمن الكرامة للجميع مع احترام القيم الدينية للجميع .

إسرائيل في خطاب الإسلاميين

محمد خالد الأزعر

متخصص في الشؤون الفلسطينية

إحدى الظواهر اللافتة في المشهد الأيديولوجي العربي العام , تنوع الجماعات المنسوبة , أو التي يمكن نسبتها إلى تيار " الإسلامي السياسي "

فداخل هذا المشهد نعثر على ما يدعي جدلا بجماعات " الإسلام الرسمي " التي تضم شيوخا ورجال إفتاء وواعظين وموظفين , ممن يخضعون لسياسات النظم الحاكمة ويعملون بهديها وإمرتها ... وغالبا ما يسوغون ويبررون سياسات هذه النظم تجاه إسرائيل حتى إن تطلب ذلك لى عنق بعض الأسانيد الدينية .

بين المرحلي والاستراتيجي

وعلى مسافة فقهية وسياسية كبيرة من هؤلاء تنشر مجموعات إسلامية أكثر شعبية وجاذبية للرأي العام تحت مسميات تعكس تعددية بالغة كالجبهات والحركات والحلقات والأجنحة والمؤتمرات والأحزاب .

والملاحظ أن بعض هذه المجموعات موصوف بالتطرف والمغالاة ومحجوب بسطوة قوانين النخب الحاكمة عن المشاركة في العمليات السياسية للنظم , فيما البعض الآخر يشارك بالفعل في هذه العمليات باعتباره , معتدلا طبقا لمعايير وقياسات معينة ويجوز اعتبار الموقف من إسرائيل وحدود الصراع أو التسوية والتطبيع معها ضمن هذه المعايير .

فمن ظاهر التأمل في أنماط تعامل النظم مع هذه المجموعات , ينشأ الاعتقاد بأن معظم المصنفين منها في جانب التطرف والدوغمانية , هي تلك التي ينطوي خطابها على مقاربة جذرية أعمق تجاه وجود إسرائيل بحيث لا يشمل على أى فرصة للمهادنة أو التهدئة أو الأخذ بمعطيات وأدوات السياسة العملية ( البرغماتية ) مع هذا الوجود وتعلو أولوية الدعوة إلى الجهاد المفتوح معها , وصولا إلى زوالها كلية واستعادة فلسطين كبقعة عربية إسلامية السيادة والهوية والمصير أرضا وشعبا .

هذا في حين تندرج في سلك الاعتدال القوى التي لا تمانع في التقيد بالحلول المرحلية ومداخل المهادنة الموقوتة وأنماط المقاومة والجهاد التي لا تستثني الكفاح المسلح لكنها لا تقتصر عليه , وكل هذا ونحوه مع عدم الاعتراف بشرعية وجود إسرائيل ولا التخلي بالمطلق عن الحقوق الفلسطينية العربية الإسلامية في فلسطين بالمفهومين التاريخي والقانوني معا .

وإذا اعتبر البعض أن تمييز الإسلاميين العرب بين متطرفين متشددين وبين عمليين معتدلين في مقاربتهم للصراع مع إسرائيل به قدر من التعسف فإنهم محقون .

ذلك لأن الاعتدال والتشدد في هذا المقام قضية نسبية من ناحية , كما أن كل المنتمين إلى التيار الإسلامي على الصعيد العربي يتشاركون في ترديد أفكار ومبادئ تمثل مرجعية يلتقون عليها : كالإيمان بأن فلسطين من ديار الإسلام التي لا يجوز التفريط بها أو التنازل عنها جزئيا أو كليا .

وأن إسرائيل كيان استيطاني غريب في قلب العالم الإسلامي , وأنها عدو بالأصالة عن نفسها وبالإنابة عن الغرب المسيحي لدوافع دينية ومصلحية يمكن ردها إلى زمن الحروب الصليبية , وأن إسناد وتعزيز المقاومة الفسلطينية لهذا العدو واجب ديني ووطني على كل العرب والمسلمين .

لا يصعب إيجاد هذه الأفكار وشروحاتها في أدبيات كل الإسلاميين العرب , كالإخوان المسلمين في مصر والأردن والكويت والعراق وسوريا وحماس والجهاد في فلسطين وحزب النهضة في تونس وجبهة الإنقاذ والجبهة القومية الإسلامية في السودان وحزب الله في لبنان ..

الجديد .. مداخل أخرى للمواجهة

على أن هذه القناعات أو الثوابت لا ينبغي لها أن تصرف النظر عن الفروق المبثوثة في رؤى وبرامج مختلف قوى هذا التيار أثناء معالجتها للصراع مع العدو الإسرائيلي ومحازبيه الدوليين ".

ففي هذه الرؤى والبرامج بما تحويه من تفصيلات ويتصل بها من مداخلات وممارسات , ما يسوغ الحديث عن تباينات في الكيفية التي تحاول هذه القوى من خلالها الإجابة عن سؤال : ما العمل أو كيف تزول إسرائيل وتتحرر فلسطين ؟

فحزب التحرير الإسلامي في الأردن وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين , الموصوفان بالتشدد والجمود العقائدي يعرضان إجابات مختلفة نسبيا عن تلك التي تطرحها حركتا الإخوان المسلمين وحماس المنسوبتان للاعتدال في هذين البلدين على التوالي .

كذلك يصح التصور بأن تجربة حزب الله في التفاوض مع إسرائيل عبر أطراف ثالثة حول قضية بعينها لا تمس جوهر المنظور الإسلامي لهذا العدو , كما حدث بخصوص تحييد المدنيين من الطرفين فيما عرف باتفاق نيسان 1996 أو تبادل الأسري في وقت لاحق , يصح التصور بأن هذه التجربة ربما كانت من ملهمات حماس الفلسطينية , وهي تتعاطى مع شروط التهدئة المسلحة مع هذا العد ذاته أو حتى التسوية الشاملة راهنا أو مستقبلا .

الأمر الذي لا نلمس له أثرا على رؤى وبرامج حركة الجهاد الفلسطينية التي ما زالت أكثر تقيدا بالثوابت والقناعات المرجعية ( الإستراتيجية ؟!) بغض النظر عما يحيط بها من مستجدات .

وعليه فإن نظرة الطائر المحلق أو القراءة الشاملة , لا تسعف الباحثين عن مدى الاستمرارية والتحول في خطاب الإسلاميين تجاه إسرائيل , ولا تقدم صورة من قريب لحجم الثابت والاستراتيجي مقابل المتغير والتكتيكي في معالجة هذه الحركات لحال ومال هذا الكيان العدو في قلب العالم الإسلامي .

ففي الواقع العملي اجترحت بعض القوى الإسلامية سياسات برغماتية للتعاطي مع إسرائيل في حدود ما تعتقد أنه لا ينتهك بنيتها الأيديولوجية الصلبة وذلك بعد ما تبين لها أن حسم الصراع معها لن يكون بين عشية وضحاها , وأنه صراع اجتماعي ممتد شديد التعقيد ,وأن شيئا من السياسة الواقعية قد يكون مفيدا في تقييد هذه الدولة المعززة بموازين قوة لن يجرى تعديلها لصالح العرب المسلمين في أجل منظور .

على بصرة من هذا التقدير سمحت هذه القوى – مثل حركة حماس وحزب الله لنفسها بالحركة ضمن هامش اختلاف في برامجها وأدائها السياسي عن مواثيقها الأم , ومن ثم بالتفاوض مع إسرائيل على شؤون وجزئيات تحقق أغراضا موضعية دون مستوى حسم الصراع في موقعة واحدة وإلى الأبد .

وبين هذه القوى من أوغل أكثر في هذه المنهجية , فالجبهة القومية الإسلامية وكذا المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي في السودان , تخففا إلى حد بعيد من الرؤى الفقهية العقائدية حتى صار المكون البرغماتي تجاه إسرائيل أكبر بكثير من الثوابت الدينية الشهيرة بل وبات خطاب هاتين القوتين , لا سيما الجبهة القومية الإسلامية خاليا من دسم اللغة المشحونة بالرغبات الثأرية التي توشي خطاب الإخوان في مصر أو الأردن أو الجهاد في فلسطين أو حتى خطاب حركة حماس .

وبصفة عامة يقبل الإسلاميون في السودان بالاجتهادات الفلسطينية الإسلامية منطلقين من مبدأ أن الفلسطينيين أدري بشؤونهم , وهو موقف لا نرى فيه اختلافا كبيرا عما تطرحه تيارات أخرى لا صلة لها بالأرضية الدينية الصلبة للصراع .

ثمة إذا في واقع الإسلاميين العرب ما يوحي بأن بعضهم يتجه إلى بناء خطاب جديد في التعامل مع وجود إسرائيل , خطاب عملي إجرائي يسوغ التفاوض وإياها مع الاحتفاظ بالعداء لها وإرجاء حسم الصراع , يقول محمود الزهار القيادي في حماس " إن حماس ليست ضد التفاوض فهو ليس حراما .. صحيح أن تحرير فلسطين من النهر إلى البحر هدف نهائي لنا , لكننا لا نرفض الحلول المرحلية مع إسرائيل , تاركين الهدف النهائي للتفاعلات التاريخية على المدى الطويل " .

ونحسب أن هذا الأداء ينم عن إدراك أوسع بحقائق الواقع وضغوط البيئة المحيطة بالصراع مع إسرائيل بأكثر مما يوحى بتراجع جذري عن التكييفات الأيديولوجية لهذا الصراع

وليس بلا مغزى على هذا الاعتقاد أن بعض القوى الإسلامية التي تتحفظ على منهجية حماس قامت بتهنئتها على الفوز في الانتخابات التشريعية السلطة الحكم الذاتي الفلسطيني رغم أنها ليست على كلمة سواء مع هذه السلطة ولا هي تحفل بالتسويات التي أدت إلى نشوئها من صيغة مدريد إلى صيغة أوسلوا ... الإخوان المسلمون في الأردن فعلوا ذلك مع أنهم يرون أن " أرض فلسطين لا تقبل القسمة بين المسلمين واليهود ."

كذلك هنا إخوان مصر حماس على خطوتها رغم أنهم لا يتصورون حلا فلسطينيا ولا عربيا وإنما حلا إسلاميا لقضية فلسطين , ولا يستمرئون الحلول الجزئية أو المرحلية لهذه القضية , ويعتقدون أن تنبغي إزالة إسرائيل وأيلولة فلسطين كلها مرة واحدة وللأبد إلى رحاب الإسلام .

حدود الصراع

الظاهر والحال كذلك أن مباركة الإخوان في مصر والأردن وسوريا أو غيرها من القوى الإسلامية العربية لحماس , لا تعدو استشعار الفخر بظفر هذه الأخيرة وتزكيتها فلسطينيا على غيرها من التيارات الأخرى , الأميل إلى العلمانية .

فلا يحق فهم هذا التآزر عن بعد مع حماس ونصرتها على أنه مؤشر للإنسجام الكامل مع سياستها البرغماتية أو إدارتها للصراع على طول الخط , أو اعتبار أن هذه المؤازرة تعني أرجحية احتمال سيرورة هذه القوى على وقع خطوات حماس حرفيا .

الإخوان المسلمون في مصر لا يقبلون حتى الوقت الراهن بتعايش دولتين يهودية وإسلامية على أرض فلسطين ولو إلى حين ويتفق مع هذه الرؤية إخوان الأردن وسوريا وقناعة هؤلاء الثابتة , غير المشوبة حتى الآن بشئ من البرغماتية أو الواقعية بنظر البعض , أن قضية فلسطين هي مظهر ساطع من مظاهر التأمر الصهيوني الصليبي على الإسلام , وأن هناك تعاونا كاملا بين الصهيونية العالمية والولايات المتحدة والغرب بعامة ومعهم ذراعهم إسرائيل ضد الإسلام والمسلمين .

وتأسيسا على ذلك ينظر الإخوان عموما لقضية الصراع على أرض فلسطين كقضية عالمية , تخص العرب والمسلمين , ولا يتحدث هؤلاء صراحة عن إقامة دولة الخلافة الإسلامية كشرط قبلي لاجتثاث إسرائيل لكن خطابهم لا ينم عن تعارض مع هذا الشرط , طالما أن الصراع أبعد من حدود فلسطين وطاقة شعبها .

وفي الواقع فإن المنحي العام للإخوانيين عموما صار أقرب لاستخدام الوسائل الديمقراطية والحوارية لتعميم هذه الرؤية .

هذا المنحي يخالف رؤية قوى أخرى كحزب التحرير في الأردن أو حتى خطاب بن لادن وقاعدة الجهاد في العراق وأرض الرافدين , التي توغل بلا تحفظ في إضفاء الصبغة العالمية للصراع مع إسرائيل وداعميها وحلفائها الدوليين , معتقدة بأن كل الجهود يجب أن تتجه أولا إلى إقامة الدولة الإسلامية ( دولة الخلافة !) وذلك بثورة فكرية سياسية تدمر الأفكار الباطلة والحكم الدنيوى الفاسد ... وحينئذ لابد أن تكون إزالة إسرائيل ضمن مهمات هذه الدولة .

أولوية خطاب القوى الإسلامية

والحال أنه باستثناءات محدودة منها حركة الجهاد الفلسطينية , تذهب معظم القوى الإسلامية الموصوفة بالتشدد الأيديولوجي الإسلامي في منظورها للصراع مع إسرائيل وبتنكبها عن مسارات ومدارات التقاوض أو التهاون أو المرحلية في معالجة هذا الصراع , تذهب هذه القوى إلى عدم إعطاء أولوية في برامجها وأدائها السياسي لقضية الصراع على أرض فلسطين .

إنما تمنح هذه الأولوية لتغيير المجتمعات العربية والإسلامية من الداخل, على محمل أنها ونظمها الحاكمة أقرب إلى الجاهلية وينبغي تغييرها أو تقويضها لبناء مجتمع إسلامي حقيقي على أنقاضها , يلي ذلك الالتفات إلى قضية إسرائيل .

لكن وسائل هذه المتوالية تختلف بين من ينخرطون في مداخل ديمقراطية ودعوية سليمة وبين من ينصرفون إلى مراتب مختلفة من العنف , وهنا يجوز القول إن هذه الحركات المتوسلة بالعنف المفتوح ليست ممن يستقطب أغلبية في الشارع العربي الإسلامي .

ويتصل بهذا المعطي أن معظم القوى الأميل إلى الأخذ بالمرحلية أو التفاوض المشروط والمحدود في معالجة الوجود الإسرائيلي , كحزب الله في لبنان وحماس في فلسطين والحركة الإسلامية بين فلسطين 48 – جناح رائد صلاح والمؤتمر الشعبي العربي الإسلامي في السودان , تعمل في الأطر الوطنية المحلية ولا يستهويها تدويل أو عولمة نشاطها ضد إسرائيل .

كما أنها لا تميل إلى أفعال أو ممارسات من شأنها إحداث خلافات مع محيطها العربي أو الإسلامي .

لكنها ترحب بما يتيسر لدول هذا المحيط وأطره الشعبية من دعم وإسناد مادي أو معنوي , بما لا يفتح أبوابا للتشاحن مع النظم والنخب الحاكمة على اختلاف توجهاتها .

فحزب الله مثلا , يرفض استقبال عناصر " جهادية " عربية أو إسلامية من خارج الدائرة القطرية اللبنانية , ويفسر زعيم الحزب السيد حسن نصر الله هذا التوجه بأنه يمثل وقاية من أية مشكلات مع أحد في العالمين العربي والإسلامي .

ومؤخرا رفضت حماس تلقي نصائح من أيمن الظواهري القيادي في تنظيم القاعدة بأن لا تلقي بالا للتفاوض وأن لا تتوخي المداخل السياسية في التعامل مع إسرائيل .

كذلك لا تغالي هذه القوى في تقديم الأيديولوجي على الوطني والتحرري السياسي , ومنازلة إسرائيل في مشروعها الفكري , نازعة بذلك إلى حماية الزاد الجماهيري الشعبي الذي يحف بها داخل أوطانها وخارجها في هذه المنازلة .

ويبدو أنها تدرك أنه كلما تجنبت نقاط الاحتكاك مع قوى المجتمع حول ما هو فقهي وشرعي في الداخل ألفت حولها الأفئدة وطمأنت بعض تيارات المداخل فضلا عن قطاعات واسعة في البيئتين العربية والدولية إلى أن مقاصدها لا تتصل بفرض مفاهيم مثيرة للجدل كالحاكمية وتطبيق الحدود وتكفير الآخرين وإعمال شرع الله " بحسب تفسيرات معينة يجرى حول صحتها تناظر واسع .

خاتمة

الشاهد في كل حال , أن الإسلاميين العرب ليسوا على سوية واحدة في كيفية مناجزة إسرائيل ومشروعها الاستعماري وذلك على رغم وجود ثوابت وقناعات مشتركة محورها العداء لهذه الدولة .

وثمة مؤشرات دالة على أن الحركات والقوى التي تخففت من الأثقال الأيديولوجية وأخذت بسنن التربص والاستعداد وخاضت غمار السياسات العملية ,واتعظت أكثر بالوقائع والمعطيات المنظورة بين يدي مشروعها التحرري , هي مؤهلة بالفعل لاشتقاق تحولات في التعامل مع إسرائيل , تحولات من شأنها قبول التعايش مع وجود هذه الدولة تاركة للزمن وتبدلاته لتفعل فعلها عسي أن يتغير حال الأمة الإسلامية إلى الأفضل .

وإلى أن يحين ذلك فإن هذه القوى لا يسعها التخلي عن " حلم " تصفية الوجه الاستعماري لإسرائيل لكنها ستقبل بوجودها كأمر واقع , وسوف تبذل جهدها لإبداع الصيغة المناسبة لاجتراح هذه المعادلة الصعبة .

الإسلاميون والممارسة السياسية

الأداء الإسلامي ... ملامح ودلالات

شفيق شقير

الجزيرة نت

تقدم الإسلاميون في العالم العربي واحتلوا مواقع رسمية لم يبلغوها منذ قيام الدولة العربية الحديثة وذلك بعد أن شهدوا تقدما شعبيا كبيرا خلال فترات كثيرة في الماضي والحاضر القريب .

لا شك أن التغييرات الأخيرة التي أدخلوها على طريقة وأدوات عملهم , والتغييرات التي أحدثوها في ترتيب أولوياتهم قد أثمرت في بداية هذا القرن قفزات نوعية لم تخل من كبوات قد يصح وصف بعضها بالخطر .

دول المغرب العربي

دول المغرب العربي بزعم التاريخ الطويل من الاحتراب الداخلي فإنها تشهد انفراجات على صعيد العلاقة مع السلطة فالعلاقة بين السلطة والإسلاميين لم تعد تحكم بمنطق أيديولوجي واحد , ويمكن القول إن الخلافات بدأت تميل لكونها خلافات سياسية لا أيديولوجية , وهناك عملية واسعة لإفراغ السجون من المعتقلين السياسيين .

الجزائر

ففي الجزائر هناك إسلاميون ( حركة حمس ) متحالفون مع السلطة من خلال التحالف المسمي بالتحالف الرئاسي , وهناك معارضة قوية البنية لهم تتمثل بحركة الإصلاح التي يتزعمها عبد الله جاب الله , إلا أنه لا يزال هناك بعض الجماعات الإسلامية العنيفة من بقية إرث العشرية الحمراء .

ليبيا

أما ليبيا فوجود قانون يجرم العمل الحزبي لم يمنع من قيام حوار ولو محدود ما بين حركة الإخوان المسلمين والسلطة الليبية .

ونقطة الخلاف الرئيسية حتى الآن أن السلطة لا تعترف بأى وجود سياسي خارج المؤتمرات الشعبية والتي تعتبر بمثابة برلمانات محلية جدا للبلديات والأحياء فيما أن الإسلاميين يريدون تشريع الحياة الحزبية وإطلاق عقد سياسي جديد قائم على التعددية .

ومن حيث النظرية فإن وجهات النظر هذه برغم تباعدها فإن لها أملا بأن تصل إلى نتيجة مرضية في لحظة سياسية ما بدليل الإفراج الذي تم في مارس / آذار 2006 لقيادات الإخوان المسلمين الليبيين .

المغرب

وفي المملكة المغربية تقدم الإسلاميون في الانتخابات النيابية التي شاركوا فيها بقدر محدود حتى لا يستفزوا النظام أو العناصر المنافسة , وهناك حديث عن أن الإسلاميين المتمثلين بحزب العدالة والتنمية يجهزون أنفسهم لاستلام الوزارة المقبلة , وهدف إسلاميي المغرب عموما هو إصلاحي سياسي , ولا يرمي إلى إحداث تغييرات جذرية تطال نظام الحكم الملكي .

موريتانيا

وانفرجت العلاقة إلى حد كبير مع السلطة في موريتانيا بعد أن سقوط حكم ولد الطايع ومجئ حكم العسكر , وهناك تفاهمات بين الحركة الإسلامية الموريتانية والمجلس العسكري الذي استلم مقاليد الحكم , والإسلاميون بهذا البلد لا يهدفون إلا لإحداث إصلاحات سياسية وتطوير الحياة السياسية .

تونس

أما تونس والتي يصف الإسلاميون نظامها بالقمعي , فقد أحدث النشاط الحقوقي والإنساني لمنظمات وهيئات محلية ودولية ثغرة في جدارها المنيع .

وأشاع إطلاق سراح بعض المعتقلين الإسلاميين لأسباب سياسية جوا من التفاؤل الحذر واستطاع الإسلاميون الإطلال على الحياة السياسية التونسية من النافذة الحقوقية كما فعلوا من خلال حركة 18 أكتوبر والتي أجتمع فيه الإسلاميون مع قوى يسارية أخرى على ما سمي الحد الأدني من الحريات والديمقراطية .

مصر والسودان

مصر

تقدم الإخوان المسلمين اللافت في الانتخابات المصرية الأخيرة كشف لنظام الحكم عن قوة سياسية قانونية جديدة لا يمكن تجاهلها , وأن أسلوب التجاهل والحصار للقوى الإسلامية لم يؤت أكله حيث أن الإخوان عوضوا عدم شرعية جماعتهم بشرعية نوابهم المنتخبين .

ويبدو أن إعلان بعض قيادات الجماعات الإسلامية المسلحة سابقا – لا سيما الجماعة الإسلامية – عن تبدل قناعاتها وإبداء رغبة بعضها الانخراط في العملية السياسية في إطارها القانوني أعطي قوة للصوت الإسلامي وخلت الساحة في لحظة حاسمة من أى نقاش ديني ذى أهمية حول جواز أو حرمة المشاركة في الانتخاب أو العملية السياسية .

وهذا فضلا عن تنامي النشاط النقابي الذي يسيطر عليه الإسلاميون وتنامي الشجاعة السياسية للمواطن المصري بالخروج إلى الشارع الذي فجرته حركة كفاية , وهو ما فتح الطريق أمام الإسلاميين لقيادة الشارع .

السودان

وبالنسبة للحالة السودانية فإن تزايد الضغوط الخارجية على النظام السوداني الذي لا يزال يحرص على مرجعيته الإسلامية , أضفي على خلافاته مع بقية الأطراف الإسلامية وجها سياسيا داخل الإطار الأيديولوجي الواحد , حيث إن الاختلافات في غالبها تدور حول كيفية إدارة السلطة وإقامة السلام في البلاد .

المشرق العربي

ولو اتجهنا نحو المشرق العربي فإننا سنواجه صورة مغايرة عما عليه الوضع في المغرب ومصر والسودان , حيث إن الثنائيات المتقابلة بين الإسلاميين أنفسهم تختلف في مرجعياتها السياسية والطائفية .

العراق

فسقوط النظام البعثي في العراق دفع بحركات إسلامية إلى زوايا طائفية ضيقة فهناك قوتان شيعيتان أساسيتان : المجلس الأعلي للثورة الإسلامية في العراق والتيار الصدرى , وهاتان تمثلان طموحات الشيعة بوصفهم الطائفي أكثر مما تمثل طموحات الإسلاميين جميعا بوصفهم خطا إسلاميا مقابل خط آخر غير إسلامي .

وهما يفترقان بدورهما من حيث مرجعيتهما , فالمجلس الأعلي قد يصنف من خصومه كذراع إيرانية أحيانا وكمتواطئ مع الأميركيين أحيانا , فيما قد ينظر للتيار الصدرى بوصفه البعد العربي في شيعة العراق والخط الممانع للوجود الأمريكي في الطائفة.

ومن جهة أخرى برز الحزب الإسلامي ذو المرجعية الإخوانية , وهيئة العلماء المسلمين كممثلين للطرف السنى, إضافة إلى الحزب الإسلامي الكردستاني الذي ينوء تحت التصنيف العرقي إضافة إلى تصنيفه المذهبي ويجتمع الإسلاميون السنة على رفض الاحتلال ويختلفون في السياسة والأولويات .

والخلاف بين إسلاميي السنة والشيعة ربما هو أشد مما بين الأطراف العراقية الأخرى , وإذا أضفنا إلى هذا جماعة القاعدة في بلاد الرافدين فيمكن الجزم بأن الحالة الإسلامية العراقية أكثر الحالات بؤسا بين إسلاميي العالم ويخشي بأن تعود بالضرر على العالم الإسلامي كله .

لبنان

وأول تأثيراتها وصل إلى لبنان , فقد غلب الاهتمام الطائفي على خطاب حزب الله باعتبار أن الحالة الشيعية في لبنان مستهدفة مما قد يحد بعضا من عنوانه المقاوم في هذه المرحلة .

وبعض الانتقادات رأت في موقف الحزب من الشأن العراقي موقفا مخالفا لما هو معروف من أدبياته , وأنه تخلي مبكرا عن إعطاء المقاومة العراقية الوصف الذي تستحقه , وأنه أثني واحتفي برموز المجلس الأعلي للثورة المتهم من قوى إسلامية أخرى بالتعاون مع المحتل وبقيامه بعمليات تصفية منظمة ضد السنة في العراق .

أما الجماعة الإسلامية في لبنان والمنتمية لأدبيات حركة الإخوان فإنها لم تتوغل في الشأن العراقي كما هو شأن حزب الله , ومحليا تختلف معه حول تأييد بقاء الرئيس اللبناني إميل لحود في سدة الرئاسة , فيما الجماعة جزء من أولئك الذين يطالبون بتنحية الرئيس .

إلا أن اللافت في الحالة الإسلامية اللبنانية أنها لا تزال تجتمع حول المحافظة على سلاح المقاومة في مزارع شبعا , وهذا الاجتماع قد يكون له ما بعده إذا لم تتجرف الساحة اللبنانية نحو المثال العراقي .

فلسطين

وتخطي الحالة الإسلامية الفلسطينية بأهمية خاصة في العالم الإسلامي , وهو ما دفعها لأن تحافظ على مسافة بينها وبين تعقيدات الواقع العراقي , حيث لم يتورع خالد مشعل رئيس المكتب السياسي ( لحركة المقاومة الإسلامية حماس ) عن الإعلان من طهران عن استعداده للوقوف مع إيران ضد أى تهديد , كما أن عموم الحالة الإسلامية في فلسطين لم تكف عن تأييد المقاومة العراقية وبالتأكيد الخط الإسلامي فيها .

وعلى الصعيد الإسلامي الداخلي أصبحت حماس سلطة مثقلة بهموم وطنية تعني بالشعب الفلسطيني كله أكثر مما تعني بشريحة إسلامية مؤيدة لها أو تلتقي معها , ويبدو أنها تحتاج لقدر كبير من البراغماتية السياسية لتجاوز التحديات الجديدة التي ستواجهها .

ومن جهة أخرى فقد ظهر اختلاف بين حماس وحركة الجهاد الإسلامي في الموقف من الانخراط في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي فازت فيها حماس بالأكثرية , كما اختلفا أيضا حول المشاركة في الحكومة التي ترأستها حماس .

إلا أنهما يجتمعان بوضوح حول حق المقاومة مشروعية وممارسة , يختلفان من حيث المرجعية السياسية والثقافية , باعتبار أن الجهاد أكثر انتماء لأدبيات الثورة في إيران وسياساتها , بينما تنتمي حماس للخط الإخواني وتتميز باستقلال سياسي سمح لها بالاتكاء على العمق الإسلامي والعربي الشعبي بشكل أوسع .

الأردن

وهذا الصخب الذي أثاره إسلاميو فلسطين قابله هدوء في الأردن , سمح لحركة الإخوان المسلمين فيها أن تتحرر من بعض تداعيات الوضع الفلسطيني على شؤونها المحلية , وأعطت حظا للإصلاح والديمقراطية من نشاطها وحافظت على القضية الفلسطينية كعنوان رئيسي لبرنامجها الوطني والإسلامي .

