علماء أعلام عرفتهم .. "دول المغرب العربي"
بقلم/ المستشار عبدالله العقيل
مقدمة الناشر
منذ قيام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالدعوة إلى الله، مبشرًا به، وجامعًا الناس حوله، وقافلة الدعاة إلى الله لم تتوقف عن العمل بالإسلام وللإسلام، يتبع خَلفها سَلفها.
وها نحن نرى جيل الدعوة المعاصر يسير على خطى سلفه الراشد، يحمل الرسالة، ويؤدي الأمانة، ويجوب المشرق والمغرب داعيًا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، مبلغًا عن الله، ومتأسيًا برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يحمل لواء الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم.
ولقد كان المستشار عبد الله العقيل وفيًا للعلماء الأعلام من أبناء الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، إذ انبرى يترجم لهم معددًا مآثرهم في مراحل حياتهم المختلفة، فسجل صفحات حب وأخوة، وجهاد ودعوة، وابتلاء وصبر، وصمود وتضحية، تتضح من خلال حركة هؤلاء الأعلام المستمرة في سبيل إعلاء كلمة الله، ومواقفهم الخالدة، وآرائهم الصائبة التي تصحح واقع الأمة الإسلامية آخذة بيدها إلى العزة والنصر والتمكين.
ومركز الإعلام العربي إذ ينشر هذا الكتاب، يتمنى أن يجد فيه شباب الإسلام القدوة الصالحة التي تعينهم على التزام منهج الله سبحانه وتعالى، ويتقدم بخالص الشكر والتقدير لفضيلة المستشار عبد الله العقيل الذي أخذ على كاهله مسؤولية التعريف بأعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة؛ تخليدًا لذكرهم، وإعلاءً لشأنهم، وتعريفًا للأجيال القادمة بدورهم في نهضة الأمة الإسلامية والدعوة إلى الله على بصيرة.
كما يدعو الله تبارك وتعالى أن يتقبل هؤلاء الدعاة الأعلام في الصالحين، وأن يسكنهم فسيح جناته جزاء ما قدموه خدمة للإسلام والمسلمين.
تقديم بقلم/ د. مأمون فريز جرار
العلماء هم مصابيح تهتدي بهم الأمة، بفكرهم وعلمهم وبسيرتهم، فهم ورثة الأنبياء، وهم الأئمة الحكماء، هذا إذا أحسنوا الوراثة عن نبينا (عليه وآله الصلاة والسلام)، ولا تخلو الأمة في جيل من أجيالها من الراشدين من العلماء الذين تجري سيرتهم العطرة بين الناس في حياتهم وبعد رحيلهم عن الدنيا، وذلك من فضل الله تعالى على هذه الأمة.
ومن حق هؤلاء العلماء الهداة، ومن حق الأمة كذلك أن تعرف سيرتهم وتنشر أخبارهم بين الناس؛ حتى لا يطوي النسيان ذكرهم، أو الزمن خبرهم، وهذا دأب الأمة من قديم حين سجل العلماء بعد السيرة النبوية سير الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان حتى عصرنا.
وقد يسر الله تعالى لأستاذنا فضيلة المستشار عبد الله العقيل أن يعرف من علماء عصرنا ودعاته عددًا كبيرًا في بلاد مختلفة؛ مما مكنه من كتابة شيء من سيرتهم في كتابه النفيس (من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة) الذي طبع ثماني طبعات مختلفة تجد في كل طبعة منها في الغالب المزيد من التراجم لأعلام يكتب عنهم، ولهذا الكتاب منزلة سيعلم الناس شأنها من بعد كما تلقوه بالثناء عند صدوره؛ لأنه يؤرخ لمرحلة مهمة ولعلماء ودعاة قد يكون لبعضهم ذكر كما أن منهم من لم يجد من يسجل سيرته.
وقد رأى فضيلته أن يفرد كتابًا خاصًا لعدد من العلماء الذين وردت تراجمهم في كتابه، إبرازًا لشأنهم، ولفتًا لسيرهم لما لهم من جهد في العلم والدعوة.
فجزاه الله خيرًا على جهده ووفائه لأهل العلم والدعوة وتقبل منه، إنه سميع عليم.
مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسول الله النبي الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
وبعد...
فهذه تراجم لبعض علمائنا الأعلام، الذين كانوا نماذج صادقة للدعاة في هذا العصر، بعمق الفهم، وقوة الحجة، وصدق اللهجة، وقول كلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثبات على الأمر والتصدي للباطل ومقارعة الظلم، ورفد الجهاد، وتعضيد الدعاة، ومساندة المستضعفين في الأرض، ومجابهة الطغاة، والتزام منهج الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة، والنصح لولاة الأمر، والأخذ بأيدي العامة إلى طريق الحق، وفك كرب المكروبين ورفع الظلم عن المظلومين.
إن هؤلاء الأعلام الدعاة الذين عرفتهم عن قرب، والتقيتهم مرارًا، واستفدت منهم كثيرًا في مسيرة حياتي الدعوية والعملية، هم الصور المشرقة والنماذج الفذة لرجال الإسلام في هذا العصر.
وإني مدين لهؤلاء بالفضل الكبير على ما قدموه من نصح وتوجيه، وإرشاد وتقويم للدعاة وطلبة العلم، الذين استقاموا على منهج الله، واتبعوا سنة رسول الله، فكان الله غايتهم والرسول قدوتهم، والقرآن شرعتهم، والموت في سبيل الله أسمى أمانيهم.
وإني لأرجو أن يعم بهذا الكتاب النفع، ويطلع شباب الإسلام وطلبة العلم والدعاة الجدد على هذه السير العطرة لهؤلاء العلماء الأفذاذ والدعاة الصادقين - كما نحسبهم والله حسيبهم - ويستفيدوا من علمهم وخبراتهم وتجاربهم وأساليبهم، فضلاً عن شمائلهم وأخلاقهم، فقد كان الناس يكنُّون لهم الحب والتقدير، والإجلال والاحترام؛ لأنهم كانوا صورًا صادقة ونماذج حية عن الإسلام الحق البعيد عن هيمنة المستكبرين وأصحاب النفوذ، رحمهم الله رحمة واسعة، وأسكنهم فسيح جناته، والحمد لله رب العالمين.
الأمير عبد الكريم الخطابي (أبو حسن) .. بطل الريف
مولده ونشأته
هو عبد الكريم الخطّابي زعيم ومجاهد إسلامي من بلاد الريف بالمغرب الأقصى ، من قبيلة (بني ورغايل) الريفية من قبائل (الأمازيغ) وُلد سنة 1300هـ (1882 م)، أي في الفترة التي شهدت حدّة التنافس بين الدول الأوروبية المستعمرة على القارة الإفريقية.
تلقى الأمير دراسته الأولية بجامعة (القيروان)، واطلع على الثقافة الغربية، واصطدم بالإدارة الإسبانية في «مليلة»، فسجن، غير أنه تمكّن من الفرار من سجنه وعاد إلى مسقط رأسه.
بطولته وشجاعته
تزعّم قبيلته بعد وفاة والده سنة (1339هـ 1920 م)، وحمل راية الجهاد ، فأباد ورجاله جيشاً إسبانياً يتكون من أربعة وعشرين ألف مقاتل بقيادة الجنرال (سلفستر) سنة (1340هـ 1921 م)، وذلك في معركة (أنوال) المشهورة، وبذلك تمكّن من السيطرة على بلاد الريف، ومنطقة عمارة، واتخذ «أغادير» عاصمة له.
أما النفوذ الإسباني، فقد اقتصر على مدينة «تطوان»، وعلى بعض الحصون في الجبال القريبة منها، وفي هذه الأثناء، قامت في إسبانيا دكتاتورية (بريمودي ريفيرا) سنة (1342هـ 1923 م)، فأرسلت قوات جديدة إلى الريف لمحاربة الأمير الخطابي، بلغت مئة وخمسين ألف مقاتل بقيادة الجنرال (بيرنجر)، وقد رفض الخطابي العروض الإسبانية بالاعتراف باستقلال الريف تحت سيادته بحماية إسبانية، ثم هزم الإسبان، وطاردهم سنة (1343هـ 1924 م)، حتى مدينة (تطوان)، وقد بلغت حكومة الأمير الخطابي ذروة قوتها عام (1344هـ 1925 م)، وأصبح مضرب المثل في جهاده ضد الاستعمار الأوروبي، وما زال اسم عبد الكريم رمزاً للرعب في اللغة الإسبانيـة، ولقـد تمكَّن الخطابي أيضـاً من أن يهزم القوات الفرنسية في معركـة (تازة) سنة 1344هـ (1925 م)، فـعملت فرنسا على إضعافه بإشـاعة أنه يطمع في عـرش مراكش، ونسَّقـت دعايتهـا مع الحكومة الإسبانيـة، كما ضمنت معاونة إيطاليـا وصَمْتَ بريطانيا، وقد أحدث هذا انقساماً في صفـوف المجاهدين، وتحالف بعض أتبـاع الطرق الصوفية مع القوة المعادية، فقد تحالف أتباع الشيخ عبد الحي الكتـاني والشـيخ عبد الرحمن الدرقاوي مع الفرنسيين، وبلغ عدد القوات الفرنسيـة والإسبانية التي واجـهت الأمير الخطـابي مئتين وثمانين ألف جندي، مما اضطره إلى التسليم للفرنسيين سنة (1345هـ 1926 م) الذين نفوه إلى جزيرة (ريونيون) إحدى جزر المحيط الهندي، حيث قضى في منفاه هذا إحدى وعشرين سنة.
لجوؤه إلى مصر
وفي عام (1367هـ 1947 م) قررت فرنسا نقله إليها على متن سفينة عبر قناة السويس، فتمكن من الفرار داخل مصر يوم 29/5/1947 م بتحريض من شباب المغرب وتونس والجزائر ، المقيمين في مصر والمنضوين في مكتب المغرب العربي بالقاهرة، حيث زاروه على السفينة وأطلعوه على أوضاع المغرب العربي الكبير، وحدّثوه عن نشاطهم من خلال المكتب بالقاهرة، ورجوه أن يتقدم باللجوء إلى مصر للاستمرار في مواصلة الكفاح والنضال من أجل تحرير المغرب العربي الكبير، تحت راية واحدة، تناهض الاستعمار، وتتصدى له، فانشرح صدر الزعيم الخطابي لكلامهم، ووافق على اللجوء إلى مصر، بشرط موافقة الحكومة المصرية، كما صعد وفد الإخوان المسلمين برئاسة الأستاذ طاهر منير رئيس الإخوان بالسويس مرحبين به.
بذل الأمين العام للجامعة العربية ـ الأستاذ عبدالرحمن عزام ـ جهوداً مكثفة مشكورة، حتى تمّت موافقة الحكومة المصرية على لجوئه السياسي إلى مصر رغم احتجاج السفير الفرنسي بمصر، حيث بدأ بعد استقراره بالقاهرة يمارس نشاطه من أجل استقلال بلاد المغرب العربي الكبير، وفي القاهرة، أسس الخطابي وأبناء المغرب العربي الكبير، لجنة أسموها «لجنة تحرير المغرب العربي»، وذلك يوم 9/12/1947 م، واختير الأمير رئيساً لها، وأصدرت اللجنة بياناً جاء فيه:
«في عصر تجهد فيه الشعوب بالاضطلاع بمستقبلها، حيث إن بلدان المغرب العربي تتطلع إلى استرجاع استقلالها المغتصب وحريتها المفقودة، يصبح من الضرورة الملحة لكل الزعماء السياسيين في المغرب أن يتوحدوا، ولكل الأحزاب التحررية أن تتحالف وتتساند، لأنه في هذا تكمن الطريق التي سوف تقودنا إلى تحقيق أهدافنا وآمالنا على ضوء مبادئ الإسلام والعروبة والاستقلال الشامل ورفض أي حل متواطئ مع المستعمر...» انتهى.
وقد مكنته إقامته في مصر من اللقاءات الكثيرة والمتكررة مع زعماء العالم العربي والإسلامي، أمثال الحاج محمد أمين الحسيني، الذي كان قد سبقه باللجوء إلى مصر ، ومحمد البشير الإبراهيمي، والفضيل الورتلاني، ومحيي الدين القليبي، ومحمد علال الفاسي، وغيرهم من الزعماء العرب والمسلمين، كما كانت له صلة وثيقة وعميقة مع الإمام الشهيد حسن البنا، المرشد العام للإخوان المسلمين ، حيث كان كثير اللقاء به في اجتماعات خاصة وعامة، في مكتب المغرب العربي، والمركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة.
وكان الخطابي يُكثر التردد على المركز العام للإخوان المسلمين، ويحرص على صلاة المغرب خلف الإمام الشهيد حسن البنا ، وكانت مجلة «الإخوان المسلمون» الأسبوعية، وجريدة «الإخوان المسلمون» اليومية، تنشران المقالات الطوال عن أخبار وأحوال المغرب العربي، كما أصدرت المجلة الأسبوعية للإخوان المسلمين عدداً خاصاً عن المغرب الجريح، نددت فيه بالسلطات الاستعمارية الفرنسية، وأشادت بجهود زعماء المغرب العربي وعلى رأسهم البطل الشجاع عبد الكريم الخطابي .
يروي الدكتور توفيق الشاوي فيقول: «حين زرتُ الأمير عبد الكريم الخطابي بمكتب المغرب العربي بالقاهرة، وجلستُ أستمع إليه، كان حديثه عن جهاد المستعمرين وإصراره على أن هناك سبيلاً واحداً للحرية، هو القتال المسلح لتحرير البلاد والعباد، وكل ما عداه عبث وضياع...» انتهى.
مجالس العلماء والمجاهدين
ولما توجَّهت إلى مصر للدراسة الجامعية سنة (1369هـ 1949 م)، كنت مع إخواني الزملاء من طلبة البعوث الإسلامية الوافدين من أنحاء العالم العربي والإسلامي، نكثر الزيارة والتردد على مجالس العلماء والأدباء والقادة والزعماء في مكاتبهم ومنتدياتهم وجمعياتهم وبيوتهم للتعرف إليهم والاستفادة منهم، كالمركز العام للإخوان المسلمين ، وجمعية الشبان المسلمين، ورابطة الدفاع عن المغرب العربي برئاسة الخطابي، وجمعية العلماء الجزائريين برئاسة البشير الإبراهيمي، ودار الشورى للزعيم الفلسطيني محمد علي الطاهر، وصحيفة أنصار السُّنَّة، برئاسة محمد حامد الفقي، وجمعية الهداية الإسلامية برئاسة محمد الخضر حسين، ودار الفتح لمحب الدين الخطيب، والاتحاد اليمني، برئاسة محمد محمود الزبيري، ومجلس السفير الأفغاني محمد صادق المجددي، والجمعية الشرعية برئاسة الشيخ عيسى عاشور، فضلاً عن ندوة الشيخ محمد أبي زهرة وأحمد حمزة، وندوة عباس محمود العقاد، ومحمود شاكر، ودار الرسالة لأحمد حسن الزيات، ودار الشهيد سيد قطب بحلوان، ومكتبة وهبة حسن وهبة وغيرها.
وكان معظم لقاءاتنا بأبناء العالم الإسلامي من خلال قسم الاتصال بالعالم الإسلامي بالمركز العام للإخوان المسلمين ، الذي كان يرأسه الأخ المجاهد الأستاذ عبد الحفيظ الصيفي، كما كان المركز العام يستضيف الكثير من زعماء العالم الإسلامي في حديث الثلاثاء، حيث يلقون الخطب، والمحاضرات، والدروس، والندوات على جماهير الإخوان المحتشدة في ساحات المركز العام، وشوارع الحلمية الجديدة، ممن يفدون من المحافظات والأقاليم كل أسبوع لحضور حديث الثلاثاء بالقاهرة.
وكان هؤلاء الزعماء يشرحون للحضور أوضاع العالم الإسلامي، ووسائل الاستعمار في حرب الإسلام كعقيدة ونظام، وحرب المسلمين كأمة تريد الحكم بشريعة الإسلام ، وواجب المسلمين بضرورة اجتماع كلمتهم للتصدي لهؤلاء المستعمرين.
وكم استفدنا نحن الطلبة الوافدين من خارج مصر، من هذه الدروس التي قدّمت لنا هذه النماذج الفذّة من القادة والزعماء الذين ضربوا أروع الأمثلة في مصاولة الأعداء والدفاع عن حياض الإسلام ، وفي مقدمة هؤلاء الزعيم البطل الأمير عبد الكريم الخطابي ، بطل ثورة الريف، الذي جعل شعوب العالم العربي والإسلامي وبخاصة أقطار شمال إفريقيا تفخر بالانتصارات التي هزم فيها الإسبان والفرنسيين مرات ومرات، وأباد جيوشاً بأكملها في حرب استمرت أكثر من خمس سنوات من سنة 1921 م إلى 1926 م، حتى تكالب عليه الإسبان والفرنسيون وأعوانهم، وحشدوا لمواجهته أكثر من ربع مليون جندي، مجهَّزين بأحدث الأسلحة، كما سلكوا طريق الدّس والخداع، وإثارة الفتن والشقاق، واختراق صفوف المسلمين.
إن بطل الريف المجاهد الكبير عبد الكريم الخطابي، يجب أن تسطّر سيرته بأحرف من نور، وأن يعلّم الآباء أبناءهم سيرته وجهاده، لأنه قمة شامخة في الجهاد، وبطل شجاع مغوار أرهب دول الاستعمار.
لقد ضرب لنا الخطابي أروع المثل في عزة المسلم وإبائه، وبطولته وإقدامه، وصبره وصلابته، لأنه تربى في مدرسة الإسلام ، وعاش في ظلال القرآن، وجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله.
إن الإسلام العظيم يصنع الرجال في كل وقت وحين، وإن رحم الأمة الإسلامية غير عقيم، بل يلد الرجال والأبطال على مدار الأيام وتعاقب الأجيال.
وإن الأمة الإسلامية ستظل تطالعنا بين فترة وأخرى، بمثل هذه النماذج المجاهدة على امتداد الساحة الإسلامية في المشرق والمغرب، كعمر المختار ، والشهيد القسام ، وعبد القادر الحسيني ، وحسن البنا ، ومحمد فرغلي ، وعبدالله عزام ، ويحيى عياش ، وأحمد ياسين ، وعبد العزيز الرنتيسي وغيرهم من المجاهدين الأبطال.
إن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام ، وهو ماضٍ إلى يوم القيامة، وهو الطريق الوحيد لرفعة الأمة وسيادتها، وحياتها بين الأمم، فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، والأمة الإسلامية، لا زال الخير فيها باقياً، ولازالت قوافل الشهداء تتسابق إلى الجنة، نصرة لدين الله، وتحريراً لأوطان المسلمين من كل عدو محتل، أو طاغية جبَّار يريد الفساد بالأرض، وإهلاك الحرث والنسل.
يقول الإمام الشهيد حسن البنا في رسالة الجهاد :
«فرض الله الجهاد على كل مسلم فريضة لازمة حازمة لا مناص منها ولا مفرَّ معها، ورغَّب فيه أعظم الترغيب، وأجزل ثواب المجاهدين والشهداء فلم يلحقهم في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم، ومن اقتدى بهم في جهادهم، ومنحهم من الامتيازات الروحية والعملية في الدنيا والآخرة ما لم يمنح سواهم، وجعل دماءهم الطاهرة الزكيّة، عربون النصر في الدنيا، وعنوان الفوز والفلاح في العقبى، وتوعّد المخلَّفين القاعدين بأفظع العقوبات، ورماهم بأبشع النعوت والصفات، ووبّخهم على الجبن والقعود، ونعى عليهم الضعف والتخلف، وأعد لهم في الدنيا خزياً لا يرفع إلا إن جاهدوا، وفي الآخرة عذاباً لا يفلتون منه، ولو كان لهم مثل أحد ذهباً، واعتبر القعود والفرار كبيرة من أعظم الكبائر، وإحدى السبع الموبقات المهلكات.
ولست تجد نظاماً قديماً أو حديثاً، دينياً أو مدنياً، عني بشأن الجهاد والجندية واستنفار الأمة، وحشدها كلها صفاً واحداً، للدفاع بكل قواها عن الحق، كما نجد ذلك في دين الإسلام وتعاليمه، وآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول العظيم (صلى الله عليه وسلم) فيّاضة بكل هذه المعاني السامية، داعية بأفصح عبارة، وأوضح أسلوب إلى الجهاد والقتال والجندية وتقوية وسائل الدفاع والكفاح بكل أنواعها من برية وبحرية وغيرها، على كل الأحوال والملابسات، بل أجمع أهل العلم، مجتهدين ومقلدين، سلفيين وخلفيين، على أن الجهاد فرض كفاية على الأمة الإسلامية، لنشر الدعوة، وفرض عين لدفع هجوم الكفار عليها، والمسلمون اليوم كما تعلم مستذلون لغيرهم، محكومون بالكفار، قد ديست أرضهم، وانتهكت حرماتهم، وتحكم في شؤونهم خصومهم، وتعطلت شعائر دينهم في ديارهم، فضلاً عن عجزهم عن نشر دعوتهم، فوجب وجوباً عينياً لا مناص منه، أن يتجهز كل مسلم وأن ينطوي على نيّة الجهاد ، وإعداد العدّة له حتى تحين الفرصة ويقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وإن المسلمين في أي عصر من عصورهم، قبل هذا العصر المظلم الذي ماتت فيه نخوتهم، لم يتركوا الجهاد، ولم يفرِّطوا فيه حتى علماؤهم والمتصوفة منهم والمحترفون وغيرهم، فكانوا جميعاً على أهبة الاستعداد» انتهى.
أما الزعيم المجاهد الخطابي فيقول عن الإمام الشهيدحسن البنا
«ويح مصر !! وإخوتي أهل مصر مما يستقبلون جزاء ما اقترفوا، فقد سفكوا دم ولي من أولياء الله.. ترى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم بل في غرّتهم حسن البنا الذي لم يكن في المسلمين مثله».. انتهى.
وعلى هذا سار المجاهد عبد الكريم الخطابي، ومن سبقه ولحق به من المجاهدين المسلمين في مختلف الديار، وشتى الأعصار، يؤكدون للدنيا كلها أن الأمة الإسلامية بخير والحمد لله، ولقد بقي الخطابي بمصر يزاول نشاطه مع الدعاة المخلصين للإسلام، حتى إذا تفرّد عبد الناصر بالحكم، بعد إطاحته بالرئيس محمد نجيب، صار يضيّق على القادة المخلصين، والزعماء المتعاطفين مع الإخوان المسلمين ، مما اضطر سماحة السيد محمد أمين الحسيني، ومحمد علي الطاهر وغيرهما إلى مغادرة مصر إلى لبنان، كما غادرها زعماء وقادة المغرب العربي، باستثناء بعض من تعاون منهم مع المخابرات الناصرية من العلمانيين.
ولهذا تقلّص نشاط الزعيم الخطابي بمصر، لوجود الرقابة الصارمة على من يزوره أو يتردد عليه، واستمر الحال حتى غادر الدنيا الفانية إلى جوار ربه يوم (6/2/1963 م ـ 1383هـ)، ودُفن بالقاهرة حسب وصيته، ولم يذكر الإعلام المصري عنه أي شيء، حتى إذا هلك الطاغية عبد الناصر، وجاء عام 1978 م نشرت جريدة الأخبار تقول:
«إن التاريخ العربي الإسلامي ليعتز بالأمير عبد الكريم الخطابي كبطل من الأبطال الأفذاذ الذين يضيئون صفحات التاريخ على الزمان، وإن سيرة الخطابي العظيمة يجب أن نجسدها لأجيالنا العربية ليقفوا على حياة وأعمال هذا الرجل الذي تحدّى إسبانيا وفرنسا وأرغم برجاله القليلين جيوش الدولتين على الفرار أمامه، مما حدا بالأوروبيين أن يدرسوا انتصاراته الأسطورية ويُدرّسوها في الأكاديميات العسكرية عندهم، باعتبار أن الزعيم الخطابي صاحب مدرسة في القيادة وفي تكتيك الحروب التحريرية» انتهى.
رحم الله المجاهد الخطابي، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
الشيخ محمد الخضر حسين التونسي
مولده ونشأته:
هو العلاّمة الكبير الشيخ الإمام محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر الحسيني التونسي، ولد في بلدة (نفطة) وقيل: في بلدة «قفصة» من مقاطعة الجريد، من بلاد تونس عام 1293هـ 1876 م، في أسرة عريقة النسب، وحفظ القرآن الكريم، ثم لما بلغ الثانية عشرة من عمره، انتقل مع والده إلى العاصمة تونس، والتحق بجامع الزيتونة، فقرأ على الأساتذة والمشايخ.
ومن أشهرهم: الشيخ سالم بو حاجب، والشيخ محمد النجار، والشيخ مصطفى رضوان، وخاله العلاّمة الكبير الشيخ محمد المكي بن عزور.
وقد أقبل على التحصيل العلمي، حتى نال الشهادة العالمية في العربية، والعلوم الدينية.
كان غيوراً على الدين، مخلصاً للوطن، عدواً للاستعمار أنشأ مجلة (السعادة العظمى) في عام 1321هـ 1903 م، لنشر محاسن الإسلام، وفضح أساليب الاستعمار، وهي أول مجلة ظهرت في المغرب العربي الكبير، لكن سلطات الاستعمار الفرنسي أغلقتها سنة 1323هـ 1905 م.
وفي هذه السنة نفسها، تولى القضاء في مدينة (بنزرت) ثم تركه بعد مدة إلى العمل في حقل التدريس في جامعة الزيتونة وفي المدرسة الصادقية.
حكمت عليه سلطات الاستعمار بالإعدام، لأنه اشتغل بالسياسة ودعا إلى الجهاد والتحرير، فهاجر إلى دمشق مع عائلته سنة 1330هـ 1911 م، وأقام فيها مدة طويلة، ودرس في المدرسة السلطانية، ثم سافر بعد ذلك إلى الآستانة و ألمانيا ، ثم عاد إلى دمشق ثانية، ليواصل التدريس في المدرسة السلطانية، ولما احتل الفرنسيون سوريا تركها وهاجر إلى مصر سنة 1339هـ 1920 م.
كان حضور السيد محمد الخضر حسين إلى مصر في وقت كانت في أمس الحاجة إليه، ليقف مع أنصار الدعوة الإسلامية، أمام دعاة الإلحاد وأتباع الثقافة الاستعمارية في مصر .
عمل في البداية مصححاً بدار الكتب المصرية، بأجر زهيد لمدة خمس سنوات، والتقى كبار العلماء، وآثره الأستاذ أحمد تيمور باشا بصداقته.
ولما صدر كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق، الذي تابع في تأليفه آراء المستشرقين وكرر مقولاتهم ومزاعمهم، انبرى له الشيخ محمد الخضر حسين، وتصدى لهذا الإفك المبين، والكذب الصريح، وتعقبه حتى أتى على بنيانه من القواعد، وأسقط في يده، وانهارت مزاعمه ومزاعم أساتذته، من المستشرقين الحاقدين على الإسلام والمسلمين.
وكذا الحال حين ظهر كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين، الذي هاجم فيه القرآن الكريم إرضاءً لأساتذته من المستشرقين، فقام الشيخ محمد الخضر حسين بالرد عليه رداً مفحماً، وألقمه حجراً، إذ قام الشيخ بالغوص على النصوص العربية، ولم يدع شبهة إلا ردها.
وكان تمكن الشيخ محمد الخضر حسين في الدفاع عن الإسلام ومبادئه وقيمه مدعاة للتقدير، فتقدم لامتحان (العالمية) بالأزهر، وكان رئيس اللجنة الشيخ عبد الحميد اللبان، وقد أبدى الشيخ الخضر حسين من الرسوخ والتمكن في العلوم ما لا حدود له، حتى إن الشيخ اللبان قال عنه: «إن هذا بحر لا ساحل له» ، وبهذا نال الشهادة العالمية الأزهرية، وصار أستاذاً في الأزهر، ومدرساً في كلية أصول الدين.
اتجه الشيخ الخضر حسين إلى تأسيس الجمعيات الإسلامية، فكان أحد مؤسسي (جمعية الشبان المسلمين)، ووضع لائحتها مع صديقيه الأستاذ أحمد تيمور باشا، والسيد محب الدين الخطيب صاحب (الفتح).
كما أسس الشيخ الخضر حسين (جمعية الهداية الإسلامية)، وكان رئيسها، وأصدر مجلة تحمل الاسم نفسه (الهداية) كما تولى رئاسة تحرير مجلتي (الأزهر)، و(لواء الإسلام).
واختير عضواً في مجمع اللغة العربية بمصر ، وكانت له بحوث في مجلة المجمع، تدل على تمكنه من علوم اللغة، كما عين عضواً في المجمع العربي بدمشق، وعضواً في جماعة كبار العلماء بمصر ، وذلك بعد أن قدم رسالته العلمية (القياس في اللغة العربية)، وترأس الشيخ أيضاً (جمعية الدفاع عن شمال إفريقيا).
توليه مشيخة الأزهر:
تولى مشيخـة الأزهـر أواخـر عام 1371هـ غيـر أنه تـرك الـمشيخة محتسبـاً في سنة 1373هـ 1953 م، لأنه رأى القوم لا يسمعون النصح، ولا يلتـزمون الأدب مع أهـل الـعلم، فآثر البعـد وتـرك المشيخة لمن يتـزاحمون على المنصب في ظل الخضوع للحاكم الظالم، والديكتاتور المستبد.
معرفتي به:
سعدتُ بمعرفة أستاذنا الجليل وشيخنا الكبير والتقيته مرات ومرات، وشرفنا بتوليه منصب مشيخة الأزهر، فهو أهل له، لكنه حين رأى تصرفات الضباط العسكريين من رجال الثورة وتسلطهم على البلاد والعباد، وانتشار الظلم والفساد، ومحاربة الدعاة إلى الله، وإلغاء الشورى، وفرض حكم الفرد الديكتاتوري المستبد، آثر ترك المشيخة، فهو أكرم وأكبر من أن يكون لعبة بأيدي هؤلاء الضباط، الذين شرعوا بتطوير الأزهر بمسخ هويته، وإلغاء دوره العلمي الإسلامي، وإبعاد العلماء الصالحين، وتقريب المرتزقة والمنتفعين من وعاظ السلاطين، وسدنة الظلمة من المنافقين والمتزلفين، الذين يبررون للظالم ظلمه، ويباركون تسلطه على رقاب الناس.
إن الأزهر الذي ظل قروناً عدة رمزاً لتخريج العلماء للعالم الإسلامي كله، يُراد له أن يتحول عن منهجه ورسالته ليكون أداة طيعة بيد رجال السلطة العسكريين يسيرونه كما يشاؤون، ويُملون عليه ما يريدون ويتخذونه بوقاً يُردد صدى ما يقولون، وقد وجدوا ضالتهم في المشايخ المرتزقة، الذين لم يصونوا كرامة العلم والعلماء، وساروا في ركاب الطغمة الحاكمة.
إن الحديث عن هذا العالم الجهبذ، الذي صان نفسه عن مسايرة الظالمين، ومجاراة الطغاة من الأقزام والمهازيل، هو حديث عن الرجولة في أصدق معانيها، وعن العلم في أجمل ثيابه، فمن تصدّر مجالس العلم كان حقاً عليه صيانتها، ومن ارتدى زي العلماء كان أجدر به أن يعرف للعلم قيمته، وللعلماء عزتهم وكرامتهم، وهكذا كان أستاذنا الجليل محمد الخضر حسين، الذي جدد بمواقفه سِيَرَ الرجال من العلماء من السلف والخلف على حد سواء.
لقد كان الشيخ محمد الخضر حسين من الذين يُؤْلفون لأخلاقهم ويُحترمون لعلمهم، ويقدرون لمكانتهم، وكان التواضع زينته، وبذل العلم لطالبيه ديدنه، ومقارعة خصوم الإسلام والرد على أباطيلهم من أولى مهماته.
تصديه لدعاة الهدم:
وقد أسهم الشيخ مع العلماء والدعاة أمثال: أحمد تيمور باشا، ومحب الدين الخطيب، وحسن البنا، وغيرهم في التصدي لدعاة الهدم والتخريب، من تلامذة المستشرقين الذين أرادوا إبعاد الإسلام عن واقع الحياة، ورفض تشريعاته وأحكامه، ومحاربة لغة القرآن الكريم، والسير في ركاب الغرب بتبني أفكاره وعاداته وتقاليده، والأخذ بحضارته بخيرها وشرها، وحُلوها ومُرّها دونما تمييز أو اختيار، فكان بذلك الصوت المجلجل الذي أخرس ألسنة الببغاوات الذين يكررون مقولات أسيادهم، ويجترون ثقافاتهم دون تمحيص أو تدبر، فكان هذا الصراع بين القديم والجديد، في أكثر من ميدان، وعلى مختلف الأصعدة، إذ شمل التراث واللغة، والأدب والتشريع والتربية، والتعليم والفكر، والتاريخ وغير ذلك.
ثمرات جهوده:
وكان من حصيلة هذا، ظهور التيار الإسلامي المتمسك بالأصالة، والمستفيد من الخير في الحضارة المعاصرة دون السير في ركابها، أو الافتتان ببهرجها وزخارفها.
إن هذه الطبقة من العلماء الذين هم على مستوى محمد الخضر حسين كانت لهم مواقفهم المشهودة وآراؤهم الصائبة، وأصالتهم المتميزة، بحيث حفظوا الأمة من الانزلاق في مهاوي التقليد الأعمى لحضارة الغرب المستعمر.
مؤلفاته:
كما كان لمؤلفاته ودروسه ومحاضراته وبحـوثه ومقالاته أكبر الأثر في توجيه الأمة لمعرفة دينها والتمسك بعقيدتها، والعمل الدؤوب من أجل رفع راية التوحيد وإعلاء كلمة الإسلام، ومن أهمها:
نقض كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق، نقض كتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين، رسالة في السيرة النبوية، موجز في آداب الحرب في الإسلام، القياس في اللغة العربية، بلاغة القرآن الكريم، محمد رسول الله، رسائل الإصلاح، السعادة العظيمة، أسرار التنزيل، الرحلات، تراجم الرجال، تونس وجامع الزيتونة، خواطر الحياة، ديوان شعر... إلخ.
