مذابح الإخوان في سجون ناصر
بقلم:أ.جابر رزق
مقدمة الطبعة الثانية
عشر سنوات كاملة مرت على إصدار الطبعة الأولى من الجزء الأول من كتاب " مذابح الإخوان في سجون ناصر " ولا يزال الإقبال على طلبه شديدا ومستمرا لأنه يعد الوثيقة الأولى التي تفضح جرائم الحكم الناصري الدكتاتوري التي ارتكبت في حق الإخوان المسلمين سنة 1965 في السجن الحربي على مدى ثلاثة وعشرين شهرا أنهتها هزيمة الخيانة ( 5 يونيه سنة 1967) التي قصمت ظهر الطاغية الدكتاتور جمال عبد الناصر الذي جعل من صديق عمره ورفيقه المشير عبد الحكيم عامر وبطانته كبش فداء فقتل المشير عامر , وأدخلت البطانة السجن وعلى رأسها الجلادون : شمس بدران , و حمزة البسيوني , و رياض إبراهيم , وحسن كفافي , و صفوت الروبي الذين نفذوا المذبحة تحت سمع جمال عبد الناصر وبصره , فأشربوا من نفس الكأس التي أذاقوها للإخوان , وعذبوا بسياط نفس الجنود الذين كانوا يأمرونهم بتعذيب الإخوان .
كان لابد أن تمضي عشر سنوات كاملة حتى يمكن إصدار هذا الجزء الثاني الذي يتضمن أخطر وثائق المذبحة , وما كنت أستطيع أن انشر هذا الجزء الثاني قبل مضي هذه السنوات العشر بسبب بقاء اثنين من كبار الجلادين على رأس اعتي أجهزة الأمن في تلك الحقبة السوداء من الحكم الدكتاتوري الناصري .
لقد أردت بهذه الطبعة الجديدة التي تجمع الجزأين الأول والثاني بما تضمنا من وثائق لم يسبق نشرها من قبل أن أضع تحد يدي المؤرخ المحايد " مادة خام " تمكنه من تكوين رؤية صحيحة وصادقة لاسود حقب التاريخ المصري الحديث .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . . .
جابر رزق القاهرة في : 23 شوال سنة 1406 ه 29 يونيو سنة 1986 م
مقدمة الطبعة الأولى
لم تعد " دعوة " الإخوان المسلمين . . و" جماعة " الإخوان المسلمين مجهولة للناس . . مسلمين أو غير مسلمين . . في مصر أو في خارج مصر . . بل لقد أصبحت من حقائق هذا الوجود ! . .
وأستطيع أن أقول أن " جماعة الإخوان المسلمين " تقف اليوم في طليعة " الحركة الإسلامية " على مستوى العالم كله إن لم تكن في ذاتها طليعة الحركة الإسلامية . . ومنذ أن عرف أعداء الإسلام حقيقة دعوة الإخوان المسلمين وأدركوا مراميها وأهدافها وهم يتصدون لها في خصومة شديدة . . وعداوة قاسية . . وحقد أسود ويضعون في طريقها كل العراقيل . . ويوصدون أمامها كل الأبواب . . واستعانوا في ذلك بالرؤساء والزعماء وذوي السلطة وجندوا لذلك كل الحكومات في محاولات يائسة للحد من نشاط الجماعة وتعطيل مسيرة الدعوة . . وأثاروا حول الدعوة والجماعة غبار الشبهات . . ووجهوا لها أظلم الاتهامات وحاولوا أن يلصقوا بها كل نقيصة وأن يظهروها للناس في أبشع صورة معتمدين في ذلك على قوتهم وسلطانهم ومعتدين بأموالهم ونفوذهم . . وأنزلت بالإخوان المحن . . فاعدموا . . وسجنوا . . واعتقلوا وشردوا وصودرت أموالهم . . وعطلت أعمالهم . . وفتشت بيوتهم وطالت بهم المحن ربع قرن من الزمان . . هذه التجربة . . كان لابد من تسطيرها قدر الإمكان لتستلمها طلائع البعث الإسلامي الزاحفة علها تجد فيها زادا يعينها على مواصلة السير . . في طريق الجهاد لإقامة دين الله في الأرض . . هذا هو قصدي الأول من هذا الجهد الذي أسال الله أن يعينني على إتمامه . . أما قصدي الثاني الذي قصدت الوصول إليه من خلال تلك الصفحات هو إبراز حقيقة " المؤامرة على الإسلام" ودور القوى العالمية . . صليبية . . ويهودية . . وشيوعية . . ووثنية وعملائهم داخل الوطن الإسلامي !!
ولم يكن همي إدانة جمال عبد الناصر فقد أفضى إلى ما قدم وأصبح عدما . . إنما أردت أن أفضح القوى التي كانت بمثابة " المجرم الحقيقي " . . و " العقل المدبر " لكل محن الإخوان المسلمين في عهد عبد الناصر وما قبل عبد الناصر والتي لا تزال وستظل تكيد للإسلام ولدعاة الإسلام حتى يظهر الله الحق ويمحق الباطل . . والله أسأل يثبتنا على طريقه حتى نلقاه غير ضالين ولا مضلين . . ولا مضيعين ولا مبدلين . . أمين . .
الفصل الأول
لماذا أدخل الإخوان . . السجون والمعتقلات !!
لا يزال هذا السؤال بغير إجابة حقيقية حتى الآن ومثله العديد من الأسئلة الغامضة التي تنتظر كلمة المؤرخ الموضوعي المنصف الذي تتاح له الحقائق كاملة ويدرك الظروف الحقيقية التي أحاطت بالأحداث حتى تتضح له الحقيقة التاريخية خالية من الزيف والتزوير . . ولكن يقينا سيأتي اليوم الذي تكتشف فيه حقيقة الأحداث ولكن ربما حدث ذلك بعد فوات الأوان وبعد أن تصبح الحقيقة لا أثر لها في الحاضر . .
ولعل تاريخ جماعة الإخوان المسلمين بالذات يكتنفه الظلام والتجهيل والتزييف والتزوير أكثر من غيره . . لأن جماعة الإخوان المسلمين منذ حرب فلسطين سنة 1948– وقد كشفت الحرب عن قوتهم – وحتى وقتنا هذا و " السلطة " وكل التيارات الفكرية والسياسية المضادة تقف منها موقف الترصد والتوجس وتبذل أقصى ما تستطيعه في تشويه صورتهم في نظر الناس . . فعل ذلك إبراهيم عبد الهادي سنة 1948 وحتى سقوط حكومته في أوائل الخمسينات . وفعل ذلك بعده جمال عبد الناصر طوال فترة حكمه . . وحتى بعد وفاته !! .
وبالرغم من أن الحقائق التي تتصل بالإخوان المسلمين لا تزال ضائعة ومطموسة ومجهولة إلا أن أجزاء من هذه الحقيقة قد أصبحت معروفة وأصبحت مادة للمؤرخ المنصف في الاعتماد عليها لتبين وجه الحقيقة !! .
لقد كان محمود فهمي النقراشي رئيس وزراء مصر السعدي أول من تصدى لجماعة الإخوان المسلمين فأصدر قرارا في 8 ديسمبر سنة 1948 بحل جماعة الإخوان المسلمين واعتقل عددا كبيرا من أعضائها . . ونريد هنا أن نسأل ما الأسباب الحقيقة وراء هذا الحل ؟ !! .
يقول الأستاذ شمس الدين الشناوي:
_ " لقد كانت بطولة الإخوان المسلمين في حرب فلسطين سنة 1948 مثار دهشة العالم أجمع ومثار خطر داهم على الكيان الصهيوني وقيام دولة إسرائيل وليس هذا الكلام تحيزا للإخوان أو تعصبا لدعوتهم . فقد شهد بذلك ضباط الجيش المصري في حرب فلسطين أمام محكمة الجنايات التي كانت تنظر قضية " السيارة الجيب " التي اتهم فيها نفر من شباب الإخوان المسلمين بمحاولة قلب نظام الحكم وتغيير دستور الدولة ( وهي نفس التهمة التي وجهها عبد الناصر للإخوان في كل مرة ! ! ) .
وقد شهد اللواء على المواوى بعد أن أقسم اليمين القانونية أماما المحكمة " أنه كان يستعين بالمتطوعين من الإخوان المسلمين كطلائع للجيش وكقوة حقيقية تعمل من جانبه الأيمن في الناحية الشرقية . وكانوا يصلون إلى النطاق الخارجي للمستعمرات اليهودية ويزرعون الألغام من تحت الأسلاك الشائكة ويستعملونها في تلغيم الطرق الموصلة إلى المستعمرات اليهودية وقد نتج عن ذلك خسائر كبيرة لليهود تقدم لي من جرائها مراقبو الهدنة يشتكون من هذه الأعمال التي كانت تعمل وقت الهدنة ولم يكن عند الجيش المصري ألغام " .
وشهد الصاغ محمود لبيب بأن المتطوعين احتلوا في 12 يوما العوجة والعسلوج وبئر سبع والفالوجا وعراق المنشية وبيت جبريل والخليل وبيت لحم ودخلوا في حدود القدس الجديدة وأصبح النقب جميعه تحت إشراف الإخوان المسلمين " .
وترتب على هذه الروح الفدائية القوية التي أظهرها الإخوان المسلمين في حرب فلسطين أن دب الرعب في قلوب اليهود وخشي الانجليز الذين كانوا يحتلون منطقة القناة بعد انتهاء حرب فلسطين فرأوا أنه لابد من القضاء على الإخوان المسلمين وتغييبهم عن الميدان !! .
وقد استطاع الأستاذ محمد شمس الدين الشناوي الحصول على وثيقتين بريطانيتين . تقول الوثيقة الأولى أنه " في 10 / 11 1948 اجتمع سفراء انجلترا وأمريكا وفرنسا في فايد وقرروا اتخاذ الإجراءات اللازمة بواسطة السفارة البريطانية في القاهرة لحل جمعية الإخوان المسلمين التي فهم أن حوادث الانفجارات الأخيرة في القاهرة قد قام بها أعضاؤها وأرسلت هذه الإفادة إلى رئيس المخابرات تحت رقم 13 في 13 / 11 / 1948 وترجمة الوثيقة كالآتي :
الموضوع اجتماع سفراء صاحب الجلالة البريطانية وأمريكا وفرنسا في فايد 10 / 11 / 1948 . رقم القيد 1843 / أس / 48 . التاريخ 13 / 11 / 1948 .
إلى رئيس المخابرات رقم 13 :
" فيما يختص بالاجتماع الذي عقد في فايد في 10 الجاري بحضور سفراء صاحب الجلالة البريطانية وأمريكا وفرنسا أخطركم أنه ستتخذ الإجراءات اللازمة بواسطة السفارة البريطانية في القاهرة لحل جمعية الإخوان المسلمين التي فهم أن حوادث الانفجارات الأخيرة في القاهرة قام بها أعضاؤها " .
إمضاء
( ج . د . أوبريان مأجور )
وفي 20 / 11 / 1948 أرسل رئيس أدارة المخابرات فرع " أ " بقيادة القوات البريطانية بالشرق الأوسط إلى إدارة المخابرات ج . س – 13 في القيادة العليا للقوات البريطانية في مصر خطابا هذه ترجمته الحرفية :
الموضوع : جمعية الإخوان المسلمين :
رقم القيد 167 / أ ن ت / 48 – 20 / 11 / 1948 إلى إدارة ج – س – 13 .
القيادة العليا للقوات البريطانية في مصر والشرق الأوسط :
1 – بخصوص مذكرتكم رقم 743 / أ ن ت / 48 المؤرخة في 17 / 11 / 1948 .
2 – لقد أخطرت هذه القيادة العليا رسميا من سفارة صاحب الجلالة البريطانية بالقاهرة أن خطوات دبلوماسية ستتخذ بقصد إقناع السلطات المصرية بحل جمعية الإخوان المسلمين في أسرع وقت ممكن .
3 – فيما يتعلق بالتقارير التي كانت قد رفعت من الرعايا الأجانب المقيمين بمصر فقد أرسلت لوزارة الخارجية للعلم . .
التوقيع
رئيس إدارة حرف " أ "
قيادة القوات البريطانية في الشرق الأوسط
كولونيل : أ . م . مالك درموت
وبناء على ذلك أبلغت السفارة البريطانية النقراشي بهذا القرار المطلوب وهو حل جماعة الإخوان المسلمين في أسرع وقت ممكن وكان ذلك مصحوبا بتبليغ شفوي بأنه في حالة عدم حل الإخوان فستعود القوات البريطانية إلى احتلال القاهرة و الإسكندرية .
وطلب النقراشي إلى عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية وقتئذ وساعد النقراشي الأيمن – أن يعد مذكرة تبرر حل جماعة الإخوان حتى يبدو الحل وكأنه إجراء مصري لا دخل للانجليز فيه تغطية لموقف النقراشي العام , وبناء على المذكرة التي كتبها عبد الرحمن عمار أصدر النقراشي قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أموالهم وأملاكهم وشركاتهم ومدارسهم ومستشفياتهم ومصانعهم , وصدر القرار الساعة 11 مساء يوم 8 ديسمبر سنة 1948 واعتقل الإخوان الموجودون بالمركز العام وترك الإمام الشهيد حسن البنا الذي منع من الصعود إلى السيارة مع بقية الإخوان المعتقلين .
وربما كان هذا الأمر – وهو ترك الإمام الشهيد – دون اعتقاله غامضا ولكن ثبت من قضية استشهاده أن النية كانت مبيته لاغتياله لأنهم لو لم يكونوا ينوون قتله لكان هو أول من اعتقلوه ! ! .
وننقل هنا خلاصة ما انتهت إليه المحكمة في قضية اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وأول مرشد للجماعة – وأيضا مرشد شهيد – تقول أوراق القضية :
" لقد كانت جماعة الإخوان المسلمين بحكم نزعتهم الدينية في مقدمة الناقمين على سياسة الملك السابق فاروق والناقدين جهرا لمسلكه الشخصي .
فاستشعر ريح الخطر تهب عليه من ناحيتهم خصوصا بعد أن اشتد ساعدهم وانتشرت دعوتهم واعتنقتها الألوف المؤلفة من المواطنين وأخذوا يعلنون في مبادئهم أن الإسلام دين ودولة وأن الحكم في شرعته بيعة يوليها الشعب لمن يصلح لها وليس ملكا عضودا يتوارثه الأبناء عن الآباء فصح عزم الملك على مناوأتهم والضرب على أيديهم وفكر في سنة 1947 في حل الجماعة وأوحي بفكرته إلى الوزارة القائمة بالحكم فوجد منها أذنا صاغية وتصادف أن وقعت بعض حوادث الاعتداء على الأفراد وإلقاء المواد المتفجرة على بعض الأماكن وجه الاتهام في جانب منها إلى أفراد من جماعة الإخوان وحامت الشبهة حول آخرين منهم في بعض التهم فاتخذت الحكومة من ذلك سلاحا لمحاربتهم وأصدر الرئيس السابق الأستاذ محمود فهمي النقراشي بوصفه حاكما عسكريا عاما أمره في 8 ديسمبر سنة 1948 بحل الجماعة استجابة منه في المحل الأول لرغبة الملك " .
" وزاد الملك السابق اقتناعا بفكرته ما ظهر به الإخوان المسلمين في غضون 1948 من مظاهر القوة والبأس وأنهم يحرزون للكثير من الأسلحة بادروا إلى استعمالها في حرب فلسطين التي دخلوها زرافات وفي شكل حملات منظمة فامتلأ فؤاده رعبا وعول إلى التخلص من مرشد الإخوان بقتله واخذ في نفس الوقت يستزيد من الحراسة حوله ويتخذ من الإجراءات ما يعتقد أنه ضروري لدفع عائلة الإخوان عنه وحمايته من عداوتهم على عرشه وشخصه " .
ونحن لا نرى رأي المحكمة لأننا نعلم أن الملك فاروق كان مطية للانجليز والأمريكان وأنه إذا كان النقراشي قد حقق رغبة عزيزة ليست لفاروق فحسب ولكن أيضا للأمريكان وللانجليز وللفرنسيين وحقق ثأرا للسعديين الذين طالبوا بقتل الإمام الشهيد حسن البنا انتقاما لقتل النقراشي بأيدي الإخوان وليس أدل على ما ذهبنا إليه من أن إبراهيم عبد الهادي حقق مخطط أمريكا وفرنسا بقتل الإمام الشهيد حسن البنا من تدخل أمريكا رسميا عندما حوكم إبراهيم عبد الهادي أمام محكمة الثورة ووجهت له تهمة الخيانة العظمى وصدر الحكم عليه بالإعدام فطلب تخفيف الحكم . ونترك الأستاذ جلال الدين الحمامصي في كتابه " وراء الأسوار " حيث يقول في ص 147 من كتابه في الطبعة الرابعة :
" ومن المؤكد أن الحكومة الأمريكية كانت تعتبر الإخوان المسلمين من الهيئات غير المرغوب فيها بدليل أن محكمة الثورة حينما حكمت على رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم عبد الهادي آخر رئيس للحزب السعدي بالإعدام أبلغت الحكومة الأمريكية سفارتنا في واشنطن أنها ترى أنه لابد من تخفيف الحكم لأنه ليس من المعقول أن يحكم بالإعدام على الرجل الذي واجه الإخوان المسلمين بشجاعة . وقد قام السفير المصري في أمريكا الدكتور أحمد حسين بإبلاغ جمال عبد الناصر نص هذا الاحتجاج تليفونيا وفي اليوم التالي خفف مجلس الثورة الحكم وأبدله بالأشغال الشاقة المؤبدة " انتهى .
ولم تطل محنة الإخوان التي بدأت على يد النقراشي واشتدت ضراوتها على يد إبراهيم عبد الهادي فبعد سقوط حكومة إبراهيم عبد الهادي لم يعد في السجن من الإخوان إلا الذين حكم عليهم في القضايا . . وبدأ الإخوان يعودون إلى نشاطهم شيئا فشيئا حتى جاء إلغاء معاهدة 1936 في أكتوبر 1951 وبدأت معارك القناة التي كانت متنفسا للإخوان .
يقول حسن دوح الزعيم الطلابي . . في جامعة القاهرة :
"وأقول أن جماعة الإخوان كانت في سنة 1951 تحاول أن تسترد نشاطها وتحدد نفسها بعد محنة 1948 والتي انتهت باستشهاد مرشدهم الأستاذ حسن البنا ثم أنها كانت تعيش تجربة قيادة من لون جديد وصيغة جديدة قيادة صامتة هادئة تتمثل في المستشار الأستاذ حسن الهضيبي والذي كان يلتزم بأسلوب القاضي في معالجته للقضايا التي تعرض لها والرجل لم يكن راغبا في منصبه الجديد بل قبله راغما تحت ضغط بعض قادة الإخوان " .
" ونحن بسبيل التعرض لموقف الإخوان من حرب سنة 1951 وسنة 1952 وقبل أن ننتهي من تحليل موقف الإخوان لا ينبغي أن ننسى أثر حرب فلسطين سنة 1948 في أحداث حرب القناة ويكفيني أن اقو لان حرب 1951 كانت امتدادا لما جرى شرق القناة في فلسطين فالذين تولوا القيادة والتدريب وممارسة العمل في القناة هم من خريجي حرب 1948 .
لقد كان الإخوان المسلمين أصحاب أكبر دور في معارك القناة ويرجع هذا لعدة أسباب لم تتوافر لغيرهم ذكرنا منها سابق تدريبهم في حرب فلسطين ثم حافزهم الإسلامي الذي أعطاهم طاقات رائعة ضربت أروع الأمثال في فلسطين فإذا أضفنا لكل هذا التنظيم الدقيق الذي أبدع فيه أيما إبداع الشهيد حسن البنا لقلنا أنه كان طبيعيا أن يأخذ الإخوان مكان الصدارة في الحركة الوطنية برغم الصعوبات الكبيرة التي كانوا يواجهونها من مختلف الحكومات .
لقد كانت معارك القناة متنفسا كبيرا للإخوان الذي عانوا أعواما طويلة من الدعاية المركزة ضدهم وكان شباب الإخوان يريد أن يثبت قدرته على الحركة والعمل بعد نكسة فلسطين واستغل الشباب فرصة إلغاء المعاهدة وبرزت فكرة استعمال السلاح لتحقيق الجلاء المنشود وبعد أن صار وجود القوات البريطانية في القناة لا يستند إلى قانون .
ولقد كانت بطولات الإخوان على أرض القناة بنفس الروعة التي ظهرت في بطولاتهم على ارض فلسطين ولئن كانت الحرب الفلسطينية قد كشفت عن خطورة الإخوان على المخططات اليهودية والصليبية في المنطقة فان معارك القناة قد أفزعت أمريكا وانجلترا من احتمال قيام ثورة يقودها الإخوان .
فأحرقت القاهرة ليخفي دخانها روعة وعظمة الحركة الوطنية المسلحة التي يقودها الإخوان المسلمون على ضفاف القناة وتكون مبررا لتصفيتها " .
ويقول حسن دوح في كتابه صفحات من جهاد الشباب المسلم : أذكر أنني التقيت بالدكتور محمد صلاح الدين وزير الخارجية في حكومة الوفد بعد حريق القاهرة . . قال لي الرجل :
" انك لا يمكن أن تتصور مدى الكسب الذي أحررناه في أوروبا وأمريكا بعد معارك القناة والتل الكبير بالذات ولكن خسرنا الكثير بعد حريق 26 يناير الذي شوه بدخانه سمعتنا في الخارج " .
وقال لي الدكتور صلاح الدين في لقاء آخر وهو بإصبعه إلى القارة الأمريكية : إن الولايات المتحدة هي المتهم الأول في إحراق القاهرة !! .
فقلت له : " إن الأمر يحتاج إلى إيضاح أكثر " .. قال :
_ إن الولايات المتحدة الأمريكية كانت المحرك الأول للإحداث التي جرت قبل وبعد حريق القاهرة ويرجع السبب في هذا إلى عدة أمور منها :
أن أمريكا أرادت تصفية النظم الديمقراطية في مصر حتى يتسنى لها ضرب الحركات الوطنية . ولقد كانت معارك القناة وليس – حريق القاهرة – هو السبب في تعجيل بحركة الجيش فبدلا من قيامها في نوفمبر سنة 1955 قامت في 23 يوليو 1952 – وكانت يد المخابرات الأمريكية قد نسجت خيوط اللعبة وبدأت تحرك الدمى على مسرح الأحداث !! .
تمثيلية . . حادث المنشية ( 1 )
ولقد خدع الكثيرون من قيادات الإخوان في رجال حركة الجيش وظنوا أنهم صادقون فيما تعاهدوا عليه من سلوك طريق الإسلام إلا المرشد العام المرحوم حسن الهضيبي الذي لم يطمئن لحظة لجمال عبد الناصر, ولكن عبد الناصر قد استطاع أن يستقطب مجموعة من قيادة الإخوان ويخترق " الصف " المسلم ويشعل فتيل الفتنة . . حتى تفجرت الجماعة من الداخل قبل أن يوجه لها ضربته القاصمة سنة 1954 وحتى يبرر عبد الناصر ضربته لجماعة الإخوان وتصفية حركتهم دبرت أجهزة أمنه تمثيلية حادث المنشية .