إلا أن برامج أسلمة المجتمع بطرق يحظرها القانون لا زالت تحظي ببعض الحراك الداخلي بسبب حزب التحرير الإسلامي المحظور والموجود ولو بأعداد متواضعة , كما أن الحالة " الجهادية " لها بعض الأصداء خاصة وأن القاعدة في بلاد الرافدين يتزعمها الأردني أبو مصعب الزرقاوى , ومن هذه الأصداء التفجيرات التي استهدفت بعض الفنادق في عمان , والتي لقيت من عموم الشارع الأردني ردود أفعال غاضبة , لأنها استهدفت مدنيين , كما أنها نفذت بأيد غير أردنية .

سوريا

وتعتبر سوريا المتضرر الأكبر من الوضع العراقي , حيث بدأت تعاني من ضغوط دولية لم يتضح حتى الآن كيف ستواجهها على الصعيد الوطني , ولكن الظاهر حتى الآن أن الإسلاميين وتحديدا حركة الإخوان المسلمين المحظورة وعلى لسان قيادتها في الخارج قد حزمت أمرها أن لا تغيير حقيقيا في النظام السوري , وأن التغيير لن يكون إلا بيد السوريين .

والحالة الإسلامية المعلنة داخل سوريا تعتمد على المؤسسات الدينية الرسمية وعلى الحالة الصوفية المتآخية مع النظام , أما المضمرة فمن المؤكد أن هناك كيانات متعددة تتراوح ما بين الإخوان والسلفية وبرز على السطح بعضها من خلال الاشتباكات القليلة التي وقعت من حين إلى آخر مع مجموعات تصفها السلطات بأنها تكفيرية .

الخليج واليمن

منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر شهدت الحالة الإسلامية في الخليج انقلابا جذريا خاصة فيما خص التيار السلفي والحالة الشيعية .

السعودية

فالسلفيون في السعودية بسبب نشاطات القاعدة الموسومة بالإرهاب والقائمة على ثقافة سياسية سلفية , وجدوا ثقافتهم وعقيدتهم في امتحان من قبل السلطة وبعض فئات المجتمع السعودي وهذا ما فرض على التيار السلفي بكل ألوانه لأن يعطي مساحة للتعبير عن قناعاته السياسية ولو على حساب التوجه العلمي الذي تميز به .

ويمكن القول إن الحالة السلفية السعودية بكل مشاربها قد وضعت قدمها في تراب الإصلاح السياسي سواء كانت مؤيدة للسلطة أم لا , وبدأت تعبر عن رأيها فيها , وذلك بعد أن كانت وجهتها الأساسية هي إصلاح العقائد وتوجيه القناعات الدينية .

ويلحظ أن الحالة الشيعية في السعودية قد أصبحت أكثر قدرة في التعبير عن نفسها , وأنها تحظي بحرية أكثر من السابق , وأصبح وجوه الشيعة جزء من الحوار الوطني الذي تقيمه السلطة سنويا , وهذا التوجه الإيجابي قد انعكس على بقية الاتجاهات غير الوهابية , ولعل ذلك جزء من عملية الترويض للحالة السلفية لتعتاد على قبول الآخر المختلف عنها , خاصة وأنه يلتقي مع توجه أميركي للحد من سلطة الوهابيين في البلاد .

الكويت

أما الكويت فإن وضع الإسلاميين فيها ينعم باستقرار قديم ولا زال على حاله , وتتميز الحالة الإسلامية في الكويت بألوانها السلفية والإخوانية والشيعية أنها منخرطة في نسيج المجتمع وتحمل قضاياه وهمومه المحلية والوطنية .

كما أنها متصالحة مع السلطة ومتعاضده معها في الأزمات الكبرى , وهذا ما تبدى في التفجيرات الأخيرة التي استهدفت العام الماضي بعض مقار الشرطة واتهمت السلفية الجهادية بالمسؤولية عنها , ومنذ ذلك لم يعد لمثل هذه الجماعة ذكر في الكويت .

والإسلاميون الشيعة في الكويت مندمجون في النظام ومتوائمون مع طريقة عمله , وهذا لا يمنع أن تثار في بعض الأحيان بعض القضايا الطائفية , ولكن خبرة المجتمع الكويتي والنظام تحتوى في العادة مثل هذه الظواهر دون مضاعفات , ويعتبر إسلاميو الكويت الشيعة أحد أهم المصادر المالية الممولة للشيعة في عدد من دول العالم كما أن إسلامييها عموما ذوو خبرة تاريخية في العمل الخيرى .

البحرين

تتميز مملكة البحرين بكثافة الوجود الشيعي فيها نسبة لدول الخليج العربي الأخرى , هذا ما جعل التوتر الطائفي جزءا من الحالة السياسية اليومية , والإسلاميون ليسوا استثناء .

فالإسلاميون السنة متصالحون مع النظام ومنسجمون مع الشريحة المجتمعية التي ينتمون إليها , وبعض الفئات الشيعية تعيد هذا التصالح إلى المصلحة المذهبية التي تجمع بين الطرفين .

والتيارات الإسلامية الشيعية أخذ الوصف الطائفي منها حظا أكثر من الوصف الإسلامي , وذلك بسبب الهواجس والتداعيات الطائفية التي تستحضر عند أى نقاش جاد بينهم وبين السلطة أو بينهم وبين بقية الإسلاميين .

لهذا فإن هدفهم الرئيسي هو تحسين شروط وحجم وجودهم السياسي , ولكن هذا لم يمنعهم من التفاعل مع بعض القضايا التي تشكل اهتمام الإسلاميين السنة عموما مثل القضية الفلسطينية أو رفض الاحتلال الأميركي وما إلى ذلك .

اليمن

إسلاميو اليمن يتمتعون بنفوذ كبير سواء في السلطة أو المجتمع من خلال التجمع اليمني للإصلاح وتجمعهم صلات خاصة بالرئيس اليمني على عبد الله صالح الذي يرى فيهم حليفا قويا له , ويبدو أن هذه الواقع مرشح للاستمرار في المدى المنظور .

ولم تعرف الحالة الإسلامية عموما حتى الزيدية منها أى انفصام عن السلطة أو المجتمع ما خلا ما حصل من بعض منتسبي القاعدة ومنتسبي جماعة المؤمن التي أسسها حسين بدر الدين الحوثي .

فالقاعدة أحرجت السلطات اليمنية باستهدافها للمدمرة الأميركية كول وللسفينة الفرنسية ليمبورغ ولبعض المصالح الغربية على أرض اليمن , الأمر الذي جلب ضغوطا دولية على عبد الله صالح وعلى علاقته بالإسلاميين .

أما قضية الحويثيين فلم تكن أقل إحراجا للنظام اليمني خاصة مع ما ترافق من أن خروج الحوثي على السلطة لم يكن بناء على اختلاف سياسي فقط , إنما أيضا على أساس انقلاب عقائدي حيث تتهمه صنعاء بتبني مذهب الشيعة الاثني عشرية الذي يختلف مع اعتقادات المجتمع اليمني التي تتوزع بين المذهب الشافعي والزيدي .

الإسلاميون وأسباب الحضور الشعبي المتقدم

سعد الدين العثماني

أمين عام حزب العدالة والتنمية في المغرب

تعددت طيلة عقدين من الزمان التوقعات بأفول نجم التيار الإسلامي من قبل خصومه ومن قبل عدد من الباحثين والمتتبعين .

التنبؤ بالأفول والطبيعة المتجددة

فقد كتب الكاتب المصري المعروف محمد أحمد خلف الله منذ ما يقرب من 20 سنة كتابه " الصحوة الإسلامية في مصر " مؤكدا أن المستقبل ليس في صالح الصحوة ( الإسلامية ) وأن المستقبل سيكون على حساب الصحوة ".

كما أصدر عالم السياسة الفرنسي أوليفيي لوروا سنة 1992 كتابه " فشل الإسلام السياسي " ثم جاء بعده أونطوان بسبوس وأصدر سنة 2000 كتابه " الإسلامية... ثورة مجهضة " وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001 , وانطلاق الحرب على الإرهاب , توقع الكثيرون أن تكون نهاية الحركات الإسلامية .

لكن التطورات أثبتت بعد ذلك عدم صحة تلك التوقعات , وأصبح تزايد شعبية الإسلاميين اليوم أمرا واقعيا ومتفقا عليه , وأثبتته الاستشارات الانتخابية في العديد من الدول , والراجح أنها ستميز الانتخابات القادمة في أى بلد عربي أو إسلامي في المدى المنظور , كلما تميزت تلك الانتخابات بحد أدني من الشفافية والنزاهة .

هذا ما أثبتته المعطيات الانتخابية في الجزائر وباكستان والأردن وتركيا والمغرب والبحرين والعراق ومصر وغيرها , وهو ما أكدته النتائج غير المنظرة لحركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) في الانتخابات الفلسطينية الأخيرة .

صحيح أن الإسلاميين لا يحملون دائما نفس الفكر ولا يتبنون نفس المنهج , لكنهم في مختلف الدول التي سمح لهم فيها بخوض الانتخابات يحققون نجاحات قد تكون نسبية وقد تكون كبيرة لكنها نجاحات لا يمكن إنكارها بينما تخفق اتجاهات هيئات سياسية أخرى سبقتهم في الغالب إلى الميدان سنوات أو عقودا .

أما لماذا هذا الفوز المطرد للحركات الإسلامية , وما هي العوامل المفسرة لازدياد شعبيتها ؟ فلا شك أن الجواب ليس بسيطا .

فإن العوامل متعددة ومتداخلة , لكن يمكن الوقوف عند أهمها من خلال سياقاتها الكبرى .

فالعوامل منها الكلي والجزئي , منها الأساسي والثانوي , ومن الضروري بذل جهد للتمييز بين الصنفين .

لقد تعلق بعض الباحثين بالفقر والتهميش الاجتماعي لتفسير الظاهرة , واعتبروا الرخاء الاقتصادي طريقا لتجاوزها , لكن ذلك التفسير لا ينسجم مع سيل النجاحات الانتخابية للإسلاميين في مناطق مختلفة , وفي مقدمتها المناطق التي تعرف بحبوحة اقتصادية واضحة مثل بعض دول الخليج .

هذا إضافة إلى كون الإحصائيات في الدول الأخرى , لم تعرف أى تمركز للحركات الإسلامية في المدن أو الأحياء الفقيرة بل تشمل تلك الغنية أيضا .

وقد قام الخبير الفرنسي فرانسوا بورغا في بعض كتبه وخصوصا كتابه " الإسلامية بالمغرب العربي : صوت الجنوب " ( 1988) وكتابه " الإسلامية في زمن القاعدة " ( 2005 ) بانتقاد التفسيرات المتسرعة والمتأثرة بإرث الماضي الصراعي بين الإسلام وأوروبا .

ويؤكد أن الإسلاميين لا يمكن تصنيفهم على أنهم فقراء " منسيون من التنمية " أو " أغنياء " منغمسون يبددون ثروة بترولية , ولا مجرد بورجوازيين ورعين " , أو نساء يعشن الظلم والقهر, إنهم حاضرون ضمن هذه الفئات الاجتماعية وغيرها , وتتنوع أشكال تعبيرهم وتختلف , تنوع واختلاف تلك الانتماءات , ومن الواجب علميا النظر إليهم كما هم جميعا دون أى استثناء .

هذه المقاربة لها من الإيجابيات أنها تخرجنا من النظرة التجزيئية والتفسيرات المبتسرة , إلى التفسيرات الأعمق والأشمل , التفسيرات التي تقترب من الظاهرة في شموليتها , عالميا , و لا تتعلق داخل تجارب محدودة , في ظرفيات خاصة .

العوامل المفسرة للظاهرة

وهكذا يمكنا أن نرصد أربعة عوامل أساسية دون إغفال الإشارة إلى أن هناك عددا آخر من العوامل تتداخل معها لكنها في رأينا أقل أهمية وتأثيرا .

نداء الهوية

يبدو أن السياق الأساس للصعود يعود إلى الصحوة الدينية التي تبرز على فترات في مختلف الديانات منذ عقود من الزمان , وللإسلام فيها القسط الأكبر .

لقد مضي زمن ادعاءات أفول الأديان لتشهد مختلف شعوب العالم صحوات إيمانية تعبر عن الرغبة في الرجوع إلى الهوية , وهناك دراسات وتحليلات كثيرة حول الظاهرة بالولايات المتحدة الأميركية وفي أميركا اللاتينية .

لكن حالة العالم الإسلامي لها خصوصيات عديدة منها ما هو ثابت عميق ومنها ما هو ظرفي مؤقت.

أما الثابت العميق فهو كون التاريخ الإسلامي يشهد دوما فترات منتظمة من إحياء الدين وتجديده , وتكاد لا تجد حركة إصلاحية تروم مقاومة الضعف والتفرق والتخلف في الأمة إلا وتستعين بالإحياء الديني رافعة للإصلاح .

أما الظرفي المؤقت فهو مرتبط بظروف ما بعد الحرب الباردة , فالراجح أن ما تعرض له المسلمون من تطهير عرقي في البوسنة والهرسك وكوسوفو والشيشان وغيرهم من مسلمي البلدان التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي , واستمرار الانتهاكات الصهيونية للحقوق الفلسطينية والتهديدات المستمرة على المسجد الأقصى والاحتلال الأميركي للعراق قد أدي إلى عودة الشعور بالهوية الإسلامية بقوة .

ويزيد من ذلك العديد من التصريحات والممارسات من قبل مسؤولين وفاعلين غربيين تعطي الطابع الديني للتوترات والصراعات الموجودة , مثل حديث الرئيس الأميركي بوش عن الحرب الصليبية ,وتحذير بعض الغربيين من الإسلام , آخر ذلك الرسوم الأخيرة المسيئة للرسول صلي الله عليه وسلم .

وليست ملاحظة الصحوة الإيمانية عالميا وإسلاميا هي السبب الوحيد الذي جعل المعطي الهوياتي معطي أساسيا في القضية بل إن صعود الإسلاميين لا يرتبط فقط بالجانب السياسي , ولكن أيضا وأساسا بجوانب الحياة الاجتماعية والثقافية .

فالكتاب الديني والإسلامي هو الأكثر مبيعا . والإقبال على المساجد يزداد يوما بعد يوم , والبرامج الدينية في القنوات هي الأكثر مشاهدة من بين سيل البرامج الأخرى .

والحجاب " ظاهرة تنتشر بقوة بين النساء من مختلف الفئات , حتى أن كثيرا من الدول ذهبت إلى التضييق عليهن , إنها صحوة اجتماعية ذات أبعاد مختلفة وليس الحضور السياسي للإسلاميين إلا مظهرا ونتيجة لذلك الحضور في المجتمع .

ومن نتائج هذا العامل الأول أن الحركة الإسلامية الإصلاحية لم تكن صدى لدعوت أو توجهات خارجية أو جاءت استجابة لتحديات وظروف غريبة عن واقع بلدانها , بل نبعث من واقع شعوبها .

ولذلك فإنها لم تعان من حالة اغتراب اجتماعي أو سياسي أو ثقافي في محيطها , وقد أدركت منذ البداية أنها تتحرك في مجتمع يقوم على قاعدة فكرية هي نفسها القاعدة التي تؤمن بها شعوبها , وهذا ما جعلها أقرب إلى تلك الشعوب وإلى وجدانها .

مقاومة الهيمنة الاستعمارية

يشكل هذا العامل واحدا من أهم عوامل التعبئة التي تجعل الناس يقبلون على التيار الإسلامي , لقد خضع العالم الإسلامي لعقود طويلة للهيمنة الاستعمارية , وبعد التحرر من الاستعمار العسكري بقيت الهيمنة السياسية والاقتصادية تشكل عبئا ينوء تحته .

ودأب العديد من القوى الغربية على التدخل المباشر في بلدان العالم الإسلامي لتكريس حالات التفرقة والخلاف العنصري والطائفي وافتعال مشاكل الحدود والنزاعات الإقليمية , وتم تشريد الشعب الفلسطيني واقتطاع فلسطين من جسم العالم الإسلامي , واستمر دعم العديد من القوى الغربية للكيان الصهيوني الذي قام طوال أكثر من نصف قرن بارتكاب مختلف أشكال المجازر والاعتداءات ضد الفلسطينيين وضد شعوب عربية أخرى .

واستمرت قوى الهيمنة الغربية في عرقلة مختلف محاولات التحرر والنهوض ودعمت العديد من الأنظمة القمعية في بلدان العالم الإسلامي , وفي غيرها من بلدان العالم الثالث , وبعد إطلاق الولايات المتحدة حربها على " الإرهاب " ازدادت الاعتداءات في أفغانستان والعراق وغيرها .

إنه سيناريو يشعر المواطنين في بلداننا بالإهانة والقهر والظلم فيتجهون في عمومهم إلى الدين وإلى الحركات الإسلامية كتعبير عن الرفض وتوق إلى الأمل في مستقبل تسوده العزة .

وبينت بعض الدراسات أن الانتهاكات المتواصلة لحقوق الإنسان العربي والمسلم , وحقوق الشعوب العربية والمسلمة والغضب الشعبي العارم إزاء السياسة الأميركية , لها علاقة مباشرة بالإقبال على الحركات الإسلامية .

كما أن موقف التيار الإسلامي من تلك السياسة ومناهضتها , ساهم في رصيده ومصداقيته لدي الرأي العام وأضر بعدد من الأحزاب السياسية التقليدية التي لم تبد اهتماما كبيرا بها .

الفاعلية الاجتماعية

فالحركات الإسلامية تملك فاعلية اجتماعية عالية تمكنها من اكتساب احترام الناس وثقتهم , فأبناؤها حاضرون مع عموم المواطنين يشاركونهم الأفراح والأتراح , بتجرد ودون بحث عن مقابل .

ولا شك أن ذلك يمكنهم من تشكيل التوجهات السياسية والاجتماعية لشرائح واسعة من المجتمع كما أن الغالبية الساحقة من قيادات وأطر وأعضاء الحركات الإسلامية فاعلون نشيطون في المجتمع قبل أن ينتقلوا إلى الحركة السياسية , وكثير منهم من طبقات شعبية فقيرة أو متوسطة .

ونجاح هذه الفاعلية الاجتماعية لا يعود إلى توفر الإسلاميين على إمكانات مادية هائلة , فذلك غير صحيح في أغلب الحالات , كما أن الأحزاب الحاكمة والأحزاب المنافسة تتوفر على إمكانات تفوق بكثير إمكانات الحركات الإسلامية .

لكن تلك الفاعلية ونجاحها في الواقع يعود أساسا إلى ما عرف عن أبناء الحركات الإسلامية عموما من نظافة في اليد , ونزاهة في المعاملات , ومحاربة للرشوة , وجدية في العمل مما أكسبهم ثقة الناس , ونظن أن هذا يرتبط بالعامل الأول الذي يعطي التربية الإيمانية والأخلاقية .

ولا يجعل ذلك أبناء الحركة الإسلامية بعيدين عن الخطأ والأعراف لكن ذلك يدعم قيم الاستقامة والنزاهة , ويقوى قبول الناس لهم .

فشل التجارب السابقة

السبب الرابع وراء شعبية الحركات الإسلامية هو إفلاس البرنامج السياسي والاقتصادي للأنظمة المتعاقبة في العديد من دولنا وللأحزاب السياسية الأخرى .

لقد أدي تدبيرها للشأن العام إلى العديد من الاختلالات الاجتماعية , وعرف الكثير منها بالفساد وإيثار المصالح الخاصة على المصالح العامة وتفشي مشاكل مزمنة من فقر وأزمات اقتصادية طاحنة ... وهذا ما جعل المواطن العربي يشعر بحالة من الاستياء والإحباط , وجعله يتوجه للجماعات الإسلامية بحثا عن مخرج لهذا الانسداد في الأفق السياسي والاقتصادي .

ومع تناقص مصداقية النخب والأحزاب التقليدية لدى المواطنين , وعدم اقتناعهم بوجود فرص حقيقية في حياة ديمقراطية وعيش كريم , لجؤوا إلى التصويت العقابي ضد تلك النخب والأحزاب وعلقوا كل أملهم على هذا الوافد الجديد على العمل السياسي والمتمثل في الحركة الإسلامية .

وقد كان هذا السبب واضحا في تحليل النتائج التي حصلت عليها حركة حماس في الانتخابات التشريعية الأخيرة وكون ذلك رد فعل على فساد بعض من كانوا في السلطة من المنافسين .

لقد استفادت الحركة الإسلامية في الغالب من المشاكل التي تعيشها النخب السياسية والاجتماعية الأخرى , والتي تعتبر مسئولة عما آلت إليه أوضاع بلداننا , وخصوصا أن الناس يعتبرون الحركة الإسلامية في الواقع تقوم بمهام معارضة الفساد والاختلالات .

وبعد :هذه هي إذن أهم عوامل الحضور الشعبي المتزايد للحركات الإسلامية , وهي لا تستوعب كل العوامل الكامنة وراء شعبيتها لكنها في رأيي الأهم والأكثر تأثيرا .

ويظهر أن منها عوامل ذاتية مرتبطة بالهوية الإسلامية وطبيعتها و منها ما هو موضوعي يرتبط بطبيعة التطورات والتحولات التي تجرى في الواقع الإنساني والسياسي والاقتصادي في العالم الإسلامي .

أما إتقان العمليات الانتخابية والبراعة فيها , وهو المعطي الذي برهنت عليه تلك الحركات في مختلف التجارب التي شاركت فيها , فليست إلا نتيجة لهذه المقدمات التي جعلت الحركة الإسلامية اليوم تتميز بالحيوية والقدرة على التأقلم مع حاجات الواقع وإكراهاته .

المد الإسلامي في المجالس التشريعية ... نتائج انتخابية

سيد أحمد

الجزيرة نت

يمكن تصنيف الحركات الإسلامية الموجودة في بعض البرلمانات العربية إلى ثلاثة أنواع :

1- حركات دخلت البرلمان تحت شعار أحزاب أو جمعيات إسلامية كما هو الحال في الأردن والبحرين والكويت ولبنان .
2- حركات دخلت البرلمان تحت شعار أسماء لا تحيل في الوهلة الأولي على البعد الإسلامي كما هو الحال في الجزائر وفلسطين والمغرب واليمن والسودان .
3- حركات حصلت على نواب بواسطة الترشح المستقل كما هو الحال في مصر .

وانطلاقا من هذا التقسيم الثلاثة , يمكن رصد وجود التشكيلات الإسلامية في البرلمانات العربية تناميا واطرادا أو تقاعسا وغيابا .

في البرلمان الأردني

يعرف البرلمان الأردني باسم " مجلس النواب " ويتكون من 110 مقعدا وتم أخر تجديد لأعضائه في 17 يونيو / حزيران 2003 وسيكون تجديده القادم في سنة 2007.

ويمثل الإسلاميين في مجلس النواب الأردني أساسا حزب جبهة العمل الإسلامي المتأسس سنة 1992 , وعدد نوابه في البرلمان الحالي 17 نائبا .

ويمثل هؤلاء نسبة 15,5% من مقاعد المجلس , ويشكلون بذلك أكبر كتلة حزبية في المجلس , وعضو الحزب د. عبد اللطيف عربيات كان رئيس مجلس النواب الأردني سابقا .

في مجلس النواب البحريني

يعرف برلمان باسم " مجلس النواب " ويضم 40 مقعدا وينتخب العضو لمدة 4 سنوات , وكان آخر انتخاب لأعضائه خلال جولتين تمتا نهاية أكتوبر / تشرين الأول 2002 ,ويتوقع تجديدهم في السنة الجارية 2006.

وقد تجلت سيطرة التيار الإسلامي على نتائج الانتخاب بالأغلبية المطلقة في الجولتين الأولي والثانية , وقد فازت التشكيلات الإسلامية ( سنة وشيعة ) معا بـ 19 من أصل 40 مقعدا , وفاز مرشحون مستقلون محسوبون على الإسلاميين السنة بـ 11 وآخرون محسوبون على التيار الشيعي بـ 7 مقاعد , ولم يحصل الليبراليون إلا على 3 مقاعد ( سنيان وشيعي ).

وتتوزع هذه المقاعد على التشكيلات الإسلامية السياسية كالتالي :

السنة 15 مقعدا موزعة كالتالي :

1. سبعة مقاعد منها حصدتها جمعية المنبر الوطني الإسلامي ( إخوان مسلمون )
2. سبعة مقاعد كانت من حظ السلفيين ,
3. مقعد لسني من جمعية ميثاق العمل الوطني .
4. الشيعة 4 مقاعد كانت فازت بها جمعية الرابطة الإسلامية .

في مجلس الأمة الكويتي

يعرف البرلمان الكويتي باسم " مجلس الأمة" ويضم 50 مقعدا وينتخب كل 4 سنوات , وكانت آخر انتخابات عرفها المجلس بتاريخ 5 يوليو /تموز 2003 , ويتوقع تجديد النواب في سنة 2007 .

وقد حصل الإسلاميون في الكويت على 18 مقعدا في آخر انتخابات أى نسبة 36% من مقاعد المجلس , وهم موزعون إلى جناحين :

• سني منقسم إلى :

- الحركة الدستورية الإسلامية ( إخوان مسلمون ) 5 مقاعد في المجلس السابق.
- جمعية إحياء التراث ( سلفيون تقليديون ) 10 مقاعد.
- الحركة السلفية ( سلفيون جدد ) 6 مقاعد .
- شيعي يمثله التحالف الإسلامي الوطني 5 مقاعد .

في البرلمان اللبناني

يعرف البرلمان اللبناني باسم " مجلس النواب " ويضم 128 عضوا منتخبين لمدة خمس سنوات , وكان آخر انتخاب له في منتصف سنة 2005 ويتوقع أن يجدد في سنة 2009 .

وفي أول انتخاب نيابي بعد اتفاق الطائف تم تجديد المجلس الرابع عشر سنة 1992 لتأخذ الجماعة الإسلامية السنية 3 مقاعد , وتأخذ جمعية المشاريع الخيرية السنية كذلك مقعدا واحدا ويحصل حزب الله الشيعي على 12 مقعدا .

وغداة انتخاب المجلس الخامس عشر سنة 1996 لم تحصل الجماعة الإسلامية إلا على مقعد واحد في حين لم تفز جمعية المشاريع الخيرية بأى مقعد وتراجع رصيد حزب الله ليصبح 5 مقاعد .

وفي انتخاب المجلس السادس عشر سنة 2000 لم تفز الجماعتان السنيتان بأى مقعد وحصل حزب الله على 8 مقاعد وفي الانتخاب الأخير لمجلس النواب في منتصف سنة 2005 رفع حزب الله حصته إلى 14 مقعدا وظلت الجماعتان السنيتان غائبتين عن المشهد البرلماني .

في البرلمان الجزائري

ينتخب المجلس الشعبي الوطني " كل خمس سنوات وهو أحد غرفتي البرلمان الجزائري , ويضم المجلس الآن 389 مقعدا , وآخر انتخابات عرفها كانت 30 مايو / آيار 2002 ويتوقع أن يجرى تجديد أعضائه سنة 2007 .

وفي الانتخابات النيابية التي جرت في ديسمبر / كانون الأول 1991 حصلت جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجولة الأولي على 188 وكان يتوقع أنه لو جرت الجولة الثانية لحصلت الجبهة على 250 مقعدا , ولكن قادة الجيش جمدوا نتائج الانتخابات وحلو جبهة الإنقاذ واعتقلوا قادتها .

وفي انتخابات 1995 النيابية لم تشارك جبهة الإنقاذ المحظورة وحصلت حركة مجتمع السلم ( الإخوان المسلمون ) على 61 مقعدا وحصل حزب النهضة الإسلامي على 34 مقعدا .

وفي تشريعيات 2002 حصلت حركة مجتمع السلم على 38 مقعدا وحصلت حركة النهضة على مقعد واحد .

في البرلمان الفلسطيني

يعرف البرلمان الفلسطيني باسم المجلس التشريعي ويبلغ عدد مقاعد 132 مقعدا وينتخب أعضاؤه لخمس سنوات وتم آخر تجديد له في 25 يناير / كانون الثاني 2006 .

وكانت نتيجة الاقتراع الأخير فوز حماس التي شاركت بلائحة اسمها التغيير والإصلاح ونالت 76 مقعدا وحصلت حركة فتح على 45 مقعدا ثم جاءت القوى السياسية الأخرى بعد ذلك بنسب ضيئلة .