مواقف صلبة:
إن أستاذنا الشيخ محمد الخضر حسين كان في القمة من علماء العصر، الذين قدَّموا القدوة وضربوا المثل لما يجب أن يكون عليه العالم المسلم، أمام التحديات التي يواجهها من خصوم الإسلام في الداخل والخارج، فلم يضعف أمام المغريات، ولم يهب التهديدات، بل وقف موقفاً صلباً رافع الرأس، يقول كلمة الحق ويقدم النصح للراعي والرعية، وينتصب أمام الطواغيت من عبيد الدنيا، والذين يأكلون الفتات من موائد الأعداء، ويتسلطون على أبناء جلدتهم من الضعفاء والمساكين الذين لا حول لهم ولا طول، ولا يملكون من الأمر شيئاً.
إن العلاّمة الشيخ محمد الخضر حسين، قد استعلى بإيمانه على كل أولئك، ولم تلن له قناة أو يتهالك على منصب، بل ركل المنصب بقدمه، حين رأى أنه صورة لا حقيقة، وألعوبة بيد الحاكم المتسلط يملي عليه ما يشاء.
هذا الموقف العظيـم من العالم الكبير، كان العلامة البارزة، والصورة المشرقة المضيئة لما يجب أن يكون عليه علماء الإسلام ودعاته في كل عصر وحين.
وقد كنا ـ نحن الطلبة الوافدين للدراسة بمصر ـ ننظر إلى هذه الكوكبة من العلماء الرجال والفقهاء الأبطال، نظرة الإجلال والتقدير، لأنهم بسيرتهم أعادوا لنا سيرة السلف الصالح من علماء الإسلام الذين حفظوا كرامة العلم، ومنزلة العلماء، وقاموا بواجب النصح للراعي والرعية.
علماء الحق
يقول الشيخ عبد العزيز البدري في كتابه القيم: (الإسلام بين العلماء والحكام):
«... الناس بلا علماء هم جهال، تتخطفهم شياطين الإنس والجن من كل حدب وصوب، وتعصف بهم الضلالات والأهواء من كل جانب، ومن هنا كان العلماء من نعم الله تعالى على أهل الأرض، فهم مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وحجة الله في أرضه، بهم يمحق الضلالة من الأفكار، وتنقشع غيوم الشك من القلوب والنفوس، فهم غيظ الشيطان، وركيزة الإيمان، وقوام الأمة، ومثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يُهتدى بهم في ظلمات الحياة في البر والبحر، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: «إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا طُمست النجوم أوشك أن تضل الهداة»، وهم ورثة الأنبياء، وحراس الإسلام، الأمناء على دين الله، الداعون الحكام لتطبيقه، يقولون للظالمين: ظلمتم، وللمفسدين: أفسدتم، يصلحون ما فسد، ويقوّمون ما اعوج، لا يهابون سلطاناً جائراً، ولا حاكماً جباراً، ولا يسكتون عن حق وجبت إذاعته» انتهى.
وهكذا ـ وعلى مدى تاريخ الإسلام ـ كانت النماذج تتكرر من هؤلاء العلماء الأفذاذ، الذين يحملون أمانة العلم، ويبلغون رسالة الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة، ويتحملون في سبيل ذلك ما يصيبهم من ظلم الحكام، وجهل العوام، محتسبين الأجر والثواب من الله تعالى.
لقد عاش شيخنا العلاّمة محمد الخضر حسين حتى بلغ الرابعة والثمانين من عمره المبارك، إذ توفي سنة 1377هـ 1957 م، ودُفن في مقبرة آل تيمور بالقاهرة، تاركاً أبلغ الأثر في تراثه العلمي الذي خلّفه، وسيرته الطيبة التي يتحدث بها القاصي والداني من العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله.
رحم الله شيخنا الجليل محمد الخضر حسين التونسي رحمةً واسعةً، وأسكنه فسيح جناته، وحشرنا الله وإياه في زمرة عباده الصالحين.
العالم العلاّمة محمد البشير الإبراهيمي
مولده ونشأته:
هو محمد البشير بن محمد السعدي بن عمر الإبراهيمي، مجاهد جزائري من كبار العلماء والدعاة وأفذاذ الرجال.
وُلد يوم الخميس 13/10/1306هـ في بلدة (سطيف)، ونشأ فيها، وينتسب إلى قبيلة (ريغه) الشهيرة بأولاد إبراهيم بن يحيى ابن مساهل. أخذ العلم عن الشيخ عبد العزيز الوزير والشيخ محمود الشنقيطي والشيخ حمدان الونيلي والشيخ الطيب بن مبارك الزواوي وغيرهم.
رحل إلى المشرق سنة 1911م، وأقام في المدينة المنورة إلى سنة 1917م ثم في دمشق إلى سنة 1921م. وعاد بعدها إلى الجزائر. وقد نشطت حركة زميله وصديقه الشيخ عبد الحميد بن باديس، فأصبح له نحو ألف تلميذ، وأنشأ (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) سنة 1931م، وتولى ابن باديس رئاستها والإبراهيمي النيابة عنه.
نفيه واعتقاله:
وقد أُبعد الإبراهيمي إلى صحراء وهران سنة 1940م، وبعد وصوله إلى معتقل الصحراء بأسبوع توفي الشيخ ابن باديس، فقرر رجال الجمعية انتخاب الإبراهيمي لرئاستها، واستمر في معتقل (أفلو) الصحراوي من سنة 1940م إلى سنة 1943م.
وبعد إطلاق سراحه أنشأ في عام واحد ثلاثًا وسبعين مدرسة وكتّابًا؛ وكان الهدف نشر اللغة العربية، وجعل ذلك عن طريق تحفيظ القرآن الكريم، إبعادًا لتدخل سلطات الاحتلال الفرنسي؛ وقد تسابق الجزائريون على بناء المدارس فزادت على أربع مئة مدرسة.
وفي سنة 1945م زُجّ به في السجن العسكري ولقي تعذيبًا شديدًا من الفرنسيين، ثم أُفرج عنه، فقام بجولات في أنحاء الجزائر لتجديد النشاط في إنشاء المدارس والأندية والكتاتيب، ثم استقرّ به المقام سنة 1952م بالقاهرة. وحين اندلعت الثورة الجزائرية سنة 1954م قام برحلات إلى الهند وغيرها لإمداد الثورة بالمال والسلاح.
جهوده وجهاده:
وفي فترة إقامته بالقاهرة كان يقيم المحاضرات في المركز العام للإخوان المسلمين ويحدّثهم عن الجزائر وأوضاعها والاستعمار الفرنسي وتسلّطه على الشعب الجزائري المسلم.
وحين حصلت الجفوة بين جماعة الإخوان المسلمين ورجال الثورة المصرية سنة 1954م حاول أن يبذل جهده للإصلاح والتوفيق ولكن الأمر كان قد تفاقم وعزّ العلاج. وقد عاد إلى الجزائر بعد انتصار الثورة الجزائرية.
إن العلاّمة المجاهد البشير الإبراهيمي من أفذاذ علماء الجزائر ودعاتها ومجاهديها، وهو رئيس (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) بعد الشيخ عبد الحميد بن باديس.
وكان العلاّمة الإبراهيمي عالمًا في الفقه والتشريع واللغة والأدب، وخطيبًا مفوّهًا وشاعرًا كبيرًا يهزّ المنابر بجزالة ألفاظه، ويثير المشاعر بقوة أشعاره، إذا خطب فهو الأسد الهصور في زئيره والبركان الثائر في هديره، يأخذ بمجامع القلوب ويشد إليه الأسماع ويجلجل بكلمة الحق وينبري للدفاع عن الإسلام بقوة الحجة ونصاعة البرهان وجزالة اللفظ، وحلو البيان.
معرفتي به:
سعدنا به أوائل الخمسينيات حين كنا ندرس بجامعة الأزهر يحاضرنا بدروسه القيمة ومواعظه النافعة ويرشدنا لما يجب علينا القيام به كشباب مسلم يضطلع بمسؤولية حمل الدعوة ويحمّلنا الأمانة باعتبارنا رجال الغد وأمل المستقبل ويوضّح لنا الأخطار التي تحيط بأمتنا والاستعمار البغيض الذي أناخ بكلكله على أوطاننا فاستغل خيراتها ونهب ثرواتها واستذلّ شعوبها وغزاها بأسلحة الدمار العسكرية والغزو الفكري والتحلل الخلقي والتفسخ الاجتماعي، وكان - رحمه الله - يُلهب حماسنا ويستجيش مشاعرنا ويُعبئ طاقاتنا ويشدنا إلى العمل البنّاء والدعوة الحكيمة والموعظة الحسنة، ويطلب منا الصبر والمصابرة على وعثاء الطريق وأن نتحلى بصفات الرجولة الحقّة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في أكثر من موضع، مثل: قوله تعالى: {في بُيُوتٍ أَذنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَال} (النور: 36).وقوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} (يس: 20). وقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا} (الأحزاب: 21).
توجيهاته وإرشاداته:
يقول: إن للرجولة ضريبة وعليها مسؤولية؛ لأن الرجال هم القمم الشامخة والعلامات البارزة والأئمة الدعاة الذين يقودون الأمة إلى مواطن النصر.
ومن أجمل ما قال شعرًا في هذا المجال قصيدة أحفظ منها قوله:
"لا نرتضي إمامنا في الصفّ ما لم يكن أمامنا في الصفّ"
أي أننا لا نرتضي أن يؤمنا في الصلاة إلا الذي يقودنا في الجهاد
يرى البشير الإبراهيمي أن أسلوب التربية هو أساس عملية التغيير، سواء في النفس أو في المجتمع، وهو الأسلوب الملائم لمواجهة الاستعمار قديمه وحديثه، لأن الاستعمار يهدم والتربية تبني، والاستعمار يجتث وهي تزرع. وكان يرى أن التغيير ينبع من الداخل، بإعادة بناء كيان الإنسان النفسي والعقلي والوجداني على أسس صحيحة من العقيدة الحقّة والإيمان العميق والفكر المتبصّر، مصداقًا لقوله تعالى: {إنَّ الله لا يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} (الرعد: 11)، ويعتقد أن فلسفة التربية ذات نفس طويل لكنه أكيد المفعول، وبهذا يتفق في المنهج والأسلوب مع الإمام حسن البنا.
والتعليم عند الشيخ الإِبراهيمي ليس مجرد حشو لأدمغة التلاميذ بمعلومات كثيرة ينسونها بالسرعة التي تعلموها بها ولكنه فقه وعمل.
آثاره ومؤلفاته:
كان من أعضاء المجامع العلمية العربية بدمشق والقاهرة وبغداد، وله شعر إسلامي يعتبر ملحمة في تاريخ الإسلام، بلغ حوالي ستة وثلاثين ألف بيت، كان ينشره في مجلة (البصائر) التي كان رئيس تحريرها؛ وهو من خطباء الارتجال المفوّهين. وقد طُبعت مقالاته في كتاب (عيون البصائر)، كما أن له كتبًا أخرى منها: (شعب الإيمان)، و(الثلاثة)، و(حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام)، و(الاطراد والشذوذ في العربية)، و(التسمية بالمصدر)، و(أسرار الضمائر العربية)، و(الصفات التي جاءت على وزن فَعلَ)، و(كاهنة أوراس)، و(نظام العربية في موازين كلماتها)، و(رسالة في ترجيح أن الأصل في الكلمات العربية ثلاثة أحرف لا اثنان)، و(نشر الطي من أعمال عبد الحي)، و(ملحمة شعرية)، و(رسالة في مخارج الحروف وصفاتها بين العربية الفصيحة والعامية)، و(الأخلاق والفضائل)، وغيرها كثير جدًا.
قال الشيخ ابن باديس عنه: «عجبتُ لشعب أنجب مثل الشيخ الإبراهيمي، أن يضلَّ في دين، أو يخزى في دنيا، أو يذلَّ لاستعمار».
ومن أقواله:
«إن شباب الأمة هو الدم الجديد في حياتها، فمن الواجب أن يصان هذا الدم عن أخلاط الفساد، ومن الواجب أن يتمثّل فيه الطهر والفضيلة والخير.
وهذه الطلائع لا تحقّق رجاء الأمة إلاّ إذا انقطعت للعلم، وتخصّصت في فروعه، ثم زحفت إلى ميادين العمل مستكملة الأدوات، تامة التسلح، تتولى القيادة بإرشاد العلم، وتحسن الإدارة بنظام العلم، فتثأر لأمتها من الجهل بالمعرفة، ومن الفقر بالغنى، ومن الضعف بالقوة، ومن العبودية بالتحرر، وتكتسح من ميادين الحق بقايا الدجالين، ومن ميدان السياسة والنيابة بقايا السماسرة والمتجرين، ومن أفق الرياسة بقايا المشعوذين والأميّين».
«إن فرنسا قد جهلت أو تجاهلت أن أبناء الجزائر، كغيرهم من أبناء العروبة، قد انحدروا من أصلاب قوم كرام يأنفون الذل، ولا يصبرون على الضيم، بل كانوا يؤثرون الموت في عزة وكرامة، على الحياة في ذلة ومهانة. وإني أومن إيمانًا صادقًا أن لا بقاء للاستعمار في أمة مسلمة؛ لأن مبادئ هذا الدين، وتعاليمه، وتوجيهاته، خير دعامة للحرية، وأقوى حافز للثورة ضدّ الذل والعسف.
إن الدين يأمرنا بالاتحاد، والتعاون، والتآزر، ويفرض علينا القتال والنضال، كلما خِيفَ على حرّيتنا أن تُسلب، وعلى كرامتنا أن تُهْدَر، فكيف يتفق أن يكون للاستعمار بقاء مع هذه المبادئ العظيمة التي قرّرها الدين؟».
ويقول عن لقائه بأخيه الشيخ عبد الحميد بن باديس في المدينة المنورة: «كنا نؤدي فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبويّ، ونخرج إلى منزلي، فأسمر مع الشيخ ابن باديس منفردين إلى آخر الليل، حين يفتح المسجد، فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح، ثم نفترق إلى الليلة الثانية، إلى نهاية الأشهر الثلاثة التي أقامها الشيخ في المدينة المنورة، وكانت هذه الأسمار المتواصلة كلها، تدبيرًا للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصَّلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صورًا ذهنية تتراءى في مخيلتنا، وصحبها من حُسْن النيّة وتوفيق الله، ما حققها في الخارج بعد بضع عشرة سنة، وأشهد الله أن تلك الليالي من سنة 1913م، هي التي وُضعتْ فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي لم تبرز للوجود إلا في سنة 1931م».
نماذج من شعره:
سكتُّ فقالوا: هدنة من مسالم
- وقلتُ، فقالوا ثورة من محاربِ
وبين اختلاف النطق والسكت للنهى
- مجال ظنون واشتباه مساربِ
وما أنا إلاّ البحر يلقاك ساكنًا
- ويلقاك جيّاشًا مهول الغواربِ
وما في سكون البحر منجاة راسبٍ
- ولا في ارتجاج البحر عصمة ساربِ
وقوله في قصيدة (الإسلام وفضائله):
شعارك الرحمة والسلامُ
- للعالمين واسمك الإسلامُ
الحق من سماتك الجليّةْ
- العدل من صفاتك العليّةْ
والعقل منذ كنت من شهودِكْ
- والفكر بعد العقل من جنودِكْ
ذلك هو الشيخ المجاهد والعالم الجهبذ والداعية الحكيم العلاّمة البشير الإبراهيمي الذي شَرُفَتْ به ساحات النضال وميادين الجهاد يصول ويجول، يذود عن حمى الإسلام ويدافع عن حياضه ويربي جماهير الأمة على منهج الإسلام الحق وصراط الله المستقيم ويعطي الشباب المسلم من خبراته وتجاربه الشيء الكثير.
زيارتنا له:
ولن ننسى له ونحن في فورة الشباب وحماس الفتوة كيف كان بالترحاب يلقانا مع رفقائه في الجهاد والنضال من شخصيات العالم الإسلامي الذين اتخذوا من القاهرة مقرًا، أمثال المجاهد التونسي الكبير محيي الدين القليبي، والشاعر اليمني محمد محمود الزبيري، والزعيم المغربي علاّل الفاسي، والمجاهد الكبير عبد الكريم الخطابي، والداعية المجاهد الفضيل الورتلاني، وغيرهم من القادة والزعماء الرجال.
وكان طلاب البعوث الإسلامية بالأزهر يتحركون بالإسلام في أوساط طلاب الجامعات المصرية الأربع، ويؤكدون في علاقاتهم على معاني الأخوة الإسلامية الحقّة قولاً وعملاً، مقدمين رابطة الإسلام على ما عداها من روابط الجنس أو اللغة أو الوطن أو القومية أو القبيلة، مقتفين أثر الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي جمع بلالاً وعمارًا وسلمان وصهيبًا وأبا بكر وعمر، فكانوا الجيل الفريد الذي اجتمع تحت راية الإسلام تحقيقًا لقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتم أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمِ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا} (آل عمران: 103).
وبهذه الأخوة الإيمانية وهذا الحب العميق فتحوا الدنيا كلها بإسلامهم، وأقاموا أعظم الحضارات بجهادهم، وحققوا التكافل بأخوتهم، فأشرقت الدنيا بنور الإسلام، وسعدت بتعاليمه، وسادت بأخلاقه وفضائله.
وسرنا - نحن شباب الإِسلام - في الخمسينيات على هذا الطريق وانطلقنا بتوجيه أساتذتنا ومشايخنا نردد قول الشاعر المسلم:
- إذا افتخروا بقيس أو تميمِ
وانبرى الطغاة وعملاؤهم يكيدون للإسلام وأهله ويمكرون الليل والنهار لوأد هؤلاء البراعم الذين تفتّحت قلوبهم للإسلام، ويضعون كل العراقيل في طريق الدعاة إلى الله ويحاولون بكل وسيلة إيقاف المدّ الإسلامي الذي انطلق بقوة من الجامعات والمدارس يتصدّى للاستعمار ورموزه، فكان ما كان من السجون التي فُتِحتْ، والمشانق التي نُصبتْ، والبيوت التي هُدمتْ، والأموال التي نُهبتْ، والأعراض التي هُتكتْ، مما يعرفه القاصي والداني عن طاغية العصر جمال عبد الناصر الذي أعلن الحرب على الإسلام ودعاته وتقرّب إلى الأعداء بالعدوان على أبناء جلدته، وصدق فيه قول الشاعر:
- على أبناء جلدتهم أسودُ
وكان هذا الفرعون الصغير صاحب الوزر الأكبر فيمن سار على نهجه من الطغاة والبغاة وأشباه الرجال في البلاد العربية والإسلامية وغيرها.
وفاته:
ومع كل ذلك ظلّ الإسلام وسيبقى، وظلّ الدعاة إلى الله يتحركون بالإسلام ويعملون في سبيل مرضاة الله، وكان من الأمثلة الصادقة للجهاد أستاذنا العلاَّمة محمد البشير الإبراهيمي، الذي انتقل إلى رحمة الله في الجزائر وهو رهن الإقامة الجبرية في منزله، وذلك يوم 20/5/1965م أجلْ.. وضعوا العالم العامل المجاهد العظيم الإمام في الإقامة الجبرية؛ لأنه أصدر بيانًا باسم جمعية العلماء الجزائريين بعد الاستقلال يحذر فيه من المبادئ المستوردة، رأى فيه الرئيس الجزائري تعريضًا به وبنظام حكمه مما دعاه لفرض الإقامة الجبرية على الشيخ الإبراهيمي إلى أن توفي رحمه الله رحمة واسعة ووفق أحد تلامذته لإتمام مسيرته لخدمة الإسلام والمسلمين.
باسم الأخوة أستهل كلامي
- وبه أفيض على الورى أنغامي
أبشيرنا بالعز جئت فمرحبًا
- بك يا بشير النصر والإقدامِ
لا زلت يا نعم الإمام منارةً
- من نورها ينجاب كل ظلامِ
لك في الأمور (بصائر) نفّاذةٌ
- تسودّ منها أوجه اللّوَّامِ
أما البيان فقد ملكت زمامَهُ
- ولبست تاج العزّ والإكرامِ
لله درّك من إمام ناصحٍ
- حُرٍ أَبِيٍ عالم مقدامِ
الله أكبر في الجزائر ثورة
- قامت على الآمال والآلامِ
رحم الله شيخنا المجاهد، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
الزعيم الكبير محمد علال الفاسي
مولده ونشأته:
هـو عـلال (أو محمد عـلال) بن عبـد الواحـد بن عبـد السلام بن عـلال بن عبدالله بن المجذوب الفاسي الفهري، هاجـرت أسـرته إلى الأندلس.
وُلد بمدينة (فاس) بالمغرب سنة (1328هـ 1910م) وتعلّم بجامع القرويين حتى حصل على الشهادة العالمية عام 1932، ونشأ نشأة عصامية جمع بين العلم الديني والحماس الوطني فهو زعيم وطني منذ كان طالبـاً، ومن كبار الخطباء والشعراء والعلمـاء بالـمغرب، وكـان له دور فـي مقـارعة الاستعمـار الفرنسي ومحاربته بكل الوسائل وأهمها نشر التعليم وتنظيم قطاعات الأمة للعمل الجماعي وخوض المعارك السياسية والتصدي لكل مخططات الاستعمار.
جهاده وجهوده :
عارض منح الفرنسيين استغلال ماء مدينة فاس، وعارضهم حين أصدروا الظهير البربري لشقّ صفوف الأمة المغربية سنة 1930 فاعتقلته السلطات الفرنسية وهو طالب بالعالمية، ويعمل مدرساً في المدرسة الناصرية، ونفته إلى بلدة (تازة) ثم عاد بعد الإفراج عنه إلى فاس سنة 1931 فمنعته من التدريس، فانصرف إلى جامع القرويين يلقي الدروس العلمية الليلية عن تاريخ الإسلام.
وفي عام 1933م حاولت الإدارة الفرنسية اعتقاله فسافر إلى إسبانيا وسويسرا، واتصل بالأمير شكيب أرسلان وإخوانه المناضلين العرب والمسلمين، ثم عاد إلى البلاد عام 1934م، وأسس أول نقابة للعمال سنة 1936م، وأنشأ كتلة العمل الوطني السرية سنة 1937م فأبعدته السلطات إلى (الغابون) منفياً من سنة 1937م إلى سنة 1941م ثم نُقل إلى (الكونغو) من سنة 1941م إلى سنة 1946م وهناك أُطلق سراحه فأنشأ مع رفاقه (حزب الاستقلال) ثم سافر متنقلاً بين البلاد العربية والأوروبية يدعو لاستقلال المغرب عن فرنسا، وعاد إلى المغرب سنة 1949م فمنعه الفرنسيون من الدخول، فأقام بمدينة (طنجة) وكانت يومئذ منطقة دولية.
وحين أُبعد الملك محمد الخامس سنة 1953م ونُفي من البلاد، دعا علال الفاسي الشعب المغربي للثورة ضد فرنسا وحين رجع الملك واستقرّت الأمور شارك في الحكم فترة قصيرة بعد وفاة محمد الخامس، حيث تولى وزارة الدولة للشؤون الإسلامية عام 1961م، ثم استقال عام 1963م.
ثم انصرف من خلال الحزب (حزب الاستقلال) إلى المعارضة غير العنيفة في مجلس النواب الذي كان عضواً فيه وبقي رئيساً للحزب من 1960م إلى عام 1967م.
إن أستاذنا العلاّمة المجاهد والزعيم الكبير علال الفاسي رجل من رجالات الإِسلام المعاصرين الذين حملوا دعوته وجاهدوا في سبيله وأمضوا حياتهم يقارعون الظلم والاستبداد ويحاربون الاستعمار، وهو رئيس حزب الاستقلال المغربي الذي اضطلع في بواكير إنشائه بالتصدي للاستعمار الفرنسي ومحاولته لنيل حقوق الشعب المغربي.
وكان الأستاذ علال الفاسي العالم المبرّز الذي قاد المسيرة نحو استرداد الحقوق للشعب المغربي العربي المسلم وشارك في المقاومة الوطنية بلسانه وقلمه وبدنه، وصار يتحرك في طول البلاد وعرضها مشجعاً الناس على الجهاد ومقاومة الاستعمار والتصدي لأعداء الإسلام الذين احتلوا البلاد وأذلّوا العباد ونهبوا الخيرات ونشروا الفساد.
ثم هاجر من بلده مطارداً من الاستعمار وأعوانه، وطاف الأقطار العربية والإسلامية والعالمية معرِّفاً بقضية بلاده، معرِّياً أساليب الاستعمار ووسائله، كاشفاً خططه ومراميه، موضِّحاً الطريق لاسترداد الحق ونيل الاستقلال وإقامة الشرع. وقد حيّاه الأديب الكبير علي أحمد باكثير بقصيدة جاء فيها:
ذكرتك يا علال والناس هجّع
وليس سوى جفني وجفنك ساهد
وللهمِّ حزٌّ في فؤادي قاطع
ولليأس فتك في أمانيّ حاصد
تكاد الدّجى تقضي عليّ لأنها
دجى العرب تاهت في عماها المقاصد
تداعت على قومي الشعوب فما وَنَتْ
مصادرها عن حوضهم والموارد
ذكرتك يا علال فانتابني الأسى
أكابد من آلامه ما أكابد
كأني أنا المنفي دونك فاصطبر
فهذا شعور في بني العرب سائد
وددت لو اني في فلسطين ثائر
لأهلي تنعاني الظبى لا القصائد
وفي برقة أو في الجزائر قاصم
ظهور العدى والباترات رواعد
فتلك بلادي لا أفرق بينها
لها طارف في مجد قومي وتالد
وقد استجاب لنداء علال الفاسي الكثير من داخل البلاد وخارجها والتفّ حوله الشباب واتخذوه زعيماً لهم وقائداً لمسيرتهم، فانطلق بهم مجمعاً لصفوفهم، شارحاً لهم خطوات العمل ومراحل الجهاد وأعباءه وتكاليفه. وقد استطاع في هذه الجولات أن يتصل بالكثيرين من القادة والزعماء و المجاهدين في العالم الإسلامي أمثال الإمامحسن البنا و محمد صالح حرب و أمين الحسيني و البشير الإبراهيمي و الفضيل الورتلاني و حسن الهضيبي وغيرهم.
لقاءاتي به:
ولقد سعدت بلقائه مرات ومرات، واستفدتُ من دروسه ومحاضراته وندواته، حين كنا ندرس في مصر في أوائل الخمسينيات الميلادية.
وكنا نحن الطلاب الوافدين نشكّل جنسيات مختلفة من أنحاء الوطن الإسلامي ولكن رباط الإسلام وأخوته كانتا الأساس المتين الذي يقوم عليه تجمّع طلبة البعوث الإسلامية بمصر، وقد جرى حوار طويل معه أثاره بعض إخواننا الطلبة المغاربة المعارين الذين طالبوا الزعيم الفاسي بأن يُعنى حزب الاستقلال بالجانب التربوي بحيث لا يطغى الجانب السياسي على معظم نشاط الحزب، وقد تلقّى الزعيم الراحل هذه المناقشات بروح الود والإكبار واعتبرها بادرة طيِّبة من الشباب المغربي الذين استفادوا من وجودهم بمصر في الاتصال بالحركة الإسلامية المعاصرة.
مواقفه ورجولته:
كان الأستاذ علال الفاسي وثيق الصلة بالدعاة الإسلاميين والعاملين في الحقل الإسلامي، ينسّق العمل معهم ويقف إلى جانبهم في محنهم ويتصدى للذود عنهم والدفاع عن أهدافهم، وقد اضطلع بمهمة تصعيد الحملة ضد طغيان السلطة الحاكمة بمصر أيام عبد الناصر التي أقدمت على زج العاملين للإسلام ودعاته في السجن وتعليقهم على أعـواد الـمشانق أمثـال الشهداء: عبدالقادر عودة و محمد فرغلي و سيد قطب و يوسف طلعت و إبراهيم الطيب و هنداوي دوير و محمود عبداللطيف و عبدالفتاح إسماعيل و محمد يوسف هواش .
وقد أصدر علال الفاسي العديد من البيانات والتصريحات وعقد الكثير من المؤتمرات لتفنيد مزاعم السلطة واستنكار أعمالها وسطر المقالات الطويلة التي تتحدث عن جهاد هؤلاء الدعاة في (جريدة العلم) المغربية لسان حزب الاستقلال، كما أقام الحزب المهرجانات لاستنكار تلك المجازر البشعة لأولئك الدعاة المجاهدين في أرض الكنانة.
ولن أستطيع الاسترسال في تسجيل المواقف البطولية الرائعة التي كان يقفها المجاهد المرحوم علال الفاسي فهي أكثر من أن تحصى.
ومرَّت الأيام تجري سراعاً ثم التقيتُ به في زيارة قام بها إلى الكويت قبل سنوات وكان بيننا وبينه أحاديث عن هموم المسلمين ومشكلاتهم وطرائق العمل الناجح لإخراجهم من محنتهم.
وكانت أحـاديث وخطب ومحاضرات ونـدوات خـرج منها الفقيد رحمه الله بضرورة توثيق العمل مع الشباب المسلم باعتبارهم الركائز الأساسية لحمل دعوة الإسلام كما أيقن بأهمية البناء التربوي العقائـدي للشباب حـتى يكونوا طلائع البعث الإسلامي المرتقب لهذه الأمة التي طال أمد رقادها واستكانتها لوعود الحكام وخداعهم، أولئك الذين لا يهمّهم إلاّ البقاء على كـراسي السلطة ولو هلكت الشعوب بكاملها ولو ضاعت المقدسات وديست الكـرامات، ومن هنا أخذ رحمه الله يبحث عن العناصر المؤمنة الشابة ليوطد الصـلة بهـا ويكسبها من خبراته وتجاربه في ميدان السياسة والعلم و الجهاد والكفاح.
وهكذا كان الزعيم الراحل لا يدع مجالاً من مجالات العمل الإسلامي إلاّ أسهم فيه وبذل من الجهد ما يستطيع، ورغم أننا نخالفه في بعض اجتهاداته السياسية فإنه ليس لنا إلا أن نعترف بأن مواقفه كانت تنبع من اقتناعه بأن الإسلام هو طريق الخلاص لهذه الأمة من كل ما تشكوه من ويلات وما تعانيه من محن وكوارث.
آثاره ومؤلفاته:
لعل الكثير من الناس لا يعرفون عن المرحوم علال الفاسي إلا أنه رجل من رجال السياسة وزعيم من زعماء الوطنية بينما هو علم من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وداعية من دعاة المدرسة الإصلاحية التي بدأها المرحوم محمد رشيد رضا، كما أن له باعاً طويلاً وقدماً راسخة في الفقه الإسلامي وخاصة الفقه المالكي والفقه المقارن، وله اجتهادات فقهية يحتج بها علماء المغرب والجزائر وتونس، ولكن غلبة الطابع السياسي والوطني جعلتْ انصرافه للأمور الفقهية يحتل المرتبة الثانية من اهتماماته.
درّس في كلية الحقوق وأصدر كتباً كثيرة منها:
دفاع عن الشريعة ـ الحماية في مراكش ـ السياسة البربرية في مراكش ـ النقد الذاتي ـ الحركات الاستقلالية في المغرب العربي ـ الحرية ـ الحماية الإسبانية في المغرب ـ واقع العالم الإسلامي ـ مهمة علماء الإسلام ـ منهج الاستقلالية ـ رأي مواطن ـ نحو وحدة إسلامية ـ دائماً مع الشعب ـ أناشيد وطنية ـ حديث عن التبشير المسيحي ـ كي لا ننسى ـ المدخل لعلوم القرآن والتفسير ـ المثل الأعلى ـ الديمقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها ـ مقاصد الشريعة ومكارمها ـ المدخل لدراسة النظرية العامة للفقه الإسلامي ـ المدرسة الكلامية وآثار الشيخ الطوسي ـ المغرب العربي منذ الحرب العالمية الأولى ـ أساطير مغربية ـ عقيدة وجهاد ـ ديوان علال الفاسي (أربعة أجزاء) ـ حديث المغرب في المشرق ـ التقريب: شرح مدونة الأحوال الشخصية ـ معركة اليوم والغد ـ بديل البديل ـ نضالية الإمام مالك ـ دفاع عن وحدة البلاد ـ لفظ العبادة وهل يصح إطلاقه لغير الله؟ ـ نداء القاهرة ـ الجواب الصحيح والنصح الخالص ـ المختار من شعر علال الفاسي ـ رياض الأطفال.. وغيرها كثير لم يطبع بعد.
وهو عضو في المجمع العلمي العربي بدمشق، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة. وله شعر كثير نذكر بعضه كنماذج:
نماذج من شعره:
من قصيدة له بعنوان «ذكرى مرور أربعة عشر قرناً على نزول القرآن الكريم»، يقول:
يا أمةً قرآنها دستورها
وزعيمها كان النبي المرسلا
عودي إلى الدين الحنيف عقيدة
وشريعة وتخلقاً وتعقلا
ما في سوى القرآن خيرٌ يُجتبى
أو في سوى الإسلام نهجٌ يبتلى
هذي فلسطين الجريحة أصبحت
بيد اليهود أسيرة لن ترسلا
و القدسُ أولى القبلتين يُعِدُّه
أعداءُ أحمد كي يقيموا الهيكلا
عودوا إلى الإسلام يصلح شأنكم
ويُنِلْكم نصراً مبيناً في الملا
ومن قصيدته في رثاء الشهيد سيد قطب يقول:
في ظلال القرآن دوماً مشيتا
فعليكَ السلامُ حيّاً وميتا
قد أنرت السبيل للسالك الحر
وفي نورك البهيّ احترقتا
لم تزل في ضمائر الناس هدياً
نبويَّاً آياته ما شرحتا
دعوة الدين لم تخنها ولكن
لم تطق عن خؤونها قط صمتا
ومن قصيدة له بعنوان «اضطهاد لغة القرآن» يقول:
إلى متى لغة القرآن تُضطهدُ
ويستبيح حِماها الأهلُ والولدُ
أما دَرَوْا أنها في الدهرِ عُدَّتُهم
وما لهم دونها في الكونِ مُلتحدُ
ولن تقوم لهم في الناس قائمة
أو يستقيم لهم في العيش ما نشدوا
إن لم تَتِمَّ لهم بالضاد معرفةٌ
أو يكتمل لهم بالضاد مُعتقدُ
إن العقيدة في الأوطانِ ناقصةٌ
ما لم تكن للسان الشعبِ تستندُكما كان خطيباً مفوّهاً وفقيهاً عالماً وسياسياً بارعاً وداعيةً عاملاً يشدّ القلوب والعقول إليه ويستجيب لنداءاته الشباب، فكانوا يستضيفونه بالحلقات العلمية والتجمعات الطلابية والندوات الفكرية ويطرحون عليه كل تساؤلاتهم ومشكلاتهم والطريقة المثلى لتحرير بلادهم من نير الاستعمار، وفي الولايات المتحدة الأمريكية حين كنتُ أنا وهو والدكتور حسن الترابي والأستاذ إبراهيم الوزير مدعوين لحضور المؤتمر السنوي لاتحاد الطلبة المسلمين سنة 1968م كانت فترة من أجمل الفترات وأياماً من أسعد الأيام حيث امتدت زيارتنا وتطوافنا في الولايات المتحدة قرابة شهر وقفتُ فيها على الكثير من جوانب شخصيته الفذّة التي تمثّل الرجولة والعصامية في أجلى صورها.
