عبد الحميد البرديني
بقلم: أ. علاء ممدوح
التعريف
عبد الحميد البرديني ..اسم قد لا يعرفه كثيرون، ولكنه أنموذج من نماذج التربية الإخوانية التي التي يفتخر بها كل مسلم جعل الجهاد في سبيل الله طريقًا .. والتضحية والعطاء شعاراً.. هوالشهيد الذي فدا إخوانه .. وهو أحد ضحايا سجون ناصر التي لم تتكشف بعد كل مصائبها ورزاياها ..ولكن يكفي أن الله جل في علاه يعرف المظلومين .. وهو سبحانه يتولي الصالحين ولا يضيع أجر المؤمنين .. ونسأل الله أن يرفع درجة أستاذنا عبد الحميد البرديني في المهديين ..
نترك تعريفه لأحد تلامذته الذين عاصروه وعاشوا معه وهوالأستاذ محمد الصروي إذ يقول عنه:
- هو مدرس لغة عربية في المدارس الابتدائية ومنها مدرسة قريتنا, رجل صالح , شخصية محبوبة جدا , يستطيع أن يفرض حبه بسرعة عجيبة على كل من يقابله وبالمثل العام (يحبه طوب الأرض) كناية عن حب كل المخلوقات له من انس وجن وحيوان ودواب وجماد ... معروف مشهور ..
- وهو شخص يعمل في دعوة الإخوان المسلمين أكثر من 16 ساعة يوميا بلا انقطاع وبلا أجازة .. همة عالية ـ شخص وسيم , وجهه كله نور ، فضلا عما يتمتع به من حياء المؤمن .. مؤدب .. مهذب .. باختصار كان أقرب الناس شبها للإمام حسن البنا من الناحية الأخلاقية علاوة على هذا فهو رياضي رشيق أليف وودود .وأحسب أنه كان الشخصية الثانية في الإخوان في محافظه الدقهلية كلها بعد الأستاذ محمد العدوي ...
التربية سمة البرديني
حرص الأستاذ االبرديني على أن يجعل الأعمال التربوية التي استقر عليها عمل الإخوان ثوابت لا تختل حتى في أحلك الظروف .. ففي ظل الجو الأمني الصعب الذي عاشه أبناء الجماعة في الحقبة الناصرية لم يكن الأستاذ عبد الحميد ليدع أمر التربية ينفلت يوما ما ..فالتربية عند هذا الجيل تعد المحضن الذي يخرج الجيل المنشود وهي عندهم نظام لا يمكن بحال التوقف عنه .. فهي أمن الجماعة الحقيقي ونقاؤها وأصالتها ..
لذا فقد كان الأستاذ عبدالحميد البرديني حريصا على هذا اللقاء الشهري للإخوان يجمعهم مرة في الخميس الأخير من كل شهر في مبيت أشبه بالمعسكر يحضر إليه الإخوان العاملون من كل القرى المحيطة والتابعة لمركز جهاد ميت أبو خالد وهذه القرى هي:
- شمالاً: الدبونية دنديط.
- جنوباً: ميت يعيش ـ كفرالمحمدية ـ الحاكمية ـ ابو نجاح ـ كفر رجب ـ القبة ـ عزبة المفتى ,
- شرقا: الرحمانية ـ النخاس ـ حتى القنايات ,
- غربا: صهرجت الكبرى .
يلتقي أبناء هذه القرى والذين يبلغ عددهم حوالي مائه أخ عامل يتنوع مستواهم الثقافي والاجتماعي للمبيت في هذا المعسكر في أرض مزروعة تسعهم جمعيا لينصهروا في بوتقة تربوية نافعة..
و الهدف من مثل هذه الأعمال التي حرص عليها شهيدنا الغالي هي تربية الجدية والرجولة والخشونة فهي أهم ملامح هذا اللقاء طعام قليل وبسيط ماء قليل سواء في الشرب أو الوضوء نوم قليل وقيام ليل ثم بعد الفجر طابور مشى سويدي وجرى ثم زحف عسكري نعم زحف كما يتدرب عليه العسكريون في الجيش .. وهكذا عاش وتربى أبناء هذا الجيل
التربية هي الإعداد للحركة والدعوة
بجانب هذا الجهد التربوي كان الأستاذ عبد الحميد هو الداعية النشط في بلده الذي يقوم على شؤون الدعوة وتبليغها للناس وكان لديه هذا الفهم الذي ورّثه لمن بعده من الإخوان ..
