رسائل نورانية من قلب ظلام السجون

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رسائل نورانية من قلب ظلام السجون
رسائل الأستاذ جلال عبدالعزيز لعائلته

الرسالة الأولى

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

الأستاذ جلال عبد العزيز بجوار سور سجن الواحات

سلام من شفقة الشوق إلى لقياك، إلى حديثك إلى العيش معك وقد لا تكون لقياك بالقدر الذي يريح، ولا الحديث إليك بالقدر الذي يلهم، ولا العيش معك بالصورة التي ترضي، قد يكون ذلك وقد لا يكون، إلا أن هناك حقيقة واقعة لا تنكر، حقيقة تلمسها بحسك ومشاعرك، وهي أن لقياك خير من لقاء الآخرين، وأن التحدث إليك أطهر مما نجده في أي مكان آخر وأن العيش معك أقرب إلى إرضاء الله من العيش في أية بيئة أخرى.

سلام من خالط الناس فصرفوه عن سعادة الدارين، ووافاك فوجدك معوانًا على الخير أردت أم لم ترده وذلك الفضل من الله، وليس بالكسب المجهود في تحصيله.

سلام من جمعك الله وإياه على أمر سواء، فأيقن اليقين كله أنك خير من في الوجود، على الرغم مما فيك، وحسبك أن يكون اللقاء بك والحديث إليك والعيش معك أيسر السبل لنيل ما يسعى كل ذي بصيرة إلى نيله، فإن أدركه فلا عليه بعد ذلك كائنة ما كانت ظروف الحياة من مأكل وملبس ومقام، فليس الطعام هو الذي يشكل الإنسان ولكن الإنسان هو الذي يشكل طعامه ويكيفه، وليس الملبس بالذي يزين الإنسان ولكن الإنسان هو الذي يزين اللباس:

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه

فكل رداء يرتديه جميل

وليس المسكن والمقام بالذي يسعد الكائن البشري، ولكن الإنسان الماجد هو الذي يضفي على المسكن أصفى ألوان الجمال ولو كان كوخًا في دغل من الأدغال.

سلام من عرف أن لقياك وحديثك والعيش معك هي الوسائل التي تحقق السعادة الكبرى هي الأسباب التي بها وبنيلها تحقق الغايات، وأن غيرها من الأسباب التي يزعم متخذوها أنها تحقق لهم أغراضهم، ما هي إلا خيالات تافهة إن لم تكن مردية لأنها تصرف الناس عن مسبب الأسباب، فهم يرونه من خلال ما يتوهمونه، وإن كان الغرض أنهم يرونها من خلاله هو أولا.

وشتان بين قوم يقال لهم (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وبين قوم يقال لهم (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ فالذين يذكرون النعمة ينظرون إلى رب النعمة من خلال النعمة، أما الذين يذكرون مسبب الأسباب فإنهم ينظرون من خلاله إلى نعمه، وما أزكى امرأة فرعون يوم أن قالت: (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا [التحريم: 11].

سلام على من رأى الناس وقد فتنتهم القوة المادية فأعمتهم عن القوة القادرة المقتدرة لأنهم يلمسون الأولى بأيديهم فيحسونها، وأما الثانية فلا يلمسونها لأنهم فقدوا القلب الذي يهوى والنفس التي تعشق، والروح التي تسمو، فترى القوة الحقيقية المعمرة المدمرة ماثلة في كل شيء، أليس من تفاهة التفكير أن يؤمن المرء بقنبلة أنفقت فيها السنون الطوال حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، ولا يؤمن بالقوة التي تبطش في أقل من ثانية بقدرة وإرادة مطلقة فشأنه أن يقول للشيء كن فيكون.

سلام من يرى بلاهة الإنسان إذ يقول (أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: 66] ثم يغفل أو يتغافل عن أنه وجد ولم يك شيئًا!! أيها أصعب في الإيجاد؟؟ الإيجاد من عدم؟؟ أو الإيجاد من شيء قد كان موجودًا؟؟ عجبًا لتفاهة التفكير يكون الإنسان في قوة وفي منعة يضيقها الله عليه، ثم تذهب عنه، وقد يكون لسوء تصرفه دخل، فيلبس وينكس الرأس عجزًا ويأسًا.. أيعود لي ماضيّ، أو أحظى بما كنت فيه من "لمة وبيت واحد" مستحيل.. لقد انقضى كل شيء.. أيها الأبله.. أيها التافه.. أيها المغمور.. وإن الذي وهبك القوة والمنعة ولم يكن لك دخل فيها، قادر أن يعيدها إليك في أقل من لمح البصر متى رآك أهلاً لأن يجعل منك أداة تقيم دينه وينفع عباده.. ولأمر ما قصر الله اليأس على الكافرين.. إن الذي يؤمن حقًا بوجود إله له إرادة كاملة لا يعتورها نقص ولا تردد، إله له قوة جارفة لا يقف أمامها شيء من ذرة أو نترون أو الكترون إن الذي يؤمن أن الله خلقه ولم يك شيئًا، إن الذي يؤمن بذلك.. أنى لعوامل اليأس أن تجد لها في قلبه مجالاً؟؟ إنه يركن إلى هذه القوة فإن أصابه الضر علم أن ذلك بقدر من القوي القاهر فيرضى "وكل اللي ييجي منك يا المحبوب يعجبني" وإن أصابه الخير فهو بقدر من المنعم المتفضل فهو به ومنه وله وإليه.. وبه يستعين.. ومنه يستمد.. وله يسعى ويحفد.. وإليه المآل والصبر (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162] وما زلنا في الدنيا إلا الدين وشعائره والسعي في الأرض بكافة طرق السعي، والإعداد للموت الذي لا محيد عنه بكل وسائل الإعداد.. فاهم..