من أقوال علال الفاسي:
«تستطيع القوة أن تنال من جسم المسلم، وتستطيع أن تسلبه ماله وحياته أو تخرجه من أرضه وعشيرته، ولكنها لا تستطيع أن تسلبه الإيمان أو تزيل عنه اعتزازه بنفسه واعتداده بعقيدته».
«ما أحوج المسلمين اليوم للرجـوع إلى الـدين كما أُنزل غضـاً طرياً، وما أحـوجهم للتحرر من عقـدة النقص التي ركّبهـا الاستعمار الأجـنبي في بـلادهم حتى أصبحـوا لا يفهمون ولا يُقـدِّرون إلا بـمقاييس المستعمرين».
وكان آخر عمل مشكور قام به هو جهوده في حمل حكومة المغرب على التخلي عن موقفها في المساهمة بإخراج فيلم عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي تكمن وراءه جهات تريد الإساءة لرسول الإسلام ودين الإسلام وأمة الإسلام .
ولقد كنت في زياراتي للمغرب العربي ألتقي العلماء والدعاة والمفكرين ورجال السياسة والأدب فأجد أن الجميع متفق على أن الأستاذ علال الفاسي من أفذاذ رجال المغرب المكافحين ضد الاستعمار والمنافحين عن العروبة و المجاهدين في سبيـل الإسلام . فقد جمع من الصفات وتوفّـر له من الإمكانات مـا جعلـه في طليعـة الرجال ومقدمة الأبطال الـذين أرخصوا الغالي والـنفيس في الذود عن حيـاض الإسلام ومقارعـة الاستعمار والتصدي للتغريب والفرنسة.
ومن هنا كان له هذا الرصيد الضخم من التقدير والإجلال والمحبة في قلوب الجماهير فكان العلم المبرّز والفارس المقدام والداعية الواعي والسياسي القدير والقائد المُحنك الذي استقطب الجماهير الإسلامية والنخب المثقفة بالاحترام والإجلال من الجميع.
ولقد كان هدفه الأساس هو خدمة الإسلام والمسلمين والعمل الجاد الدؤوب لرفع المعاناة عن المظلومين وإحقاق الحق ومـحاربة الفسـاد والطغيان وتربية النشء على منهج الإسلام وانتظام الدعاة في صف واحد للعمل الجاد لإنقاذ الأمة من آثار الاستعمار ومناهجه في التعليم والتربية والسلوك والاقتصاد والسياسة والاجتماع.
ولقد رأيت ثمار جهوده وجهود إخوانه وتلامذته في المغرب العربي في جيل الصحوة الإسلامية المباركة التي شملت المغرب كله في المدن والأرياف والمؤسسات والجامعات والمدارس والمساجد والنقابات المهنية والبلدية والنيابية وغيرها.
وفاته:
وقد انتقل إلى رحمة الله يوم الاثنين 20 ربيع الثاني عام 1394هـ 13/5/1974م.
رحم الله الفقيد رحمة واسعة وجزاه الله خيراً عن كل عمل صالح قدمه وتجاوز عن أخطائه وسيئاته وغفر الله لنا وله.
الزعيم المجاهد محيي الدين القليبي
مولده ونشأته:
وُلد في بلدة (اقليبية) في تونس سنة 1318هـ 1901 م) تعلم في جامعة (الزيتونة) واشتغل بالصحافة وتولى تحرير جرائد (الإرادة) اليومية و(الصواب) الأسبوعية و(لسان الشعب) الأسبوعية وترأس تحرير صحيفة (الزهرة) وهي أقدم صحف تونس العربية؛ وأدار أعمال الحزب الدستوري التونسي بعد سفر رئيسه (عبد العزيز الثعالبي) إلى الشرق. وقد قال له الثعالبي: جعلت الحزب أمانة في عنقك.
اعتقـله الفرنسيون سنة 1934 م ونُفي إلى الصحـراء ثم أطـلق سراحه بعد سنتيـن تقريبـاً. وحج إلى بيت الله الـحرام سنـة 1947 م ثـم سـافر إلى مصـر واستقر فيهـا مواصلاً العمل لقضية بلاده، وهـناك التـقى الإمـام الشهيـد حسن البنا ـ المرشد العام للإخوان المسلمين ـ الذي عاونـه وساعـده في التعريف بقضايا المغرب العربي من خلال صحف الإخوان المسلمين ومجلاتهم.
صفاته :
هو الرجل الفذ والزعيم بحق والمجاهد بصدق، الذي يؤثر العمل على القول، ويجول في البلاد الإسلامية شرقاً وغرباً، معرفاً بقضية بلاده المسلمة تونس ، التي استعمرها الفرنسيون وأذاقوا شعبها ألوان البلاء وأنواع العذاب، ونشروا فيها الفسق والفساد، وأحلوا فيها الدمار والخراب، وعملوا على سلخها من دينها ولغتها، وتجريدها من أخلاقها وتقاليدها، لتحويلها إلى قطعة من فرنسا بمفاسدها ورذائلها ومباذلها.
اتصف هذا الزعيم التونسي الكبير بالالتزام الإسلامي في قوله وعمله، وأخلاقه وسلوكه، كما كان النموذج الصادق للمسلم المعتز بدينه المستعلي بإيمانه، المترفّع عن مراتع خفافيش الظلام وأشباه الرجال من أدعياء الزعامة الفارغة والأمجاد الكاذبة من الدمى المتحركة، التي يسلّط عليها المستعمرون أضواءهم، ليصنعوا منهم أبطـالاً يخدعون بهم الشعـوب وهم في حقيقة أمرهم عبيد للمستعمرين مسخرون لخدمتهم وترسيخ أقدامهم في ديار المسلمين.
معرفتي به:
رأيت صورته المنشورة في صفحة التعارف الإسلامي بمجلة (الشهاب) الشهرية التي كان يصدرها الإمام الشهيد حسن البنا سنة 1947 م؛ وقرأت تعريف الإمام البنا بشخص الزعيم القليبي فتعلّق قلبي به وأكبرت جهاده وجهوده في سبيل الإسلام والمسلمين وبخاصة المغرب العربي؛ وحين سعدتُ بلقائه وجدته أكبر مما كنت أتصور؛ فهو شخصية فذّة وداعية مجاهد، صلب العود، قوي العزيمة، دائم العمل في الليل والنهار، كثير التجوال والترحال في سبيل الله والمستضعفين في الأرض.
جولاته ورحلاته:
قام المجاهد المسلم محيي الدين القليبي بجولات أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات الميلادية في كل من مصر و سوريا و العراق و الأردن وغيرها من ديار العروبة و الإسلام ، التقى خلالها رجالات الإسلام وأعلام الحركة الإسلامية أمثال الإمام الشهيد حسن البنا بمصر والشيخ الصواف بالعراق والدكتور السباعي بسورية وغيرهم من قادة الفكر ورجال الدعوة وزعماء المشرق العربي والمغرب العربي على حد سواء، وكانوا يتدارسون الأوضاع في بلدان المغرب العربي بخاصة والعالم العربي والإسلامي بعامة، وكان الصراع المحتدم بين دعاة العروبة و الإسلام من جهة، وبين دعاة التغريب والفرنسة من جهة أخرى، وكان الاستعمار الفرنسي يمدّ الفريق المعادي للعروبة و الإسلام بكل وسائل الدعم والمساعدة والتأييد والمساندة والعون والتعضيد.
وكانت لقاءات القليبي مع القادة والزعماء المسلمين ذات مردود طيب وأثر نافع، حيث أقيمت المؤتمرات وعقدت الندوات وقامت المظاهرات الصاخبة وارتفعت الأصوات تدين فرنسا وتطلب منها رفع يدها عن تونس وغيرها من بلاد المغرب العربي، كما أصدرت مجلة (الإخوان المسلمون) الأسبوعية أعداداً خاصة عن شعوب المغرب العربي ومعاناتها من الاستعمار وجهادها ضد فرنسا وكشفت عن جرائمها البشعة بحق هذه الشعوب المسلمة.
بساطته وزهده :
كان الأستاذ القليبي بسيطاً في مظهره غاية البساطة، حتى إن أحد الإخوة السوريين المكلّف بمرافقته اقترح عليه أن يرتدي ثياباً جديدة لمقابلة رئيس الوزراء الذي كان على موعد معه، فغضب القليبي غضباً شديداً وقال للأخ: إننا لا نقابل الناس بثيابنا ولكن بنفوسنا، والرجال بمخابرها لا بمظاهرها، فسكت الأخ وردد قول الشاعر:
وإذا كانت النفوس كباراً
- تعبت في مرادها الأجسام
واستقبل رئيس الوزراء السوري الأستاذ القليبي بكل احترام وتقدير وإكبار وتوقير، للمهابة التي يتميز بها والأخلاق العالية التي يتصف بها، وكان الرئيس أذناً صاغية لما يقوله هذا الزعيم المجاهد عن أحوال الشعب التونسي المضطهد ومعاناته من ظلم الاستعمار الفرنسي وصنائعه من العملاء المرتزقة.
توجيهاته :
كان القليبي في أحاديثه للشباب المسلم الذين التقاهم في مصر و سوريا و العراق و الأردن و فلسطين ، يؤكد على ضرورة بناء الشخصية الإسلامية، المتميزة بصفاء العقيدة، وقوة الشخصية، ومتانة الخلق، ورجاحة العقل، والحكمة والتروي في محاكمة القضايا والأحداث، ويثير فيهم معاني الاعتزاز بـ الإسلام ، والانتساب لهذه الأمة، التي هي خير أمة أخرجت للناس، كما كان يؤكد على عالمية الإسلام ووحدة الشعوب الإسلامية وضرورة انصهارها في بوتقة واحدة، ترفع راية التوحيد، وتستظل في ظلال الإسلام، وتحكِّم شرعه بين الأنام، كما كان يوضح بأن الطريق لتحقيق ذلك إنما يكون ببناء الرجال الأشداء الذي يسلكون مسلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين والسائرين على نهجهم دون التفات للمتخلفين أو المثبطين، لأن الحياة صراع بين الحق والباطل والكفر والإيمان، و الإسلام دين لا يهزم ألبتة، ولكن المسلمين ينهزمون إذا تخلوا عن منهج الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وينتصرون إذا تمسكوا بهما، وإن سنن الله ماضية لا تحابي أحداً، فمن زرع حصد ومن جد وجد ومن سار على الدرب وصل.
فعلى الشباب الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة ليوم النزال، فأعداء الإسلام لن يتوقفوا عن حرب الإسلام والمسلمين حتى يدع المسلمون دينهم ويسيروا في ركاب الكافرين: {ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
فخذوا حذركم يا شباب الإسلام فأنتم أمل هذه الأمة، وعليكم معقد رجائها، فلا تخيبوا آمالها فيكم وكونوا غدها المشرق وعدتها في الملمات.
محبة الشباب له:
كان للقليبي مع الشباب المسلم بمصر و العراق و سوريا و الأردن و فلسطين جلسات وسهرات، وأحاديث وندوات، ومحاورات ومساجلات، استفادوا فيها من خبراته وتجاربه، وتوجيهاته وتوصياته، فأحبوه كما يحب الابن أباه والتلميذ أستاذه، وعاهدوه على أن يكونوا رجال الإسلام وحملة دعوته، ولقد صدق الكثير منهم فيما قالوا، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
نعم لقد احتلّ الأستاذ القليبي سويداء قلوبنا، وأحببناه من أعماقنا ووجدنا فيه الأب الحاني والأستاذ المربي، والداعية الحكيم، والعامل المخلص والرجل الشجاع، لأنه من نوادر الرجال الذين آثروا ما عند الله على ما عند الناس، وخرجوا من الدنيا الفانية وليس لهم من متاعها إلا الجهاد والمجاهدة والصبر والمصابرة، فكان الدرة الثمينة في جبين الحركة الإسلامية ، ومهما حاول الأقزام وأشباه الرجال أن يسدلوا الستار على ذكره وأن يعفوا على رسمه، فإن أصحاب الحق في كل مكان يعرفون من هو الزعيم المجاهد محيي الدين القليبي، كما أن المخلصين من أبناء الشعب التونسي المسلم والأوفياء من الرجال يدركون الدور العظيم الذي قام به من أجل دينه وأمته ووطنه، والعالم الإسلامي يعرف للرجل مواقفه المشهودة في المؤتمرات وجهاده في سبيل الإسلام والمسلمين سواء في تونس أو غيرها من ديار المسلمين.
شهادة بحقه:
يقول الأستاذ عصام العطّار:
«رأيته أثناء انعقاد المؤتمر الإسلامي في القدس سنة 1953 م وقد طلع بقامته الطويلة الهزيلة المحنية قليلاً عند الكتفين ووجهه المستطيل الحزين وجبهته الواسعة وعينيه الصغيرتين المفكرتين ولحيته القليلة وخطها الشيب، كان يجلس وراء الصفوف في الحفلات والاجتماعات حيث يتقدم الآخرون، وكنا نفتقده في مجالات المجاملة والظهور، كما نفتقد بعضهم في مجال العمل المستور.. وإذا كان هناك من حضر المؤتمر لإبراز شخصه، فقد حضر هذا الرجل لخدمة قضيته فهو يطلب دوماً العمل المنتج ويؤثر السبيل المثمر، فلا تراه إلا حيث النظر الجاد والتنظيم العملي والتنفيذ السريع.. لقد كان رائعاً هذا (الشيخ) الطويل الهزيل الحزين، كان أعظم من المظاهر التي استولت على بعض الحضور؛ وكأنما كان به يأس من جيل مضى وأمل في جيل أقبل.
لقد امتاز القليبي بنظرة إسلامية خالصة، تكلم مرة في جمهور ضخم في قاعة الجمعية الغراء في دمشق بمناسبة حل جماعة الإخوان المسلمين بمصر سنة 1954 م فأعلن أنه لا يقبل أن يقال: هذه قضية داخلية لا يتكلم فيها غير مصري وأنه لا يعترف بحدود الأرض ولا اللغة بين المسلمين ولا يؤمن إلاّ بوطن واحد هو وطن (الدين) لا وطن العصبية و(الطين).
ثم عرض لحل الإخوان المسلمين فوصل هذه القضية بالمشكلة الإسلامية الكبرى وعاد بنا إلى جذور هذه المشكلة في الزمان والمكان وإلى ظواهرها في الماضي والحاضر وإلى نتائجها المنتظرة في المستقبل.. ثم أشار إلى السبل الصحيحة في العمل.
زرته في بيت محمد كامل التونسي وكان مريضاً ممدداً على السرير متورم الأطراف مصفر الوجه بادي الإعياء. وذهبت بعد ذلك بأيام لزيارة الأستاذ المرشد حسن الهضيبي في بلودان أثناء زيارته التاريخية لسوريا سنة 1954 م فسألني: كيف حال الأستاذ القليبي؟ فأخبرته باشتداد المرض عليه، فقال: إذا رجعت إلى دمشق فأبلغه سلامي وقل له على لساني: إن المسلمين لا يريدون منك الآن إلا أن تهتم بصحتك وزرته في المستشفى الجراحي في (دوما) وقد نقلوه إليه لاشتداد المرض، وأبلغته سلام المرشد الهضيبي وأنه حملني إليه رسالة.. قال: وما هي؟ قلت: إنه يقول لك: إن المسلمين لا يريدون منك الآن إلا أن تهتم بصحتك وتترك ما تقوم به. فانتفض انتفاضة شديدة وقال: وما هي فائدة حياتي وصحتي إذا لم أؤد حق الله عليّ وأقم بواجبي. إنني أعيش للعمل في سبيل الله، فلا أقبل أبداً أن أترك العمل للعيش. ثم قال بصوت رزين عميق وقد ترقرقت في عينيه الدموع: إنني لأشعر باقتراب نهايتي ولديَّ أشياء أريد أن أقولها للمسلمين وأشياء أريد عملها لهم ولم يعد في العيش فسحة للانتظار، فلا بد إذن أن أجهد نفسي لتحقيق ما أريد قبل حلول أجلي، إنني لن أترك خدمة عقيدتي للاحتفاظ بهذا الجسد الفاني، ولن أؤثر سلامتي على أداء رسالتي، فإذا قتلني الإجهاد ـ كما تخشون ـ فمرحباً بالموت في طاعة الله.
وبعد عدة أيام حُمل الأستاذ القليبي إلى مستشفى المجتهد في الميدان بدمشق وفي الساعة العاشرة من آخر ليلة في شهر نوفمبر سنة1954 م زرته مع الدكتور مصطفى السباعي وكان غائباً عن الوعي، فدعونا الله بقلوبنا الواجفة أن يكون مع هذا الرجل العظيم. وفي اليوم الثاني كنت أسير في جنازة المرحوم القليبي وتكلم د. سعيد رمضان وتكلم الأستاذ التونسي وتكلمت فقلت: «ما فقدنا الأستاذ القليبي.. لقد انتقل من عالمنا الخارجي إلى عالمنا الداخلي؛ لقد انطوت عليه الجوانح قبل أن ينطوي عليه القبر، واشتمل عليه التاريخ قبل أن يشتمل عليه التراب، إنه مثل رائع للنظرة الإسلامية الخالصة والقيادة الواعية والاستشهاد في الجهاد رحمه الله» انتهى.
آثاره:
كان الجانب العملي والطبيعة التنفيذية هي الطابع الواضح للأستاذ القليبي وكان يؤثرها على ما عداها ورغم أنه صحفي في الأساس ولكن حركته في أوساط الجماهير ودعوته العامة لنصرة الإسلام والمسلمين حيثما كان هي المحرك لكل نشاطاته، ومع هذا فقد أصدر بعض الكتب منها على سبيل المثال لا الحصر:
- مأساة عرش.
- رسالة عن التعليم في تونس
- ذكرى الحماية.
وغير ذلك من البحوث والمقالات والمحاضرات في مختلف الصحف والمجلات العربية بتونس وغيرها.
وشباب الصحوة الإسلامية في تونس يعرفون رجالها من أصحاب السابقة وذوي الفضل والرواد الأوائل الذين شقوا الطريق، ورسموا معالمه، وبينوا للأمة دورها وأهابوا بها للسير فيه إلى مواطن النصر.
وإنني لأدعو قادة الحركة الإسلامية المعاصرة في تونس لتقديم سيرة القليبي لإخوانهم العاملين معهم، ليقفوا على الجوانب المشرقة والصفحات المضيئة من سجل جهاده الدائب، وعمله الموصول ومواقفه الصلبة وآرائه السديدة، وهذا أقل ما يجب من الوفاء لمثل هذا العالم العامل، والمجاهد الصادق، الذي جاد به الزمان في أحرج الفترات، فكان طليعة الركب وقائد المسيرة وبطل الأزمات ورجل المواقف.
نسأل الله العلي القدير أن يجزي أستاذنا الكبير محيي الدين القليبي خير ما يجزي عباده الصالحين وأن يوفق العاملين في حقل الدعوة الإسلامية بتونس وغيرها إلى الثبات على الحق والصبر على البلاء واستشراف النصر من واهب النصر: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُه} [الحج: 40].
البطل الجسور الفضيل الورتلاني
يعتبــٍر العلامة الفضيل الورتلاني الجزائري من أبرز أعلام الحركة الاسلامية في الجزائر الذين كان له دور مهم وفاعل في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائرين سنة 1931م ، حيث كان من اقرب الشخصيات للامام عبد الحميد بن باديس و الامام البشير الابراهيمي رحمهما الله ،وساهم مساهمة فعالة في التمكين لمباديء الجمعية في الجزائر ثم في فرنسا في صفوف العمال الجزائريين هناك .
ثم كان همزة الوصل القوية بين الفكر الاخواني وجمعية العلماء ، بحيث انضم الى جماعة الاخوان لما استقر في مصر وأصبح من أقرب المقربين للامام الشهيد حسن البنا رحمه الله وكان محل ثقته ، إذ كان ينوبه أحيانا في درس الثلاثاء وكلفه بالاشراف على فتح بعض شعب الجماعة في مصر كما كلف بملف اليمن، وقد جمعت بعض مقالاته في كتاب بعنوان الجزائر الثائرة .
المولد والنشأة:
ولد "إبراهيم بن مصطفى الجزائري"- المعروف بـ"الفضيل الورتلاني"- في 2 جوان 1900م" في بلدة بني ورتلان بولاية سطيف شرقي الجزائر، وإليها انتسب، وجاءت شهرته بالورتلاني، ونشأ في أسرة كريمة لها اتصال بالعلم، فجدُّه الشيخ "حسين الورتلاني" كان من العلماء المعروفين في منطقته .
ومثل غيره من طلبة العلم حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ودرس علوم اللغة العربية على علماء بلدته، ثم انتقل إلى مدينة قسطنطينة سنة 1928 م حيث استكمل دراسته على يد العلامة الشيخ "عبد الحميد بن باديس"، وفي مدرسة "ابن باديس" تلقى دروسه في التفسير والحديث والتاريخ الإسلامي، والأدب العربي، وتأثر بشيخه المصلح الكبير وبطريقته في الإصلاح، وغيْرته على المسلمين. ولم يلبث حتى بات منذ سنة 1932 م مساعداً له في التدريس، و متجوّلاً لصالح مجلة الشهاب ومرافقاً لابن باديس في بعض رحلاته بالوطن، مشاركاً بقلمه في كل من البصائر و الشهاب بروح وطنية متوثبة ، وشعور ديني ملتهب.
النشاط الإصلاحي:
لم يكن الشيخ "ابن باديس" يقصر دعوته على إصلاح حال الجزائريين في بلادهم، بل امتد بصره إلى المغتربين في فرنسا من الجزائريين، ورأى أن من أوجب واجبات الجمعية أن تحمي إسلام هؤلاء من الضياع، وأن تتولى تربية النشء الجديد قبل أن تلتهمه الحياة الفرنسية، ونظر حوله فلم يجد أكفأ من "الفضيل الورتلاني" للقيام بهذه المهمة الشاقة التي تتطلب؛ إيمانًا بالقضية وإخلاصًا لها، ورغبة في الإصلاح والتغيير.
نزل "الفضيل" فرنسا سنة "1355 هـ/1936م" مبعوثًا عن الجمعية، وأقام في باريس، وبدأ نشاطه المكثف بهمة عالية، واتصل بالعمال والطلبة الجزائريين بفرنسا، وأخذ في إنشاء النوادي لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي ومحاربة الرذيلة والانحلال في أوساط المسلمين المقيمين بفرنسا، واستطاع خلال عامين أن يفتح كثيرًا من النوادي الثقافية في باريس وضواحيها وبعض المدن الفرنسية الأخرى.
وانتهز فرصة وجوده في باريس فاتصل بالدارسين العرب في الجامعات الفرنسية، وتوثفت بينهم المودة والصلة، مثل العلامة "محمد عبدالله دراز" صاحب كتاب (دستور الأخلاق في القرآن الكريم)، والشيخ "عبدالرحمن تاج" الذي صار شيخًا للأزهر، والعلامة السوري "محمد المبارك"، والشاعر "عمر بهاء الدين الأميري".
وقد أقلق هذا النشاط السلطات الفرنسية فضيقت على "الفضيل الورتلاني" حركته، وجاءته رسائل تهدده بالقتل، فاضطُّر إلى مغادرة فرنسا إلى إيطاليا ومنها إلى القاهرة.
كانت وجهته إذن سنة 1940 القاهرة حيث آثر الانتساب إلى الأزهر فحصل على شهادته العالمية في "كلية أصول الدين والشريعة الإسلامية" مواصلاً جهاده القومي الوطني، للتعريض بالاستعمار الفرنسي في الجزائر وخدمة "القضية الجزائرية"، وقضايا المسلمين عموماً ، فأسس مثلاً سنة 1942 م "اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر" كما أسس سنة 1944 م "جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا" ثم مكتب جمعية العلماء المسلمين في القاهرة سنة 1948 م الذي استقبل فيه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي سنة 1952 م وقد صار عضواً في تنظيم حركة الإخوان المسلمين وكانت تربطه صلة وثيقة بـ"حسن البنا"، ونظرًا لملكاته الخطابية وقدرته على الإقناع، وكان من تقدير الإمام البنا للورتلاني أنه كان ينوب عنه حين يكون غائبًا عن القاهرة في إلقاء حديث الثلاثاء بالمركز العام لجماعة الإخوان.
وامتد نشاط "الورتلاني" إلى مساندة الأحرار في اليمن، وكانت البلاد تموج بحركة معارضة قوية، ورغبة طموحة في الإصلاح والتغيير، وكان الإمام "البنا" على علم بما يجري في اليمن، ومِن تطلُّع إلى الخروج بالبلاد من عزلتها وفقرها وجهلها، فأوفد "الفضيل الورتلاني" إلى هناك.
سنة 1366 هـ/1947م نزل "الفضيل الورتلاني" اليمن ونجح في توحيد صفوف المعارضة، وإزالة الخلاف بينهم، وبدأ في تهيئة الناس للتغيير بخطبه الحماسية التي تلهب المشاعر وتوقد الحماسة في الصدور.
وفي ربيع الآخر 1367 هـ/ فبراير 1948م نجحت المعارضة في الوصول إلى الحكم بعد إزاحة الإمام "يحيى" واتهم الورتلاني بالمشاركة في محاولة انقلابية في (اليمن) فقبض عليه هناك ثم أفرج عنه مع من شملهم العفو الذي سخر منه (الإبراهيمي) في مقالة نشرها في البصائر معرّضاً بالنظام القائم على الهوى لا على القانون. فغادر الورتيلاني اليمن، وتنقل في عدة دول أوربية، ورفضت الدول العربية استقباله حتى وافقت لبنان على استقباله، شريطةَ أن يكون الأمر سرًا.
وبعد قيام حركة الجيش بالإطاحة بالملك "فاروق" عاد "الورتلاني" إلى مصر بعد غياب عدة سنوات، واستقبله العلماء والسياسيون استقبالاً حسنًا؛ نظرًا لماضيه المشرِّف في الجهاد وعاد "الفضيل" إلى جهاده، ومؤازرة الثورة الجزائرية التي اشتعلت على أرض بلاده في سنة 1374 هـ/1954م، وأصدر بيانًا مع المجاهد الكبير الشيخ "محمد البشير الإبراهيمي"- رئيس جمعية علماء المسلمين- بعنوان: "نُعيذكم بالله أن تتراجعوا"، وشارك في تأسيس جبهة تحرير الجزائر سنة 1375 هـ/1955م، وكانت تضم الشيخ "الإبراهيمي"، وممثلي جبهة التحرير مثل "أحمد بن بيلا" و"حسين آية أحمد"، وبعض ممثلي الأحزاب الجزائرية. ولم تَطُل مدة إقامة "الفضيل الورتلاني" بالقاهرة، فقد غادرها إلى بيروت سنة 1375هـ/1955م.
كان "الورتلاني" من الرجال الذين تشغلهم القضايا الكبرى عن نفسه، وربما وصل الليل بالنهار في عمل دائم، دون أن يذوق طعامًا، شأنه في ذلك شأن أصحاب الدعوات، وقد أدى ذلك إلى اختلال في صحته، وتعرُّضه لأمراض خطيرة، لكنَّ ذلك لم يمنعه من الحركة والعمل في سبيل الدعوة، حتى لقي ربه في إحدى مستشفيات مدينة "أنقرة" في 2 من رمضان 1387 هـ/ 12 من مارس 1959م، سنة 1987 م و بعد سنوات من الجحود، نقلت رفاته من (تركيا) ليعاد دفنها في مسقط رأسه ودفن في مسقط رأسه بالجزائر.
اتصالاته وجولاته:
كانت له اتصالات واسعة بالمسلمين المقيمين في فرنسا من الجزائريين وغيرهم من العرب الدارسين هناك أمثال الشيخ محمد عبد الله دارز والشيخ عبد الرحمن تاج والأستاذ محمد المبارك والأستاذ عمر بهاء الدين الأميري ، وقد آثار هذا النشاط الإسلامي السلطات الفرنسية والمنظمات العنصرية الإرهابية فأخذت تضيق على المسلمين الناشطين وفي مقدمتهم الأستاذ الفضيل الورتلاني الذي قررت منظمة (اليد الحمراء) الإرهابية اغتياله، فما كان منه إلا أن غادر فرنسا إلى ايطاليا بمساعدة الأمير شكيب أرسلان الذي وفّر له جواز سفر حيث توجه إلى مصر سنة 1939م وهناك وجد المناخ المناسب للنشاط الإسلامي فقد سبقه لزيارتها شيخه ابن باديس قبل ربع قرن والتقى علماءها أمثال الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية آنذاك والشيخ أبي الفضل الجيزاوي الذي صار فيما بعد شيخاً للأزهر. وكان الإمام الشهيد حسن البنا شديد الإعجاب بالشيخ عبد الحميد بن باديس وجهاده الإسلامي حتى أنه أسس مجلة فكرية اسماها بـ (الشهاب) تيمناً بمجلة الشهاب الجزائرية، وقد سهلت هذه الصلة الروحية بين الحركتين الإسلاميتين الإخوان المسلمين بمصر وجمعية العلماء الجزائرية بالجزائر الطريق لاتصال الفضيل الورتلاني بالإخوان المسلمين والانضمام إليها وأصبح عضواً بارزاً فيها، وقد ألقى الفضيل الورتلاني (حديث الثلاثاء) بالمركز العام للإخوان المسلمين نيابة عن المرشد العام للإخوان المسلمين حسن البنا الذي كان خارج القاهرة.
نشاطه وجهاده:
شارك الفضيل الورتلاني وهو في مصر تأسيس عدة جمعيات خيرية وسياسية كاللجنة العليا للدفاع عن الجزائر وجمعية الجالية الجزائرية سنة 1942م وجبهة الدفاع عن شمال أفريقيا سنة 1944م التي كان أمينها العام وتضم في عضويتها الشيخ محمد الخضر حسين وحفيد الأمير عبدالقادر الجزائري والأمير عبدالكريم الخطابي المغربي.
وكان للفضيل الورتلاني دوره البارز في تنظيم وتنظير ثورة الأحرار في اليمن سنة 1948م مما يعرفه القاصي والداني رجالات اليمن.
ولست ادري من أي الجوانب أبدأ الحديث عن هذا الشخص العظيم، والسياسي المحنك والبطل الشجاع، والمغامر الجسور، والمجاهد الصابر، الذي حار الناس في مواهبه المتعددة، وعجزوا عن مجاراته في انطلاقه لتحقيق الأهداف التي يؤمن بها، والمبادئ التي يدين لها، وهي تحرير الشعوب الإسلامية بكاملها، من ربقة الاستعمار الأجنبي أياً كان لونه وجنسه، والإحلال الإسلام كنظام شامل للحياة كلها عقيدة وعبادة وخلقاً وشريعة ومنهج حياة.
ومن هنا كان بطلنا الشجاع الفضيل الورتلاني صاحب السبق في ميادين الجهاد، والعمل لتحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار.
ولئن كان الورتلاني من أبناء الجزائر فإن تحركه وجهاده لم يكلن للجزائر وحدها، بل للمسلمين عامة؛ لأن غايته الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله.
دوره في اليمن:
لقد أسهم الورتلاني ورفيقه المصري عبد الحكيم عابدين مع إخوانهما في اليمن لرفع الظلم الواقع بهم، وإزاحة العقبات التي تحول دون تحقيق أمانيهم في الحياة الحرة الكريمة كما كان للورتلاني دور فاعل ومؤثر في رفد الجهاد الإسلامي في فلسطين ضد يهود ومن والاهم. فضلاً عن الدور الأساسي الذي يضطلع به مع إخوانه من مجاهدي الجزار لتخليص بلادهم من نير الاستعمار الفرنسي والتصدي لكل القوى الماكرة التي تكيد للإسلام والمسلمين في كل مكان.
صلته بالإخوان المسلمين
يقول عنه الأستاذ الكبير محمود عبدالحليم في كتابه القيم (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ) :
(كان الفضيل الورتلاني شاباً جزائرياً من زعماء المجاهدين الذين طاردهم الاستعمار الفرنسي فهرب إلى مصر واتصل بالإخوان المسلمين وكان كثير التردد على المركز العام للإخوان المسلمين، حتى ليكاد يتردد عليه كل يوم باعتبار هذه الدار مركز الحركات التحريرية ضد الاستعمار في كل بلد إسلامي؛ كان الفضيل الورتلاني لماح الذكاء سريع الحركة كثير المعارف، لا يقتصر تحركه على ما يخص موطنه الأصلي – الجزائر – بل كان يرى العالم الإسلامي وحدة لا تتجزأ، وأنه مطالب بتحرير كل جزء منه، واعتقد أن الفضيل الورتلاني كان أول من سافر إلى اليمن التي أطاحت بالإمام يحيى) انتهى.
إن أستاذنا الفضيل الورتلاني علم من إعلام الإسلام المعاصرين، فقد أتاه الله علماً واسعاً وذكاء حاداً وبديهة حاضرة وثروة من التجارب وافرة، وأسلوبا في الحوار نادراً، وجرأة في الحق وقدرة على التصدي للباطل، وسلاسة في الحديث وفصاحة في الخطابة، وقوة في الإيمان ويقظة في الضمير.
ولست في هذا مبالغاً ولكنه بعض ما في الرجل؛ لأن الفضيل الورتلاني نموذج فريد للرجل المسلم القوي، الذي تصغر في عينه عظائم الأمور وتهون أمامه كل الصعاب فلا يتهيب نم اقتحام الميادين مهما عظمت التضحيات ولا يتردد لحظة في مواجهة الباطل المنتفش مهما كانت قوته وجبروته.
ثناء اليمنيين عليه :
يروي القاضي المؤرخ عبد الله الشماحي في كتابه (اليمن الإنسان والحضارة) قصة تعرفه بالإمام الشهيد حسن البنا والفضيل الورتلاني فيقول :
(كان الإمام البنا ممن التقيته في الحج وقويت الصلة به وتلازمنا في منى ومكة والمدينة ودرسنا الوضع العام في العالم الإسلامي، وقد شخّصت للإمام البنا الوشع في اليمن واتفقنا على التعاون بين الإخوان المسلمين والمنظمات اليمنية؛ وقد أوفى الإمام البنا بوعده وساند النضال اليمني بما كانت تنشره صحافة الإخوان المسلمين، ثم أوفد الأستاذ الجزائري الفضيل الورتلاني وغيره إلى اليمن عن طريق عدن.