في البرلمان المغربي

يعرف البرلمان المغربي باسم " مجلس النواب " ويضم 325 مقعدا وينتخب كل 5 سنوات وآخر انتخاب عرفه المجلس جرى في 27 سبتمبر / أيلول 2002 ويتوقع أن يجرى تجديد أعضائه في ربيع سنة 2007 .

ويعرف حزب الإسلاميين في مجلس النواب المغربي باسم حزب العدالة والتنمية .

وهو اتحاد بين حركة الإصلاح والتجديد وبين الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية وأخذ هذا الاتحاد نهاية عام 1998 اسم " حزب العدالة والتنمية " وحصل في انتخابات 2002 على 42 مقعدا وهو ثالث قوة برلمانية بعد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال وكان عدد مقاعده في انتخابات 1997 لا تتعدى 14 مقعدا .

في البرلمان اليمني

يعرف البرلمان اليمني باسم " مجلس النواب " ويضم 301 مقعدا وينتخب كل ست سنوات وآخر انتخابات عرفها المجلس جرت في 27 أبريل / نيسان 2003 ويتوقع أن يجرى تجديد أعضائه في سبتمبر / أيلول 2006 .

ويعرف حزب الإسلاميين في مجلس النواب اليمني باسم " التجمع اليمني للإصلاح " المسمى اختصارا بحزب الإصلاح .

وقد تأسس سنة 1990 ويحتل الرتبة الثانية في المشهد الحزبي اليمني , ويرأسه شيخ كونفدرالية قبيلة حاشد عبد الله بن حسين الأحمر كما يرأس مجلس النواب كذلك وقد فاز حزب الإصلاح في آخر انتخابات بـ 46 صوتا ثم انضم إليه بعض المستقلين صار عدد مقاعده 50 .

وقد عرفت مقاعد حزب الإصلاح في مجلس النواب تراجعا : ففي انتخابات أبريل / نيسان 1993 - 70 مقعدا , ثم حصل على 54 مقعدا في انتخابات أبريل / نيسان 1997 , أما في انتخابات أبريل / نيسان 2003 فكان حظه 46 مقعدا .

في البرلمان السوداني يعرف البرلمان السوداني باسم " المجلس الوطني , ويضم 450 مقعدا , ومدة انتخاب المجلس هي 5 سنوات , وتمت آخر انتخابات عرفها المجلس في ديسمبر / كانون الأول 2000 .

وقد دخل الإسلاميون السودانيون المجلس الوطني في نيابيات 1986 ممثلين بالجبهة الإسلامية بقيادة د. حسن الترابي فنالوا 51 مقعدا محتلين المرتبة الثالثة بعد الحزبي التقليديين في السودان ( الأمة والاتحاد ) .

وبعد انقلاب 1989 , تغير اسم الجبهة الإسلامية ليصير حزب المؤتمر الوطني الذي حصد في نيابيات 1996 من المقاعد 340 من أصل 360 وأصبح د. الترابي رئيسا للبرلمان .

وفي عام 1999 انقسم حزب المؤتمر الوطني فاحتفظ الرئيس لتنظيمه باسم " حزب المؤتمر الوطني " وانشق د .

الترابي بجزء سماه " حزب المؤتمر الشعبي " وفي انتخابات 2000 التشريعية , وفي غياب مشاركة أحزاب المعارضة بما في ذلك حزب المؤتمر الشعبي اكتسح حزب المؤتمر الوطني بقيادة الرئيس البشير غالبية المقاعد النيابية فحصاد 355 مقعدا من أصل 360 مقعدا .

في البرلمان المصري

يعرف البرلمان المصري باسم مجلس الشعب ومجموع أعضائه 454 , يتم اختيار عشرة منهم بقرار رئاسي وانتخاب 444 عضوا من قبل الشعب , وكان آخر انتخاب للمجلس في نهاية سنة 2005 ومن المقرر أن يكون الانتخاب الموالي بعد خمس سنوات .

ويعود حضور الإسلاميين في مجلس الشعب المصري إلى منتصف الثمانينيات حيث شارك الإخوان المسلمون – المحظورون سياسيا – في الانتخابات النيابية التي جرت عام 1984 تحت غطاء حزب الوفد وحصلوا على 8 مقاعد .

ثم شاركوا في تحالف سنة 1987 مع حزب العمل وحزب الأحرار وكان نصيبهم 37 مقعدا في المجلس وتعرض الإخوان عام 1995 لتضييق واعتقالات واسعة لمنه نجاحهم في الانتخابات وتكرر الأمر نفسه عام 2000 وإن تمكن الإخوان برغم ذلك من إحراز 17 مقعدا في المجلس النيابي في تلك السنة .

الإسلاميون والإصلاح السياسي

نبيل شبيب

بعد أن كانت الكلمات المتداولة أكثر من سواها في أوساط التيار الإسلامي تدور حول محوري التغيير الجذري الشامل والحكم الإسلامي الراشد أصبحت في الوقت الحاضر تدور حول محاور الإصلاح السياسي , والحكم الديمقراطي , والتعددية , والانفتاح على الآخر , والوسطية , مما يؤكد أن عملية التطوير فكرا وحركة أخذت مجراها , تدريجيا علي الأقل , وأن الإسلاميين قطعوا مرحلة كبيرة وتجاوزوا عقبات كانت تبدو كأداة قبل جيل واحد.

إصلاح ...بتفاوت

وعند النظر في واقع الحركات الإسلامية , في السلطة وخارجها في تركيا والمغرب في إيران في مصر وسوريا , في الكويت ومنطقة الخليج .

ناهيك عن الأوضاع الخاصة في الجزائر والعراق وفلسطين , نجد أن التطور لم يتحقق بصورة متجانسة , فالاتجاه واحد مشترك ولكن تتفاوت الحدود القصوى أو الخطوط الحمراء بين حركة وأخرى مما يمكن تفسير بعض عناوينه فقط باختلاف الظروف المحلية.

إذ يعود التفاوت أيضا إلى أسباب ذاتية واجتهادات متباينة بصدد الجمع بين المنطلق الإسلامي شرعيا والتعامل مع الواقع السياسي القائم .

باستثناء حزب التحرير والحركة الشيعية في إيران , لم تعد الأطروحات السياسية الإسلامية تركز على صيغة الخلافة أو الإمامة ولاية الفقيه . وإلى جانب المصطلحات الإسلامية كالشورى والعدالة والبيعة تستخدم البدائل الإسلامية المطروحة مصطلحات نشأت في الأصل خارج نطاق الفكر الإسلامي كالديمقراطية والتعددية والانتخابات تعبيرا عن الإرادة الشعبية .

وهو ما يثير إشكاليات داخل نطاق الحركات الإسلامية التي تجد نفسها أمام ضرورة التوفيق بين مناهج التربية والتوعية التي نشأ عليها أتباعها وأنصارها دون استخدام تلك المصطلحات , وبين تسويغ استخدامها حديثا وبيان أن الحركات الإسلامية لا تتخلي بذلك عن منطلقاتها الإسلامية , والأهداف أو الشعارات المطروحة تبعا لذلك مثل حكم الشريعة والإسلام هو الحل , والشورى .

هل الإصلاح ذريعة ؟

وبالمقابل تكشف نظرة الخصوم التقليديين إلى هذه الإشكاليات عن خلل في القدرة الذاتية على التعامل مع الطرح الإسلامي الجديد , كما يظهر عند التأمل في أساليب المتشددين من العلمانيين و" الليبراليين " التشكيكية على النقيض من القوميين , أو النسبة الأكبر منهم , ممن اختاروا طريق الحوار , فأمكن الوصول بينهم وبين الإسلاميين إلى معالم أرضية مشتركة للعمل من أجل إصلاح سياسي .

مشكلة المتشددين هنا ناجمة في الدرجة الأولي عن أن وصول تياراتهم إلى السلطة اقترن بتفريغ شعارات الديمقراطية والحرية من مضامينها , وهذا مما يجعل الاتهام الموجه إلى التيار الإسلامي بشأن نوايا حركاته ورجالاته اتهاما معكوسا , وهو هنا لا يقف عند حدود النوايا , بل يصل إلى مستوى الإدانة بعد أن ظهر الدليل من خلال التجربة العملية .

الاتهام الرئيسي القائل بأن الحركات الإسلامية تتخذ من أطروحات الديمقراطية والتعددية والتداول على السلطة ذريعة للوصول إلى السلطة وإلغاء الآخر لاحقا , اتهام ضعيف من زاوية أخرى , وهي أن طرح الديمقراطية فكريا والخوض في ممارسات ديمقراطية على أرض الواقع ليس جديدا كل الجدة في تاريخ الحركات الإسلامية .

فعلي الصعيد الفكري نجد منذ الخمسينيات الميلادية كتبا وبيانات وأدبيات إسلامية عديدة تتحدث عن الشورى وتستخدم تعبير الديمقراطية مباشرة ومعظمها ينطلق من الانتخابات وسيلة لتحقيقها .

كما أن المشاركة الفعلية في انتخابات ديمقراطية كانت جزءا من الواقع السياسي في سوريا في أواخر الأربعينيات وأوائل الستينيات الميلادية , أما عدم ظهور مزيد من الأطروحات والممارسات في العقود التالية , فلا ينفصل عن حقيقة نشوء أنظمة استبدادية باتجاهات غير إسلامية حالت دون الممارسات الديمقراطية عموما .

وباستثناء حالة الانقلاب العسكري الخاصة بالسودان وحالة الثورة الشعبية الخاصة بإيران نجد أن الحركات الإسلامية لم تمتنع عن المشاركة الديمقراطية الجزئية المتاحة .

كما في الكويت واليمن , فضلا عن تركيا رغم القيود المفروضة التي تجعل المشاركة الإسلامية في الديمقراطية مشروطة بالمرجعية العلمانية المتشددة مسبقا .

ثم الجزائر حيث ظهر أن المطلوب علمانيا – في أفضل الحالات ديمقراطية – يستثني الإسلاميين وإن حصلوا على غالبية الأصوات وهو ما يتكرر في حالة فلسطين وحماس بصورة جديدة .

الإشكالية الكبرى

إن الإشكالية الأكبر المطروحة على ساحة الإصلاح السياسي هي إشكالية المرجعية هل تكون إسلامية أم علمانية , حيث أن أسس الطرح الفكري من الجانبين لا يلتقي على التصورات الكبرى حول الكون والإنسان وبالتالي لا يمكن العثور على حل وسطي .

المرجعية .... الواقع والطموح

فالطرفان يحتاجان إلى أرضية مشتركة تحدد المعطيات والشروط والقواعد الملزمة على أرض الواقع العملي , دون إسقاط اختلاف التصورات المرجعية الكبرى أو تجاهله .

المرجعية تحدد صياغة الدستور , والأطر القانونية الكبرى وتنطوي – وهنا محور الجانب التطبيقي – على خطوط حمراء تقررها التشريعات القانونية فتحدد حرية أصحاب مرجعية أخرى غير التي يؤخذ بها تبعا للإرادة الشعبية بموافقة الغالبية . ويحسن التنويه هنا بعدم وجود حرية " مطلقة " في أى نظام حكم سياسي قديم أو حديث فالمفاضلة الممكنة هي ما بين مرجعية وأخرى بمقدار حجم مجال الحرية المقرر للآخر وحرية حركته , ثم مصداقية ضمانات البقاء على ذلك واستمراره .

الحركات الإسلامية لا تطرح مشاريع الإصلاح السياسي حتى الآن مع مسألة المرجعية بصورة قاطعة واضحة وبالمقابل يتشبث الطرف الآخر بالمرجعية العلمانية سواء كان في السلطة أو خارجها .

نجد مثلا أن حركة الإخوان المسلمين في سوريا حالة المنفي تمضي إلى أقصي مدى في مشاريع الإصلاح المشتركة مع الآخر من مختلف أطياف المعارضة السورية ولكن لا يصدر عنها موقف ينطوي على التخلي عن " المرجعية الإسلامية " لصالح مرجعية علمانية , بل يقوم التعاون على أرضية هدف عملي مشترك رغم اختلاف المرجعيتين , وشبيه ذلك يسري على ما شهدته حركة الإخوان المسلمين في مصر / حالة الحظر الرسمي .

وبالمقابل نجد أن قطاعا كبيرا من العلمانيين وكذلك القوى الدولية يطالبون جميعا التيار الإسلامي بمطلب مشترك علي اختلاف الصياغات محوره الاعتراف بالمرجعية العلمانية منطلقا للحكم , ويطرحون لذلك النموذج التركي على وجه التخصيص .

في الأصل لا يمكن منطقيا وواقعيا مطالبة أحد الطرفين بالتخلي عن مرجعيته فهي تعني إلغاء وجوده السياسي بإلغاء أصوله انتمائه " الفكري " كما تعني تغييب أى شكل من أشكال الحوار , الذي لا يستقيم دون تعدد الانتماء الفكري وتغييب إمكانية إيجاد أرضية عمل مشتركة , فالحاجة إليها ناجمة ابتداء عن الحاجة إلى قواعد تضبط التعامل بين أكثر من طرف بمنطلقات فكرية متباينة .

بهذا المنظور يمكن القول إن الشوط الذي قطعته حركات إسلامية عديدة لإيجاد شروط موضوعية للحوار ولأرضية مشتركة شوط أكبر بشكل ملحوظ من الشوط الذي قطعته الانتماءات الأخرى , باستثناء القوميين .

انجازات وعوائق

وهنا تبرز ميزات المطروح إسلاميا للإصلاح السياسي , إذ يتبني مصطلحات كان الآخر يتبناها , ويطالب بتطبيق آليات كان الآخر يطالب بها , ويعلن عبر دراسات ومواثيق وبيانات عديدة عن مواقف إصلاحية تجديدية وتصورات مستقبلية , تناولت ما كان الآخر يعتبر , أو يزعم أن عدم طرحه إسلاميا عقبة في وجه التلاقي مع الإسلاميين .

مثل النظرات التجديدية الوسطية لقضايا الشريعة في الحكم , والردة في الحرية الدينية , والمرأة في الحقوق والحريات الإنسانية وصناديق الاقتراع في التعبير عن الإرادة الشعبية , وتداول السلطة في إطار التعددية السياسية والحزبية , ومن المؤكد أن تركيز ردود الآخر على التشكيك في النوايا أو التشكيك في القدرة على تطبيق المعلن , هو شهادة على عدم وجود حجج منطقية للرد على المضامين المطروحة , والتي باتت من الكثافة والانتشار بحيث يفقد التشكيك مفعوله أيضا .

ولا يمكن الحكم سلفا على مدى قدرة الإسلاميين على تطبيق ما يطرحونه على أرض الواقع العملي , فالحياة السياسية عموما أقرب إلى ساحة لتجربة المطروح من التصورات والأفكار الكبرى نظريا على أرضية التنفيذ عبر الكيانات السياسية واقعيا والتجربة تصقل المطروح نظريا من المناهج التطبيقية وتعطيها أشكالا مبدئية تتطور تدريجيا ويتناقض مع أنفسهم الذين يطالبون بدليل قطعي مسبق على سلامة تطبيق مستقبلي محتمل .

لم يكن ممكنا عند طرح النظريات الكبرى للرأسمالية أو الشيوعية , ولا " الليبرالية " الحكم مسبقا على مستقبل أى منها كما نعاصره فيما وصلت إليه الرأسمالية المتشددة أو الشيوعية المنهارة , أو ما يسمي الليبرالية الجديدة ولا يمكن منطقيا التعاطي مع الطرح الإسلامي الجديد بموازين أخرى .

ومن الإشكاليات أن كثيرا مما طرح إسلاميا من جانب الحركات السنية , ربط بين المطلوب مستقبلا وبين الماضي من العهد النبوى والراشدي , بينما أخذ المطروح إسلاميا من جانب الحركات الشيعية اتجاها انقلابيا عبر اجتهاد ولاية الفقيه " كما هو معروف .

ووجه الإشكال كامن في أن أساليب هذا الطرح الإسلامي أعطت خصوم التيار الإسلامي فرصة الخلط غير المنطقي بين عدة أمور منفصلة عن بعضها بعضا في الأصل لتعزيز خصومتهم بما يتجاوز :

1- أن الربط بين الحاضر أو المستقبل والماضي هو ربط منطلقات وتصورات كبرى , وليس ربط تطبيقات تفصيلية تحكم الظروف التاريخية الآنية بصياغتها وتبدلها , وقد استطاعت الأطروحات الإسلامية الجديدة تجاوز هذه العقدة بصورة ملموسة .
2- وأن التجارب الحديثة نسبيا كما في إيران والسودان وتركيا , على الاختلاف الواضح بينها , لها ظروف ذاتية بعد مرور عدة أجيال على قيام الحدود السياسية المعاصرة ويحكم على كل منها بالنجاح أو الإخفاق بمعايير الإسلام , ولا يمكن اعتبارها مصدر للحكم على الإسلام نفسه , إلا بقدر ما يمكن الجمع به مثلا بين تجربة ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية قبل إعادة توحيد ألمانيا , للحكم على الديمقراطية التي كانت عنوان كل منهما على السواء , ولو اعتمدت تلك التجارب لوجب اعتماد الحصيلة المرة والخطيرة لعشرات التجارب لحكم العلمانية في البلدان الإسلامية .
3- وأن المقاومة بين المناهج الحركية ومناهج الحكم غير متكافئة فمن طبيعة سائر الاتجاهات أن تطرح في مناهجها الخطوط العامة وشيئا من التفاصيل وليس كل التفاصيل , أما في دولة يتخذ فيها كل فريق مكانه من سلطة منتخبة تحكم ومعارضة حزبية ونيابية معترف بها , فآنذاك تطرح التفاصيل حسب الاحتياجات المتقلبة , ولا يزال العدد الأكبر من الحركات الإسلامية في حكم المحظور , لم يصل إلى السلطة , ولم يأخذ مكانه بصورة مضمونة قانونيا في مقاعد المعارضة فلا يمكن أن يطرح تصورات تفصيلية , شأنه في ذلك شأن أى اتجاه آخر يحظر عليه العمل أو يقيد .

واجبات كبرى

لا ينفي ما سبق أن إمام الحركات الإسلامية واجبات كبرى لم يكتمل أداؤها بالمستوى الذي يجعلها مؤهلة للنجاح في السلطة , وكلمة لم يكتمل تعني أن الجهود تبذل في هذا الاتجاه ولكن لم تصل مداها بعد , وقد بدأت تظهر الحاجة إلى :

1- طرح صيغ عملية شمولية من جانب الحركات وليس عبر أفراد وإن كانوا قياديين حركيين , تكون أكثر تفصيلا بشأن شكل الحكم الإسلامي المطلوب بجوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعلاقاته الدولية .
2- تثبيت الأطر الضرورية للتعامل مع المرجعية العلمانية قبل الوصول إلى السلطة وبعدها ,بما يوضح نقاط الاختلاف الجذري وبالتالي ما يوجب الاحتكام للإرادة الشعبية للمفاضلة بين أكثر من مرجعية – وفق ما سبق التنويه به – وما يوضح نقاط الاختلاف في الميادين التطبيقية ليكون الاحتكام للإرادة الشعبية هو الأساس المطروح على صعيد تداول السلطة واختيار المناهج التفصيلية في مختلف الميادين .
3- مضاعفة جهود التوعية , على مستوى أنصار الحركة الإسلامية تنظيما , أو من خلال الصحوة الإسلامية الشعبية , بما يشمل بيان التطورات الجديدة في المطروح إسلاميا , ولتخفيف حدة الخلافات القائمة طائفيا , بين السنة والشيعة , أو حركيا , بين اتجاه وآخر تحت مظلة إسلامية مشتركة , أو سياسيا مع أصحاب الاتجاهات الأخرى , وقد يكون هذا الواجب هو الأكثر إلحاحا من سواه في الوقت الحاضر .

مستقبل العلاقة بين الإسلاميين والسلطة

محمد مختار الشنقيطي

كاتب متخصص في الشؤون الإسلامية

( حركة المقاومة الإسلامية حماس ) تجتاح الانتخابات الفلسطينية والإسلاميون الأتراك يقودون بثقة , والإخوان المسلمون في مصر ينتقلون من غياهب السجون إلى قبة البرلمان , وتونس تطلق سراح العديد من أعضاء حركة النهضة بعد عقدين من القهر والتعذيب الوحشي والجزائر تطلق سراح من حرمتهم حريتهم وجرمتهم بالأمس , وليبيا تفتح أبواب سجونها ليخرج منها إسلاميون لم يروا النور منذ سنين , والحركات الإسلامية السياسية تعزز مواقعها في الأردن والمغرب وباكستان وفي كل ذي غالبية مسلمة بدون استثناء .

وحتى في العراق المحتل لم يجد الأميركيون بدا من التحالف مع الإسلاميين الشيعة , ردا على مقاومة الإسلاميين السنة للاحتلال بشراسة .

مسار التعايش

تلكم ظواهر لم يستوعبها أيمن الظواهري تمام الاستيعاب حينما افتخر مؤخرا بأن ضربات القاعدة هي التي منحت الحركات الإسلامية السياسية ما حصلت عليه من " فتات الديمقراطية , فليس من ريب أن في هذا القول شططا ومبالغة وتضخيما لدور وتحجيما لآخر .

مثابرة الإسلاميين وشيخوخة الأنظمة

فالحركات الإسلامية السياسية شادت تراكمات من الوعي السياسي والاجتماعي بعيد المدى دفع إلى فتح منافذ الإصلاح والانفتاح , وقضى على أنظمة الحكم الحالية بالموت البطئ فهذه الحركات تجني اليوم قطاف مصابرة مريرة ومنازلة طويلة للاستبداد استمرت ثمانية عقود .

لكن الرجل الثاني في تنظيم القاعدة قد يكون محقا في جانب واحد من ملاحظة وهو أن الغرب لم يكن ليسمح للسياسيين الإسلاميين بهامش من الحرية , ويصبح دافعا إلى إشراكهم بعدما كان مانعا منه , إلا لأن لهيب الحريق السياسي الذي يلتهم العالم الإسلامي قد وصل إلى نيويورك وواشنطن ومدريد ولندن .

كما أن أنظمة الحكم ما كانت لتسمح للحركات الإسلامية بهذا الهامش لولا أنها أدركت – بعد أن أدرك ظهيرها الخارجي – أن البركان بدأ يقذف بحممه على الجميع , ويوشك أن يفتح فاه ليلتهم الجميع .

فالبناء الاستبدادي الذي نخرته وأنهكته حركات الإسلام السياسي بالوعي والنضال المدني جاءت القاعدة لتجهز عليه بحربها المفتوحة , والحرب تسرع بحركة التاريخ وليست حرب القاعدة استثناء من تلك القاعدة .

ويمكن القول إن كلا من الحركات الإسلامية السياسية والأنظمة الحاكمة قد توصلا إلى ضرورة التعايش , كل من وجهته .

• فالحركات الإسلامية بدأت منذ الثمانينيات من القرن العشرين تتشرب الفكر الديمقراطي ووسائل النضال السلمي , وابتعدت عن الفكر الإطلاقي , واقتربت من الواقعية والروح العملية .
• والأنظمة أدركت أن قمع الحركات الإسلامية لا يزيدها إلا رسوخا وإمتدادا , وأن كل المكاسب التكتيكية المتحصلة من قمع هذه الحركات تتحول خسارات إستراتيجية على المدى البعيد .

ولم تسلم من هذا التحول حتى الحركات التي ترى في القوة العسكرية سبيلا وحيدا للمنازلة السياسية , مثل " القاعدة ورافدها ومشتقاتها .

فقد تخلت هذه الحركات الجهادية إلى حد بعيد عن مواجهة الأنظمة , وصدرت معركتها من العدو الأقرب ( الحكام ) إلى العدو الأبعد ( الولايات المتحدة ) , ولولا المناوشات التي لا تزال تطفو على السطح من حين لآخر في السعودية والجزائر لأمكننا تعميم هذه الخلاصة .

أهداف غير متناقضة

ويبدو أن هجمات 11 سبتمبر / أيلول وأخواتها , قد دفعت الأنظمة العربية والحركات الإسلامية السياسية إلى تقارب غير مرغوب فيه , وكأن كلا الطرفين يتمثل ببيت المتنبي :

ومن نكد الدنيا على الحر أن يري

عدو له من صداقته بد

فالأنظمة الحاكمة – والغرب من ورائها – بدأت تدرك أن الانفتاح على الحركات الإسلامية السلمية المنطق والمنهاج مفيد لها في معركتها ضد الحركات الجهادية .

والحركات الإسلامية السياسية أدركت أن تقويض جهاز الدولة من خارجه أمر متعذر وباهظ الثمن , كما دلت عليه تجارب الجماعات الجهادية في مصر والجزائر .

وكأنما أصبحت أنظمة الحكم والحركات الإسلامية تؤمن بمقولة الاستراتيجي الأميركي روبرت ووهلستر الذي كان يقول متحدثا عن المرحوم الاتحاد السوفياتي :

ليست أهدافنا مناقضة لأهداف عدونا .

وكأن كليهما أصبح يؤمن بحكمة الشاعر الفيلسوف محمد إقبال الذي يقول :

أرافق في طريقي كل سار

وأعطيه نصيبا من طريقي

ولم أر في طريق مستعدا

يكون إلى نهايته رفيقي

فالتغلب على مشاق الطريق يقتضي البحث عن رفقة مهما كان الخلاف مع تلك الرفقة كبيرا , ومهما كان السير معها محدودا زمنيا , والخلاف مع أى من السائرين لا يقتضي حتما استحالة قطع جزء من الطريق في صحبته , إذ الصحبة الدائمة بعيدة المنال ..

وهذا مستوى متقدم من الواقعية السياسية لم يكن مألوفا في نمط التفكير السائد لدى أنظمة الحكم المسلمة المتصلبة البنية والأداء , ولا كان متوقعا من الحركات الإسلامية التي شغلها التغني بالمبادئ الجليلة ردحا من الزمن عن التفكير العملي في تنزيلها على الأرض برامج من لحم ودم ..

العوامل المؤثرة على المستقبل

ويبقي تعامل الحركات الإسلامية مع الحكومات مسألة نسبية تخضع لظروف المكان , فلا مجال لوضع صيغ نظرية عامة حولها تصلح لكل الحركات الإسلامية وكل الحكومات المسلمة .

فتلك دعوى عريضة لا نستطيع ادعاءها . كما أن الحكم على الوسائل السياسية حكما عاما جامدا يحولها إلى غايات ويفقد حملة التغيير المرونة الذهنية والعملية في التعاطي فكل تنظير في هذا المضمار ينبغي أن يتم صياغته بتحفظ بعيدا عن التعميم والإطلاق .

ويبدو أن ثلاثة عوامل سيكون لها التأثير على العلاقات المستقبلية بين الحكام والحركات الإسلامية

أولها , ثقافة النضال السلمي

تشبع الحركات الإسلامية بثقافة النضال السلمي وإيمانها بثمراته وجدواه . فقد زود العصر الحديث حركات التغيير الاجتماعي بالعديد من وسائل النضال السلمي التي تحقق في الزمن الحاضر ما كانت الثورات الدموية الهوجاء ضرورية لتحقيقه في الماضي .

فأصبحت المظاهرات والاحتجاجات وحملات العصيان المدني تكفي في أغلب الظروف لهز عروض الحكام المستبدين وسلبهم الثقة في أنفسهم وثقة أحلافهم وأعوانهم فيهم .

وقد تم التخلص من العديد من المستبدين عبر العالم في العقدين الأخيرين من خلال وسائل النضال السلمي هذه .

فتحصلت من ذلك خبرة متراكمة تستطيع الشعوب المسلمة – وفي طليعتها الحركات الإسلامية – الاستمداد منها في معركة التغيير – وتشير تطورات الأعوام الأخيرة إلى أن الحركات الإسلامية بدأت تتشرب هذا الفكر النضالي السلمي وتتبناه .

وتبقي الدول المسلمة التي تسود فيها ثقافة سلفية جامدة أو ثقافة يسارية متصلبة تقضي بتحريم أو تجريم المظاهرات الشعبية هي المرشحة لمزيد من العنف السياسي مستقبلا .

ثانيهما , انكشاف الأنظمة

رفع الظهير الدولي يده عن حماية أنظمة الحكم الممقوتة من شعوبها , فإحساس الحركات الإسلامية أنها تخوض معركة غير متكافئة تتواطأ فيها قوى دولية مع الاستبداد وتسعي لحرمان الشعوب المسلمة من الحرية , يدفع هذه الحركات إلى عدم الثقة في ثمرات جهودها النضالية السلمية , ويقود أطراف الحركة , وهوامشها إلى خلاصة مفادها ضرورة مواجهة الظهير الدولي أولا في ساحات القتال الحربي قبل مواجهة الحكام في ساحات النضال السلمي .