يقول اللواء محمد نجيب في حديث له مجلة " اقرأ " السعودية :
" هناك في مكتبي قرأت الصحف الصادرة في الصباح فإذا بها تذخر بأخبار مختلفة تماما عن ثبوت اتصالي بمؤامرة الإخوان المسلمين على حياة جمال عبد الناصر. هنا أقطع سياق كلامي لأعلن لأول مرة في التاريخ سرا من أدق ما يمكن من إسرار ثورة 23 يوليو وهو أن مؤامرة إطلاق الرصاص على عبد الناصر في الإسكندرية كانت مؤامرة وهمية من أولها لآخرها وكانت مرتبة بواسطة رجل من أجهزة المباحث العامة في مصر كوفئ على ذلك فيما بعد بمنصب كبير واستؤجر في هذه المؤامرة شاب مصاب بجنون العظمة وأغرى بأنه لو اعترف بأنه حاول قتل جمال عبد الناصر فسينال مكافأة مالية ضخمة ويسمح له بالهجرة إلى البرازيل وقد كانت المكافأة الوحيدة التي تلقاها هي إعدامه بدلا من تهريبه كما وعدوه حتى يموت ويموت السر معه .
ولما كتب الأستاذ عباس الأسواني مقالا في جريدة تعاون الطلبة عن " عبد الناصر وحادث المنشية " أشار فيه إلى كلام اللواء محمد نجيب, كتب اللواء طيار متقاعد عبد الحميد الدغيدي تعليقا نشرته جريدة التعاون تحت عنوان " هذا رأي في حادث المنشية " قالت فيه أثيرت ردود فعل مختلفة بعد نشر مقال عبد الناصر وحادث المنشية الذي نشر في عدد سابق بالملحق السياسي وقد علق اللواء المتقاعد عبد الحميد الدغ يدي بقوله :
ذهبت مع السيد حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الثورة السابق لمعاينة شرفة مبنى بورصة الإسكندرية سابقا ومقر الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي بالإسكندرية حاليا فقد كان من المقرر أن يلقي رئيس الجمهورية السابق محمد نجيب خطابا سياسيا من هذا المكان . واتضح لنا من المعاينة أن السور المحيط بالشرفة عال بحيث طلبنا من قائد المنطقة الشمالية وقتئذ إعداد ما يقف عليه محمد تجيب أثناء إلقاء الخطاب ليشاهد الناس ويشاهدوه هذا من ناحية .
ومن ناحية أخرى فقد جمعني مجلس عقب إطلاق الرصاص بميدان المنشية على الرئيس جمال عبد الناصر مع النائب العام الأسبق سليمان حافظ الذي أشرف على التحقيق مع المتهم فسألته : هل عاينت مكان الحادث ؟ فأجاب بالنفي ثم استطرد قائلا : ولكن المتهم اعترف . . وللتاريخ والإنصاف أقول أن أي فرد أو جماعة كانت تدبر حادث الاغتيال المشار إليه ما كانت تختار هذا المكان لتنفيذ خطتها فسور الشرفة كما أوضحت لا يسمح بدقة التصويب خاصة وأن الذي سبق لهم الاستماع إلى خطب ميدان المنشية ما كانوا يرون الرئيس الراحل بوضوح إلا على بعد يزيد على الثلاثمائة متر وتلك المسافة تخرج عن المرمى المؤثر لإطلاق المسدس كما أن الجمهور المتزاحم حول المقدم على الاغتيال لا يسمح له باتخاذ وضع التنشين على الهدف بالدقة والسرعة المطلوبة . صحيح أنه حدثت إصابات نتيجة إطلاق النار لكن الواضح أنه إطلاق رصاص طائش مما يوحي بأنه لم تكن هناك خطة جادة للاغتيال ولكن خطة لأمر آخر !! " . انتهى كلام اللواء الدغ يدي .
وقد روى لي الأستاذ معروف الحضري المجاهد الكبير الذي عرفته أرض فلسطين سنة 1948 وأحد الذين قاموا بانقلاب 23 يوليو وأحد ضحايا الانقلاب قال :
" لقد سمعت من المقدم احمد الجميعي ( مقدم بوليس سابق ) واحد الذين تولوا قيادة المباحث الجنائية بمدينة الإسكندرية حتى عام 1969. . انه كان ضابط شرطة قسم المنشية ليلة مسرحية الاعتداء على جمال عبد الناصر وكان موجودا أسفل المنصة عندما قام احد ضباط الصف بالبوليس بإطلاق الأعيرة النارية على جمال عبد الناصر فقام بالقبض عليه وتحريز المسدس واقتاده بالقوة إلى قسم بوليس المنشية وفي أثناء تحرير المحضر ألقى القبض على أحمد سراح الامباشي البوليس وبقى أحمد الجميعي منفيا في الفيوم لمدة سبع سنوات متتالية . ومنع من دخول الإسكندرية خلال تلك الفترة " .
ويضيف معروف الحضري :
" من الثابت أن إلي أطلق الرصاص لم يكن محمود عبد اللطيف كما ادعى جمال عبد الناصر ومجموعته وأن الأمر كان مدبرا لإلصاق الحادث بالإخوان المسلمين للتخلص منهم . ولم يكن الغرض هو التخلص من الإخوان المسلمين فقط بل والتخلص من محمد نجيب أيضا واعتقاله هو الآخر " .
والمتأمل للحادث يجد أن هناك تمثيلية كبرى . . فهل من الممكن إصابة جمال عبد الناصر من أرض الحفل المعد سابقا بطلقة من مسدس ؟ ! لو أن هذه العملية من تدبير جماعة الإخوان وهي الجماعة التي خاضت حرب فلسطين وحرب القناة . . وقامت بعمليات عسكرية ناجحة فهل كانت ستترك لشخص واحد يقوم بالعملية ؟ ! لقد وجد مسدس محمود عبد اللطيف كما وجد مسدس آخر سلمه ادم حديوي الذي حمله وسافر به إلى القاهرة على قدميه وسلمه لجمال عبد الناصر الذي أعطاه مائة جنيه مكافأة له على ذلك ونشرت الصحف صورته مع جمال عبد الناصر فما معنى وجود المسدسين ؟ ! لقد ذكرت الجرائد عن وجود مسدسين في مسرح الجريمة . لقد قال قائد الجهاز السري للإخوان بمدينة الإسكندرية أثناء التحقيق معه وأمام المحكمة التي حاكمته أنه لو طلب منه نسف المنطقة كلها لنسفها لأن تحت يده الإمكانيات الكبيرة . ولم يكن جهاز الإسكندرية ينقصه الرجال حتى يحضر محمود عبد اللطيف لتنفيذ العملية .
ويضيف الأستاذ معروف الحضري: " أما هنداوي دوير ومحمود عبد اللطيف فقد عاشرتهم فترة طويلة لا تقل عن شهر قبل إعدامهما وأحب أن اثبت إنهما كانا يتمتعان بكل صحة وسعادة حتى أن ملابسهما الداخلية والخارجية كانت تأتيهم من خارج السجن الحربي يوميا مكوية ومطبقة . . في الوقت الذي كسرت فيه جمجمة الشهيد محمد فرغلي وقتل الشهيد إبراهيم الطيب قبل شنقه . . والغريب أن هنداوي دوير كان قد وعده عبد الناصر نظير ذهابه إلى الإسكندرية ومعه محمود عبد اللطيف بالمركز العظيم ولذلك عندما وصلت عنقه لحبل المشنقة صاح قائلا : هذا ما لم نتفق عليه ! " .
وراح بسره كما يقول الرئيس محمد نجيب. انتهى .
وقد روى لي الأستاذ مختار عبد العليم المحامي وأحد الشخصيات الإخوانية البارزة وقت الحادث في مدينة الإسكندرية أن الذي أطلق الرصاص على جمال عبد الناصر عسكري بوليس من بلدة الشيخ أحمد حسن الباقوري ! .
وحكي لي الأستاذ احمد حسنين الذي كان مسئولا عن التنظيم السري للأقاليم : أنه التقى في السجن الحربي بالشهيد يوسف طلعت والشهيد إبراهيم الطيب وكان يوسف طلعت قائد التنظيم . . و إبراهيم الطيب مسئول التنظيم عن مدينة القاهرة سأل الأستاذ احمد حسنين الشهيدين عن الحادث فقالا له أنه لا علم لهما بالعملية إطلاقا ويقول الحاج عباس السويسي احد العسكريين الذين كانوا معتقلين بالسجن الحربي منذ اعتقالات مارس سنة 1954 : " حينما قامت حركة مارس . . أفرجت الدولة عن الإخوان جميعا وعلى رأسهم فضيلة المرشد حسن الهضيبي رحمه الله واعتذرت الحكومة عن حل الإخوان على صفحات المصري وزار عبد الناصر و صلاح سالم المرشد الهضيبي رحمه الله في منزله واعتذرا له وتم الإفراج عن جميع الإخوان ولم يفرج عن العسكريين من الإخوان وبعد فترة أفرجوا عن جميع العسكريين عدا أربعة من الصولات كانوا يعتبرون رؤساء النظام الخاص داخل وحدات الجيش وهم الحاج عباس السيسي– و محمد الجبالي– و محمد عيسى– و محمد إبراهيم حسن. وحولوهم من سجن الأجانب إلى السجن الحربي .
وبعد أن قضينا عدة شهور فوجئنا بنقل مدير السجن الحربي وحل محله الرائد حمزة البسي وني وكان في السجن في هذا الوقت معنا السادة الدكتور حلمي مراد و إحسان عبد القدوسو إسماعيل الحبروك و حنفي شريفو احمد فهمي خطاب .
بدأ حمزة البسيوني في إعداد السجن الحربي فأضاء جميع الزنزانات بالكهرباء وعمل تخطيطا جديد وتكتيكا جديدا في الحراسة وغير موقع الذخيرة والسلاح وأقام دورة مياه خارجية , وأحسسنا أن السجن يعد لاستقبال آلاف من الناس وقد أخطرنا نحن العسكريين داخل السجن الحربي فضية المرشد العام من باب الاحتياط . ويضيف الحاج عباس السيسي:
" قبل حادث المنشية بحوالي شهر أو أكثر القي القبض على الأخ محمد عاكف و السيد عبد الله الريس واستعمل معهم اقسي ألوان التعذيب وبعد فترة جاءوا بمجموعة من الإخوان العسكريين ( صف ضباط ) من جميع الأسلحة وعذبوهم عذابا شديدا " .
وفي يوم حادث المنشية وكانت الإذاعة موجهة فسمعنا بالحادث واختلفت الآراء بين الموجودين عن مصدر هذه الطلقات ولكن ما أدهشنا أنه لم تمض ساعة زمن حتى وجدنا أن جهنم قد فتحت في السجن الحربي وضج المكان بالصراخ والآهات من التعذيب وبدأت مذبحة السجن الحربي الأولى التي لم يسبق لها مثيل في بلاد الإسلام . . وامتلأ السجن الحربي بكل الإخوان .
ويقول الحاج عباس السيسي:
" أما من الناحية الفنية فانه من المعلوم أنه كان هناك " التنظيم الخاص " للإخوان المسلمين وهو أمر كان معروفا لدى جمال عبد الناصروقادة الانقلاب وهذا التنظيم كانت له قيادات في كل البلاد . وكان في الإسكندرية تنظيمها الخاص فلو كان الإخوان المسلمين يريدون اغتيال عبد الناصر وهم بلا شك كانوا يقدرون ويدركون خطورة الفشل في هذا الأمر . . خطورته على الدعوة وخطورته على الجماعة خاصة وقد أدركوا خلال الأشهر السابقة تربص عبد الناصر بهم وأنه يريد أ يتخلص منهم بشكل أو بآخر . فلو كانوا حقا يريدون التخلص منه لكان التنظيم الخاص أولى بالعملية ولأعدوا له الإمكانيات والاحتياطات التي تضمن لهم تحقيق هدفهم فليس من المعقول أن تكون هذه " التمثيلية " الهزيلة خطة جماعة منظمة لها تاريخها الإسلامي في فلسطين وعلى ضفاف القناة وفيها القادة الذين دوخوا قوات الاحتلال الصهيوني والبريطاني واستطاعوا أن يحققوا انتصارات أذهلت قوى العالم أجمع . . هل يتصور عقل أن يضع الإخوان المسلمين خطة اغتيال لجمال عبد الناصر بمسدس من على بعد 20 مترا كما قيل في التحقيق وهل يستطيع إنسان أن يحسن التصويب وسط الجماهير الغفيرة ؟ ! لو أراد الإخوان اغتيال عبد الناصر لأعدوا للأمر عدته وقدروه قدره ولما جاءت هذه العملية هزيلة بهذا الشكل لقد كان تنظيم الإسكندرية عنده من الأسلحة والمتفجرات ما يمكنه من تدمير مدينة الإسكندرية بأكملها وعنده من الرجال المدنيين بل والعسكريين ما يجعلهم في غنى عن حضور واحد مثل محمود عبد اللطيف من القاهرة ليضرب عبد الناصر في الإسكندرية ! لقد كانت هناك مجموعة من ضباط البحرية في تنظيم الإسكندرية وكانت الإسكندرية أغنى المناطق على الإطلاق بالأسلحة وبالذات بالمتفجرات التي كانت تجمع من الصحراء الغربية ! لقد ثبت في الصحف أن هناك مسدسين ضبطا على مسرح الجريمة المسدس الأول ضبط مع محمود عبد اللطيف وثبت أنه لم يطلق منه أية رصاصة . . والمسدس الثاني هو الذي حمله المواطن ادم حديوي وسلمه إلى جمال عبد الناصر بنفسه وأعطاه مائة جنية مكافأة له ونشرت الصحافة صورته وهو يسلم المسدس لجمال عبد الناصر ونجحت التمثيلية . . واستثيرت مشاعر الجماهير ضد الإخوان ودبر حريق المركز العام للإخوان المسلمين واعتقل الإخوان وزج بهم في السجن الحربي وكانت مذبحة لم يشهد له مثيل حتى ولا في محاكم التفتيش .
يقول الأستاذ معروف الحضري وكان قد القي عليه القبض وزج به في السجن الحربي يقول : " وكضابط جيش حضرت السجن الحربي سنة 1954 وبحضور السيد رشاد مهنا شخصيا والمقدم حسن الدمنهوري نشهد أمام الله أن العملية كانت مجزرة وكانت إبادة فعلا للجماعة وكان جمال عبد الناصر يحضر هو شخصيا إلى السجن الحربي وكذلكجمال سالم وعلي صبري وآخرون حتى يروا ويتلذذوا بالتعذيب الذي وقع على كل أفراد الجماعة وقدم عبد الناصر إلى المحاكمة أكثر من 800 من الإخوان أخذوا جميعا أحكام بين الخمس سنوات والخمسة وعشرين سنة . .
ونفذ حكم الإعدام في الشهيد عبد القادر عودة والشهيد الشيخ محمد فرغلي والشهيد يوسف طلعت والشهيد إبراهيم الطيبوالشهيد هنداوي دويروالشهيد محمود عبد اللطيف. بقى الإخوان المسلمين في سجون مصر من 1954 وكان آخر من خرج منهم في ابريل سنة 1975 بعد أن أمضوا ما يزيد على العشرين عاما داخل السجن وهو الأمر الذي لم يحدث لأي مجرم من المجرمين ! ! .
ولم يكتف جمال عبد الناصر بسجن الإخوان ولكنه عن طريق أجهزته سام الإخوان أشد العذاب وأقام لهم مذبحة سجن طره التي استشهد فيها ستة وعشرون من الإخوان . وبذر في صفوفهم الفرقة . . ومزق صفهم وفتنهم عن دينهم حتى أسف عدد غير يسير منهم ولكن بقيت – بالرغم من كل ذلك – الفئة المؤمنة الصلبة الثابتة على الحق حتى جاء الحق وظهر أمر الله .
لقد كانت ضربة الإخوان سنة 1954 بداية لصعود نجم جمال عبد الناصر وكانت الفترة ما بين سنة 1954 , وسنة 1965 أزهى سنين عمره وحكمه لقد استطاع أن يسلب الناس إرادتهم وزرع الخوف في قلوبهم من هول ما سرب من معلومات عن صور التعذيب داخل السجون والمعتقلات .
لقد استطاع عبد الناصر أن يحكم قبضته على الشعب المصري ولم يوجد خارج السجون من يستطيع أن يعارض لأنه جعل من حوادث الإخوان نموذجا لإرهاب كل من تحدثه نفسه بالمعارضة واستقرت الأمور لجمال عبد الناصر. . ولكنه لم يغفل لحظة عن الإخوان المسلمين وكانت أجهزة الأمن ساهرة في مراقبة الإخوان . . ولم تكن أجهزة عبد الناصر وحدها تراقب نشاط الإخوان المسلمين في مصر وترصد حركتهم بل لقد اعترف أحد الجواسيس الفرنسيين أثناء محاكمته ونشرت اعترافاته جريدة الأهرام أنه كان يكتب تقريرا يوميا عن نشاط الإخوان المسلمين في مصر خلال الأعوام الأولى من الستينات . وبعد مرور خمس سنوات على دخول الإخوان سجون مصر سنة 1954 استطاعت أجهزة عبد الناصر ( المباحث العامة ) أن تفتن الكثيرين من الإخوان عن دعوتهم عن طريق الضغط داخل السجون والتلويح بالإفراج عنهم إذا ما أيدوا عبد الناصر عن طريق كتابة " تلغراف " تأييد أو عن طريق كتابة ورقة تعطى لضابط المباحث الذي غالبا ما كان هو نفسه ضابط السجن . وكان " تلغراف " التأييد هذا أو " ورقة التأييد " بمثابة " الزحليقة " التي تهوي بالأخ إلى الهاوية حيث انتهى الأمر بالكثيرين ممن فتنوا أن سمحوا لأنفسهم أن يعملوا جواسيس على الإخوان للمباحث العامة .وكانت هذه العملية بمثابة تدمير وتمزيق لجسد الجماعة داخل السجون وكانت هذه أقسى صور محنة الإخوان داخل السجون ! ! .
وبدأت فعلا عملية الإفراج عن بعض هؤلاء الذين تخلوا عن دعوتهم وفتنوا عن فكرتهم بعد أن أصبحوا حطام بشر . . بدأت عملية الإفراج هذا أواخر1959. . وأوائل الستينات وأيضا أفرج عن الإخوان الذين حكم عليهم بالسجن 5 سنوات وثبتوا حتى نهاية مدتهم ولم يكن عبد الناصر قد تفتقت عبقريته بعد عن فكرة اعتقال المسجونين بعد قضاء فترة العقوبة المحكوم عليهم بها كما فعل بعد 1965 . واستمرت عمليات الإفراج عن الإخوان ممن أمضوا مدة العقوبة وممن فتنوا عن دعوتهم في مايو سنة 1964 وأفرج عن الشهيد سيد قطب وعن الشهيد يوسف هواش بعد الشهيد سيد قطب بأيام من نفس العام إفراجا صحيا حيث كان قد حكم على الشهيد سيد قطب بالسجن خمسة عشر عاما وكذلك الشهيد هواش . . وقد أمضيا الاثنان فترة العقوبة في مصحة ليمان طره لمرضهما بالذبحة ومرض الصدر . أريد أن أقول انه حتى النصف الثاني من عام 1964 كانت عمليات الإفراج عن الإخوان المسلمين تتم ولكن معظم المفرج عنهم هم الذين استطاعت المباحث العامة أن تحطمهم بفتنتهم عن دينهم . . وتخليهم عن جماعتهم . . بل وتخليهم عن أخلاقهم . . حتى أن الأمر قد وصل بأحدهم أنه كتب طلبا لإدارة سجن القناطر يطلب أن يغير دينه إلى النصرانية ! . . حتى يرضي جهاز المباحث لتفرج عنه ! .
وأكثر من ذلك أنه قد أشيع أن عبد الناصر في سبيله للإفراج عن بقية الإخوان المسجونين وهم الذين كان قد حكم عليهم بالسجن لمدة خمسة عشرة عاما . . أو خمسة وعشرين عاما . . خاصة وفي عام 1964 وحين زار خروشوف مصر أفرج عبد الناصر عن جميع الشيوعيين المحكوم عليهم قبل أن تطأ خروشوف أرض مصر ! ! . . حتى أن بعض الإخوان المسجونين لما علموا بهذه الإشاعة وقفوا موقفا رافضا للإخوان الذين قد بدءوا تشكيلهم الجديد . . خارج أسوار السجن . ولكن حتى أواخر سنة 1964 لم يكن لدى جهاز المباحث العامة ما يجعلها توقف عملية الإفراج عن الإخوان المسلمين بل أن المباحث العامة لم تكن تعلم بوجود تنظيم للإخوان إلا بعد منصف أغسطس سنة 1965 . . وهذا ما سأوضحه في الفصل الثاني .
الفصل الثاني
لماذا كانت مذبحة السجن الحربي 1965
بدأت أحداث مذبحة الإخوان المسلمين في السجن الحربي وسجون مصر الأخرى ( القلعة . . وأبو زعبل . . وطره ) سنة 1965 باعتقال الأستاذ محمد قطب يوم 29 يوليو سنة 1965 . . وجاء في أقوال الشهيد سيد قطب :
" في يوم 29 أو 30 يوليو سنة 1965 اعتقل أخي سيد قطب وحضرت من رأس البر إلى القاهرة يوم 2 أو 3 أغسطس سنة 1965 وكان البيت في حلوان وفي رأس البر قد فتش بحثا عن محمد مثل ما قالوا لي وذلك قبل اعتقال محمد بيومين ولما جئت القاهرة إلى القاهرة أرسلت رسالة للصاغ احمد راسخ بالمباحث العامة وسلمت الرسالة باليد لاستعلامات المباحث بواسطة ابن أختي رفعت بكر شافع أو عزمي بكر شافع ومش فاكر من منهم وفي الغالب بعثتها مع عزمي كانت الرسالة احتجاجا على اعتقال محمد دون أن نعرف أين مقره وعلى طريقة تفتيش العشة في رأس البر ومعاملتي معاملة قاسية وأنا مريض ولم يحص ضرب وإنما اللي حصل إن ضابط المباحث خبط على الشباك بعد نص الليل فلما فتحت أمسك يدي ونط من الشباك ودخل وفتش والنظر لمرضي فأنا اعتبرت أن هذا الإجراء غير طبيعي وكان احتجاجي على هذين التصرفين .
وقلت في الرسالة أن برتراند رسل لما اعتقلته حكومته لمهاجمته لها كان معروفا هو فين ودوه ومحمد قطب مفكر وقارنته بالإعلان عن القبض على مصطفى أمين وقلت انه كان المنتظر أننا نحن عائلة قطب أن نعرف مكان وجوده . وبعد حوالي خمسة أيام من تقديم هذه الرسالة في يوم 9 أغسطس اعتقلت أنا . . " انتهى .
كان اعتقال الأستاذ محمد قطب بداية محنة الإخوان المسلمين سنة 1965 . . ولم تكن الدولة بأجهزة أمنها قد اكتشفت أن هناك تنظيما سريا مسلحا أو غير مسلح للإخوان واعتقال الأستاذ محمد قطب ليس عضوا في تنظيم الإخوان المسلمين الذي اكتشف بعد ذلك والذي كان على رأسه الشهيد سيد قطب ولم يقدم الأستاذ محمد قطب إلى المحاكمة وان كان قد بقى في المعتقل أكثر من ست سنوات . وقد حدثني الأستاذ محمد قطب أثناء طوابير التعذيب الجماعي الذي كان بمثابة عملية غسيل المخ التي أجريت على الإخوان المسلمين لمدة 23 شهرا وحتى نكسة يونيو سنة 1967 التي أنهت مأساة السجن الحربي . . قال لي الأستاذ محمد في إحدى المجلات الأمريكية عن كتاب " جاهلية القرن العشرين " الذي ألفه الأستاذ محمد قطب وكتاب " معالم في الطريق " الذي ألفه الشهيد سيد قطب وقد كتبت المجلة الأمريكية تحذر من الكاتبين والكتابين ووصفتهما بالتعصب ويعتقد الأستاذ محمد قطب أن " المخابرات الأمريكية " كانت وراء ما نشر في المجلة الأمريكية ووراء ما حدث للإخوان المسلمين .