استغرق السلام الرسالة، وفي الرسالة القادمة إن شاء الله أبشرك بالرحمة وأسبح معك في جنانها الفيحاء وخمائلها الناضرة مبشرًا إياك.. أن هاؤم اقرءوا كتابية، إني صبرت للمحن الداهية، فجاءتني نعم ربي وافية.. بما أسلفت في الشدائد الماضية، لأنني كنت موقنًا برحمة ربي فعشت في أفيائها زمنا ظنه الناس متاعب وعشته رضا وتطلعًا إلى السماء..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

الرسالة الثانية

الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وأشرف المرسلين..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أسأله جل شأنه من كل قلبي الذي تملؤه محبتك أن يهبك الله قلبًا يقظًا صفا بنور الله، ونفسًا وادعة تركن في كل حالاتها إلى جانب الكبير المتعال، ورضا تزدان به حياتك في كل حال. تسألني يا بني: ماذا تفعل؟ وقد دهمتك الدنيا بأحداثها، وتسألني يا بني كيف تتصرف وقد جلبت عليك بخيلها ورجلها؟ وتسأل يا بني أين تتجه وقد تشعبت بك المسالك؟ وتسألني يا بني ماذا تأخذ وماذا تدع وقد تضاربت حولك الأقوال، وتعارضت الآراء والنظريات؟ تسألني يا بني عن كل ذلك وأكثر من ذلك، وكأنك تتوقع أن تجد عندي دواء ناجعًا، وجوابًا شافيًا، وتوجيهًا هاديًا.. وأعجب بدوري، ووردنا واحد، ومنهلنا سواء، وقد علمت ما علمتُ، وقرأت ما قرأتُ.. وكان هواي ألا أجيب على شيء من ذلك، لأني خشيت أن نكون ممن أضله على علم، وأن تكون من ذوي اللجاج الذين يطلبون إقامة الدليل على سطوع الشمس في يوم صائف الأغمام فيه ولا كهام( )، ولكن حنان الأبوة ووداد الأخوة الإسلامية يطالبني بحسن الظن، وألا أظن بكلمة خرجت من فم أخي شرًا، وأنا أجد لها في الخير مجال.

فإليك يا ولدي يا أحب الناس إليّ ما أجده من إجابة لذلك السؤال، إجابة ليست من بنات فؤادي فالمقام ليس مقام سؤال وجواب، ولكنها إجابة الشرع القويم الذي أقول وتقول به هاديًا ودليلاً (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ [يونس: 32].

قال عمر بن الخطاب لكبار قواده: إن كان قتال فعليكم أبو عبيدة فاكتبوا إليه إنه قد جاش "أي اشتد وازداد" إلينا الموت، فأيدنا فكتب إليهم أن قد جاءني كتابكم تستمدونني وإني أدلكم على من هو أعز نصرًا، وأحصن جندًا: الله عز وجل فاستنصروه فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد نصر يوم بدر في أقل من عدتكم فإذا جاءكم كتابي فقاتلوهم ولا تراجعوني فقاتلوهم فهزموهم.

هذا كلام الملهم المحدث مستندًا فيه إلى موقف من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائعة الباهرة، مستدلاً عليه بقول رب العالمين (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ [آل عمران: 126].

فإذا كان هذا قول مؤمن من المؤمنين مستندًا فيه إلى موقف من مواقف خير الله أجمعين عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم مستدلاً عليه بآية من آي القرآن الكريم؟ فماذا عسى أن أقول أو يقول أمثالي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ [النساء: 174].

يا بني ما الدنيا وما خيلها ورجلها، وما حسبانها، ما ذلك كله إذا وقرت في صدرك إحدى عشر كلمة من كلمات الله، لا عليك بعدها من شيء جل أو هان كبر أو صغر (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ [غافر: 51] فالله وهو الصادق القول والحديث، يقول مؤكدًا قوله في جملة واحدة بمؤكدين "إن ولام التوكيد" وهو عز وجل في غنى عن ذلك، إنه لينصر رسله، (وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ.

فنصره ليس بقاصر على رسوله فحسب ونصره ليس بكائن يوم التغابن فقط ولكن ينصر المؤمنين وفي الحياة الدنيا، ووعد الله لن يتخلف أبدًا أبدًا، ولكن العقبة الكأداء في الذين آمنوا فيوم أن نكون منهم حقًا، ويوم تتوفر فيك شروطهم صدقًا هنالك ترى النصر بعينيك، وتلمسه بيديك، أما وأنت لم تتوفر فيك شروطهم ومجرد حيرتك دليل على ذلك، ومجرد قلقك النفسي لا يدل على أنك منهم، ومجرد اضطرابك الذهني يباعد بينك وبين طريقهم، أما وأنت كذلك فلا تسائل ربك عن نصره متى ينزل، ولكن عد على نفسك باللائمة وخذها بالحزم، حتى تسلك الطريق (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ [الروم: 4، 5].

تساءلني يا بني أيها الحبيب: أين تتجه وماذا تأخذ وماذا تدع؟؟ وأنت في بحران هذا الهرج والمرج وهذا اللدد وهذا اللجج فأي شيء أنا لا أقدم لك ما يشرح صدرك ويسر خاطرك؟ أين أنا بعد أن يقول الله جل وعلا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 57، 58].

الأمر أيسر بكثير مما تظن أو تتخيل وإنه لأوضح من أن يستشكل فيه كائنًا ما كان ذكاء المجادل، إما أن نكون مؤمنين أو لا نكون، فإن كانت الأولى فهذا هو طريق المؤمنين، راضية به قلوبهم، هاتفة به نفوسهم، عالية به أرواحهم، سعيدة به أحاسيسهم ومشاعرهم، وأما إن كانت الثانية فإني لا أملك لك من الله شيء (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56].

قد تراه كلامًا يحتاج إلى الدليل الذي يحتاج إليه الذهن الكليل، أما أنا فأحيا به وأعيش عليه وأعمل من أجله، ولا أطلب من الله إلا أن يثبتني عليه (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً [الإسراء: 74].

هذا ما لديّ يا بني وأنا لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف: 188] وما أنا إلا عبد يسبح بحمد ربه بكرة وعشيًا ويسجد له حين يمسي وحين يصبح ويحس بوجوده وفضله إحساسًا عميقًا ومليًا، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته أولاً وأخيرًا.

الرسالة الثالثة

الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وأشرف المرسلين..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

الحياة حركة، وحركة دائبة، حركة مادية وحركة معنوية، فإذا بطلت الحركة كف الجسم عن الحياة فلابد للحي حس ومعنى من التفكير لأنه مظهر واضح من مظاهر الحياة، ومن علامات حياة الفكر ورود الخواطر المتوالية عليه، يتقبل منها ما يرضيه، ويرفض منها ما لا يرضيه، يرتاح إلى ما يوافق منها نظرته وما خلق له، وينفر مما لا يتمشى مع هذه الفطرة الجبلية، وما أشد ازدحام الفكر وبخاصة في مثل ما نحن عليه من أوضاع، وبحكم ما بيننا من أخوة فإني أعرض عليك ألوانًا من هذه الفكر المتواردة، ولست أدري أوحدي تنتابني هذه الهواجس أم أنها تغزو خواطر آخرين.