ويأتي الأستاذ الجزائري الفضيل الورتلاني موفداً من الإمام حسن البنا وروح الثورة تتقدمه، فيمر بعدن ويضاعف حماس قادة حزب الأحرار وأعضائه، ذلك الحماس الزاحف مع الفضيل الورتلاني إلى كل مكان حل فيه.
وفي (تعز) اتصل الفضيل الورتلاني بالقاضي عبد الرحمن الإرياني والسيد زيد الموشكي والسيد أحمد الشامي وغيرهم وتبادلوا النظرات وبه ارتبط السيد أحمد الشامي ولازمه في تجولاته، وتأثر كل منهما بالآخر؛ وفي (صنعاء) قام الفضيل الورتلاني بنشاطه الثوري يرافقه المؤرخ المصري أحمد فخري ويساعده الشامي فيجتذبان إليهما السيد حسين الكبسي، ويندفع الفضيل الورتلاني في إقامة الندوات وإلقاء المحاضرات في المدارس والمساجد والحفلات، فتسري روحه إلى الشباب والضباط وطلاب المدارس) انتهى.
ويري الأستاذ حسين محمد المقبلي في مذكراته (مذكرات المقبلي) :
(... وصل إلى صنعاء الأستاذ الفضيل الورتلاني سنة 1947م وهو جزائري وعضو في حركة الإخوان المسلمين وخطيب لا يجاريه أحد في ذلك، وفهم للإسلام على غرار فهم الشيخ صالح المقبلي صاحب كتاب (العلم الشامخ في الرد على الآباء والمشايخ) وهو في مجمل القول خليفة الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري، عمره حوالي الأربعين عندما وصل اليمن لإنشاء فرع لشركة محمد سالم المصرية للمواصلات البرية.
كان الإخوة الموجودون في مصر وعلى رأسهم الشيخ الشهيد محمد صالح المسمري على صلة كبيرة جداً بالإخوان المسلمين، وكان الإخوان المسلمون - وعلى رأسهم الشيخ حسن البنا – يطمحون إلى تغيير الواقع في البلاد العربية، والى قيادة إسلامية صحيحة، والى ناشئة الإسلامية قوية.
وصل الفضيل الورتلاني يحمل مشعلاً آخر، وبدأ يخطب الناس بأسلوب جديد دفع الشباب اليمني دفعاً إلى اعتناق الثورة، وبدأت أتردد على الفضيل الورتلاني في منزله غير مكتف بملاحقته في المساجد والمجتمعات للاستماع إلى خطبه. وبدأ يحدثني... إننا نحن المسلمين فوق كوكب هذه الأرض نمثل الملايين، ولكني أقول – وهو يضغط على الحروف – إننا مستسلمون ولسنا مسلمين...) انتهى.
ويقول السيد أحمد بن محمد بن عبد الله الوزير في كتابه (حياة الأمير علي بن عبد الله الوزير كما سمعت ورأيت) : (... لقد كان للإخوان المسلمين وعلى رأسهم زعيمهم الإمام حسن البنا – رحمه الله – الذي لم يأل جهداً في بذل مساعيه الحميدة بإخراج اليمن من عزلتها وفقرها وجهلها، وكان الإمام البنا قد راسل الإمام يحيى وأدلى به بالنصح والإرشاد، وحاول أن يتصل بالإمام مباشرة، وأن تقدم جماعة الإخوان المسلمين كل طاقاتها وخبراتها ومعلوماتها لتنشئ دولة إسلامية في شعب مسلم عريق.
لكن الأقدار لم تسمح بعد فتهيئ الفرصة لإقامة الدولة الإسلامية، لما عليه اليمن من جهل وتخلف وحرمان، ولأن الإمام يحيى لا يحب أن يفيق الشعب من سباته العميق، تهرباً من أن يدرك ما فيه من التخلف الحرمان فيهوي بعرشه المتداعي..
وكان وصول الأخ عبد الله بن علي الوزير ومعه فضيلة المجاهد الكبير السيد الفضيل الورتلاني، قد دفعا بالحركة الإصلاحية قفزة واسعة.
وأخذت القضية تتحرك بسرعة واندفاع، فكان السيد الفضيل الورتلاني العلم الجزائري المعروف والخطيب المفصح، يُلهب أحاسيس الناس في الخطب يوم الجمعة، وعن طريق الاجتماعات المستمرة بالشخصيات القوية) انتهى.
ويقول الأستاذ أحمد بن محمد الشامي في مذكراته (رياح التغيير في اليمن):
(... وفي اعتقادي أن العالم المجاهد الجزائري السيد الفضيل الورتلاني هو الذي غيّر مجرى تاريخ اليمن في القرن الرابع عشر الهجري وأنه حين وضع قدمه على ارض اليمن كأنما وضعها على (زرّ) دولاب تاريخها فدار بها دورة جديدة في اتجاه جديد، لأن ثورة الدستور سنة 1367هـ - 1948م هي من صنع الورتلاني.. لقد كانت هناك معارضة يمنية وكان هناك نقد وتبرم ومنشورات ضد الدولة، وكانت هناك طموحات وزعامات وتحفزات، وكل ذلك يصلح أن يكون وقوداً لثورة ما.. ولكن (المعارضة) كانت بلا تنظيم، واتجاهات زعمائها مختلفة ومتباينة، والمناشدون بالإصلاح ودعاة التغير والتطور لا توحدهم رابطة، والنقد والتبرم غير موجهين توجيهاً سياسياً هادفاً بناءً.. والطموحات تتنافس فيما بينها، وكل متربص بالآخر، والزعامات العلمية والدينية والسياسية قد خدّرها الوهن، وجمدتها الأطماع، والتحفزات الوطنية ليس لها زعماء أكفاء ذوو مؤهلات قيادية، فلما جاء السيد الفضيل الورتلاني، عمل ما لم يعمله احد من اليمنيين، فوحّد شتات (المعارضة) في الداخل والخارج وارشد المطالبين بالإصلاح والمناشدين بالتغيير والتطوير إلى طرق العمل وجمعهم في رابطة وطنية، وقارب بينهم وبين أرباب الطموحات السياسية والزعامات العلمية والدينية والقبلية والتحفزات الإصلاحية من الناقمين والناقدين والمتبرمين، وصهر مجهوداتهم وأهدافهم واتجاهاتهم وآمالهم وأمانيهم في بوتقة (الميثاق الوطني) وإنني اعتبر الورتلاني هو الذي استطاع أن يقنع الرئيس جمال جميل بأن يؤلف جبهة من ضباط الجيش لتأييد الدستور، وأنه هو الذي أعاد الثقة إلى قلوب الموشكي والشامي، وجعلهما يتعاونان من جديد مع الزبيري ونعمان في إطار الميثاق الوطني، وهو الذي استطاع إقناع الأمراء والعلماء والمشايخ والتجار والضباط والأدباء بمبايعة عبد الله الوزير إماما ثورياً دستورياً. ولولا الورتلاني ما توحّد الأحرار في اليمن فالورتلاني هو مهندس ثورة 1367هـ - 1948م حقاً) انتهى.
ويمضي الأستاذ أحمد محمد الشامي في كتابه المذكور فيقول :
(إن واضع الخطوط العريضة الأولى لميثاق الثورة الدستورية اليمنية هو العلامة الجزائري السيد الفضيل الورتلاني والأستاذ الإمام المرشد العام للإخوان المسلمين حسن البنا، وكان هذان العبقريان المصلحان يهتمان بالمسلمين وشؤونهم في العلام بدافع قرآني خالص، لا يشوبه شعور وطني معين ولا تعصب إقليمي أو طائفي أو مذهبي محدود.
لقد كان لدى الأستاذ الورتلاني من المعرفة بكتاب الله وسنة رسوله والفقه وأصوله، والفهم والعبقرية والفصاحة والتقوى ما يخوله أن يفهم ويعرف ما فهمه وعرفه الإمام زيد بن علي الذي لم يكن (زيدياً) بل كان حنيفاً مسلماً، كما كان الورتلاني والبنا من بعده.
ولا بد أن يدرك أن مجيء السيد الورتلاني كان له الأثر الفعال، حيث إنه هو الذي وحّد بين أحرار اليمن في الداخل والخارج ووحّد بين وجهات النظر المختلفة للفئات اليمنية) انتهى.
وقد وصفه الشاعر اليمني القاضي محمد محمود الزبيري بقوله :
(لا أظن أنه يوجد للفضيل الورتلاني نظير في العالم الإسلامي علماً وكمالاً وإخلاصا وهيبة وجلالاً) انتهى.
دور العلماء في الجزائر :
إن الجزائر المسلمة هي ارض البطولات وبلد التضحيات التي أرخصت الدماء الغالية في سبيل عقيدة الإسلام، والذبّ عن حياض الوطن الإسلامي، وقاومت المستعمرين سنين طويلة، وانتفضت كالمارد بعد طول رقاد، وقدمت الشهداء بمئات الألوف لتفخر أن يكون في طليعة رجالها ومقدمة أبطالها ابنها البار الفضيل الورتلاني، الذي كان كالشامة في جبين الأمة الجزائرية المسلمة، لما يتمتع به من صفات لا تتوافر إلا في القلة القليلة من أصحاب العزائم، لأن الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة.
إن جمعية العلماء المسلمين الجزائرين كان لها الفضل – بعد الله – في تخريج هذه القمم السامقة وهؤلاء الأئمة الأعلام والرجال العظام، ولن ينسى المنصفون من الناس هذا الدور العظيم لهذه الجمعية المباركة، سواء في داخللالجزائر أو خارجها، فقد كان لمكتبها في القاهرة وفيه أمثال الإبراهيمي، والورتلاني دور فاعل مؤثر في تهيئة الرأي العام العربي والإسلامي للوقوف إلى جانب الجزائر في محنتها، كما كان لهذه الجمعية الأثر الكبير في جمع كلمة الدعاة والقادة المسلمين في العالم العربي والإسلامي لمواجهة التحدي الاستعماري الذي يستهدف الإسلام كدين والمسلمين كأمة، والأرض الإسلامية كوطن.
ولقد استطاع الشيخ البشير الإبراهيمي بمؤازرة أخيه الفضيل الورتلاني أن يكسبا تأييد الشعوب العربية والإسلامية، بل بعض الحكام المسلمين بحيث صارت قضية الجزائر المحور الأساسي للخطب والمحاضرات والندوات والمؤتمرات.
وأقبل الناس يجودون بأموالهم بسخاء منقطع النظير، لرفد حركة الجهاد الإسلامي في الجزائر، وقامت المظاهرات الكبرى في أنحاء العالم العربي والإسلامي، كلها تؤيد وتؤازر شعب الجزائر المسلم في تصديه للطغيان الفرنسي، وأصبحت لا ترى مسجداً أو نادياً أو معهداً أو مقهى أو مجتمعاً، إلا وكان الحديث فيه عن الجزائر وجهادها وضرورة الوقوف إلى جانب شعبها المسلم المجاهد. ولقد فاضت انهار الصحف والمجلات بالقصائد والمقالات التي تهيب بالمسلمين جميعاً لدعم إخوانهم مسلمي الجزائر.
إن هذا الدور الرائد الذي قام به الإبراهيمي والورتلاني وإخوانهما ليسجل في صفحات التاريخ المشرقة، كما نرجو من الله تعالى أن يجعل ذلك في موازين حسناتهما يوم القيامة.
تعرضه للمخاطر:
لقد تعرض الورتلاني أثناء جهاده إلى مخاطر عديدة، وكان دمه مهدراً من قبل فرنسا ووقع أكثر من مرة بالأسر ولكن عناية الله حفظته ورعته، وكان للإمام الشهيد حسن البنا دور في الإفراج عنه وعن رفيقه أمين إسماعيل بعد أحداث اليمن عام 1948م.
وبعد فشل ثورة الدستور باليمن حُكم على الفضيل الورتلاني بالإعدام وأصبح مطلوباً حيث قضى خمس سنوات متستراً قضاها في التجوال في الدول الأوروبية والتقى بالشيخ البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين ونائبه الشيخ محمد العربي التبسي في سويسرا.
وقد وافق رئيس وزراء لبنان رياض الصلح على استقرار الفضيل الورتلاني في بيروت شرط أن يكون ذلك سراً.
عودته إلى مصر :
وبعد قيام الضباط الأحرار وعلى رأسهم للواء محمد نجيب بالإطاحة بالملك فاروق عاد الفضيل الورتلاني إلى مصر حيث رحب به العلماء والسياسيون وخصّصت له مجلة (الدعوة) لسان حال الإخوان المسلمين بمصر حواراً شاملاً نشرته في عددها السابع والثمانين كما حياه الأديب الإسلامي الكبير الشاعر علي أحمد باكثير بقصيدة جاء فيها :
- أمسيت لا أهل ولا وطن
لم تقترف جرماً تدان به
- إن الفساد إذا اعترى بلداً
بلقاك فانعم أيها البطل
- وغدوت لا سفر ولا نزل
كلا ولكن هكذا البطل
- فالمجرمون به م الرسل
مغادرته إلى لبنان :
وبعد استئثار عبدالناصر بالسلطة وخلع محمد نجيب واعتقالاته للإخوان المسلمين وإعدام ستة من قاداتهم هاجم الورتلاني عبدالناصر على محاربته للإخوان وذلك في موسم الحج فكان جزاؤه السجن الحربي مع زميله الشاذلي المكي بعد عودتهما من الحج إلى القاهرة مما حدا بالفضيل الورتلاني أن غادر القاهرة سنة 1955م متوجهاً ثانية إلى بيروت بعد أن تأكد من تآمر المخابرات المصرية عليه وعلى أستاذه الشيخ البشير الإبراهيمي.
استمرار جهاده:
وحين انطلقت الثورة الجزائرية في 1/11/1954م نشر الورتلاني مقالاً بتاريخ 3/11/1954م بعنوان (إلى الثائرين من أبناء الجزائر : اليوم حياة أو موت) وبتاريخ 15/11/1954م اصدر مع الشيخ البشير الإبراهيمي بياناً بعنوان : (نعيذكم بالله أن تتراجعوا) وبتاريخ 17/2/1955م شارك في تأسيس (جبهة تحرير الجزائر) التي تضم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وممثلي (جبهة التحرير الوطني) : أحمد بن بيلا وحسين آية أحمد، ومحمد خيضر، وبعض ممثلي الأحزاب الجزائرية : الشاذلي مكي وحسين لحول، وعبد الرحمن كيوان، وأحمد بيوض وغيرهم.
وفاته :
واستمر الورتلاني في جهاده إلى أن لقي ربه في 12/3/1959م في مستشفى في أنقرة وكانت وصيته أن يدفن في ارض الجزائر، إلا أن الطغمة العلمانية التي قفزت إلى السلطة بعد التحرير رفضت ذلك وبقي في الباخرة دون أن تجرؤ دورة عربية على أن يدفن جثمانه في مقابرها، فقبلت تركيا ودفن فيها، وقبل سنوات نقلت رفاته إلى حيث دفن في مسقط رأسه الجزائر.
رحم الله الأستاذ الفضيل الورتلاني رحمة واسعة وأعاد للجزائر وجهها الإسلامي المشرق بجهود أبنائها البررة من رجال الحركة الإسلامية المعاصرة والحمد لله رب العالمين.
أيها المسلمون :
لقد قامت الشريعة، وتكونت الأمة، وقامت الدولة من قبل على غير مثال سبق، أو أصل متّبع، ومع هذا فقد بلغ المجتمع الإنساني فيها جميعاً أفضل حالات الكمال، حتى استحق أن يوصف بأنه "خير امة أخرجت للناس" ولا يعوزكم اليوم إلا الإرادة والعزم، والجد والحزم، والمثال معلوم، والأصل قائم، فهل تقدمون؟ ... حسن البنا .
الشيخ العلاّمة محمد تقي الدين الهلالي (أبو شكيب)
مولده ونشأته:
هو العالم المغربي والعلاّمة اللغوي الشيخ الدكتور محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي، وكنيته (أبو شكيب)، فقد سمى أول ولد له على اسم صديقه الأمير شكيب أرسلان، تيمّنًا به، ولعلّه يكون مثله.
وُلد الهلالي في قرية (الفرخ) من بادية سجلماسة في المغرب عام 1311ه، التي هاجر إليها أجداده من (القيروان) في تونس في القرن التاسع الهجري، وكانت الأسرة أسرة علم، إذ كان والده وجده من العلماء الفقهاء المعروفين.
وقد قرأ على والده، وحفظ القرآن الكريم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ثم سافر إلى الجزائر لطلب الرزق عام 1333ه/ 1914م، فقصد الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي وبقي يتعلم في مدرسته سبع سنين، إلى أن توفي شيخه الشنقيطي عام 1338ه، وكان من أفضل العلماء في الزهد والتقوى ومكارم الأخلاق.
وفي عام 1340ه/ 1921م عاد الهلالي إلى المغرب وتلقَّى بعض الدروس على العلماء في مدينة (فاس)، وكان من شيوخه الذين تلقى العلم على أيديهم الشيخ الفاطمي الشراوي، والشيخ محمد العربي العلوي، والشيخ أحمد سوكيرج، كما حصل على شهادة من جامع القرويين.
وبعد ذلك سافر الهلالي إلى القاهرة، والتقى الإمام السلفي المصلح المجدد السيد محمد رشيد رضا وبعض العلماء السلفيين، أمثال: الشيخ محمد الرمالي، والشيخ عبد العزيز الخولي، والشيخ عبد الظاهر أبو السمح، والشيخ محمد عبد الرزّاق، والشيخ محمد أبو زيد، وغيرهم من العلماء بمصر، كما حضر دروس القسم العالي بالأزهر.
ومن مصر توجه إلى الحج، ثم إلى الهند، وفيها اجتمع بعلماء أهل الحديث وأخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، وهو أفضل علماء الهند في ذلك الزمان صاحب كتاب (تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي)، وأقام الهلالي في الهند ثلاث سنوات.
ومن الهند توجه إلى «الزبير» في العراق 1342ه/ 1923م، والتقى العالم الموريتاني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - مؤسس مدرسة النجاة الأهلية بالزبير، وتزوج ابنته وأقام ثلاث سنوات، ومن الزبير سافر إلى مصر، ثم إلى المملكة العربية السعودية، وقد أعطاه السيد محمد رشيد رضا توصية وتعريفًا إلى الملك عبد العزيز آل سعود قال فيها: «إن محمد تقي الدين الهلالي المغربي أفضل من جاءكم من علماء الآفاق، فأرجو أن تستفيدوا من علمه».
في ضيافة الملك عبد العزيز:
أقام الهلالي في ضيافة الملك عبد العزيز آل سعود بضعة أشهر، ثم عُين مراقبًا للتدريس في المسجد النبوي، وبعد سنتين نُقل إلى المسجد الحرام والمعهد السعودي بمكة المكرمة لمدة سنة، ثم جاءته رسائل من إندونيسيا ومن الهند، وكلها تطلبه للتدريس في مدارسها، فاستجاب لدعوة السيد سليمان الندوي بالهند عام 1930م، وصار رئيس أساتذة الأدب العربي في كلية ندوة العلماء في مدينة لكنو بالهند، حيث بقي ثلاث سنوات تعلم فيها الإنجليزية، وأصدر باقتراح من الشيخ سليمان الندوي وبمساعدة الطلاب: مسعود عالم الندوي، وأبي الحسن الندوي، ومحمد ناظم الندوي، وهم تلامذته، مجلة (الضياء) عام 1932م، ثم عاد إلى الزبير وعمل مدرسًا بمدرسة النجاة الأهلية التي أسسها الشيخ الشنقيطي والد زوجته.
وبعد ثلاث سنوات سافر إلى مدينة جنيف في سويسرا، ونزل عند الأمير شكيب أرسلان الذي كتب له توصية إلى أحد أصدقائه في وزارة الخارجية الألمانية في برلين قال فيها:
«عندي شاب مغربي أديب ما دخل ألمانيا مثله، وهو يريد أن يدرس في إحدى الجامعات، فعسى أن تجدوا له مكانًا لتدريس الأدب العربي براتب يستعين به على الدراسة». والهلالي غني عن التعريف، فقد احتل مكانة عظيمة لدى العلماء في الهند وغيرها، وقال عنه أبو الحسن الندوي في كتابه (في مسيرة الحياة): «إن قدوم الهلالي إلى الهند من أهم الأحداث التي صنعت تاريخًا مجيدًا، فهو من أساتذة اللغة العربية الذين يُحتج برأيهم، وقد كان الحكم بين رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان في قضايا اللغة العربية وتعبيراتها، كما جاء في كتاب شكيب أرسلان (السيد رشيد رضا وإخاء أربعين عامًا)» انتهى. وسرعان ما جاء الجواب بالقبول من وزارة الخارجية الألمانية، وسافر الهلالي إلى ألمانيا وعُيّن محاضرًا في جامعة (بون) وشرع يتعلّم اللغة الألمانية، وحصل على دبلومها بعد عام، ثم صار طالبًا بالجامعة مع كونه محاضرًا فيها، وفي تلك الفترة ترجم الكثير من الألمانية وإليها، وبعد ثلاث سنوات في بون انتقل إلى جامعة برلين طالبًا ومحاضرًا ومشرفًا على الإذاعة العربية 1939م، وفي 1940م قدَّم رسالة الدكتوراه، التي فنَّد فيها مزاعم المستشرقين أمثال: مارتن هارثمن، وكارل بروكلمان، وكان موضوع رسالة الدكتوراه (ترجمة مقدمة كتاب الجماهر من الجواهر مع تعليقات عليها)، وكان مجلس الامتحان والمناقشة من عشرة من العلماء، وقد وافقوا بالإجماع على منحه شهادة الدكتوراه.
مراسل صحفي:
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية سافر إلى المغرب بتكليف من سماحة الحاج محمد أمين الحسيني في مهمة سياسية، وقد زوّده السفير المغربي عبد الخالق الطريسي بجواز سفر على أنه من أهالي (تطوان) التي تقع تحت الحماية الإسبانية، حيث أقام خمس سنوات.
ويروي الأستاذ محمد المجذوب في كتابه القيم (علماء ومفكرون عرفتهم) على لسان الدكتور الهلالي أنه تلقى في فترة إقامته بتطوان خطابًا من الإمام الشهيد حسن البنا - المرشد العام للإخوان المسلمين - يقول فيه:
«لنا مكاتبون ومراسلون من جميع أنحاء العالم الإسلامي إلا المغرب، فأرجو منك أن تبحث لنا عن مراسل، وتخبرنا بقدر المكافأة التي يتطلبها عن كل مقال يرسله إلى صحيفة الإخوان المسلمين، وإن قدرتَ أنتَ أن تقوم بهذا الأمر فهو أحبُّ إلينا...».
يقول د. الهلالي: «فقبلتُ الطلب، وبدأتُ أراسل صحيفة الإخوان المسلمين سرًا بواسطة البريد الإنجليزي في تطوان، ولكن الإسبانيين كانوا قد اتفقوا مع أحد الموظفين المغاربة في البريد الإنجليزي أنه متى رأى رسالة أو مقالاً لا يذكرهم بخير، ينسخ لهم نسخة منه، ويعطونه مكافأة عظيمة على كل رسالة أو مقال، فأطلعهم هذا الموظف على جميع المقالات التي أرسلتها إلى صحيفة الإخوان المسلمين، فقبضوا عليَّ وزجوني في السجن، ولم يوجهوا إليَّ أي اتهام، وبقيت ثلاثة أيام، فاحتج أهل المدينة وأذاعت محطة لندن باللهجة المغربية هذه الحادثة والاحتجاج، فأطلقوا سراحي» انتهى.
وفي 1947م سافر الشيخ الهلالي إلى العراق، وقام بالتدريس بالجامعة في كلية الملكة عالية ببغداد أستاذًا مساعدًا ثم أستاذًا، وبقي إلى 1958م حين قام الانقلاب العسكري في العراق، فغادرها عام 1959م إلى المغرب وعمل أستاذًا في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس، وفي 1968م تلقى دعوة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - للعمل أستاذًا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة منتدبًا من المغرب، وبقي يعمل إلى عام 1394ه/ 1974م، فقد ترك الجامعة وتفرغ للدعوة بالمغرب.
بداية معرفتي به:
كانت بداية معرفتي بأستاذنا الجليل محمد تقي الدين الهلالي من خلال ما كنت أسمعه عنه من العم محمد السليمان العقيل الذي كان من أعز أصدقائه، ثم قرأتُ له في مجلة (الإخوان المسلمون) عام 1946م قصيدة عصماء يندد فيها بالاستعمار الفرنسي، ولا يحضرني منها الآن سوى مطلعها:
- فأوصي أحبائي يعادونها بعدي
فازداد حبي له، وتشوَّقتُ للاتصال به، فراسلته في (تطوان) على عنوان مجلة (لسان الدين) التي كان يصدرها بالتعاون مع الشيخ عبد الله كنون - كبير علماء المغرب، وكانت أعدادها تصل إلى مكتب العم محمد العقيل، وقد سُمِّيت المجلة بهذا الاسم تيمنًا باسم لسان الدين بن الخطيب الأندلسي، ومن ذلك الوقت توثقت صلتي بالشيخ الهلالي، فلما قَدِمَ إلى العراق واستقر بها سنة 1947م وصار يلقي دروسه في الحديث الشريف والتفسير، في جامع ملاّ خطاب في الأعظمية، بتكليف من الشيخ الصواف، ما بين المغرب والعشاء من يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وكان شباب الإخوان يحضرون دروسه، وذاع صيته في العراق، ووصل إلينا في (الزبير) - بادرت للتعرف إليه، وزرته في بيته ببغداد أكثر من مرة، واستفدت من علمه، وقد حدثني عن صلته بالإخوان المسلمين، وأثنى عليهم خيرًا، كما حدثني عن الإمام الشهيد حسن البنا وأبدى إعجابه به وبطريقته في الدعوة وعلّق عليه الآمال الكبار، وفي سنة 1949م جاءتني رسالة منه في بغداد يوصيني بالشيخ مسعود عالم الندوي ورفيقه محمد عاصم الحداد اللذين سوف يزوران العراق بتكليف من السيد أبي الأعلى المودودي - أمير الجماعة الإسلامية بباكستان، وقد سعدنا بهما في البصرة والزبير، وقد بذلت مع إخواني: عبدالله الرابح، وعبد العزيز الربيعة، وعمر الدايل، وعبد الهادي الباحسين، وعبد الصمد الرديني، وعبد الواحد أمان ما نستطيع من جهد لمساعدتهما في مهمتهما، ومن خلالهما اطلعنا على مؤلفات المودودي وعرفنا الكثير عن الجماعة الإسلامية في الهند وباكستان.
يحدّثنا العم محمد السليمان العقيل عن صديقه الهلالي فيقول:
«كانت صلتي بالهلالي قديمة منذ قَدِمَ إلى الزبير، وكانت لنا معه لقاءات يشارك في بعضها الشيخ ناصر الأحمد والشيخ عذبي الصباح والشيخ جاسم العقرب، والهلالي عالم فاضل متمكّن من علمه وأديب شاعر فحل». ويروي لنا الهلالي عن صديقه محمد العقيل فيقول:
«كان أبو قاسم مبتدئًا بالعمل التجاري، فوعدني أنه إذا فتح الله عليه واتسعت تجارته فلن يتخلى عني، وكان ذلك أوائل الثلاثينيات الميلادية، ولما عدت إلى العراق سنة 1947م بعد غربة طويلة، ذكَّرته بوعده، وطلبت منه المساعدة لشراء بيت لسكناي ببغداد وكان ذلك من خلال قصيدة نظمتها وأرسلتها له، فكانت استجابته سريعة ووفى بوعده جزاه الله خيرًا».
وأنا لا يحضرني من قصيدة الهلالي سوى مطلعها:
- وعدت به قدمًا وأنت كريمُ
أعيذك بالرحمن من شرّ ماردٍ
- يزين لك الإخلافَ وهو ذميمُ
ويحدثنا بعض الطلبة الذين درسوا على يده في مدرسة النجاة الأهلية في الزبير أنه رجل عالم، ومدرس فاهم، ومربٍ حازم، غزير الإنتاج، وافر العطاء، شديد الملاحظة للأخطاء اللغوية، فلا يتساهل فيها، كما يروون شدته وحزمه مع الطلاب ومحاسبته لهم، إذا ما قصّروا في أداء الواجبات، حتى إن بعض الطلاب الكسالى كانوا يتربصون به في الطريق ويقذفون عليه الحجارة ثم يهربون ولا يعرفهم أحد، فضاق بهم ذرعًا وكتب مقالاً يهاجمهم وأولياء أمورهم في جريدة (السجل) لصاحبها طه الفياض ومجلة (الفتح) لصاحبها محب الدين الخطيب، وعنوان المقال (أعيلان أم غيلان؟)، وقد أحدث هذا المقال ضجة حملت أولياء الأمور على مراقبة أبنائهم وتأديبهم وإلزامهم الانتظام في الدراسة واحترام المدرسين، وخاصة بعد أن وصف الهلالي الأبناء ب(الغيلان)، وهم أبناء الشياطين؟!
أفكاره:
إن الشيخ الهلالي كان صوفيًا حين كان في المغرب أول نشأته، ثم التزم المنهج السلفي وصار من دعاته النشيطين، ولكنه كان متفتحًا غير متزمت ومجتهدًا غير مقلد، وقد أكسبته الأسفار الكثيرة إلى البلاد العربية والهند وسويسرا وألمانيا، ولقاؤه العلماء في العالم العربي والإسلامي، صفات العالم العامل والداعية الواعي، والمصلح الحكيم والمجاهد الصادق، وكان منهجه في التعليم والتربية الحرص على غرس التوحيد، والالتزام بالأركان والعمل بالأصول، والبعد عن مواطن الخلاف في الفروع، والاستفادة مما لدى الغرب من تقدم علمي، فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها.
وفي فترة وجوده بالمدينة المنورة أستاذًا بالجامعة الإسلامية كنت أزوره حين حضوري لاجتماعات المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة وكنت عضوًا فيه، وكنا نغترف من فيض علمه ومعارفه ونتدارس معه أوضاع المسلمين في كل مكان، وسبل النهوض بهم، ومهمة الدعاة إلى الله وضرورة صبرهم وثباتهم على ما يلقونه من ظلم الطغاة، لأن المهمة شاقة والطريق طويل، وقد حُفَّت الجنة بالمكاره وحُفَّتِ النار بالشهوات. كما أنه شرّفني في بيتي بالكويت حين زارها أواخر السبعينيات الميلادية من القرن العشرين، وتناولت أحاديثه ذكرياته في الزبير والهند وألمانيا والمغرب.
وشاعر أيضًا:
والدكتور الهلالي له قصائد كثيرة في مناسبات عدة ولكنها تحتاج إلى جمع وتوثيق للزمان والمكان والمناسبة التي قيلت فيها ونرجو أن يضطلع بذلك ابنه الأخ شكيب الهلالي وتلامذته وأحبابه في المغرب، أمثال الأخ الدكتور عبد السلام الهراس وإخوانه.
ـ وله قصيدة في تحية الزعيم المغربي عبد الخالق الطريسي سنة 1356هـ نقتطف منها هذه الأبيات:
- فصيَّر حندس الظلما صباحا
وأحيا ميّت الآمال لمَّا
- أهاب بنا إلى العليا وصاحا
سلاح الحق لا يخشى فلولاً
- ويلقى من يصول به النجاحا
تحارب باغيًا وتميتُ جهلاً
- ونور العلم تجعله السلاحا
فيصبح قومك الأموات أحيا
- وتنشرح الصدور لك انشراحا
وتنهض بالبلاد إلى المعالي
- وتفتتح الطريق لها افتتاحا
تبدّل ضيمها عزًا وفخرًا
- وتملؤها ابتهاجًا وارتياحا
وقال في قصيدة يُحيي الزعيم العراقي رشيد عالي الكيلاني أذيعت في محطة برلين سنة 1941م :
يا مقبلاً من غزوة متأهبًا
- للقاء أخرى ليس بالمتواني
تهديك وثبتك العظيمة إنها
- فجر الجهاد وأول الفرقانِ
لك في قلوب العرب حب صادقٌ
- ومكانة جلَّت عن التبيانِ
وبكل أرض رفعة وجلالةٌ
- في الناء من أرجائها والداني
الفضل فيك سجية موروثةٌ
- عن جدك المختار من عدنانِ
ومن قصيدة نظمها في انتقاد أخلاق بعض الموظفين الكسالى وترفعهم عن الناس وتأخير معاملاتهم نقتطف منها:
بلدة أصبح الموظف فيها
- جالسًا في السماء فوق السحابِ
حالة تضحك العدو وتبكي
- بدماءٍ معاشر الأحبابِ
أبهذي الأخلاق يرجع مجدٌ
- ضاع منكم في غابر الأحقابِ؟
فإلى الله نشتكي من زمانٍ
- فاسدٍ جاءنا بكل عجابِ
وحين سأل الأستاذ المجذوب الشيخ الهلالي عن أحب العلوم إليه أجاب: «أحبها إليَّ علوم الحديث وعلوم القرآن لأني أحب اتباع الكتاب والسُّنَّة وأكره مخالفتهما، ثم علم النحو وسائر علوم الأدب، ثم علم اللغات».
مؤلفاته:
وللشيخ الهلالي مؤلفات كثيرة ما بين صغير وكبير، ومن أهمها: الزند الواري والبدر الساري في شرح صحيح البخاري (المجلد الأول فقط)، الإلهام والإنعام في سورة الأنعام، الإسفار عن الحق في مسألة السفور والحجاب، القاضي العدل في حكم البناء على القبور، الأنوار المتبعة في تحقيق سُنَّة الجمعة، قبسة من أنوار الوحي، الصبح السافر في حكم صلاة المسافر، العلم المأثور والعلم المشهور واللواء المنشور في بدع القبور، آل البيت ما لهم وما عليهم، أحكام الخُلع في الإسلام، حاشية على كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، مختصر هدي الخليل في العقائد وعبادة الجليل، حاشية على كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب، أهل الحديث، الحسام الماحق لكل مشرك ومنافق، دليل الحاج إلى مناسك الحج، العقود الدرية في منع تحديد الذرية، دواء الشاكين وقامع المشككين في الرد على الملحدين، البراهين الإنجيلية على أن عيسى داخل في العبودية وبريء من الألوهية، فكاك الأسير العاني المكبول بالكبل التيجاني، سب القاديانيين للإسلام والرد عليهم، الرجعية والتقدم، تقويم اللسانين، رحلة من الزبير إلى جنيف، رحلة إلى درعة بالمغرب، من يرافقني إلى برلين؟، الهاديات، حواشي شتى على إنجيل متّى، الصديقات الثلاث (قصة)، تاريخ اللغة السامية، رحلة إلى ألمانيا، الطبقات عند العرب، تمثيليات طيف الخيال لمحمد بن دانيال، الجماهر في الجواهر (رسالة الدكتوراه)، مدنية العرب في الأندلس (مترجم عن الإنجليزية)، كتاب البلدان لمحمد بن الفقيه البغدادي (مترجم إلى الألمانية بالاشتراك)، لسان الدين (المجلد الأول) المجلة التي كان يصدرها بتطوان، فضل الكبير المتعالي (ديوان شعر محمد تقي الدين الهلالي)، وغيرها من الكتب والبحوث والمقالات، فقد كان الهلالي من المواظبين على الكتابة في مجلة (الفتح) لمحب الدين الخطيب، ومجلة (المنار) لمحمد رشيد رضا، ومجلة (الإخوان المسلمون)، ومجلة (الضياء) وغيرها.