أما بخصوص القبض على الشهيد سيد قطب فقد اعتقل كما قال هو يوم 9 أغسطس سنة 1965 ولم يذهبوا به إلى السجن الحربي ولكن اعتقاله جاء نتيجة موجة الاعتقال التي استوعبت كل الإخوان الذين خرجوا من السجون بعد قضاء مدة العقوبة التي حكم بها عليهم عام 1954 أو 1955 أو أفرج عنهم صحيا . أقول حتى هذا اليوم لم تكن أجهزة الأمن قد اكتشفت أن هناك أي تنظيم للإخوان المسلمين ولم يكن السجن الحربي قد امتلأ بالإخوان بعد ولكن كانت قضية حسين توفيق ومن معه هي التي يحقق فيها السجن الحربي . . وكان معتقل " القلعة " الرهيب ومعتقل " أبو زعبل " ومعتقل " الفيوم " هي أماكن تجميع الإخوان المعتقلين .
وبدأت عمليات التعذيب في معتقل القلعة بطريقة همجية ووحشية ولقد ارتبطت مذبحة الإخوان المسلمين التي حدثت سنة 1965 بالسجن الحربي ولكن الحقيقة أن السجن الحربي لم يكن التعذيب فيه رغم فظاعته وضراوته ولا إنسانيته أكثر من التعذيب في سجن القلعة وسجن أبي زعبل . . بل إن التعذيب الذي لاقاه الإخوان المسلمون في سجن القلعة في الفترة الأولى المحصورة بين تاريخ القبض على الأستاذ محمد قطب في أواخر شهر يوليو سنة 1965 وحتى يوم اكتشاف التنظيم في 17 أغسطس سنة 1965 أشد هولا وأكثر بربرية .
لقد روى لي الأخ سعيد احمد الراجي وكان من نزلاء سجن القلعة عندما التقيت به في السجن الحربي أن شمس بدران كان يحضر إلى سجن القلعة في الفترة قبل اكتشاف " التنظيم " ويطلب من ضباط المباحث العامة الذين يشرفون على عمليات التعذيب هناك انه يريد " تنظيما " للإخوان . . أي تنظيم وبأي ثمن ! ! . . ولذلك كانت التحقيقات عشوائية مع أفراد المعتقلين لم يكن للمباحث العامة أي علم بأن هناك تنظيم للإخوان بل كانوا مطمئنين أنه لا تنظيم للإخوان المسلمين ولكنهم كانوا ينفذون الأوامر . . كانوا يبدءون التحقيقات ليلا فكانت تفتح زنزانة أو أكثر من زنزانات سجن القلعة الرهيب ويسحب منها مجموعة من الإفراد حسب ما تقع أيديهم عليهم ويؤخذون ويعذبون بطريقة همجية بربرية لانتزاع أي اعترافات . . وكانت أداة التعذيب في هذا المكان هي " الشومة " الغليظة لأن طائرة الكرابيج السودانية التي أرسلت لإحضارها خصيصا من لندن كما قيل لم تكن قد وصلت بعد . . وكان الضرب على الجسم جميعه دون مراعاة للخطر الذي يمكن أن يسببه الضرب . . صحيح أن الضرب بالكرباج قد يكون عذابه الوقتي أقسى من الضرب بالشوم لأن الضرب بالكرباج " يلسع " ولكن الضرب بالشوم ألمه لا يتوقف على وقت الضرب ولكن كان الألم الشديد فيما بعد لأن ارتطام " الشوم " بعظام الجسم كثيرا ما كان سببا في كسر العظام وإحداث كدمات مفزعة في الجسم وكان مألوفا جدا أن تجد أذرعا معلقة في الرقبة أو ترى رجالا يزحفون على مقاعدهم .
لقد بدأت عمليات الاعتقال كما قال الشهيد سيد قطب يوم 29 أو 30 يوليو سنة 1965 باعتقال الأستاذ محمد قطب الذي لم تستطعه النيابة . . وكان يهمها ويهم النظام كله أن تدين محمد قطب. . لم تستطع أن تثبت أن محمد قطب كان عضوا في أي تنظيم واعتقل بعد ذلك جميع إخوان السجون الذين أفرج عنهم بعد قضاء مدة العقوبة أو أفرج عنهم صحيا . . دون أن يكون لدى أجهزة الأمن كلها سواء أكانت المباحث العامة وهي الجهاز المتخصص في شئون الإخوان منذ سنة 1954 . . أو المخابرات العامة أو الشرطة العسكرية التي كانت خاضعة لشمس بدران. . ومن هنا كان شمس بدران يطلب إيجاد أي تنظيم ليجعل منه مبررا للمحنة التي أعدت للإخوان المسلمين سنة 1965 ! ! والتي بدا من واقع الإحداث أن الأمر كان مبيتا لإدخال الإخوان المسلمين السجون مرة أخرى قبل حدوث المأساة التي حدثت في 5 يونيو 1967 ! ! .
شهادة وزير الداخلية !
وقد نشر ضياء الدين بيبرس تحقيقا صحفيا في مجلة روزا اليوسف في العدد 21475 تحت عنوان : الصراع السري بين المباحث والمخابرات جاء فيه تحت عنوان فرعي : " المخابرات تدبر مقلبا " يقول فيه :
" في أوائل الستينات بدأت القصة المثيرة للحصار الذي فرضه شمس بدران و صلاح نصر حول عبد الناصر ما بين 1961 إلى 1967 وكيف أن هذا الحصار كان يستلزم أن يسقط جهاز وزارة الداخلية كاملا بما فيه المباحث العامة في يد شمس بدران و صلاح نصر بينما كان عبد الناصر يؤمن بنظرية توازن الأضداد بين مراكز القوى حتى لا تستأثر قوة بالسلطة دون الأخرى .
وكي يتم لها السيطرة فقد كان لا بد أن تتجمع في أيديهما كل التحريات وكان لمدير المباحث العامة حق الاتصال مباشرة برئيس الجمهورية ثم تأكد هذا الحق لما أصبح المدير هو وزير الداخلية في عام 1961 ولهذا فان تفكير شمس بدران و صلاح نصر هداهما إلى انه لا بد من تشكيك عبد الناصر في جهاز البوليس كله لا عن طريق الادعاء بعجزه فحسب بل عن طريق التشكيك في ولائه أيضا ثم تكون الخطوة التالية هي أن يتولى منصب وزير الداخلية ضابط من المخابرات وهو ما حدث فعلا منذ سبتمبر 1965 حتى حركة القضاء على مراكز القوى على يد أنور السادات في 14 مايو سنة 1971.
وقد سنحت هذه الفرصة في أغسطس 1965 وكان معظم الوزراء في الإسكندرية ومن المقرر أن يسافر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في اليوم التالي إلى جدة للاجتماع بالملك فيصل رحمه الله وهو الاجتماع الذي أسفر عن اتفاقية جدة الخاصة بتصفية الوجود المصري في اليمن وإذا بالمشير عبد الحكيم عامر كان وقتها يحمل لقب النائب الأول لرئيس الجمهورية يستدعى عبد العظيم فهمي وزير الداخلية يقول له :
" ماذا تفعل في الإسكندرية وقد كادت القاهرة تقع في يد انقلاب ينظمه الإخوان المسلمين ؟ ! . . إن المخابرات العامة أنقذت أعناقنا بأعجوبة من الشنق وأنت ووزارة داخليتك نائمون في العسل . . عندك طائرة في مطار الدخيلة تنتظرك تركبها أنت وأعوانك فورا ومن مطار القاهرة إلى مكتبك لتنظيم عملية تصفية المؤامرة ! ! " .
فقال عبد العظيم فهمي للمشير :
" سيادتك تشير إلى تقارير ثبت أنها غير صحيحة ولا توجد مؤامرة أخوا نية ولا حاجة وأنا مسئول " . .
فقال عبد الحكيم عامر:
" وكمان بتكدب تقارير المخابرات ؟ ! . . على كل حال تأخذ الطائرة إلى القاهرة الآن . . ولنا بعد ذلك كلام " . . فقال عبد العظيم فهمي للمشير " ولكن الرئيس سيغادر الإسكندرية غدا إلى جدة وأمنه الخاص من مسئوليتي وهو رأس النظام ومن غير المعقول حتى إذا فرضنا أن هناك مؤامرة أن أترك رئيس الجمهورية في الإسكندرية وأسافر إلى القاهرة " .
فقال عبد الحكيم عامر:
" هذا الأمر . . " .
وسافر عبد العظيم فهمي إلى القاهرة بالطائرة وإذا بشمس بدران يذهب إلى الرئيس عبد الناصر ويقول له : إن وزير الداخلية ترك الإسكندرية تزخر بخلايا الإخوان المسلمين المتربصين لاغتيالك وللقضاء على النظام وذهب إلى القاهرة لغرض غامض ! ! .
وفي نفس الوقت تلقى الرئيس الراحل تقارير تعلن اكتشاف مؤامرة ناضجة لاغتيال كل الجاهز الحاكم والانقضاض على الحكم . وقالت التقارير أن وزير الداخلية لا يعلم شيئا عن هذه المؤامرة وطلبت التقارير النور الأخضر للمخابرات لتتحرك بحرية للقضاء على المؤامرة فان وزير الداخلية وكل أجهزة المباحث العامة نائمين في " العسل " انتهى كلام ضياء الدين بيبرس .
وفي كلام ضياء الدين بيبرس في تحقيق مجلة روزا اليوسف شعاع من الضوء يؤكد جانبا من الحقيقة وهو أن المباحث العامة في وزارة الداخلية لم تكن تعلم أن هناك تنظيما للإخوان يوم جمال عبد الناصر إلى جدة على لسان عبد العظيم فهمي نفسه وزير الداخلية ورأس جهاز المباحث العامة وكان ضباط المباحث مطمئنين تمام الاطمئنان إلى عدم وجود أي تنظيم للإخوان بل وحتى بعد اكتشاف التنظيم السري الذي كان على رأسه الشهيد سيد قطب فقد أخفت الشرطة العسكرية بعد اكتشافها – قدرا – التنظيم الحقيقي واتخذت عدم علم المباحث العامة بالتنظيم مجالا للسخرية من ضباطها وكانت كل وظيفة ضباط المباحث العامة هي عمليات القبض والتفتيش دون أن يعرفوا سببا لذلك إلا تنفيذ أوامر الشرطة العسكرية .
وكرد فعل للاهانة التي أحس بها ضباط المباحث وسخرية ضباط وصف ضباط الشرطة العسكرية منهم كان بعض ضباط المباحث العامة يقومون بعمليات القبض والتفتيش بطريقة روتينية ودون حماس وكانوا يستشعرون بأن الشرطة العسكرية قد نصبت لها شركا وأوقعتها وأقحمت نفسها في موضوع ليس مجال نشاطها وأضرب مثلا لذلك ضابط المباحث الذي ألقى القبض علي يوم 21 أغسطس سنة 1965 فقد كان مؤدبا متعاطفا معي سهلا . . قام بتفتيش شقتي بطريقة ليست همجية كما كانت تفعل الشرطة العسكرية التي سرقت أسورة زوجتي في إحدى الزيارات التي حدثت بعض القبض علي . . لقد أخذ معه بعض أوراقي الخاصة وكان من بين تلك الأوراق خطاب أرسله لي سيد نزيلي صاحب مأساة قريتي كرداسة حدثني في هذا الخطاب في الصفحة الأولى على مشروع زواجه بأخت احمد عبد المجيد عبد السميع عضو قيادة التنظيم وفي الصفحة الثانية من الخطاب كان حديثا عن " التنظيم " بصريح العبارة ورغم أنني كنت قد صفيت أوراقي الخاصة إلا أني لا أعرف كيف سقط مني هذا الخطاب ولم أتخلص منه , وأردت بحركة سريعة أن أخفي الخطاب مع بعض الأوراق الخاصة ولكن الضابط بأدب قال لي :
" هات هذه الأوراق . . سنأخذها معنا لنقرأها هناك . . "
وسقط قلبي . . وأحسست أن أمر التنظيم قد اكتشف . . واستسلمت لأمر الله . أكمل الضابط عملية التفتيش وصحبني إلى وزارة الداخلية وبدأ يقرأ أوراقي وكان هذا الخطاب أول ما قرأ ولم يقرأ منه إلا الصفحة الأولى . . واستسمحني أن يمزق الخطاب فرحبت بذلك وكان ! !
ولكن إذا كان هذا هو رد فعل " للمقلب " الذي أعدته الشرطة العسكرية للمباحث العامة من بعض الضباط فلقد كان رد الفعل لبعض الضباط الآخرين من المباحث العامة شيئا فظيعا مرعبا فاق في بعض الحالات ما صنعته الشرطة العسكرية . . وإذا كان قد استشهد في السجن الحربي محمد عواد أول شهيد في السجن الحربي والشهيد الامباشي إسماعيل الفيومي الحارس الخاص لجمال عبد الناصر. . والشهيد محمد علي عبد الله المدرس بمدرسة كفر شكر . . والشهيد محمد عبد العزيز منيب أمين مكتبة كلية العلوم بجامعة أسيوط ورفعت بكر ابن أخت الشهيد سيد قطب. . فلقد استشهد بوسائل التعذيب الهمجية على يد المباحث العامة زكريا المشتولي و بدر القصبي و عبد الحميد البرديني وكثيرون غيرهم ! !
يقينا لم تكن المباحث العامة حتى يوم 20 أغسطس سنة 1965 قد علمت باكتشاف تنظيم للإخوان المسلمين وكانت تقوم بتنفيذ أوامر شمس بدران سواء بإلقاء القبض على من يريد القبض عليه من الإخوان أو بالتعذيب الهمجي في سجن القلعة للبحث عن " أي تنظيم " على حد قول شمس بدران نفسه ! !
أما الشرطة العسكرية وعلى رأسها شمس بدران فلم تكن هي أيضا تعلم حتى الأسبوع الثاني من شهر أغسطس سنة 1965 أن هناك تنظيما للإخوان المسلمين والدليل على ذلك طلب شمس بدران من ضباط المباحث العامة الذين كانوا يشرفون على المعتقلين في سجن القلعة البحث عن أي تنظيم والدليل الثاني هو أنه حتى يوم 12 أغسطس سنة 1965 لم يكن قد قبض على أي عضو من أعضاء التنظيم بسبب اكتشاف عضويته ولكن القدر البحت هو الذي وضع أيدي الشرطة العسكرية على " التنظيم " .
لقد سبق القبض على الإخوان القبض على حسين توفيق ومجموعته والقبض على مصطفي أمين وكان من بين مجموعة حسين توفيق المهندس سامي عبد القادر الذي كان قد زار يوسف القرش في قرية سنفا والذي ادعت السلطة حينذاك أنها وجدت عنده قنبلتين كان قد أحضرهما نسيبه صول الصاعقة عبد اللطيف شاهين وكان قد باعهما سالم شاهين أخو عبد اللطيف شاهين ليوسف القرش – وهو من قدامى الإخوان – بعلبة سجاير ! ! رآهما المهندس سامي عبد القادر عند يوسف القرش وأثناء تعذيب سامي عبد القادر أراد أن يخلص نفسه من هول ما فيه فروى حكاية القنبلتين . . فانطلقت الشرطة العسكرية إلى قرية سنفا لتقبض على يوسف القرش فلم تجده وقيل لهم انه في القاهرة عند صديق له يدعى حبيب عثمان . . فذهبوا إلى حبيب عثمان وقبضوا على يوسف القرش وحبيب عثمان أيضا ! ! . . بل لم يكفهم يوسف القرش من قرية سنفا بل أخذوا ما لا يقل عن ثلاثين شابا من قرية سنفا وعندما ذهبت إلى السجن الحربي كانت المجموعة التي القي عليها القبض من سنفا قد عذبت عذابا شديدا ومزقت أجسادها بالسياط وكان صوت يوسف القرش و سالم شاهين الذي باع القنبلتين بعلبة سجاير يمزق السكون الرهيب الذي كان يخيم على السجن الحربي . . كانت كلمة . . يا رب . . يا رب . . نداء يتردد صداه في السجن الكبير فيمزق نياط من له قلب . . قبض على حبيب عثمان لمجرد أن يوسف القرش كان عنده . . وبدأت عمليات التعذيب لحبيب عثمان دون ذنب . . ودون أن يتحدث عنه أحد بكلمة واحدة ولكن لا يوجد إنسان دخل السجن الحربي وخرج من دون تعذيب . . بالذات في الأيام الأولى قبل أن تصل أيدي الشرطة العسكرية إلى اكتشاف التنظيم . . واستمرت عملية التعذيب لحبيب عثمان صديق القرش الذي قبض عليه لا لشيء إلا لأنهم قبضوا على يوسف القرش صاحب القنبلتين من عنده . . وفي إغماءة من إغماءات حبيب تحت نير السياط قيل له من " هم أعضاء أسرتك " :
فقال حبيب :
_ هم . . فلان . . وفلان . . وذكر أسماء أعضاء أسرته . . وقبض على أفراد الأسرة . . وبدأت عمليات التعذيب الرهيبة لهم . . واعترف أحدهم أيضا .
وذكر اسم رئيس الأسرة . . الذي اختفى من اللحظة التي قبض فيها على أعضاء الأسرة . . وباختفائه أنقطع الخيط . . مرة ثانية . . كان اعتراف حبيب عثمان وجوده نمرة في أوائل الأسبوع الثالث من أغسطس . . ولكن سرعان ما انقطع الخيط الذي أمسكوا به باختفاء " نقيب " الأسرة وزاد سعار شمس بدرانوجهازه واكتظت المعتقلات بالمعتقلين . . وكان الشهيد عبد الفتاح إسماعيل مطلوب اعتقاله لأنه كان ممن اعتقلوا سنة 1954 وبقى في السجن الحربي ما يقرب من سنتين ومنذ أن أفرج عنه في 1956 وهو يتحرك في طول البلاد وعرضها على أنه " تاجر " يبيع ويشتري في كل شيء . . ولكن الحقيقة لم تكن التجارة هدفه ولكنها كانت مجرد وسيلة يستر بها حركته التي يوقظ بها الإخوان ويستنهض هممهم . . ذهبوا إلى قريته " كفر البطيخ " ليقبضوا عليه فلم يجدوه وذهبوا عند أخيه الشيخ علي إسماعيل رحمه الله ليسألوا عليه فلم يجدوه فاعتقلوا الشيخ علي وسألوه عن معارف الشيخ عبد الفتاح إسماعيل فعرفهم بمنزل المهندس فاروق الصاوي الذي كان يسكن بالمطرية فأخذوا فاروق معهم وسألوه عن الشيخ عبد الفتاح فنفى أنه يعرف مكانه وبعد أن استبقوه بعض الوقت أفرجوا عنه وأعطوه رقم تليفون ليتصل بهم عندما يحضر عنده الشيخ عبد الفتاح واستطاع فاروق عن طريق آخر كانوا يرتبطون معه بالشيخ عبد الفتاح إسماعيل أن يخبر الشيخ عبد الفتاح إسماعيل بما حدث معه .
وحتى هذه اللحظة لم تتقدم الشرطة العسكرية أية خطوة جديدة في سبيل اكتشاف التنظيم ومعرفة أعضاؤه وكما قلت لم يكن طلب اعتقال الشهيد عبد الفتاح إسماعيل بسبب اكتشاف صلته بالتنظيم ولكن بسبب نشاطه السابق وموجة الاعتقال العام التي اتسعت حتى شملت جميع الإخوان الذين خرجوا من السجن . . وكل من عرف له نشاط سابق في جماعة الإخوان . . ولكن هروب الشيخ عبد الفتاح إسماعيل زاد شك شمس بدران فيه وبدأت عملية حصر الذين يتردد عليهم وكان من بين هؤلاء الشيخ محمد عبد المقصود مأذون قرية البيضا القريبة من قرية سنفا فقبض عليه ليلة 14 أغسطس 1965 . . وهي ليلة زفاف ابنته إلى عريسها الشيخ عبد الفتاح فايد الذي يقيم بالمطرية القاهرة فذهبوا إليه هو أيضا مع الفجر وحملوه مع صهره إلى السجن الحربي . . وبدأت عملية تعذيب بشعة سيرويها الشيخ محمد عبد المقصود في فصل من فصول هذا الكتاب وكان نصيب الشيخ عبد الفتاح فايد من التعذيب مروعا فقد جعلوا منه " مثله " يرهبون به كل من لم يعترف واعترف الشيخ عبد الفتاح فايد بالذهاب إلى مصيف رأس البر وذكر من بين الذين حضروا المصيف مجموعة من مصر الجديدة هم الدكتور محمود عزت إبراهيم والدكتور مجدي عبد الحق والدكتور صلاح عبد الحق و محمود فخري وكانوا لا يزالون طلبة الثلاثة الأول في كلية طب جامعة عين شمس والأخير طالب بكلية التجارة .
والجميع دون العشرين . . وذهبت الشرطة العسكرية وألقت القبض عليهم وأحضرتهم إلى السجن الحربي . . وبدأت عملية التحقيق وكان أول الذين حقق معهم محمود فخري صاحب الوصية التي نشرت في الصحافة وقتئذ . . رفض محمود فخري أن يتكلم إلا أمام النيابة فقالوا له تكلم أحسن لك . . وإلا سيكون مصيرك مثل مصير عبد الفتاح فايد . . وفي هذه اللحظة كان حارسان يحملان عبد الفتاح فايد على نقالة . . في صورة بشعة كان عبارة عن كتلة لحم مشوهة تزرع الرعب في قلب كل من يراه وكان لمنظر عبد الفتاح فايد المروع أثر عميق في نفس محمود فخري جعله يعترف ببساطة ودون أن يمسه أذى . . اعترف بمعسكر بلطيم . . واعترف على الشهيد محمد عواد . . واعترف على شقة مرسي مصطفي مرسي بإمبابة . . وانطلقت الشرطة العسكرية إلى قرية الزوامل لتحضر محمد عواد الذي حضر مصيف بلطيم وعندما وصل رجال الشرطة العسكرية للقبض على الشهيد محمد عواد , وكان عند عواد مصطفى الخضيري نقيب أسرة حبيب عثمان الذي هرب وبهروبه قطع الخيط الذي أمسكت به الشرطة العسكرية . وأراد محمد عواد أن يعطي فرصة للخضيري كي يهرب فقفز خارج منزله وأخذ يجري في الحقول مما جعل الشرطة العسكرية يلاحقونه بعيدا عن المنزل واستطاع مصطفى الخضيريأن يخرج بسرعة من منزل محمد عواد وأفلت من أيدي الشرطة العسكرية . ولكن الشرطة اعتبرت قبضها على محمد عواد – خاصة بعد أن حاول أن يهرب – صيدا ثمينا ولكن الشهيد محمد عواد كان يعلم أن القبض على مصطفى الخضيري أخطر كثيرا من القبض عليه هو نفسه لذلك راوغ وابتلعت الشرطة العسكرية الطعم ونجا مصطفى الخضيري .