إني أوقن بأني على حق، وأني أدعو إلى حق، ولو كنت أعلم أن الحق في غير ما أدعو إليه لوليت إليه وجهي على عجل، ولكنه الحق الذي لا حق بحق سواه وما أسعد المرء وما ألذ المتعة أن يصادف الحق هوى في نفس صاحبه فيجمع بين متعتين، متعة الحق المبين، ومتعة الهوى المستبين، فيجد مع عظمة الحق وجلاله، أنس الهوى وجماله. قد تحدث النفس صاحبها – وهي في هذا المجال أمارة بالسوء – قائلة: ألا تبصر؟ ألا تفكر؟ ألا تبحث لنفسك عن مخرج؟ أتتخذ السلبية خدينا فلا تحرك ساكنًا؟ ماذا دهاك؟ الأهل والمال والولد في انتظارك!! إن لهم عليك حقوقًا فلا تضيعها؟ هل يقتصر العمل لله على بقائك رهين هذا المعتقل؟ وإلى متى؟ أي عون تنتظر؟ أي نصر تترقب؟ لا لا.. فكر قليلاً.. وما دام لا أمل فالزم بيتك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.

قد تحدث النفس صاحبها بهذا وبأكثر من هذا، ويروح صاحبها في صراع عنيف بين عاملين متنافرين، على طرفي نقيض، قد يستهوي حب الدنيا صاحب هذه النفس وقد تواتيه الفتاوى "اللي يعلم بها ربنا" وقد يحس ميلا إليها، والنفس هنا أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، والشيطان مستمر عن ساعد الجد، باذل أقصى ما يستطيع، وما أكثر وما أخطر ما يستطيع فإن هوى هوى، وإن تماسك نجا، وضعاف الأحلام عن اليمين والشمال عزين، يلبسون ويفرون، لنصبح جميعًا "في الهوا سوا، وماحدش أحسن من حد" فمن أصاخ السمع زل، وإن كف السمع فاز (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [فصلت: 25] وقد يتريث صاحب هذه النفس في شأنه على مهل، ولعله يسائل نفسه.. ترى يوم أن خاطب الله المسلمين بهذا الدين، تراه – جل شأنه – طلب منهم أن يعملوا وأن يحققوا نتائج؟ أتراه – عز وجل – يجزل العطاء لمن يعمل وينجح، ويمنع العطاء من يعمل ويفشل؟! أتراه – تبارك وتعالى – قال: "اعملوا" فقط، أم أنه قال: اعملوا وانجحوا؟؟ على من يؤمن أن له ربًا (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء: 23] أن يعمل ولا شيء غير العمل، أما ما عدا ذلك فموكول إلى صاحب الشأن المتفرد عن الشريك والشبيه والنظير.

لقد انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ولم يتجاوز الإسلام حدود الجزيرة العربية، ثم بلغ في عهود الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين ما بلغ فهل يجرؤ مؤمن أن يقول إن هؤلاء خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الإسلام وصل في عهودهم إلى ما لم يصل إليه في عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؟ هل يعقل أن يقول مسلم مثل هذا القول، أو حتى أن يرد مثل هذا الخاطر على فهمه وتفكيره؟ كلا وملايين المرات كلا، كلا وما يعلمه الله من عدد.

إن هذا الدين يوم أن طالبنا بالعمل في سبيل الله، إنما كان يبني سياسته على المدى الطويل الطويل جدًا، لأن العمل مستمر فيه إلى اليوم الآخر من هذه الدنيا، ولكي يحظى كل مسلم على مدى الدهر بمثوبة الله ورضاه، فعليه أن يعمل، أما أن يرى العامل في حياته نصرا أو لا يرى، فذاك شأن صاحب هذا الكون، وإذا أنت سيطرت على ذهنك فكرة النجاح ساعة العمل على يديك، فما الله أردت ولكنك أردت مفخرة وأردت عاجلاً، الله وحده يعلم مدى ما فيه من ثواب.

إن المسلم العامل الذي يجعل الله غايته، ما له من وسيلة إلى تحقيق هذه الغاية إلا العمل، والعمل وحده، وهو المجال الذي يحب الله سبحانه أن يراك فيه غير مقصر ولا متوان، إنك في أشرف موقف، وفي أعز مكان، موقف الله ومكان اختارك للعمل فيه، تحالفت عليك قوى الشر من جميع بقاع الأرض، على مختلف أديانها، لم تترك ضربًا من ضروب الشر إلا لحقته بك، تخشاك على ضعفك، وتخافك رغم أنك أعزل، وأنت صامد لا تلين لك قناة، ولا يغمز جنبك غامز، رافعًا راية الله لا تلقيها ولا تسلمها، لغاية واحدة هي أن يراك الله صابرًا في سبيله، محتسبًا من أجله، خلفت المال والأهل والولد دَبْر أذنيك – على حبك لكل هذا – واستقبلت الله بوجهك ركضًا إلى المعاد، بغير قوة ولا زاد، إلا التقى والرغبة في جزاء ما له من نفاد، إنه الجهاد الأسمى الجهاد، إنها الإيجابية كل الإيجابية، على مستوى أعلى صعيد في الوجود، إنه الفهم السليم والدين القويم والطريق المستقيم.

أقول لها وقد طارت شعاعًا

من الأبطال ويحك لن تراعي

فصبرًا في مجال الموت صبرًا

فما نيل الخلود بمستطاع

فإنك لو طلبت بقاء يوم

على الأجل المحدود لك لن تطاع

قل للذين أخطئوا الطريق: لقد أبصرت فتبينت، ولقد فكرت فاهتديت ولقد بحثت عن المخرج في جد فوجدته في الرضاء بقضاء الله دون ترخص ولا دنية، أنا الحركة الدائبة في تلقي الضربات في عزة وإباء، أنا المشعل الذي تنبعث من وهجه أضواء الدعوة الإسلامية في هذا الزمان، أقول بملء فيّ لا، ولا يهمني أن تصغي الدنيا إليها أو تسمعها، لأني ما عليها حرصت، ولا إليها سعيت، ولكني يهمني أن يسمعها الله مني فيكتبها لي عنده، أما المال والأهل والولد، فقد قلت صادقًا مخلصًا مؤمنًا أن الله نعم الخليفة فيهم جميعًا، وقدره ماضٍ فيهم سواء أكنت معهم أو بعيدًا عنهم، وقضاؤه أحب إليّ من كل شيء وأما مقامي هنا فهو أروع ما أقدمه في هذا السبيل وفي مثل هذه الملابسات، إنكار للباطل، وتعالٍ عليه واستمساكًا بكلمة الحق ما أعان الله على هذا الاستمساك، مُضَحٍ فيه بالعزيز الغالي وامتنان لله من كل قلبي أن وفقني لذلك وأعانني عليه، ورباط على ثغرة من ثغور دعوة الحق ألا تجد قائلاً لها في هذا الزمان سواي، وفيّ بفضل الله وعونه ستجد هذا الحاني الراضي الشكور فتظل ممسوقة الذرى، خفاقة ترفرف عليها ملائكة الرحمة تباركها وتبارك من يناديها بها، ولا يقيم من أجلها وزنًا لشيء.