كما أن له محاضرات ودروسًا وندوات وأحاديث لا يمكن الإحاطة بها في هذه العجالة، لأنها في موضوعات عدة، وبلدان متفرقة، وأزمان مختلفة.
حدثني الأخوان عمر الدايل وعبد العزيز الناصر عن الشيخ الهلالي - حين زاراه في بيته بالمدينة المنورة - عن موقف من مواقفه، قال الشيخ الهلالي: كنت إمام المسجد الذي بناه الحاج مصطفى الإبراهيم في منطقة الدورة بالبصرة، وفي مرة تأخر الحاج مصطفى عن موعد الصلاة، فأقيمت وصليت بالناس دون انتظاره، وبعد الصلاة عاتبني كيف تقام الصلاة قبل حضوره، فأجبته: إن وقت المغرب قصير، ولا يصح التأخير، فقال الحاج مصطفى الإبراهيم: ألا تعلم يا شيخ تقي الدين أنني أملك نصف منطقة الدورة؟ فأجبته: وأنا أملك النصف الآخر، وأنا إمام المسجد!! وتأزّم الموقف وغادرت المنطقة ولم أعد.
ومن الجدير بالذكر أن مصطفى الإبراهيم كان في الهند وزار إحدى المكتبات وكان يقلب ديوان المتنبي فاستشكل عليه، فسأل صاحب المكتبة عن المعنى فأشار عليه بسؤال الهلالي الذي كان بالمكتبة، وقال: لا ينبئك مثل خبير (يعني الهلالي)، ومن هنا جاء التعارف بين مصطفى الإبراهيم والهلالي، ودعاه للإمامة والتدريس بالبصرة بمنطقة الدورة، فوافق الهلالي وسافر.
يقول الإمام الشهيد حسن البنا في رسالة (بين الأمس واليوم): «أحب أن أصارحكم، إن دعوتكم ما زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها، ستلقى منهم خصومة شديدة، وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده، تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام، وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم.
وسيتذرع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم ومعتدين بأموالهم ونفوذهم». انتهى.
إن أستاذنا الشيخ الهلالي علم من أعلام الإسلام، ومجاهد من المجاهدين العظام، كانت له آثار في كل مكان زاره أو استقر فيه، وله من الطلاب والمحبين آلاف مؤلفة في أنحاء العالم الإسلامي، ولقد تزوج حين كان في ألمانيا بمسلمة ألمانية وله منها ولد، كما تزوج في المغرب من مغربية وله منها أولاد، كما تزوج بالمدينة المنورة وله منها بنت، بالإضافة لزوجته الأولى عائشة أم شكيب بنت العلاّمة الشيخ الشنقيطي، التي لها منه ولد هو شكيب وبنت هي خولة، وقد تزوجها في الزبير.
وقد وافته المنيّة في منزله بالدار البيضاء بالمغرب يوم الاثنين 25 من شوال 1407ه، الموافق 22 من يونيو 1987م، وشيع جنازته جمهور كبير من العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين.
نسأل الله أن يتغمده برحمته ورضوانه، وأن يدخلنا وإياه في جنته مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
الفقيه العلامة محمد الفاضل بن عاشور
مولده ونشأته:
هو الشيخ محمد الفاضل بن محمد الطاهر بن الصادق عاشور، ولد في المرسى، إحدى ضواحي مدينة تونس يوم 2 شوال سنة (1327هـ 16/10/1909م) وتربى في بيت كريم من بيوتات الدين والعلم، وكان والده من كبار العلماء في تونس، فتتلمذ عليه وتعهده بالرعاية والتعليم وتحفيظه القرآن الكريم وهو في الثالثة من عمره، وما كاد يبلغ التاسعة، حتى أتمَّ حفظ بعض المتون القديمة كالأجرومية وألفية ابن مالك في النحو، ثم بدأ بتعلم الفرنسية على أيدي معلمين خصوصيين في المنزل، ولما بلغ الثالثة عشرة، بدأ يدرس القراءات والتوحيد والفقه والنحو، ثم التحق بجامع الزيتونة فحصل على الشهادة الثانوية سنة (1347هـ 1928 م).
ثم استكمل دراسته العليا في الشريعة واللغة وأصول الدين، ودرس على يد والده التفسير، وقرأ عليه الموطأ للإمام مالك، والمطوَّل للتفتازاني في البلاغة، وديوان الحماسة، كما درس علم الكلام على يد الشيخ أبي الحسن النجار، وأصول الفقه على الشيخ محمد بن القاضي، كما كان يقرأ على والده كل ليلة من ليالي رمضان بعد صلاة التراويح قدراً من كتب الحديث والرجال واللغة مثل: صحيحي البخاري ومسلم، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير، ولسان العرب لابن منظور.
وبعـد تخرجـه عمـل مـدرساً في جـامع الزيتونة سنة (1351هـ 1932 م)، ثم انتسب إلى كلية الآداب في جامعة الجزائر لاستكمال دراسته في اللغة الفرنسية، وتخرج فيها سنة (1354هـ 1935 م) حاملاً أعلى درجاتها العلمية.
وقد أصبح عميداً لكلية الشريعة وأصول الدين في جامعة الزيتونة بتونس سنة (1381هـ 1961 م) وهذه الجامعة هي التي تخرج فيها جهابذة العلماء أمثال: عبدالحميد بن باديس، وعبدالعزيز الثعالبي، ومحمد بيرم، وسالم أبوحطاب، والطاهر بن عاشور وغيرهم.
وكان الفاضل بن عاشور خطيباً مفوَّهاً، وأديباً بليغاً، وفقيهاً متمكناً في علوم الدين، ويعتبر من طلائع النهضة الإسلامية الحديثة بتونس، شارك في التصدي للاستعمار الفرنسي مع إخوانه التونسيين وغيرهم.
نشاطه العلمي والدعوي:
- سافر في مهمات علمية ودعوية إلى خارج تونس ، وألقى محاضرات عدة في فرنسا بالسوربون، وفي تركيا بجامعة إستانبول، وفي الهند بجامعة عليكرة، وفي الكويت بجمعية الإصلاح الاجتماعي، وجامعة الكويت، وفي الموسم الثقافي لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويتية.
- كما شغل منصب القضاء، ثم منصب مفتي الجمهورية التونسية، وقاضي القضاة، ورئيساً للمحكمة الشرعية العليا، ثم رئيساً لمحكمة النقض والإبرام، وظل يتولى عمادة كلية الشريعة بالزيتونة حتى وفاته.
- كما شارك في ندوات علمية كثيرة في أنحاء العالم، وفي بعض مؤتمرات المستشرقين بباريس،
- وهو عضو في المجمع اللغوي بالقاهرة، كما هو عضو برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة،
- وعضو مراسل بالمجمع العلمي العربي بدمشق، ومجمع البحوث الإسلامية بمصر، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
- وكان لوالده الشيخ الطاهر بن عاشور مكتبة عامرة بنفائس التراث الإسلامي والعربي، واستفاد منها الفاضل كثيراً، وأضاف إليها ما استجدَّ من المؤلفات الإسلامية المعاصرة.
- كما كان له نشاط في التأليف وكتابة المقالات والبحوث والدراسات.
ومن أهم مؤلفاته :
- فلسطين الوطن القومي للعرب.
- الاجتهاد.. ماضيه وحاضره.
- المصطلح الفقهي في المذهب المالكي.
- تراجم الأعلام.
- أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي.
- الحركة الأدبية والفكرية في تونس.
- أركان الحياة العلمية في تونس.
- التفسير ورجاله.
- روح الحضارة الإسلامية
- المحاضرات المغاربية.
- ومضات فكر... (عدة أجزاء) وغيرها.
من أقواله :
«... إذا تقوَّمت شخصية الفرد المسلم على المنهج التربوي الذي أخذت به على سبيل الدعوة الدينية، فتحركت في النفس غريزة التطلع إلى المعرفة، ثم ثارت فيه داعية الفكر، فجعلت الموجودات على اختلاف أصنافها مجالاً للحركة الفكرية، وأصبحت الكائنات بأسرها آلات للعمل الفكري، وأدوات يحقق بها قصده من الوصول إلى المعرفة، لكونها المحصلة للعلم الجامع لأصناف المعلوم كله، المتناول للوجود من حيث هو، بقطع النظر عن مظاهره المتباينة، وعناصره المختلفة، وبذلك يتحقق معنى الانسجام والأمن، اللذين امتازت بهما الحضارة الإسلامية، فلا يبقى في نفس المسلم على ذلك مجال للصراع بين عناصر مدركاتها.. تأنس بالعقل، فلا تتجافى عن الدين.. وتطمئن إلى الدين، فلا تنفر من المدنية، وتؤخذ بالعادة، فلا تضيع المقياس الخلقي.. وتراض على السلوك، فلا تتعطل فيها ملكة النقد الذاتي، فيكون العقل سند الحقيقة الدينية وبرهانها، كما كان الإيمان أصل توجهها إلى مناهج السلوك، فجاءت الوحدة الاجتماعية منسجمة فيما بين عناصرها مع المعاني المكوِّنة لمنهج النظر الإسلامي الذي تقاربت فيه المدركات العالمية.
هذه الحقائق الدقيقة السامية هي سر أن الإسلام عقيدة وعمل، أو أنه عبادة ونظام اجتماعي، أو هو دين العقل أو دين العلم أو دين المدنية.
إن العامل التربوي الإسلامي هو الذي كوَّن الفرد قبل أن يكوِّن المجتمع، ومهَّد للثقافة طريقها.
لقد كان العامل التربوي الذي كوَّن الفرد، عقلاً ونفساً، وخلقاً، وسلوكاً، هو العامل الأصلي الذي ولَّد الحضارة، وكوَّن المجتمع الأمثل، ومهَّد للثقافة طريقها، إلى أن تتناول عناصر المعرفة، وتؤلف كيانها، فقامت الحضارة الإسلامية على ذلك المجتمع المتلائم، وبرزت الثقافة بأزهارها اليانعة، من بذور تلك العناصر المتلاقحة.
إن المجتمع الإسلامي مجتمع ديني بالمعنى الأخص، كان الدين فيه العامل الأول المباشر.. ومن دعوة الدين، والإيمان بها، اكتسب الشعب ـ الذي استجاب لتلك الدعوة، وامتاز بذلك الإيمان ـ خِلالاً نفسية جديدة.
لقد فتحت المدارك الدينية أمام نظر المسلم، آفاق الكون، للتأمل والاعتبار والمعرفة والإيمان، فاصطنع العلوم التي هي من التراث الإنساني المشترك، وابتكر العلوم التي هي من التراث الإسلامي الخاص، وجعل من مجموعة تلك العلوم الإنسانية المشتركة، والإسلامية الخاصة، مجالاً لتصريف المدارك الدينية، التي التأمت تلك العلوم على محورها، مع اختلاف عنصريها.
إن موقع العقيدة الدينية من مقومات الكيان الاجتماعي للأمة الإسلامية، باعتبارها مجتمعاً دينياً بالمعنى الأخص، وهو موقع رئيس جوهري، كان فيه الدين العامل الأول المباشر لصنع المجتمع، والحافز لنهضته الفكرية، فبالدين فكّر.. وبالدين تحضَّر.. وبالدين أنتج آثار حضارته.. وبالدين أقام الدولة الصائنة للمجتمع وحضارته» انتهى.
معرفتي به :
سعدت بمعرفته حين دعوناه إلى المشاركة في الموسم الثقافي الذي تقيمه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، وقد صحبته طيلة إقامته، حيث كنت رفيقه في الزيارات للشخصيات والمؤسسات والجمعيات، وقد ألقى العديد من المحاضرات، وأهمها كانت في جمعية الإصلاح الاجتماعي، حيث أثنى على الدعاة المجاهدين ، والعلماء العاملين، الذين يتصدون للطواغيت، ويبذلون الغالي والنفيس في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ، وقول كلمة الحق أمام السلطان الجائر، وخص بالثناء بالاسم الإمام الشهيد حسن البنا مجدد الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري، كما أشاد بأفكار الشهيد سيد قطب وصلابته ورجولته، وكنتُ أقدّمه في تلك المحاضرة، وعقَّبت عليها، وأرجو من جمعية الإصلاح الاجتماعي أن تتولى طباعتها، وإعادة تسجيلها بصوته، ليستفيد منها من لم يحضرها، وليعرف الناس أن الأمة الإسلامية ليست عقيماً، فما زال الخير فيها والحمد لله.
وكنا نقيم ندوة أسبوعية مساء كل جمعة يجتمع فيها الدعاة وطلبة العلم، ويستفيدون من زوَّار الكويت ومحاضريها في المواسم الثقافية.
وفي أحاديثنا معه، مع مجموعة من إخواننا أثنى الثناء العاطر على جماعة الإخوان المسلمين ومؤسسها الإمام الشهيد حسن البنا، وتمنى على الله أن يمتد أثرها إلى كل أنحاء العالم العربي والإسلامي، وقلت له: إنني وإخواني الذين تجمعوا حولك، من ثمار هذه الدعوة المباركة الطيبة، دعوة الحق والقوة والحرية، فسُرّ غاية السرور، وانشرح صدره لذلك، وحمد الله على أن الكويت على صغر حجمها فيها هذا النشاط الإسلامي المبارك، المتمثل في جمعية الإصلاح الاجتماعي وغيرها من التجمعات الشبابية التي يلتقي فيها الشباب المسلم على منهج الإسلام ، ويتربون على برامجه، ويسيرون في ركب الدعاة العاملين، والعلماء المخلصين، ويقفون إلى جانب إخوانهم المسلمين المستضعفين في كل مكان، فتلك ولا شك هي علامة الجماعة الناجحة، وأحسب أن جماعة الإخوان المسلمين في عصرنا هي الجماعة التي تمثل الإسلام بكل شموله، ومن مصدريه: كتاب الله وسنَّة رسوله (صلى الله عليه وسلم).
قالوا عنه :
يقول عنه الدكـتور إبراهيم مدكور: «كان عالماً كبيراً، وإمـاماً من أئمة الأدب واللغة والفقـه والتشريع، ورائداً من روَّاد الإصلاح والتجديد.. كان حجة في تراثنا الإسلامي جميعه، وبخاصـة ما خفـي منه من أخبار المغرب وبلاد الأندلس، وكان محيطاً بثمار الثقافة العربية، وما انتـهت إليه من علم وثقافة».
يا فاضلٌ ما كنت إلا فاضلاً
- وسواك من أهل النهى المفضول
قد كنت عالمَ تونس تشدو به
- مزهوة وعلى الزمان تطول
بل كنت من آي الفخار لشرقنا
- تعلي منارة مجده وتطيل
حتى بكت مسراك من أعماقها
- زَوْراؤه وشآمه والنيل
وهنا يشاد بفاضل وعلومه
- وله يصاغ من الثنا إكليل
وتترجم الخطب الجسيم محافلٌ
- فيها شآبيب الدموع تسيلُ
ويسودها جوٌّ كئيب غائمٌ
- وأسىً يرين على النفوس ثقيلُ
وهناك تروى للفقيد مناقبٌ
- وضَّاءة كالشمس حين تزولُ
إنا عرفناه خليفة «مالك»
- قد زانه المعقولُ والمنقولُ
وسما به أدبٌ رفيعٌ ما له
- فيما رأيت وما سمعت مثيلُ
وإذا تفجَّر بالبيان محاضراً
- شُدَّت إليه مسامعٌ وعقولُ
فهو «ابن رشد» باحثاً ومفكراً
- وتخاله «النعمان» حين يقولُ
لا يستثير ولا يهيج حماسة
- فسبيله الإقناع والتدليل
يسمو ويبدع مجملاً ومفصلاً
- ولحبذا الإجمال والتفصيلُ
أما الكتاب فقد وعى أسراره
- ويبين عن إلهامه التنزيلُ
والسنّة الغراء خاض غمارها
- متجاوزاً ما لم تصله فحولُ
في خدمة الإسلام كان لفاضل
- والعلم دورٌ رائدٌ وجليلُ
ما كان إلا عبقرياً لامعاً
- في كل حقل جهده مبذولُ
متفهمٌ للعصر منفتح على
- آفاقه رحب المجال أصيلُ
فالله يجزيه المثوبة جنة
- الظل فيها وارف وظليلُ
والله يلهم أهله من فضله
- صبراً وأجر الصابرين جزيلُ
والقدس من رجس اليهود تطهرت
- ودم الشهيد بساحها مطلول
والكرم والزيتون هبَّ مزغرداً
- وجبالها قد حررت وسهولُ
وتدفق الطوفانُ يكتسحُ العدا
- وهتافه التكبير والتهليلُ
فلتمض في جمع الصفوف ولا يكن
- من بيننا متخاذلٌ وعميلُ
والدين إن لم تقتحم بحسامه
- لهب الوغى فسلاحنا مفلولُ
فإذا استظلَّ جنودنا بلوائه
- صبراً هوى «الميراج» والأسطول
فلتضربوا صدقاً بعزمة «خالد»
- ما فيكمو جزِع ولا مدخولُ
وشعار إحدى الحسنيين شعاركم
- والحقُّ سيفٌ لا يُفلّ صقيل
والله أكبر في الجهاد نشيدكم
- يعلو «وأحمد» رائدٌ ودليلُ
إن خضتموها تحت راية دينكم
- فالله بالنصر المبين كفيلُ
وفاته :
وبعد حياة علمية حافلة بالآثار الطيبة توفي شيخنا العلامة.. الفاضل بن عاشور يوم (12/2/1390هـ 19/4/1970 م) في تونس، وبفقده انطوت صفحة من صفحات الفخار للعلماء العاملين والدعاة المصلحين.
رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المفكر الجزائري مالك بن نبي
معرفتي به:
تربطني بالمفكر الجزائري الأستاذ الكبير مالك بن نبي روابط فكرية، فقد سعدتُ بقراءة أول كتاب له بالعربية وهو (الظاهرة القرآنية)، وشدّتني لقراءته والتمعّن فيه المقدمة التي دبّجتها يراعة الأديب اللغوي الكبير الأستاذ محمود محمد شاكر، فضلاً عن أن مترجم الكتاب الدكتور عبد الصبور شاهين من الزملاء الأعزاء الذين جمعتني وإياهم روابط العقيدة والعمل المشترك في ميدان الدعوة إلى الله، فكان اضطلاعه بالترجمة حافزًا لي لقراءة كتاب عن مؤلف لا أعرفه من قبل، ثم تتابعت قراءاتي لما صدر بعد ذلك من كتبه المترجمة إلى العربية التي وجدتُ فيها نظرة تستوعب مشكلات الحضارة وحل معضلات العصر وبناء شخصية المسلم المعاصر؛ البناء العقدي الإيجابي المبني على النظر والتدبر في حقائق الكون والحياة والنفس الإنسانية ومساربها ومحاربة التخلف الفكري والحضاري لمواجهة ضرورات العصر ومنطلقاته.
ثم شاء الله أن ألتقي المفكر الجزائري أول مرة في الكويت حين دعوناه للموسم الثقافي هناك أواخر الستينيات، وكان لنا معه حوارات وندوات وأحاديث ومناظرات، خرجتُ منها بأن الأستاذ مالك بن نبي طراز فريد من المفكرين الذين يستخدمون العقل في تعضيد ما ورد بالنص ويؤثرون التحليل للمشكلات ودراستها دراسة استيعاب، ويطرحون الحلول لمعضلاتها على ضوء التصور الإسلامي وفي ظل القرآن وهدي السُّنَّة.
من تلامذته:
ولقد تأثر به قطاع عريض من الشباب في المغرب والمشرق على حد سواء، فكان منهم الأستاذ رشيد بن عيسى من الجزائر، والأستاذ عمر مسقاوي من لبنان، والأستاذ جودت سعيد من سوريا، ود. عبد الصبور شاهين من مصر وغيرهم من الذين حملوا الفكر الإسلامي المعاصر، فلقد كانت المدارس الفكرية للبنا والمودودي وسيّد قطب ومالك بن نبي، ينتظم في عدادها الألوف من شباب العالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص.
مؤلفاته وآثاره:
لقد أسهم الأستاذ مالك بن نبي بالعديد من المؤلفات التي ترجم بعضها إلى اللغة العربية كلها تدور حول مشكلات الحضارة، وفي مقدمة هذه الكتب: كتاب (الظاهرة القرآنية)، وكتاب (وجهة العالم الإسلامي)، وكتاب (الفكرة الإفريقية الآسيوية)، وكتاب (شروط النهضة)، وكتاب (يوميات شاهد للقرن)، وكتاب (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)، وكتاب (آفاق جزائرية)، وكتاب (المسلم في عالم الاقتصاد)، وكتاب (لبيك)، وكتاب (بين الرشاد والتيه)، وكتاب (إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث)، وكتاب (تأملات)، وكتاب (في مهب المعركة)، وكتاب (فكرة كومنولث إسلامي)، وكتاب (القضايا الكبرى)، وكتاب (مشكلة الثقافة)، وكتاب (ميلاد مجتمع)، وكتاب (من أجل التغيير)، وكتاب (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة)، وكتاب (دور المسلم ورسالته في القرن العشرين)، وغيرها كثير بالعربية والفرنسية.
ولقد أحدثت موضوعات هذه الكتب أثرها في توعية الشباب عن الاستعمار الغربي الذي يجثم على صدور الشعوب الإسلامية، وأساليبه في إذلال هذه الشعوب، كما تكلم مالك بن نبي عن النهضة وشرائطها، والحضارة الغربية وطرق مواجهتها، والشخصية المسلمة ومواصفاتها، ولقد لفت الأستاذ مالك بن نبي نظر الأمة الإسلامية إلى أن الأخطر من الاستعمار هو القابلية للاستعمار؛ لأن النفوس إذا ضعفت وانهزمت من داخلها، تكون خير وعاء لاستقبال الاستعمار والرضا به والسير وراء حضارة الغالب والتخلي عن أمجاد الماضي وأصالته، والالتصاق بكل ما يرد من المستعمر من خير وشر وحلو ومر وصواب وخطأ، دون تمييز أو انتقاء، بل بتقليد المغلوب للغالب والعبد للسيد، وأوضح لها بأن القوي الغالب هو الله، فلا غالب إلا الله، وأن المسلم الحق هو الأعلى وأن الإسلام هو الدين الحق وأن المستقبل للإسلام.
ومن هذه النظرة المعتزة بدينها والمستعلية بإيمانها الآخذة بخير ما في الحضارات، المعرضة عن سوءاتها، أهابت مؤلفات مالك بن نبي بأمة الإسلام أن لا تكون من عبيد الاستعمار، وأن لا تكون مسخرة لأعماله ولا سوقًا لمنتجاته، وأن لا تفقد أصالتها بتقليده في كل شيء حتى الأفكار كما يفعل المستغربون والمخدوعون بحضارة المستعمر من العلمانيين والحداثيين والإمعات الراكضين وراء كل ناعق.
مولده ونشأته:
وُلِدَ الأستاذ مالك بن نبي سنة 1905م بمدينة قسنطينة بالجزائر، وهو ابن الحاج عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي، ثم انتقلت أسرته وهو طفل إلى بلدة (تبسة) وهناك بدأ يتردد على الكتَّاب لتعلم القرآن الكريم، وفي الوقت نفسه، كان يدرس بالمدرسة الابتدائية، وكان فيها متفوقًا، وبعدها انتقل إلى التعليم الثانوي بمدينة (قسنطينة) وكان وقتها يحضر دروس الشيخ ابن العابد في الجامع الكبير والشيخ مولود بن مهنا. وكان يميل إلى القراءة منذ صغره فقرأ في الشعر الجاهلي والأموي والعباسي، وتأثر بشعر امرئ القيس والشنفرى وعنترة والفرزدق والأخطل وأبي نواس وحتى أصحاب المدرسة الحديثة كحافظ إبراهيم ومعروف الرصافي وشعراء المهجر كجبران خليل جبران وإيليا أبي ماضي، وكان بقرب بيته مقهى، وبالقرب منها مكتب الشيخ عبد الحميد بن باديس - رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين - يلتقي فيه التيار الناشئ من المدرسين وأتباع ابن باديس، وقد تأثر بهما كمدرستين إحداهما سياسية والأخرى إصلاحية. وبعد التخرج في الثانوية مارس أعمالاً عدة، ثم سافر إلى فرنسا سنة 1930م؛ لغرض الدراسة في معهد الدراسات الشرقية، فلم يتيسر له ذلك، فسجل نفسه في (معهد اللاسلكي)، ثم التحق بمدرسة الكهرباء. وتخرج من باريس مهندسًا سنة 1935م، وكانت دراساته تنصب في معرفة أمراض العالم عمومًا، والجزائر خصوصًا، وتشخيص علاجها واقتراح الحلول لها، ويعتبر أن الدين أصل الحضارات؛ لأن الحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي من السماء يكون للناس شرعة ومنهاجًا.
وإن الدين إذا ضعف في نفوس أصحابه، فقد الإنسان جانبه الروحي، والتصق بالأرض وما عليها التصاقًا يعطل ملكات عقله ويطلق غرائزه الدنيوية من عقالها لتعيده إلى مستوى الحياة البدائية، ثم رحل إلى مصر سنة 1956م، ثم عاد إلى الجزائر سنة 1973م، حيث توفي في شهر أكتوبر من العام نفسه.
أفكاره ومدرسته:
وقد أعطى الفكر الإسلامي عصارة أفكاره وخلاصة تجاربه، واستقطب العديد من شباب المشرق والمغرب الذين اتخذوا من أفكاره مناهج للتعامل مع الحضارة المعاصرة بأخذ الصالح منها، واطراح الطالح، وتسخير العقل لإعمال النظر في التراث الإنساني وإخضاعه للمقاييس والمعايير الإسلامية التي تريد للإنسان أن يعيش عزيزًا مكرمًا في هذه الدنيا التي استخلفه الله فيها ليعمرها بعمل الخير، وفعل المعروف، وإحسان العبادة لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
إن الأستاذ مالك بن نبي (رحمه الله) كان شعلة نشاط، وكان منظّرًا فكريًا، ودارسًا متعمقًا، قدم الفكر الإسلامي الأصيل الذي أعاد لشباب الأمة ثقته في دينه والتزامه بمفاهيمه وتطبيقه لأحكامه، فالتقى تلامذته وحملة أفكاره بتلامذة المودودي وتلامذة سيد قطب، فكان هؤلاء ومن قبلهم تلامذة حسن البنا هم ركائز الصحوة الإسلامية الراشدة في العالم الإسلامي كله وتيارها الديني الذي سيجرف بإذن الله كل المفاهيم والأفكار العلمانية التي نشرها الاستعمار وروج لها الغرب في ديار المسلمين.
وسيطرح الحل الإسلامي بديلاً عن الحلول المستوردة التي جنت على أمتنا وفرَّقتها شيعًا وأحزابًا وطوائف وقوميات، فالحل الإسلامي هو فريضة وضرورة وهو العلاج لكل المشكلات والمجيب عن كل التساؤلات والمداوي لكل الجراحات.
من هذا المنطلق كانت كتابات هؤلاء العمالقة من المفكرين الإسلاميين، تشد الشباب لتبوُّؤ مكان الصدارة والسير قدمًا إلى الأمام في ركب الحضارة المعاصرة، التي تستلهم ماضي الأمة وأمجادها في شق طريقها نحو الحياة الحرة الكريمة في ظل الإيمان.
وإذا كان مالك بن نبي قد امتلك زمام التعريف الحضاري بمعظم جوانب العطاء الإسلامي للحضارة البشرية، فإنني أرى أن الآثار التي خلفها لنا هذا المفكر الإسلامي هي بعض الزاد الحضاري الإسلامي الذي يمكن للمسلمين اليوم أن يطرحوه أمام العالم، فالأفكار التي طرحها مالك بن نبي أفكار ناضجة في ميادين العلاقات الدولية والنظم السياسية والفكرية والثقافية والتربوية والتنموية مما تحتاجه المجتمعات البشرية الحديثة.
ولقد قدّم الأستاذ مالك بن نبي الأنظمة الإسلامية في قالب حضاري وأسلوب معاصر كما تمكن من تجزئة الاحتياجات الحضارية للمجتمعات البشرية حيث فصلها وطرح البديل الإسلامي مقارنًا مع النظم الإنسانية الوضعية، فكان بهذا الأسلوب صاحب مدرسة نقلت إلى العالم جوهر الإسلام وبدائله التي تتقزم أمامها كل النظريات البشرية الوضعية، مما رسخ الاعتزاز بالإسلام وحلوله في نفوس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وحصّن أفكارهم التي كانت في مطلع هذا القرن تستسهل قبول الفكر التغريبي المادي الذي سيطر فترة من الزمن على بعض العقول.
شهادة بحقه:
يقول الأستاذ الكبير أنور الجندي: «فقد العالم الإسلامي واحدًا من أعلام الفكر الإسلامي الحديث هو الأستاذ مالك بن نبي المفكر الجزائري، الذي قدّم في السنوات الأخيرة عددًا من المؤلفات البارعة حول موضوع «الإسلام ومواجهة الحضارة»، فهو موضوعه الأول وقضيته الكبرى التي حاول منذ أكثر من عشرين عامًا أن يقدّم فيها وجهة نظر جديدة نابعة من مفهوم الإسلام نفسه ومرتبطة بالعصر في محاولة لإخراج المسلمين والفكر الإسلامي من احتواء الفكر الغربي وسيطرته وكسر هذا القيد الضاغط الذي يجعل الفكر الإسلامي يدور في الدائرة المغلقة التي نقله إليها اجتياح التغريب والغزو الثقافي لقيمه عن طريق المدرسة والثقافة والصحافة، وفي محاولة لدفع المسلمين إلى التماس مفهومهم الأصيل والتحرك من خلال دائرتهم المرنة الجامعة القائمة على التكامل والوسطية والمستمدة لقيمها الأساسية من القرآن.
والجديد في دراسات مالك بن نبي ورسالته بالنسبة لمدرسة اليقظة الإسلامية المتصلة العُرَى منذ نادى الإمام محمد بن عبد الوهاب بأول صوت عال كريم في سبيل إيقاظ المسلمين على كلمة التوحيد في العصر الحديث، ثم تتابعت الحلقات في دعوات متعددة قام بها الإمام محمد بن علي السنوسي ومحمد بن أحمد المهدي وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا وحسن البنا وغيرهم.
هذا؛ والجديد أن حامل لواء هذه الفكرة رجل ولد في أول هذا القرن في الجزائر المحتلة بالاستعمار الفرنسي، وقد وُلد في قسنطينة التي خرجت الإمام عبد الحميد بن باديس، وشهد في مطالع حياته ذلك الجو القاتم المظلم الذي حاول الاستعمار فيه أن يخرج الجزائر من الإسلام ومن اللغة العربية جميعًا.
وقد كانت له جذوره التي استمدها من بيئة مسلمة أصيلة حافظت على تراثها واستطاعت أن تعتصم بالقرآن، فلما أتيح له أن يتم تعليمه أوفد إلى باريس ليدرس الهندسة في جامعتها، فلم يصرفه ذلك عن معتقده وإيمانه فكان مثلاً للصمود في وجه اجتياح التغريب ومحاولة الاحتواء التي سيطرت على الكثيرين من أبناء المسلمين الذين أتيحت لهم الدراسة في الغرب، فلما أتم دراسته وأحرز شهادته وجد الأبواب كلها قد أغلقت أمامه، وأحس أن تصميمه على تمسكه بمعتقده سيحول بينه وبين الوصول إلى مكانته كمهندس وعالم، فلم يثنه ذلك شيئًا وواجه الموقف في إيمان ورضا بكل شيء في سبيل أن لا تجتاحه الأهواء المضلة، ولقد حاول الاستعمار معه كل محاولة من إغراء وتهديد حتى عزل والده في الجزائر عن عمله واضطر مالك بن نبي أن يترك بيئته كلها وقد استفاضت بدعوة ابن باديس، ولجأ إلى مكة المكرمة فأقام بها، ثم قدم القاهرة فأخرج فيها موسوعة عن الحضارة في أكثر من سبعة عشر كتابًا كان يكتبها بالفرنسية ويترجمها الدكتور عبد الصبور شاهين إلى العربية، ثم لم يلبث بعد أن توسعت اجتماعاته بالمسلمين في مكة والقاهرة أن حذق العربية وبدأ يكتب بها رأسًا، وكشف عن تلك الأزمة العاصفة التي تواجه المؤمنين الثابتين على عقائدهم في وجه الإغراء.
وقد قامت نظرية مالك بن نبي على مفهوم أسماه «القابلية للاستعمار»، وقد دعا المسلمين إلى التحرر من هذا الخطر، وذلك بالعودة إلى الاستمداد من مفهوم الإسلام الأصيل المحرر بالتوحيد عن وثنية العصر وماديته». انتهى.
ندوة عن أفكاره:
وقد أقيمت ندوة دولية في ماليزيا سنة 1991م عن فكر مالك ابن نبي وأطروحاته تحدث فيها كل من: أنور إبراهيم - وزير المالية الماليزي - والدكتور عبد الله عمر نصيف - الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، ونوقشت فيها أوراق عمل لكلّ من: أسماء رشيد من باكستان عن مقارنة الفكر الاقتصادي لدى كل من العلاّمة محمد إقبال [خاصة كتابه (علم الاقتصاد)]، ومالك بن نبي [خاصة كتابه (المسلم في عالم الاقتصاد)]، والورقة الثانية للدكتور عمار الطالبي من الجزائر وموضوعها (فكر مالك بن نبي وعلاقته بالمجتمع الإسلامي المعاصر)، والورقة الثالثة للدكتور ظفر إسحاق الأنصاري من باكستان وموضوعها (رؤية مالك بن نبي وتقويمه للتيارات الفكرية والسياسية المختلفة التي تكمن وراء الأوضاع الراهنة في العالم الإسلامي)، أما الورقة الرابعة فهي للبروفيسور محمد كمال حسن من ماليزيا، وموضوعها (تأملات حول بعض أفكار مالك بن نبي وأطروحاته).