وليست نظرية نقل المعركة من " العدو الأقرب " إلى " العدو الأبعد " التي تتبناها " القاعدة " ومن على شاكلتها من الحركات الجهادية اليوم سوى ثمرة مريرة من ثمار هذا الإحساس بالقهر الخارجي والتدخل الأجنبي في مصائر الشعوب المسلمة .

فالعلاقة بين الحركات الإسلامية والأنظمة ستتأثر مستقبلا تأثرا كثيرا بمستوى دعم القوى الأجنبية للأنظمة : فبقدر ما يتكثف ذلك الدعم ستزيد احتمالات المواجهة العنيفة بين الأنظمة والحركات الإسلامية , وبقدر ما يتخلي الظهير الدولي عن دعمه للأنظمة ستؤمن الحركات الإسلامية بثمرات النضال السلمي , وتؤمن الأنظمة بعبثية التصلب أمام مطالب التغيير .

ثالثها , دقة اللحظة التاريخية

الوعي باللحظة التاريخية والإمساك بها , فكل من الحكام والحركات الإسلامية يعيش لحظة حرجة من عمره , فالأنظمة الحاكمة تكاد تستنزف عمرها الافتراضي , والظهير الدولي بدأ يفقد الثقة فيها تدريجيا , بعد أن وصل إليه لهب المعركة المحتدمة بينها وبين شعوبها , وهو لا يري فيها أكثر من درع بينه وبين شعوبها الساخطة ... فليس أمام هذه الأنظمة من مفر سوى الرجوع إلى شعوبها والتعاطي بإيجابية مع القوى الاجتماعية الصاعدة , وأولها الحركات الإسلامية .

والحركات الإسلامية أمامها فرص عظيمة للتوسع والامتداد بسبب روح التعبئة الدائمة السائدة اليوم في الأمة في ظل احتلال الأرض الإسلامية والجرأة على دين الأمة ومقدساتها .

والخطر الذي تواجهه الحركات الإسلامية هو الجمود من خلال التفريط في الفرص السانحة , أو الإفراط في استغلال تلك الفرص فتفقد الحركة مبدئيتها وجاذبيتها , فما تحتاجه هذه الحركات هو المزاوجة بين الروح المبدئية التي لا تساوم على الثوابت , والروح العملية التي تستوعب الفرص بحكمة وجدارة .

ويبدو أن بعض الإسلاميين فشل في هذه المعادلة , ونزل إلى حضيض الانتهازية بعد أن امتزجت النزعة الإسلامية لديهم بالروح الطائفية والعرقية .

ولعل أبلغ الأمثلة على ذلك هو مسلك قادة الإسلاميين الشيعة في العراق ( حزب الدعوة , والمجلس الأعلي للثورة الإسلامية ) الذين حدا بهم الأمل في تغيير الميزان الطائفي الداخلي إلى مد أيديهم للإحتلال والتحول إلى قنطرة يعبر عليها , ومثلهم الإسلاميون الأكراد العراقيون الذين تماهوا مع هويتهم العرقية تماما , ولو يستطيعوا بلورة خطاب إسلامي يجمع إخوة الوطن الواحد .

المصالحة مع الذات

وليس من ريب أن الأمة اليوم في مسيس الحاجة إلى مصالحة تاريخية بين الحركات الإسلامية والحكام ضمن مصالحات وطنية أشمل , تضمن تحولا أخف إيلاما , وأقل ثمنا , وأكثر حكمة ورحمة بالأمة .

على أن لا تكون المصالحة بين هذا الطرف أو ذاك مع الحكام مدفوعة بدوافع الأنانية السياسية والمكاسب الظرفية , بل تكون مصالحة تتأسس على استرداد الأمة حقها في حكم نفسها , وعلى فتح المجال السياسي للتنافس السلمي النزيه الذي لا يقصي أحدا , ولا يصادر حق أحد في عرض بضاعته السياسية على الشعب صاحب السيادة .

هذه لغة الرجاء لا التحليل ... أما بلغة التحليل فكل المسارات ممكنة في العلاقات بين الأنظمة الحاكمة والحركات الإسلامية .

• فمسار المواجهة الهوجاء التي تعصف بالجميع ممكن ووارد وليس يستغرب أن تكون فترات التحول من عمر أى أمة محملة بآلام المخاض , كما حدث في أوروبا وأميركا يوم اندلعت الثورات فيهما قبل مائتي عام .

• ومسار التحول السلمي والمصالحة مع الذات ممكن ووارد , لكنه يقتضي سيادة منطق الحكمة على منطق القوة , وهو أمر غير مضمون في ظروف الاستقطاب السائدة والتدخل الأجنبي السافر في مسار مجتمعاتنا .

إن مصالحة المجتمعات الإسلامية مع ذاتها ليست مصلحة المسلمين فقط , بل هي مصلحة العالم أجمع , وعسي أن يدرك الجميع ذلك , وإعادة هيكلة النظام السياسي . وجعله أكثر انفتاحا واستيعابا , هو الخطوة الأولي لتحقيق مصالحة المجتمعات المسلمة مع ذاتها ومع العالم .

وليس من خيار آخر سوى دفع الشباب الإسلامي , المترع بالمرارة واليأس , إلى إعلانها حربا هوجاء على حكامهم المستبدين , الذين أسلموا زمام أمتهم ومصائر شعوبهم بذلة ومهانة , وعلى العالم المتواطئ الذي يري المسلمين فيه أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام ...

قراءة في كتاب : نشوء الإسلام السياسي الراديكالي وانهياره

إبراهيم غرايبة

باحث متخصص في الشؤون الإسلامية

- نشوء الإسلام السياسي الراديكالي وانهياره
- تأليف : رأي تاكيه ونيكولاس غفوسديف
- ترجمة حسان بستاني
- بيروت , دار الساقي
- الطبعة الأولي , 2005
- 279 صفحة

يعتقد كثير من المفكرين الغربيين المشتغلين بالظاهرة الإسلامية أنها متجهة إلى الانحسار بل والانهيار , مثل جيل كيبل في كتابيه " الجهاد 2000 " والفتنة . 2004 " وأوليفيه روا في كتابه " فشل الإسلام السياسي 1994 " وأخيرا رأى تاكيه ونيكولاس غفوسديف في كتابهما " نشوء الإسلام السياسي الراديكالي وانهياره "

الإسلام السياسي الراديكالي وانهياره

الكتاب ترجم إلى العربية ونشرته مؤخرا دار الساقي , ويحاول تفسير نشوء العنف والتطرف الإسلامي ويستعرض تاريخ الحركات الأصولية المتشددة , ويتقصي مسيرتها في مصر والجزائر وأفغانستان والعراق والبلقان وآسيا الوسطي , ويحاول أن يوضح أسبابه .

فالعملية العسكرية التي وقعت في السعودية مؤخرا كشفت عن حالة الضعف والانحسار الذي وصلت إليه القاعدة في السعودية , وأنها لم تعد قادرة على العمل , واكتشفت في الأردن أيضا مجموعة قادمة من الخارج كانت تخطط لعمليات انتحارية تستهدف منشأة مدنية حيوية .

فبعد مرحلة من العنفوان الفوضوي الذي بدأته الجماعات المسلحة في الجزائر ومصر في أوائل التسعينيات بدأت تواجه خيارين :

1- التخلي عن العنف والاندماج في المجتمع والدولة
2- أو الهجرة إلى أفغانستان " الطالبانية ".

وبدأت منذ منتصف التسعينيات عمليات عنف " مركزية " في أنحاء متفرقة من العالم ولكنها تمول ويخطط لها من طرف تنظيم القاعدة في أفغانستان , وانتهي تقريبا العنف القائم على المكان والصراع مع المجتمع والدولة في ذلك المكان وإن عاد فيما بعد إلى العراق بعد الغز الأمريكي عام 2003 .

ولكنه أيضا يتجه إلى الانحسار والتوقف ليتحول إلى حرب أهلية لا علاقة لها بأيديولوجية وطريقة عمل الجماعات الإسلامية المسلحة , بل إن قائد تنظيم القاعدة في العراق أبو مصعب الزرقاوي يتعرض لملاحقة شرسة من قبل العشائر والجماعات التي كانت تؤويه وتناصره .

ويمكن ملاحظة كثير من المؤشرات والأدلة على أن موجة العنف "المنتسب إلى الإسلام " تتجه إلى الأفول والانحسار , وأن العالم الإسلامي يتجه إلى حالة من صعود الحركات الإسلامية المعتدلة والوسطية , وتبدو هذه الحركات أيضا متجهة إلى الحوار والتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية .

وبعد أن أعلنت القاعدة عن وقف العمليات في أوروبا عادت لتطرح هدنة مع الولايات المتحدة ووقف العنف الذي يؤول بالفعل إلى الضحالة والتوقف بدون هدنة .

وفي العراق أيضا اتجهت العمليات التي كانت تقوم بها القاعدة إلى التوقف , وبدأت تتحول إلى خارج العراق كما لوحظ في الأردن , فقد وقعت عمليات تفجير الفنادق في 9 / 11/ 2005 وكان منفذوها عراقيين ينتمون إلى القاعدة واكتشفت قبلها عدة عمليات في مرحلة التخطيط تابعة للقاعدة .

ويغلب على فريق منفذيها أنهم قادمون من خارج الأردن , ثم اكتشف مؤخرا محاولة لعملية انتحارية قدم جميع أعضاء فريقها من العراق , وكانوا من غير الأدردينيين , ووصلت كذلك موجات العنف والتطرف الأصولي في آسيا الوسطي والبلقان إلى طريق مسدود , وانتهت تقريبا .

كانت الحركات الإسلامية الراديكالية في رأي المؤلفين ردات فعل على الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي تسببت فيها العصرنة والتحرر والممارسات القمعية للسلطة الحاكمة , وتجتذب الحركات الإسلامية أولئك المؤمنين بأن الوضع الراهن في ممارسات الحكم والاقتصاد يمنعهم من الحصول على حقوقهم وفرصهم العادلة .

وتحصل على الشرعية من خلال وضع هذه المسائل في إطار العدالة الإسلامية والأخلاق , ولكن نظرة الإصلاح غير العملية التي يقدمها الإسلاميون تشكل نقطة ضعفهم فتفقدهم مع الزمن والممارسة كثيرا من المؤيدين أو تحولهم إلى حركات أكثر اعتدالا وواقعية تكاد تقترب من الحركات العلمانية القائمة .

وكثيرا ما تحقق الحركات الإسلامية توسعا لأن النظام الحاكم يتجاهل الإسلاميين أو يقدم دعما ضمنيا لهم بهدف الحد من فعالية القوى العلمانية أو التقدمية . فقد اعتبروا حلفاء ممكنين في مواجهة الشيوعية والنفوذ السوفياتي .

وغالبا ما بدأت الحركات الإسلامية عملها في ائتلافات معارضة للأوضاع القائمة في بلادها وعندما تكون جماعة ما في المعارضة ولفترة طويلة فإنها تقدم خطابا مثاليا ومع وصولها كما حدث في أفغانستان والسودان وإيران وتركيا وأخيرا في العراق وربما في فلسطين فإنها تواجه أسئلة ومطالب وحالات معقدة تختلف عما كان عليه الوضع من قبل .

فتواجه الانشقاقات كما حدث في إيران والجزائر , وقد تتشب حرب أهلية كما حدث في طاجيكستان وإيران والجزائر , وقد تتجه الجماعات الراديكالية إلى المراجعة والاعتدال كما حدث في مصر والجزائر وطاجيكستان والبوسنة .

وبالرغم من إغراءات الأسلمة بالنسبة لأولئك الذين هم على هامش السلطة والثروة فإن الحركات الإسلامية سرعان ما تواجه تحديات جدية بالنسبة لشعاراتها التي اجتذبت بها المؤيدين مثل " الإسلام هو الحل " وذلك لأن الفساد المؤسسي , وسوء توزيع الثروة .

وغياب العدالة والديمقراطية تمثل حالات معقدة تفوق إدراك الإسلاميين وصيغهم الأيديولوجية بل إن الإسلاميين أنفسهم كما حدث في إيران والسودان دخلوا سريعا في مؤسسة الفساد والاستبداد.

وغالبا ما ازدهرت الأسلمة في حالات العنف والصراعات الأهلية كما حدث في مصر و السودان وأفغانستان وطاجيكستان والبوسنة وبحلول السلام فإن الخطاب الجهادي يفقد إغراءه , فيستبدل بها حركات سياسية أكثر اعتدالا .

وأما في الأنظمة السياسية التي تبدى بطبيعتها منحي تنافسيا كاملا أو جزئيا فيخضع وضع الإسلاميين لنتائج الإقتراعات , وغالبا ما يكونون أقلية أو جزءا من تحالف مجموعات أخرى , ( ولكنهم استطاعوا الخروج من هذه الحالة في تركيا وفلسطين ) وأمكن بذلك تحقيق اندماج للحركات الإسلامية واستيعاب أكثر للعملية الديمقراطية .

كما حدث في الأردن والكويت والمغرب , وهكذا فإن الحل الأكثر فعالية في مواجهة الإسلام الراديكالي يقع في نظام منافسة تعددي يعطي للإسلاميين مكانا في المجتمع والدولة مستمدا من فرصتهم في التأييد الشعبي والتحالفات السياسية التي يعقدونها .

وتظهر الاستطلاعات والملاحظات الجارية تجاه العملية السياسية في العالم الإسلامي أن الإسلاميين يحظون بنسبة تتراوح بين 15 , 35 % من الأصوات , وهذا ما يجعلهم في المعارضة أو جزءا من ائتلاف بيد أن تركيا وفلسطين أظهرتا فرصا للحصول على الأغلبية ولكنها أغلبية لا تعطي الفرصة كاملة لإجراء تغيير شامل وسريع ( إن كانوا يريدون ذلك بالفعل ) .

وقد يؤدي هذا الأمر إلى جمع بين الأسلمة والليبرالية يعتمد تلقائيا مبادئ التنوير والموازنة بين القيم الإسلامية ورغبة الفرد في التعبير الذاتي .

وإلى نشوء وضع سياسي اجتماعي يقبل الحرية الشخصية مع مبدأ المحافظة على استقرار المجتمع , ورغم أن ديمقراطية إسلامية ستقاوم بعض مقومات الليبرالية على الأقل في بعض المراحل فإن بقاء الإنتخابات الحرة واستمرارها مع المحافظة على الصحافة الحرة وتداول السلطة سيكفل قيام نظام ديمقراطي مستقر ومناسب يشارك فيه الإسلاميون .

وينسجم مع توجهات الحكام الشباب الجدد في الشرق الأوسط لإقامة أنظمة عصرية وديمقراطية تلتزم في الوقت نفسه بقيم المجتمع وتقاليده وثقافته الإسلامية .

وقد بدأت الحركات الإسلامية السياسية بالفعل تؤيد هذه العملية الديمقراطية وتقبل بها , بل وتدخلها في أنظمتها الداخلية وأفكارها وبرامجها , وهي تحولات تمكن ملاحظتها في الأردن وباكستان وبنغلاديش , وماليزيا والجزائر ومصر والمغرب .

انحسار التطرف وتقدم الاعتدال

أو من الإسلام السياسي إلى الإسلام يبدو أن ثمة خلطا في الكتاب بين الجماعات الإسلامية المتطرفة وبين المعتدالة , وخلطا بين الحركات الإسلامية وبين الإسلام , وهذا يوقع الباحثين في استنتاجات وأفكار خاطئة تناقضها الوقائع والحالات القائمة في العالم الإسلامي .

ففي الوقت الذي تبدو فيه جماعات العنف والتطرف متجهة بالفعل إلى الانحسار والتراجع فإن الحركات الإسلامية السياسية تحقق نجاحات كبرى في المجتمعات والدول وحيثما تجري انتخابات نيابية أو بلدية أو نقابية في العالم الإسلامي فإن الحركة الإسلامية تحقق فيها نجاحا كبيرا , وقد تبدى ذلك النجاح بوضوح في تركيا ومصر وفلسطين .

وتدخل الحركات الإسلامية كما يبدو في عمليات حوار ومشاركة مع الغرب لأجل الاندماج في العملية السياسية في المنطقة على أساس الديمقراطية والانتخابات , وقد أجرت الحركات الإسلامية بالفعل مراجعات واسعة واستراتيجية لعلاقاتها ومواقفها وأفكارها وبرامجها , وهي اليوم غير ما كانت عليه قبل خمس عشرة سنة .

ولكن ثمة بعد أخر أكثر أهمية في فهم الحالة الإسلامية , وهو أنها لم تعد مقتصرة على جماعات وتنظيمات إسلامية بعضها معتدل وبعضها متطرف , ولكنها حالة مجتمعية أوسع بكثير من الجماعات والحركات الإسلامية التي لم تعد تشكل في المشهد الإسلامي العام القائم اليوم سوى جزئ ضئيل وإن كان يحظي باهتمام سياسي وإعلامي , أو يبدو أنه يقود الحالة الإسلامية .

فقد امتدت الصحوة الإسلامية إلى دول وأقطار ليس فيها وجود لجماعات إسلامية منظمة , كما شملت فئات من المجتمع ليس من بينها في العادة من ينتظمون في الجماعات الإسلامية .

وقامت مؤسسات استثمارية تجارية لا علاقة لها بحكومة أو جماعة مستمدة أساسا من إقبال الناس ورغبتهم في تطبيق الشريعة الإسلامية , مثل البنوك الإسلامية التي تزيد موجوداتها على مائتين وخمسين مليار دولار , وشركات التأمين الإسلامية , ورحلات الحج والعمرة ومؤسسات الحجاب التي بدأت تتحول إلى مراكز لعروض الأزياء على الطريقة الغربية .

لقد أصبحت صيغ العمل الإسلامي شبكة كبيرة وشاملة ومعقدة من العمل الرسمي الحكومي وعمل المؤسسات والعمل المجتمعي , تشمل العمل السياسي والتعليمي والتطوعي والصحي والاقتصادي والثقافي .

وتعبر عن الحالة الإسلامية شبكة كبيرة ومعقدة لا يمكن نسبتها إلى الحركات الإسلامية , مثل وزارات ومؤسسات حكومية وجامعات ومدارس ومنظمات دولية وإقليمية ومحلية وشركات وبنوك وجمعيات ومؤسسات إعلامية من صحف وقنوات فضائية ومواقع إنترنت ونقابات وأحزاب وجماعات وأعمال فردية ومبادرات شخصية ومشروعات مجتمعية وأهلية .

وقد يضلل أفهامنا ويستدرجنا إلى مواقع غير صحيحة ذلك التناول الإعلامي الذي يتعامل مع الظاهرة الإسلامية باعتبارها – فحسب عملا حركيا منظما تنسقه جماعات إسلامية بعضها معتدل وآخر متطرف, دون ملاحظة تذكر لدور المجتمع أو المؤسسات الرسمية والأهلية .

التيارات الإسلامية السنية وعلاقتها بالأنظمة

السلفيون في الواقع السياسي العربي

عبد العزيز الخميس

رئيس تحرير مجلة المجلة سابقة

تعيش الجماعات السلفية بمعظم فروعها حالة من المراجعة الفكرية والسياسية لطرق تعاملها مع الأنظمة الحاكمة في العالم العربي , فبعد عقود من التعاون مع أنظمة والمواجهة مع أنظمة أخرى تخوض هذه الجماعات نوعا من التحليل الذاتي لمواقفها .

مراجعات وتراجعات

ويبدو أن هذه المراجعات والتحليلات الذاتية أدت إلى انقسامات عديدة في بنية هذه الجماعات , فبعضها ازداد اتجاهه إلى اليمين والبعض الأخر يقترب بخجل إلى الوسط ويحاول بناء جسور مع المجتمعات والسلطات التي تحمل منفتحا لكن مع التركيز على استنباط مرجعيات لهذا الانفتاح على الآخر من التاريخ الإسلامي .

الجهاديون

الجماعات الجهادية السلفية تبقي هي في آخر الصف اليميني وخاصة تيارات الجهاد العملية وعلى رأسها تنظيم القاعدة , الذي يتبني المواجهة الشاملة مع الأنظمة العربية , ويمكن للمراقب رؤية تحولات في موقفه لعل أهمها استهدافه للنظام الحاضن للسلفية وهو النظام السعودي حيث أضاف التنظيم السلطة السعودية كهدف بعد أن كان يستهدف المصالح الغربية على الأرض السعودية .

وكان التنظيم قد استبعد السلطة السعودية من المواجهة بأمر من بن لادن شخصيا , لكن يبدو أن المواجهة الشرسة التي قام بها النظام السعودي ضد القاعدة أدت إلى مراجعات داخل كللت بنجاح يوسف العبيري في إقناع بن لادن بوجوب مواجهة هذا النظام كغيره من الأنظمة العربية المحاربة للقاعدة .

جماعات لا للفتنة

أدت هذه المواجهة الشرسة بين القاعدة والحكومة السعودية إلى انقسام كبير , فتحركت تيارات أقرب للأنظمة رافعة شعار ( لا للفتنة ) وقامت بجهود كبيرة من أجل تهدئة الساحة السلفية .

فنشط تيار المشايخ الرسميين في دول عديدة وهو تيار من مشايخ كبار لديهم علاقات وثيقة بالأنظمة يبررونها بأنها لصالح الإسلام والمسلمين ويعتمدون في عملهم أسلوب النصيحة لا الإجبار , ولديهم نفوذ كبير يتناقص تدريجيا بسبب تحركات التيارات الأخرى والتي تعيب على تيار المشايخ الرسميين خنوعه للأنظمة .

من جانب آخر ينشط تيار يطلق عليه مسمى تيار الجامية أو المدخلية وهو تيار يقلد الشيخين عادل جامي وربيع المدخلي , وهذا التيار يسلم للسلطة بأن تقوم باتخاذ كل القرارات نيابة عن الأمة ما دامت تقيم الصلاة ويرفع الأذان في شوارعها .

هذا التيار ينمو بشكل كبير ويلقي دعما كبيرا من السلطات ويتوسع السلفيين , والسبب في ذلك غير الدعم الحكومي هو إراحته للمتحمسين من السلفيين فكريا وعمليا .

التيار الآخر الذي يرقب ما يحدث على الساحة بكل هدوء هو تيار الجهاديين النظريين وهو تيار ينظر للجهاد ويسمح به لكن يري تأجيله في الوقت الراهن وهو يستفيد من أنه لا يقف بقوة ضد القاعدة لكنه يختلف فقط في التفاصيل معها من ناحية الوقت والمكان .

في الجانب الآخر من الساحة السلفية يقف تيار السروريين وهم اتباع الشيخ محمد بن سرور زين العابدين في حيرة , فتراجعات شيخهم في مسألة الجهاد تقلقهم خاصة وأنه أوجد لهم أسلوبا فكريا يتمثل في الدمج بين السلفيين في تفاصيل عباداتهم اليومية , وبين التفكير السياسي للإخوان .

وهذا الدمج أوجد لهم حيزا أوسع للتحرك بعد أن كان الأنصار السلفيون يتحركون في دائرة ضيقة لا تسمح لهم بالعمل السياسي الواسع الذي تتيحه أفكار تنظيم الإخوان المسلمين .

كل هذه التيارات تجد نفسها أمام تحد قاس هو علاقتها مع الأنظمة بعضها استفاد من ردود الأفعال على العمليات الإرهابية في أماكن عديدة فقدم أفكار ائتلافية تهادن الأنظمة منعا للفتنة , فتقبلت الجماهير الموالية ذلك.

وهي ترى الأخطار محدقة في ظل وجود طرف خارجي هي الولايات المتحدة ونصوع حالة قاسية هي الحالة العراقية التي عبثت بها المباضع مما جعل الكثير من المفكرين السلفيين يخشون من تكرار الحالة العراقية إذا استمر التيار الجهادي العملي في تفعيل نشاطاته خاصة في المملكة العربية السعودية مما يقدم سببا للولايات المتحدة للتدخل العسكري .

السلفيون والسلطة

كان للمواجهة بين القاعدة من جهة والأنظمة العربية والولايات المتحدة من جهة أخرى دور كبير في إيجاد تحولات داخل التيارات السلفية كما اتضح سابقا , لكن يمكننا ذلك جليا في اقتراب بعض المشايخ السلفيين الذين عرف عنهم وقوفهم ضد العلاقة بين الأنظمة العربية والولايات المتحدة ولعل أبرزهم الشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي والشيخ محمد سرور زين العابدين .

السلفيون الجدد

حيث تدخل الشيخان الأولان وسواهما في إيجاد جو أهدأ بين السلفيين الثائرين ضد الأنظمة وعملا – وخاصة الشيخ سفر الحوالي بحكم تواجده في الحجاز – منطقة استقطاب للشباب المتحمس , حيث قام الحوالي بجهود ضخمة من أجل تقريب رموز الشباب السلفي مع النظام السعودي , بل قام بجولات متكررة أثمرت عن تسليم البعض نفسه للنظام بعد أن كان مطلوبا ضمن قائمة أنصار القاعدة في السعودية .

في الجانب الآخر تحرك الشيخ سلمان العودة في عقر السلفية نجد , وقدم تنظيرا مقربا للجماعات السلفية مع مفاهيم كانوا يرفضونها مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والانفتاح على الآخر .

ولعل تجربة الحركات الإسلامية في مناطق عديدة من العالم وخاصة في تركيا والمغرب جعلت من العودة يقدم تبريرا لدخول الإسلاميين في العمليات السياسية المرتكزة على مفاهيم غربية كالديمقراطية وغيرها , والتي كانت ترفض منه ومن غيره من المشايخ .

فقبل بالمشاركة في الانتخابات والدخول في أحلاف سياسية مع غير الإسلاميين مستلهما من دخول الرسول – صلي الله عليه وسلم – في جوار أبي طالب , ثم في جوار المطعم بن عدى , وكذلك أبو بكر دخل في جوار ابن الدغنة .

وبالتالي استعمل العودة ذلك كدليل إباحة وأنه من باب تقليل المفاسد , أو جلب بعض المصالح , أو حصول الإنسان على بعض حقه .

وبعد أن كان العودة مناهضا سلفيا قويا للنظام إذا به يعترف للنظام بأشياء كان ينكرها عليه , بل إنه بعد أن انتقد النظام السعودي وإعلامه المحلي غير الإسلامي أصبح يشارك في قنوات تلفزيونية سعودية في الخارج , يري كثير من السلفيين عدم إسلاميتها .

التحول الكبير لدى العودة ونحن هنا نتخذه مثالا سلفيا متحولا يدل على تعاظم تيار قوى داخل السلفيين يدعو للمهادنة والتدرج في المواجهة واستعمال الأدوات الحديثة للوصول إلى موقع التأثير , وليس هضم الديمقراطية وأدواتها والانفتاح الإعلامي سوى شئ دال على التحول .

لكن المعضلة التي تواجه التيارات السلفية المتحولة والتي تقوى يوما بعد الآخر مستفيدة من الدعم الحكومي والتقبل الشعبي الذي يشهد تغيرا في المزاج الرافض سابقا للإنفتاح على الثقافات الأخرى , هي كيفية صياغة تغير اجتماعي وتقبل أنصاره لها .

ويبدو أن الأمر سيحتاج إلى مراجعات كثيرة وإلى قدرة كبيرة رموز السلفية ابتداء من الشيوخ الرسميين وحتى الشيوخ الشباب .

ويمكن لنا رؤية وسماع جولات من الصراع بين السلفيين القدامى والجدد , الأوائل مسلحون بالتاريخ والجدد مملؤون بروح التغيير والتجديد .

السلطة ... اللعب على التناقضات

لم ينقص الأنظمة العربية القدرة على التعامل مع التيارات السلفية فاستفادت من بعضهم وواجهت البعض الآخر وتلاعبت بالبعض المهادن ضد الآخر المواجه .

تعمد السلطات العربية إلى دراسة قوة التيارات التي تواجهها خاصة التيارات الإسلامية والسلفية منها على وجه الخصوص .

ورغم أن عمليات القاعدة قد هزت أمن هذه الدول من المحيط إلى الخليج إلا أنها قوت من مناعتها السياسية . فالقاعدة قدمت لها فرصا تاريخية في وقت فيه مشروعيتها تهتز , فقد ازدادت هذه الدول قوة بأن تمكنت من إشغال أصفادها داخل التيارات السلفية تحت شعار مكافحة الإرهاب وفرزت من تريد مجللة بقبول شعبي يخشي من الانهيار الأمني وتسلط ثلة متشددة على مجموع مستكين .