أما القوي الذي أستعين بها، والنصير الذي أستعد به، فجبار السموات والأرض القوي القادر القاهر، وها هي آياته تبدو لعيني في كل حين، وما هي إلا إرهاصات بدحر الظلم، وانقشاع غياهبه، وإيذان بشروق نشر الدعوة في سماء يقين المسلمين.

أما إلى متى هذه المرابطة؟ فعلم ذلك عند ربي لا يجليه لوقته إلا هو، في الوقت الذي يشاؤه ويرتضيه، وليس ذلك من شأني، وإلا تدخلت في علم الغيب وليس ذلك إليّ، ولست هناك.

وما لعاقل أن يقول لعامل: كفَّ عن العمل، فالنتائج لا تأتي اعتباطًا، ولابد للنتيجة من مقدمة، وما أنا عليه هو المقدمة، (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ [الأعراف: 43] أنا سائر على الدرب، وكل من سار على الدرب وصل، سواء أوصل هو أو وصلت دعوة الله التي لا يبتغي إلا نصرها، وحسب المرابط كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه: إن عمله لا ينتهي بموته، كما ينتهي عمل كل إنسان بموته، ولكنه يُنَمّى ويزيد إلى يوم القيامة.

يا حبيب: لقد نصحت، والدين النصيحة، وما أردت إلا الإصلاح، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

أسأل الله أن يكون ما نقدم حقًا وأسأله أن تتلقاه أذنًا واعية، فلأن يهدي الله برجل مسلمًا خير له من حُمْر النعم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الرسالة الرابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.. والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه وسلام عليك أيها الحبيب وعلى كل صاحب قلب وصلنا الله تعالى بوده القديم الذي لا يزال ولا يزول.. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96] سلام لك أيها الحبيب.. من قلب أحبكم على هذا الغيب العميق الذي لا يُدرى مداه، حب تحيا به كل خلجة من خلجات مشاعرنا مع الغدو والآصال.. والعشي والإبكار، إن أفئدتنا تخفق بحبكم ثم تدفعه يسري روحًا في خلايانا.. أيها الأحباب من كل مؤمن القلب واللسان والجوارح من كل مؤمن صادق الشعور ثابت اليقين طيب القول صالح العمل من كل مؤمن وقف على الإيمان حياته وموته، من كل مؤمن جعل الإيمان وسيلته، إلى كل غاية.. وجعل غاياته جميعًا تنتهي إلى أكرم غاية.. إلى رضوان الله.. الذي قال الله تعالى فيه بعد أن ذكر نعيم أهل الجنة (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 72].

إليكم أيها الأحباب تعطف عواطفنا من كل صوب.. في مسيرتها المباركة إلى الله تعالى الذي وجدناه في كل مقصد وشأن.

أيها الأحباب.. لقد كان لنا راحة في لقائكم في عالم الشهادة.. فسمات وجه عليه آثار.. رحمة الله تمتع النظر.. ونبرات صوت بذكر الله.. تمتع السمع ليس لها حدود.. كل هذه.. حظوظ نفسي ألفناها حينًا من الدهر.. ثم أراد الله تعالى أن يزوي عنا هذه الحظوظ ليختبر إخلاصنا لله.. هل يبقى حبنا الذي ألفناه على حرارته لا يبرد.. وفي حيويته لا يفتر.. فإن غابت ذواتنا.. فإن ذات الله لا تغيب وأراد الله تعالى بفضله ورحمة أن يشهد منا ما نرجو أن يكون إخلاص يرضى به عنا فاستدام حبنا بالغيب.. كما كان بالشهود.. وإن زاد في مشاعرنا شيء جديد.. اسم الشوق وشيء آخر اسمه الحنين.. فحين يطوف طيفكم.. متشوقون إلى رؤياكم.. وحين يأتي ذكركم الجميل نحن إلى لقائكم السمح الكريم.

كم من الفترات أقضيها معكم مجنحًا بخيالي زائرًا بمشاعري وخواطري مفكرًا متأملاً في الذكريات الغوالي التي قضت والتي نعيشها ونلتقي عليها كل مساء.

الرسالة الخامسة

الحمد لله فاطر السموات والأرض..

والصلاة والسلام على هادي الخلق للحق بإذن الله سيدنا ورسولنا وقائدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته.. وسار على سنته إلى يوم الدين.. آمين.

شقيقي الحبيب دكتور حمدي..

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..

الأستاذ جلال عبدالعزيز وأخوه الدكتور حمدي بجواره

ومعذرة لبعض تأخري في الرد على خطابك المؤرخ في 28-8-1970م فقد كان خطابًا يستحق مني أكثر من الرد المألوف على الخطاب المألوف.. لست أدري لماذا جعلني هذا الخطاب مشدودًا إليك.. مشغولاً بك.. مشوقًا إليك أكثر وأكثر.. ومستشعرًا نحوك قدرًا أوفى وأعظم من الرد على خطاب أو صلة أخ بأخيه بين ظروفي وظروفك لا سيما وأنك أثرت في خطابك بعض المسائل الإسلامية في أصول العقيدة فيما ثار في نفسك حول ما قرأت مما يسميه مؤلفه الدكتور مصطفى محمود: محاولة التفسير العصري للقرآن الكريم..