وفي نفس الوقت كان الصاغ رياض إبراهيم وهو اعتي ضباط الشرطة العسكرية يصطحب محمود فخري ليدله على شقة مرسي مصطفي مرسي في مساكن إمبابة وهي الشقة التي اتخذتها الشرطة العسكرية فخا لاصطياد كل من يقترب منها . كان ذلك يوم الجمعة 20 أغسطس سنة 1965 . . وكمن رياض إبراهيم في الشقة بعد أن اعتقل مرسي وزوجته في حجرة من الحجرات وأوقف رجاله بالمدافع الرشاشة خلف باب الشقة في انتظار الصيد . . وحقا لقد كان الصيد ثمينا فقد طرق الباب الشهيد عبد الفتاح عبده إسماعيل . . و علي عشماوي . . و مبارك عبد العظيم . . وحملوهم إلى السجن الحربي مع مرسي وزوجته وأحد ضيوف مرسي وزوجته . . و عاطف شاهين .
وعندما وصلت السيارات إلى السجن الحربي ونزلت زوجة ضيف مرسي من العربة رأت تمثالا لجندي يطعن جندي بالسكين فسقطت مغشيا عليها . . وفي صباح نفس يوم الجمعة كانت روح محمد عواد قد فاضت بعد أن هشم صفوت الروبي رأسه في جدار الفسقية كما سيأتي ذلك بالتفصيل . . وانهار علي عشماوي واستطاع شمس بدران بأسلوب الترغيب والترهيب أن ينج في أن يجعل من علي عشماوي " شاهد ملك " وكان علي عشماوي هو أهم شخص يعرف خبايا التنظيم على مستوى الجمهورية . . وكان ذا ذاكرة حديدية قال أكثر مما يستطيع أي إنسان آخر أن يقوله . . وكانت تلك الليلة عيدا لضباط الشرطة العسكرية . . فبعد القبض على محمد الجزار ومن معه . . و ممدوح الديري و جلا الدين بكري و مصطفي الخضيري معهما . . عانق ضباط الشرطة العسكرية بعضهم بعضا . . أتعرف لماذا ؟ لأنهم الآن فقط يستطيعوا أن يقولوا أن هناك مؤامرة للإخوان المسلمين لاغتيال جمال عبد الناصر. . وأعوانه وقلب نظام الحكم وتغيير دستور الدولة بالقوة .
وبدأت المجزرة الحقيقية بدءا باستشهاد محمد عواد الذي لم يعترف بكلمة واحدة . . ولم تفلح معه وسائل التعذيب الهمجية . . حتى بعد أن هشم صفوت الروبي رأسه في جدار الفسقية . . وهذه المجزرة هي موضوع هذا الكتاب والتي لا يستطيع إنسان واحد ممن حضروها أن يرسم صورتها كاملة من خلال تجربته الشخصية لأن لكل واحد من الإخوان قصة . . وأسلوب التعذيب اختلف من شخص لآخر . . لذلك فسوف أقدم صورة لمذبحة السجن الحربي من خلال مجموعة من التحقيقات الصحفية مع مجموعة من ضحايا المذبحة . . وأبدأ بتجربتي والتي أرويها في الفصل الثالث ! ! .
المجرم الحقيقي .!
كلمة أخيرة أختم بها هذين الفصلين وهي أن فكرة تصفية الإخوان المسلمين لم تكن في يوم من الأيام تفكيرا مصريا خالصا . . ولكن في جميع المحن التي تعرض لها الإخوان المسلمون كان الحقد الصليبي والكيد اليهودي والمكر الشيوعي هم وراء كل محنة لتصفية هذه الجماعة . . ويقيني أن الولايات المتحدة الأمريكية هي المحرض الأول على ضرب الإخوان المسلمين سواء كان ذلك أيام إبراهيم عبد الهادي . . أو أيام جمال عبد الناصر لأنها صاحبة المصلحة الأولى في المنطقة سواء كانت المصلحة اقتصادية أو إستراتيجية ثانيا لأنها حامية حمى الصليبية العالمية في القرن العشرين وثالثا لأنها أصبحت مطية الصهيونية واليهودية العالمية تسخرها لتحقيق حلمها الكبير في إقامة " هيكل سليمان " من جديد . . والجميع يعلمون أن هذا الحلم لن يتحقق إلا في غيبة الإسلام وبالذات " إسلام الإخوان المسلمين " الذي أعلن جمال عبد الناصر أنه لن يسمح بتواجده في منطقة الشرق الأوسط ؟ ! أقول أن العقل المفكر في ضرب الإخوان المسلمين كان عقل القوى الخفية التي تحكم العالم اليوم وتعتبر الإسلام عدوها الأول والأخير وبرميل البارود لا يدرون متى ينفجر فيبدد أحلام الجميع ! 1 .
أما الأقزام من الحكام الذين صورتهم أجهزة هذه القوى الخفية في صورة " الأبطال الأسطوريين " أمام شعوبهم فلم يتعد دورهم دور الهراوة الغليظة التي هوى بها المجرم الحقيقي على رأس الضحية . . ولكن أنى للإنسان القزم أن يحجب بيده الشمس ؟ ! !
وأنى للحقد الصليبي والكيد اليهودي والمكر الشيوعي أن يقفوا في وجه الزحف الإسلامي الكاسح ؟ ! ! . إن المسلم الحق الذي يعمر الإيمان قلبه مطمئن إلى قوة الله وقدرته وإحاطته بالبشر جميعا ويقينه أنه لو شاء الله لانتصر منهم ولكن لله سنة لابد أن تتحقق فحتى يتحقق نصر الله لابد أن نستقيم نحن أولا على طريق الله فالنصر مرهون باستقامتنا نحن على دين الله وليس رهن بقوة الباطل أو ضعفه ! ! .
الفصل الثالث
مأساة كرداسة . !
أنا واحد من أبناء قرية كرداسة . . ومن أشبال الإخوان المسلمين في الخمسينات . . وأحد أعضاء تنظيم سنة 1965 وما سأرويه عن مأساة قريتي لم أكتبه من وحي الخيال ولا بقصد رسم صورة لحكم عبد الناصر الأسود وأنا فقط أريد أن أسجل مادة خام . . سوف يجد فيها المؤرخون في المستقبل بعض ملامح حكم الفرد الذي بدأ عام 1952 ! ! واستمر في جبروته وطغيانه حتى اللحظة الأخيرة من حياة جمال عبد الناصر. . أعرفكم أولا بقريتي . . صاحبة المأساة التي فاقت مأساة دنشواي . . وكفر عبده والتي لا تضارعها إلا مذبحة " دير يس " التي صنعها اليهود في فلسطين ! !
كرداسة قرية من قرى الجيزة . . بل هي أكبر قرى محافظة الجيزة إن لم تكن أكبر قرية في جمهورية مصر . . يزيد عددها عن الخمسين ألفا . . وهي صورة مصغرة للشعب المصري الطيب فمعظم أهلها يعملون بالزراعة . . وبعضهم كان يعمل بصناعة النسيج اليدوي . . ونسبة المتعلمين فيها قليلة جدا . . ونسبة الفقر عالية جدا . . لأن أبناءها لم يصل أحد منهم إلى المراكز التي تمكنهم من تحقيق المشروعات النافعة لأبناء قريتهم . . فلم يصل أحد من أبناءها إلى درجة وزير , أقصى ما وصل إليه أحد من أبنائها عضوية مجلس الأمة . . أو مجلس الشعب وللأسف الذين وصلوا إلى عضوية المجلس النيابي سواء كان مجلس أمة أو مجلس شعب لم يفيدوا القرية بشيء . . ولكنهم فقط استفادوا من القرية ! !
ولكن ربنا سبحانه وتعالى نفع هذه القرية بدعوة الإخوان المسلمين فقد زارها في الأربعينات الإمام الشهيد حسن البنا . . وأقيمت بها دار الإخوان " الشعبة " وضمت خيرة أبناء القرية وعلى رأسهم الشيخ عثمان عبد الرحمن رحمه الله نائب الشعبة وعالم القرية الفذ المجاهد المبتلى الصابر . . جزاه الله عن القرية خير الجزاء . . أصبحت كرداسة معقلا من معاقل دعوة الإخوان وتكاد القرية أن تكون معروفة لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين في القاهرة وضواحيها أكثر من غيرها وذلك بسبب أن القرية قريبة من الصحراء الغربية حيث كانت تقام معسكرات الإخوان ورحلاتهم قبل حكم جمال عبد الناصروكانت هذه المعسكرات والرحلات فرصة لأبناء قرية كرداسة من العمال والفلاحين والمثقفين أن يتعرفوا على الكثيرين من الإخوان . . ويعرفوا الكثير عن معالم الدعوة ! ! وكان لدعوة الإخوان الفضل الكبير في القضاء على التناحر الذي كان موجودا بين عائلة مكاوي ( عائلة العمدة ) وعائلة عمار وهي العائلة المنافسة لعائلة العمدة وصاحبة العزوة في القرية . . لقد جمعت دعوة الإخوان المسلمين بين شباب العائلتين وآخت بينهما وقضت على العصبية البغيضة التي كانت تفرق بين أبناء العائلتين والتي عادت بعد ضرب الإخوان المسلمين عام 1954 ! ! .
لقد أضعفت دعوة الإخوان المسلمين النعرات الجاهلية وأفسحت الطريق أمام القيم الإسلامية الأصيلة فلم يعد ما يفتخر به الشباب في القرية هو أنه من عائلة مكاوي أو من عائلة عمار . . ولكن مجال الفخر أصبح العلم . . والخلق . . والسلوك الحسن .
لقد جاء الوقت في أوائل الخمسينات كان كل شباب القرية بصفة خاصة ( الطلاب ) من الإخوان المسلمين وصبغتهم الدعوة جميعا بصبغة إسلامية واحدة . . كانت دعوة الإخوان وما بثته من قيم أخلاقية إسلامية واحدة . . كانت دعوة الإخوان وما بثته من قيم أخلاقية إسلامية حصنا للطلاب . . وللشباب في القرية من التردي في الانحراف ولا يزال الجيل الذي تربى في شعبة الإخوان بقرية كرداسة يتميز بأخلاقه . . وعلمه . . ورجولته عن الأجيال اللاحقة . . أجيال ما بعد انقلاب يوليو ! ! والفضل في ذلك للمنهج التربوي لجماعة الإخوان المسلمين . . والذي كانت تربى عليه الشباب .
وهنا سؤال يفرض نفسه ويلح في طلب الإجابة : هل قامت حركة 23 يوليو 1952 . . للقضاء على جماعة الإخوان المسلمين ؟ ! ولمصلحة من هذا ! ! إن الموقف العدائي للإخوان لم يكن له مبرر لأنه ثبت أن الإحداث التي أتخذ منها جمال عبد الناصرمبررا لضربه جماعة الإخوان المسلمين كلها مزيفة وملفقة وأجهزة أمنه هي التي لفقت هذه الإحداث بدءا بتمثيلية الاعتداء عليه في ميدان المنشية بمدينة الإسكندرية سنة 1954 . . ومخازن السلاح التي بناها رجال الانقلاب بأيديهم في عزبة أحد أعضاء الإخوان وجعلوها دليل اتهام الإخوان لضرب الانقلاب ! ! . . أو قضية سنة 1965 والتي لم يكتشف وجود تنظيم للإخوان إلا بعد ما تم القبض على الإخوان واكتشف أن هناك تنظيما بطريق الصدفة البحتة . . وليلتها تعانق رجال الشرطة العسكريين معبرين عن فرحتهم في وجود مبرر للمجزرة التي كانت النية مبيتة لإقامتها للإخوان . . إن الجهد الذي بذله النظام الناصري في ضرب الإخوان المسلمين على طول الربع قرن الماضي جهدا رئيسيا من جهود النظام في عملية تخريب المجتمع المصري وتفريغه من قواه الحقيقية . . إن ضرب الإخوان المسلمين هدف من أهداف الاستعمار العالمي . . شرقيا كان أم غربيا لأن الإخوان هم طليعة البعث الإسلامي ليس على مستوى مصر بل على مستوى العالم . . لأن الشعب المصري هو أخصب تربة لازدهار الدعوة الإسلامية . . إن الشعب المصري يستهدف ولا يزال يستهدف لأنه مكمن الخطر على المصالح الاستعمارية في المنطقة . . و " الإسلام " هو المفجر لطاقات الإنسان . . وهو الموجه للشعوب نحو تحقيق أحلامها في غد مشرق . . الصليبية العالمية تعرف هذا . . واليهودية العالمية توقن به . . والشيوعية الدولية تؤمن أن العقبة الكئود في طريقها هو " الإسلام " . . وهو التحدي لفلسفتها وحقائقها التي تسمى " علمية " .
و " الحكام " في الشعوب الإسلامية يعلمون أن غيبة الإسلام عن الشعوب هي الفرصة الوحيدة لكي يحكموا أهواءهم وشهواتهم ويعيشوا كأنصاف ألهه تسبح الجماهير الغافلة عن تأليه ربها الواحد الأحد بحمد حكامها الذين يسرقونها إلى حتفها . . وضياعها ! ! .
ورغم الضراوة التي اتسمت بها مواجهة نظام عبد الناصر لدعوة الإخوان إلا أن شجرة الدعوة كانت قد استوت في أرض مصر وتمكنت من القلوب فلم يجد قتل أو سجن أو تشريد في إيقاف المد الإسلامي – والضربات التي كانوا يظنون أنها معاول هدم في صرح الجماعة والدعوة الشامخة لم تزد البنيان إلا تثبيتا . . لقد عزت الدعوة في نفوس أبنائها وغلت حتى رخصت في سبيلها الأرواح .
إن مأساة كرداسة نموذج لضراوة حرب الإبادة التي شنها النظام الناصري على الدعوة الإسلامية وكل من يمثلون الدعوة الإسلامية .
لقد عاش الشعب المصري منذ قيام انقلاب يوليو سنة 1952 ليلا طويلا من الإرهاب . . ذاق فيه أبناء مصر الطيبون صنوف العذاب واستبيحت فيه كل الحرمات ويكاد لم ينج من تلك المأساة أحد حتى الذين صنعوها من الطغاة . . جلاديهم وسجانيهم أذاق الله بعضهم يأس بعض . . لقد أكل الانقلاب أبناءه واحدا بعد الآخر . . ولكن نقول بيقين أن ما لاقاه الإخوان المسلمون كان أشد هولا وأكثر ضراوة مما لاقاه غيرهم من أبناء الشعب . . بل إن عبد الناصر كان يجعل من الإخوان النموذج الذي أرهب به الشعب كله . . طوال فترة حكمه ولا يكاد يوجد أحد من أبناء الشعب المصري . . لا يعرف ماذا حدث للإخوان منذ سنة 1954 . . وحتى موت جمال عبد الناصر. . وما وقع بأبناء قرية كرداسة . . الإخوان منهم وغير الإخوان جاوز كل حد . . حتى فاقت المأساة كل تصور . . ولا تزال المأساة تملأ نفوس أهل القرية جميعا . . وعندما نزلت إلى قريتي لأجمع المادة التي أسطرها لك في هذه الصفحات لم يكن سهلا أن تنحل عقدة لسان أحدهم ليروي كيف بدأت المأساة وكيف سارت . . وكيف انتهت بالرغم من مرور عشر سنوات عليها فالرعب ما زال يعقد الألسنة والخوف ما زال قابعا في حنايا الصدور . . لقد رفض أبناء القرية أن يتكلموا عن مأساتهم قائلين : من يدرينا أن يتكرر هذا الأمر مرة ثانية . . لقد حدثت مرة سنة 1954 وان كان للإخوان فقط ولكن في سنة 1965 حدث لنا جميعا . . ما هو الضمان لنا حتى يمكننا أن نتكلم ! ! إن الموقف من الإخوان لا يزال هو . . هو . . صحيح هم الآن خارج السجون وتصدر لهم مجلة الدعوة . . ولكن هل مسموح لجماعتهم أن تعمل بصفة قانونية ؟ ! إن الغد لا يعلمه إلا الله . . ونحن لسنا مطمئنين فلا داعي للكلام ! !
وعندما تكلم معي البعض رجوني ألا أذكر أسماءهم حتى لا يكون ذلك سببا في ضرر يحيق بهم . . لقد أمسكت بالخيط من أوله ولكني لم أستطع أجمع قصة ما حدث لجميع أبناء القرية فهذا ليس في مقدوري . وكنت أتمنى أن أ:تب كتابا ولا زالت الفكرة قائمة . . لأن المأساة أكبر من فصل في كتاب ! ! وما أصدق كلمة الأستاذ يوسف أيوب ابن عمدة القرية السابق وأخ العمدة الحالي وأحد الذين عانوا المأساة حين قال : " إن لكل واحد منا قصة أغرب من أن يصل إليها خيال أي إنسان " ! ! .
كيف بدأت المأساة ؟ !
كيف بدأت المأساة ؟ ! كانت الشرطة العسكرية قد أطلقت يدها في الشعب المصري وكان شمس بدران ورجاله يجمعون في أيديهم كل السلطات طبعا في ظل الطاغية الأكبر جمال عبد الناصر وبعلمه ورضاه بل وتوجيهاته ولا يقبل عقل أي إنسان أن شمس بدران كان أقوى من جمال عبد الناصر. . شمس بدران كان أحد كلاب الحراسة المخلصين لجمال عبد الناصر. . وبدأ تنفيذ المؤامرة المبيتة . لسحق الإخوان المسلمين وكما قلت لما اكتشف تنظيم للإخوان المسلمين وكان ذلك بمثابة الضوء الأخضر للبدء في المجزرة الهمجية البربرية التي أقيمت ليس فقط للإخوان بل لكل من يريد الطغاة أن يسحقوهم . . وكان السيد نزيلي أحد أبناء قريتي عضوا في التنظيم وذهب رجال الشرطة العسكرية للقبض عليه . . وعندما وصلوا إلى منزل السيد نزيلي للقبض عليه فلم يجدوه . . ووجدوا أخاه عبد الحميد نزيلي وأتركه يروي ما حدث . . يقول عبد الحميد :
" كان ذلك عند غروب الشمس يوم 21 أغسطس سنة 1965 وكنت واقفا أمام منزلنا . . وإذا بثمانية رجال مفتولي العضلات مفتوحي الصدور يلبسون قمصانا على اللحم ! ! . . وبنطلونات ضيقة دخلوا حارتنا ووقفوا أمامي وسألوني عن أخي السيد نزيلي الأخصائي الاجتماعي . . قلت لهم :
_ " تفضلوا . . أنا أخوه " .
وفتحت لهم الباب وأجلستهم في حجرة الضيوف وعملت لهم شايا ثم قلت لهم :
_ " إن أخي في القاهرة . . ولكنه لن يتأخر كثيرا وسوف يحضر بعد قليل " .
فجأة وجدت أثنين منهم وقفا على باب البيت واثنين آخرين اقتحما المنزل وصعدا إلى الدور الثاني حيث زوجة أخي " العروس " التي لم يمض على زفافها إلا تسعة أيام . . فوقفت دهشا وقلقا وقلت لهم :
_ من أنتم ؟ وماذا تريدون ؟
_ فتقدم مني أحدهم شاهرا مسدسه ووضعه في بطني وهددني قائلا :
_ إذا تكلمت سأفرغ المسدس في بطنك ! ! .
قلت لهم :
_ " من حقي إن أعرف من أنتم ؟ ! . . وما1ا تريدون ؟ ! . . " .
فجأة وجدت نفسي ملقى على الأرض . . وقفت بسرعة وجريت إلى صالة البيت . . فلحق بي اثنان منهم شلا حركتي وجراني إلى الخارج فأخذت أصيح : " أنتم لصوص . . ماذا تريدون مني ؟ ! وزاد صراخي . . فخرج الناس من البيوت يستطلعون الخبر . . ازدحم الناس من حولي يسألون في دهشة ولا جواب إلا صراخي : حرامية حرامية ! وبدءوا يسيرون في شارع وسط البلد وتقدم بعض شباب القرية ليخلصوني من أيديهم فأخرج واحد من الرجال الثمانية مسدسه وأطلق الرصاص في الهواء للإرهاب . . واستمروا يجرونني على الأرض والناس يخرجون من بيوتهم وطلقات الرصاص تتوالى . . وعلى بعد أمتار من ورائي كانت زوجة أخي " العروس " يجرونها هي أيضا وصرخات استغاثتها تتوالى . . لقد ظننت في أول الأمر أنهم جاءوا لخطف زوجة أخي . . وحتى هذه اللحظة لا أعرف أنهم من رجال الشرطة العسكرية لأنهم كانوا يرتدون الملابس المدنية ولم يأت معهم خفير من عند العمدة ولا عسكري بوليس من النقطة كما أنهم لم يذهبوا بنا إلى دوار العمدة ولا إلى نقطة الشرطة وإنما اتجهوا بنا ناحية أخرى كانت تنتظر فيها السيارات " .
من هو السيد نزيلي الذي جاءت تقبض عليه الشرطة العسكرية ويحاولون أن يأخذون أخاه وزوجته العروس رهينة حتى يقبضوا عليه ؟ ! .
السيد نزيلي هذا كان أحد " أشبال " دعوة الإخوان المسلمين قبل سنة 1954 وكان سنه لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره إلا بقليل وكبر السيد نزيلي وكبرت معه دعوته وتمكنت من نفسه . . لم ينسها لحظة بل حفظها بين جوانحه وكان رغم الأجهزة البوليسية التي كانت تحمي نظام حكم عبد الناصر والتي كانت جماعة الإخوان المسلمين هدفا رئيسيا من أهدافها . . . كان رغم كل ذلك يعمل لدعوته . . يقيم عليها نفسه . . ويدعوا إليها غيره . . كانت الدعوة الإسلامية . . دعوة الإخوان المسلمين . . المحور الذي تدور حوله حياة السيد نزيلي . . ويعمل على بقائها حية رغم ليل الإرهاب وعندما أراد أن يتزوج السيد نزيلي أختار أختا مسلمة . . من الأخوات المسلمات هي أخت عبد الحميد عبد السميع أحد قادة تنظيم سنة 1965 وأحد أبناء قرية كرداسة المقيمين في القاهرة لقد جاءت الشرطة العسكرية لتقبض عليه لأنه ضمن التنظيم الذي اكتشف في أغسطس سنة 1965 بعد أن كانت عمليات القبض على الإخوان المسلمين قد تمت منذ أواخر يوليو سنة 1965 أي قبل أن يكتشف أي تنظيم للإخوان .
فقد كان النظام الناصري قد قرر توجيه ضربة ثانية سنة 1965 للإخوان لاستئصال شأفتهم حتى لو لم يكن هناك تنظيم . . لقد قال بعض الذين كانوا يشاركون عبد الناصر السلطة في يوم من الأيام أن عملية ضرب الإخوان المسلمين سنة 1965 كانت تغطية للفشل الذي أحاق بعبد الناصر في حرب اليمن وهناك قول آخر أن مذبحة الإخوان سنة 1965 كانت استجابة لطلب السوفييت الذين كانوا تغلغلوا في نظام الحكم وأصبحت لهم سيطرة على مجريات الأمور تماما كما كانت محنة سنة 1954 استجابة لطلب أمريكا التي جعلت تصفية جماعة الإخوان المسلمين أحد المهام التي حملت تبعاتها جمال عبد الناصر وهناك من يقول أن هناك علاقة بين تصفية الإخوان سنة 1965 وبين هزيمة يونيو سنة 1967 لأن كل حرب بين مصر وإسرائيل يسبقها ضرب الإخوان حدث هذا قبل سنة 1956 , وحدث قبل سنة 1967 لأن اليهود قد جربوا قوة الإخوان في حرب فلسطين سنة 1948 وكان جمال عبد الناصرفي سنة 1965 قد وصل إلى ذروة جبروته وأصبحت صورة " فرعون " موسى تتضاءل إلى جواره . . بل كان أكثر شراسة وأكثر خسة في الأساليب التي استخدمها لإذلال شعبه . . كان كالكلب العقور الذي لم ينج من سعاره أحد حتى أقرب الأقربين إليه وأصدق أصدقائه ! ! لقد أصدر جمال عبد الناصر أوامره بالقبض على كل من سبق اعتقاله وأعلن ذلك في موسكو عاصمة الكفر الصراح . . وامتلأت سجون مصر ومعتقلاتها بخيرة أبناء شعب مصر وهم في نفس الوقت الجيل الجديد الذي أنبتته دعوة الإخوان المسلمين في ظل دكتاتورية عبد الناصر . . لم تقف عمليات القبض على الرجال ولكن تجاوزتها إلى النساء والأطفال والشيوخ الضعفاء .