درست الأنظمة العربية التيارات السلفية جيدا فضربت من عاداها مستفيدة من قبول شعبي واستفادت من رموز سلفية أما بالترغيب المستقبلي أو بالتبرئة من التاريخ المواجه .

بينما انزوت قيادات سلفية أخرى إلى الظل بعدما كانت تثير ضجيجا ثوريا في الساحة السلفية , ويمكن دراسة حالة الشيخ محمد سرور زين العابدين كمثال جيد لحالة الانزواء فقد كان وراء تشجيع وصياغة مفاهيم تيار الصحوة في بداية الثمانينيات لكنه الآن يعيش في هدوء في الأردن.

لقد تقلصت التيارات السلفية المواجهة للأنظمة وانحصرت المواجهة في التيار السلفي الجهادي العملي واعتذرت تيارات سلفية عن القيام ضد السلطات متخذة شعار لا صوت يعلو على صوت الاستقرار , مذكرة بأن ما يحصل في العراق دليل يمكن لأى مثير مواجهة اتخاذه أنموذجا على الكيفية التي يمكن أن تستفيد بها الولايات المتحدة من عثرات عظام القوم .

العلاقة بين الأنظمة العربية والجماعات الجهادية السلفية

منتصر الزيات

متخصص في " الجماعات الجهادية "

" إن العالم يعيش اليوم كله في " جاهلية " من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها . جاهلية لا تخفف منها شيئا هذه التيسيرات المادية الهائلة , وهذا الإبداع المادي الفائق , هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية ... وهي الحاكمية ... إنها تسند الحاكمية إلى البشر , فتجعل بعضهم لبعض أربابا , إن مهمتنا الأولي هي تغيير واقع هذا المجتمع .

مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه . هذا الواقع الذي يصطدم اصطداما أساسيا بالمنهج الإسلامي , وبالتصور الإسلامي . والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش .

إن أولي الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته , وألا نعدل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلا أو كثيرا لنلتقي معه في منتصف الطريق , كلا إننا وإياه على مفرق الطريق , وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق .

هذه الكلمات التي كتبها الشهيد سيد قطب بدمه في كتابه الأشهر ( معالم في الطريق ) نقشها أيضا في قلوب الإسلاميين الحركيين على مر العقود المتتابعة منذ تم إعدامه حتى الآن .

رؤية الجهاديين وسيد قطب

أولئك الذين يكونون مجتمعين أو منفردين الحركة الإسلامية الجهادية على اختلاف فصائلها في مصر , تلك هي المرجعية التي تحكم انطلاقات , " جماعات الإسلام السياسي المعاصرة " أو " الجماعات الجهادية " في التعامل مع حكوماتها .

وانسابت هذه الأفكار لتلك المرجعية الجهادية وعبرت الحدود وهاجرت لتجد لها مكانا أمنا في عدة دول عربية , ولتمتزج في دول أخرى بالمرجعية السلفية لتكون منهجا يتمحور حول كل قضية محلية خاص بأولئك الذين يحملون تلك الخلفية الجهادية في هذا البلد أو ذاك .

الظواهري ... المعركة عقائدية

وقد كان الدكتور أيمن الظواهري واضحا وهو يجيب عن سؤال وجهه له الدكتور هاني السباعي :" ما الذي أثر فيك لتكون هذه الجماعة ؟ ما الذي دفعك إلى تأسيس هذه المجموعة , وقد كنتم لا تزالون فتيانا في الثانوية العامة في مدرسة المعادي ؟

قال إنه تأثرا أول ما تأثر بكتابات سيد قطب وحادثة الحكم بإعدامه ( 1966 ) تأثر بمشروع هذا الرجل ( قطب ) من خلال القراءات والكتابات البليغة والوضوح في تشريح الواقع .

وذكر الظواهري في كتابه ( فرسان تحت راية النبي ) .

لقد أكد سيد قطب مدى أهمية قضية التوحيد في الإسلام وأن المعركة بين الإسلام وأعدائه هي في الأصل معركة عقائدية , حول قضية التوحيد , أو حول لمن يكون الحكم أو السلطان لمنهج الله ولشرعه أو للمناهج الأرضية ؟

ومن ثم أوضح الظواهري حقيقة رؤيته لنظام الحكم عند سؤاله في التحقيقات الخاصة بقضية الجهاد : ما الهدف الذي كنتم تسعون عند إنشائكم لهذا التنظيم ؟

أجاب : كنا نسعى إلى قلب نظام الحكم بالقوة وإحلال الحكومة الإسلامية محل الحكومة الحالية .

وفي إثر إطلاق الجماعة الإسلامية مبادرتها الشهيرة لوقف العنف في يوليو 97 حاورت وكالة الأنباء الفرنسية الظواهري وسألته هل أنتم بالمطلق ضد أية مبادرة لوقف الصراع العسكري بينكم وبين الحكم في مصر ؟

قال , سيتوقف الصراع العسكري وكافة أوجه المقاومة الأخرى بين المجاهدين كطليعة للصحوة الإسلامية وبين النظام يوم أن يتخلي النظام عن الحكم للمسلمين "

نستطيع أن نقول أن تلك هي الرؤية التي حكمت إيقاع عمل جماعات التيار السلفي الجهادي في علاقتها بالنظام السياسي , وهي تقوم على عدم الاعتراف للنظام الحاكم بأية مشروعية ومن ثم فهي تندب نفسها للتخلص منه وإقامة حكومة إسلامية بديلة .

عبد الرحمن .... والخروج بالسيف

ولم تكن الرؤية خاصة بأيمن الظواهرى وجماعة الجهاد فقط , بل كانت أيضا رؤية الجماعة الإسلامية التي قادها الشيخ عمر عبد الرحمن المسجون حاليا في أحد سجون الولايات المتحدة الأميركية قبل أن تطلق مبادرتها الشهيرة في يوليو / تموز 97.

وقد ذهبت تلك الجماعة إلى جواز قتال الحاكم الذي يمتنع عن تطبيق شعيرة من شعائر الإسلام , ويؤكد الدكتور عمر عبد الرحمن جواز الخروج على الحكام في مرافعته التاريخية أثناء محاكمته في قضية اغتيال السادات قائلا :" ولنا أن نتساءل هل لا يصح الخروج على الحاكم وإن كان ظالما جائرا فاسقا عاصبا لله ؟"

*وهل يجب الاستمساك به والإبقاء عليه وإن كان خائنا بائعا للدين والعرض والأرض ؟

أجيبونا يا أصحاب العقول السديدة والفطر المستقيمة , إن كان الخروج على الحاكم في جميع الأحوال جريمة فإنكم يا من أقررتم ثورة يوليو ويا أنصارها ونتاجها وغرسها وثمارها آثمون مجرمون , إذ كيف تنكرون الجريمة وأنتم تفعلونها ؟ لم خرجتم على الملك إذن ؟ ألم يكن ينطلق بالشهادتين ؟ ألم يصل الجمعة والعيدين كحكام اليوم ؟
إذن فلم خرجتم عليه يا خوارج ؟ فأولي بكم أن تتهموا أنفسكم بالخروج على الحاكم بل كأني بكم تتهمون من قام بثورة يوليو بالخروج على الحاكم , أإذا كان الخروج على الحاكم للوقوع في قوانين الكفر والعمل بها والدفاع عنها أجزتموه وإذا كان للعودة إلى دين الله وإقامة شرعه أنكرتموه ؟

ساء ما تحكمون ( إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ) .

لا شك أن تلك الرؤية هي إحدى إشكاليات مأزومية العلاقة بينها وبين الأنظمة العربية , باعتبار أن تلك المنطلقات تؤدي بالضرورة إلى التصادم مع الحكومات في مرحلة من المراحل المتقدمة , لكن مما ساعد في ترويج تلك المنطلقات بشكل واسع في أوساط الشباب السياسات الخاطئة التي مارستها بعض الحكومات العربية في التعامل مع هؤلاء الشباب فضلا عن مجافاة كثير من إجراءات تلك الحكومات لتقاليد الإسلام وأخلاقه .

وإذا كانت شرائح واسعة من النخبة السياسية العربية قد ارتكبت بأن أحاطت الحركات الإسلامية السياسية بمواقف استئصالية وصل بعضها في تطرفه حد التنكر لفرض الجهاد , فإن الحركات الأصولية هي الأخرى ارتكبت خطأ تاريخيا مماثلا .

• بالتوسع في ممارسة العنف حتى وإن بدا في صورة رد الفعل بما يعبرون عنه بدفع الصائل " أى الدفاع الشرعي الخاص .
• وبالغض من شأن النهج الإصلاحي ومن ينتهجونه , إذ لم تر فيه سوى مهرب فرضه الجبن وخوار الهمم .

الجهاديون والمسار

ولعل أبرز الإشكاليات التي أحاطت بعلاقة الجماعات الإسلامية السلفية الجهادية بالحكومات تتمثل في تجارب اشتباك تلك الحركات مع بعض الحكومات اشتباكا إيجابيا يقترب كثيرا من التحالف أو الاندماج مثلما حدث في السودان من 92 إلى 96 ثم في أفغانستان من 96 إلى 2001 وبينهما تجربة جبهة الإنقاذ في الجزائر , غير أن هذه التجارب لم تتعرض للفحص الدقيق أو الدراسة المستفيضة حول معطياتها ونتائجها حتى الآن ربما لأن وقائعها ما زالت تكتب في بعض فصولها الختامية بعد .

في السودان

وفي التجربة السودانية لم تصل العلاقة لمرتبة الإندماج أو المبايعة واقتصرت على استفادة أطراف العلاقة من بعضهما الآخر في ظروف ولادة كل طرف فتجربة الترابي كانت في تلك الأونة متطلعة لتنفيذ مشروعها الأممي ومشروع القاعدة كان قيد البحث بين بن لادن والظواهري بعد خروجهما الأول من أفغانستان إثر تولي حكومة صبغة الله مجددي التي سعت لإخراجهما من هناك .

في الجزائر

وقد أحاط تجربة جبهة الإنقاذ دخان كثيف وشهدت خلطا ومزيجا بين أدبيات جواز استعمال وسائل الديمقراطية وأدبيات شبهة الانقلاب عليها , وعجل الانقلاب العسكري بالتجربة ولم تزل العلاقة غامضة يشوبها التوتر بين الإسلاميين هناك والسلطة رغم كل قوانين الوئام المتتالية .

وإذا كان الخطاب الإعلامي لكل من عباسي مدني وعلى بلحاج متناقضا مع الآخر عاجزا عن تقديم رؤية واحدة للعلاقة بين الحركة والحكومة , فإن الحركات السلفية الجهادية الجزائرية الأخرى قد أنهكتها جولات الكر والفر في الجبال لو تحرز تقدما ملموسا في إمكانية صوغ برنامج متكامل يصلح للبناء عليه أو تقويمه في إطار حركة الإصلاح هناك , مثلما أن لسان السلطة لم يتوحد في الحديث مع تلك الجماعات وبقي يتعامل معها كحالة أمنية دون التطرق لما تحمله من مشروع إسلامي سياسي .

في أفغانستان

وبقيت التجربة الطالبانية تكشف عن ازدواجية العلاقة بين نظام حكم طالبان المؤسس على الحكم بالشريعة الذي يفترض ولاء الجماعات التي احتمت به , وبين خريطة عمل تلك الجماعات التي سعت لاستمرار الثأر من حكوماتها الأساسية في بلدانها البعيدة آلاف الأميال .

ولم تكشف صفحات التاريخ بعد مدى قيام القاعدة بتفجيرات نيروبي ودار السلام عام 98 ثم تفجيرات نيويورك وواشنطن من وراء ظهر حكومة طالبان أو بعلمها , كما لو توضح القاعدة – على وفرة أدبياتها – أسانيدها الشرعية في بقائها خارج دائرة الطاعة لحكومة إسلامية قائمة وفرت لها الأمن والحماية والمناخ الملائم لإطلاق حملة دعاية مبشرة بالإسلام وإمكانية تطبيقه على الأرض في القرن الحادي والعشرين .

في السعودية واليمن

تبقي العلاقة بين الجماعات الجهادية السلفية والحكومات في اليمن والسعودية تشهد حالة من المد والجزر , فبينما تشهد الأولي هدوءا بعد جلبة أثارتها تسلل " القاعدة" إلى أراضيها في إثر تفجير المدمرة الأميركية كول , تشهد الثانية انقلابا في العلاقة بعد فترة طويلة من الهدوء والدفء بل والطاعة .

ولعلي أذكر في هذا الصدد أول زيارة قمت بها للمملكة السعودية بعد الإفراج عني من قضية الجهاد عام 84 حيث رتب لنا بعض الإخوة لقاء بشباب المجاهدين الذين يترددون على أفغانستان وقتها في أحد المنازل بالمدينة المنورة , واستغربت انزعاج هؤلاء الشباب من كلمات أثناء حديثي اعتبروها نقدا للملك الراحل فهد بن عبد العزيز .

ثم دارت الأيام دورتها حتى وصلت العلاقة بين الجماعات السلفية الجهادية هناك والنظام لدرجة تبني قطاعات منها فتاوى تكفير الحكام هناك , بل ويوزع بحثا شرعيا على شبكة الإنترنت بعنوان " الباحث عن حكم قتل أفراد وضباط المباحث يستهله كاتبه بعبارة تكشف عن مأزومية تلك العلاقة يقول فيها :

" في صبيحة هذا اليوم الرمضاني تأملت حال الشباب المجاهد مع طواغيت الحكم في الجزيرة العربية ومع جندهم وأعوانهم من المباحث العامة ومكافحة الشغب والشرطة ووو ... فوجدت أن المسألة واضحة بينه لمن بصره الله وهداه إلى منهج التوحيد الحق , ولكنها مشكلة عويصة عند كثيرين "

مصر والمخرج

ثمة مشروع ينضج في مصر أو يشهد عملية مخاض لسنا على ثقة من إتمام ولادته , يتبناه جهاديون سابقون تقطعت صلاتهم التنظيمية , وإن بقي ولاؤهم للفكرة قائما , ويرمي إلى صوغ برنامج جهادي سياسي , يحافظ على سلفية الاعتقاد والمنهج , ويتعايش مع المجتمع بعصرنة وسائله وآلياته وممارسة الجهاد السياسي بالأدوات المتوفرة .

والعمل على مكافحة كل محاولات التغريب وطمس الهوية الإسلامية للأمة والتنبه لحملات الغزو الأميركي للمنطقة بتوحد الأمة في المقاومة الاستباقية وإعداد المواطنين وتثقيفهم روحيا ومعنويا وسياسيا وفكريا ودينيا ومقاومة استبداد السلطة والصدع بمنظومة متكاملة من الحق ورد المظالم .

العلاقة بين الأنظمة العربية وجماعة الإخوان : محاولة للتفسير

حامد عبد الماجد قويسي

أكاديمي متخصص في شؤون الإسلامي

تعد العلاقة بين الأنظمة العربية وجماعة الإخوان المسلمين من أكثر القضايا المثارة أهمية وحساسية في الوقت الحالي لارتباطها بواقع المنطقة ومستقبل تطورها التعددي والسياسي .

وينقسم الموضوع إلى جزئين

• الجزء الأول : استقراء واقع العلاقات بين الإخوان المسلمين والأنظمة العربية , توصيفها عبر أنماط محددة.
• الجزء الثاني : تحليل واقع العلاقات وتفسير المحددات والعوامل الصانعة والحاكمة له ومحاولة استشراف سيناريوهاتها المستقبلية .

وفيما يلي الجزء الأول :

1- واقع العلاقة بين الأنظمة والإخوان

إذا أردنا استقراء واقع " العلاقات " و" التفاعلات " السياسية بين الأنظمة العربية الحاكمة وجماعة الإخوان المسلمين فمن المنطقي أن نرضد بداية واقع الفاعلين أو الطرفين من الناحية العلمية .

واقع الإخوان والأنظمة

فبالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين يجب أن نميز منهجيا بين ثلاث دوائر للوجود والفعالية , متقاطعة وليست متطابقة :

• الأولي : دعوة الإخوان كـ " رسالة " .
• الثانية : جماعة الإخوان كتيار مجتمعي .
• الثالثة : " تنظيم " أو بالأحرى " تنظيمات " الإخوان القطرية كأطر إدارية وقيادات تنظيمية وسياسية .

وما سنتاوله هو الأخير ( التنظيم ) باعتباره الذي يتخذ القرارات في المواقف المختلفة محركا الجماعة كتيار ومفعلا لها بالدعوة والرسالة , الجماعة بهذا المعني من أقدم التنظيمات نشأة ( 1928م) وأوسعها انتشارا إذ تغطي فروعها كافة البلدان العربية تقريبا , إن كانت تتفادي قضية إطلاق " الإسلام " على مختلف تنظيماتها لكي تتغلب على الحظر القانوني ربما باستثناء " الأردن " حيث تتمتع بالمشروعية القانونية منذ نشأتها وحتى الآن .

وهذه " الفروع " التنظيمية التي يترأسها " مراقب عام " في كل بلد , تعمل في إطار " الدول" العربية القطرية غير أنها ترتبط فيما بينها – على اختلاف في مستوى ودرجة التنسيق – بالتنظيم الدولي للجماعة والذي يقوده " المرشد العام " للجماعة .

الجماعة بهذا المعني هي الطرف الثاني للعلاقة مع الأنظمة العربية الحاكمة والتي تعتبر العامل الأساسي أو الطرف الأول , ورغم وجود درجات من الاختلاف بين دول العالم العربي في طبيعة أنظمة الحكم فيها.

وأشكالها ومصادر شرعيتها , ومدى تقدمها الاجتماعي والاقتصادي ... الخ , فإني أتفق مع ما يذهب إليه عالم السياسة الشهير " جيلير موادونل " الذي يدرجها في إطار الدول " والأنظمة السياسية التسلطية الحديثة " .

وبهذا الصدد هناك أمران أيضا يجمعان بينهما ويؤثران وبدرجة أكبر في صياغة أنماط علاقاتهم بالجماعة وبالقوى المجتمعية عموما وهما :

الأول : غياب الديمقراطية والتعددية الحقيقية , ومبدأ تداول السلطة واحترام الحدود الدنيا من حقوق الإنسان وكرامته .
الثاني : الدور المحورى الذي تلعبه القيادات والنخب الحاكمة سواء التقليدية أو ذات الأصول العسكرية

ونتيجة للخصائص التي يذكرها – موادونل – للأنظمة من قبيل " التسلطية , التوسعية , الاختراقية والقمعية ,

والتكنوقراطية ... الخ , فإن نصيب قوى المجتمع في صياغة معادلات العلاقة واتجاهاتها تكون محدودة قياسا على قدرات الأنظمة الحاكمة ومن هذا المنطلق وباستقراء , " واقع التفاعلات السياسية نستطيع رصد أربعة أنماط رئيسية يطرح كل واحد منها إشكالية من نوع معين تتطلب التعامل معها بتقديم مجموعة من الحلول العملية لها .

مشاركة ... ولكن

وهذا النمط يقوم على مشاركة جماعة الإخوان المسلمين بالتعددية والإصلاح السياسي ولكن في ظل درجات من قبول الأنظمة العربية الحاكمة بالتعددية والإصلاح السياسي .

فتحت ضغوط مختلفة – داخلية وخارجية – ولأهداف غالبا تتعلق بمعادلة الحكم ذاته , بدأت بعض الأنظمة في إجراء أنواع من الإصلاحات السياسية والتعددية وبالتالي التخفيف من سمات " النظام التسلطي " وخصائصه .

وفي هذا الإطار شاركت التنظيمات الإخوانية في بلاد من قبيل الجزائر, المغرب , الأردن , لبنان , العراق , الكويت , البحرين واليمن ... إلخ في العملية الانتخابية على المستويين المحلي والقومي .

وجاءت النتائج الانتخابية تشير إلى أنها الأكثر شعبية ومن ثم دخلت مؤسسات الأنظمة التشريعية ( البرلمان ) والتنفيذية ( الحكومة ) وأحرزت مواقع متقدمة على خريطة الحياة السياسية فحصلت على رئاسة البرلمان في أكثر من بلد : الأردن واليمن مثلا , وشاركت بحقائب وزارية في العديد من الأنظمة العربية , بل إن مرشحها للرئاسة في الجزائر - الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله تعالي – حصل على المرتبة الثانية في عدد الأصوات بعد الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة , وكانت آخر الدلائل المهمة فوز حركة حماس الفلسطينية وتشكيلها أول حكومة منتخبة برئاسة هنية من واقع انتخابات حرة ..

غير أن هذا النمط من مشاركة الجماعة في العملية الانتخابية يتضمن إشكالية تدور حول " مدى شرعية المشاركة السياسية في بلد يقع تحت الاحتلال " وهي إشكالية مثارة من الناحية الإسلامية عامة , ومن قبل جماعة الإخوان المسلمين تحديدا , التي تقوم رسالتها " وأولي وصاياها العشر " على أساس " الدعوة إلى مقاومة المحتل " وتحرير كافة البلاد العربية والإسلامية من كل أشكال العدوان وصور الاحتلال .

وإلى أى مدى تعتبر هذه المشاركة " اعترافا " بواقع الاحتلال وما يفرضه من اتفاقات ومعاهدات ... الخ ( هذه القضية من القضايا المثارة في الفقه الإسلامي منذ القدم وله فيها رؤية واضحة محددة منذ القدم آخرها ما كتبه الونشريسي في المعيار المعرب .

وقد ركز الإمام البنا في أولي وصاياه للإخوان على هذه القضية ومن يراجع كتاب " الإخوان المسلمون في حرب فلسطين للسباعي والشريف 1955 يجد ذلك واضحا , وكذلك في ميثاق حركة حماس الفلسطينية الصادر (1987 )

إشكالية الاحتلال .. النموذج العراقي والفلسطيني

أثيرت هذه الإشكالية عندما شارك " الحزب الإسلامي العراقي " الممثل لإخوان العراقي في مجلس الحكم الذي عينه بريمر ثم في المجلس الانتقالي وكل ذلك في إطار الاحتلال الأمريكي !!.. مما شكل للوهلة الأولي مخالفة صريحة للرؤية الإخوانية وللخبرة التاريخية للإخوان الذين قاوموا الاستعمار في العديد من بلدان لعالم العربي والإسلامي ..

ورغم أن قيادة الجماعة أصدرت " تصريحات وبيانات " تتضمن ما يفيد بعدم موافقتها على المشاركة صراحة , فإن بعض البيانات والتصريحات الأخرى اعتبرتها " اجتهادا من أهل مكة الذين هم أدرى بشعابها " لم يعلن أن التنظيم الدولي للإخوان وجهازه السياسي أقدم على اتخاذ إجراء ما بحق التنظيم الإخواني العراقي في مثل هذه المخالفة الجلية للمبدأ والتاريخ والواقع الإخواني ككل .

ومن جانب آخر فإن الإشكالية أثيرت على نحو آخر بعد فوز حركة بشأن مدى التزامها باتفاقات أوسلو التي جاءت بالسلطة الفلسطينية , غير أن الحركة أعلنت تمسكها بخيار المقاومة وببرنامجها السياسي والانتخابي القائم على الثوابت الفلسطينية والإسلامية .

وتزال الحال الفلسطينية والنظام العربي الرسمي يعيشان حتى الآن حالة تجاذب , و"أزمة تصارع " بين الشرعيات القديمة المتآكلة والشرعية الجديدة الشعبية البازغة وعلى المستويين الرسمي والمجتمعي ... الخ .

ويذهب الكثير من المحللين السياسيين إلى أن هذا النمط الذي يتضمن مشاركة جماعة الإخوان المسلمين عبر تنظيماتها في العملية الانتخابية وتوسيع تواجدها في مؤسسات الأنظمة العربية الحاكمة وصولا إلى السلطة وتشكيل الحكومة , يمكن أن يكون هو " السيناريو المستقبلي " المتوقع خلال السنوات العشر القادمة .

ويذهب الكثير من المحللين السياسيين إلى أن هذا النمط الذي يتضمن مشاركة جماعة الإخوان المسلمين عبر تنظيماتها في العملية الانتخابية , وتوسيع تواجدها في مؤسسات الأنظمة العربية الحاكمة وصولا إلى السلطة وتشكيل الحكومة , يمكن أن يكون هو " السيناريو " المستقبلي " المتوقع خلال السنوات العشر القادمة .

حيث تدل المؤشرات الواقعية على أن الأنظمة العربية وأحزابها سيواجهان مزيدا من الخسائر المتتالية ولعل آخرها ما نشر حول احتمالات تفوق حزب العدالة والتنمية المغربي وفوزه

حيث تدل المؤشرات الواقعية على أن الأنظمة العربية وأحزابها الحاكمة سيواجهان مزيدا من الخسائر المتتالية ولعل آخرها ما نشر حول احتمالات تفوق حزب العدالة والتنمية المغربي وفوزه على الأحزاب الحاكمة في انتخاب 2007 القادمة – هذا الفوز المتوقع لأسباب بعضها لا يتعلق فقط بقوة التيار أو الجماعة التي ستحظي بدعم وتأييد شعبي في المقابل – الأمر الذي يعني أن احتمالات الوصول إلى الحكم , وتشكيل الحكومة قضية واردة بدرجة عالية من الثقة .

إقصاء ... ولكن

هذا النمط يتمثل في قيام الأنظمة بإبعاد جماعة الإخوان وإقصائها , ولكن في إطار الحفاظ على الخصائص الأساسية للأنظمة واستقرارها السياسي .

حيث تقوم الأنظمة بإبعاد الجماعة – عبر حزمة من السياسات الأمنية والقانونية والواقعية – وحرمانها وتجريم وجودها الاجتماعي الفاعل , وتعتبرها " غير مشروعة " وبالتالي تقوم بإبعادها عن الحياة والممارسة السياسية .

وتعتبر الأنظمة العربية الحاكمة في كل من سوريا وتونس وليبيا – مع الإقرار بوجود تحسن نسبي في نمط تعامل النظام الأخير ولكنه ليس تحولا نوعيا ينقله من هذا النمط ( مثالا واضحا على هذا النمط الذي يثير إشكالية سياسية من نوع معين .

إشكالات أخلاقية وسياسية

ويمثل تعامل هذا النمط من الأنظمة مع الإخوان امتدادا لنفس منطق تعامله مع قوى المجتمع المدني ولكنه يعتبرها الأكثر خطورة لطبيعة تنظيمها وشعبيتها .

ومقارنة بقيادات الجماعة من بلدان النمط الأول التي تعيش وتعارض من داخل البلاد , تجد تنظيمات الجماعة في هذه البلدان – والتي تعيش قياداتها غالبا في الخارج نتيجة لظروف القمع والإبعاد المعروفة – نفسها مدفوعة غالبا إلى ممارسة مستوى معين من المعارضة وعقد نوعية من التحالفات السياسية مع قوى المعارضة الأخرى ورموزها وقياداتها .

وذلك من أجل إسقاط الأنظمة العربية الحاكمة في هذه البلدان أو الضغط عليها لتحقيق إصلاحات سياسية معينة بطريقة سلمية .

هذه الممارسات من قبل بعض التنظيمات الإخوانية تثير الكثير من الإشكاليات النظرية والعملية فهناك الكثير من القضايا السياسية النظرية ليس لها تأسيس سياسي وشرعي كاف في الرؤية الإخوانية بل والسياسية الإسلامية عامة من قبيل : كيفية تغيير الأنظمة الحاكمة بطريقة سلمية ( باستثناء الانتخابات الحرة المستبعدة في ظل هذا النمط ) فلا يوجد تأسيس للعصيان المدني أو السياسي مثلا , مع استبعاد أن يتم ذلك بطريقة عنيفة كالانقلاب والثورة , كذلك لا يوجد تراث حقيقي من العمل الجبهوى والتحالفات السياسية الناجحة في إزاحة الأنظمة .

وعلى الصعيد العملي تثير مواقف التنظيم السوري للإخوان الكثير من التساؤلات سواء تاريخيا – ما أعقب أحداث حماة – أو في الوقت الحالي , وقد تكرر أيضا في حالة الإخوان الليبيين والتونسيين في فترات سابقة .

فإخوان سوريا يسعون إلى إسقاط النظام الحاكم في سوريا عبر التحالف مع أبرز أركان ذات النظام عبد الحليم خدام " الذي انقلب عليه في ظل معادلات دولية وإقليمية بالغة التعقيد تحيط بالنظام نفسه , بحيث يبدو أن هذا التحالف تنقصه الحسابات السياسية الدقيقة , كما أنه يبدو فاقدا لأخلاقيات الممارسة السياسية الإسلامية على الأقل في نظر قطاعات من الرأي الإسلامي عامة والإخواني ذاته .