ومقتضاه أنه لايوجد داعية يكتفي بأن يأخذ حظه من الأعمال التربوية ثم هو بعد ذلك يبخل على الناس بدعوته فكان من يراه من تلاميذه صبيحة كل جمعة يلمس ذلك بوضوح في أحد الأمثلة على هذا الإعداد الدعوي لأبنائه وإخوانه ...
فلقد كان يجتمع بأعداد كبيرة من الشباب الأزهري ليوزعهم على المساجد في القرى لأداء خطبة الجمعة مع التوجيه بموضوع خطبة الجمعة وبعد قليل ينطلقون بدراجاتهم إلى هذه القرى يعظون الناس ويعلمونهم أمور دينهم ..
المحن في حياته
بدأت أولى هذه المحن في عام 1954 مع غيره من الإخوان فقد فوجئ أبناء البلدة بالأخبار التي تملأ ربوعها حول القبض على الأستاذ عبد الحميد البردينى وأنهم أخرجوا سلاحا من عنده كان مخبأ في حائط منزله أو في منزل الأخ محمد عبد الحي صهر الأستاذ عبد الحميد البردينى و على أثر ذلك تم وقف كل أنشطة جماعة الإخوان المسلمين وأصبح الاقتراب من منزل آل البردينى يعرض صاحبه للسجن , وانعزل في منزله كل من لم يعتقل.
واعتقل معه أخوه الأستاذ سيد البردينى الذي خرج قبل أخيه عبد الحميد وفتح محلا لتأجير الدراجات , كان يقوم بالصرف منه على عائلته وعائلة أخيه المعتقل ..إلى أن خرج الأستاذ عبد الحميد البردينى من السجن في أواخر عام 1964.. وكما يحكى علي عشماوى في مذكراته فلقد تحمل البرديني عبء تحقيقات (54) هو والأستاذ محمد العدوي وحدهما , وكانا سببا في نجاة أعداد هائلة من إخوان الدقهلية من السجون والمعتقلات في هذه المحنة .. وهذا ما حدث تماماً مع الأستاذ كمال السنانيري...
كانت هذه هي أولى المحن في حياته ولكنها لم تكن الأخيرة
فما كادت تنتهي حتى وجد الأستاذ عبد الحميد نفسه متهما بعد اعتراف علي عشماوي في قضية عام 1965 واعتقل هو عائلته كلها أخوه والأستاذ عوض عبد المتعال زوج ابنته الأستاذه نادية الذي جئ به من الجزائر مكبلا بالحديد في طائرة خاصة وحكم عليه ب15 سنة وابنه الأستاذ كمال الذي ظل رهين محبسه حتى عام 1971 وصهره الحاج محمد عبد الحي العوضي وهو من إخوان مدينة ميت غمر.
استشهاد
كما كان الأستاذ عبد الحميد أشبه الناس خلقا بالشيخ البنا وفق ما أكده الأستاذ محمد الصروي رحمه الله تعالى فقد كان هناك شبه من نوع آخر في كيفية الوفاة .. فبعد سلسلة رهيبة من التعذيب ..الأمر الذي استدعى نقله للقصر العيني مباشرة، بعدما بلغ الأعياء به مداه ..ولكنهم منعوا عنه العلاج فكان واحدا ممن ماتوا بالمشفى جراء هذه الخسة كما أخبر الأستاذ الصروي في كتابه الزلزال والصحوة ..
رثاء
رثاه الشاعر الأستاذ جمال فوزي والذي أطلق عليه الإخوان (حسان الدعوة) لأنه كان دقيقا في وصف الدعوة في مختلف مراحلها شعرا رحمه الله .