لقد ذهب رجال الشرطة العسكرية ليقبضوا على إخوان قرية كرداسة وكان السيد نزيلي من بينهم فبدئوا بالقبض عليه . . فلما ذهبوا ولم يجدوه بالمنزل أخذوا أخاه وزوجته رهائن . . وكانت تلك بداية المأساة ! ! ويكمل عبد الحميد نزيلي قصة المأساة فيقول : " أيقن أهل القرية أننا مخطوفون أنا وعروسة أخي القاهرية . . فتقدم بعض شباب القرية ليخلصونا من أيديهم . . فحدث اشتباك مع الرجال الخاطفين . . فتكاثر الأهالي على الرجال الثمانية . . واشتركت النساء والأطفال بضربهم بالطوب والحجارة . . فهرب سبعة من الرجال الخاطفين وأصيب الثامن وأغمى عليه وتجمع الناس من حوله . تركت زوجة أخي تعود إلى المنزل وذهبت إلى نقطة شرطة القرية وعملت محضرا قلت فيه : " أن ثمانية رجال هاجموا منزلنا وأرادوا خطف عروسة أخي وخطفي وأطلقوا النار للإرهاب واستطاع الأهالي أن يخلصونا من أيديهم وعندا سمع الشاويش النوبتجي من هذا الكلام طلب من العساكر الإسراع للقبض على الخاطفين فقلت له :
إن واحدا منهم أصابته ضربة من أحد الأهالي ووقع على الأرض متأثرا بجراحه أسرع الشاويش النوبتجي إلى المكان فوجد الرجل مغمى عليه والناس من حوله يتحدثون عن قصة الخطف . . انحنى الشاويش على الرجل المصاب وفتش جيوبه فأخرج من أحدهما بطاقته الشخصية فقرأها وقال لأهالي القرية :
_ خربت يا كرداسة . . مصيبة وحلت عليكم يا أهل كرداسة إن هؤلاء الرجال ليسوا لصوصا أنهم من رجال الشرطة العسكرية ! ! .
وكان الشاويش عبد الحكيم يعرف جيدا أن الشرطة العسكرية هي صاحبة الحول واليد الطولي في هذا الوقت بيدها مقاليد الحكم وهي يد الحاكم الباطشة وسوطه الذي يلهب به ظهور أبناء الشعب . . لقد فقدت وزارة الداخلية كل صلاحيتها حتى أصبح رجال الشرطة ( البوليس ) وحتى رجال المباحث العامة سخرية الشرطة العسكرية وقتئذ ! ! .
أسقط في يد الشاويش عبد الحكيم . . ولكن الأهالي لم يستطيعوا أن يدركوا أبعاد ما قاله شاويش النقطة . . صرخ فيهم الشاويش وأراد أن ينبههم إلى فداحة المصيبة وما يمكن أن يحل بهم ولكن الناس لم يغادروا المكان . . أرسل الشاويش أحد الجنود يطلب سيارة الإسعاف . . وجنديا آخر ليبلغ الحادث إلى مركز إمبابة وبقى هو ومن معه حول الرجل المصاب . . ولم تمض ساعة زمن حتى وصلت مجموعة من العربات المملوءة بالضباط والجنود أصحاب الباريهات الحمراء من رجال الشرطة العسكرية إلى مكان الحادث وكان الأهالي لا يزالون واقفين ولكن بعيدا عن الرجل المصاب . . نادي أحد الضباط على بعض الأهالي ليسمع منهم كيف وقع الحادث . . تشجع ثلاثة شبان من الأهالي وتقدموا إلى حيث الضباط بعد دقائق قليلة انهال الضباط على الشبان الثلاثة باللكمات وكان ذلك بداية الإرهاب الذي وقع على أهالي قرية بأسرها تفرق الناس . . كل ذهب إلى منزله ولكنهم توجسوا خيفة مما يمكن أن يحدث . . وتتابعت سيارات الجيش المحملة بالضباط والجنود .
ولم ينم الناس ليلتهم . . وكانوا يتسمعون من خلف الأبواب المغلقة ويرون من على أسطح المنازل الدبابات . . والمصفحات وهي تزمجر في شوارع القرية وحاراتها . . وحلقت الطائرات في سماء القرية ووصل إلى القرية وزير الداخلية وقتئذ عبد العظيم فهمي. . والفريق علي جمال الدين رئيس غرفة عمليات الجيش . . وشمس بدران ومحافظ الجيزة ومدير الأمن ومأمور المركز . . جاءوا جميعا ليشرفوا على عملية " تأديب " القرية لأن أهلها المسلمين استجابوا لاستغاثة زوجة أحد أبنائهم الكرام الذين عرفوا بالخلق الكريم والسيرة الحسنة فخلصوها من أيدي خاطفيها الذين لم يدخلوا من بابها فعمدة القرية لم يعلم بمجيئهم ولا شيخ البلد ولا أي خفير من الخفراء كما أن ضباط النقطة لم يكن عندهم علم كذلك بطلب القبض على السيد نزيلي بل لقد تبين للسيد نزيلي ومن معه أنه لم يكن هناك إذن بالقبض على أحد وقت القبض عليه ! ! وحوصرت القرية من جميع الجهات وانتشرت المصفحات والدبابات والسيارات في شوارع القرية ودروبها وبدأت الأوامر تذاع من خلال مكبرات الصوت بفرض حظر التجول وسمع الأهالي أصوات الوعيد والتهديد لكل من يخالف الأوامر . . وأحسوا بالهول وقبعوا خلف الأبواب المغلقة ينتظرون ماذا سيأتي به الصباح وبدأت عمليات القبض على عمدة القرية ومشايخ القرية والخفراء وشيخ الخفراء وجميع عائلة العمدة وهي من أكبر عائلات القرية . . ربطوهم جميعا بحبال وساقوهم كالبهائم . . النساء في قمصان النوم نصف عرايا يولولن والأطفال يصرخون والرجال في ذهول يجللهم الذل والعار . . اتجهوا بالجميع إلى نقطة القرية وانهال الزبانية عليهم " بالكرابيج " والعصي بلا رحمة وبلا اعتبار لأي قيمة إنسانية . . مزقوا ثياب الرجال وتركوهم عرايا كما ولدتهم أمهاتهم أمام الزوجات والأطفال ! !
وروى لي جزءا من المأساة يوسف أيوب المكاوي ابن عمدة القرية السابق وأخ العمدة الحالي . . قال : " سمعنا مكبرات الصوت تحذرنا من الخروج أو الدخول . . طلبوا ممن في الداخل ألا يخرجوا ومن الذين في الخارج ألا يدخلوا وألا يغادر أحد مكانه . . قبضوا على أخي العمدة علي أيوب وابن عمي شيخ البلد العجوز السيد حمزة رحمة الله عليه . . وأخي محمود فهمي عضو مجلس النواب السابق وجميع رجال العائلة ونسائها وجميع الأطفال فوق سن 12 سنة . . ساقونا جميعا إلى المدرسة الإعدادية التي اتخذتها الشرطة العسكرية مقر قيادتها لأنها تقع في وسط القرية وحولوها إلى ساحة تعذيب رهيبة . . ربطونا جميعا أسرة العمدة من أيدينا . . مزقوا ثيابنا ووقفنا عرايا . . بكيت حزنا عندما رأيت أخي العمدة أخي محمود عريانين كما ولدتهم أمي . . تمزقت عندما رأيت ابن عمي الشيخ سيد حمزة نائب العمدة والبالغ من العمر أكثر من ستين عاما ليس عليه سروالا ومنهكا من التعذيب ! !
لقد جردوني من ملابسي . . واطرحوني على الأرض ومزقوا جسدي بالسياط سلخوني سلخا . . ووضع الفريق علي جمال الدين – الذي قيل أنه قتل بالسم – إصبعه في عيني . . وبعد هذه الطريحة أوقفونا بعضنا أمام بعض وأمرونا أن يضرب أحدنا الآخر والذي لا يضرب بقوة يمزق بالسياط ثم أمرونا أن يبصق كل منا على وجه الآخر . . . ! ! كان بعضنا يضرب البعض الآخر وكنا نبكي لأن ذلك كان أقسى على النفس من ضربات السياط . . ثم أنهكونا بالأمر بالقيام والجلوس وبعد ذلك أخذونا طابورا كطابور أسرى الحرب وأركبونا عربات مكشوفة وطافوا بنا شوارع القرية الرئيسية وكانوا يضربون النساء والأطفال بالسياط حتى يعلو صراخهم فيكون ذلك أمعن في الإرهاب لأهالي القرية . .
الاستعراض . . الرهيب !
وبعد هذا الاستعراض الرهيب خرجنا في عربات مصفحة من قرية كرداسة واتجهت بنا المصفحات إلى السجن الحربي باستيل عبد الناصر . . النساء يولولن والأطفال يصرخون في رعب والرجال في ذهول . . وصلنا إلى السجن الحربي حيث أقيمت أفظع مذبحة بشرية لخيرة شباب مصر ورجالها والتي لم يحدث لها مثيل في تاريخ الشعب المصري إلا في عهد الرومان أيام الاضطهاد الديني لمسيحي مصر إنني لا أستطيع مهما أسعفتني الذاكرة أن أصف تلك اللحظات الرهيبة المرعبة التي استقبلنا فيها ساحة السجن الحربي . . لقد كان في استقبالنا حمزة البسيوني جلاد مصر . . والعميد سعد زغلول عبد الكريم قائد الشرطة العسكرية ومجموعة من زبانية السجن الحربي أمثال الصاغ رياض إبراهيم وجلال الديب . . و محمد مصطفى الجنزوري وأركان حرب هاني إبراهيم وإحسان العاجاتي وصفوت الروبي الذي رقي إلى رتبة ملازم شرف مكافأة له على ما أزهقه من أرواح . . ومزق من أجساد ! !
ومجموعة من العساكر وعساكر الصف . . نجم مشهور . . علي حافظ . . والمسيحي سمير الذي كان تجسيدا للتعصب الكريه وزغلول شيطان السجن وسامبو . . وعلي الأسود . . والد يزل . . والروبي والنوبي وفتحي النملة . . ورشاد مفراك . . ورشاد فلتس . . ورشاد عبد اللطيف . . وأحمد المنوفي . . ومحمد عبد المعطي . . وكنا نطلق عليه ( الحمار ) والمراكبي . . وعدلي . . وصابر . . وسراج . . وحلمي . . وحسن أبو اليزيد . . وسعيد . . وسيد خليل . . وممدوح ( تمثال الجهل ) ومحمد خاطر . . ومحمد مراد . . وغيرهم . . وهم جميعا مجموعة من الشواذ اختيروا خصيصا للسجن الحربي لأن الواحد منهم كان ذا طبيعة شريرة ونفسية حقودة . . بالإضافة إلى المحاضرات التي كانت تلقى إلى هؤلاء الزبانية في أسلوب التعامل مع الإخوان وأنهم لا قيمة لهم . . ولا دية لأحد منهم . . بل أكثر من ذلك كانت تصرف شهريا مكافأة تعذيب لهؤلاء الزبانية ! !
لقد ساقونا كالبهائم والسياط تنهال على الجميع لا فرق بين طفل صغير أو امرأة حامل أو شيخ ضعيف حتى وصلنا إلى ساحة واسعة فتقدم من كل منا جندي من الزبانية وجردوه مما بقى عليه من الثياب . . وأوقفونا على شكل دائرة وأمرونا أن نسجد على الأرض وانهال كل جندي على ضحيته والنساء يشاهدن هذا المنظر المفجع ويبكين بكاء أخرسا ! ! .
وبعد أن أغرقونا في دمائنا . . وصبغت أجسادنا بالسواد من الضرب أخرجونا لعمل استعراض للأسرى والسبايا أمام الفريق أول محمد فوزي وأمامه أمرونا بالركوع فركعنا ثم أمروا النساء أن تركب كل واحدة على ظهر رجل ولم يستثنوا من ذلك حتى المرأة الحامل التي يعوقها حملها عن تنفيذ هذا الأمر فتوسلت بدموعها لهم ! ! ثم أمروا كل رجل منا يختار لنفسه اسم امرأة ينادونه به . . ثم احضروا مجموعة من الزبانية انهالوا عليه بالضرب وعددا من الكلاب تنهش فيه ويزداد نهشها كلما ازداد الضرب .
في النهاية ألقوا بنا في زنزانات حشرونا فيها حشرا وأغلقوا علينا الأبواب وجاء واحد من الزبانية بعد نصف ساعة وفتح الأبواب وبيده جردل ميكروكروم وبيده فرشة بياض كان يغمس الفرشاة ثم يمسح بها جسد كل منا . . وفي الصباح أخرجونا من الزنزانات . . وحلقوا لكل رجل منا ناحية من شنبه وحاجبا من حاجبيه ثم أعادونا إلى الزنازين وأدخلوا معنا الكلاب لمدة نصف ساعة تنهش فينا . . ثم أخرجوا الكلاب وأخرجونا للتحقيق وعلقونا في الفلكة وأعطونا " طريحة " ثانية وقالوا لنا " هذا غذاؤكم ! ! " وحدث ذلك عند العشاء أيضا . . استمر حالنا على تلك الصورة تسعة وعشرين يوما داخل السجن الحربي . . ولما لم يجدوا علينا أية مسئولية أخرجونا من السجن الحربي وحملتنا العربات عرايا كما ولدتنا أمهاتنا حتى باب القرية ! ! .
وروى لي عبد الرحمن القبلاوي إمام وخطيب مسجد وهو من أبناء القرية قال :
" استبيحت القرية ثلاثة أيام من صبيحة الحادث يوم الأحد حتى ثالث يوم . . فتشت جميع منازل القرية وخربت ومزقوا الفرش وحطموا كل شيء يمكن تحطيمه . . ونهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم أفسدوا كل شيء داخل البيوت خلطوا الدقيق بالجبن بالحبوب بروث البهائم . . قبضوا على الآلاف من الرجال والنساء والأطفال فرضوا حراسة على كل شارع وكل حارة وكل درب . . انتشر الجنود في كل مكان . . فرض حظر التجول طول الثلاثة أيام حتى نفذ الماء والطعام . . وجاعت البهائم وعطشت وجف لبن الأمهات ومات الأطفال الرضع ونهبت المحال التجارية وسرقت حلى النساء وأهدرت رجولة الرجال وأقاموا ثلاث ساحات تعذيب داخل القرية . . في المدرسة الإعدادية . . وفي الوحدة المجمعة . . وفي نقطة البوليس ! ! .
يقول مدرس إعدادي بالقرية طلب ألا يذكر اسمه :
" لقد هاجموا الحقول ودمروا وخربوا ما فيها من زرع وقبضوا على من فيها . . أخذوني أنا وأهلي واستولوا على كل ما نملك وقادونا إلى الوحدة المجمعة كانت قطعة من جهنم رأيت رجالا مضروبين حتى اختلطت ملامحهم وآخرين مصلوبين على جذوع النخل بعضهم مغمى عليه من التعذيب والبعض الآخر يجأر ألما وفزعا " . وكانت النتيجة الحتمية لصنوف التعذيب الوحشي الذي وقع على أهالي قريتي هو : الموت . . والجنون . . والصرع ! ! .
مات صلاح رزق عبيد في السجن الحربي ومات أبو سريع جحا ومات محمد أبو السعود في القرية وجن أبو عميرة الصابر وأصيب الكثيرون بالصرع . لقد بقيت جثث الموتى في البيوت لا تجد من يحملها إلى المقابر وعندما سمحوا بدفن محمد عبد العزيز حيدر لم يسمحوا إلا بأربعة يحملون " النعش " وقد ترك بعض المشيعين وهربوا خوفا من التعذيب من رجال الشرطة العسكرية .
ويقول محمد الشامي مدرس اللغة الفرنسية ومن أبناء القرية :
" لقد عاشت القرية ما يقرب من ثلاثة أشهر يسيطر عليها الإرهاب وأغلقت المساجد ومنع الأذان وعطلت الصلاة داخل المساجد . . " .
قال لي كمال الفرماوي :
" لقد سمعت شمس بدران يقول : أنا معي كارت بلانش لتدمير كرداسة وإزالتها من على الخريطة " . وقال أيضا: " سأعطي كرداسة درسا لن تنساه مدى أربعين سنة " ! ! .
كانت كلمة كرداسة داخل السجن الحربي " كاللعنة " تجلب العذاب الرهيب إلى أبنائها . . كان المحققون مع أحمد عبد المجيد وهو من أبناء كرداسة يصرفون له عشرين سوطا عند كل مرة يذكر اسم كرداسة ! ! وأنكرت أنا أنني من كرداسة عندما دخل علي الزنزانة حمزة البسيوني وسأل كل من في الزنزانة عن أسمائهم وأسماء قراهم . . وكان قد قبض علي صباح يوم الأحد وهو ثاني أيام الحادث ولم أكن أعلم ولكن عندما أدخل على بعض الإخوان وعرفوا أنني من كرداسة رووا لي ماذا حدث لأبناء قريتي . . داخل وخارج السجن الحربي وأقنعوني ألا أذكر أنني من كرداسة . . فلما دخل حمزة البسيوني علينا وسألني عن أسمي وعن قريتي قلت له :
أنا ساكن في شبرا ! ! . . وربما أنا الشخص الوحيد الذي لم يصبه أي أذى بسبب قريتي كرداسة ! ! وكلمة أخيرة أختم بها تلك الصفحات عن مأساة كرداسة أن مأساة كرداسة إذا قيست بمأساة الإخوان المسلمين لا تعتبر إلا صورة مخففة . .وإنما الصورة المكثفة والمجسمة لتجبر عبد الناصر وطغيانه تتمثل في مأساة الإخوان المسلمين . . يشهد بذلك جبل المقطم الذي تضم تلاله خيرة شباب الإسلام المجاهدين الصادقين الذين استشهدوا تحت سياط التعذيب ووسائله الجهنمية أمثال الشهداء : محمد عواد . . إسماعيل الفيومي . . رفعت بكر . . محمد عبد العزيز منيب . . ومحمد علي عبد الله وغيرهم . . وغيرهم . . ! ! .
الفصل الرابع
النساء رهائن في السجن الحربي
كانت ذروة المأساة في محنة الإخوان سنة 1965 هي الزج بالمئات من النساء المسلمات في زنزانات السجن الحربي . . وسجن القناطر ومركز الشرطة العسكرية بعابدين واتخاذهن " رهائن " حتى يقبض على الرجال . أو وسائل ضغط وتحطيم لإرادة الرجال حتى يدلوا ويعترفوا بما يريده الطغاة من اعترافات مزيفة يصنعون منها مؤامرة وهمية ليتخذوها سببا في التدمير البشري للشباب المؤمن المجاهد من أبناء الدعوة الإسلامية . . وطلائع البعث الإسلامي في القرن العشرين .
لقد كان رجال الشرطة العسكرية يلقون القبض على الأم التي جاوزت السبعين ,وقد تكون عمياء . . لا تقدر على الحركة . . كما كانوا يقبضون على الحامل التي وضعت حملها من هول ما رأت أو ماتت بحملها . . وكانوا ينتزعون الأمهات من أحضان الصغار وأخذوا " العرائس " في ليالي الزفاف . . وقبضوا على فتيات صغيرات لم تتجاوز أعمارهن الثالثة عشرة . . كما قبضوا على أسر كاملة رجالها ونسائها فتيانها وفتياتها شبابها وشيوخها وكانت أسرة الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله المرشد العام للإخوان المسلمين وأسرة الشهيد سيد قطب على رأس تلك الأسر ..
وهنا تحضرني قصة إلقاء القبض على المهندس عبد المنعم خليفة الحنفي وكانت زوجته قد توفيت وتركت له أربعة أطفال وهب الرجل حياته لهم ولم يرض وقتئذ أن يتزوج حتى لا يسبب لأطفاله أي ألم . . كان المهندس عبد المنعم خليفة الحنفي يسكن في شقة قريبة من أخته التي كانت تشاركه في رعاية أطفاله ولكن شاء الله أن تسافر هي وأسرتها إلى المصيف ويبقى المهندس عبد المنعم خليفة مع أطفاله في القاهرة . . وصدر الأمر بالقبض عليه فحضروا إليه ليلا ليأخذوه فلم يجد المهندس عبد المنعم خليفة من يترك أطفاله عنده حتى تعود أخته فاضطر إلى تسليم الأطفال الأربعة إلى قسم البوليس ليسلمهم إلى أخته حيث تركهم وديعة عند من لا تضيع عنده الودائع ! ! .
ولا أنسى كيف أحضرت الشرطة العسكرية أسرة السيد البور ديني من قرية ميت أبو خالد محافظة الدقهلية . . أحضروا زوجته وبنته وولده وكانوا يضربونه أمامهم ويعذبوهم أمامه ليعترف عن وجود سلاح لا وجود له وأن يدلهم على مكانه . . وكيف أحضروا زوجة أحمد عادل كمال وزوجات الكثيرين من الإخوان وأمهاتهم . . وأحضروا خطيبة الطيار محمد ضياء الطوبجي وأخته . . وزوجة مرسي مصطفى مرسي وزوجة السيد نزيلي وأختها . . وزوجة الأخ عباس السيسي.
ونساء كرداسة . . وما أدراك ما نساء كرداسة لقد كان السجن غاية كلابها من البشر الذين لم يرعوا لله حرمه . . ولا للإنسان إنسانية ! ! .
لقد روى لي الأخ محمد عبد الله الخطيب أنه رأى حمزة البسيوني في إحدى ليالي التحقيق يهدد الحاجة أم أحمد قائلا لها :
_ يا ولية أنت يا بنت آل . . إذا لم تتكلمي فسوف تأخذين علقة لم يأخذها أي رجل ! ! . ولقد ألبسوا الحاجة زينب الغزالي أفرول رجالي وعلقوها كالذبيحة ومزقوها بالكرابيج تماما كما كانوا يعلقون الرجال ولقد تركوا جراحاتها دون أي علاج حتى تقيحت الجراح وظهر فيها الدود ! ! .
قصة الحاجة أم أحمد !
سألت الحاجة أم أحمد . . وقد أشرفت على الثمانين أو جاوزتها قلت لها كيف قبض عليك ؟ ! . فقال :
_ ذات يوم جاءني أحد الضباط ومعه أربعة من المخبرين وكانوا قد قبضوا على ابني أمين الذي أمضى في السجن عشر سنوات أخذوني إلى وزارة الداخلية وأحضروا ابني أمين وأخذوا يعذبونه أمامي . وكان أحمد راسخ أحد رجال المباحث العامة يقول لي :
_ نحن نعذبك بتعذيب ابنك أمامك ؟ ! .