ومهما يكن من شيء.. فعاطفتي نحوك تجعلني أعيش معك كثيرًا معايشة لا ينقصها سوى اللقاء والمشاهدة..وعجيب أمر العاطفة والحس والشعور في دنيانا هذه..!! إنها لا تعترف بالمسافات ولا تغلبها السدود ولا القيود ولا تحول دونها البحار والمحيطات والجبال والوديان والأنهار.. مثل التي بيني وبينك.. ولا يجري الزمان عليها بالقدم والهرم وإنما تزيد الأيام صدقها صدقًا وأصالة [وما كان لله دام واتصل].. ومدار ذلك كله ليس البعد والقرب في المسافة أو الزمن وإنما مدار ذلك [الصدق] والصدق فقط في أصل الشعور والعاطفة، فكم من أحباب تباعد بينهم البحار والجبال والصحاري وتتابع بينهم الأيام والسنين.. ولكن مشاعرهم وخفقات قلوبهم تطوي حوائل الزمان والمكان بينهم طيًا.. إنها القلوب الصادقة المخلصة، والإخلاص سر من أسرار الله استودعه قلب من أحب من عباده وما يجري بين هذه القلوب من المرحمة والحب والشوق والمشاركة والتداعي والألفة شيء كذلك تفرد بصنعه الخالق سبحانه وتعالى الذي خلق كل شيء ومنها القلوب والأفئدة (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الملك: 23]. بل وما يجري بينها (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال: 63].. سر من أسرار الخالق سبحانه ليس يُدرك بإنفاق المال ولا الهدايا.. ولا مشاركة الحياة وجهًا لوجه.. ولكنه ثمرة صدق العلاقة بالله فيجعل بين الصادقين في علاقاتهم به: هذا الود والحب والمرحمة فيما بينهم أما إذا ضاعت هذه الوصلة بالله.. فانظر..كم أناس يعيشون في هذه الدنيا يرى بعضهم البعض آناء الليل وأطراف النهار وبين قلوبهم وأرواحهم ومشاعرهم ما بين المشرق والمغرب بُعدًا.. وما بين الليل والنهار ظلمة.. وما بين الحب والكره إنكارًا.. يخيم على حياتهم وجوم كصمت القبور.. ويشيع بينهم من مظاهر الحياة أحقاد عفنة.. أو شهوات دنسة.. وكم لله في خلقه من شئون. والحمد لله رب العالمين.. فما بين قلبي وقلبك من صدق العلاقة والأخوة الطاهرة منذ استقبلنا الحياة واستقبلتنا الحياة.. ما جعلني أحيا وأعيش معك على القرب والبعد.. حياة ليس يعوزها إلا قرب اللقاء إن شاء الله..

أخي وصفي الروح حمدي..

لقد عشت خطابك.. عشت سطوره.. عشت كلماته.. عشت صروفه.. وإن لحروف كلمات الأحباب نبضها في قلوب أحبابهم فهي كلمات تقرؤها العين.. بل هي كلمات تطرق السمع.. بل إن لها نبضًا يتلقاه القلب، ولقد كان لكلماتك هذا النبض الذي جعل عيني تقرؤها.. وأذني تسمعها.. وروحي تنصت لها من داخلي ذلك الإنصات العميق بصداه الواسع.. حبًا لك.. وشوقًا إليك.. ورغبة عميقة صادقة في أن أراك بين سطورك وأسمعك.. وأحس أو أتحسس قلبك وخواطر هذا القلب.. الذي سعدت بدفء جواب سنوات العمر وسنسعد إن شاء الله باللقاء متى شاء الله وحيث شاء الله..

قد نفرح بذلك في الدنيا وقد نسعد بذلك في الآخرة وأنا بذلك أسعد في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. وشتان شتان بين لقاءات الدنيا ولقاء الآخرة.. لقاءات الدنيا بأخلاط مشاعرها بين الخير والشر وتنوعات مآربها وهتافات شهواتها ولقاء الآخرة ونسأل الله أن يكون في الجنة خلودًا.. وصدقًا.. وسعادة بلا لغو.. بلا تأثيم.. آمين.

فحديثي معك اليوم هنا، ليس رد خطاب، وإن كان رد خطاب.. ولكنه جلسة معك بروحي وعقلي ومشاعري تطاولك أشواقي من بين سطوري ملهوفة عليك.. تطل من عيني أشواقها لتراك.. وترهف أذناي تتسمعك.. وتسبح معك الروح تعايشك من أمسنا ويومنا تستطلع غدنا المشرق المؤمن بإذن الله.. وتجيش خواطري بين أضلعي تُداخل على البعد خواطرك.. وتستبد بي أشواقي وحبي عاجزًا عن أن أراك أو أتحدث إليك أو أقدم لك بيدي هدية.. ولله الحمد على كل حال.

فاعتصرت قلبي في كلماتي هذه أسوقها إليك وفيها رحيق العمر لحبيب العمر وشقيقي العزيز حمدي.. إن ما ستقرؤه من سطوري التالية هو أعز ترجمة لما في كياني كله.. في القلب عقيدة.. في العقل فكرًا.. في الوجدان مشاعرًا وأحاسيسًا والله أسأل أن يشرح صدرك لها وتُسعدني بردك عليها من أعماقك كما أحدثك هكذا من أعماقي:

ليس يفوتني وقد بعثت بتحياتك لأخي الأستاذ عبد المنعم أن أبعث لك بسلامه ودعواته، ومبروك انتظاركم المولود الثاني – رزقكم الله الذرية الصالحة – وتهنئتي القلبية لمدام كارن بماجستير الأسباني. وبمناسبة ذكرك العمل في الصناعة والتدريس.. لك أطيب تهنئتي القلبية على إخراج مؤلفك الجديد [المولود العلمي الأول] زادك الله بسطة في العلم والجسم ونفع بك.. وأنا أعلم أنك تفضل التدريس على دنيا الصناعة.. وفي كلٍ خير إلا أن نظرتك تؤثر الحياة في غرس النفوس أكثر، وغرس النفوس بالخير في إسلامنا الحبيب هو ركيزة الإنتاج.. فحضارة الإسلام ثمار إنتاج القلوب المؤمنة والعقول المفكرة العابدة المعمرة للكون على ما أمر الله وسخر ودبر وقدر وهيأ وشاء.

ولعل الشاعر يصور بعض حالي معك حين يقول:

أَبلغْ أخانا تولَّى الله صحبتنا

أني وإن كنت لا ألقاه ألقاه

وأنَّ طرفي موصولٌ برؤيته

وإنْ تباعد عن مثواي مثواهُ

الله يعلم أَنِّي لست أذكرهُ

وكيف أذكره إذْ لستُ أنساه

وشكرًا لاتصالك بالمهندس علي حجازي.. ثم حلقت بي مع رحلتك في هذا الصيف.. أسأل الله لك خير الأوقات وحسن تمضية عمرك بين خيري الدنيا والآخرة.

عزيزي حمدي..

الدكتور حمدي عبدالعزيز اخو الأستاذ جلال

من أين أبدأ حديثي..؟ وأنا معك في زحام مزدحم من خواطر شتى بين ماض بعيد.. وماض قريب.. وحاضر أظلنا متباعدين.. ومستقبل يوشك يُطل علينا وهو في ضمير الغيب مغيب..

إيه أخي الحبيب.. شقيقي.. ابن أبي وأمي.. كيف دارت الأيام والسنون.. كيف كنا صغيرين في ريفنا الحبيب.. كيف جرت المقادير عليَّ.. وعليك.. وعلى الناس والأهل والأحباب.. عجبًا ورضًا بالأقدار.. أكان أذرع عمري بعمرك حاضرًا وماضيًا فأرى في اليوم أمسي وأمسك..! أعبر بك خواطري إليك.. أحادث نفسي عنك وعني.. أتراك تسمعني..؟؟!!