أما الدكتور عبد الصبور شاهين أبرز من ترجموا مؤلفات مالك ابن نبي من الفرنسية إلى العربية، فقد قال: إن حياة مالك بن نبي ككاتب ومفكر عرفت طورين رئيسين: طور ما قبل مصر، حيث كان يعيش ما بين بلاده الجزائر، وفرنسا التي تعلم فيها. والطور الثاني يبتدئ بقدومه إلى القاهرة سنة 1956م، حيث ابتدأت رحلته كمفكر إسلامي نتيجة احتكاكه برجال العلم والفكر الإسلامي، وبدأ يتعرف على مصادر الثقافة الإسلامية الأصيلة.
كما كانت صلته الطيبة برجال الحكم بمصر آنذاك مجالاً متنفسًا للكتاب الإسلامي في ذلك الوقت حيث إن السلطات الثورية، كانت قد ضربت حصارًا على الكتاب الإسلامي إبّان حملتها الشرسة على الحركة الإسلامية.
في هذا الإطار كان يسرّب كل ما يترجمه لمالك بن نبي إلى الشهيد سيّد قطب داخل السجن.
إن مالك بن نبي (رحمه الله) كان أحد عمالقة الفكر الإسلامي في هذا العصر، وقد قدّم الفكرة الإسلامية وأحسن عرضها على جماهير الأمة الإسلامية خاصة شبابها الذين ترك فيهم الآثار الطيبة.
ومهما كان في هذه الأفكار من ملاحظات فهي بمجموعها تشكّل رافدًا من روافد الفكر الإسلامي المعاصر يمد الشباب بالزاد الفكري الذي يقف في وجه الأفكار المستوردة من الشرق والغرب على حد سواء. رحم الله الأستاذ مالك بن نبي، وجزاه الله عما قدم خير الجزاء.
الشيخ علي بن يحيي معمر
مولده ونشأته:
هو الشيخ العلاّمة الأديب المؤرخ علي بن يحيى معمر، ولد سنة 1337ه/ 1919م في قرية (تكويت) من إقليم (نالوت) في ليبيا. ونشأ وترعرع في أسرة صالحة كريمة كان لها أطيب الأثر على استقامته وحسن سلوكه.
التحق بإحدى مدارس القرآن الكريم وهي مدرسة الشيخ عبدالله بن مسعود الكباوي، ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية، فأظهر نبوغًا فائقًا وذكاءً حادًا وموهبة امتاز بها بين أقرانه، ولفت أنظار أساتذته.
وحين قدم الشيخ العالم رمضان بن يحيى الليني الجربي التونسي إلى ليبيا، والشيخ الليني من تلامذة الإمام محمد بن يوسف أطفيش، انضم الشيخ علي يحيى معمر إلى حلقته العلمية واستفاد منه.
نشاطه العلمي:
ثم سافر إلى تونس، لاحقًا بشيخه (الليني) وانضم إلى حلقته العلمية مرة ثانية ولازمه. وبعدها انتقل للالتحاق بجامع الزيتونة بالعاصمة تونس. ثم في سنة (1357ه/ 1937م) سافر إلى الجزائر والتحق بمعهد الحياة بمدينة (القرارة) بوادي ميزاب، ويعتبر هذا المعهد من صروح المعرفة والعلم في العالم الإسلامي. وعرفته الأندية الأدبية في القرارة بقصائده الشعرية، وأناشيده الرائعة الخالدة، وميوله الأدبية الواعدة، وشارك بفاعلية في جمعياتها الثقافية، وجلساتها الفكرية، وترك بصمات واضحة ما تزال حتى اليوم في مجلة (الشباب) التي كان (معهد الشباب) يصدرها آنئذ، وازدهرت المجلة بمقالاته النقدية وقصائده الرقيقة، وأناشيده المطربة، وعرفته أيضًا محاورًا قديرًا، ومناظرًا نحريرًا.
كانت هذه الحركة الإصلاحية وما صاحبها من مهرجانات ثقافية متمثلة في الشعر، والمسرح، والأناشيد، تهز فؤاد علي يحيى معمر وتدفعه إلى المشاركة الفعالة، والاندفاع الجياش، فظهر طابعه على إنتاجه الذي كتبه في هذه المرحلة من عمره الدراسي، وكان من حسن حظه أن يعيش الفترة التي فرضت فيها الإقامة الجبرية على الشيخ بيوض من قبل الاستعمار الفرنسي (1940 - 1943م)، وكانت الحرب العالمية الثانية سببًا في أن يبقى الطالب الشيخ إلى جانب أستاذه ينهل من معارفه ويستفيد من تجاربه.
وحين رأى شيوخه نبوغه وذكاءه عهدوا إليه بالتدريس في المعهد فصار تلميذًا ومدرسًا في آن حتى 1365ه/ 1945م، حيث عاد إلى وطنه ليبيا وأنشأ مجلة (اليراع) ولكنها صودرت بعد صدور ثلاثة أعداد منها.
وتدرج من مدرس إلى مدير مدرسة إلى موجه تربوي، وكان يلقي الدروس والمواعظ، وينشر المقالات الدينية والأدبية في عدد من الصحف، وأنشأ مدرسة ابتدائية ومعهدًا للمعلمين في بلدة (جادو)، كما أنشأ جمعية الفتح ومدرسة الفتح في طرابلس.
شيوخه:
أما شيوخه الذين تتلمذ عليهم فهم: الشيخ عبدالله بن مسعود الكباوي، الشيخ عيسى بن يحيى الباروني، الشيخ رمضان بن يحيى الليني، الشيخ محمد بن صالح الثميني، الشيخ الإمام إبراهيم بن عمر بيوض، الشيخ أبو اليقظان إبراهيم بن عيسى بن يحيى، والشيخ عدّون بن محمد شريفي وغيرهم كثيرون في ليبيا أو تونس أو الجزائر.
ومن تلامذته: الأخ الدكتور عمرو خليفة النامي الداعية الإسلامي خريج جامعة كامبردج في بريطانيا، الذي كان له دور فاعل ومؤثر في النشاط الطلابي ونشر الدعوة الإسلامية في بريطانيا وليبيا متعاونًا مع إخوانه العاملين من الدعاة إلى الله في كل مكان.
منهجه في التأليف:
عرف الشيخ علي معمر منذ مطلع حياته العلمية بقلمه السيال، وإنتاجه الغزير، واشتُهر بأسلوبه المتميز الذي يجمع بين الإثارة والبساطة، ويجمع بين مخاطبة العقول والقلوب بطريقة جذابة ساحرة، وذلك شأن أديب نهل من معين القرآن الكريم والأدب العربي القديم في أمهات مصادره.
لذا؛ عندما توجه إلى التأليف كان يسعف قلمه ثقافة واسعة، وبيان ساحر، ومعارف مستفيضة، فترك للمكتبة الإسلامية العديد من البحوث والمؤلفات المتميزة بالعرض الجيد، والتحليل العميق. هذا عدا مقالاته وقصائده التي نشر بعضًا منها بالصحف العربية، ونشر بعضها الآخر في مجلة (الشباب) الصادرة بمعهد الشباب في الأربعينيات.
المنهج الإسلامي لكتابة التاريخ:
يعد الشيخ علي يحيى معمر من ألمع الكتاب الإسلاميين في العصر الحديث، دعوة إلى الوحدة الإسلامية بما وهبه الله من عقل نير، وبصيرة نافذة، وقلب مؤمن يسع المؤمنين جميعًا، وقد اشتهر بمبادئه التي وضعها أساس الفكر الإسلامي وهي المعرفة والتعارف والاعتراف.
إن اليد البيضاء التي قدمها الشيخ علي معمر لن يستطيع تقديرها إلا من اطلع على الجهد العظيم الذي بذله في مؤلفاته للتقريب بين وجهات نظر المسلمين فيما حسبته بعض الكتب القديمة خلافًا حادًا وفُرقة لا لقاء بعدها.
وقد ظهرت آثار جهوده في البحوث التي أخذت تصدر من حين إلى آخر بأقلام أكاديمية نزيهة تنشد الحقيقة بكل تجريد، فصحح كثيرًا من التصورات الخاطئة، وصوب أخطاءً فادحة، وأبان عن حقائق تاريخية ناصعة.
أهم مؤلفاته:
- الإباضية في موكب التاريخ.
- الإباضية بين الفرق الإسلامية.
- سمر أسرة مسلمة.
- الميثاق الغليظ.
- الفتاة الليبية ومشاكل الحياة.
- الأقانيم الثلاثة أو (آلهة من الحلوى).
- الإسلام والقيم الإنسانية.
- فلسطين بين المهاجرين والأنصار.
- أجوبة وفتاوى.
- صلاة الجمعة.
- أحكام السفر في الإسلام.
- مسلم ولكنه يحلق ويدخن.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- الحقوق في الأموال.
- الإباضية مذهب إسلامي معتدل.
- ثلاثة دواوين شعر (ولكنه أحرقها ولم يبق من شعره إلا ما نشر في الصحف والمجلات).
- مسرحية (ذي قار).
- مسرحية (محسن).
كما أن للشيخ علي معمر تعليقات وتحقيقات لبعض كتب التراث، نذكر منها:
- تعليق على كتاب الصوم من تأليف أبي زكريا يحيى الجناوتي (مطبوع).
- تعليق على كتاب النكاح من تأليف أبي زكريا يحيى الجناوتي (مطبوع).
- تقديم لكتاب سير مشايخ نفوسة، وهو من تحقيق الدكتور عمرو النامي (مطبوع).
- وله مقالات وبحوث كثيرة نشرها في المجلات العربية، نذكر منها:
- مجلة (الشباب) لمعهد الشباب بالقرارة.
- مجلة (المسلمون)، يصدرها المركز الإسلامي بجنيف، سويسرا.
- مجلة (الأزهر) يصدرها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، القاهرة.
- (الأسبوع السياسي) و(المعلم)، تصدران بطرابلس، ليبيا.
- (الرسالة)، يصدرها أحمد حسن الزيات، بالقاهرة.
وله مراسلات عدة مع مشايخه: الشيخ بيوض، الشيخ أبي اليقظان، الشيخ عدون شريفي، ولو جمعت لكونت مجلدًا ضخمًا، وهي تعد وثائق تاريخية مهمة.
معرفتي به:
سعدت بمعرفته حين زارنا بالكويت أواخر ستينيات القرن العشرين، فقد شرفني بزيارتي في البيت والوزارة وفي جمعية الإصلاح الاجتماعي، فكانت أحاديث وحوارات عن موسوعة الفقه الإسلامي التي كنا قد شرعنا بإصدار بحوثها التمهيدية لعرضها على العلماء في أنحاء العالم الإسلامي لإبداء ملاحظاتهم، وكان منهم الشيخ علي معمر والشيخ أحمد الخليلي والشيخ محمد ناصر المرموري وغيرهم. ولقد وجدتُ عند الشيخ علمًا غزيرًا وسعة في الصدر ورغبة في الحوار وخضوعًا لقوة الدليل، من خلال الحوارات والمحاضرات والمؤتمرات والبحوث والندوات التي اشترك فيها. ولن أنسى ذلك الشاب العامل الدكتور عمرو النامي - خريج جامعة كامبردج في بريطانيا - الذي تعرّفت إليه عن طريق زملائه في الجامعة: الدكتور أحمد العسال والدكتور مبارك العبيدي والدكتور حسن عبدالحميد صالح وغيرهم، الذين أثنوا عليه ثناءً عاطرًا. وهو شاعر مسلم ولد في (بنالوت) بليبيا 1942م، وبها تعلّم، ثم درس بمصر وحصل على الماجستير في الأدب، ثم رحل إلى بريطانيا وأعد أطروحة الدكتوراه عن (تطور الفكر الإباضي) ناقشها في كمبردج سنة 1971م، ثم درّس في (جامعة الفاتح) في ليبيا، ثم عمل أستاذًا معارًا بجامعة (مشيجان) بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم استقر في ليبيا؛ ليُلقَى في غياهب السجون ويعاني ويلاتها بسبب التزامه بالإسلام والدعوة إليه وانتمائه للإخوان المسلمين.
له قصائد كثيرة أشهرها قصيدة (أماه) التي قال في مطلعها:
أماه لا تجزعي فالحافظ الله
- إنا سلكنا طريقًا قد خبرناهُ
في موكب من دعاة الخير نتبعهم
- على طريق الهدى أنى وجدناهُ
وكان الدكتور النامي داعية من دعاة الإسلام العاملين، كما كان شعلة من الحماس والغيرة على الإسلام والعمل الدءوب لنصرة الإسلام وقضايا المسلمين من خلال جماعة الإخوان المسلمين التي ارتبط بها وشارك في أنشطتها داخل ليبيا وخارجها.
شخصيته وصفاته:
والشيخ علي يحيى معمر شخصية جذابة يزينه وقار العلماء وهيبتهم وطلاقة المحيا وبشاشة الوجه وحسن الحديث والذوق الرفيع والأدب الجم والتواضع والبساطة، وسعة الاطلاع على أحوال المسلمين ومشكلاتهم وبذل الجهد المستطاع لمساعدتهم وبخاصة عن طريق التعليم والتربية. وكان يدعو إلى التقارب ونبذ الخلاف والتخلي عن العصبية المذهبية وإلى التسامح وفتح باب الاجتهاد والدعوة إلى الوحدة الإسلامية.
قالوا عنه:
يقول عنه الشيخ أحمد بن حمد الخليلي - مفتي السلطنة:
«لقد عرفت من الشيخ علي بن يحيى معمر - في خلال هذا اللقاء وهذه الزيارة وهذا السفر الذي رافقته فيه وكان لي فيه صاحبًا بالجنب، وكنت له فيه صاحبًا بالجنب - السماحة ودماثة الخلق وحسن المعاملة واللطف في مخالفة الناس والرغبة في الخير، وعرفت منه أيضًا ميله إلى الأدب، وقد كانت عباراته الأدبية لا تخلو من النكتة أحيانًا، ومع ما كان يعانيه في ذلك الوقت - وقد كان ذلك في أخريات عمره - من الأسقام والبلاوي، فإنه بجانب ذلك كانت فيه نفس شابة من حيث الفتوة والقوة والانشراح واللطف في المعاملة مع الناس، فهو رجل جمع الأخلاق الحسنة بحذافيرها وكان حريصًا دائمًا على جمع كلمة المسلمين وجمع شملهم».
وفاته:
انتقل أستاذنا الشيخ علي يحيى معمر إلى رحمة الله في شهر صفر 1400ه، الموافق 15/1/1980م بعد أن تدهورت صحته تحت وطأة الضغوط السياسية التي يواجهها العاملون للإسلام في كل مكان وبخاصة تحت الأنظمة الدكتاتورية التي أهلكت العباد ونشرت الفساد وضجَّ منها الحاضر والباد.
رحم الله الشيخ وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الأخ المجاهد محفوظ نحناح
(1362 - 1424هـ = 1942 - 2003م)
مولده ونشأته:
ولد الشيخ محفوظ بن محمد نحناح يوم 12/1/1942م، وكان مولده في أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت التحولات السياسية والفكرية في الجزائر تتحدث عن مرحلة ما بعد الاستعمار ببداية اندحار فرنسا المستعمرة أمام دول المحور وانكشاف عورة الاستعمار الفرنسي وبداية العد التنازلي لفكرة الاستعمار الاستيطاني. وكان مولده بمدينة (البليدة) في الجزائر، وسط عائلة محافظة، ونشأ في أحضان القرآن الكريم، واللغة العربية، ودرس في المدرسة الإصلاحية، التي أنشأتها الحركة الوطنية، وأكمل مراحل التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي في الجزائر، وحصل على ليسانس لغة عربية، ثم سجَّل في جامعة القاهرة (قسم الدراسات العليا)، وفي فترة دراسته الجامعية بالجزائر.
ساهم مع إخوانه في فتح مسجد الطلبة، وكان أول من خطب الجمعة بالمسجد المذكور. وساهم مع إخوانه محمد بوسليماني ومحمد بومهدي سنة 1962م في ثورة التحرير الجزائرية وهو في ريعان الشباب، كان عمره 20 عامًا.
نشاطه العملي والدعوي:
اشتغل الأخ نحناح في حقل الدعوة الإسلامية لأكثر من ثلاثين عامًا بدءًا من سنة 1964م بالتعاون مع رفيقه الشيخ محمد بوسليماني، وهما وضعا اللبنة الأولى للجماعة الإسلامية في الجزائر.
وقاوم المد الثوري الاشتراكي والثقافة الاستعمارية الفرنسية. وكان من أشد معارضي التوجه الماركسي والفرنكفوني والعقائد الضالة والأخلاق المنحرفة، مما أدى إلى اعتقاله سنة 1975م، وحكم عليه بالسجن خمس عشرة سنة، كانت فرصة للتزود بالعلم والتفرغ للعبادة، كما كانت سببًا في هداية الكثيرين من نزلاء السجن إلى طريق الحق والاستقامة على منهج الإسلام.
وبعد وفاة الرئيس «هواري بومدين» يوم 27/12/1979م بعد زلزال الأصنام في 10/10/1980م، حيث كان سجينًا هناك، أطلق سراحه بعد أن قضى خمس سنوات فقط.
وقد ساهم في تأسيس (رابطة الدعوة الإسلامية) مع صفوة من علماء الجزائر ودعاتها منهم الشيخ أحمد سحنون - رئيس الرابطة، والشيخ عبدالله جاب الله، والشيخ علي بلحاج والشيخ محمد بوسليماني، والدكتور عباسي مدني، وغيرهم، كما ساهم في تأسيس (جمعية الإرشاد والإصلاح) سنة 1988م مع زميله الشيخ محمد بوسليماني الذي اغتالته جماعة مسلحة سنة 1994م.
ويمتاز الشيخ نحناح بقدرة هائلة على الاتصال والتنقل، فقد زار القارات الخمس داعية وحاملاً رسالة الوسطية والاعتدال، كما طاف كل محافظات الجزائر وأسس فيها أنشطة دعوية وتربوية وخيرية متنوعة.
كما أنشأ الشيخ النحناح (حركة المجتمع الإسلامي) سنة 1991م وانتخب رئيسًا لها، ثم تغير اسمها إلى (حركة مجتمع السلم) بعد صدور قانون جزائري يحظر استعمال وصف (إسلامي) على الأحزاب.
كانت مواقف الشيخ نحناح تتسم بالاعتدال والتوازن، فقد عارض موقف الحكومة من الانتخابات، كما اعترض على دعاة العنف وحمل السلاح.
وهو الذي صاغ بيان التجمع الإسلامي الكبير سنة 1980م، كما نظم أول مهرجان إسلامي سنة 1988م، ونادى بإنشاء رابطة تجمع كل الدعاة من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية سنة 1989م، كما أنه انضم إلى علماء العالم الإسلامي في توقيع وثيقة ترفض التنازل عن أي شبر من أرض فلسطين واعتبرها وقفًا إسلاميًا لا يجوز التفريط فيه أو التنازل عنه.
ويعتبر محفوظ نحناح أول زعيم حركة إسلامية في العالم العربي يتقدم للترشح لرئاسة الجمهورية. والحق يقال: إن الشيخ محفوظ نحناح فيه من مواصفات الزعامة والقيادة ورباطة الجأش وقوة التحمل والصبر على المكاره ما يرشحه للأمور العظيمة والأحداث الجسام.
فهو كفؤ لذلك، وأهل لتحمل التبعات والتكاليف؛ لأنه من فرسان هذا الميدان وصاحب القدح المعلى في المكرمات.
أفكاره وطروحاته:
من أهم الطروحات التي يدافع عنها الشيخ محفوظ نحناح: الشورى، والديمقراطية، والتطور، والتسامح، والتعايش، والاحترام المتبادل، واحترام حقوق الإنسان، ومشاركة المرأة في مجالات الحياة، وحوار الحضارات، واحترام حقوق الأقليات، وتوسيع قاعدة الحكم، والتداول السلمي للسلطة، واحترام الحريات الشخصية والأساسية، والوسطية والاعتدال، وتجسير العلاقة بين الحاكم والمحكوم على ضوء هدي الإسلام وتعاليمه.
وكان يرى ضرورة تغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية والشخصية، ويدعو إلى التمييز بين ضرورة وجود الدولة وتقويتها، وبين منافستها ومعارضتها والمطالبة بخلعها وذهابها عند إساءتها، ويرى أن المشاركة في قاعدة الحكم أولى من الروح الانسحابية أو المعارضة الراديكالية.
وكان موقفه واضحًا من وقف المسار الانتخابي بالجزائر ويعتبره خطأً كبيرًا من الحكومة، ولكنه لا يرى معالجة خطأ الحكومة بحمل السلاح وجزّ الرقاب والحقد والتدمير وإهلاك الحرث والنسل.
وفيما يتعلق بالغزو الأمريكي للعراق، كان واضحًا غاية الوضوح، فقد دعا إلى بلورة موقف متقدم لقوى الأمة العربية؛ لضمان حركة المعارضة للاحتلال الأمريكي للعراق ومواجهة استراتيجيات الهيمنة على الأمة العربية والإسلامية.
وفي الجزائر طالبت حركته (مجتمع السلم) بفتح قنوات الحوار أمام الجميع وإيقاف حملات العنف والعنف المضاد، والتكفل بالعائلات المتضررة من جراء المأساة الوطنية ورفع العقوبات التعسفية التي طالت بعض المواطنين من جراء انتماءاتهم السياسية، وتعويض المتضررين منهم، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وسجناء الرأي، بالتوازي مع إقامة محاكمات عادلة للمتورطين في الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان وكرامة المواطنين. والعمل الجاد من أجل العودة بالبلاد إلى الوضع المستقر الآمن الذي يعيش فيه المواطن وهو آمن على نفسه وأهله من تغوّل السلطة أو استهداف المخرِّبين. وضرورة انصراف الحكومة إلى تأمين احتياجات المواطنين الجزائريين ورفع العنت والظلم عنهم وتيسير سبل الحياة الكريمة لهم، ولكل طبقات الشعب دون استئثار أو تفضيل لطبقة على طبقة أخرى، أو الاهتمام بشريحة من المواطنين دون أخرى، فالحكومة مسؤولة عن جميع المواطنين دون استثناء أو تمييز.
شيوخه:
تأثر الشيخ محفوظ نحناح بـ (مدرسة الإرشاد) التي هي مدرسة الحركة الوطنية، وشعارها: «الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا»، كما تأثر النحناح بـ (جمعية العلماء المسلمين) التي هي جزء من الحركة الوطنية، إلا أنها تتميز بالإسلامية التي جعلتها نموذجًا آخر غير النموذج العادي في الحركة الوطنية، ومن زعماء هذه المدرسة الشيخ عبدالحميد بن باديس - الزعيم الروحي للجزائر، والمفسر للقرآن العظيم، والمصلح والداعية الذي كان سلفي المنهج، صوفي السلوك، مجاهدًا ضد الاستعمار، ومن زعماء هذه المدرسة أيضًا الشيخ البشير الإبراهيمي العالم الفذ في الأدب واللغة والإصلاح والفكر، وصاحب الصولات والجولات الذي نقل حقيقة الثورة الجزائرية، وهموم الجزائر إلى كل أنحاء العالم الإسلامي، ومن زعماء هذه المدرسة أيضًا الشيخ الفضيل الورتلاني الذي تجاوز حدود الوطن ليصبح مصلحًا عالميًا وهو قرين الشيخ الإبراهيمي وأحد السياسيين المحنكين والعلماء الفطاحل والمصلحين المجددين، ترك آثارًا وبصمات في مصر واليمن وسوريا وتركيا والجزائر.
وهؤلاء العلماء الثلاثة من جمعية العلماء المسلمين كان لهم التأثير الكبير في شخصية الشيخ محفوظ نحناح، بالإضافة إلى الأستاذ مالك بن نبي والإمام الشهيد حسن البنا، والشيخ محفوظي الجزائري والشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ محمد الغزالي، فضلاً عن المؤلفات القيمة للإمام ابن تيمية التي نهل منها الأستاذ النحناح ودأب على دراستها.
هذه الشخصيات والمدارس الفكرية كان لها أبرز الأثر في تكوين شخصية الشيخ محفوظ نحناح وتحديد مسارها وانطلاقها في حقل الدعوة الإسلامية المعاصرة.
فالإمام الشهيد حسن البنا مجدد القرن الرابع عشر الهجري، الذي نقل فكر الإسلام من النظرية إلى التطبيق، وعمل على وحدة الأمة الإسلامية وتخليصها من الاستعمار بكل أشكاله، كان له تأثير كبير جدًا على الشيخ محفوظ نحناح فقد سلك طريقته ومنهجه وأسلوبه في الدعوة إلى الله، لأن الإمام حسن البنا ليس رجلاً محدود العمل في دولة أو قطر، بل كان يملك نظرة عالمية، تجمع بين المعاصرة والأصالة، وهذا ما سار عليه الشيخ محفوظ نحناح وبخاصة بعد ارتباطه العضوي بحركة الإخوان المسلمين العالمية.
وكان يفقه مقولة الإمام الشهيد حسن البنا في توجيه الشباب حق الفقه ويضعها نصب عينيه إذ يقول الإمام البنا:
«ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر، وما هي منكم ببعيد».
مواقفه:
كان للشيخ محفوظ نحناح مواقف كثيرة تدل على أصالته وصدق لهجته وعمق فهمه للأحداث وطرح المفاهيم المستقاة من الإسلام كتابًا وسنة، والمأخوذة من مواقف السلف في معالجة ما يستجد من أحداث وقضايا ومشكلات في حياة الناس والمجتمعات وطرح الحلول الناجعة لعلاجها والتصدي للآراء المنحرفة والأفكار البعيدة عن المنهج الإسلامي الصحيح.
ومن هنا نجد أنه بعد التشاور مع إخوانه وعرض وجهات النظر للقضايا والاستهداء بالكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة، يكون اتخاذ القرار الحاسم في المواقف دون تردد لأنه يرى وإخوانه أن في ذلك مصلحة للأمن والوطن، ومن ذلك دخول الانتخابات التشريعية، بل إنه رشح نفسه لانتخابات الرئاسة سنة 1995م وحصل على المرتبة الثانية بأكثر من ثلاثة ملايين صوت حسب النتائج الرسمية المعلنة.
كما شارك الأستاذ نحناح في العديد من المؤتمرات والملتقيات الدولية في الدول العربية والإسلامية والآسيوية والإفريقية والأوروبية والأمريكية.
وكان مسار حركته «حركة مجتمع السلم» نبذ العنف والحفاظ على قيم المجتمع الجزائري وتبني الإسلام وثوابت الأمة الجزائرية، والسعي لإقامة السلم والوئام الوطني في الجزائر وحماية حقوق الإنسان وكرامة المواطن. والحركة تعتمد الحوار على الحل السياسي وضرورة فتح قنوات الحوار أمام الجميع.
وقد أدان الشيخ محفوظ العنف بكل صوره وأشكاله، سواء من الدولة أو من الجماهير، واعتبر أن هذا غريب عن منهج الإسلام والمسلمين، وكرس جهوده للدفاع عن العقيدة الصحيحة وقيم الوسطية والاعتدال.
وقد دفعت حركته ضريبة غالية من دماء أبنائها، إذ ذهب أكثر من خمس مئة شهيد من إخوانه ومحبيه ومناصريه وعلى رأسهم رفيق دربه الشهيد الشيخ محمد بوسليماني الذي اغتيل عام 1994م على يد مسلحين تكفيريين.
وأذكر أن الشيخ بوسليماني زارني في مكة المكرمة وشرفني في بيتي في نفس العام، وقد وجدت فيه الخلق الإسلامي والتواضع الجم، وإنكار الذات، والفهم العميق لدينه، والوعي الرشيد لمرحلة الدعوة، وأكبرت فيه فقهه لطبيعة المرحلة ومتطلباتها، ولا غرو في ذلك فهو من إخوان النحناح وأعوانه الخلص. ولقد دخلت حركة (مجتمع السلم) الانتخابات النيابية وحصلت على 70 نائبًا، كما شاركت في الحكومة بسبعة من الوزراء.
ورغم التدخلات وخلط الأوراق فيما بعد، بقيت الحركة «مجتمع السلم» لها ممثلوها في البرلمان الجزائري وفي الحكومة، وإن كانوا بعدد أقل من السابق.
رحلاته ومحاضراته:
كانت للأخ محفوظ على مدار العام رحلات طويلة وقصيرة طوف فيها أرجاء العالم العربي والإسلامي والعالم الغربي وإفريقيا وآسيا، فقد زار الولايات المتحدة الأمريكية وسعدت بحضور محاضراته بواشنطن، كما زار إسبانيا وفرنسا والسويد وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وألقى فيها جميعًا محاضرات وعقد ندوات وكنت في معظمها حاضرًا ومشاركًا.
كما تعددت وتكررت زياراته ومحاضراته وندواته في المملكة العربية السعودية والكويت وقطر وسوريا والأردن والسودان والمغرب وليبيا وغيرها.
وكان في معظم محاضراته يركز على ضرورة الالتزام بالمنهج الوسط والتدرج في الخطوات وعدم الانسياق وراء الدهماء والعوام؛ لأن أهواء العوام وأهواء الحكام لا تهادن كما يقول شيخه وشيخنا الأستاذ محمد الغزالي غفر الله له.
ويرى النحناح أن التطرف والغلو يعطي المسوغات للأنظمة الجائرة وأزلامها من العلمانيين فرصة الانقضاض على الحصون الإسلامية. ومن محاضراته التي ألقاها أثناء رحلاته محاضرة «الصحوة الإسلامية.. واقع وآفاق» ألقاها في المغرب سنة 1990م وكانت تتصف بالاتزان وتبشر بخيار المصالحة بين الأنظمة والحركات الإسلامية المعتدلة، فضلاً عن موقفه المؤيد لتسوية إيجابية لقضية الصحراء. وكان طيلة فترة توتر العلاقات المغربية الجزائرية صوتًا للحكمة والتعقل داخل الجزائر، داعيًا إلى تسويتها بمنطق الحوار والتفاهم المتبادل للمصالح المشتركة. وكان حريصًا على التواصل مع القوى السياسية والوطنية بالمغرب.
وقد سعدت بحضور محاضرة له في عمَّان بالأردن كان فيها واضحًا غاية الوضوح، وصريحًا غاية الصراحة، لم يهادن أحدًا وهو يعرض الحقائق على الأرض بتفاصيلها ويشخص الوضع الجزائري بكل أبعاده ويصف الحرب المستعرة بين الحكومة وحملة السلاح في الجبال، وكيف أن الأفعال وردود الأفعال هي المسيطرة على دوام الاقتتال وذهاب الأرواح وتخريب البلاد. وهذا الأسلوب يأباه الإسلام وترفضه تشريعاته وأحكامه، فإن الدم المسلم غالٍ ومحترم، والنفس البشرية مصونة ومعصومة. وتلك ولا شك فتنة وبلاء، ومحنة ومصيبة، أحرقت الحرث والنسل، وولّدت الشحناء والبغضاء، والخاسر فيها هو الشعب الجزائري والدولة الجزائرية على حد سواء، وحين سؤاله عقب المحاضرة عن الذي يجري في الجزائر أجاب: هناك تيار يريد ربط الجزائر بباريس وتيار آخر يريد ربط الجزائر بابن باديس.
فأدرك السامعون القصد، وفهموا سر الصراع بين الإسلاميين والفرانكفونيين بالجزائر.
معرفتي به:
أول من حدثني عنه وذكر لي صفاته وأخلاقه، هو الأخ مصطفى الطحان الذي التقاه بالرياض سنة 1972م، ثم التقيت به في الكويت والمملكة العربية السعودية، والجزائر، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وتركيا، مرات عدة، وعلى سنوات متتابعة، حيث اللقاءات مع قادة الحركات الإسلامية في العالم كل عام تقريبًا.
من أجمل تلك اللقاءات لقاء كان في ألمانيا وآخر في فرنسا، حيث اجتماعات مجلس الشورى العالمي للإخوان المسلمين. وكنا في فترات الراحة نتجاذب أطراف الحديث ونتبادل المداعبات والطرف التي كان يتحفنا بها أستاذنا الحاج عباس السيسي الذي يعطر المجالس بطرفه ولطائفه ويدخل السرور على إخوانه، ويشاركه الأخ الدكتور الحبر نور الدايم من السودان والأخ محفوظ نحناح.
ولقد تكررت اللقاءات في مكة المكرمة في مواسم الحج والعمرة في رمضان، كان يزورني في البيت والرابطة وفي بيوت الإخوان ومساكن الطلبة الجزائريين.
وكذا الحال أثناء زياراته للكويت بجمعية الإصلاح الاجتماعي والهيئة الخيرية الإسلامية العالمية ومنزل الأخ عبدالله المطوع وبقية إخواننا الكويتيين.
وكنت معجبًا غاية الإعجاب بعصاميته وقوة شخصيته وفقهه الدعوي والسياسي وفصاحة منطقه وبلاغة عباراته ونبرات صوته وصدق تحليلاته وجرأته وشجاعته وصبره ومصابرته وقدرته على الحوار، وإقناع الآخر بوجهة نظره، وعمق إيمانه بدينه.
قالوا عنه:
يقول عنه رفيق دربه الأخ المهندس مصطفى محمد الطحان - الأمين العام للاتحاد العالمي للمنظمات الطلابية:
«التقيته أول مرة سنة 1972م في إطار لقاء الندوة العالمية للشباب الإسلامي في الرياض.. وفي عام 1973م كنت في زيارة للمغرب، ثم الجزائر.. وعندما أنهيت معاملة الوصول وخرجت، وجدت الأخ محفوظ نحناح يستقبلني فاتحًا ذراعيه ولا أنسى حرارة ذلك اللقاء وأهميته وفائدته، ذهبنا في سيارته الصغيرة «الفولكس واجن» إلى بلدته (البليدة) وأقمت عنده في بيت العائلة الواسع الكبير.. وفي أحد مساجد العاصمة جلست أستمع لدرس الشيخ محفوظ الذي كان كالنهر المتدفق.. كلمات واعية.. وإيماءات واضحة.. وتوجيه سليم.. وإخوة شباب يلتفون حوله يسألون الشيخ عن درسه.. وعما بعد الدرس..