وبالرغم من بشاعة هذا الموقف واحتمالي كأم ترى أبنها يضرب أمامها بالسياط إلا أن الله قواني فلم تدمع لي عين . . وبقيت في وزارة الداخلية يوما وليلة ثم أفرجوا عني . . وبعد حوالي أسبوع جاءوا مرة ثانية وأخذوني . . وظننت أنهم قتلوا أمين أبني وأنهم قد جاءوا لي لأتسلم الجثة ! ! . . فذهلت عن كل شيء حتى نسيت مكان النقود . . وقلت لأولاد ابنتي المقيمين معي :
_ أعطوني نقودا لأنهم قتلوا خالكم أمين . . وسوف يسلمونني جثته وينبغي أن يكون معي نقود ! ! . فقالوا لي :
_ ليس معنا نقود نحن أيضا ! ! .
فأخرج الضابط الذي حضر ليقبض علي خمسة قروش فأخذتها منه وأنا في ذهول ! ! .
أركبوني عربة وجدت فيها شيخا مسنا هو الأستاذ عمر غانم ومعه آخرون وصاحبونا إلى وزارة الداخلية . . وهناك أركبونا عربة أخرى وتوجهوا بنا إلى السجن الحربي الذي أعرفه منذ أيام مذبحة الإخوان الأولى سنة 1954 لأني كنت أبحث عن أبني الذي أخذوه ! ! .
وصلت بنا العربة أمام السجن الحربي فأدخلوني زنزانة وحدي وكان هناك عدد من النساء : الحاجة زينب الغزالي . . أخوات الشهيد سيد قطب وال الهضيبي بقيت في زنزانتي وحدي سبعة عشر يوما دون تحقيق أو سؤال وكانوا يلقون لي الطعام من تحت عقب الباب . . وذات يوم نقلوني من هذه الزنزانة إلى زنزانة أخرى . . وفي سجن آخر صغير ليس ب هالا ست زنازين خالية تماما . . فوضعوني في آخر زنزانة ووجدت مكتوبا عليها " إعدام " وأيقنت أنني سأعدم ! ! .
وكان الشتاء قد حل ولم أكن أرتدي من الملابس إلا فستانا أسودا وطرحه سوداء قصيرة . . وذات ليلة أخذوني وسألوني عن الحاجة زينب الغزالي فقلت :
_ أنني أعرفها . . وكنت قد عرفتها في مسجد من المساجد والتقيت بها بعد ذلك مرتين أو ثلاث مرات . . سألوني عن أناس كثيرين . . فأجيب بما أعرف . . ثم أخرجوني وأدخلوني حجرة يجلس فيها شاب وقالوا لا تنظري ناحيته . . وتكلم الشاب بطرقة إنسان يتدلل على أبيه قال :
_ أنا أعرفها . .
فقلت :
_ أنا لا أعرفه . .
فقال :
_ أنك كنت تجمعين نقودا للإخوان من الشرقية ومن محمود عبيه نظرت إليه فوجدته ملفوف الرجلين بشاش عليه سائل أصفر لم يكن دما حقيقيا .
فقلت :
_ أنا لا أعرف أحدا .
فقال المحقق :
_ ألا تعرفينه ؟ ! هذا هو علي عشماوي .
وكنت أعرف أن هذا الشاب سخرته الحكومة لكشف ستر الجماعة فقلت :
_ لا أعرفه . .
وكان يحقق معي شمس بدران وجلال الديب وكانا يقولان لي :
_ ألن تعترفي . . طيب سوف تذوقين ألوانا من العذاب أقلعي الطرحة . . أخلعي الحذاء . . ونادي أحد الحراس :
_ هات الحبل . . وكتفها ! ! .
أحضر الحارس الحبل وربط به يدي وقالا لي :
_ اعترفي ألم تذهبي إلى المرشد حسن الهضيبي؟ ! ألم تسلميه خطابا ؟ ! . آه صحيح . . أنا وصلت له ورقة صغيرة مكتوبا عليها كلام بخط عاجز وقرأت ما فيها ولم تكن خطابا بالمعنى المفهوم .
فقال لا . .
فقلت :
أنهم سيقيمون جمعية جديدة وسيختارونك مرشدا لها . فهل أنت راض ؟ ! . وقال لي شمس بدران:
_ سنقتلك أنت وأبنك ! ! .
وأحسست أن أحد خلفي أشار له . . فقام وتركني قلت أنهم قتلوا ابني أمين . . وسيطرت هذه الفكرة على ذهني . . وأعادوني إلى الزنزانة . . وازداد همي ! ! وفكرت أن أعود إلى التحقيق لعلي أعرف الحقيقة على وجوهم هل قتلوا أبني أمين حقيقة ؟ ! . . أم لا ؟ ! . . طلبت أن أذهب إلى المكاتب لأني أريد أن أقول كلاما . . أحضروني فقلت أريد أن أدخل الحجرة فقلت لهم أي كلام , وكنت أتفرس في وجوههم ولكني لم أتحقق من شيء . . أعادوني إلى زنزانتي في السجن فوجدت واحدا من الإخوان ميتا من التعذيب ومغطى ومكشوف الرجلين ! ! ظننته أبني وأردت أن أتأكد هل هو ابني ؟ ! . . أم لا ؟ ! . . ورأيت بجوار زنزانتي ثيابا ملقاة فظننتها ثياب ابني . . وذات يوم مر بي حمزة البسيوني وسألني :
_ هل تريدين شيئا ؟ ! .
فقلت :
_ لا أريد شيئا ما دمتم قتلتم ابني . . أحسن أقتلوني أنا أيضا ! ! . وذات ليلة . . أخذوني وظننت أنهم سيعدمونني . . أوقفوني أمام حجرة كنت أعتقد أن فيها المشنقة ! ! . . قالوا لي :
_ تمشي . . قليلا ! ! .
فقلت :
_ ربنا يكفينا وقفة الحاكم الظالم ! ! .
_ هل نحن حكام ظالمون ؟ ! .
فلم أرد . . وبعد فترة أعادوني إلى زنزانتي ! ! .
وفي ليلة أخرى نادوني وأخرجوني من الزنزانة وأخذوني أنا وامرأة أخرى وظننت أنهم ذاهبون بنا إلى المحافظة لإعدامي . . ولكنهم أخلوا سبيلي عند كوبري شبرا أنا والست التي كانت معي وهي أم عناني ! ! . وروت لي الحاجة زينب الغزالي :
_ لقد جاءوا بالحاجة أم أحمد وكانت في الثمانين إلى السجن الحربي ورأيتها عدة مرات تساق هي وزميلات لها إلى التحقيقات .
وما أدراك ما التحقيقات ! ! .
لقد سألني شمس بدران عنها فقلت :
هذه السيدة الفاضلة كل صلتها بالإخوان أنها كانت تقوم بخدمة أسر المسجونين وتمد يد العون لهم فتقدم لهم الطعام والكساء والمسكن ! ! .
قال شمس بدران:
_ عبد الفتاح عبده إسماعيل أعطاك جوالا من الديناميت لتسليمه إلى أم أحمد ؟ ! فقلت له :
_ اتق الله . . صحيح عبد الفتاح عبده إسماعيل أعطاني أشياء لأم احمد وكانت عبارة عن دست فانلات وكالسونات من القطن والصوف مطلوبة للمساجين من الإخوان داخل السجون ! ! .
قال شمس بدران:
_ وهل هذه ليست جريمة ؟ ! يا بنت إل . . وماذا أيضا ؟ ! .
فقلت :
_ بعض علب السمن والزيت وملابس لأبناء الإخوان في السجون وزوجاتهم .
قال شمس بدران:
_ تريدون يا أولاد إل . . ألا نعتبر كل هذا جريمة سنقطع رقابكم من أجل ذلك ! ! .
وأضاف شمس بدران وهو يزمجر :
_ سنأتي بأم أحمد ونعلقها أمامك ! ! . . أما ابنها فقطعناه قطعا ! ! .
تلك يا ولدي الجرائم التي من أدخلت من أجلها النساء إلى السجن الحربي .
وأضافت الحاجة زينب الغزالي :
_ هذه يا ولدي قصة الأم الفاضلة حرم الإمام المرشد حسن الهضيبيعليه رحمة الله . . لقد أحضرونا إلى السجن الحربي بعد أن أحضروا زوجها الذي جاوز الثمانين وظلت في السجن الحربي تحت مقاصل جاهلية شمس بدران وزبانيته ولما لم يستطيعوا أن يثبتوا عليها أي شيء إلا العمل الإنساني الذي كانت تسهم به في إعانة أسر المسجونين , رحلوها إلى سجن القناطر لترتدي جلبابا من الدمور الخشن ولتنام على أرض السجن وتأكل من جردله وهي زوجة المستشار حسن الهضيبي. .
ولم تكن حرم المرشد العام حسن الهضيبي رحمه الله وحدها ولكنهم قبضوا على بنتها خالدة وعليه الهضيبي وكانت علية الهضيبي في أيام حملها الأخيرة وقد خرجت من السجن الحربي لتضع مولود ها .
لقد جاءوا بعلية الهضيبي والسيدة غادة عمار زوجة الطيار يحيي حسين الذي أفلت من المذبحة بأعجوبة إلى السودان . . لقد أحضروها رهينة وانتزعوها من بين طفلتها الرضيعة التي لم تتجاوز ستة أشهر وابنتها الأخرى التي لا يتجاوز عمرها ستين ! ! .
سألت الحاجة زينب :
_ كيف كانت الحياة داخل الزنزانة ؟ .
فقالت :
_ قبل أن تأتي علية الهضيبي وغادة عمار كنت قد أمضيت شهرين وأنا أنام على الأسفلت في الزنزانة ودون غطاء أو سادة وقبل دخول غادة وعلية زنزانتي بنصف ساعة فتح باب الزنزانة وألقيت ثلاث بطاطين وثلاث وسائد . وتعجبت للأمر . وبعد دقائق وجدت غادة وعلية تدخلان علي وبقيتا معي ثمانية عشر شهرا لا تخرجان من الزنزانة الا إلى دورة المياه بينما كنت أطلب للتحقيق في بدايته وأعود ممزقة بالسياط يقطر جسمي دما , وعندما كنت أعود أجدهما أحيانا نائمين فلا أوقظهما . . وأحيانا تنتظراني حتى أعود . . وكان الجلادون يتركونني دون علاج وكانت علية الهضيبي معها علبة كبريت لم يأخذوها منها في التفتيش فكانت تشعل العود وتصنع منه رمادا تضعه على جروحي ليقف الدم ! ! ثم أخذت للتعذيب الانفرادي يوم 8 أكتوبر سنة 1965 وتركتهما وبقيت كل واحدة منهما في السجن الحربي حوالي ثلاثة أشهر وخرجت علية لتضع حملها أما السيدة غادة عمار فقد كانت والدتها طريحة الفراش ووالدها رجلا مسنا فكانت لا تدري ماذا صنع بالطفلتين الصغيرتين وماذا حدث لهما ؟ ! .
وقال لي يوسف القرش :
لقد قبضوا على زوجتي وأحضروها إلى السجن الحربي بعد القبض علي بيومين , وضربوها بالسياط أمامي بعد أن فشلوا في الحصول مني على أي اعتراف بما يريدون وبقيت زوجتي في السجن الحربي حتى أفرجوا عنها ! ! .
أم مجدي . . زوجة الحاج عباس
وقال لي الحاج عباس السيسيالتاجر برشيد :
_بعد انتهاء التحقيق معي , وبعد أن بدءوا في تنفيذ طوابير غسيل المخ لنا داخل السجن التي تبدأ من أذان الفجر ولا تنتهي إلا مع غروب الشمس .
فوجئت بمن يناديني من الحرس وصحبني إلى مكاتب التحقيق ليحقق معي مرة أخرى أمام سعد زغلول عبد الكريم قائد الشرطة العسكرية الذي سألني :
_ هل أنت متزوج بواحدة أم اثنين ؟ .
قلت :
_ أنا لي زوجة واحدة فقط .
قال :
_ معلوماتنا تقول أنك متزوج بأكثر من واحدة . . ؟ .
قلت :
_ لم يحدث وليس ذلك صحيحا . .
قال :
_ لماذا تذهب زوجتك إلى الإسكندرية ؟ .
فقلت :
_ إنها تذهب للعلاج .
قال :
هل تعرف كل سائقي التاكسي التي تسافر معهم ؟ .
قلت :
بالطبع لا . .
وطلب مني أن أكتب له أسماء من أعرف من السائقين ثم أخرج مسدسه وأخذ يحركه كنوع من التهديد والإرهاب ولكنني لم أأبه به . . ثم أعدت إلى السجن الحربي وأكد لي المهندس محمد رزق شريف والمهندس الكيماوي عبد المجيد يوسف الشاذلي أنهما سئلا عن زوجتي وهل هي من الإخوان المسلمين أم لا . . ؟ وبقيت زوجتي في السجن الحربي خمسة عشر يوما أصيبت خلالها بأمراض عصبية ولا تزال حتى الآن إذا دخل علينا ضابط أو عسكري ولو للزيارة تنهار وتصيبها " النوبة " العصبية .
أما أسرة الشهيد عبد الحميد البورديني الذي عذب ومات بسبب التعذيب وقبض على أخيه سيد البور ديني الذي عذب ومات بسبب التعذيب وقبض على أخيه سيد البور ديني وأراد المحققون من رجال الشرطة العسكرية منها أن يعترف بعربة سلاح من سنة 1954 ولكنه لم يعترف لأنه لا يوجد عنده سلاح فأحضروا زوجته وابنته وولده وأخذوا يعذبونهم حتى يعترف .
لقد كانوا يأمرون أن تمسك الكرباج وتضرب به زوجها وكانوا يحلقون شعر رؤوس بعض الزوجات ويهددون الرجال بالاعتداء على زوجاتهم ويهددون الأبكار من البنات بفض بكارتهم .
لقد التقيت ممن زج بهن في سجون الحربي والقناطر وسمعت منهن كيف كن يعاملن معاملة غير إنسانية رغم شيخوختهن وعجزهن حتى قال مدير سجن القناطر لشيخه عجوز عمياء :
_ ماذا كنت تفعلين . . ولماذا أتوا بك إلى هنا .
وقالت لي واحدة رفضت ذكر اسمها من الخوف :
_ كنا في سجن القناطر نعامل معاملة سيئة . فالطعام سيء وليست هناك أي رعاية صحية بالإضافة إلى قلة الغطاء والفرش رغم زمهرير الشتاء ورطوبة سجن القناطر .
وقال لي شيخ عجوز ممن حضروا المجزرة :
_ لقد أحضروا ابنتي الكبرى أخذوها ليلة زفافها . . والثانية كانت في الثالثة عشرة وكم هددوني بالاعتداء على أعراضهما فكان يغشى علي أما هول ما أسمع وكنت أود لو قتلوني ولا يهددوني بهذا الأمر . لقد كان رجال الشرطة العسكرية كالكلاب المسعورة إذا ذهبوا ليقبضوا على أحد الإخوان يصطحبون معه كل من يجدوه عنده رجالا كانوا أو نساء . .
إن تصرفات عبد الناصر وأجهزته في مذبحة سنة 1965 كانت دليلا على مدى ما وصل إليه النظام الناصري من الاستهانة بكل ما هو أخلاقي . . ! ! وإنساني . . إن عملية القبض على النساء لم تحدث في مصر حتى في عهد الاحتلال الانجليزي بهذه الصورة التي حدثت على يد الزعيم الوطني الذي يزعم أنه أول مصري يحكم مصر من آلاف السنين . . ! !
الحديث الذي أزعج الناصريين
هل تذكرون الحاجة زينب الغزالي . . السيدة المجاهدة التي حكم عليها الفريق محمد فؤاد الدجوي أشهر قضاة مصر في عهد جمال عبد الناصربالأشغال الشاقة المؤبدة لمدة خمسة وعشرين عاما فلم يفت ذلك في أرادها . . ولم تحن رأسها للطغاة . . ولكنها حينما سمعت الحكم هتفت بأعلى صوتها :
_ الله أكبر . . 25 سنة في سبيل الله ! ! .
لقد أمضت أكثر من ستة أعوام داخل السجن الحربي وسجن القناطر . . ذهبت إلى الحاجة زينب لعمل حديث أنشره ضمن سلسلة التحقيقات التي أفسحت لها مجلة الإذاعة صفحاتها أيام رئاسة تحرير الأستاذ ثروت أباظة . . فوجدتها في حالة نفسية سيئة ولم تستطع أن تتحدث إلى . . كل ما قالته :
_ دعني يا ولدي . . فأنا ألان كأم ثكلى فقدت أبناءها الثلاثة فقد سرقوا أصول كتبي الثلاثة " بدء الكون " .. " الإسلام " . . " وأيام من حياتي " لقد وضعت فيهم عصارة جهاد أربعين عاما من البحث والمعاناة وفي لحظة فقدتهم . . ولم تشأ زينب أن تحدد من الذي سرق هذه الكتب ولكنها قالت :
_ كانت أصول هذه الكتب الثلاثة في حقيبة ثمنها خمسون جنيها وأخذوا معها " شالا " هدية من سيدة أجنبية شغلته بيديها ونظارة . . وبطانية . . فهل السرقة كانت من أجل السرقة أم كانت من أجل أصول الكتب ؟ ! .
لقد طبعت إحدى دور النشر مقدمة كتابي " أيام من حياتي " الذي أعددتها للطبع ولم يطبع منه إلا أربعون صفحة ولكنهم سرقوه . . لقد رويت فيه ملحمة السجن الحربي كاملة ولكن على الآن أن أبدأ من جديد لأعيد كتابة الكتب .
قلت للحاجة زينب :
_ إن مجلة الإذاعة تنشر على صفحاتها كل ما تصل إليه من معلومات عن مذبحة السجن الحربي إيمانا منها بأن الذين عذبوا في السجن الحربي بشر من البشر ومن أبناء مصر . . فهل لك أن تحدثينا عن تلك المذبحة التي شاهدت فصولا من فصولها . . ؟ ! .
فاعتذرت بأن حالتها النفسية الآن لا تسمح . . ولكنها وعدتني أن التقي بها بعد أن تهدأ نفسها . . وعندما التقيت بها في المرة الثانية كانت أكثر هدوءا أو كانت قد بدأت فعلا في تسجيل كتابها " أيام من حياتي " . .
قلت لها . . لماذا قبض عليك ؟ ! .
قالت :
_ عندما قرر جمال عبد الناصر حل المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين سنة 1954 كنت وقتئذ رئيسة المركز العام لجمعية السيدات المسلمات الذي أسسته سنة 1356 ه وسنة 1937 م وكنت رئيسة تحرير مجلة السيدات المسلمات وكنت غير مقتنعة بهذا القرار واعتبره باطلا شرعا من الوجهة الإسلامية .
ومنذ سنة 1957 كانت مصر البلد المسلم العزيز قد أشرفت على ضياع مخيف يرعب كل صاحب ضمير وصاحب فطرة سليمة يؤمن بالله وكتبه ورسله . . ولما كنا من حفظة كتاب الله وبايعنا الله على أن نكون من دعاة دينه فقد أخذت بواقع المجتمع الذي يعز علينا أن يصبح ضائعا بين الطاغوت ين الحاكمين للعالم : روسيا . . والولايات المتحدة الأمريكية فقد قررت والشهيد عبد الفتاح عبده إسماعيل أن نبتدئ خطى ايجابية في تربية النشء لإيجاد جيل قرءاني وكان العمل لا يخرج عن تربية فردية . . وظل العمل هادئا يؤدي رسالته حتى أصدر جمال عبد الناصرقرارا بحل المركز العام لجماعة السيدات المسلمات سنة 1964 .
وأضافت الحاجة زينب :
_ وفي هذه الأثناء صدر كتاب " معالم في الطريق " للشهيد سيد قطب الذي كان قد أمضى في السجن ما يقرب من عشر سنوات ولم يكن قد مضي على خروجه من السجن أكثر من ثمانية أشهر هي كل الفترة التي أمضاها خارج أسوار السجون قبل القبض عليه مرة ثانية . . فوجئنا في سنة 1965 بالقبض على الإخوان المسلمين ! نعم نحن نريد أن ننشر عقيدة لا اله إلا الله منهج حياة ونظاما لخير أمة أخرجت للناس . . لم تكن جريمتنا إلا أننا نعتقد أو واجبا علينا حتميا أن ننقذ هذا المجتمع من ضياعه وتسيبه بقيام الإسلام قياما كليا غير مجزأ . . تلك يا سيدي كانت جريمتنا التي قبض علي من أجلها يوم 20 أغسطس سنة 1965 . . أنها العقيدة . . عقيدة الإيمان بالله ورسله وكتبه . . أنها الاعتقاد بشطري الشهادة على أنها منهج حياة ونظام للدولة . . ونظام لخير أمة أخرجت للناس . .
إنني اعتقد اعتقادا يقينا لا يداخله شك أن الأمر قد صدر من المخابرات الأمريكية والمخابرات الروسية لجمال عبد الناصربتدبير هذه القضية لأن هناك فكرا سليما لفهم الإسلام صاحبه الشهيد سيد قطب وأن هناك نشاطا للتجمع على هذا الفكر بقيادة الشهيد عبد الفتاح عبده إسماعيل وزينب الغزالي . ونفذ جمال عبد الناصر تعليمات المخابرات الكافرة الفاجرة لروسيا وأمريكا فكانت ملحمة السجن الحربي أو مجزرة بمعنى آخر . لقد كانت لدى مجموعات من المجلات الأمريكية والأجنبية تؤكد هذا الذي اعتقده وقد أخذت الشرطة العسكرية تلك المجلات مع ما أخذته وقت القبض علي .
ودليل آخر على أن المخابرات الأجنبية هي التي دبرت هذا الأمر أن القبض على الإخوان بدأ في النصف الثاني من شهر يوليو 1965 بينما التنظيم التربوي الفكري لم يكتشف إلا بعد منتصف شهر أغسطس سنة 1965 . . والدليل الثالث أن عبد الناصر أعلن في روسيا أنه قبض في ليلة واحدة على تسعة عشر ألفا من الإخوان المسلمين وأعلن عبد الحكيم عامر في إحدى احتفالات تخريج دفعة من الكلية الحربية أنهم لن يعفوا عن الإخوان هذه المرة ! ! .
قلت للحاجة زينب : كيف تمت عملية القبض عليك ! ! ومن هم الذين قبضوا عليك ؟ ! .
قالت :
_ هل قرأت عن محاكم التفتيش يا ولدي ؟ إنني قرأت تاريخها وأعمالها غير أني أتصور أن محاكم جمال عبد الناصر ليس لها مثيل في التاريخ أو سيأتي لها مثيل ! ! كل فراش بيتي مزق . . كل أثاث بيتي دمر بأيدي الطغاة الفجرة عندما فتشوا بيتي . . لقد فتشوا بيتي ثلاث مرات خلال 24 ساعة : مرة في أول الليل . . ومرة ثانية عند الفجر . . والثالثة بعد الظهر . . ولما لم يجدوا ما يدونني به أخذوا ما لا يقل عن ألف كتاب من مكتبي . . وفتحوا خزانتي وأخذوا كل ما بها من حلى ومصاغ وأموال , ولن أقص عليك يا ولدي إلا طرفا من الساعات الأولى التي أعقبت القبض علي . . لقد طلبت من الزبانية الذين دمروا أثاث بيتي ومزقوه إذن النيابة بالتفتيش .
فضحكوا وقالوا :
_ " الإخوان المسلمين مجانين . . قال أمر نيابة بالتفتيش في عهد عبد الناصر لا إذن للتفتيش . . ولكن فقط فتش . . اقبض . . اسجن . . اقتل . . ادفن . . " .