كم يملأ قلبي ذكراك.. كم يملأ قلبي حاضرك يا دكتور؟

ملئ سمعي وإن لم أسمعك؟

ملئ بصري وإن افتقدت عيني رؤياك!!

ملئ وجداني.. وإن هفا قلبي حنينًا لذكرياتك معي..

دع عنك مشاغلك الآن وتعال نعش هنا بين طوايا هذه السطور.. وما شاء الله لنا من وقت وحال.. لحظات خالصة لله.. فوق كل اهتمام.. أخلص من كل وجهة.. أكون أنا وأنت فيها شقيقان مسلمان جئنا للحياة الدنيا من أب وأم واحدة ودرجنا حتى بلغنا رشدنا وأكرمنا الله تعالى بنعمة الإسلام الذي هو قمة النعم وكماله الذي ارتضاه لنا.. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3].

أخي حمدي..

إلى أي مدى يستطيع الإنسان في هذه الحياة الدنيا أن يخلص اهتماماته لله تعالى واهب الحياة.. ويا كم تشغلنا نعمه التي وهبنا إياها لنشكره، عن أن نحيا له ونعبده (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56 : 58]. والصلاة عبادة.. وكذا الصوم.. والزكاة.. والحج.. والجهاد.. والسعي.. والرزق.. وطلب العلم.. وإقامة الحضارة على أساس من الإيمان والتوحيد.. كل ذلك عبادة.. تُرى إلى أي مدى يستطيع الإنسان في زحام الحياة أن يخلص اهتماماته لله واهب الحياة.. وما أحوجنا أن نفعل ذلك كثيرًا.. نراجع [البوصلة] ونحدد المسار.. (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام: 153].. (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [الجاثية: 18]. وما من شك أن ديارنا تباعدت كثيرًا.. وتتابعت على ذلك سنون كثيرة ولقد نشأنا وعشنا على كلمة سواء: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.. ويقيني أنها بكل منطوقها وجوهرها ومقتضاها.. مستقرًة تمامًا في قلبك – بإذن الله – ولا أزكي على الله أحدًا..

ولكن.. على مر السنين.. وتباعد الديار.. والبعد عن مجالس الذكر والقرآن والتذكير.. ومشاغل الحياة واستيعابها لطاقات الإنسان ووقته.. واستبداد مشاكل العصر بخلاصة الفكر.. وتنوع مظاهر الحضارة بين حضارة نشأنا فيها بالأمس.. وحضارة أنت تحيا فيها اليوم..

لا شك أن لكل ذلك انعكاساته وانطباعاته في العقل وأفكاره وفي القلب واعتقاده وفي الشعور وأحاسيسه الأمر الذي يجعل من لحظات التفكير والتأمل والتذكر والتدبر ومراجعة منهج الحياة وخط السير.. أمرًا ضروريًا: على الأقل: بين الآن والآن.. نعيش حقائق حياتنا الرئيسية بعمق.

ما الحياة؟ ما الحياة أصلا؟ ما العمر؟ ما التكليف؟ ما الدين؟ ما الموت والبعث؟ ما الحساب؟ ما الجنة؟ والنار؟ إلى أي غاية نسير في الحياة؟ وكيف نسير إلى غايتنا؟.

لذلك تجدني أتحدث إليك.. هذا الحديث.. حديث المراجعة.. مراجعة حقائق الحياة والاعتقاد.. أستشعر معها أنها راسخة في قلبي وقلبك أقوى من عوامل الزمن ومظاهر الحضارات ومشاغل الحياة.. نعيش بها.. ونعبر بها كل شأن وشيء على نحو ما أراد الله فيما أرشد بالكتب والرسل.. ولا نكون كالذين استهوتهم الحياة الدنيا بمتاعها وزخارفها ومشاغلها وحضارتها وظاهر علمها (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 7].. عندئذ.. وبالقرب من الله.. يحس الصادقون مع الله أنهم برغم أي فواصل أو مسافات بين أجسادهم تتلاقى قلوبهم وأرواحهم على البعد كالقرب.. لقاءً أغنى عن كل بعد.. وفوق كل افتقاد.. لأنه فوق كل عرض زائل من أعراض الحياة.. موصول بالحي الباقي الدائم الأول الآخر سبحانه وتعالى.. أعود فأقول.. لحظات مع الله.. فوق مشاغلك وإن كثرت..

وكأني بك أنا وأنت شقيقان مسلمان.. وجهنا وجوهنا لله نستقبل حياتنا.. تُرى ما هي ركائز الحياة الأساسية.. ما هي المحطات الرئيسية لشارع الحياة؟ ما هي المعالم الحقيقية للطريق إلى الله.. عبر الحياة الدنيا؟ ما هي مطالب العمر وأهدافه؟ حتى نستطيع أو نحاول على علم وبصيرة ومتابعة حقيقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نقضي العمر في ظلال رضوان الله واهب الحياة وكل النعم.

أخي.. هناك محطات رئيسية للعمر عبر الحياة..

1- المرء يولد.

2- المرء يبلغ فيكون مكلفًا مسئولاً عن الدين.

3- تمتد الحياة وتمتلئ بالأعمال ثم الموت.. وأخيرًا البعث والحساب والجزاء.

وفي رحلة العمر بالنسبة للإنسان العبد المخلوق حقيقتين رئيسيتين:

أولاً: أن الإنسان عبد مخلوق، خلقه الله الخالق الواحد (خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق: 2]، (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الملك: 23]، وهيأه في خلقه وتكوينه وسمعه وبصره وعقله وسائر أسراره فيه لأمرين اثنين:

أ-العبودية لله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]

ب-عمارة الكون وخلافة الله تعالى فيه على أساس من الإيمان (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30]، (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53]، ثم الموت (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185]، ثم البعث **** ثم الحساب ثم الجزاء (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر: 16، 17].

وفي كون الله.. وفي خلق الله.. من الأمور.. والسنن المخلوقات.. وغير ذلك.. ما هو فوق عقل الإنسان وقدراته واستيعابه.. ففي الكون ما يراه الإنسان وما لا يراه، وما يعقله وما هو فوق عقله، ذلك لأنه مهيأ للعبودية والعمارة.

فالإنسان مثلاً لا يرى عبر الأجسام الصلبة ولكنه بالعلم الذي أذن الله بكشفه له اكتشف الأشعة من الكهرباء ولهي تعبر الأجسام الصلبة وتصورها والإنسان اكتشفها ولم يخلقها، وكذلك نقل حدود التليفزيون وغير ذلك كلها طاقات وأشياء موجودة في خلق الله.. كلها تؤدي للإيمان بالله.