الإستراتيجية المفقودة

بل ويصطدم هذا التحالف بخطوط إستراتيجية لعلاقات تنظيمات إخوانية أخرى مع النظام السوري , مثل حركة حماس التي تعيش وتتحمل مسؤولية ضخمة إزاء قضايا " مركزية " للجماعة ككل بل وللمشروع الإسلامي .

وكذلك إخوان الأردن الذين يريدون علاقات غير متوترة مع هذا النظام , الأمر الذي أدى إلى إيجاد نوع من " الحساسيات بين هذه التنظيمات الإخوانية .

ومرة أخرى لم يبرز وجود " إستراتيجية " إخوانية للعمل الإخواني على المستوى الدولي تمنع من هذا التضارب في المواقف , كما لم يطور التنظيم الدولي للإخوان مجموعة من الأليات لتفادى حدوث مثل هذا التضارب مستقبلا في قضايا سياسية مشابهة وهو أمر وارد , أو لحل الأزمات المختلفة التي يمكن أن تترتب عليه بما يحافظ على صورة التنظيم والجماعة ككل بوجه عام .

ويشير الكثير من المحللين السياسيين إلى أن بلدان هذا النمط تعيش مجموعة من الأزمات الحادة داخليا وإقليميا ودوليا ويتوقعون مجموعة من السيناريوهات المستقبلية مفادها أن هذه الأنظمة سوف تؤول تحت ضغوط هذه الأزمات إلى مجموعة من " الانهيارات "

وبالتالي حدوث نوع من " الفوضى " المجتمعية وستجد الجماعة نفسها في مقدمة القوى المطالبة باستلام السلطة ودفع فواتير إصلاح تلك الأوضاع المنهارة إقليميا ودوليا ويبقي الرهان على مدى استعدادها وقدرتها العملية على ذلك في ظل التعقد البالغ لكل المعادلات السياسية فيها .

المراوحة بين المشاركة والإقصاء

ويسعي هذا النمط إلى المراوحة بين " السماح " بمشاركة جماعة الإخوان المسلمين , وبين حرمانها , و"إبعادها " عن الحصول على النتائج الحقيقية للمشاركة السياسية .

فالأنظمة العربية الحاكمة تزاوج في إطار هذا النمط للعلاقة بين المنطلق الحاكم لكلا النمطين السابقين , وذلك بهدف " احتواء " تأثير الجماعة وجعله تحت " السيطرة " ولذلك يوصف هذا النمط بالمركب في تكوينه والبسيط في ممارسته .

إذ تجمع الأنظمة العربية الحاكمة وتزاوج بين درجات من السماح المحسوب للجماعة بالوجود الواقعي مع حرمانها وحصارها قانونيا , وجعل حجم مشاركتها البرلمان والنقابية – بكل السبل – في إطار معين لا تتعداه , ومنعها في نفس الوقت – وباستخدام جميع الطرق دون النظر لمدى قانونيتها أو سياستها – من تحويل الانتصارات والمكاسب " الكمية " و" الجزئية " إلى " نقلات " نوعية وتحولات " حقيقية ..

ومن ذلك حين يفوز الإخوان في مصر ويشكلون الكتلة المعارضة الرئيسية في البرلمان ومع ذلك يتمسك النظام الحاكم القائم والقادم معا بوصفهم جماعة " محظورة " وغير مشروعة " وبحيث أن هذا النمط يعكس حالة الجمود السياسي للأنظمة العربية الحاكمة , وانعدام قدرتها الاستيعابية ووظيفتها التطويرية , ويفاقم من أزمة شرعية النظام ذاته .

وإذا كانت مصر تقدم النموذج المتكرر لهذا النمط حيث تشهد حركة بندولية أسميها معادلة " البرلمان / الليمان , إلا أن ذلك لا يمنع أن بعض الأنظمة العربية الحاكمة طبقته أو هددت بتطبيقه في ظروف وحالات محددة , بل ويري بعض المحللين السياسيين أنه يمكن أن يكون نموذجا مغريا بالاقتباس في بلدان ومستقبل أنظمة عربية حاكمة أخرى لفعاليته في الحالة المصرية في التعامل مع الإشكالية الإخوانية ...

والإشكالية السياسية الأساسية التي يطرحها هذا النمط للعلاقة هي المفارقة الواضحة بين الشريعة الشعبية السياسية والمشروعية القانونية , وستظل هذه الإشكالية قائمة في وجه الطرفين : الإخوان والسلطة .

إذ كيف تنجح الجماعة في انتزاع مشروعيتها القانونية وفرضها على النظام الحاكم بأساليب وأشكال سياسية متنوعة , فالمسألة تحتاج إلى المزيد من الاجتهادات السياسية الخلاقة ..

التوظيف المتبادل والخيارات المفتوحة

النمط الأخير للعلاقة بين الطرفين الإخوان والأنظمة يقوم على التوظيف المتبادل بينهما , وعلى الخيارات المفتوحة .... فهو نمط في طور التكون والتشكل .

حيث يصعب القول إن العلاقات بين الأنظمة الحاكمة وجماعة الإخوان المسلمين تشكل نمطا قائما ومحددا , إذ غالبا ما كانت العلاقة يحكمها منطق التوظيف المتبادل تاريخيا , ونماذج ذلك السعودية , قطر , الإمارات , عمان , البحرين .

ولكن الأوضاع في الوقت الحالي تشهد في ظل هذه الأنظمة تغيرات جذرية حقيقية سواء في أشخاص الحاكمين وتكوينهم , أو مشروعهم الاجتماعي والسياسي , أو أنماط علاقاتهم وتحالفاتهم الإقليمية والدولية , الأمر الذي يؤشر على حدوث تغيرات جذرية في المستقبل .

العوامل الثلاثة

غير أن هناك ثلاثة عوامل تشير إلى أن هذا النمط ما زال في طور التكون والتشكل , وبالتالي هو مفتوح على كل الخيارات في العمل والممارسة :

العامل الأول , إن عملية الإصلاح السياسي في مثل هذه البلدان – رغم وجود مؤشرات مبكرة عليها – لم تبدأ بعد فلم تتم عمليات انتخابية للبرلمانات حتى الآن .
وبالتالي لم تدع الشعوب للمشاركة السياسية على المستوى القومي , وإن كانت نتائج الانتخابات على المستوى المحلي في بلد بحجم السعودية أفرزت نجاح ما يسمي بـ " التيار الإسلامي " " الوسطي " أو " المعتدل " الذي هو في جوهره ينتمي إلى " التيار الإخواني " في طبعته السعودية في مواجهة " التيار الديني الرسمي أو المؤسسي , " التيار الليبرالي " ومن ثم فإنه من المتوقع أن الأمر لن يختلف كثيرا عن بلدان النمط الأول أو الثاني ...
العامل الثاني , إن الوجود الإخواني في إطار هذه الأنظمة – حسب تعريفنا الذي أوردناه في بداية الدراسة – ورغم قدمه تاريخيا ينتمي إلى الدائرة الأولي " الدعوية " والثانية " الاجتماعية " أما فعاليته التنظيمية ( الدائرة الثالثة ) فلم توضع حتى الآن موضع الاختبار الحقيقي .
العامل الثالث , إن هناك وجودا إسلاميا على درجة من القوة والتجذر وهو رافض لمنطق العملية السياسية ككل , مثل " التيار السلفي الجهادي "الذي يثير قضايا تتقاطع مع اهتمامات المواطن العادي وخلفيته الدينية التي عمقتها لعقود طويلة بعض المؤسسات الدينية الرسمية التي كانت متحالفة مع المؤسسة الحاكمة في إطار تقاسم تاريخي للأدوار .

ومن هذه القضايا الوجود الأجنبي في الخليج , والرفض العقيدي المطلق للنموذج الأمريكي والغربي الذي تشهد تجلياته بعض هذه البلدان ... إلخ.

وبالتالي فإن هذا النمط يطرح العديد من الإشكاليات السياسية والتنظيمية البالغة الحساسية من قبيل كيفية صياغة أنماط للعلاقة مع النظام الدولي والقوى المهيمنة فيه , والمشروع الذي تحمله والنموذج الذي تنشده .

وتظل الإشكالية الأساسية الحقيقية للنموذج في صياغة علاقته من كونها ما زالت في إطار التشكل وبالتالي هي عرضه للتجاذبات من الأنماط الثلاثة السابقة لكن تصوغه هي على شاكلتها , أو ينجح هو في صياغة نمطه الخاص للعلاقة والذي يعكس رؤيته , تراث علاقته , وأهدافه ومصالحه .

2- المحددات التفسيرية لطبيعة العلاقة بين الإخوان والأنظمة

هذا هو الجزء الثاني من المقالة ويذكر المحددات التفسيرية لطبيعة العلاقات واتجاهاتها بين الأنظمة العربية الحاكمة وجماعة الإخوان المسلمين .
والواقع أن هناك العديد من المحددات والعوامل يمكن تصنيف أهمها في إطار ثلاث مجموعات متفاعلة , وتقدم تفسيرا على درجة من المعقولية العلمية للقضية .

محددات ترجع إلى الأنظمة

وهي تمثل كمجموعة العامل " المستقل " و" الأساسي " الذي يتحكم في " الفعل " وصياغة أسس العلاقة غالبا , وأهم هذه المحددات الراجعة للأنظمة العربية :

• الخبرة التاريخية المتعددة والمختلفة لأشكل وأنماط تعامل هذه الأنظمة العربية مع الإخوان المسلمين , إذ إن هناك " ذاكرة تاريخية " للعلاقة كثيرا ما يتم استدعاؤها لكي تؤثر في صياغة " الواقع " الحالي للعلاقة – وإلى درجة ما – مستقبلها السياسي .
وهذه الخبرة قد تكون " صراعية " غالبا في بعض البلدان مثل : مصر وليبيا وتونس وسوريا ... وطبيعية وسلمية في البعض الأخر مثل دول الخليج العربية والأردن والمغرب وبالتالي تتعدد أنماط التعامل وتتأثر بهذا الميراث المختلف والمتعدد من الخبرة التاريخية الماضية ..
• طبيعة الأنظمة العربية الحاكمة التي تقلص مشروعها السياسي ليتركز في " الحكم " والحفاظ على وضعية الفئات المهيمنة والحاكمة , وبالتالي وفي ظل غياب الطابع السياسي وغلبة المنطق الأمني في بنية الأنظمة العربية , يتم النظر إلى جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها تمثل " خطرا وتهديدا أمنيا " ينبغي " حصره " وجعله " غير مشروع " .
• طبيعة علاقة الدولة بالمجتمع المدني أو الأهلي في المنطقة وهي ترتبط بالنقطة السابقة , فهذه العلاقة تحكمها معادلات الشك والارتياب المتبادل " و" الضبط والتحكم " في الأوزان والممارسات السياسية على تفاوت بين الأنظمة العربية وبالتالي يمتد منطق تعاملها مع قوى المجتمع المدني لجماعة الإخوان بدرجة أكبر لوزنها السياسي ووضعيتها التنظيمية .

عوامل ترجع إلى الإخوان

وهي العامل الذي يتأثر غالبا بالعلاقة , وتأتي ممارساته كاتجاه عام بمثابة ردود الأفعال على ممارسات الأنظمة الحاكمة , وبالتالي فإن إسهامها في صياغة أنماط العلاقات واتجاهاتها محدود غالبا , ولكن يمكن إرجاعه إلى العوامل والمتغيرات التالية :

• مدى امتلاك الجماعة وتقديمها مشروعا نهضويا للأمة ككل لإصلاح واقعها يفعل الجهود " الإصلاحية " التي تقدمها التنظيمات الإخوانية في الأقطار المختلفة لكي يكون بديلا مقبولا لوضعية التردي والتدهور الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية في الوقت الراهن ...
• مدى امتلاك الجماعة مشروعا سياسيا حقيقيا يتضمن رؤية مستقبلية يقوم على أساسها نوع من الاستشراف والتخطيط المستقبلي على أسس علمية حقيقية , فرغم حالة التسييس التي تعيشها " الجماعة " و" الدعوة " عبر " التنظيم " في فترات العمليات الانتخابية الموسمية لم تفلح الجماعة ككل – لاعتبارات وأسباب كثيرة – باستثناء بعض التنظيمات القطرية في تأطير نفسها كحركة سياسية جماهيرية ذات برنامج محدد بمرجعية حضارية إسلامية وبقاعدة اجتماعية حقيقية ...
• مدى قيام التنظيم الدولي للإخوان المسلمين بأدواره المفترضة في لائحته على الأقل في تحديد القضايا الاستراتيجية لعمل الجماعة وإيجاد حد أدني من الاتفاق بصددها بحيث يتم التعامل بأليات التنظيم المعروفة مع من يتجاوزها أو يخترقها , وأيضا عدم قيامه بنوع من التنسيق الحقيقي من المواقف المتضاربة والمتناقضة , كما في حالة الحزب الإسلامي في العراق والإخوان السوريين والإخوان الأكراد ... التي سبق ذكرها في الجزء الأول من المقالة.
• محددات ترجع إلى البيئة أى إلى البيئة الإقليمية والدولية التي تعد الإطار الذي تتحرك فيه قضية العلاقة بين الأنظمة العربية وجماعة الإخوان المسلمين .

والمقصود بالبيئة الإقليمية تحديدا ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والمشروع الصهيوني والعلاقات العربية الإسرائيلية , أما البيئة الدولية فهي تحديدا المشروع والوجود الأمريكي في المنطقة وتجلياته في الاحتلال الأمريكي للعراق ومدى اعتباره مشروع هيمنة يسعي لإعادة تشكيلها طبقا لأولوياته ومصالحه .

تلعب البيئة الدولية والإقليمية كلتهما دورا بالغ الأهمية , حيث تقتضي الرؤية الإستراتيجية القول بأن الرؤية التي تفرضها البيئة الدولية والإقليمية لها " الوزن الأكبر " سلبا أو إيجابا – في صياغة أنماط العلاقة بين الأنظمة العربية والجماعة .

خاصة في ظل تعارض " وإن لم يكن تناقض " رؤية الطرفين لهذه القضايا وإستراتيجيتها في التعامل معها , وأدوات التعامل وآلياته , والمثال الأبرز في هذا الصدد ما يتعلق بإسرائيل التي اعترفت بها " قانونيا " بعض الأنظمة العربية وأقامت اتصالات معها وارتفعت بها العلاقات دبلوماسية واتفاقيات رسمية متنوعة واتصلت بها وتعاملت معها اقتصاديا وتجاريا وسياسيا " واقعيا " معظم الأنظمة العربية أو هي في الطريق لذلك .

فبعد فوز حماس حاولت الأنظمة العربية والنظام الرسمي ككل الضغط عليها – وما زال وبكافة السبل وبنوع من التنسيق – مع القوى الدولية المهيمنة لكي تتدرج في إطار الشرعية / الدولية / الأمريكية " بكل ما للأمر من دلالات .

كما أن بعض الأنظمة العربية الحاكمة استخدمت " الورقة الإخوانية " كـ " فزاعة " لتخويف الإدارة الأمريكية من أى نتائج إجراء انتخابات حرة في المنطقة , ويبدو أنها حققت على الأقل – في الوقت الراهن – هدفها , إذ توقفت الإدارة الأمريكية على الأقل عن المطالبة بـ " الديمقراطية " وكذلك انتقاد " حلفائها " على ممارساتهم الديمقراطية المشهودة على نحو ما شهدته الانتخابات المصرية الأخيرة 2005 .

كما أنه على الجانب الآخر فإن الإدارة الأمريكية تحاول استخدام نفس الأداة كورقة سياسية لابتزاز الأنظمة العربية عبر السعي لفرض قضايا معينة يجب عليها الاستجابة لها دون مناقشة ولكن الأنظمة العربية بدورها لا تستطيع ممارسة هذه الاستجابة لاعتبارات تتعلق بمعادلات الحكم الداخلية وتوازناته , وإلا عرضت نفسها لاحتمالات الانهيار السريع .

ويذكر في هذا الصدد أن الإدارة الأمريكية استخدمت ورقة التيار الإسلامي المعتدل والإخوان المسلمين تحديدا عبر التصريح مرات من قبل وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بأنها " لا تمانع " في وصولهم إلى الحكم عبر صناديق الانتخاب , وعبر الإيحاء مرات بأن هناك اتصالات وحوارات تجرى معهم في مناطق مختلفة من العالم .

المفارقة في الأمر أن كافة الأطراف والفرقاء يتعاملون مع الجماعة وتنظيماتها المختلفة باعتبارها " ورقة لعب سياسية " للمساومة والابتزاز والضغوط السياسية المتبادلة , في حين أن أصحاب القضية ولا نقول " الورقة " يظهرون مبدأيين حين يشددون على أنهم لن يحاوروا الأمريكان والأوروبيين إلا بوجود رسمي يمثل " الدولة الوطنية " المصرية أو غيرها , والتي للمفارقة حتى الآن لا تعترف بمشروعيتهم القانونية !!

ولكن هل يمكن أن نختزل كل القضايا الجوهرية للعلاقة بين الأنظمة العربية الحاكمة وأكبر جماعة إسلامية شعبية في المنطقة العربية تمثل التيار الإسلامي الوسطي المعتدل في هذه الإشكالية الجزئية :

المفارقة بين الشرعية السياسية والمشروعية القانونية؟ لا يجب ولا أعتقد ذلك , هذا والله تعالي أعلم ..

التيارات الإسلامية الشيعية وعلاقتها بالأنظمة

الأحزاب المرتبطة بولاية الفقيه

توفيق لسيف

كاتب سعودي شيعي

ولاية الفقيه هي الأبرز بين أجوبة ثلاثة للفقه الشيعي التقليدي على السؤال المزمن : من هو الحاكم الأمثل وما هي السلطة المشروعة ؟ ".

ولاية الفقيه والعمل الحزبي

وقد مال أكثر الفقهاء إلى حصر سلطة الفقيه في الشؤون الروحية بينما مددها بعضهم إلى الجانب السياسي واختارها آية الله الخميني محورا لمشروعه السياسي الرامي إلى إقامة حكومة دينية في إيران .

طبقا للرأي الثاني يتوجب على الحزب السياسي الرجوع إلى الفقيه , لأنه يمارس عددا من الوظائف المصنفة ضمن " الولاية العامة" وإذا كان عمل الحزب سريا و فإن إشراف الفقيه ضروري لمنع استثمار قواه المادية والبشرية فيما يتجاوز حدود الشريعة .

تعززت مصداقية ولاية الفقيه مع انتصار الثورة الإسلامية في 1979 .

ووجدت الأحزاب الدينية الشيعية نفسها مطالبة بتبني قيادة الإمام الخميني , باعتبارها الوسيلة الوحيدة لضمان مشروعية العمل الحزبي , رغم ما ستؤدي إليه من تراجع دور الهيئات الحزبية في تقرير المصالح والأولويات الخاصة بمناطق عملها .

دور رجال الدين التنظيمي

على المستوى السياسي والتنظيمي فإن تبني ولاية الفقيه يعني فعليا اختصاص كبار رجال الدين بالمرتبة العليا في الهرم القيادي للمنظمة , ولكي تكون المنظمة السياسية مشروعة فيجب أن تتصل بالإمام المعصوم , وأن تلتزم في أعمالها بالتعاليم الدينية , وهذا يتطلب بالضرورة أن يكون على رأسها فقيه أو ممثل للفقيه يضمن اتساق عملها مع تلك التعاليم .

فقد أسست معظم الأحزاب الشيعية العربية على يد فقهاء . فأسس حزب الدعوة الإسلامية العراقي مثلا على يد محمد باقر الصدر في 1959 .

وأسست منظمة العمل الإسلامي على يد محمد تقي المدرسي ( حوالي 1970)

كما أسس حركة المحرومين , حركة أمل لاحقا " الإمام موسي الصدر في 1974 .

وتواصل هذا المنحي بعد قيام الثورة الإسلامية , من حزب الله / لبنان , إلى المجلس الأعلي للثورة الإسلامية / العراق إلى جمعية الوفاق / البحرين , والحركة الإصلاحية / السعودية , وكان رجال الدين مؤسسين أو مشاركين رئيسيين في التأسيس .

يفسر هذا بطبيعة الحل الدور المحوري لرجال الدين في العمل السياسي الشيعي .

الجدل حول ولاية الفقيه

تبنت منظمة العمل الإسلامي منذ تأسيسها قيادة الفقيه كجزء من أيديولوجيتها , أما حزب الدعوة فقد شهد أول النقاشات حول المسألة في 1983 حين دعا أحد قادته الشيخ على الكوراني إلى تغيير شامل في منظومة العمل الحزبي وفي مفاهيمه .

ودعا إلى التخلي عن التنظيم الحزبي واستبداله بعلاقة مباشرة بين القيادة الدينية والجمهور لتعبئة الشارع وراء هدف محدد هو إقامة الحكومة الإسلامية ومع انشقاق الكوراني انضم معظم أعضاء حزب الدعوة في لبنان إلى جهود كانت قد بدأت فعلا لتشكيل " حزب الله " .

استمر الضغط على الأحزاب الشيعية الرئيسية لاتخاذ موقف إزاء دور الفقيه حتى بداية التسعينات حتى تغيرت أولويات الحكومة الإيرانية , كما تراجع النقاش حول ولاية الفقيه وعلاقة الدين بالسياسة بشكل عام .

ونتيجة لذلك فقد تحول اتجاه الجدل داخل الأحزاب الدينية إلى قضايا مثل الحريات العامة وحاكمية الشعب والعلاقة الممكنة مع الأنظمة السياسية العلمانية والقوى الدولية ذات التأثير .

وبصورة عامة فقد انتهت النقاشات السابقة حول ولاية الفقيه إلى تشكيل مشهد جديد للعمل الحزبي الشيعي , ويتألف في الوقت الحاضر من ثلاثة ألوان :

1- أحزاب تؤمن بولاية الفقيه وترجع دينيا إلى الفقيه الحاكم " أية الله خامنئى " . وأبرزها مجموعة حزب الله في لبنان والخليج إضافة إلى المجلس الأعلي للثورة الإسلامية العراق .
2- أحزاب تؤمن بدور إشرافي للفقيه , على أساس نظرية ولاية الفقيه العامة أو في إطار الالتزام التقليدي بالمرجعية الدينية , لكنها لا ترجع إلى الله خامنئي ومن بينها منظمة العمل الإسلامي , وحزب الفضيلة , والتيار الصدري , وجمعية العمل الإسلامي / البحرين .
3- أحزاب تلتزم بالإطار الديني لكن من دون دور خاص للفقهاء, ويدخل في هذا الصنف حزب الدعوة وجمعية الوفاق الوطني / البحرين .

أحزاب ولاية الفقيه والنظام العربي

فيما يتعلق باللون الأول , أى حزب الله والمجلس الأعلي فإنه يمكن الإشارة إلى أربعة عوامل تحدد علاقتها مع محيطها الوطني والقومي .

الأول : العامل الديني

لا يزال النظام السياسي العربي مترددا في التكيف مع حقيقة أن الحركة الدينية تمثل مركز الثقل في الحراك السياسي المحلي .
يضاف إلى ذلك أن الصورة السائدة عن التمايز الأيديولوجي تميل إلى اعتباره عامل تفكيك وتنازع , وليس دلالة تنوع وعامل إغناء للممارسة السياسية , وتتفق الدولة ومعظم الأحزاب العلمانية على النظر للحزب الديني باعتباره تهديدا وليس فرصة .
على الجانب الآخر فإن الحركة الدينية لم تنجح حتى الآن في تطوير خطاب سياسي , مطمئن " لبقية الشرائح , خطاب يؤكد على قبول نهائي بقاعدة مشتركة للتعامل السياسي تتيح فرصا متساوية للديني والعلماني , وتعترف بمشروعية تمثيلهم جميعا لجمهورهم , حاليا أو مستقبلا .

الثاني : العامل المذهبي

رغم أن جميع الأنظمة العربية – الحديثة والتقليدية - قامت على أرضية علمانية إلا أن موقفها من التشيع السياسي بقي محكوما بخلفية طائفية لا تسمح للشيعة بمشاركة سياسية طبيعية إلا اضطرارا .
يبرر هذا الموقف غالبا بالخوف من التأثير الإيراني , إلا أني أميل إلى الاعتقاد بأن السبب يعود أولا وأخيرا إلى افتقار الثقافة العربية لمفهوم دولة الأمة , أى الدولة التي تمثل مصالح جميع المواطنين , ولهذا السبب فإن الأقليات في أى دولة عربية هي مشكلة .
وليس بالإمكان حل هذه المشكلة إلا بإزالة العامل الطائفي .. ويتوجب أيضا على الأحزاب الشيعية التأكيد على هويتها الوطنية وتكرسها للشأن المحلي بغض النظر عن توافقها المذهبي مع إيران أو أى بلد آخر .

الثالث : القوة العسكرية

تمثل القوة العسكرية لحزب الله ومنظمة بدر التابعة للمجلس الأعلي نقطة توتر في العلاقة بين الحزبين وشركائهما في الساحة السياسية , بغض النظر عن المبررات التي يقدمها الحزبان حول طبيعة هذه القوة ومهماتها , ومن المفهوم أن جميع التنظيمات السياسية في كل من العراق ولبنان تملك قوى عسكرية صغيرة أو كبيرة لكن استمرار هذا الوضع سوف يؤدي بالضرورة إلى تعطيل قيام نظام سياسي مدني .
من هذه الزاوية فإن من واجب كلا الحزبين البحث عن وسائل ضمان أخرى غير القوة العسكرية الخاصة , كما يحتاج الفرقاء السياسيون جميعا إلى مناقشة أسباب القلق التي تدعو الحزبين للإحتفاظ بقوة عسكرية مناقشة علنية موضوعية , والمساعدة في إزالة تلك الأسباب بدل استثمارها كمبرر للتراشق الإعلامي والسياسي .

الرابع : التحالف مع إيران

من المفارقات المثيرة أن المنددين بتحالف الحزبين الشيعيين مع طهران لا يترددون أبدا في التحالف مع واشنطن أو حلفائها ,ومع تفاقم الخلاف بين الولايات المتحدة وإيران فثمة قلق جدى من تحول لبنان والعراق إلى ساحة لتصفية الحسابات بينهما , في هذا الصدد ينظر إلى حزب الله والمجلس الأعلي كأبرز القوى التي يحتمل أن تستخدمها إيران في صراعها مع واشنطن .
ويشعر الجميع بالقلق إزاء تحول أى من البلدين إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية صحيح أن طهران مثل واشنطن تستطيع استعمال قوى كثيرة أخرى , لكن الأنظار تتركز على حزب الله والمجلس الأعلي خصوصا بالنظر لارتباطهما الأيديولوجي مع إيران .

تأثر أحزاب الشيعة بتغيرات المنطقة

منذ بداية التسعينيات شهدت إيران والمنطقة العربية تغييرات جوهرية أثرت بشكل عميق على الأحزاب الدينية الشيعية على سلوكها السياسي وعلى تكوينها الداخلي واستهدافاتها , وهي تغييرات ما كانت ستتم من دون تحولات موازية في قاعدتها الأيديولوجية .

بالنسبة للعراقيين كان اجتياح الكويت في 1991 هو العامل الحاسم في التغيير , فقد وجدت الأحزاب الشيعية نفسها في صف واحد مع تحالف تقوده واشنطن .

ودخلت تبعا لذلك في حوارات مع تنظيمات عراقية علمانية , ومع الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين عززت كما هو متوقع – مكانة القادة المدنيين على حساب رجال الدين .

استمر التحول الداخلي مع سقوط صدام حسين , فتبنت الأحزاب الدينية النظام الديمقراطي التعددي كخيار استراتيجي , مبتعدة بذلك عن نموذج النظام الديني الذي يقوم على أساس ولاية الفقيه .

فقد ساهمت هيمنة أية الله السيستاني ( الذي لا يؤمن بولاية الفقيه العامة ) على الرأي العام في دفع المجلس الأعلي بعيدا عن الخيار الإيراني السياسي والأيديولوجي وتقدم هذه المفارقة دليلا إضافيا على أولوية التوازنات المحلية على الخيارات الأيديولوجية في عمل الأحزاب الدينية .

بدأت تحولات حزب الله مع اتفاق الطائف لعام 1989 . فرغم استمرار ولائه المعلن لولاية الفقيه , تخلي عن شعار " الثورة الإسلامية في لبنان " وشارك في النظام العلماني بعد أن كان ينكر مشروعيته .