واستغربت أن يكون مثل هذا الطرح الجريء.. والأيام الحاكم فيها «هواري بومدين» والتوجه للدولة اشتراكي علماني.. ويظهر أن شيخنا قرر أن يقول كلمة الحق واضحة ويعتصم بالصبر مهما تكن النتائج.
وذهبنا إلى مسجد الطلبة بالجامعة المركزية الذي ساهم في فتحه الأخ محفوظ وخطب فيه خطبة الجمعة، وكانت الأوضاع وقتها في الجامعة بعيدة كل البعد عن المظهر الإسلامي. وحين سألته: الأوضاع صعبة يا شيخنا.. أجابني: «ولتعلمن نبأه بعد حين». وبعد هذا كنت أزور الجزائر مرة في السنة. وفي مرة زرنا معًا القاهرة، وكنا على موعد مع رجالات الدعوة الذين خرجوا لتوهم من غياهب سجون عبدالناصر التي قضوا فيها ما يزيد على العشرين عامًا. وكان لقاءً موفقًا سعد به الجميع أعقبه عهد وموثق. وفي سنة 1975م جرَى اعتقال الشيخ محفوظ نحناح والحكم عليه بخمسة عشر عامًا بعد نشره بيانًا بعنوان (إلى أين يا بومدين)؟
وفي عام 1990م لقيت الشيخ محفوظ في طرابلس الغرب في الاجتماع المخصص لمناقشة قضية الاحتلال العراقي لدولة الكويت كان البعض يؤيد العراق والآخر مع حق الكويت وحرية أبنائه.. ورأيت الشيخ محفوظ نحناح يزأر كالأسد ويقول: كلكم مهتم بحفظ ماء وجه صدام حسين.. ولا أرى أحدًا يهتم بدماء أهل الكويت..
وكان آخر لقاء في إسطنبول بشهر يوليو تموز سنة 2002م، عندما جاء مع أسرته لقضاء فترة نقاهة بعد آلام مبرحة ومعالجات طالت لم أعرف يومها ذلك، فقد كانت صلابة المجاهد تغلب عليه، خاصة عندما يتعلق الأمر بشخصه». انتهى.
هذا، وقد أُلفت عنه الكثير من الكتب من أهمها: (رجل الحوار محفوظ النحناح)، و(خطوة نحو الرئاسة). كما أن له الكثير من المحاضرات المطبوعة، وأهم كتبه هو: الجزائر المنشودة (المعادلة المفقودة: الإسلام.. الوطنية.. الديمقراطية).
وله أكثر من ألف شريط مسجل يضم الكثير من المحاضرات والدروس وخطب الجمعة والندوات والمؤتمرات والأحاديث الصحفية وغيرها.
وفاته:
جاء نعيه على لسان الناطق الرسمي باسم الحركة الأستاذ سليمان شنين الذي قال: «ننعى إلى العالمين الإسلامي والعربي وفاة الشيخ محفوظ نحناح رجل الوسطية والاعتدال والتسامح الذي سيترك رحيله فراغًا كبيرًا على المستويين الوطني والدولي».
والشيخ محفوظ رئيس حركة (مجتمع السلم) يتولى منصب المراقب العام للإخوان المسلمين في الجزائر منذ سنة 1981م لحين وفاته.
وكان (رحمه الله) قد قاسى المرض الخطير أكثر من سنة، حيث استقر في دمه وعظامه، ولكنه كان صابرًا لا يشكو، وقد ذهب إلى فرنسا للعلاج، وبعد ثلاثة أشهر عاد إلى وطنه لتقرير الأطباء استحالة العلاج، فكانت وفاته بين أهله وإخوانه الذين يحبهم ويحبونه يوم 19/6/2003م، وبعد وفاته خلفه الأخ أبو جرة سلطاني.
رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. والحمد لله رب العالمين.
عمرو خليفة النامي .. أستاذ الجامعة وراعي الغنم!
مولده ونشأته:
ولد في مدينة (نالوت) في ليبيا، ونشأ في أسرة محافظة تحرص على العلم، وتتمسك بأهداب الدين، وتعمل على تنشئة أبنائها على قيم الإسلام، والالتزام بتعاليمه، وقد تتلمذ عمرو النامي على مشايخ كثيرين من أهمهم الشيخ علي يحيى معمر من فقهاء الإباضية الكبار في ليبيا، ثم بعد إكمال مراحله الدراسية، التحق بالجامعة الليبية في بنغازي حيث كان أستاذه الدكتور محمد محمد حسين الذي اهتمَّ برعايته وتوجيهه حتى تخرج فيها سنة 1962م، ثم ذهب إلى مصر للدراسات العليا، ولكن النظام الناصري العسكري الديكتاتوري شنَّ حربًا ضروسًا على الإسلام وعلى العاملين للإسلام، وخاصة الإخوان المسلمين، وجرت الاعتقالات للآلاف منهم، مما جعله يصرف النظر عن الدراسة في مصر، ويغادرها إلى ليبيا، ليوفد بعدها إلى بريطانيا للدراسة بجامعة كامبردج، وتخرج فيها سنة 1971م بتفوق وامتياز.
والأستاذ عمرو النامي من شباب الإخوان المسلمين العاملين في حقل الدعوة الإسلامية في وقت مبكر من شبابه، فقد اتصل بهم، وارتبط معهم، وظلَّ على وفائه والتزامه ولم تزده السجون المتتابعة إلا تمسكًا وثباتًا على الحق الذي يؤمن به، ويجاهد في سبيل تحقيقه، وهو إعلاء كلمة الله في الأرض، وسيادة شريعة الإسلام، ورفع راية القرآن، وتوحيد الأمة الإسلامية على منهج الكتاب والسنة، والتصدي لأعداء الملة والدين.
أساتذته وزملاؤه:
من أهم الأساتذة الذين تلقى على أيديهم العلم والفكر والدعوة: العالم الليبي الكبير، الداعية الشيخ علي يحيى معمر، والعالم المصري الأديب الكبير الداعية الدكتور محمد محمد حسين، فكلا الرجلين كان له تأثير على ثقافته وشخصيته وتوجهاته الإسلامية، وكانا معجبين بذكاء تلميذهما وصدقه وإخلاصه وصفاء قلبه وغيرته على حرمات الدين والأمة والوطن، وجدّه واجتهاده في تلقي العلم منهما بكل إقبال واستيعاب. فقد كان لمَّاحًا، صافي الذهن، سريع الحفظ، نهمًا في القراءة، مقبلاً على العلوم بكل طاقته، يستغرق الساعات الطوال في البحث والدراسة، دونما تعب أو ملل، وهذا شأنه في الليل والنهار، في الحضر والسفر، في السجن وقاعات الدرس، في البيت وفي المسجد، إنه آية من آيات الله في شباب هذا العصر الذي عرف طريقه إلى الله، وسار فيه دونما تردد.
أما زملاؤه، فكان منهم محمود الناكوع، ومصطفى المنقاري، وصادق النيهوم، وهؤلاء كان لكل منهم شخصيته الثقافية وسلوكه الاجتماعي واختياره الفكري، الذي باعد فيما بينهم، وبخاصة صادق النيهوم الذي كان على طرفي نقيض مع الدكتور عمرو النامي صاحب الاتجاه الإسلامي والفكر الملتزم، والسائر في ركب الحركة الإسلامية المعاصرة التي تدعو إلى استئناف الحياة الإسلامية، وتحكيم الإسلام في شؤون الحياة، والعمل الجاد لقيادة ركب الإنسانية إلى المنهج الحق، منهج الإسلام، الدين الخاتم الذي ارتضاه الله لنا وللبشرية جمعاء، بينما كان زميله النيهوم يردد مقولات الفرق الباطنية.
أهم مؤلفاته:
- ظاهرة النفاق في إطار الموازين الإسلامية.
- ديوان شعر.
- تحقيق كتاب (أجوبة ابن خلفون).
- من هم الإباضية؟
- الحضارة الغربية وموقفها من الإسلام والعالم الإسلامي.
- فصول من الجد الهازل (نقد الشعر الحديث).
- رمز أم غمز في القرآن؟ (رد على كتابات صادق النيهوم).
- كلمات للثورة.
- وغيرها من البحوث والمقالات والندوات والمحاضرات.
نماذج من شعره:
بعد سجنه لمدة سنتين، طُلب منه أن يغادر الوطن إلى اليابان سنة 1979م، فكانت هذه الأبيات:
- والدار ذات أحاديثٍ وأخبارِ
يا دار أمسيت بالأحزان غامرةً
- تهدي همومك من دار إلى دارِ
نفسي الفداء لأرض عشت محنتها
- ثم ارتحلت وحيدًا غير مختارِ
مبدَّد الحول لا زاد ولا أملٌ
- إلا علالات أفكار وأشعارِ
أنى ارتحلت فإن القلب يعطفني
- إلى الأحبة في شوق وإصرارِ
بالأمس كنتَ عرينَ المجدِ يا وطني وتدرج الفضل في سهل وأوعارِ
رفعت ألوية للفخر عاليةً
- وصغتَ آثار مجدٍ أيَّ آثارِ
وأمهرتْ أرضك الأبطال من دمها
- تسخو به بين أنجاد وأغوارِ
واليوم لا شيء غير الحزن يا وطني
- وغير أناتِ أطيار لأطيارِ
وله قصيدة بعنوان: «يا ليلة العيد» نذكر منها:
حُمّ القضاء وسُدت دونك الطرقُ
- وغصَّ بالغيم في أجوائك الأفقُ
وبدد السحب إعصار الهموم فلم
- يجد عليك بها طل ولا غدقُ
كنا نؤمل فجرًا مشرقًا غده
- فقد أطل كئيبًا بعده الشفقُ
ما كنتُ أحسب أن الحزن يغمرنا
- وأننا بعد طيب العيش نفترقُ
وأن دهرًا أمنَّا من حوادثه
- جاءت بوادره كالسيف يمتشقُ
ذابت نعال أحبائي ورفقتهم
- من الطواف وغصَّت منهم الطرقُ
طافوا على كعبة السلطان في أمل
- ويمموا بابه الموصود واستبقوا
قد أدمنوا قرع أبواب الرجاء وقد
- كلّت أكفهمُ من طول ما طرقوا
ولا مجيب فما بالدار من أحد
- فالظلم يغمرها والطيش والنزقُ
كنا نظن بهم خيرًا فقد حبسوا
- ما نرتجيه فهم بالشر قد سبقوا
نفسي فداء أحبائي فقد عصفت
- بهم وبي خلجات كلها حرقُ
أنا هنا رهن قضبان تقيدني
- قلبي حزين وجفني غائم شرقُ
وهمُ على البعد في قيد يكبلهم
- من شوقهم ودموع العين تأتلقُ
نذوب شوقًا وحزنًا لا رجاء لنا
- إلا إلى الله يرفو بعض ما فتقوا
يا ليلة العيد كم أقررتِ مضطربًا
- لكن حظ بنيّ الحزن والأرقُ
ما كنت أحسب أن العيد يطرُقنا
- والقيد في الرسغ والأبواب تصطفقُ
وبعد السجن والإبعاد قرر أن يترك العمل الجامعي، ويهجر التدريس، ويهجر المدن، ويزاول مهنة رعي الأغنام، حيث اشترى قطيعًا من الأغنام يرعاه خارج المدن، يقول:
يكفي أباكِ لكي يعيش مكرمًا
- عجفاء ثاغية وتيس أجربُ
ونعيش في قنن الجبال تظلنا
- ويحيطنا بالحفظ قفر سبسبُ
جيراننا وحش الفلاة فلا يرى
- فيها سوى سبع يسيح وثعلبُ
وهناك لا نخشى سوى ذئب الغضا
- يعدو على تلك الشياه فينهبُ
والوحش وحش لا يلام لبطشه
- هو في طبيعته يغير ويغصبُ
فلقد نعيش هناك عيشة هانئ
- ولقد يسالمنا الشجاع المرعبُ
معرفتي به:
عرفت الأخ الداعية الدكتور عمرو خليفة النامي من خلال زملائه بجامعة كامبردج حين زرتهم ببريطانيا وهم الإخوة الدكاترة: أحمد محمد العسال من مصر، وحسن عبدالحميد صالح من فلسطين، ومبارك سعود العبيدي من الكويت، وكلهم من دعاة الإخوان المسلمين ببريطانيا.
لقد حدثني هؤلاء الإخوة عن شخصية الأخ عمرو النامي وما يتميّز به من أخلاق عالية وحسن معاملة، ونبوغ علمي، وإتقان للغة الإنجليزية، وفقه دعوي ونشاط طلابي واجتماعي، وقدرة حوارية مع الآخرين، وتمسّك بالدين، وصلابة في المواقف، مما حبّبني به، ورغّبني في الاجتماع به، وكان ما تمنّيت، فقد سعدتُ به بالكويت وزارني في بيتي، ووجدت فيه من الصفات أكثر مما سمعتُ، وبخاصة التزامه بالإسلام، وضرورة العمل الجماعي، وارتباطه الحركي بجماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها الصورة الصادقة عن الإسلام في هذا العصر، والتي أثبتت جدارتها وكفاءتها وصلابة مواقفها في مواجهة الطغاة وتحدي الباطل، واستعصاءها على الذوبان وعدم خضوعها لمطالب السلطان، رغم التضحيات الجسام التي قدمتها من رجالها وقادتها في ميادين المعارك في فلسطين، وقناة السويس، وسجون الطغاة، وعلى أعواد المشانق.
فلم تلن قناتها، ولم يهتزّ اقتناعها، بل صبرت وصابرت، وثبتت على مواقفها، واستمرت في عطائها وتتابعت الأجيال في مسيرتها، كلٌّ يسلم الراية إلى من بعده مرفوعة شامخة واضحة بيِّنة لا لبس فيها، ولا غموض، لأنها مستمدة من مشكاة الكتاب والسنَّة، وما أجمع عليه سلف الأمة. ولأنها صدى لدعوة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وامتداد لقافلة الدعاة إلى الله من عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا ما كان يبحث عنه الدكتور عمرو النامي حين ذهب إلى مصر سنة 1962م بعد تخرجه في الجامعة الليبية التي استفاد فيها من أستاذه الدكتور محمد محمد حسين. وعندما توجه إلى بريطانيا لنيل شهادة الدكتوراه، وجد ضالته في الإخوان المسلمين الدارسين في كامبردج فسار وإياهم في طريق الدعوة إلى الله، والعمل لخدمة الإسلام والمسلمين، واستئناف الحياة الإسلامية، وجمع الناس على كلمة التوحيد وتربيتهم على مبادئ الإسلام.
والحق يقال: إن الأخ عمرو النامي صورة صادقة عن المسلم العامل، والداعية المجاهد الذي لا يكل ولا يمل من العمل الدءوب في الدعوة الفردية والمحاضرات والندوات والحوارات، وتقديم الصورة المشرقة المضيئة عن الإسلام، وعن الدعاة العاملين في هذا العصر.
ومما زاد من تأثيره وإعجاب الآخرين به، هذا الشعور الفيّاض، والعاطفة الصادقة، والبيان السهل، والمنطق العذب الذي يظهر في كلماته وحواراته ومحاضراته وأشعاره، فقد كان يأسر القلوب بأسلوبه وعاطفته وصدق كلماته وصراحته وقوة بيانه.
وتلك هي الصفات التي وجدتها فيه وشدتني إليه، رغم تواضعه الجمّ، واعتبار نفسه من التلامذة في ركب كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة، رغم المواصفات القيادية التي تؤهله للصدارة في أكثر من ميدان.
من أقواله:
«إن مهمة الجيش في الثورة هي مهمة استثنائية محدودة، يعقبها تسليم السلطة إلى الشعب، وهو الذي يختار أسلوب حياته السياسي والاجتماعي في الفترة القادمة، وإن الاتجاهات القائمة في البلاد كالقوميين العرب، والبعثيين، والناصريين، والشيوعيين، والإسلاميين، هي تجمعات غالب الظن أنها لن تتخلى عن اتجاهاتها القائمة، بل ستستمر في ارتباطاتها بهذه الاتجاهات والدعوة إليها، ونحن نعتقد أن لها جميعًا حقًا كاملاً في اعتناق أفكارها، وعرضها في نطاق الأخلاق العامة للشعب، بعيدًا عن التراشق بالتهم، والكذب والإرجاف، ويجب أن تتاح الفرصة الكاملة لهذه التجمعات للتعبير عن أفكارها، وعرضها بكل الصور المشروعة التي تختارها.
إن الإسلام هو الأصل، وهو الأساس في إحداث الإصلاح المنشود في ليبيا، فلا توجد في ليبيا عقيدة غير عقيدة الإسلام».
قالوا عنه:
يقول عنه الأستاذ محمود محمد الناكوع:
«هو مثقف واسع الاطلاع، داعية للحرية، منافح عن الثقافة الإسلامية، يتمتع بذكاء أهله لدرجة المتفوقين في الدراسات الأدبية العليا، تخرج في الجامعة الليبية سنة 1962م بقسم اللغة العربية، ثم ذهب إلى بريطانيا للدراسات العليا، وتخرج في جامعة كامبردج سنة 1971م، بعد أن تعذّر عليه البقاء بمصر بسبب أحداث سنة 1965م، واعتقالات الإخوان المسلمين وعلى رأسهم سيد قطب، فكانت بعثته إلى بريطانيا بجهود مدير الجامعة الليبية آنذاك مصطفى بعيّو الذي قدّر ظروف عمرو النامي وساعده بتحويل بعثته إلى بريطانيا بدل مصر.
لقد كان الدكتور محمد محمد حسين شديد الإعجاب بذكاء عمرو النامي، فاهتم به وشجعه على المضي في طريق البحث والدراسة حتى يصبح أستاذًا جامعيًا، وجمعت بين الأستاذ وتلميذه رابطة المنطلق والتوجه الإسلامي.
وفي صيف سنة 1971م عاد من بريطانيا إلى ليبيا ليحقق حلمه، وليقف على منابر الفكر والعلم كاتبًا وشاعرًا وأستاذًا جامعيًا، وبدل أن تفتح أمامه أبواب هذه المنابر، استقبلته مراكز الشرطة، وغرف التحقيق، ومنها إلى المعتقل، ثم أفرج عنه بعدها. وفي سنة 1973م جرت اعتقالات موسّعة تحت شعارات «الثورة الثقافية»، و«من تحزّب خان» و«الثورة الإدارية»، وكان عمرو النامي واحدًا من مئات المعتقلين من المثقفين والطلبة، وكنتُ أنا أحد المعتقلين في السجن الذي دام قرابة سنتين، وبعد الإفراج عنه، طُلب منه أن يغادر البلاد إلى اليابان، ولأنه شديد الحب لوطنه ولأهله ولمرابع طفولته وشبابه وذكرياته، لم يطق حياة الاغتراب، فعاد إلى البلاد، هاجرًا العلم والتدريس إلى مهنة رعي الأغنام بعيدًا عن منكرات السياسة، وفوجئ مرة ثالثة بأبواب السجن تفتح أمامه سنة 1981م، وانقطعت أخباره عن أهله وأصدقائه منذ سنة 1984م ولا يعرف مصيره حتى الآن».
ويقول عنه الأستاذ سلطان بن مبارك الشيباني:
«إن الدكتور عمرو خليفة النامي رجل مناضل، ذهب ضحية فكره الإسلامي، ورؤاه الأصيلة، وإخلاصه في الدعوة، وهو باحث أديب، ومفكر إسلامي من ليبيا، وطئت أقدامه أرض مصر والسعودية والكويت وتونس والجزائر والمغرب وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والهند واليابان والفلبين وماليزيا، وجاب شرق المعمورة وغربها، داعيًا إلى الله بما عنده، من دماثة في الخلق، وحسن في التعامل، وإتقان للغة الإنجليزية.
وارتبط بعلاقات عدة مع معاصريه، وساعدته سنوات الدراسة في جامعة كامبردج على الخصوص في تكوين صلات متنوعة مع أهل العلم وأرباب الفكر وروّاد الحركات الإسلامية من مختلف الأجناس واللغات والقارات.
وقد ترك أثرًا طيبًا في الأوساط الإسلامية، وقدم خدمات جليلة للحركة الإسلامية، لا سيما في الميدان الطلابي والشبابي الإسلامي، وكانت له مشاركة في إحياء بعض المؤسسات الاجتماعية الخيرية ودعمها، كما كان عضوًا فعالاً في جماعة الإخوان المسلمين وعضوًا مؤسسًا ونشيطًا في دار الدعوة بليبيا.
أما آثاره فتنوعت بين تأليف وتحقيق وتقديم، ومع أنه ألفها في ظروف صعبة، فقد جاوزت العشرين، وكتب مقالات كثيرة نشرت في الصحف الليبية وغيرها، كما ترك مراسلات متعددة، وقصائد وأشعارًا لو جمعت لكوَّنت ديوانًا.
وقد قضى خمسة عشر عامًا بعد تخرجه إما مضطهدًا ملاحقًا في بلاده من مراكز الشرطة إلى غرفات التحقيق ومنها إلى زنازين السجون والمعتقلات، أو منفيًا مغرَّبًا عن أهله ووطنه رغمًا عنه.
وكان آخر صدى لذكره سنة 1404ه/ 1984م عندما نقل إلى سجن خاص، وانقطعت أخباره وعزل عن العالم في مصير مجهول لا يدرك مداه سوى الله سبحانه وتعالى».
وفاته:
في النظم الدكتاتورية كثيرًا ما يُعتقل الأشخاص ويغيّبون في أقباء السجون لسنين طويلة، دون أن يُعلم عنهم شيء، وكثيرون منهم يفارقون الحياة تحت سياط التعذيب، ويدفنون في الرمال، دون الإخبار عن وفاتهم، وهذا ما حصل للأخ المجاهد الداعية الدكتور عمرو خليفة النامي الذي اختفت آثاره بعد سجنه، وانقطعت أخباره من سنة 1984م.
نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يدخله جنته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، والحمد لله رب العالمين.
علامة المغرب .. الأديب عبد الله كنون
مولده ونشأته:
ولد عبد الله بن عبد الحمد كنون في مدينة فاس بالمغرب سنة 1908م، ونشأ في أسرة مباركة ذات مجد علمي مشهور، فوالده ممن اشتهروا بالتأليف العلمي، وكان له ندوة بمنزله رآها الطفل الصغير، وتأثر بملابساتها، وجده من كبار أساتذة جامعة القرويين، وحين وقع الاستعمار الغربي البغيض على البلاد كالليل الحالك، هاجر الوالد بأسرته من فاس؛ لأن الفرنسيين قد تعقبوا المجاهدين بها تعقبًا ظالمًا، فقتلوا بعضًا، والشيخ الكبير يحب الهدوء بعد حياة طويلة من الكفاح، فهاجر إلى "طنجة"؛ إذ كان له بها نسب قريب، وهي مدينة هادئة لا تترصدها أفاعي المستعمرين.
وفي جو المدينة الهادئ استطاع الصبي الناشئ أن يجد مجالاً للتربية والثقافة، وكان والده حريصًا على أن يورثه علمًا وتأليفًا، فقدر الله أن يرثه ويفوقه، وقد دفعته حماسة الشباب إلى الكتابة مبكرًا في الصحف، ورحبت المجلات شرقًا وغربًا بإنتاجه الفكري، وكانت مجلة الرسالة - وهي في صدر المجلات الأدبية بالشرق العربي - تحتضن آثاره، وهو في مقتبل عمره؛ لأن حديثه بها عن المتنبي دل على نضوج فكري ملموس!
والرسالة لا تشجع الضعيف، ولا تتجاهل القوي، فكان نشرها مقالات الأديب الناهض "كنون" شهادة علمية بارتقائه، وقد أمدته بثقة تدفعه للأمام، ثم تخطفته المناصب العلمية والسياسية معًا، إذ صار مدرسًا بإحدى الكليات التابعة لجامعة القرويين، فرأى فيه التلاميذ مثلاً جديدًا للمدرس المثقف، حين يمزج العلم بالأدب، وينزل إلى مستوى الطلاب، بعيدًا عن غموض الشروح، وثقل الحواشي، وضيق المتون، وكانت صحيفة (الميثاق) المغربية لسان حال جماعة العلماء بالقرويين، فتصدر للكتابة بها، وانتخب رئيسًا لرابطة علماء المغرب على حداثة سنه وعضوًا بمجلس إدارة الجامعة، وعضوًا بالمجلس الأعلى للتخطيط، وسما به الحظ، فكان حاكمًا لطنجة، فقاضيًا كبيرًا، فوزيرًا ناهضًا.. وذلك لم يأت إليه من فراغ، بل بجد متواصل وعمل دائب كان موضع التقدير.
كان حاكمًا لبعض الأقاليم، فقاضيًا لعدة محاكم، فوزيرًا لبعض الوزارات، فرئيسًا لجمعية العلماء القرويين، كل هذه المناصب ذات أعباء شديدة في التنفيذ الفعلي، ولا تقف عند النصح الكتابي.
وجامعة القرويين هي مصدر الأمل المترقب حين تعد أبناءها ليكونوا حملة المشاعل في دياجير الغياهب، والأستاذ عضو بمجلس إدارتها، ورئيس لتحرير صحيفة (الميثاق) التي تنطق بلسان علماء المغرب، وقد درس تاريخ الجامعة دراسة مستوفاة، عرف ماضيها وحاضرها، وأدرك ما بهما من المحاسن والمآخذ، ففي الماضي أوجدت جامعة القرويين أئمة وقفوا أنفسهم على خدمة الشريعة وعلوم اللسان، وطافت لهم شهرة في جميع الآفاق، وقد ألم الأستاذ بشذور من أعمالهم الثقافية فيما كتبه من مقالات تحت عنوان "ماضي القرويين وحاضرها" نشرت بالمجلد السادس من مجلة الرسالة سنة 1938م، وقام الأستاذ بتلخيصها في كتاب "التعاشيب"، وإذا كان اهتمام الجامعة بعلوم الشريعة وعلوم العربية مما لاشك فيه، فإن دراسة العلوم الفلسفية بها كانت في حاجة إلى إضاءة نيرة انبعثت من مشعل الأستاذ حين تحدث عن انضمام الأندلس إلى المغرب في أيام المرابطين، فوجد من أساتذة الأندلس من قاموا بالنشاط الفلسفي على أحسن وجه.
تزوج، ولم ينجب، ووقف خزانة كتبه على مدينة طنجة، وكان من أعضاء مجامع اللغة العربية بدمشق والقاهرة وعمان والمجمع العلمي العراقي.
معرفتي به:
عرفته من خلال د. تقي الدين الهلالي - زميله في إصدار مجلة لسان الدين في طنجة الدولية، ومن خلال مراسلتي له من سنة 1946م، ثم التقيته في المغرب أثناء زيارتي لها، حيث كانت أحاديث ومحاولات ذات شجون خرجت بفوائد جمة.
يقول "د. محمد رجب البيومي": لقد تعددت رحلات "الأستاذ كنون" إلى "القاهرة"، ليلقي في مؤتمراتها العلمية بحوثه الرصينة، فكان ما يختاره من هذه البحوث ذا صلة حميمة بالمغرب ورجاله، وأذكر أنه في أول مؤتمر شهده لمجمع اللغة العربية قد جعل موضوع حديثه "أثر المغرب في العلم واللغة"، وهو موضوع يحتاج إلى كتاب مستقل لا إلى بحث يلقى في مؤتمر علمي، ولكن الأستاذ كنون قد اصطفى من العناصر العلمية ما يشبع السامع ويقنعه مادة وتعبيرًا، فقد أعلن أنه باختياره هذا الموضوع يؤدي واجب التعريف ببلاده ذات المجد الحافل، وبعد أن أفاض في ذكر التقدم الحضاري في المغرب الحديث والقديم قال: "وباستطاعتكم، أيها الزملاء الكرام، أن تذهبوا معي إلى بلادكم المغرب فتشاهدوا بأم العين معالم هذه الحضارة ماثلة أمامكم في أسلوب البناء، وفن المعمار وما يزينه من: زخارف، ونقوش، وتوريق، وتذهيب، وتطعيم".
من مؤلفاته:
- النبوغ المغربي في الأدب العربي.
- ذكريات ومشاهير رجال المغرب.
- أمراؤنا الشعراء.
- أدب الفقهاء.
- نظرة في منجد الآداب والعلوم.
- القاضي عياض بين العلم والأدب.
- الجيش المجلب على المدهش المطرب.
- أزهار برية.
- أشداء وأنداء، ديواناه: "لوحات شعرية.. إيقاعات الهموم".
- مدخل إلى تاريخ المغرب.
- تفسير سورة يس.
- الإسلام أهدى.
- شرح قصيدة الشمقمقية لابن الونان.
- شرح مقصورة المكودي.
ومن التحقيق:
- رسائل سعدية.
- قواعد الإسلام للقاضي عياض.
- ديوان ملك غرناطة يوسف الثالث.
- عجالة المبتدي وفضالة المنتهي في النسب للحازمي.
- التيسير في صناع التفسير لأبي بكر الإشبيلي.
- أخبار الصغار لمحمد بن مخلد الدوري.
- المنتخب من شعر زاكور.
نماذج من شعره:
إيه أبناء فلسطين لقد
- خضتمُ لج المنيات عيانَا
واقتحمتم جحيم الموت فلم
- تأتلوا فيه ضرابًا وطعانَا
صبرًا ليس يبالي واحدٌ
- بألوف من علوج تتدانَا
عُزَّلاً إلا من العزم الذي
- رد نيرانًا تحاكي الجنانَا
غدر اليهود
أضفناهم فكانوا شر ضيفٍ
- يجازي بالعداوة والملامِ
وأنقذناهمُ من ضنك عيشِ
- فجاءونا بذلّ واهتضامِ
همُ أغروا علينا كل عادٍ
- وكادونا بدسّ وانتقامِ
همُ دلوا على العورات منا
- فيا لله من غدر اللئامِ
من مواقفه:
ومن أعظم مواقفه البارزة صيحته العالية في وجوه من أرادوا القضاء على جامعة القرويين سنة 1957م، بحجة اندماج التعليم الديني في التعليم العام، وكان الأستاذ ملمًا بما يدبر للجامعات الإسلامية في المغرب ومصر وتونس والعراق من تدمير يأخذ مأخذ الإصلاح، فظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، وقد تابع ما أريد بالأزهر من هذا الدمج.
عرف الأستاذ كنون هدفه منذ بدأ يفهم التيارات المتصارعة في وطنه، هذا الهدف الواضح بعينه، هو ازدهار المجد الإسلامي في حاضره كما كان مؤتلقًا في الماضي، والماضي بأعلامه وأحداثه وانتصاراته شيء مجسم حتى في نفس الأستاذ، ووسيلة إعادته هي التربية الدينية القويمة، التي تنشئ الشبيبة على إحياء المجد المندثر، وإعادة الاستقلال الغابر.
من أقواله:
(ومن رسل الثقافة العلمية من أهل الأندلس إلى المغرب "أبو بكر بن باجة"، الفيلسوف والعالم الطبيعي والرياضي الطبيب، ومنهم أبو العلاء بن زهر، الطبيب البارع المدقق في تشريح الأمراض، وابنه أبو مروان صاحب كتاب "التيسير في المداواة والتدبير").
وفرنسا قد مضت على فرنسة التعليم منذ نزلت هذه البلاد، ولكنها لم تقدر على أن تخلق هذه الأزمة؛ لأن الشعب المغربي جد متمسك بعربيته، ويقدمها في الطلب على كل لغة أخرى، كما أن عامية المغرب هي أقرب اللهجات إلى الفصحى لكثرة ما تشتمل عليه من الكلمات الفصيحة، وهي لا تزال محتفظة بتصاريف الأفعال، ومراعية الفرق بين المذكر والمؤنث وما إلى ذلك، وقد سلم المغرب من ذلك التسلط الأعجمي - بالنسبة لدولة عربية أخرى - وبقي محتفظًا بصيغته العربية، وزاده قربه من الأندلس استعرابًا وشدة تمكن من العربية، إذًا فليس في المغرب أزمة لغة.
نظام الحكم في الإسلام يجب على كتابنا ألا يهينوه بمحاولة تنظيره بهذه الديمقراطية الكاذبة، هذه البطن المنهومة التي لا يكسر جوعتها حلال ولا حرام، هذه المحكمة التي لا ضمير لها إلا الرشوة والتزوير ولا قانون إلا الميز والمحاباة. فأين منها المساواة التي جاء بها الإسلام في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13)"؟!، وإذا كان الإسلام كما هو دين فوق الأديان، فمدنيته فوق المدنيات، ومع الأسف فإن كتاب هذه المدنية لم يكتب منه ولا فصل واحد.
ويقول: (على الكُتَّاب أن يعرفوا مهمتهم وأن يفرقوا بين الجواهر والأعراض والدرر والأصداف، وأن يقوموا بهذا الدين الحنيف بالدعوة اللازمة، ويشيدوا بأغراضه السامية ومثله العليا، ويفهموا العالم أن مدنيته هي مدنية المبادئ الفاضلة والقيم العليا والنزوع بالنوع الإنساني إلى الكمال النفسي والخلقي وإهدار الفوارق الجنسية والعنصرية، وإيثار الخير العام على المصلحة الخاصة".
الغرب يدعو إلى الديمقراطية، ولكن ليسخرها لمصالحه على حساب الشعوب الضعيفة،... "فالديمقراطية اسم خلاب فيه جاذبية وله سر تهفو إليه النفوس. لقد خدمته الدعاية إبان الحرب حتى جعلته هوى كل نفس ومطلب كل الشعوب هي فكرة عالية". وهي بضاعة رابحة ولكنها لا تصدر للخارج كما قال جلادستون: "الديمقراطية موجودة والديمقراطيون معدومون، فهل كساد القمح الأمريكي سيكون على يد حكومة برويتوريا الرجعية؟!" إنها مبارزة بين الفيل والنملة. واللون الثاني هو الذي تنهجه نفس هذه الدولة الديمقراطية ضد العرب الفلسطينيين، وهو موقف المناصرة والدعم وسكوت الديمقراطيين في الكونجرس عن ذلك التنكيل والتقتيل والتشريد الذي تمارسه إسرائيل على الفلسطينيين وتعترض أمريكا في مجلس الأمن على كل مشروع يدعو إلى إنصاف الفلسطينيين وعودتهم إلى بلادهم).
ويقول: "إن الإسلام أجل وأرفع مما يدعون ويحكمون، ولن يذوب في الديمقراطية ولا في الاشتراكية ولا في أية أيديولوجية أخرى، وستظل هذه المذاهب تتأرجح بين الدعاية البراقة والتجربة الفاشلة، والإسلام هو الإسلام بمبادئه الخالدة وتعاليمه السامية وعدم اندفاعه في يمين ولا يسار؛ رعاية للمصلحة العامة وقيامًا بدور الريادة التي جعلها الله لمعتنقيه.