ثانيًا:

إن جميع المعتقدات والفلسفات الحديثة والقديمة تجري على أحد قاعدتين في الاستقرار:

1- إما على أساس من الإيمان بالله "خالقًا ومدبرًا ومميتًا وباعثًا ومالك يوم الدين وما يستتبع ذلك من تصور يرتكز في جوهره وتفاصيله على الإصلاح المبني على هذا التوحيد، وكما أسلفنا من معالم الإيمان بالغيب، وقد يكون من المغيبات ما هو فوق العقل ولكنه ليس ضد العقل.

2- طريق ثان: تقوم فيه المعتقدات والحركات الإصلاحية والفلسفات.. على أساس إعمال العقل فيما تتناوله الحواس فحسب [وهذا خلاصة المذهب المادي] ولست أستطيع هنا.. [لو كنت أحب] أن أبلغ غاية التفصيل في هذا الشأن وإنما بحسبي أن أشير في الرد على خلاصة المذهب المادي [الملحد] إلى نقطتين مركزتين فقط:

أ-لا يكون وجود من عدم:

وقد ثبت ذلك بإذن الله قطعًا في مستحدثات علوم الذرة والنواة والبيولوجيا الحديثة كما تعلم أنت أكثر مني طبعًا بحكم تخصصك وفي هذا يقول الله الخالق العظيم جل وعلا: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35].. لا يكون وجود من عدم.

ب-يقول العلماء المحدثون عن أمور أثبت العلم وجودها وليست تقع تحت الحواس فهي ليست في متناول حواس السمع أو البصر أو الشم أو اللمس أو التذوق باللسان كالجاذبية مثلاً فيقول العلماء.. نعرف وجودها من آثارها وكفى بذلك دليلاً على استخدام الماديين لمنطق إثبات الوجود عن طريق الاستدلال بالآثار والظواهر وهو من الركائز الأساسية في منطق العقل المؤمن.. المؤمن بالغيب.

نعود إلى رأيك فيما يكتبه الدكتور مصطفى محمود.. فإن الأمر يحتاج إلى وقفة متأنية لنعرف ما له وما عليه..

ولنبدأ بما له طبعًا فلا شك أن شعاعًا من النور قد مس فكره فاهتدى إلى وجود الله تعالى بعد أن كان ملحدًا ثم لمس قلبه بعد ذلك فوجد حلاوة الإيمان فيه وتفتحت لذلك أمامه كنوز كانت قبل ذلك عنده مغالق وطلاسم!! فها هو القرآن الكريم الذي طالما صد عنه قد أصبح أو بالأحرى أرجو أن يكون كذلك هاديه ومرشده وأصبح روضته التي يتفيأ ظلالها وواحته في هجير الحياة، يجد في رحابته ريّا لقلبه الظامئ حتى أدى لافتتانه وسروره إلى محاولة تفسيره في ضوء معطيات العصر.. [كما تحدث هو عن نفسه في كتابه الأخير رحلتي مع الشك إلى اليقين] ولك أن تعلم أنه لم يأت بجديد فلقد سبقه في هذه المحاولات – الفاشلة – قومًا آخرين من قبل من اليهود في الإسرائيليات الموضوعة وغيرها.. وكذلك النصارى.. وبعض المستشرقين الذين يدسون على معالم الاعتقاد ما ليس فيها كل هذا له دلالة طيبة ولا شك وهي أن مصطفى محمود قد فتح الله قلبه على هذا الخير الكبير وأنه في طريق النور وسيصل ولا شك إلى الصورة الكاملة متى صدقت نيته وإيمانه بالله.. لكن هل يعني ذلك أن كل ما قاله في تفسيره للقرآن الكريم كان صوابًا.. أقول لك وبدون افتعال المقدمات والمداخل.. لا.. لأن الأمر يحتاج إلى مزيد من العلم والتخصص.. وإذا شئنا الدقة نجد أن هناك ثلاث مواضع قد جانبه التوفيق فيها وهي:

1- قضية الخلق.

2- الثواب والعقاب.

3- مفهوم الحلال والحرام.. الذي اتخذ مسألة الذي تطبيقًا له.

فاتني أن أشير أن الدكتور مصطفى لم يكن موفقًا في اختيار مجلة صباح الخير لنشر محاولته.. ولكل مقام مقال.. فالمجلة معروفة بمستواها الهزلي الهابط وكتابها الماركسيين المنحلين.. وللماركسيين أخيرًا خطة جديدة في نشر سمومهم من خلال محاولة إظهار أن الإسلام لا يتعارض مع الماركسية بحصره في دائرة العقيدة وباختصاص الماركسية بالحلول الاجتماعية والاقتصادية ريثما تحين لهم الفرصة للإجهاز عليه كلية فيما بعد.

وقد اخترت لك مجموعة من الكتب ضمنها هذا التفسير الذي طلبته تلبية لرغبتك والردود التي صدرت حول هذا الموضوع لعلها قد وصلتك.. أو هي في الطريق إليك.. قدر ما سمحت به ظروفي طبعًا.. سائلاً الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه.. والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.. وأن يجنبني وإياك الفتن ما ظهر منها وما بطن ويحفظك للحق وعلى الخير آمين.

ويقيني أنك بفطرتك السليمة – بإذن الله – لن تقبل هذا الزيغ وستقف على الحقيقة واضحة جلية وستعلم مكائد أعداء الإسلام ومحاولة النيل منه فيما ينشرون.. ويكتبون.. ويحاضرون.. ويرددون.. (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: 8].. (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9].

ثم ائذن لي بالتعليق حول ما استلفتني إلى ما أومأت إليه من راحة نفسك إلى بعض ما جاء في محاولة هذا الطبيب.. وهنا أحب أن تنحي من نفسك إحساسها الذي أسلفت بالراحة محاولاً معي أن تتلمس الحق.. وهو كائن إن شاء الله.

للإيمان يا أخي معالم حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح.. أن الإيمان.. أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.. ومن أصول الإيمان شقان أساسييان غيبيات وسمعيات، وشئون الجنة والنار من الغيبيات التي أورد الله فيها مشاهد في القرآن الكريم وأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام عن بعض مشاهد القيامة والجنة والنار في أحاديثه، وليس كل مغيب مطلوب من العبد المخلوق أن يستشرف كنهه بل هو مأمور أن يُسلم به إيمانًا مطلقًا منبثقًا من إيمانه بالله الخالق كشرط أساس تفويضي في إيمانه.. (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 1 : 3]، وينبغي أن يدرك العبد المخلوق أنا وأنت وجميع الناس بل على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم ولغاتهم ومستوى حضارتهم أنه مهما بلغ من علم أو حضارة أتاحها الله بعلمه وقدره كشفًا واكتشافًا وليست خلقًا وإنشاءً.. كلها على ضخامتها وفداحة تنوعها ودقتها.. وحسبي أنك بذلك جد عليم.. أن الإنسان بكل ملكاته وحضارته وعلمه بالعقل لا يزال هناك في كون الله وفي غيب الله ما هو فوق العقل.. (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 85].