وخاص جميع الانتخابات النيابية منذ 1992 وهو اليوم لاعب نشط في النظام اللبناني التقليدي , وفي نفس الاتجاه فقد شارك أعضاء في حزب الله الكويتي في جميع الانتخابات النيابية بعد التحرير , في إشارة إلى إقرارهم بمشروعية النظام القائم .

بنظرة عامة , نجد أن جميع الأحزاب الشيعية – سواء تلك التي قامت قبل الثورة الإسلامية أو التي قامت في ظلها قد مالت خلال العقدين الماضيين إلى الدخول في الحياة السياسية ضمن الإطار الوطني وفي حدوده .

ومن المرجح أن تواصل الأحزاب المؤمنة بولاية أية الله خامنئي علاقتها المتينة بالقيادة الإيرانية , لكن تأثير هذه العلاقة على خياراتها الوطنية سوف يتأثر بعوامل الشد والجذب في الإطار المحلي , والتوازن الحرج بين التحديات الواقعية فيه وبين التطلعات الأيديولوجية البحتة .

وتشير تجربة السنوات القليلة الماضية إلى تصاعد الميل للفصل بين الأهداف الأيديولوجية والسياسية والواضح أن كلا الحزبين حزب الله والمجلس الأعلي يتعامل مع فكرة الدولة الإسلامية كهدف مؤجل .

أما هدفها الراهن فهو تمثيل جمهورها بصورة مناسبة في الدولة الوطنية . ويقترب هذا من خيارات الأحزاب السنية , الإخوان المسلمين مثلا , التي – رغم إيمانها بالإمامة العظمي – تركز على إصلاح تدريجي من خلال مؤسسات النظام القائم .

ويذكرنا هذا برأي ماكس فيبر , رائد علم الاجتماع السياسي المعاصر , الذي رأى أن الدولة هي أقوى أداة للعلمنة فعندما يدخل الحزب في العمل السياسي الفعلي فإن همومه تتجه إلى الجانب الدنيوي والمفهومات العرفية للأشياء , بينما يتراجع بالتدريج الهم الأخروي والصورة القدسية للذات والعالم .

الأحزاب المستقلة عن ولاية الفقيه

فؤاد إبراهيم

كاتب سعودي شيعي

كان وقف إطلاق النار على الحدود العراقية الإيرانية في الثامن من أغسطس / آب 1988 لحظة انبلاج مشهد جديد يعبر عن بدء تحول جوهري في المشهد السياسي في المنطقة , لاحظنا انعكاساته في الخطاب السياسي الإيراني , وبخاصة بعد رحيل السيد الخميني عام 1989 , كما في الخطاب السياسي لعدد من الأحزاب الشيعية العربية .

من ولاية الفقيه إلى الإصلاح الوطني

لقد تراجع مثال ولاية الفقيه أمام صرير الواقع , وحل الوطن مكان الأمة , وأخذ الجميع يتخلص من عتاده الأيديولوجي ليفتح أفق العمل السياسي على أدوات جديدة فلم يعد شعار " الثورة في كل مكان " بأداة جماهيرية صالحا للاستعمال في مرحلة " الإصلاح " بأدوات سياسية سلمية .

هكذا تبدو صورة التحول الداخلي بالنسبة لعدد من التنظيمات السياسية الشيعية في الخليج التي ارتبطت ردحا من الزمن بأطروحة ولاية الفقيه .

تجربة الإصلاحية الشيعية

في قراءة أداء الإسلاميين الشيعة على المستوى الخليجي , تتصدر الحركة الإصلاحية الشيعية في السعودية المشهد . فقد ظلت الحركة لما يربو عن عقد من نشأتها عام 1979 على علاقة عضوية بحركة الرساليين الطلائع تحت قيادة السيد محمد تقي المدرسي ( المرجع حاليا في كربلاء ) ومرجعية السيد محمد مهدى الشيرازي .

ولكن الحركة الإصلاحية بدلت وجهتها السياسية والأيديولوجية عام 1989 بعد أن كانت تسمي بـ " منظمة الثورة الإسلامية " وقد اكتسبت زخمها التنظيمي والسياسي من ارتباطها الديني بمرجعية السيد محمد مهدي الشيرازى , أحد أبرز المؤسسين لأطروحة ولاية الفقيه المطلقة , جنبا إلى جنب مع السيد الخميني .

وكانت هذه الحركة قد شرعت بهدوء في تجهيزات استقلال قرارها التنظيمي والسياسي منذ عام 1989 , وعقدت أولي جلساتها لإعادة هيكلة الحركة بانتخاب قيادة ومجلس للشورى تمهيدا لخوض نشاط سياسي علني بأجندة وطنية , إيذانا بالانتقال من الأممى إلى الوطني .

وجاءت المصالحة بين الحركة الإصلاحية والحكومة السعودية في أغسطس / أب 1993 كتتويج عملي لاستقلال الحركة عن مرجعية الحركة الأم وولاية الفقيه – الشيرازى .

وبالرغم من موجة التشكيك المتقطعة التي رافقت مسيرة المصالحة حول مشروعية القرار الحركي وغياب دور ولاية الفقيه – المرجع الشيرازي , فإن الحركة الإصلاحية نجحت في احتواء تلك الموجة .

وبدأت تؤسس لبناء سياسي اجتماعي جديد متحرر من تركة الماضي , وفي الوقت ذاته يؤسس لروابط داخلية مرنة مع المجتمع والسلطة وبوحي أيديولوجي براغماتي متصالح مع المعطيات السياسية والاجتماعية القائمة .

ترشد أدبيات الحركة الإصلاحية منذ قرارها بالانفضال عن مشروعها الحركي الأممي واعتناق برنامج إصلاحي سلمي وطني قبل وبعد العودة إلى ديارها إلى انعتاقها من أناقة الأيديولوجية الثورية المثالية مستعينة بحفنة من الأفكار الديمقراطية المعالجة دينيا لتسويغ وجودها وحركتها السياسية على التربة التي عادت إليها .

لقد اختارت الحركة الإصلاحية الشيعية أرضها وطنا نهائيا والدولة إطارا سياديا يجب الإنضواء تحته والإقرار بكامل حمولته ولا مناص من التوسل بأدواته في الإصلاح , مع تحقيق أكبر قدر ممكن من الشراكة والتنسيق مع القوى الوطنية والدينية في عملية الإصلاح .

يبدو ذلك في المشاركة الفاعلة واللافتة لقياديين سابقين في الحركة الإصلاحية ضمن حملة العرائض التي رفعت للملك عبد الله منذ كان وليا للعهد بدءا من " رؤية لحاضر الوطن ومستقبله " في ديسمبر / كانون الأول 2002 .

والعريضة الشيعية شركاء في الوطن " في أبريل / نيسان 2003 والتي تمحورت حول مبدأ المساواة الكاملة في المواطنة .

وقد شارك فيها عدد كبير من أعضاء بارزين في الحركة حيث شدد الموقعون على انتمائهم الوطني واعتبروا المملكة , وطنهم النهائي لا بديل لهم عنه , و لا ولاء لهم لغيره بحسب نص العريضة .

وأخيرا المشاركة في وثيقة " الإصلاح الدستوري أو لا " في ديسمبر / كانون الأول 2003 .

في تجربة الحركة الإصلاحية الشيعية منذ عودة أفرادها وحتى الوقت الراهن , بالرغم من حل الحركة بصورة رسمية وعملية , ما يلفت إلى توافق داخلي بين الشيعة على الخيار التصالحي الوطني الذي انتهجته الحركة الشيعية منذ البداية , مع تحفظات على طريقة أداء السياسيين الشيعة , وهي – للتذكير – غير متصلة بمشروعية العلاقة مع السلطة بقدر ارتباطها بمنهجية التعاطي السياسي الداخلي وأدواته .

ويجدر تسجيل نقطة تفوق لصالح الحركة الإصلاحية الشيعية في السعودية ظهرت في كف يد المرجعية عن تقرير مسار العلاقة مع السلطة , وربما يعود ذلك في بعض أوجهه إلى ارتباطهم بالمرجعية الجديدة التي عطلت فرص النفوذ المرجعي .

حيث أن رحيل المرجع السيد محمد الشيرازي في يناير / كانون الثاني 2002 كان الخيط الأخير الذي انقطع بين الحركة الإصلاحية مع راعيها الروحي , وقررت قيادات الحركة الانضواء تحت مرجعية السيستاني , المعروف بنزعته التصالحية النابعة من اعتناقه مبدأ الولاية الجزئية للفقيه على القصر والأيتام والأوقاف ...

لا ريب أن رحيل الرواد الكبار لولاية الفقيه المطلقة قد خفف إلى حد كبير وطأة الأطروحة التي خسرت قسطا من حمولتها وألقها النظرى وقسطا آخر من رصيدها الشعبي , وحرر السياسي الشيعي من عبء السؤال القديم حول مشروعية العمل السياسي خارج عباءة الفقيه الولي المرجع .

المرجعيتان في تجربة البحرين

في تجربة الإسلاميين الشيعة في البحرين ما يتضمن لفتات بالغة الأهمية , فبالرغم من التباينات الشكلية بين حركة أحرار البحرين بمرجعيتها الإيرانية الدينية والسياسية , والجبهة الإسلامية لتحرير البحرين بمرجعية الشيرازي سابقا والمدرسي لاحقا , فقد انطلقتنا في الغالب , من خط الاعتراف بكيانية الدولة القائمة .

مع الإشارة إلى أن حركة أحرار البحرين تحمل الآن اسم " جمعية الوفاق الوطني الإسلامية " والجبهة الإسلامية لتحرير البحرين تحمل اسم " جمعية العمل الإسلامي "

وباستثناء رأي ناقر يجنح إلى تبني فكرة الإطاحة السياسية بالنظام يدخل أغلب الإسلاميين الشيعة البحارنة إلى حلبة التجاذبات من منظور وطني محض , وتحت سقف العمل المطلبي المحلي .

فأجندت المطالب السياسية لدى الجمعيات الشيعية " تبحرنت " منذ تباطأت ألة القمع في العلاقة بين السلطة والمجتمع ودخلت البحرين في عهد الملك الشيخ حمد بن عيسي مرحلة تجاذب إصلاحي منذ عام 2001 أدت إلى عودة كثير من المعارضين السياسيين الشيعة إلى البحرين , إيذانا ببدء حياة سياسية جديدة وبأدوات مختلفة .

ولو تواجه الناشطين السياسيين الشيعة في البحرين إشكالية المشروعية الدينية في العلاقة مع السلطة بالقدر الذي كانت تطرح في سنوات سابقة لنفس الأسباب المذكورة في التجربة الشيعية في السعودية .

فقد كان العنصر الوطني والشعبي أكثف حضورا من العنصر الأيديولوجي واليوتوبي , وقد ساعد وجود الجمعيات السياسية الشيعية على تربتها الأصلية في تنمية تطلعات كانت لوقت بعيد مضمرة بفعل سطوة الأفكار المثالية المرتبطة بوجودها خارج الحدود .

يلزم التذكير هنا أن الأداء السياسي للجماعات الشيعية المنفصلة عن مركبة ولاية الفقيه لم يكن منضبطا في مستهل تحولها , نظرا لانهدام جسر الثقة بين هذه الجماعات والسلطة وريثما تتهيأ بيئة اطمئنان تسمح بحدود مقبولة للعمل السياسي .

ولربما كانت السلطة بحاجة للوثوق بأداء الإسلاميين الشيعة سواء العائدين حديثا إلى البحرين أو الذين قرروا خوض العمل السياسي المطلبي بوسائل سلمية والتزامهم المسموح به محليا , والقبول بالدولة كسقف سيادي نهائي لا يجوز هتكه أو المقايضة به .

تصادم الولاءات

وقد بدا واضحا من أداء الجماعات السياسية الشيعية في الخليج عموما أن الافتتان الأيديولوجي الطوباوى , كمفعول سياسي نشط خلال عقد الثمانينيات , شق دربا نحو التصادم مع الأفكار الوطنية , الأمر الذي فرض على هذه الجماعات , بعد تغيير مسارها السياسي نحو تلك الأفكار تقديم شهادات براءة في الوطنية والولاء التربة المنشأ وتاليا للسلطة القائمة عليها .

وفي حقيقة الأمر , أن مناخ ما بعد الحرب العراقية الإيرانية وتنامي الميول الإصلاحية لدى الحركات الشيعية ورحيل رواد أطروحة ولاية الفقيه شكل حوافز تأهيل التحول فكرى وسياسي جوهري داخل الجماعات السياسية الشيعية التي كان انتقالها إلى مرحلة المصالحة مع السلطة سلسا بل ونموذجيا .

لاحظنا ذلك بالنسبة للحركات السياسية الشيعية الكبرى في الخليج مثل الحركة الإصلاحية في السعودية وحركة أحرار البحرين ممثلة في جمعية الوفاق الوطني الإسلامي , وإلى حد ما الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين ممثلة في جمعية العمل الإسلامي .

ولا ريب أن السياسيين الشيعة في الكويت كانوا الأرقى في أدائهم السياسي , فحتى أولئك الذين ناصروا , نظريا إطروحة ولاية الفقيه , كان الوطن – الكويت – الإطار السيادي والكينوني النهائي الذي حكم انشغالاتهم السياسية لا فرق بين تيار سياسي شيعي وآخر .

يبقي أن تشكيلات شيعية أخرى مثل حزب الله الحجاز في السعودية وجناح من حركة أحرار البحرين وقسم من الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين وإن وجهت انتقادات لجماعات سياسية شيعية تعاطت مع السلطة من منظور وطني وديني مختلف , إلا أن تلك التشكيلات حسمت قرارها النهائي في اعتبار أوطانها مجالات سيادية غير قابلة للمساومة .

وإن ظلت المثالية الدينية حاضرة في اللاوعي السياسي لبعض أطرافها الفاعلة شأنها شأن جماعات سلفية محقونة تقسم العالم إلى معسكرين , يلتحمان في صراع تاريخي يسفر ضمن إلى انتصار حتمي للمعسكر الحق .

مع فارق أن تقهقرا متواصلا شهدته المقولات المثالية في الفضاء الثقافي والسياسي الشيعي في مقابل تفجر مقولات مماثلة فضاءات أخري , كالتالي تناضل الجماعة السلفية المسلحة على تجسيدها .

ولاية الفقيه والتنوع الوطني

في سياق التفارق بين الإسلاميين الشيعة بنزوعهم الوطني والإسلاميين والشيعة المناصرين لولاية الفقيه في العلاقة مع السلطة , قد تبزغ الإشكالية التقليدية حول الأقرب و الأبعد عن خط الوطن , على أساس استبطانات افتراضية لولاية الفقيه تلمح إلى صدام ولاءات " الديني والوطني " أو ارتهانات سياسية تختزن شحنة فزع من مبيتات متخيلة تنطوي عليها سريرة جماعة مناصرة لولاية الفقيه .

للتذكير فحسب , لا يمدنا مجرد تعاطف الشيعة مع قضايا ذات طابع شيعي خارج أوطانهم بأكثر من دال على عاطفة دينية مألوفة , دون إغفال , بالطبع , تردداتها السياسية على جغرافيات شيعية هنا وهناك .

لا نبتغي هنا تقديم إجابة طمأنة أو حتى تبريرية , وفي الوقت نفسه لن نصل إلى حد الاستماتة في الدفاع عن قضية قد تكون ذيولها ممتدة في أجزاء – وإن مهملة – في الفضاء الشيعي .

قد يكون التجسيد السياسي الأبرز لأطروحة ولاية الفقيه في لبنان بدرجة أساسية , وإن بتنا ندرك الآن بأن هذه الولاية قد " تلبننت " ولم تعد محتفظة بشهادة منشأها الأصلي .

وأما في العراق وبالرغم من النفوذ الإيراني الواسع , فإن كل شئ قابل للامتصاص عراقيا ما عدا نظرية ولاية الفقيه .

تلفت بالطبع حزمة الضوء الكثيفة التي اجتذبتها مرجعية السيد السيستاني في العراق على حساب ولاية الفقيه بنسختها الإيرانية التي أخفقت في مسرحة مكوناتها على ساحة شديدة التعقيد في تنوعها الإثني والقومي والمذهبي وأيضا الأيديولوجي .

فالسيستاني مثل عاضدا رئيسيا لمشروع دولة وطنية عراقية تحتضن كافة الأطياف الاجتماعية والسياسية , وهو تعضيد بدلالات غير مغفولة على الفضاء الثقافي والسياسي الإسلامي والعربي .

بالنسبة لشيعة الخليج , يتحرك الإسلاميون الشيعة بقدر كبير من الثقة والرصانة السياسية غير المحفوفة بارتيابات أيديولوجية أو سياسية داخلية كانت أم خارجية , فهم يخوضون اللعبة السياسية بأصولها المحلية وضمن شروط وبيئة التحول الداخلي أسوة بنظرائهم السنة والأحزاب الوطنية والليبرالية , بل نلحظ تبددا لطابوهات سياسية ودينية في حركة الإسلاميين الشيعة في السعودية كما في البحرين والكويت .

تخفيض هيمنة المرجعية

ويبدو واضحا في ضوء التجارب السياسية الحزبية في المجتمع الشيعي عموما , أن ثمة نزوعا متناميا لجهة تخفيض هيمنة المرجعي على النشاط السياسي , وحصر دورها في المجال الروحي الإشرافي إلى جانب دورها الحوزوي التقليدي .

ويذهب بعض الناشطين الشيعة إلى فصل العمل الحزبي السياسي عن تأثيرات رجل الدين بوصفه امتدادا للمرجعية بما يحول دون الوصول إلى نقطة تصادم , والاشتغال على تأسيس علاقة متوازنة لا ترهن العمل السياسي لقرار مرجعي وبخاصة بالنسبة لمرجعيات ممتدة .

وتشترك التجارب الحزبية الشيعية سواء في العراق أو لبنان أو السعودية وربما دول خليجية أخرى , في نتيجة عملية هي أن ولاية الفقيه كأطروحة دينية وسياسية غير متسامحة مع التنوع الداخلي في تلك البلدان , إلى جانب كونها وصفة قاصرة عن التطبيق , لتعارضها مع خصوصيات المكان والمجتمع في كل باد .

وبعد مرور أكثر من عقد على التجربة السياسية الشيعية في السعودية وخمس سنوات على التجربة البحرينية , فإن ثمة أجواء جديدة خلقتها عملية التجاذب السلمي الداخلي وفق شروط محلية محضة بل أمكن القول بأن اندماج الجماعات السياسية الشيعية في النسيج الوطني قد يفضي لاحقا , أى مع البدء في بناء مشروع الدولة الوطنية بكافة مستلزماتها إلى زوال الحائل المذهبي .

حوارات

المفكر الإسلامي راشد الغنوشي

تفكير الغرب بتطبيع علاقاته مع التيار الوسطي يدفع حركات علمانية لإقامة علاقات سوية مع الإسلاميين

حاورته : مي الزعبي

الجزيرة نت

الحوار بين الغرب والحركات الإسلامية لم يتجاوز حتى الآن التصور والإمكان .. فالغرب يدرك أن له مصالح في العالم الإسلامي وأن القوة الشعبية الصاعدة في العالم الإسلامي هي الحركة الإسلامية ... ورغم تفكير الغرب في تطبيع العلاقات مع التيارات الوسطية والمعتدلة فإن يده لا تزال مع الأنظمة الدكتاتورية القائمة .

بهذه الأفكار وغيرها عبر المفكر الإسلامي التونسي راشد الغنوشي عن نظرته للعلاقة بين الإسلاميين والغرب في حواره مع الجزيرة نت :

{} هل العلاقات الأخيرة التي بناها أو سعي لبنائها بعض الإسلاميين مع الغرب هي لخدمة الواقع العربي أم صفقة لتحسين أوضاعهم الخاصة وتحقيق أهدافهم السياسية ضد أنظمتهم الحاكمة ؟

لا أدري ماذا تعنين بالضبط بهذه العلاقات التي بناها كما ذكرت إسلاميون , فأنا لست على اطلاع بعلاقات محدثة حصلت بين حزب إسلامي أو بين شخصية إسلامية وبين جهات غربية أن أعلم أن حوارا حصل في بيروت على ما أعتقد العام الماضي بين مجموعة النزاعات الدولية وبين ممثلين عن حركة حماس .
وهذه الجهة الغربية رغم ما يقال بأنها قريبة من دوائر حكم في الولايات المتحدة أو في انجلترا , ولكنها في كل الأحوال ليست جهة رسمية , فالحديث حتى الآن عن الحوار بين الغرب الرسمي وبين الحركات الإسلامية هو حديث لم يتجاوز الافتراض أو التصور والإمكان .
ويمكن أن نتحدث عن علاقة رسمية لحماس كـ " حركة " مع روسيا , وهي دولة غربية كبرى , وهذه علاقة قامت بين حركة وبين جهة غربية رسمية ذات اعتبار , يمكن أن نسأل عن مصلحة الطرفين في هذه العلاقة .
وهنالك أحزاب شيعية مثل حزب الدعوة والمجلس الأعلي للثورة أنشأت منذ سنوات علاقات مع جهات غربية مثل الولايات المتحدة وانجلترا .

{} تحديدا ماذا كان الهدف من هذه العلاقات ؟

هذه العلاقات عموما كانت تستهدف حل مشكلات ذاتية والتخلص من صعوبات حقيقية تجدها هذه الحركات في واقعها ويصعب أن ندرج هذه العلاقات ضمن تصور عام وهي قليلة حتى الآن .
فالإخوان المسلمون مثلا في مصر حتى الآن يرفضون إقامة علاقة رسمية مع الولايات المتحدة زعيمة الغرب ورفضهم هذا ليس رفضا للحوار , وإنما هو رفض للتدخل الخارجي في شؤون بلدهم واستبعاد لشبهة يمكن أن تلحق بهم لأنهم يؤسسون أو يشرعون لعلاقات بين حركة وبين دولة خارجية من وراء ظهر الدولة الوطنية فهم لا يريدون أن يشرعنوا مثل هذه العلاقات التي يمكن يوما من الأيام لو كانوا في الحكم أن يستند إليها غيرهم , مما يزعجهم .

{} هل يمكن أن نقول إن للغرب فضلا على الحالة الإسلامية من خلال دعوته لإحلال التعددية والديمقراطية في العالم العربي ؟

الحديث في السياسة لا يتأسس على أفضال أو مزايا أو هدايا , الحديث في السياسة هو حديث عن مصالح , فالغرب على إثر أحداث سبتمبر / أيلول بدأ يدرك أنه لا يمكن استبعاد التعامل مع الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي وأن الخيار هو بين حركة وأخرى أو بين إسلام وآخر ولكن استبعاد الإسلامي جملة لم يعد ممكنا .
فالغرب يدرك أن له مصالح في العالم الإسلامي وأن القوة الشعبية الصاعدة في العالم الإسلامي هي الحركة الإسلامية وأن حلفاء الغرب ممكن يحكمون العالم الإسلامي لم يعودوا مستأمنين على استمرار هذه المصالح على اعتبار أنهم لم يعودوا يمثلون قوة شعبية حقيقية , وأن الرهان الذي أدمنه الغرب على الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة لم يعد يمثل ضمانا للمصالح الغربية في المنطقة .
ولذلك هناك تفكير في دفع العملية الديمقراطية إلى منتهاها حتى وإن أتت بإسلاميين , على اعتبار أن هذه الأنظمة الحليفة للغرب والتي ضربت الحركة الإسلامية باسم الغرب وبادعاء أنها تفعل ذلك لمصلحة الغرب , غدت حقلا لتفريخ الإرهاب وتصديرا له في كل مكان .
من هنا يمكن اعتبار أن الغرب اليوم يساعد الحركة الإسلامية من جهة أنه بدأ يرفع الفيتو عنها .
فالغرب لم يحسم أمره بعد في هذا الاتجاه أو ذاك , الغرب من جهة الواقع لا تزال يده مع الدكتاتوريات ولكن عينه تنظر هنا وهناك وقد تري الحركة الإسلامية , فتفكر لماذا لا تتعامل مع التيارات المعتدلة فيها , ولكن يده حتى الآن لا تزال مع الأنظمة الدكتاتورية القائمة .

{} أخيرا , هل لك أن تقدم تصورا مختصرا عن مدى تأثير تقدم علاقة الأنظمة مع الغرب في تحسن علاقة الإسلاميين مع بقية الأطراف التي تشاركهم في الهوية والوطن ؟

للأسف هذه العلاقة الثلاثية ( الأنظمة – الغرب – الحركات الإسلامية ) ليست دائما تسير على وتيرة واحدة بل في كثير من الأحيان تأخذ أشكالا مختلفة .
فعندما تسوء علاقة دولة عربية بالغرب تكون عندئذ هناك فرصة لإقامة علاقات حسنة وحتى علاقات تعاون مع الحركة الإسلامية , وهذه هي العادة , بأن تكون العلاقات سالكة بين نظام عربي وبين دولة غربية ويكون ذلك على حساب ليس الحركة الإسلامية وحسب وإنما على حساب المعارضة جملة .
أما علاقة الحركة الإسلامية بغيرها من الحركات داخل الوطن العربي والإسلامي فهي علاقات لا تتأثر كثيرا بالغرب إلا من جهة واحدة وهي أن كثيرا من الحركات العلمانية لم تكن تجرؤ على إقامة علاقات سوية مع الحركات الإسلامية المضطهدة لأسباب منها أن هذه الحركات المضطهدة من طرف الأنظمة صورتها عند الغرب سيئة فإقامة علاقات معها قد ينظر إليه على أنه سلوك معاد للغرب .
أما وقد أصبح الغرب يفكر ولو مجرد في تطبيع علاقاته مع التيارات الوسطية في الحركة الإسلامية , فهذا عامل قد يساعد أو يدفع حركات علمانية في الوطن العربي إلى إقامة علاقات سوية مع الحركة الإسلامية وقد رفع أو بدا كأن الفيتو الدولي قد رفع عنها ولم تعد العلاقة معها مكلفة سواء من جهة الأنظمة أو من جهة النظام الدولي .

القيادي في جماعة الإخوان المسلمين عصام العريان

الحركات الإسلامية متجددة والإصلاح الذاتي ضمن أولوياتها

حاوره : محمد السيد

الجزيرة نت

الإصلاح الذاتي داخل بنيان الحركة الإسلامية في العالم العربي موجود ومستمر .. قد يتعطل أحيانا أو يتباطأ بسبب الظروف الداخلية والخارجية وانسداد الطريق السياسي أمامنا في أغلب الأوقات , لكن الإصلاح لم يتوقف يوما , والغرض النهائي هو رضا الله ثم خدمة البلاد والعباد .

هذا بعض مما أجاب به القيادي البارز في حركة الإخوان المسلمين الدكتور عصام العريان على أسئلة الجزيرة نت حول قضية الإصلاح الذاتي في بنية الحركات الإسلامية في الوطن العربي .

{} بداية , باعتبارك قياديا في حركة إسلامية بارزة بنظرك ماذا يعني " الإصلاح الذاتي " للحركات الإسلامية ؟

الإصلاح الذاتي من وجهة نظري هو قضية تحد أساسية , لأننا إذا كنا نقول إننا قادرون على إصلاح المجتمع , بل وأستاذية العالم في نهاية المطاف أى إصلاح العالم , فلابد أن نبدأ بإصلاح أنفسنا وتجديد دمائنا , وأنا هنا لا أعني فقط مجرد التركيز على مسألة الانتخابات داخل تلك الحركات – على سبيل المثال – ولكني أقصد إصلاح البنية الداخلية كلها , والتي تبدأ من الفكر وتنتهي باختيار القيادات وأساليب العمل .
وأنا أعتقد أن الحركات الإسلامية المنطلقة من مدرسة الإخوان المسلمين هي بطبيعتها حركات تجديدية بمعني أنها تريد أن تجدد في حياة المسلمين وأن تجدد في الفكر الإسلامي والاجتهادات الفقهية لتتواكب مع الحياة المعاصرة وبالتالي فإن أى كلام عن الإصلاح الذاتي داخل الحركات الإسلامية هو كلام مقبول ويجب أن يحترم وأن يتم تفعيله وألا يكون مجرد شعارات .

{} هل يعني ذلك أن " الإصلاح الذاتي " أولوية ملحة في الحالة الإسلامية ؟

الإصلاح الذاتي هو إحدى الأولويات لكنه لا يمكن أن يكون الأولوية الأولي , فالحركة تسير في محاور عديدة , تتحرك في داخل محورها الداخلي وعلى محور المجتمع , وعلى المحور السياسي , تتحرك كذلك على محور الخطاب في الخارج أو مع الدول الخارجية , ولا شك أن الإصلاح الذاتي الداخلي قد يحتل أولوية متقدمة .. فبدون تحقيقه لن نستطيع أن نحسم بقية الملفات ونمضي بها قدما .