لماذا كانت هذه الأنظمة غير صالحة؟ لأنها في ميدان المقارنة بينها وبين الإسلام لا تقيم ميزان العدل ولا تخطط لسعادة المجتمع، وإن زعمت أنها شعبية ديمقراطية تستمد سلطتها من المواطنين الذين تحكمهم، فهي تستخدم هذه السلطة في تدعيم نفوذ الأحزاب التي تحكم باسمها وتطبيق برامج مخالفة، وبقية المواطنين الأحرار لا يرضون على هؤلاء ولا أولئك، فالكلمة الفصل في حكومات أكثر الدول القائمة أنها نقضت العقد الاجتماعي المبرم بينها وبين شعوبها حسبما تقتضي نظرية الحكم الديمقراطي والمبني على غاية مصالح الأفراد والجماعات والحفاظ على حريتها.
ولاشك أن ما تعانيه الشعوب الإسلامية من تمزق وانفصام وعدم استقامة أمورها على نهج واحد من اليقظة والتحرر والسيادة، إنما هو نيتجة هذا التقليد الأعمى والتبعية المفروضة عليها من لدن الزعماء والحكام، الذين ملأ قلوبهم الإيمان بالأجانب والمذاهب المستوردة من الخارج، فتبنوها من غير تفكير في عدم ملاءمتها لشعوبهم والتفكك الذي أحدثته في صفوف الأمة ونزع الثقة من قادتها.
إن السياسة في الإسلام أصل تنبني عليه سائر أحكامه، وهو أمر مما تميز به عن الأديان الأخرى. فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان نبيًا وكان رئيس دولة، ولم يكن كذلك موسى ولا عيسى - عليهما السلام - وأمره الله (عز وجل) وهو نبي يوحى إليه بمشاورة أصحابه في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159)، وقال تعالى مخبرًا عن حال المسلمين في تدبير شؤونهم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشُّورى: 38).
إن أعظم سبب في اضطراب الأحوال السياسية في بلاد المسلمين هو إبعاد علماء الإسلام عن حوزة الحكم ممارسة ومشاورة، فمن ذلك صارت سياسة الحكومات الإسلامية تابعة لسياسة الأجانب، ودخلت الربويات وما إليها اقتصاد المسلمين وانهار المجتمع الإسلامي تربويًا وأخلاقيًا، وظهر التمرد على الشعائر والانتهاك للحرمات في سلوك الجيل الجديد من أبناء المسلمين وتصرفاته.
إن الإسلام آخذ في الانتشار، وإن في العالم الإسلامي اليوم مدًا كبيرًا وقوة شعبية هائلة، تقول بالرجوع إلى الإسلام من جديد، ويضرب المثل بمقاومة الشيوعية في إندونيسيا، وردود الفعل القوية ضد العلمانية في تركيا، وهذا الوضع إن دل على شيء فإنما يدل على أن الإسلام قوة لا تقهر، وأن كل المخططات التي وضعت للقضاء عليه قد ذهبت أدراج الرياح وظهر خبيئها للعيان.
قالوا عنه:
يقول أمير البيان شكيب أرسلان - بعد قراءة موسوعة النبوغ المغربي -: "كنت أعد نفسي من المشارقة، الرجل الذي اطلع أكثر من غيره على تاريخ المغرب وأهله، وبعد أن طالعت هذا الكتاب كأني لم أعلم عن المغرب قليلاً ولا كثيرًا، وكدت أقول: إن من لم يطلع على هذا الكتاب لا حق له أن يدعي في تاريخ المغرب الأدبي علمًا، ولا أن يصدر في حركاته الفكرية حكمًا".
ويقول الدكتور محمد رجب البيومي: إن قارئ المجلات الأدبية والعلمية في مصر والشام وغيرها من ربوع الشرق يطالع اسم الأستاذ عبد الله كنون بين كبار الكتاب؛ لأنه دأب على قراءة ما يصدر في الجناح الشرقي قراءة المشارك المسهم بآثاره ناقدًا أو مبدعًا، حتى إنه يستدرك على الأستاذ محمد سعيد العريان بعض ما فاته في كتابه عن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، والعريان تلميذ الرافعي وكان موضع سره ونجواه بضع سنوات، وقد نهض لكتابة تاريخ الأديب الكبير عقب رحيله وفاءً بحق التلمذة البارة بالأبوة الحانية، فإذا جاء الأستاذ عبد الله كنون من طنجة يستدرك بعض ما فات المريد اللاصق، فمعنى ذلك أنه ملم بكل ما يتعلق بالرافعي - يرحمه الله.
كما أن مناقشاته الكثيرة لكبار الأدباء في مصر والشام والعراق تنبئ عن تتبع يقظ، وهو من الجراءة الأدبية العاقلة بحيث يحوز إعجاب قارئه مهما خالفه في منحاه، ولقد أتيح لي أن أقابل الأستاذ عبد الله كنون بالقاهرة عند انعقاد المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1964م، فعرفته من زيه المغربي، وهرعت لأسلم عليه متشوقًا، إذ كنت من قرائه ومتتبعي آثاره في شتى المدن العربية. فوجدت من كرم اللقاء وسعة الصدر ما أكبرته، بل لمست من تواضعه العلي حقيقة نبيلة تنبئ عن صدقه. وقد اختار موضوع (الملكية الفردية في الإسلام)، حيث ذكر النصوص الدالة على تشجيع العمل وتأمين جهود العاملين ضمن ملكية الأفراد والجماعات، وتحدث عن البذل السمح في عصر النبوة وما تلاه، وأكد أن سياسة الإسلام في الأموال مبنية على أصل أصيل من حرية المعاملة ورفع الحرج عن الناس، ثم ألم بفريضة الزكاة ووجوب مراعاة حق الفقير بها، مقارنًا بين مواقف أبي بكر وعمر وعثمان، جاعلاً لكل موقف أسبابه ومبرراته، ثم كر على من يذهبون إلى شيوعية الأموال، ففند شبههم، مؤكدًا أن مال الدولة حق مفروض ينال منه الجميع. وفي سنة 1965م شارك أيضًا في مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بمصر بموضوع (الرق في الإسلام).
يقول د. عبد الكريم غلاب:
يكفي أن تذكر اسم "عبد الله كنون" في مشرق الوطن العربي أو مغربه لتتداعى صورة الرجل كما أودعها الله ذاته وعقله وأدبه ووقاره وجلاله، دون أن تخطئه العين أو الفكر أو القلب جميعًا. فقد كان عبد الله كنون متكامل الشخصية، يؤكد وجهه البشوش المبتسم دائمًا، ومنطقه العذب بلثغة "الراء" كأحلى ما تكون "الراء" في مفردات العلم والأدب، وفكره النير، وقوة شخصيته، وعلمه الواسع، وأدبه الجم، وقلمه النابض بالحياة، والتزامه الوطني في البحث والأدب والعلم على السواء.
عرفته مبكرًا، وودعته متأخرًا، وبين المعرفة والوداع لم ألبث على صحبة معه، على بعد الدارين أحيانًا، وعلى غير معرفة شخصية في بداية الطريق، وعلى صلة قريبة وحميمة في نهايته.
يناقش قضايا الفكر والأدب، قضايا الإسلام والعقيدة، قضايا علوم الإسلام قرآنية وحديثية وفقهية، قضايا التاريخ - تاريخ المغرب على الأخص - يحلي حديثه بنوادر الفقهاء والعلماء ورجال السياسة والحكم، ينقلك من الماضي إلى الحاضر ليؤكد الفكرة المستقبلية التي يريد أن يصل إليها، كثيرًا ما يتحدث بأسلوب العلماء في طرح القضايا والبرهنة عليها. ولكنه مجادل من طراز علماء الأصول، ولو كان حديثه أدبيًا أو تاريخيًا أو إسلاميًا. وحينما يجادل لا يشعرك بأنه أمام خصم بمقدار ما يشعرك بأنه أمام فكرة أو نظرية يريد أن يصل إليها. غير أن الغضب يدلف أحيانًا إلى ثنايا كلماته حينما يجادل في قضايا تمس الإسلام أو تمس الوطن. وقد شهدت رحاب أكاديمية المملكة المغربية مواقف صارمة وتاريخية له حينما كان يقتضي الأمر أن يصحح مفاهيم إسلامية أو يرد على مغالطات كنيسية، أو يؤكد موقف الإسلام من قضايا معاصرة، كان ينضو عنه سهامه ويقف الموقف الصارم ليجادل أو يصحح أو يرد الكيد).
ويقول د. عبد الصمد العشاب:
الأستاذ عبد الله كنون أحد أعلام السلفية في المغرب المعاصر، ولد سنة 1908م، وتوفاه الله إليه عام 1989م، وعاش فيما كتب الله له من عمر مخلصًا للعلم والبحث والكتابة الجادة المفيدة، وقد خلف عددًا من الكتب في المناحي التي برز فيها وكانت هي الغالبة عليه في كل ما بحث فيه ونشره:
- تاريخ المغرب والأندلس وأدبهما.
- اللغة العربية ووسائل النهوض بها والمحافظة عليها.
- الأدب العربي ووسائل تطويره.
- الإسلام والدعوة إليه ورد الشبهات حوله ومناقشة الآراء التي تحاول ربط الإسلام بالمذاهب الوضعية الأخرى، ولاسيما المذاهب التي سادت في العالم بعد الحربين الكونيتين، وعلى الخصوص الديمقراطية والاشتراكية والشيوعية.
فقد ظهر من المفكرين المسلمين من حاول ربط الإسلام بأحد هذه المذاهب وتقريبه منها وعقد مقارنة بين مبادئه وأسسه وبينها. فشاع إطلاق مثل هذه العبارات: "الإسلام الديمقراطي، والإسلام الاشتراكي، والشيوعية الإسلامية"، بل صار بعض الباحثين يختار نماذج من الصاحبة والتابعين ليدلل بهم على أصول للمذهب الشيوعي موجودة في حياة المسلمين. كل هذا ليتقربوا من هذه المذاهب التي فتنت الناس ولكنها فشلت في إبقائهم مفتونين، فلا الشيوعية استطاعت الصمود، ولا الاشتراكية طبقت منهج العدل ولبت طموحات الأفراد والجماعات، ولا الديمقراطية ساوت بين الطبقات وعملت على محو الفروق.
من هنا فإن الإسلام لا يمكن أن يقارن بأي مذهب أيديولوجي أيًا كان لأنه دين سماوي متكامل لا يتجزأ، وقد عني الأستاذ عبد الله كنون كغيره من العلماء المنافحين عن شريعة الإسلام بالحديث عن الديمقراطية كمذهب، وردها إلى أصولها اليونانية، وتحليل مضامينها كنظام من أنظمة الحكم التي تأخذ بها بعض الشعوب، ولكنها لا يمكن أن تكون مقارنة بالإسلام؛ لأن الإسلام كل لا يتجزأ.
وفاته:
وقد لبى نداء ربه في يوليو سنة 1989م، في حين كان مولده 1908م، فعاش عمرًا سعيدًا بالعمل، حافلاً بالجهاد، وترك آثارًا شاهدة يقرؤها الدارسون في ثقة وإعجاب، وله منهم الثناء الحافل، ومن الله جزيل الثواب.
الطبيب المفكر د. المهدي بن عبود
مولده ونشأته:
ولد سنة 1919م بسلا بضاحية مدينة الرباط، عاصمة المغرب، حيث قضى طفولته الأولى، وقد توفي والده وعمره سبع سنوات، فتكفلت به أمه، ثم أخوه زين العابدين الذي سهر على تربيته وتعليمه والاعتناء به، حيث اجتاز مراحل التعليم الابتدائي فالإعدادي ثم الثانوي بجد ونشاط ونبوغ متميز، وأتقن اللغات الثلاث: العربية، والفرنسية، والإنجليزية، نطقًا وكتابة، وحصل على شهادة البكالوريا، ثم التحق بالسنة التمهيدية للطب سنة 1940م، وبعدها سافر إلى فرنسا؛ لمتابعة تعليمه العالي بجامعة مونبولي، ثم انتقل إلى باريس سنة 1945م للتدرب على الجراحة، ثم تخصص في الأمراض الجلدية والتناسلية.
وفي سنة 1950م حصل على درجة الدكتوراه من جامعة باريس، وعاد إلى المغرب، وفتح عيادته الطبية بمدينة الدار البيضاء.
وقد ساهم في الحركة الوطنية والنضال من أجل استقلال المغرب وشمال أفريقيا من خلال الحزب الوطني إلى سنة 1944م، ثم في حزب الاستقلال إلى أن حصل المغرب على الاستقلال.
كما عين سنة 1966م أستاذًا بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط، حيث درس مادة علم النفس المرضي، ومادة المذاهب الفكرية المعاصرة، ومادة العقيدة الإسلامية.
مؤلفاته:
- رصد الخاطر أفكار ونظريات وخواطر (ثلاثة أجزاء):
أ - خواطر حول أزمة الحضارة المعاصرة والتطلع إلى مستقبل الإنسانية.
ب- خواطر حول مسيرة الفكر البشري أو منهاج البحث عن الحقيقة واليقين.
ج- التحدي الخلقي.
- أيها الجيل الصاعد (رواية فلسفية).
- العصر والنصر (شعر).
- الواردات (حكم وأمثال).
- متفرقات (أحاديث صحفية وإذاعية).
من أقواله:
"معلوم أن سائر الحضارات كانت تؤمن بالمادة وبالروح في آن واحد، إلا هذه الحضارة المعاصرة، فإنها مبنية على المادة وحدها، نظرًا لطغيان العقلية الصهيونية عليها، وهي عقلية السوق والربح حتى أصبح الناس يعبدون العجل من دون الله بكيفية لم يسبق لها مثيل في التاريخ، فلما تشبعت العقول والأفكار بطغيان الفكر المادي على العقول انقلبت المثل العليا إلى شيء معدوم دفع إلى الفراغ والشهوات، فصار الحرام حلالاً والحلال موضع الاستهزاء {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة: 15)، وهذه العبارة (يمدهم) تشير إلى تنقله من السيئ إلى الأسوأ حتى تقع الكارثة الماحقة التي لا يعلم غيبها وصورتها إلا الله، أتكون على صورة حرب عالمية ثالثة أم على صورة عقاب سماوي من الله مثل الذي حدث لعاد وثمود ونمرود وفرعون؟!
ثم إن هناك فرقًا بين الحكام والمحكومين، فإذا كان بأيدي الحكام أسباب القهر لشعوبهم بالحديد والنار كما فعل عبد الناصر، فإن للمحكومين إيمانهم الذي هو أقوى من الخوف والموت {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141)، إلا أن يتخلى المؤمنون عن مسؤولية الإيمان، بالاستسلام للطغيان، وحينئذ يستوي الفريقان في استحقاق العذاب، كما حدث لفرعون وأتباعه الذين قال الله فيهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (الزُّخرف: 54).
ويقول: (تربيت في بيئة مسلمة مع أب زاهد ورع قضى شهرين يبيت بالمقبرة لقهر النفس وتجريد الخوف لله... كان يجتهد ألا ينام وفي جيبه قسط من المال يوزعه على الفقراء، كان يمشي في الأسواق ليلتقي بعامة الناس، فيعلمهم الصلاة والزكاة والصيام مع أن معلوماته لم تكن تتعدى حفظ القرآن الكريم).
وعن أزمة الحضارة المعاصرة يقول: (الإنسان مفطور على حب المعرفة لتكوين نظرة عامة عن الوجود علمًا وعملاً، تربط الذات بالموضع، أي النفس بالكون، وتساعده على مسيرته من المهد إلى اللحد ككائن حر ومكرم، فلابد له من هذه النظرة الصائبة؛ حتى لا يعيش في الخيال والوهم وخداع العناوين، ولا يصير ضحية الفراغ المعنوي المؤلم بعبثه وقلقه وظلمه ودورانه المضطرب في مجال الأشباح الأيديولوجية يمينًا ويسارًا سرعان ما يتنكر لها دعاتها أنفسهم. نظرة كونية على عالم الشهادة وعالم الغيب تفرضها مشاهدة الواقع جمعًا بين الأضداد: حياة مع موت وكون مع فساد، وما إلى ذلك من سلسلة الأضداد الطويلة الغزيرة، والغاية من هذه النظرة هي طلب المعنى من جهة، والنجاة من جهة أخرى؛ حتى لا يضل ولا يشقى بما يسمى اليوم بالضمير الشقي المأساوي.
إن العمر قصير، والمطلوب عظيم، والعلم المحيط مستحيل؛ فلابد من نسق علمي مفتوح ينقذ الضمير من الخوف من المجهول. لا مفر للإنسان إطلاقًا من إظهار الحق ودمغ الباطل وتغلب العدل على الجور والظلم، وانتصار الحرية على الاستعباد وعلى الاستبداد، وتنمية قوة الإرادة العالمة العاملة لما ينفع الناس، على إرادة القوة المتعسفة العمياء المغرورة عند الغاشم الذي يجعل إِلَهَهُ هواه، ويسلك طريق الضلال على علم.
فالفرق شاسع بين قوة الإرادة عند أولي العزم من الأبرار وإرادة القوة عند أهل الطيش والغرور من الأشرار في فلسفات فاسدة ومختلة وقاسية القلب يمشي فيها الإنسان منكبًا على وجهه، ويسخر أو يمكر ويتوعد ويهدد العقل السليم الذي يمشي سويًا على صراط مستقيم. فلابد أيضًا من نسق مفتوح يجمع بين المعرفة الإنسانية والعرفان الروحي والعلم الإلهي يلم شتات الإنسان الممزق.
لا مناص للإنسان من تعلق قلبه بمثل أعلى تتضمنه نظرته إلى الوجود، ويهتدي به في حياته تلبية لطبيعته الفطرية المجبولة على ربط العقل والقلب بهدف سام يرضي داعي الحق والخير والجمال والنمو والارتقاء والعدالة والأمن، وضمان حقوق الخلق وحقوق الحق، يحقق ميوله الغريزية لحفظ الكيان وصيانة اعتدال العقل وصحة الاعتقاد وسلامة الأسرة والمجتمع، ويمكنه من الدفاع عن وسائل طيبات العيش من تغذية ومسكن وملبس وتكوين شخصية عالمة عاملة صالحة للنفس وللغير.
والإنسان إما أن يعبد الخالق الذي له المثل الأعلى، فيكون واسع الآفاق بعيد النظر على منهج الأحرار، وإما أن يعبد المخلوق مثله من البشر أو من أموال أو من جاه أو من شهوات، فينزل إلى أسفل سافلين بعد أن خلقه الله في أحسن تقويم.
إن رحى التاريخ تدور بلا انقطاع، محورها وقطبها هو الحق. فالحلال بَيِّن والحرام بَيِّن، والمعروف ما تعارفت العقول بالإجماع عليه ورضي به القلب، والمنكر ما مجته النفوس السليمة الطاهرة المطمئنة، ورفضه العقل السليم ونفرت منه الأذواق الرفيعة، وألحق الضرر بالأمة، وأخل بما ينفع الناس وتلاعب بالصالح العام).
قالوا عنه:
يقول الدكتور عبد الكريم الخطيب: (الدكتور المهدي بن عبود أحد أعمدة الفكر الإسلامي الحديث، استطاع بحنكة نادرة أن يمزج بين تخصصه في الطب والبحث عن مكامن الداء في الشخصية المسلمة المعاصرة.
وكان دائم الحرص على أن يجعل من نفسه قدوة للآخرين، لا يفتأ يرشد الشباب ويوجههم إلى ما فيه صلاح دنياهم وآخرتهم.
وعندما اندلع الكفاح من أجل الاستقلال بعد أن عهدت الأيدي الآثمة للاستعمار الفرنسي بنفي الملك محمد الخامس، كان الدكتور المهدي بن عبود في الموعد مع إخوانه المجاهدين. وقد ساهم معنا في جيش التحرير بواسع فكره وكبير عقله.
والمتتبع لحياة الدكتور ابن عبود يجدها متنوعة وغنية وزاخرة بالمعرفة والعلم والتجربة؛ ولذلك كان حديثه عن الحضارة الغربية وتحليله لآليات اشتغالها ينطلق من موقع العارف المطلع على بواطنها.
فقد عاش سنوات عديدة في فرنسا وأمريكا، وتنقل كثيرًا بين عواصم الغرب، ورأى بعين بصيرته تحول هذه الحضارة من البشرية إلى الهمجية، حيث تحلل ما حرم الله، وتخالف الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وكان يرى أن الاكتشافات العلمية تدعو إلى اعتناق الإسلام؛ لأن القرآن تنبأ بكل ما يحققه الإنسان في هذا العصر، وأن الإسلام سيقوى أكثر في عصر العلم).
ويقول الأستاذ محمد الدماغ:
"إن الدكتور المهدي من أعلام الفكر المعاصر وفلتة من فلتات الزمان، فهو دائرة معارف تمشي على قدمين، طبيب وفيلسوف، وفقيه وأديب، وشاعر وصوفي، ودبلوماسي ومجاهد مخلص، وداعية إلى الله عرج مدارج السالكين، وارتقى معارج السائرين في دائرة الشريعة، متبعًا لا مبتدعًا، محققًا ومدققًا لا ملفقًا ولا متلقفًا، فأشرقت روحه بنور ربها، وانبجست ينابيع الحكمة على لسانه، أوتي الفصاحة والبيان وسلاسة اللسان، ففي حديثه جمع بين رقة المعنى ودقة المبنى، وجمع بين تنبيه الإشارة وتصريح العبارة، حاضر البديهة، ثاقب الذكاء، خفيف الروح، مشرق الوجه، متواضع، حليم، صبور، تواب، أواب، متبتل، ذاكر، ساجد، قوام، صوام، لا يرى في نفسه فضلاً ولا قدرة، لم يغره مال ولا جاه أو منصب أو سلطان، لم يخف في الله لومة لائم، يجتهد في نصرة الحق بالحق لا بالباطل أو طمعًا في الخلق، ينفق ذات اليمين وذات الشمال، ولا يخشى من ذي العرش إقلالاً، معرض عن الدنيا مقبل على الآخرة، هذا هو حكيم الزمان العلامة الدكتور المهدي ابن عبود).
معرفتي به:
لقد عرفت أستاذنا الكبير الدكتور المهدي بن عبود من خلال سماعي عنه من إخواننا المغاربة، ثم قرأت بعض بحوثه، فكان أن دعوناه للموسم الثقافي الذي تقيمه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت، حيث ألقى عدة محاضرات، وعقد ندوات، وساهم في حوارات بجمعية الإصلاح الاجتماعي وغيرها، وحضر الندوة الأسبوعية مساء الجمعة، وسر غاية السرور بشباب الصحوة الإسلامية من الكويتيين والمقيمين الذي أحبوه وأصغوا بانتباه إلى توجيهاته، وبخاصة أنه كان يتمتع بالصفاء الروحي، وله اطلاع واسع على الحضارة الغربية ومواطن الضعف فيها، حيث درس في الغرب، وتقلد مناصب دبلوماسية في أوروبا وأمريكا، وعرف مقدار الكيد الكبير الذي يضمره أعداء الإسلام من المستشرقين وأعوانهم ضد الإسلام كدين، وضد المسلمين كأمة.
وفاته:
توفي في 6/12/1999م، الموافق 27 من شعبان سنة 1420ه، ودفن في المغرب، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي عباده الصالحين.
العلامة التونسي محمد الشاذلي الصادق النيفر الحسيني
مولده ونشأته:
هو محمد الشاذلي بن محمد الصادق النيفر، مؤرخ وشاعر. ولد سنة 1911م بمدينة تونس العامرة في بيت علم وفضل وشرف، ونشأ في رعاية والده أحد أعلام الزيتونيين، فأحسن تربيته على القيم الإسلامية الرفيعة والآداب العالية.
مسيرته العلمية:
ففي البيت تعلم مبادئ العلوم الشرعية واللغة العربية، ثم التحق بالمدرسة القرآنية، وفي عام 1924م التحق بجامع الزيتونة لمواصلة دراسته الثانوية، متدرجًا في مراحلها بنجاح مميز حتى أحرز شهادة ختم الدروس الثانوية سنة 1930م، وهي شهادة تؤهل صاحبها للتدريس بجامع الزيتونة بصفة متطوع، ولذلك تسمى شهادة تطويع، وكان من جملة شيوخه بالزيتونة شيخ الإسلام محمد العزيز جعيط (ت 1937م)، وقاضي الجماعة العلامة الشيخ محمد البشير النيفر (ت 1974م).
وحصل على إجازة من العلامة الشهير الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (ت 1973م)، وفي سنة 1934م باشر التدريس بجامع الزيتونة والمعاهد التابعة له، ولم يزل كذلك حتى سنة 1990م، حيث أقعده المرض.
وقد كانت دروسه عذبة لطيفة في إشاراتها، فصيحة في عباراتها، وكان لواسع علمه يأتي بالعجب العجاب لسامعيه، فهو بحر علم يعب عبابه ويغب ميزابه.
وفي سنة 1936م، شارك في تأسيس جمعية الزيتونيين التي أنشئت لإعداد النشرات وتنظيم المحاضرات والاحتفالات بالمناسبات الدينية، وقد تولى خطة الكاتب العام لهذه الجمعية.
وفي سنة 1937م، ساهم في تأسيس الشبيبة الزيتونية التي ترمي إلى توحيد كلمة أبناء الجامع الأعظم.
وفي سنة 1365ه/ 1946م، أكرمه الله بالحج إلى البيت الحرام، وكانت فرصة للقاء عدد من علماء المسلمين جمعهم هذا الموسم العظيم. وفي تلك المناسبة فكر في دعوة الحكومة السعودية إلى حمل الجامعة العربية على الاشتغال بقضية الشمال الأفريقي بواسطة الشيخ حسن البنا، فزاره زيارة خاصة، وحادثه في ذلك الشأن، فقال الشيخ حسن: إن الملك عبد العزيز آل سعود عين لي غدًا موعدًا للقائه.
قال الشيخ محمد الشاذلي: فرجوته أن يبلغ ما رغبت من حمل الحكومة السعودية للجامعة العربية على النظر في قضية الشمال الأفريقي بجدية، فوعدني بذلك، وطلب مني أن آتي إليه ليخبرني بنتيجة لقائه، فأتيته من الغد، فأجابني الشيخ البنا بقبول الرغبة من الملك عبد العزيز.
وفي سنة 1953م، أسس الشيخ جريدة الزيتونة الأسبوعية، واختص بتحرير افتتاحيتها؛ ليكتب فيها عن هموم الأمة والمطالبة بإصلاح الزيتونة والذب عنها؛ مما عرضها للإيقاف عن الصدور مرتين، وفي الثالثة أوقفت نهائيًا، وذلك سنة 1957م.
كان الشيخ طيلة حياته مناضلاً شجاعًا يدفعه إيمانه بما يعتقد إلى أن يقف مواقف الرجال في أحلك الفترات، فكانت له مشاركات في الأحداث التاريخية التي وقعت أثناء فترة الاستعمار، فكان فاعلاً للأحداث صانعًا لها غير منفعل بها. ولذلك لم يكن مستغربًا أن يناله الابتلاء، وذلك حين تولى إدارة المدارس الزيتونية لسكنى الطلبة، فاستاءت منه السلطة الاستعمارية، فتعرض بيته للتفتيش، وألقي القبض عليه ثم وضع رهن الإقامة الجبرية.
وبعد الاستقلال شارك في الحياة السياسية، حيث انتخب سنة 1959م نائبًا بمجلس الأمة الأول، وترأس الجلسات الافتتاحية في عدة دورات، وكان محل إكبار الجميع؛ لمواقفه الثابتة وشجاعته.
غير أن ذلك لم يشغله عن مهماته الدعوية والإرشادية والتعليمية، فقد تولى الإمامة والخطابة بجامع باب الأقواس بتونس منذ سنة 1946م، وظل داعيًا إلى الله، مرشدًا وموجهًا، آمرًا وناهيًا، وكان لخطبه الأثر الكبير في نفوس المصلين، فلم يترك الخطابة بهذا الجامع حتى أيامه الأخيرة.
وفي سنة 1977م، انتخب عميدًا للكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين، فأظهر براعة فائقة في حسن الإدارة بهمة عالية وعمل دءوب، فاجتمعت حوله القلوب فأعيد انتخابه مرة أخرى.
وكان نشاطه موزعًا بين العمل الإداري والتدريس وإلقاء المحاضرات خارج الكلية في المناسبات المتنوعة. وقد تسلم عمادة الكلية وبها أربع مئة طالب، فارتفع العدد إلى أضعاف مضاعفة أغلبهم من تونس، وكان فيهم طلاب من مختلف البلاد الإسلامية.
وقد تولى تجديد البرامج التعليمية بحيث أصبحت تتناسب مع المستوى العلمي للطلبة الحاصلين على شهادة الثانوية العامة بعد أن انقرضت طبقة الشباب الزيتوني.
ثم وسع دائرة التعليم بالكلية، وأنشأ أقسامًا جديدة أثرى بها الكلية، ولم تكن الكلية يومها تسير وفق قانون رسمي ينظم الدراسة بها، فبادر إلى وضع هذا القانون، واستصدر أمرًا ينص على اعتبار الكلية الزيتونية مؤسسة جامعية تُعْنَى بالدراسات والبحوث الإسلامية.
وفي سنة 1400ه، أقام مهرجانًا علميًا بمناسبة مرور ثلاثة عشر قرنًا على تأسيس جامع الزيتونة أقدم جامعة في العالم، حيث ألقيت بحوث قيمة بهذه المناسبة. وقد أكرم الله الشيخ بأن حبب إليه العناية بالقرآن الكريم، فأولاه عناية خاصة، حيث ترأس الجمعية القومية للمحافظة على القرآن الكريم قبل أكثر من خمس وعشرين سنة، فكان يسعى لتوفير الاعتمادات المالية لها من تونس ومن خارجها، وكان يطوف بنفسه للإشراف على الإملاءات الليلية التي تنظمها الجمعيات القرآنية بمختلف مساجد تونس، وأنشأ إملاءات قرآنية صيفية صباحية لتلاميذ السنة الخامسة والسادسة من التعليم الابتدائي وجميع مراحل التعليم الثانوي، وكانت هذه الإملاءات تختم بامتحان في الحفظ والتلاوة توزع فيه الجوائز على الفائزين، وقد نظم مباراة قومية سنوية لحفظ كتاب الله تعالى، ويقام لها حفل كبير ينتظم في العاصمة تونس خلال شهر رمضان المعظم منذ تسع سنوات إلى اليوم.
وكان على صلة قوية بمختلف أقطار العالم الإسلامي، حيث يحرص على المشاركة في الملتقيات الإسلامية يشهد له بذلك أبحاثه ومداخلاته القيمة، وكان محل إكبار وتقدير وإجلال، فهو عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه التابع لها، وقد شارك في أغلب ندواتها.
جهوده العلمية:
أما جهوده العلمية، فتتمثل في المصنفات التي نافت على العشرين بين تأليف وتحقيق.
فمنها تفسير مدرسي لجزأي "عم وتبارك"، ومنها (شرح همزية البوصيري)، و(عمل أهل المدينة: معناه وحجيته)، و(المازري الفقيه المتكلم)، و(مختصر تاريخ الزيتونة وعلماء قفصة)، و(علماء سوسة)، و(الحركة الأدبية بتونس في القرن الرابع عشر)، ومنها (حكم التجنس) قال عنه: ذهبت فيه إلى أن الأمم الإسلامية إذا وقع البعض منها تحت حكم الكفر لا يبارحون ديارهم؛ لأن ذلك مؤد إلى إقرار الكفرة في ديارهم كما وقع في الأندلس، ومنها تقديم وتحقيق كتاب (مسامرات الظريف بحسن التعريف) للسنوسي، وهو كتاب أَلَمَّ بالحياة العلمية والأدبية بتونس في أربعة أجزاء، ومنها تقديم وتحقيق كتاب (المعلم بفوائد مسلم) للإمام المازري في ثلاثة أجزاء، و(تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين) للسفاقسي، وقطعة من موطأ ابن زياد، ورسائل ابن عبدون المكناسي.
وله ما يزيد على خمسين بحثًا في شتى العلوم.
فمنها (أحاديث فضل إفريقية)، ومنها (عناية أهل المغرب بمسلم)، ومنها (تفتح الفقه الإسلامي على الحياة الإنسانية)، وله رحمه الله ديوان شعر في جزءين يدل على أنه شاعر من الطراز الأول.
يقول في مطلع قصيدة نبوية:
أتتك القوافي قد حداها نزوعها
- وأشرق في مدح الجناب طلوعها
أنزه شعري أن أشيد بغيركم
- أعز القوافي إنني لا أضيعها
وللشيخ ولع شديد بجمع نوادر الكتب من مخطوط ومطبوع، حتى بلغ ما لديه اثني عشر ألف كتاب مطبوع، وثمان مئة مخطوط، منها ما لا يوجد في غير مكتبته.
ومن نبل هذا الإمام وكرمه وفضله أن حرص على حفظ هذه الكتب وتسهيل الوصول إليها للباحثين، فبنى من حر ماله بناءً جميلاً، وجعله بيتًا لهذه الكتب، واستأجر من يقوم بترتيبها وفهرستها، واستعان بالحاسب الآلي في ذلك، وجعل لها من يقوم عليها؛ تيسيرًا للمطالعة فيها لمن شاء من الباحثين.
وقد جرى افتتاح هذه المكتبة في الثاني من جمادى الآخرة من عام 1412ه، وأقيم لذلك حفل بهيج بحضور عدد كبير من رجال العلم والفكر والأدب.
معرفتي به:
كانت معرفتي بالأخ الشيخ "محمد الصادق النيفر" من خلال زيارة لي إلى "فرنسا" لحضور مؤتمر إسلامي، حيث التقيته ووجدت فيه الخلق الرفيع والأدب الجم، فضلاً عن أنه كان عضوًا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي والمجمع الفقهي التابع لها، وكان يشارك في الندوات التي يقيمها، وكنت أسمع من الشباب التونسي المسلم الثناء العطر عليه حين زيارتي لتونس، قبل أن ألتقيه؛ مما حببني فيه وقربه إلى نفسي، وبخاصة أنه حرص على الحكمة في مداراة الحكام ببلاده؛ لئلا يزدادوا بطشًا بالشباب التونسي المسلم الذي أقبل على الإسلام برغبة وشوق بعد معاناة طويلة مع الاستعمار وأذناب المستعمرين من المستغربين من أهل البلاد.
وفاته:
توفي في (4-8-1418ه/ 3-12-1997م) في "تونس"، ودفن بها، حيث شيعه الكثير من العلماء وطلبة العلم وجماهير المسلمين، رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.