هذا ما قالوه بألسنتهم ! ! فنظرت إليهم في سخرية وتركتهم يفعلون كل قبيح ينطبق على قبحهم وقبح فعلهم , لقد حملوا الكتب في عربة نصف لوري وأركبوني في عربة أخرى وجدت فيها ابن شقيقي محمد محمد الغزالي الذي كان يعيش معي كابني وكانوا قد قبضوا عليه في منزلي عند الفجر ومعه شخص آخر كان طالبا في كلية العلوم على ما أذكر . . وأخذت إلى السجن الحربي مباشرة . . ولقد حاولت أن أخذ ملابسي معي . . فقالوا لي ستعودين إلى منزلك بعد ساعات . . لقد طلبت منهم أن يعطوني إيصالا بحلي ومصاغي ومالي الذي أخذوه من خزانتي فقالوا لي :
_ " أنت مجنونة . . هو عبد الناصر يعطي إيصالات ! ! " .
وعندما وصلت إلى السجن الحربي أدخلوني على حجرة فوجدت فيها رجلا كالوحش المسعور سألني عن اسمي فقلت له :
_ زينب الغزالي الجبيلي . .
فشتم شتما بذيئا وعرفت فيما بعد أن هذا الرجل صلاح نصر وكان بجانبه رجل آخر هو شمس بدران فلم أعبأ بالشتائم . .
وقلت لهما :
_ أرجو أن تكتبوا لي إيصالا بما أخذوه من مصاغ وأموال وأشياء أخرى كثيرة أخذوها عند التفتيش وأرجو أن تقيد في محضر التفتيش . .
فقال شمس بدران:
_ يا بنت إل . . أنت ستقتلين بعد ساعة وتسألين عن مصاغ ومال وكتب . . أنك ستموتين بعد ساعة ! ! وأخرجت من حجرة وأدخلت في حجرة ثانية ثم أخرجت وسرت في ساحة السجن الحربي ووجدت شباب الإخوان المسلمين كالذبائح البعض معلق على الأعواد . . والبعض مشلوح على الأرض مشقوق الصدر وآخرين ينزفون دما من أجسادهم هذا بطنه مبقور . . وآخر ذراعه مكسورة وآهات الألم تصعد إلى السماء تشكو لربها فعل الظالمين سرت وسط هؤلاء في هذا المشهد الرهيب . . وأخذ المعذبون بوجودي فقال واحد منهم :
_ " صبرا يا أماه ! ! " .
وأخذني الموقف فقلت بصوت عالي مرتفع :
_ صبرا يا أبنائي . . إنها بيعة مع الله . . صبرا يا أبنائي إن موعدكم الجنة . . صبرا آل ياسر فان موعدكم الجنة . .
وكان يسوقن ي ثلاث نفر غلاظ تغلفهم ظلمة عرفت فيما بعد أن أحدهم كان صفوت الروبي الجلاد الفاجر ضربني على أذني بيده الغليظة القاسية فأخذت أذني تصفر وتزوغ عيني كذلك . . وأدخلت ساحة تعذيب أشد قسوة من الساحة الأولى . . وكانت أذني هدأت بعض الشيء وكذلك عيني .
فقلت بصوت عال :
_ صبرا . . ثبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة . . ! !
فأخذ صفوت الروبي يلهب ظهري بالسوط في يده .
وبعد فترة أدخلت إلى حجرة لا أدري كم كلبا كانت بها عشرة كلاب – أو خمسة عشر – المهم أنها مملوءة بالكلاب المتوحشة . . وأغمضت عيني حتى لا أفزع , فأوقدوا نورا قويا شديد التوهج يغشى وأغلق علي الباب من الثالثة حتى الثامنة وأنا أغمض عيني واضعة يدي تحت إبطي والكلاب تنهشني من أخمص قدمي إلى قمة رأسي . . ولن أزيد عن ذلك يا ولدي فقد كان الأمر جد عصيب وسوف أسطر تلك الأيام من حياتي في كتاب غير الذي سرقوا أصوله . . إن التعذيب في السجن الحربي كان شيئا لم يحدث في التاريخ مثله وعندما سأكتب سيكون شيئا مروعا سيندهش العالم لما وقع ! ! .
عبد الناصر يشاهد التعذيب
سألت الحاجة زينب الغزالي :
_ ما حكاية رؤيتك لجمال عبد الناصر و عبد الحكيم عامر في السجن الحربي ؟ .
فقالت :
_ نعم يا ولدي لقد رأيتهما وجها لوجه يشاهدان التعذيب في السجن الحربي . . ولكنني لن أروي عن هذا الآن . . ولتعلم يا ولدي أنني لم أعط حديثا صحفيا في هذا الموضوع في خارج مصر أو في داخلها ولكن لأنك في منزلة الابن عندي فقد تحدثت معك في طرف من هذا الموضوع ولن أزيد وان شاء الله عندما أكتب عن التعذيب سيندهش العالم وسيعيد النظر في الفترة التي حكمها جمال عبد الناصر للبلد وكيف كان هذا البلد يعيش . قلت :
بعيدا عن صور تعذيبك أنت – أرجو أن تعطينا صورة لما حدث للنساء داخل السجن الحربي . فقالت :
_ " يا ولدي الإنسان في السجن الحربي كان معزولا عن العالم كله . . بل وحتى عن السجن الحربي . . فهو في جب مظلم لا يسمع غير الصراخ . . صراخ الإنسان وصراخ الكلاب . . ثم عندما يؤخذ إلى المكاتب . . إلى منصات الطواغيت شمس بدران. . وسعد زغلول عبد الكريم . . وحسن خليل . . وحسن كفافي . . و رياض إبراهيم . . وجلال الديب . . و محمد مصطفى الجنزوري . . وهاني إبراهيم . . وإحسان العاجاتي وغيرهم . . أمثال حمزة البسيوني و صفوت الروبي . . ففي الطرق ترى الموحدين أهل شهادة أن لا اله إلا الله من مستشارين وأطباء ومهندسين وضباط وعلماء ذرة وعمال وفلاحين وسياسيين واقتصاديين ونساء من أفضل نساء العالمين في هذا العصر وأطفالا صغارا ! . . وعذارى ! . .
وكان على رأس نساء السجن الحربي زوجة المستشار حسن الهضيبيالمجاهدة الفاضلة التي أخذت إلى السجن الحربي وهي في سن الثامنة والسبعين . . والسيدة خالدة الهضيبي والسيدة أمينة قطب والسيدة حميدة قطب والسيدة نفيسة قطب التي كانت في العقد السابع من عمرها والسيدة المجاهدة العظيمة " أم أحمد " والتي جاوزت الثمانين وكانت كل جريمتها أنها تحنو وتعطف على أسر المسجونين والسيدة فاطمة عيسى والسيدة غادة عمار والسيدة أمال العشماوي وكل أسرة الشهيد سيد قطبرجالا ونساء وأولادا . . كان أمامي يا ولدي في الزنزانة عروس أخذوها من " كوشة الفرح " إلى السجن الحربي وكانت تصرخ وتقول " أدع لي يا خالة . . قولوا لزينب الغزالي تدعو لي ! ! " وأنا متأثرة أشد التأثر وعروسة قرية كرداسة زوجة الأخ سيد نزيلي العواضية وعروس الطيار " محمد ضياء الدين الطوبجي " وعروس المهندس مرسي مصطفى مرسي وعشرات النساء دخلن السجن الحربي ونساء قرية كرداسة عدا 85 امرأة مسلمة رحلن إلى سجن القناطر ! ! . .
ماذا أقول لك . . انه عار احتملته مصر في ضميرها وستعيش تاريخها تألم لهذه الفترة التي حكم فيها الطاغية الدكتاتور . .
لقد كانت النساء تجر إلى التحقيق جرا ورأيت الحاجة أم أحمد وزميلتين لها في سن ما فوق الستين والسبعين يسحبن على وجوههن في طرقة الزنازين التي كنت أعيش في واحدة منها . .
سألت الحاجة زينب الغزالي عن قصتها مع محمد فؤاد الدجوي قاضي المحكمة العسكرية التي حاكمتها . . فقالت :
_ الدجوي ! ! . . أستطيع أن أقول أنه كان رجلا غبيا وهو الآن يلقى جزاءه من الله ويعلم الآن من نحن ومن هو عبد الناصر وأنا لا أعتقد أن الدجوي قد حاكمني لأن الأحكام صادرة من جمال عبد الناصر قبل المحاكمة بل وقبل التحقيق وأعطاها شمس بدران للدجوي لينطق بها كالببغاء على منصة القضاء المظلومة ! ! .
لقد أقسم لي شمس بدران وأنا أجلد في مكتبه أن الأحكام موجودة في درج مكتبه . . أتعلم يا ولدي بمن أقسم ؟ ! لقد أقسم برأس جمال عبد الناصر فالدجوي استعمله عبد الناصر كمخلب قط ليؤدي أوامره .
ولكني أذكر حادثتين في المحكمة وللأسف كان رجال النيابة في السجن الحربي يكتبون شيئا مغايرا لما نقول في التحقيق وكانوا يهددوننا إن لم نوقع على ما قالوه . . فمثلا محمد وجيه قناوي رئيس نيابة ويحقق وكان يشرف على التحقيق في السجن الحربي صلاح نصار . . كان يقول لي :
_ إن لم توقعي على ما كتبت فسوف نعيدك للمكاتب ! ! أي للتعذيب . . الذي اعتقده يقينا أنني ألقمت الجميع : الدجوي والنيابة حجرا فخرسوا ! ! . لم يكونوا يؤمنون في هذا الوقت بالقانون لأنهم كانوا يؤمنون فقط بالأوامر التي كان يصدرها لهم الطاغية الدكتاتور .
لقد قال " القناوي " كلاما كثيرا في المحكمة لم يحدث ولم يصدر مني فسألني الدجوي فقلت له :
_ لم يحدث هذا ولم أقله فالنيابة كانت تكتب غير الذي نقول ولكنهم غالوا في التزوير فقالوا أن الشهيد سيد قطب هو الذي قال هذا الكلام عليك فهل سيد قطب كذاب ؟ ! . فقلت لهم :
_ " حاشا لله أن يكذب سيد قطب" ! ! .
وأخذ الصراع بتلابيب النيابة فلم تع ما تقول وكذلك الدجوي . هكذا كان القضاء يريد أن يلصق التهم الزور بالأفذاذ من الرجال . فلما أجبت بالحق الذي اعتقده يقينا ألقمت الجميع : الدجوي والنيابة حجرا فخرسوا ! ! .
عندما طالبت النيابة بإعدامي . . وان السجن المؤبد لا يرضيها وقالت أسبابا لهذا قبيحة مثل قبحها وقبح الأوامر الصادرة إليها وقبح صادر يته طلبت الكلمة من المحكمة المزعومة فأعطاني الدجوي الكلمة ظنا منه أنني سأعتذر لأن المطالبة بالإعدام أخافتني فوقفت وقلت :
_ " نحن حملة كتاب الله وحماة شريعته وأمنا أمته ولنا في رسول الله أسوة حسنة وحسبنا الله ونعم الوكيل في هؤلاء الظالمين ! ! " .
فانتابت الدجوي نوبة صرع فأخذ يصيح في :
_ أسكتي . . أسكتي . . أسكتي . .
ووجه كلامه للمحامين . . قولوا لي :
أسوة يعني إيه ؟ ! أسوة يعني إيه ؟ ! . فلتشهد يا ولدي على جهل الذين حاكموني ! ! . . عندما نشرت مجلة الإذاعة والتليفزيون حديث الحاجة زينب الغزالي
_ ويكاد الحديث الوحيد الذي لم تمتد إليه يد بالتغيير أو التبديل أو الحذف أو الزيادة لأن هذا كان شرط الحاجة زينب . أزعج الحديث كل الذين يدافعون عن عبد الناصر لأن هؤلاء قد اخترعوا لفظة " مراكز القوى " وحملوها كل أوزار عبد الناصر وصوروا عبد الناصر في صورة الزوج الذي هو آخر من يعلم بخيانة زوجته . . وأنه كان مغلوبا على أمره وأن " مراكز القوى " هذه استطاعت أن تسلب عبد الناصر سلطاته ! ! وتطلق يدها على الحكم دون علم عبد الناصر . . وهم يهدمون عبد الناصر بهذا الأسلوب بأكثر ممن ينسبون إليه مباشرة انحرافات النظام . . وأنا لا استطيع أن أتصور أن جمال عبد الناصر قد فقد سيطرته على الأمور حتى بعد الدور الذي لعبه في إنزال الطامة الكبرى بالأمة التي خدعها وخادعها طوال فترة عمره في الحكم وألبسها لباس " العار " بعد لباس " الذل " بالهزيمة المروعة التي لم تحدث مثلها في التاريخ الإسلامي طوال أربعة عشر قرنا . .
صحيح كانت هناك مراكز قوى . . ولكن مركز عبد الناصر كان أقوى من تلك المراكز . . وكان أكثرها ضراوة . . وأكثرها جرأة في امتهان كرامة أبناء الشعب . . بل إن مراكز القوى ما هي إلا أيادي عبد الناصر القذرة الملوثة بدماء الضحايا الأبرياء ! ! وكلاب حراسته المسعورة التي أطلقها على الشعب تمزق كل ما هو شريف . . ونبيل وحق وخير . .
إنني أوقن أن عبد الناصر كان على علم بكل ما نزل بهذه الأمة من مصائب . . وكانت يده أكثر تلوثا بدماء الضحايا من غيره . . إن صفوت الروبي جلاد السجن الحربي بالنسبة إلى المجرم شمس بدران ما هو إلا " السوط " الذي مزق أجساد الشهيد محمد عواد والشهيد إسماعيل الفيومي والشهيد رفعت بكر وعشرات بل وآلاف الضحايا غيرهم . . وان أسرف هو في تحقيق رغبة سيده تقربا إليه وزلفا – إن شمس بدران. . وسامي شرف . . وحمزة البسيوني . . وسعد زغلول عبد الكريم . . وصلاح نصر – وغيرهم . . وغيرهم هم بالنسبة لعبد الناصر . . كالجلاد صفوت الروبي بالنسبة لشمس بدران. .
عبد الناصر هو الأمر الناهي . . هو الطاغية الذي فاق في جبروته وخسته . . وضراوته فرعون موسى ! ! . . وحتى لو كان عبد الناصر لا يدري عما كان يحدث من أحداث جسام كما يدافع عنه المدافعون فان وزره أعظم . . ومصيبته أفدح ! ! . .
دفاع هزيل عن عبد الناصر
وكان من بين الذين أزعجهم حديث الحاجة زينب مؤلف كتاب " عبد الناصر المفترى عليه " ! ! الذي حقق من دفاعه عن جمال عبد الناصر كسبا ماديا – ولا أقول أدبيا ! ! فأراد أن يستثمر حديث الحاجة زينب في كتاب عن أحد الذين صنعوا مأساة مصر وشاركوا في إذلال هذا الشعب وداسوا كرامته وإنسانيته بنعالهم . . المدعو صلاح نصر مدير مخابرات عبد الناصر الذي جعل سمعة جهاز المخابرات المصرية في الوحل والتي ما زال يعاني منها جهاز المخابرات حتى الآن . . لقد جعل منه المؤلف " أسطورة " ! ! ولم يخف إعجابه به ! ! . .
واليك الحديث الذي دار بين المؤلف . . وصلاح نصر :
س : في عدد مجلة الإذاعة والتليفزيون بتاريخ 1 فبراير ( شباط ) عام 1976 نشر حديث لزينب الغزالي عما لاقته السجن الحربي وقالت فيه : " وعندما وصلت السجن الحربي أدخلوني على حجرة فوجدت رجلا كالوحش سألني عن أسمي فقلت له : زينب الغزالي الجبيلي فشتم شتما بذيئا وعرفت فيما بعد أن هذا الرجل هو صلاح نصر وكان بجانبه رجل آخر هو شمس بدران" هذا ما قالته الحاجة زينب . فما هو تعليقك ؟ ! .
ج : إن ما جاء بمجلة الإذاعة والتليفزيون يؤكد مخطط العملاء والجواسيس ولا أدري كيف تدعي هذه السيدة أنها رأتني أو كما تقول أنهم قالوا لها عن الشخص الذي رأته أنه صلاح نصر وثابت من قضية الإخوان التي كانت متهمة بها أن لا صلاح نصر ولا أحد من رجاله يمت من قريب أو بعيد لهذه القضية ولم يدخل أحد من رجال المخابرات العامة السجن الحربي إلا عام 1967 حينما قبض علي بعض الأفراد – أي دخلوا مقبوضا عليهم . . ولكن يبدو لي أن مصطفى أمين قد دفع لها مبلغا كي تتم الحلقة التي يرسمها بالتعاون مع ثروت أباظة رئيس التحرير الذي انضم منذ شهور إلى مخطط المخابرات المركزية الأمريكية .
س: في نفس التحقيق ذكرت الحاجة زينب الغزالي أنه أثناء التعذيب الذي جرى لها رأت عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وجها لوجه يشاهدان التعذيب في السجن الحربي . . فهل حدث ذلك ؟ ! .
ج : من المضحك ما سردته عن وجود عبد الناصر و عبد الحكيم عامر في السجن الحربي ليشاهدا التعذيب وكأنهما انتهيا من مسئوليات الدولة الضخمة لإشباع رغبة دموية . ومن الواضح أنها تهدف إلى التشهير بهما ضمن المخطط .
إن الذين قاموا بهذا التحقيق موجودون وسيتبين كذب السيدة الفاضلة المؤمنة .
س : ذكرت الحاجة زينب أن عبد الناصر قبض على الإخوان المسلمين عام 1965 بعد أن صدرت له الأوامر من المخابرات الروسية والأمريكية معا .
فهل صدرت لعبد الناصر مثل هذه الأوامر ؟ ! .
ج : يستطيع أي إنسان أن يقول ما قاله مالك في الخمر فلتثبت لنا السيدة صحة دعواها .
س : قالت الحاجة زينب في وصفها للمخابرات الروسية والأمريكية أنها مخابرات كافرة فاجرة وبصفتك مديرا للمخابرات فهل هناك أجهزة مخابرات فاجرة في العالم ؟ ! .
ج : أفضل للدول أن تلغي أجهزة مخابراتها التي تحميها من الخيانة والتآمر من أن يقال عنها مثل هذه الصفات وفي رأيي أن هذه السيدة تلعب بالألفاظ لتزيد كراهية الناس لأجهزة المخابرات فينجح مخطط العملاء في هدم أجهزة الأمن وهذا بالطبع يخدم الجواسيس الذين يجدون حينئذ فرصة طيبة لنشاطهم الدنيء .
وأريد أن أرد على ما جاء في إجابة صلاح نصر على السؤال الأول الخاص بتواجده داخل السجن الحربي وانه لا صلاح نصر ولا أحد من رجاله يمت من قريب أو بعيد لهذه القضية . صحيح أن شمس بدرانورجال الشرطة العسكرية هم الذين استحوذوا على قضية الإخوان المسلمين سنة 1965 ونسبوا هذا " المجد " لأنفسهم وحقق به شمس بدران حلمه بتوليه وزارة الحربية وجني هو ورجاله " الثمرة " وأطلقت أيديهم في الشعب تعيث فسادا ولكن من الثابت أنه لم يكن هناك أي تناقض بين شمس بدران و صلاح نصر أثناء قضية الإخوان بل ثابت أنهما كانا حليفين ومتآمرين على جهاز المباحث العامة الذي كان يرأسه عبد العظيم فهمي وزير الداخلية والسيطرة عليه . وهذا ما أوضحناه في الفصول الأولى من الكتاب ثم أن صلاح نصر لم يكن وحده الذي تردد على السجن الحربي أثناء التحقيقات بل إن " سامي شرف " كان هو أيضا يحضر إلى السجن الحربي ويحضرون له كرسيا أمام مكاتب التحقيق وفي نفس الساحة التي يعذب فيها الإخوان المسلمون يجلس عليه سامي شرف ليشاهد التعذيب وقد رآه الأخ الدكتور محمود عزت إبراهيم .
ودليل مادي آخر على التعاون بين شمس بدران و صلاح نصر زمن القضية . . ويتمثل هذا الدليل في تعذيب الأستاذ جمال فوزي أحد الإخوان المسلمين في مبنى المخابرات العامة يقول جمال فوزي :
" دخلنا مبنى ضخما وألقى بي أحدهم في إحدى حجراته بعد أن طفنا وسط ممرات كثيرة وبعد فترة وجيزة صاح صوت من خلال مكبر صوت :
أنت بالمخابرات العامة . . إما الاعتراف . . وإما الموت . . وبالطبع تبينت حقيقة المكان . . ولكن عن أي شيء أعترف ؟ . . ولم يطل بي تفكيري إذ دخل علي زبانية المخابرات العامة ليوقعوا بالجسد المشلول المزيد من العذاب . . علقوني من ذراعي إلى أعلى وربطوها في حبال فصار جسدي معلقا ومتدليا ثم ربطوا قدمي في اتجاهين مختلفين ثم بدأت عملية " الفسخ " بشعة . . رهيبة . . قاسية . . صرت أتمزق وأحسست آلاما فوق الآلام . . فوق طاقة البشر من صنع أناس ليسوا من البشر . . وجرب القوم معي في المخابرات شتى صنوف التعذيب . . وضعوني فوق ما يشبه الكرسي وربطت يدي ووسطي ثم أخذ الجهاز يدور بي بسرعة مجنونة ثم يتوقف عن الدوران فجأة لتبدأ عملية المساومة ويمنحني الله قدرة على الاحتمال فأواجه المساومة بالصمت فيدار الجهاز من جديد حتى أحس نفسي مشرفا على الموت . ونزعوني من فوق الجهاز ثم قذفوا بي على الأرض ثم رفعوني ثانية وقذفوا بي وهكذا مع الركل بالأقدام وتهشيم جسدي بالعصي واللكمات والقيد في يدي من الخلف وعيناي معصوبتان وأحس بحارا من الدم تغمر بقية ملابسي . . أمروني بالوقوف فما استطعت فقد ماتت في الحركة وجاء صوت قبيح كريه تحس في نبراته غلظة وحش كاسر ! !
يقول : ضعوا له الخابور . . وشعرت ببقايا ملابسي الممزقة تنزع وبجسم مدبب صلب يخزونني به . . وشعرت بالتمزق . . وكان آخر ما أذكره صيحة مدوية أفلتت مني رغم تهافتي . . ثم رحت في غيبوبة تامة . . وأفقت . . فوجدت نفسي في سيارة تنهب بنا الطريق وأحد الضباط يوقظني . . نزع الطاقية من فوق عيني فصرت أرى ويا لهول ما رأيت . . الدماء تسيل مني في نزيف خطير وكانت بالضابط إنسانية أو ربما كانت حالتي من السوء حتى حركت في نفسه مواطن العطف والرحمة , حاول أن يعطيني جرعة ماء . . ولم تكن بي حاجة إلى الماء فقد غمرتني الآلام وكنت أشعر لهيب نار من آثار جريمة المخابرات العامة لم تكن مياه الدنيا بأسرها لتطفئها " . والأستاذ جمال فوزي من خلاصة الإخوان المسلمين الذين ليس بينهم وبين جهاز المخابرات الذي كان يديره وقتئذ صلاح نصر ما يوغر عليه صدره فيكذب .
أما قول صلاح نصر : " ولكن يبدو لي أن مصطفي أمين دفع لها مبلغا كي تتم الحلقة التي يرسمها بالتعاون مع ثروت أباظة رئيس التحرير الذي أنضم منذ شهور إلى مخطط المخابرات المركزية الأمريكية " .