وقد نظم هذه القصيد الرائعة في حق الأستاذ عبد الحميد البردينى يقول فيها:
ذهبت يراود قلبــها
- أمـل يحـقق حلمــها
ومضت تفكر كيف تلقى
- غائبــا عن عشهـــا
حملته فـى احشائـها
- ربته فى أحضانهـــا
ودعــت إلـه الكــون
- أن يرعاه من أعماقها
وتفتحـــــت افـاقه
- وتحققــت امــالهـا
فإذا الوليد مجاهدا
- يرعى العهود جميعها
باع الحياة رخيصـة
- للـه يـرجوا اجرها
حتى طــوته سجونهم دهرا وفـى ظلماتها
كم ساوموه لكى يحيد
- عـن العهود بأسرها
ولكى يخـون كتائبا
- باعو النفوس لربها
ولكى يشوه ما أضاء
- الكون من صفحاتهـا
وأبى الكريم مباهج
- الدنيا وطلق امرها
ورأى السجون معاقل
- الاحرار رغم قيودها
وأصر أن يعلى نداء
- الحق فــى جنباتها
ذهبت لكــى تلقـاه
- يوم خروجه بحنانها
وتضمه فــى لـهفـة
- وسط الجموع لصدرها
"قصة شهيد"
ويضمهــــا العملاق فـى
- حـــب يقبـل رأسهــــا
ويقول: ياامـاه عــاد
- الى الجهاد رجالهـا
انا لن ألين ولن أخـون
- ولن اغـــــادر ركبها
أنا لن أهادن من بغوا
- يومـــا علـى أبرارها
سـأظــل نــارا يحـرق
- الاشــرار حر لهيبهــا
سأظل حربـــا تسحــــق
- الفجــار فـى أرجائهـا
قالــت رعـــاك الله
- ياولدى الحبيب فكن لها
إن تنصـــروا الرحمن
- ينصركم على فجــارها
ومضــت به نحو الديار
- وكبــــــرت بربوعهـا
اتخـــــذت كتـــاب الله
- نبراسا ينير طريقهــا
لم تمـض أيـــام علـى
- هـذا الهـدوء بدارهـا
حتى آتـى جنـد الطغاة
- وكــــــرروا مأساتها
كان المجاهد يقرأ القرآن
- يسمعه لهــــــــــا
ويفسر التنزيل تفسيرا
- يعمق فهمهـــــــــا
وإذا بشرذمة من الطغاة الآثمـــين ببابهــــا
فى ليلة سـاد السكون
- بها وأظلــــم ليلها
وانقض اعوان الطغـاة
- يكبلــــــون حبيبها
"قصة شهيد"
صــرخت وقالت ويحكـم
- ماذا جنـى أطهارها ؟
همــت بلثـم جبينه
- فيردهـا اشرارهــا
رفع المجـاهد رأسـه
- فى عزة أكــرم لهـا
ويقول فى عـزم الرجال
- تشجعـــى فأنا لهـا
الذنـب ذنب شعوبهـا
- خانت طريق كفاحهــا
واستسلمت للبغى حتى
- قادها جلادهـــــــا
فعدا عليها الغاشمون وحطموا أمجادهـــا
سترين يوما شرعــة
- الرحمن تحكم أرضهـا
ويزول من كل الوجود
- شرارها وطغاتهـــا
وهنا يسير به اللئام
- ويسخرون بدمعهــــا
وطوته جدران السجون
- لكى يرى أهوالهــا
كم مزقته سياطهــم
- وتلقفتـــه كلابهـا
حتى انتقته شهادة
- علياء فى جناتهـا
وهنــــاك يلقى ربه
- ويطـل من عليائهــا
والأم كانت فى حنين
- تستجيب لشوقهـــا
حتى نعته لها الوفود
- بكتـــه فى سجداتهـا
رباه قد ضاق الطغاة
- بمثلــه وبمثلهـا
"قصة شهيد"
ذهبت لتشهد قبـره
- ترويه من عبراتها
فإذا الجنود تحوطـه
- فى غلظة بسلاحهــا
والأم قد ردت
- وقد شهر السلاح بوجهها
قالت أما أولى بكـــم
- أن تملئوا ميدانها ؟!
عادت تناجى ربها
- فى ليلها ونهارها
تستمطــــر الرحمات
- للشهداء فى محرابها
دنيا المجاهد كلها
- محن لصهر رجالهــا
الشوك بين سهولها
- والزهر فوق هضابها
حقا أنها قصة مربٍ فريد
لقد كان هذا المدرس مربيا بكل معاني الكلمة بدأ حياته بالاشتراك في الجهاد بفلسطين ..
وظلت حياته بعد ذلك أنموذجا للمربي الذي يعتني بطلابه ويفديهم بنفسه فمرت عليه المحن واحدة تلو أخرى وهو كالجبل الذي لا تؤثر فيه العواصف ..وكان من عاجل بشراه ما حكاه الأستاذ رشاد البيومي من رؤيا رآها له الشيخ أحمد شريت وعلق عليها الشيخ قائلا:
لقد وجدت الأخ عبد الحميد البرديني في الجنة يرفل في النعيم، فتاقت نفسي لصحبته ..
فالله نسأل أن يتقبله في الشهداء وأن يجزيه خيرا على ثباته ونصرته
للدعوة حتى آخر عمره ..