{} الإسلاميون يدعون للديمقراطية والتعددية في العالم العربي , ولكن أين هم مما يدعون إليه ؟ هل يوجد داخل الحركات الإسلامية تعددية وتداول حقيقي للسلطة ؟

أقول بكل اعتزاز نعم , داخل الحركات الإسلامية كوعاء واسع توجد تعددية صحيح أن هناك مدارس في داخل الإطار الإسلامي العام متنوعة وبينها خلافات , لكنها لم تصل إلى حد التفرق المذموم أو الاقتتال الداخلي هناك مدرسة الإخوان المسلمين وفصائلها المتنوعة , هناك مدرسة السلفيين , الجهاديين , الصوفيين , الدعوة والتبليغ ... إلخ وهذه اجتهادات وقديما قال حسن البنا " العلاقة التي بين هذه التيارات الإسلامية المتنوعة يجب أن تكون الحب والإخاء والتعاون والولاء , وأن تجتمع على الأهداف والمقاصد الكبرى "
وإذا انتقلنا إلى الفصيل الرئيسي وهو مدرسة الإخوان المسلمين فسنجد أن هناك تنوعا أيضا داخل هذه المدرسة لكن هذا التنوع لا يمنع إطلاقا من التعاون , ثم إذا جئنا إلى داخل كل فصيل بمفرده كإخوان مسلمين , نجد أن هناك تنوعا في الآراء وتنوعا في الاجتهادات والرؤى نجد احتراما للتخصصات وهذه تحسم داخل الإخوان إما بآلية الأغلبية عند اتخاذ القرارات , أو بآلية التصويت والترشيح والانتخاب عند اختيار القيادات .

{} لكن جماعة الإخوان المسلمين – على سبيل المثال – متهمة بأن شخص مراقبها أو مرشدها العام يكون في العادة معروفا مسبقا , والعملية الانتخابية هي مجرد عملية صورية , ما ردكم ؟

هذا فيه ظلم للواقع , وسأضرب مثالا حدث أخيرا , المراقب العام [[للإخوان المسلمين]] في الأردن لم يدع أحد قبل يوم واحد من انتخابه أنه سيكون الأستاذ سالم الفلاحات , الأمين العام لجبهة العمل الإسلامي , الحزب الإسلامي في الأردن المعبر عن الإخوان المسلمين , لم يقل أحد أنه سيكون زكي أرشيد , إلا قبل اختياره بأيام قليلة جدا , ومعني ذلك أن هناك اختيارا وهناك تداولا على الرأي والتزاما بنتيجة التصويت في نهاية الأمر .
وقد أعلن المرشد العام للإخوان المسلمين أنه سيتقدم باقتراح لمجلس الشورى العام ليجعل مدة المرشد في منصبه فترتين فقط .
بحد أقصي ثماني إلى عشر سنوات , وأعتقد أن هذا استجابة لتطورات عصرية ضغطت من أجل إعطاء صورة ومثال لأنه إذا لم نكن قادرين على إعطاء قدوة من داخلنا فالناس ستفتقد فينا المصداقية .

{} في رأيك هل هناك معوقات فعلية تحول دون إحداث إصلاحات حقيقية داخل بنية الحركات الإسلامية في الوطن العربي ؟

نعم.. هناك معوقات خارجية وداخلية , المعوقات الخارجية أشد وأقسي , وهي الضغوط الأمنية من جهة , والانسداد السياسي من جهة أخرى , والذي يمنع من إعطاء الفرصة للحركة الإسلامية لمزيد من الإصلاح والتجديد داخلها وخارجها .
ثم هناك معوقات داخلية وهي تقاليد أبوية موجودة في المجتمع , تقاليد شرقية تجعل احترام الكبير يصل إلى درجة أكبر من مجرد الاحترام , بحيث ينقلب التوقير والأدب المطلوب من الصغير للكبير إلى نوع من عدم الرغبة في إغضابه وبطبيعة الحال فإن الشعور بمجرد أنه إذا ترك منصبه فيغضب يجعله يستمر فيه .

{} هل تجد في ذلك مبررا كافيا لبطْ عملية الإصلاح في بنية الحركات الإسلامية على الساحة العربية ؟

أريد لفت الانتباه إلى قضية مهمة فكما أن التباطؤ في الإصلاح خطأ فالتسرع أو التعجل فيه أيضا خطأ وخطرا هذا النوع من التعجل الذي يؤدي إلى الإحساس بأنه لا يوجد أمل في الإصلاح , فنخرج من هذه الجماعة إلى غيرها أو نشق التنظيم إلى تنظيمين كما حدث في كثير من الحالات الإسلامية في أكثر من بلد , هذا يؤدي إلى التشظي في الحركة الإسلامية , وهذا الأمر كان سمة أساسية للحركة الشيوعية المصرية تحديدا .
وهذه المشكلة خطيرة حقا , لأنها ستؤدي إلى خروج من يتبنون ويرفعون شعارات الإصلاح والتجديد إلى خارج الجسد الرئيسي للحركة الإسلامية .
وعلى ذلك يجب أن نحترم التنوع والاجتهاد داخل الصف كما نحترم التنوع والاجتهاد في الوسط الإسلامي العام وفي كل مدرسة من المدارس ويجب أن يسود الاحترام المتبادل , وأن تكون هناك قواسم مشتركة بين كل العاملين للإسلام أيا كانت مشاربهم ويبقي الهدف الرئيسي هو رضوان الله سبحانه وتعالي ثم تحقيق مصالح البلاد والعباد ..

{} أخيرا , كيف تقيم سير عملية " الإصلاح الذاتي " داخل بنيان الحركة الإسلامية في الوطن العربي ؟

الإصلاح داخل جسد الحركة الإسلامية العربية لم يتوقف يوما ... هناك إصلاح مستمر . فمنذ انضمامي [[للإخوان المسلمين]] – على سبيل المثال – فوق ما يزيد عن الثلاثين عاما , وأنا أشعر كإنسان عاش هذا العمر في إطار هذه الجماعة أن الإصلاح لم يتوقف , قد يتعطل أحيانا ويتباطأ أحيانا أخرى , لكنه لم يتوقف بحال من الأحوال لأن هذه سنة كونية إلهية تسير وفق الطاقة وقدر الاستطاعة .
وأنا أعتقد أن الأصل في هذا الموضوع , أنه عندما يتوافر مناخ موات وبيئة اجتماعية تؤدي إلى إعلاء صوت العقل والحرية وصوت العدل والشورى , هذه البيئة تؤدي إلى تفتح أزهار كثيرة أما الضغط الأمني فيؤدي إلى العكس تماما .... مزيد من التسلط والتماسك الشديد لمواجهته , وبالتالي تعطيل الإصلاح بكافة مستوياته .

الأكاديمي المتخصص في الدراسات الإسلامية رضوان السيد

يظهر التشدد لدى الحركات السنية لأنه ليس لها مرجعية بخلاف الشيعة

حاورته : مي الزعبي

الجزيرة نت

ما هي أسباب اتهام البعض للسنة بالتشدد واستخدام العنف ؟... وهل ستستمر هذه الظاهرة ؟ وما هو مستقبلها ؟.. وأين دور الإسلاميين للحد منها وإنهائها ؟

تساؤلات طرحتها الجزيرة نت على الأكاديمي اللبناني المتخصص في الدراسات الإسلامية الدكتور رضوان السيد .

{} إلى ماذا تعزو حالة التشدد المتهمة بها الحالة السنية والتي يري البعض في القاعدة أحد أبرز تمثلاتها ؟

هذه ليست تهمة , هذا توصيف نعم عندنا على المستوى الإسلامي العام تشدد وليس عند السنة فقط , عند السنة والشيعة , وهذا التشدد يتخذ منذ أربعين أو خمسين عاما طابع إنشاء حركات إسلامية أدت إلى ظهور ما يسمي الإسلام السياسي .
وهذا الإسلام السياسي عنده هدف إقامة دولة إسلامية تطبق الشريعة , فأساسه فكر هوية طهورى ظهر نتيجة ظروف استعمار وظروف نشأة الدولة الوطنية عند العرب وظروف قيام إسرائيل واستمرار حالة الهيمنة والصراع في الحرب الباردة , والعجز عن إنجاح تجربة سياسية عربية لجهة اكتمال الطابع القومي للدولة أو لجهة التنمية .
كانت هناك تجربة الدولة الوطنية , الدولة القومية ,والتجارب التنموية ومسألة الدولة القومية فشلت ومسألة نجاح الأنظمة عن طريق التنمية فشلت أيضا .
وعلى هذا الأساس مع ظروف الاستنزاف الاستعماري والانشغال الاستنزافي أيضا بقضية فلسطين , ظهرت تلك الحركات التي تعتبر نفسها بديلا بعد فشل سائر الحلول والتي يتوجه إليها الناس على سبيل الإحتجاج على الهجمة الإمبريالية علينا من جهة , واحتجاجا أيضا على فشل الأنظمة الداخلية .
وهذا التشدد شمل السنة والشيعة , والحركات الإسلامية الثورية التي بدأت في مصر , بدأت أيضا في إيران من خلال ثواب صفوى , وفدائيا إسلام " وهي حركة تشبه القاعدة وإن لم تكن لها نشاطات خارج إيران , ولكنها حركة تؤمن بالعمل المسلح في الداخل وبالاغتيالات وما شابه .
لكن في تطورات تلك الحركات نجحت الثورة الإسلامية في إيران في إقامة دولة , بينما لم تنجح الحركات الإسلامية السنية في الوصول للسلطة إلا في السودان , والسودان ليس نموذجا صالحا للحكم عليها بسبب الانقسامات التي يعاني منها أصلا .
وزاد الإسلاميون هذه الانقسامات ثم كشف النظام عن وجهة الحقيقي , وهو أنه نظام عسكري مخابراتي مثل النظام السوري والنظام العراقي لا علاقة له بمسألة هذا الإسلام السياسي الجديد .
فالتشدد موجود وله جماهيره الواسعة ولكن الخط الأساسي في هذا التشدد والذي نسميه الإسلام السياسي هو التيار الرئيسي ليس تيارا عنيفا , القاعدة هي طرف عنيف اجتمعت فيه النزعتان , النزعة الإحيائية للإسلاميين والنزعة السلفية للوهابية في المملكة العربية السعودية وفي منطقة الخليج .
اجتمعت هاتان النزعتان عندما تسيس شبان الوهابية الجدد من جهة , ومن جهة أخرى عندما سيطرت نزعات سلفية في الاعتقاد على حركة الجهاد والجماعة الإسلامية بمصر , اللتين تضمان شبانا تركوا الإخوان المسلمين منذ أواخر السبعينيات ولم يعودوا ينتمون إليها .
فالتيارات الرئيسية في تلك الحركات وأكبر حركتين في العالم الإسلامي هما حركة الإخوان المسلمين وحركة الجماعة الإسلامية الموجودة في باكستان ليستا حركتين عنيفتين , ولكنهما حركتان إحيائيتان أصوليتان .
فالتشدد إذا كما قلت ظاهرة عامة لكن العنف هو على الحاشية ولا يدخل فيه التيار الرئيسي في تلك الحركات والذي يحاول الآن في كل الأنظمة المشاركة في السلطة عن طريق الانتخابات , وفي باكستان يشكلون أكثرية تقريبا في البرلمان , وفي مصر الآن عندهم تقريبا مائة نائب , وهكذا .
مصائر التشدد الإيراني اختلفت لأن هذا التشدد نجح في إنشاء دولة , والدولة تصرفاتها غير تصرفات الحركات الاحتجاجية , ثم إن الذي استلم الدفة عندما نجحت الثورة الإسلامية في إيران ليس الذين قاموا بالتمرد الإحيائي الشيعي بل المؤسسة التقليدية للفقهاء , وهذا أيضا جعلهم يبتعدون كثيرا عن الفكر الثورى للحركات الإحيائية الأصولية الإسلامية .
ولهذا يظهر التشدد لدى السنة لأن تلك الحركات المتطرفة ليست لها مرجعية يمكن التفاوض معها أو الحديث معها أو تحديد ما يمكن لفهم تجربتها , بينما لدي الشيعة بسبب سيطرة المؤسسة التقليدية على الحركة الإحيائية وعلى الدولة يمكن القول إن هذه الأصولية الشيعية منضبطة بمعني أنك إذا استطعت إرضاء الدولة الإيرانية , التفاوض مع الدولة الإيرانية أو ما خامنئي أو مع فقهاء مراجع التقليد خارج إيران يظل الأمر منضبطا لأن الشيعي بالضرورة لابد أن يقلد أحد الفقهاء بينما هذا ليس موجودا عند السنة .

فالتشدد كما قلت إذا اعتبرنا فكر الهوية , وكل فكر هوية هو اعتقادي وفكر عقائدي وفكر متشدد , فإذ اعتبرنا أنه مسيطر في أوساط الإسلاميين الجدد هؤلاء فهو ينطبق على الطرفين وإن كان أبرز لدي السنة بسبب :

أولا : الشرذمة الظاهرة , وعدم وجود مراجع تقليد يمكن العودة إليها بل كل واحد يستطيع إنشاء حركة والصراع على حسابه .
والسبب الثاني : أن المؤسسة التقليدية السنية تبدو في حالة ضعف وانحسار بسبب استتباعها من جهة الدولة وبسبب حلول الحركات الإسلامية المتشددة محلها .
هذان السببان يجعلان من الأصولية السنية أكثر بروزا وبخاصة بعد إغارة طرفها العنيف على الولايات المتحدة الأمريكية وشن الحرب العالمية على الإرهاب .

{} الحالة السنية فقط هي التي لجأت إلى العنف ؟

الشيعة لجؤوا إلى العنف أيضا قبل الوصول إلى السلطة , والآن يلجؤون إلى العنف في العراق والعنف الطائفي حزب الدعوة حزب متشدد في الأصل , ما أقصده أن ظاهرة التشدد موجودة عند الطرفين لكنها أبرز عند السنة لسببين :

1. أن هذه الحركات الاحتجاجية للسنة لم تستطع الوصول إلى السلطة فما زالت احتجاجية وأعنف , ولا تلتزم بأي شكل من الأشكال التي تضطر الدول الالتزام بها .
2. لأنه من ضمن المذهب السني ليست هناك مرجعيات يمكن أن تحدث نوعا من الضبط والانضباط بل هناك شرذمة لا نهاية لها نتيجة عدم الفقه السني بتقليد ( العلماء ) الأحياء .

{} إذا هل تتوقع انحسار هذه الظاهرة أو تفاقمها ؟

من وجهة نظري أن العنف باسم الإسلام ينحسر الآن , لن يموت لأن العوامل التي أدت إلى ظهوره لم تزل بعد , مسألة فلسطين مثلا مسألة العراق , مسألة الهجمة الأمريكية مسألة ما يعتبرونها إساءة إلى الإسلام في العالم كل هذه الأمور تدفع بعض الشبان دائما إلى القيام بأعمال عنيفة , لكن هذا إلى انحسار تدريجي , أعتقد أنه في حدود عام 2010 لن نعود لنرى بروزا لما يسمى العنف الإسلامي وبخاصة إذا كان هناك نوع من التهدئة والتسوية في فلسطين وفي العراق .
أما الجهة الأخرى وهو التيار الرئيسي فهو في خلال خمس سنوات سيكون موجودا ومشاركا على الأقل في السلطة في كثير من الدول العربية والإسلامية , ولذلك هذان الأمران أمر حل المشاكل ولو نسبيا , والأمر الآخر المشاركة في السلطة من قبل التيار الرئيسي في السلطة ولو بشكل نسبي يجعل العنف باسم الإسلام لا مستقبل له .

{} بعض الإسلاميين يقولون إنهم قد بذلوا جهدهم للحد من هذه الظاهرة , ما مدى صحة هذا القول ؟ وهل سيعود عليهم بالخسارة سياسيا وشعبيا ؟

ترشيد الصحوة يسمونه .. منذ أواخر السبعينيات بدأت حركة تزعمها الشيخ يوسف القرضاوى والشيخ محمد الغزالي وغيرهما لما يعتبرونه ترشيدا للصحوة , يعني بأن يقنعوا هؤلاء الشبان بعدم جدوى العنف وبأنه خير للدعوة الإسلامية أن تعتمد على الالتزام الأخلاقي وعلى الإقناع وعلى السلم من أجل النجاح من أن تعتمد على التكفير والعنف , وأن التكفير يؤديان إلى اضطراب اجتماعي وإبادة متبادلة , وليس هذا هو الإسلام فمحرم على المسلم عرض ودم المسلم مهما اختلف معه في الرأي .
إن الاعتداء من جانب هؤلاء الشبان على دولة أخرى أجنبية معني ذلك أنهم يعرضون أوطانهم للأخطار , فالإسلام ليس مع مسألة العنف , ثم من جهة أخرى من الناحية العملية العنف يولد عنفا أكبر ضدهم , وعلى هذا الأساس بدؤوا يتحدثون عن ترشيد الصحوة بمعني إعادتها إلى السوية الإنسانية والإسلامية ونجحوا على الأقل لدي التيار الرئيسي نجد الآن أن أكثر الإسلاميين لا يؤمن بالعنف , ولا يعترف به بل على العكس يعتبره يحط من قدر ومن إمكانية نجاح الحركات الإسلامية .

{} نفهم من ذلك أن هذا الجهد قد عاد عليهم بالفائدة ؟

طبعا طبعا , الجمهور لا يحب العنف يظهر شماتة عندا يقتل حاكم أو متنفذ أو ضابط مخابرات وهكذا , ولكن الجمهور يحب الاستقرار والسلم , والذين يخرجون ويصرخون ويضربون وهكذا لا يحبهم الجمهور , وتعرف التيارات الرئيسية كما قلت في الحركات الإسلامية هذا الأمر ولذلك تحاول تجنبه بشكل مطلق , لا تمارس العنف ولا تهدد به .
ليس لأنهم مثاليون بل لأنهم رأوا ذلك ... هذه جماعة الجهاد بمصر قتلوا السادات , ماذا جنوا ؟ خسروا الدين والناس في نظر التيار الرئيسي في الحركات الإسلامية .

الشخصية الدينية الشيعية المرموقة محمد حسن الأمين

التيارات الشيعية مظهر من مظاهر التشكلات السياسية الطائفية الموجودة في كل المذاهب

حاورته : مي الزعبي

الجزيرة نت

تتعرض الحركات الشيعية في العالم العربي لاتهام بخلق أجواء طائفية تمر بها المنطقة ... فما مدى صحة هذا القول ؟.... وما هو موقف الحركات الإسلامية الشيعية تجاهه ؟ ... أين وصلت جهودهم في هذا الوقت وماذا حققوا ؟... وكيف ينظرون إلى المستقبل ؟

أفكار وتساؤلات تطرحها الجزيرة نت في حوار مع الشخصية اللبنانية الدينية الشيعية المرموقة محمد حسن الأمين .

{} ماذا تقول في الرأي القائل إن الحركات الشيعية البارزة في العالم العربي هي التي خلقت أجواء الطائفية لتحقيق مآرب ضيقة تبتعد عن طموحات الشعوب العربية؟

لا أنفي أن الحركات المذهبية والطائفية كما هي مظهر من مظاهر الحياة العربية والإسلامية في مجموع العالم العربي والإسلامي , هي أيضا مظهر من مظاهر الحياة الشيعية بوصف الشيعة مذهبا أو اتجاها أو تيارا من تيارات الإسلام العامة , وأحسب أن هناك مشكلة فعلا في تغذية هذه النزعات وهذه التيارات , وتغذية التعصب المذهبي والطائفي .
ولكن لا أعتقد أن الشيعة وحدهم أو التيارات والأحزاب الشيعية وحدها هي المسؤولة عن إثارة هذه النزعات المذهبية وتضخيمها وبروزها على هذا النحو الذي يشكل مظهرا مخيفا في عالمنا الإسلامي وفي عالمنا العربي بشكل خاص .
وبالتالي حصر ذلك بالشيعة هو أيضا صورة من صور بروز النزعات الطائفية والمذهبية التي ينابذ فيها الأطراف بعضهم البعض الآخر بكل أسف , وحصرها في طائفة معينة هو أمر يخالف الحقيقة الموضوعية أو الأزمة الموضوعية التي يجب أن نعترف بها جميعا بالقول إن الخريطة الإسلامية بكل تشكيلاتها وتنوعاتها هي عرضة لهذه الحالة من صعود الظاهرة المذهبية والطائفية .
وأنا أعتقد أن المظهر الطائفي والشيعي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي ليست جديدة , وهي موجودة فعلا , فلماذا يقال إن الأحزاب الشيعية هي التي قامت بهذا العمل ؟ مع العلم بأن الأحزاب والاتجاهات والتيارات الشيعية هي مظهر من مظاهر التشكلات السياسية الطائفية الموجودة في كل المذاهب .

{} ما هو واجب الحركات الإسلامية الشيعية في هذا الوقت ؟ وهل حققته أو هي بصدد تحقيقه ؟

بالتأكيد , إنني أشعر بأسف أن مثل هذه الحركات الطائفية أو المذهبية قد ذهبت باتجاه يخالف واجبها الأصلي , بوصفها تيارات سياسية وبوصفها تيارات إسلامية خالفت واجبها الأصلي وهو التركيز على الوحدة السياسية على الأقل.
التركيز على المشترك سواء المشترك الفقهي أو الديني , وعلى المشترك السياسي والقومي أيضا , وهذا الأمر هو من واجب التيارات السياسية جميعا بما فيها الأحزاب والتيارات الشيعية والسنية وكل التيارات الإسلامية .

{} إذا هل حققت شيئا من هذا أو هي بصدد تحقيقه ؟

لا أستطيع القول بأن الخطاب الإسلامي لم يحقق شيئا ولو محدودا في مجال إنتاج وعي إسلامي مشترك , قد يكون ذلك حاصلا ..
وهو حاصل فعلا ولكن في دوائر أقل بكثير مما يجب أن يكون عليه الأمر , يعني الخطاب الإيجابي الخطاب التوحيدي , الخطاب الوحدوي في الفكر الإسلامي وفي الحركات الإسلامية ما زال أقل مما ينبغي أو مما يجب بكثير .

{} ولكن بالنسبة للحركات الإسلامية الشيعية بشكل خاص, هل تقدمت خطوة ؟ هل حققت شيئا في الوقت الحالي ؟

لا أعتقد أن ثمة إنجازات ضخمة في هذا المجال , يعني لا من الحركات الشيعية ولا من غيرها من الحركات الدينية والإسلامية, لا يوجد إنجازات ضخمة .
وبالتالي أنا من الدعاة إلى إعادة النظر في الخطاب الديني السياسي نفسه , وأعتقد أنه لا يمكن أن ننتج خطابا مشتركا دون أن نفصل فصلا واضحا بين العقيدة الدينية أو المذهبية وبين الرؤية السياسية التي هي الإطار الحيوي لوحدة العرب ووحدة المسلمين .

{} قلتم إنه لا توجد إنجازات ضخمة ... فهل سماحتكم على اطلاع على أى مشاريع لهذه الحركات بصدد تنفيذها مستقبلا ؟

يعني إذا أخذنا بنظر الاعتبار مثلا أن هناك توافقا على تغذية عنصر الوحدة الإسلامية في مواجهة صعود الخطاب المذهبي , إذا لاحظنا أن هناك مؤتمرات تنعقد تحت شعار الوحدة الإسلامية في بعض المناطق في لبنان وإيران وتشارك فيها التيارات الشيعية , فإن ذلك يمكن اعتباره أحد الأمثلة على أن هناك اتجاهات إيجابية في هذا المجال , ولكن أريد أن تكون الوجهة أكثر وضوحا وقوة مما هي عليه الآن .

{} أى جهة أو حركة تتبني هذا الخطاب الوحدوي وهذه المؤتمرات ؟

توجد جهات إسلامية تنتمي إلى طوائف إسلامية مختلفة من الشيعة والسنة , وهي موجودة وتوجد تشكيلات سياسية في بعض المناطق تعبر عن هذه الوحدة مثل تشكيل تجمع العلماء المسلمين في لبنان , هذه ظاهرة إيجابية لأنها تجمع بين علماء مسلمين سنة وشيعة وتحاول أن تعزز الخطاب الوحدوى والرؤية الوحدوية , هذا أحد الأمثلة على ذلك .
أيضا في العراق اليوم والذي مع الأسف تأخذ فيه الحالة المذهبية شكلا متفجرا , نسمع أصواتا تنادي بضرورة الوحدة وتعارض هذا النوع من التشظي المذهبي والطائفي وتؤكد ضرورة الأهداف الموحدة للمسلمين .
يوجد أيضا في إيران مؤتمرات تنعقد تحت شعار الوحدة الإسلامية وتشارك فيها أطراف وشخصيات من المذاهب الإسلامية المختلفة .

{} ما هو مستقبل الإسلاميين الشيعة في ضوء الظروف الحالية ؟

لا ينفصل مستقبل الإسلاميين الشيعة عن مستقبل الإسلاميين بصورة عامة , وأنا أعتقد أن ظاهرة النزعة السياسية الإسلامية التي برزت في العقود الأخيرة هي ظاهرة إسلامية وليست شيعية وحسب , ولذلك أعتقد أن مصير هذه الحركات متشابه .
وشخصيا لا أعلق الكثير من الأمل على أن بعض هذه الحركات وهي حركات قد تكون قوية وفاعلة , لا أعلق أمالا على أنها سوف تقدم جوابا بديلا عن حاجتنا إلى النهضة من جديد كمسلمين ... أى يوجد مجال حيوي لنقد هذه الحركات ونقد خطابها السياسي , نقد خطابها تجاه حقوق الإنسان , تجاه الديمقراطية , تجاه العدالة ... أشياء كثيرة وبالتالي قدر هذه الحركات الإسلامية هو قدر مشترك ومتشابه , أى لا يوجد مصير لحركات شيعية بمعزل عن حركات سنية وبمعزل عن مصير الحركات الإسلامية جميعا .

{} لكن الظروف مختلفة في وقتنا الحالي والخطاب الطائفي موجود وواقع ؟

أنت تسألين شخصا لا يؤمن بالخطاب الطائفي , بل شخصا له وجهته , ويري فصل الشأن الديني عن الشأن السياسي , ويري أن الحركات الإسلامية في جوهرها هي حركات سياسية بالمعني غير الذي أتبناه وأؤمن به لأنني أعتقد أن هناك نوعا من التداخل الكبير بين التعصب الديني والتعصب السياسي علي النحو الذي حقق توقعاتنا المؤسفة مع الأسف .
وهي أن تغدو هذه الحركات ذات طابع مذهبي مع أنها كلها عندما انطلقت كانت حركات ذات خطاب إسلامي توحيدي يريد تجاوز التاريخ المذهبي السلبي بين المسلمين ولكنها ها هي مرة أخرى كما تلاحظين تقع في مطب المذهبية , أو بعضها أو أكثرها على الأقل يقع في مطب المذهبية .
لذلك أعتقد أنه لابد من قيام اتجاهات مختلفة تتجاوز هذا التعصب المذهبي باتجاه ترميم الهوية الإسلامية والهوية القومية أيضا على النحو الذي يمكن من إيجاد الأسس والمرتكزات لقيام النهضة التي نطمح إليها جميعا , النهضة السياسية والنهضة الثقافية والنهضة التنموية في عالمنا الإسلامي , إنني شخصيا لا أعتقد أن القوى الراهنة مؤهلة للقيام بهذه المهمة التاريخية .

{} الكل يتمنى ذلك , لكن المشكلة هي أن الواقع ...

( مقاطعا ) هل تريدينني أن أقر بهذا الواقع وأعترف بأطرافه ؟ أنا أدين الجميع وأعتبر أن ما هو قائم من هذا البروز المخيف للعصبيات المذهبية والطائفية والإثنية هو مظهر من مظاهر أزمة أو مأزق كبير يعيشه العالم العربي والعالم الإسلامي , ولا يمكنني فعلا أن أكون طرفا فيه , لأن ذلك لا يتناسب مع الرؤية الشاملة التي أتبناها والتي تختلف عما هو سائد حاليا .
فلابد لى إذا أن أمارس الفعل النقدي أن أمارس وظيفة المفكر ووظيفة الداعية الديني أيضا في هذا المجال وهي النقد , ولابد من تفكيك نقدي لهذه الظاهرة لكي نتلمس الاتجاهات الصائبة والصحيحة والتي تستلزمها حركة النهضة التي نطمح لها.