فالجنة والنار برغم أن كنهها بالضبط غيبي.. إلا أننا مأمورون شرعًا بالإيمان بها كما وردت مشاهدها في الكتاب والسنة على أن النار.. نار فعلاً.. وكيف لا نصدق بقول الخالق العظيم سبحانه وتعالى (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً [النساء: 122].

(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون: 104]، (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6].. (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان: 12].. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء: 56].. (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [الحج: 19 : 23]. وليت ظروفي تسعفني بكتاب مشاهد القيامة .. بقلم صاحب الظلال لأنقل لك منه دقة التصوير وبراعة التجسيم لهول هذه المشاهد.. إلى غير ذلك من الآيات الوصفية الدقيقة فهل هذا مجرد مشاعر وأحاسيس الذنب في نفس الفرد.. وعفوًا إن قلت.. وأي هراء يكون هذا الكلام وأي افتراء على الله وكتابه المنزل المحفوظ بإذن الله.

وكيف بالجنة..

(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران: 133].. (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن: 54].. (تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا [الرعد: 35].. (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً [الإنسان: 12 : 18] وكذلك في سورة الواقعة.

أو يكون كل ذلك مجرد مشاعر الرضى بالطاعات في نفس العبد بعد ما قرر الله الخالق في كتابه المنزل.. المحفوظ.. بإذن الله.. أن ذلك بعض وصفها كما يدعي مصطفى محمود ويجترئ ويأثم.

أم أننا عندما تستوعبنا الحياة الدنيا وزحام الحضارة فيها وتملأنا الأسماع والأبصار والأفئدة.. وتنادي الأهواء والشهوات الجوارح ويبعد ويطول بنا الأمد عن مصادر الذكر وعن القرآن حبل الله المتين تقسوا منا القلوب وتستمرئ النفس مشاعر البعد عن حقيقة العذاب يوم القيامة ويكبروا المنطق المادي.. هنا ينبغي أن نراجع ما نسميه راحة النفس.. إلى تفسير أو رأي أو ما شابه ذلك.. ونقوم أنفسنا وفقهنا وعلمنا ومشاعرنا وملامح الإيمان في قلوبنا لنكون على ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" حديث شريف.

شقيقي دكتور حمدي..

تلك هي بعض ملامح الإيمان في قضية الجنة والنار.. أرجو أنا وأنت ومن نحب من عباد الله المؤمنين.. أن نأخذ في دنيانا من حياتنا فيها بالأعمال والأقوال ما يزحزحنا عن النار ولهيبها وأهوالها.. لننعم برضوان الله في الجنة بنعيمها وثمارها وظلها وأمنها.. (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185].

ولقد أضفت إلى عجبك السابق عجبًا آخر.. كما تقول.. "كيف يحرم الدين علينا الزنا والخمر ثم يعدنا بجنة كلها خمر وحور عين..".

وبادئ ذي بدء أقول أن كل ما أعده الله من نعيم للمؤمنين في الجنة أمر غيبي أورد الله بعض مشاهده على نحو ما أسلفت.. كما أورد بعض نعيمه وذكر سبحانه في وصف بعض هذا النعيم أنه وإن كان بأسماء تشبه أسماء الدنيا.. إلا أنها أشياء مختلفة ويعجبني تعبير للقرطبي أحد مفسري القرآن الكريم يقول في هذا الشأن.. وإنما دلنا الله على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متفقة الدلالة والمعاني مختلفة.. ويقول الله تعالى في وصف ثمار الجنة (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة: 25] أي أن الاسم أو الشكل يشبه ثمار وفواكه الدنيا إلا أنها مختلفة عنها.. أما متعة النساء فقد وعد الله المؤمنين بالحور الحين والأزواج المطهرة لا يرد عليها في دار الخلود طمث ولا نجاسة (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ [الرحمن: 56].. (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 25].. (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان: 21] وكما أسلفنا فشراب الجنة مما ذكر وصفه بالخمور وإن كان اسمها هكذا إلا أنها مختلفة طعمًا وحسًا وأثرًا.. فهي لا تُسكر لأن حياة الخلد في الجنة لا يكمل فيها نعيم بغياب الوعي وهي التي وصفها الله بقوله: (لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزِفُونَ [الواقعة: 19] ويخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بما أتيح له من مكاشفة – بإذن الله – في ليلة الإسراء والمعراج وفي غير ذلك مما علمه ربه مما يخبر به قوله عن الجنة "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".

وعندما يقرر الرسول عليه الصلاة والسلام أن هذه أوصاف من أوصاف ما في الجنة من نعيم فهي كذلك صدقًا.. وحقًا.. ويقينًا.. وتحققا.. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآَخِرَةِ كَافِرُونَ [الأعراف: 42 : 45].

أعود فأقول إن المسلم يا أخي مطالب دائمًا بأن يجعل عقله وفكره وقلبه ومشاعره موصولة دائمًا بمصادر الكتاب والسنة ومطالب كذلك بأن يحول بين قلبه وبين ما قد يحجب عنه نور الحقائق الربانية من الاستغراق في شئون الحياة الدنيا دون التدبر الذاكر والعلم المؤدي للإيمان بشهود عظمة الخالق والمخلوقات ودقة نظام الكون.. وإلى ذلك أدعو نفسي ونفسك ومن نحب.. ويعنيني أن أكرر أن راحة النفس لتفسير أو تدبر أو عمل أو قول ليس دليل صواب في ذاته وإنما مرد الحق والباطل والصواب والخطأ في حياتنا كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله.

وأشكر لك صحبتي في رحلة خواطري معك في نفسي وحسي ملأ الله بالحق المشرق القوي قلبك.. وجعل الدنيا في يدك بكل مشاغلها وجعل قلبك خالصًا دائمًا لله لا يشغلك كل زحام الحياة عن أصالة الهدف من الحياة (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 1، 2].

للمزيد

وصلات داخلية

كتب متعلقة

ملفات وأبخاث متعلقة

مقالات متعلقة

متعلقات أخري

وصلات خارجية