فأرد عليه قائلا : أخطأت إستك الحفرة ! ! فالحاجة زينب الغزالي ليست في حاجة إلى نقود مصطفى أمين وأن المخابرات المركزية تتمنى – كما تمنى جهازه من قبل – أن تقتل الحاجة زينب الغزالي بل وهناك محاولة فاشلة لقتلها في حادث سيارة مشهور ! ! أعتقد أن صلاح نصر يعرفه جيدا .
أما بخصوص رؤية الحاجة زينب لجمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر أثناء التعذيب في السجن الحربي ونفى ئصلاح نصر لذلك . . فأقول انه في العلوم الإسلامية علم يسمى بعلم " الجرح والتعديل " . . هدفه التمييز بين رجال الحديث الثقات من غيرهم . . لو طبقت قواعد هذا العلم الأولية على شخصية صلاح نصر . . والحاجة زينب فلن يكون صلاح نصر إلا بطبيعة الظروف التي أحاطت بحياته إلا " كذوب " . . أما الحاجة زينب وهي الداعية الإسلامية التي جاهدت في سبيل دينها وعانت ما عانت فان جواز الكذب عليها احتمال مستبعد لأن المؤمن لا يكذب ! ! وقد سألت الدكتور ماجد حمادة وهو طبيب السجن الحربي الذي كان يشرف على علاج جرحي التعذيب والذي شهد أمام النيابة التي تحقق قضايا التعذيب بما شاهد من تعذيب أدى إلى الموت . . سألته بعد حديث الحاجة زينب لأتأكد من كلامها فقال أن المشير عامر قد زار السجن الحربي مرتين رآه بعينه في واحدة وقيل له أن المشير بالسجن في المرة الأخرى ولكنه لم يره فيها .
وأنا لا أستبعد ذهاب عبد الناصر إلى السجن الحربي وهناك أسباب كثيرة لذلك منها أن حارسة الخاص الشهيد إسماعيل البيومي كان عضوا في التنظيم وكان لو كانت هناك نية لاغتيال عبد الناصر لتم هذا الاغتيال ببساطة عن طريق إسماعيل الفيومي . . وكانت هذه المفاجأة المذهلة باعثا للكثيرين للذهاب إلى السجن الحربي ليروه بأعينهم .
وكما أن الأستاذ شمس الدين الشناويالمحامي والذي أراد منه شمس بدران أن يعترف على الشيخ الاودن ليلفق له تهمة يتخلص بها نظام عبد الناصر من العالم المجاهد روى الأستاذ شمس الدين الشناوي أن شمس بدران حادث جمال عبد الناصر تليفونيا قائلا له :
_ اسمح لي يا بابا أن ألغي قرار إفراجك عن شمس الشناوي وأعدك أن أحصل منه على اعتراف يدين الشيخ الاودن .
ثم لماذا نستبعد ذلك عن جمال عبد الناصر الذي قام بنفسه بالتحقيق ومحاكمة كثيرين من الضباط أمثال رشاد مهنا . . ومصطفى راغب . . بل لقد اشترك رجال قيادة الانقلاب سنة 1954 في تعذيب الإخوان بأيديهم ! ! . .
الفصل الخامس
أمام بوابة السجن الحربي
كان علي عشماوي المسئول عن تنظيم القاهرة قد أعطاني موعدا في الساعة التاسعة من مساء الجمعة 20 أغسطس أما مسرح البالون . . كنا قد اتفقنا على اللقاء مهما كانت الظروف . . والشيء الوحيد الذي يحول بيننا وبين اللقاء هو اعتقال أحدنا . . ذهبت في الموعد المحدد والمكان المتفق عليه وانتظرت ساعة كاملة – فلم يحضر أحد – فرجعت إلى منزلي وأنا منزلي وأنا على يقين أن علي عشماوي قد قبض عليه . . ولم يمض وقت طويل على دخولي من باب الشقة حتى حضر عندي المهندس فايز إسماعيل . . وسألني عن لقائي بعلي عشماوي فقلت له :
_ لم يحضر . .
فقال لي :
_ لقد كان لنا معه موعد فلم يحضر أيضا . . المهم استعد . . وقال :
( قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنين ؟ ! ) وتواعدنا على اللقاء في اليوم التالي . . وكنت أنتظر اعتقالي بين لحظة وأخرى . . ولذلك فقد كنت حريصا على التواجد بشقتي حتى يجدوني عند حضورهم لاعتقالي لقد حدث ما لم يحدث في مصر من قبل . . حتى في أحلك عصور الاستعمار . . لقد وصل نظام عبد الناصر إلى أسفل الدركات في إذلال هذا الشعب وامتهان كرامته . . والاعتداء على الأعراض لقد اعتقلوا زوجة علي عشماوي . . وكانت مريضة وأجريت لها عملية جراحية ولم يشفع لها مرضها . . ولكنهم بنذالة أخذوها معهم إلى الشرطة العسكرية في قصر عابدين . . ولم يفرجوا عنها إلا بعد القبض على زوجها . . وأرادوا أن يأخذوا أختها زوجة السيد نزيلي من قريتي كرداسة وكانت لا تزال عروسا لم يمض على زواجها سوى أسبوع واحد . . وفعلا صحبوها من بيتها هي وأخ زوجها وفي الطريق إلى السيارات التي كانت تنتظرهم خرج شباب القرية ونساؤها وخلصوا الزوجة العروس من بين أيدي رجال الشرطة العسكرية ونشبت معركة بين شباب القرية ورجال الشرطة العسكرية استعمل فيها رجال الشرطة الرصاص للإرهاب ولكن لم يرهب الأهالي وأعطوا رجال الشرطة درسا كان سببا في مأساة قرية كرداسة بأكملها والتي سبق ذكرها في الفصول الأولى من الكتاب .
وقبضوا على أمهات . . وأخوات . . وبنات عذارى . . حتى الأطفال أخذوهم رهائن . . لقد روى لي المقاول السيد النجيحي من مدينة فاقوس ولا علاقة له بالإخوان إلا أنه صهر عائلة دعادر أصهار عائلة الهضيبي أنهم لما ذهبوا لإلقاء القبض على أحمد دعادر . . فلم يجدوه قبضوا على والده الشيخ حسن دعادر الذي كان رهينة الشرطة العسكرية في كل مرة يذهبون فيها ليقبضوا على أحد أبنائه الأربعة فإذا لم يجدوه أخذوا الرجل الذي مات عقب خروجه من السجن الحربي في إحدى المرات . . وذهبوا ليقبضوا على والده فأخذوه معهم ولم يفرجوا عنه إلا بعد أن سلم الأب نفسه وكان السيد النجيحي عندما يذكر هذا الأمر لا يملك نفسه من البكاء .
ولعل من أبرز ملامح محنة الإخوان المسلمين عام 1965 هو دخول نساء الإخوان : أمهات . . وزوجات . . وأبناء وبنات وأطفال السجون . . دون مراعاة لخلق . . أو إنسانية هددت النساء بالاعتداء عليهن . . وهددت العذارى بهتك أعراضهن . . وضرب الآباء أمام الأبناء وضرب الأبناء أمام الآباء بل وسفحت كرامة الرجال أمام الزوجات . . مما ستجده في صفحات الكتاب .
لقد عرفت بعض الصور قبل إلقاء القبض علي فحرصت أن أتواجد بالمنزل حتى لا أعرض زوجتي لمثل هذه التصرفات التي لطخت نظام الحكم الناصري وجللته بالخزي والعار . . وجعلت صفحات تاريخه من أسود الصفحات ! ! . وفي مساء السبت 21 أغسطس 1965 . . في الوقت الذي كان فيه رجال الشرطة العسكرية يذهبون ليأخذوا زوجة السيد نزيلي من قريتي كرداسة رهينة لزوجها . . لوجوده في القاهرة كنت أنتظرهم أنا بالمنزل . . جلست مع زوجتي أهيئ نفسيتها لذلك ورتبت معها أمور معيشتها وكنت لا أظن أنني سأبقى كثيرا إن هي إلا بضعة أيام أعود بعدها إلى حياتي الطبيعية لأنهم لن يجدوا عندي شيئا يحاسبونني عليه ! ! ولم أفعل شيئا يمكن أن أجرم به كان الوقت ثقيلا على نفسي . . وكنت أتمنى أن يحضروا ليأخذوني حتى يضعوا نهاية لقلقي . . كنت ضيق الصدر . . فصرفت زوجتي لتنام مع الأولاد . . وبقيت وحدي في شرفة حجرتي الخاصة وأطفأت النور . . وألقيت بنفسي على الفراش . . ونمت . . واستيقظت على صوت زوجتي تقول لي :
لقد حضروا . .وفتحت لهم . . فدخل ضابط المباحث ومعه جندي بوليس . . ومخبر وبدءوا عملية تفتيش سريعة كانت الكتب أهم مكان فتشوه . . لقد كان الضابط معي مؤدبا كما سبق أن قلت وبعد أن انتهى من التفتيش قال لي :
_ تستطيع أن تتناول إفطارك .
قلت له :
_ لو سمحت . . اخذ كوبا من الشاي .
قال :
_ إذا كان على الشاي . . تستطيع أن تشربه في مكتبي . . وودعت زوجتي . . وتحدرت دمعتان من عينيها . . ونهرتها حتى تتماسك . . وقبلت ولداي . . ونزلت مع ضابط المباحث وركبت السيارة بينه وبين السائق واتجهنا إلى وزارة الداخلية .
وعندما وصلنا إلى وزارة الداخلية وفي الضابط بوعده فأخذني إلى مكتبه وطلب لي كوبا من الشاي . . وبدأ يقرأ أوراقي الخاصة التي أخذها معه . . وكان ما كان مما رويته في الفصل السابق وبعد أن حرز المضبوطات . . وكانت عبارة عن نوتة مذكرات بها بعض الأفكار والموضوعات الصحفية . . أخرجني إلى طرفة طويلة وجدت بها بعض الذين سبق القبض عليهم ومنهم محمد عبد الله الخطيب إمام وخطيب مسجد خورشيد وعديله الشيخ ركوة مكاوي . . والشيخ عبد الغني موسى وعبد المنعم دحروج . . ووهبي الفيشاوي وأنور أمين وبعضهم أعضاء أسرتي وأيقنت عندما رأيتهم أن التنظيم قد اكتشف لأن " أسرتي " كاملة معي ولا يمكن أن يكون ذلك مجرد صدفة . . ولكن أريد أن أقول إن الذي شد انتباهي كان فتى أسمر اللون . . ضخم الجسم في عينيه بريق وفي ملامح وجهه الأسمر صفاء . . واطمئنان عقد ذراعيه على صدره وجلس . . عرفت فيما بعد أن اسمه أحمد توفيق أحد الإخوة الذين سبق أن حكم عليهم بالسجن لمدة خمس سنوات وقضى مدته كاملة وخرج .
الحربي . . شونة أحمد راسخ
وقينا في هذه الطرقة حتى بعد الساعة الثالثة مساء تقريبا فخرج علينا أحد الضباط وقال كلاما فهمنا منه أن نستعد للذهاب إلى المكان الذي سنرحل إليه وكان معنا شاب عملاق . . فارع الطول قوي العضلات ولكنه يتوكأ على عصا لأنهم أحضروه من المستشفى التي كان يرقد بها . . فشكي للضابط ألمه . . فرد عليه الضابط بسخرية واستهزاء .
-ألست أنت رشاد الجندي . . بتاع ألمانيا وكان اسمك الحركي كذا . . أنت نسيت ؟ ! تعرف أنت رايح فين . . أنت رايح شونة أحمد راسخ . . رايح السجن الحربي وكان أحمد راسخ هو المسئول في المباحث عن الإخوان . . حتى ذلك الوقت . . هبطنا السلم . . فوجدنا في ساحة الوزارة عربتين في انتظارنا وكنا حوالي أثني عشر رجلا . . وأحضروا رجلا آخر في العقد السادس من عمره وهو يعرج ويتألم ألما شديدا . . فعرفت أن اسمه محمد فريد عبد الخالق عضو الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين . . وهو وكيل وزارة الثقافة الآن وكان قد ناله قسط من العذاب الهمجي لا أدري من المباحث العامة في وزارة الداخلية أم هو قد أحضروه من معتقل القلعة . . ركبت بجواره . . وانطلقت بنا السيارتان أولا إلى سجن القلعة وفرحت ولكن أحد الضباط صحح مسار السيارة الأمامية وقال للسائق :
_ أطلع على السجن الحربي . . وسارت السيارتان في طريق صلاح سالم ولم أكن طول عمري قد ذهبت من هذا الطريق . . ولم أكن قد عرفت مكان السجن الحربي من قبل رغم ما سمعت من حكايات عن مذبحة سنة 1954 . وأخيرا وقفت السيارتان بنا أمام بوابة كبيرة . . وضعت عليه لافته مكتوبا عليها . . " السجون الحربية – تأديب وإصلاح وتهذيب . . " . . فتحت البوابة ودخلت السيارتان بنا . . وركب معنا أحد الجنود حتى وقفت السيارتان في داخل السجن أمام عدد من المكاتب هبط الضابطان ومعهما أوراق سلماها في المكتب الذي دخلاه . . وتحركت السيارتان مرة ثانية حتى وقفتا أمام السجن الكبير . . هبطنا من السيارتين . . وصفونا صفا واحدا . . وكان معنا أحد العمال فلم يقف في الصف معتدلا فنالته الصفعات على وجهه وقفاه ! ! وأحسسنا أن هذه هي البداية . . ومع ذلك فقد كان استقبالنا غير استقبال الذين جاءوا بعدنا . . لقد رأيت حفلات استقبال رهيبة كانت تستقبل بها أفواج المعتقلين من الإخوان الذين جاءوا في الأيام التالية لاعتقالنا ! ! .
أدخلونا من بوابة السجن الكبير . . وسجلوا أسماءنا . . وأوقفونا وجوهنا للحائط . . ووقف خلفنا حارس . . وهددنا إن أحدث أي منا أية حركة . . طالت وقفتنا . . حتى جاء " الباتشاويش " صفوت الروبي جلاد السجن الحربي . . وأشهر شخصية في حكم عبد الناصر بدأ صفوت الروبي يأخذ ما معنا . . من نقود . . . وساعات وأية أشياء أخرى . . ويضعها في " منديل " ويكتب اسم صاحب المنديل عليه . . بعد تسجيل الأمانات . . قادنا أحد الحراس إلى الدور الثالث من السجن الكبير وأدخل كل واحد منا " زنزانة " عارية من كل شيء . . ليس فيها أي غطاء أو فراش أو أي إناء . . أدخلني الحارس . . وأغلق الباب علي . . ضحكت . . وأحسست أنني استرحت مما كنت فيه . . وقلت لنفسي إنني كنت كالصاروخ المنطلق يدور ولكن في غير مداره ! ! . جلست على أرض حجرة الزنزانة وكانت الشمس على وشك المغيب . . انتظر ماذا سيحدث . . ولكن تغمرني السكينة وتملأني الطمأنينة ونسيت كل القصص التي سمعتها عن مذبحة السجن الحربي سنة 1954 . . بعد قليل فتح باب الزنزانة ودخل أحد الحراس وبيده مكنة حلاقة أمسك رأسي وبدأ يحلق شعري " زيرو " فقلت له :
_ لماذا تحلق شعري . . ماذا أفعل لو خرجت غدا ؟ ! .
فأجاب الحارس :
_ يا ريت الأمر يقف عند ذلك . . بسيطة لو خرجت أشتر برنيطة والبسها ! ! .
وجاء الليل . . ولا زلت جالسا لا أفكر في شيء خارج السجن لم أفكر في زوجتي . . أو في أولادي خوفا من أنهار ولكني جعلت جدارا سميكا بيني وبين التفكير فيهم . . وقلت لنفسي هم في حال خير مني . . والله يتولاهم كما يتولاني ! ! .
في الفترة بين المغرب والعشاء . . وربما بعد العشاء فتحت أبواب زنازين الدور الثالث الذي أسكن فيه وطلبوا منا الوقوف أمام أبواب الزنازين ليراجعوا أسماءنا على دفتر التسكين . . وعندما خرجت رأيت الأخ أمام سمير أحد الإخوان الذين أمضوا مدة العقوبة التي حكم بها عليهم سنة 1954 وكانت خمس سنوات . . وكنت أعرفه قبل دخوله السجن أول مرة والتقيت به مرات بعد خروجه من السجن . . سألني هو بروحه الفكهة العالية . . قال :
ما الذي جاء بك إلى هنا ؟ ! قلت :
_ الذي جاء بك جاء بي ! !
قال :
إن هذا بيتنا ! ! .
قلت :
_ وبيتي أنا أيضا . . وضحكنا . .
بعد أن راجعوا أسماءنا أمرونا بالدخول مرة ثانية كل إلى زنزانته وصعد أحد الحراس وأغلق علينا الباب " بالأمان " .
وبعد قليل سمعت فتح الأبواب . . وجاء الدور عندي ففتح الباب وألقى لي " باطنية " واحدة . . حمدت الله عليها فرشت نصفها لأنام عليه . . وأستغطى بنصفها الأخر ! ! .
وبعد قليل وجدت إناء يدفع من تحت عقب الباب أخذته فوجدته غطاء من الألمونيوم به قليل من الأرز وقليل من شيء لا أعرفه . . أكلته وأنا أرغم نفسي . . وكدت أتقيأ . . وكان هذا هو العشاء . . بعد العشاء وضعت حذائي تحت رأسي كوسادة وغرقت في النوم . . نمت نوما عميقا مطمئنا . . واستيقظت مع أول شعاع نور للصباح . . على أصوات أبواب تفتح وصوت الحارس يصرخ :
_ اجر . . يا ابن إل . .
وقفت على " نظارة " باب الزنزانة . .وهي فتحة سعة العشرة قروش الفضية أو أكبر قليلا . . أخذت أرقب الخارجين إلى دورة المياه في الدور الثاني لأتعرف عليهم فعرفت الأستاذ محمد قطب. . وعرفت الأخ مبارك عبد العظيم ولكن هالني منظر الأخ حبيب عثمان الذي كان قد قبض عليه أوائل شهر أغسطس سنة 1965 وكانت لحيته كثة وغزيرة الشعر . . والشعر يغطى وجهه كله ولا ترى إلا أنفه وعينيه فقد استطال شعره حتى ذكرني للنظرة الأولى بالفتية في قصة أهل الكهف ورأيت بين من رأيت الأخ محمد الغزالي الصغير ابن أخ الحاجة زينب وكان شابا صغير السن ذكيا ونشطا وسريع الحركة ورأيت شابا غيره أقر الله بهم عيني وزادني طمأنينة وسكينة وغمرتني سعادة وقلت لنفسي :
_ أحمدك يا رب أنني في زمرة هؤلاء الشباب الطاهر المجاهد . .
كان الحارس يفتح من الدور الثاني زنزانة بعد زنزانة فيخرج من في الزنزانة وغالبا ما كانوا ثلاثة أو أربعة أحدهم يحمل قصريه كاوتش من بقايا الاحتلال الانجليزي لمصر . . تستعمل إما للبول والبراز وإما لماء الشرب . . وأما لهما معا ! ! .
كان أفراد الزنزانة يذهبون إلى دورة المياه يفرغون القصرية ويدخلون الدورة لقضاء حاجاتهم وبكن على عجل . . ويحاولون إحضار بعض الماء بعد أن يغسلوا " القصرية " من مجرى الماء الذي يذهب إلى الدورة من النافورة التي تتوسط السجن . . نفس المجرى الذي تشرب الكلاب منها . . وتغسل فيها أواني الطعام . . وتغسل فيها قصارى البول . . وتملأ منها مياه للشرب ! ! .
جاء الدور على زنزانتي ففتحت وحملت " القصرية " وفتح الحارس زنزانة جاري الشيخ محمد عبد الله الخطيب وزنزانة جاري الآخر وهو الأستاذ محمد فريد عبد الخالق . . هبطنا السلم . . دخلت دورة المياه سريعا ثم غسلت قصريه البول وملأت نصفها ماء من المجرى وكنت أشرب منها حتى تغير طعمها وصار لها طعم البول ! . . عافته نفسي . . توقفت عن الشرب . . وهكذا كان يحدث كل يوم لأن الوقت كان صيفا . . وكان الحراس لا يسقوننا . .
سألت الأستاذ محمد فريد عبد الخالق :
_ هل معك مصحف ؟ !
قال :
نعم . .
قلت :
_ أعطني نصفه . .
فأعطاني الرجل أكرمه الله من سورة الفاتحة حتى آية ( وأرادوا الخروج لأعدوا له عدة . . ) من سورة التوبة وكان ما يقرب من ثلث القرءان . . كنت بعد أن أفرغ من " الدورة " أعود وقد توضأت لأجلس لأتلو هذه الأجزاء وكنت أقرأ هذا القدر كله اليوم . . وأحسست أن القرءان بحق كما وصفه ربنا . . رحمة . . ونورا . . وهدى وحياة للقلب . . كان جليسي في وحدتي التي استمرت اثني عشر يوما . كانت الأيام الأولى من دخولي السجن الحربي أي الأسبوع الأخير من أغسطس سنة 1965 هادئة تمت فيها عملية جمع أعضاء التنظيم الذين اعترف عليهم علي عشماوي بعد إلقاء القبض عليه بساعات قليلة وبدأت عمليات عمليات التحقيق والتعذيب بعد ذلك . .
وكان أول من رأيته ممزقا . . لا يقدر على السير على قدميه والحارس يستحثه ليسرع بالضرب على ظهره بالسوط . . هو صبري عرفه الكومي . . وكان قد زارني مرة واحدة قبل دخولنا السجن وكان يسكن في إحدى زنازين الدور الثاني وكان الوقت بعد الظهر فتح الحارس عليه باب الزنزانة وساقه أمامه بالكرباج حتى خرج هو والحارس من بوابة السجن وانتهت رؤيتي لهما وبدأت مجزرة السجن الحربي تشتد ابتداء من الأيام الأخيرة من شهر أغسطس 1965 . . وكانت التحقيقات تبدأ مع ظلام الليل . . وتستمر عملية بأحذيتهم العسكرية تملأ قلوبنا بالرعب ولا يطمئن أحدنا إلا بعد فتح زنزانة غير زنزانته ولكن كل واحد منا فتحت زنزانته مرات ومرات واقتيد في الليل المظلم إلى حيث لا يدري . . وكثيرون ممن ذهبوا إلى التحقيق عادوا أشلاء ممزقة وبعضهم لم يعد إلى زنزانته إن كان من سكان الأدوار العالية فيلقى في أحد زنزانات الدور الأرضي والبعض ذهبوا به مباشرة إلى المستشفى ومنها إلى صحراء المقطم ليدفنوه ! ! .
لقد كانت فترة النهار طمأنينة بالنسبة لنا . . لأن التحقيق يتوقف فيها وكنت أقضى وقتا طويلا منها على نظارة الزنزانة أتصفح وجوه الإخوان وأتعرف من بينهم على من كنت أعرفهم خارج السجن وفي الأيام الأولى رأيت ما أضحكني . . وأبكاني في نفس الوقت رأيت الشيخ عبد الغني موسى أحد الذين ألقى القبض عليهم معي . . وهو رجل في العقد الخامس من عمره وقور ضخم له لحية . . رأيته وقد حلقوا له نصف لحيته . . ونصف شاربه بصورة ممسوخة . . أضحكتني وأبكت قلبي . . ورأيت نفس الصورة ولكن لم تضحكني ولكنها أخنقتني وملأت قلبي غيظا . . رأيت الشيخ محمد عبد المقصود العزب وهو رجل جاوز الخمسين ذو لحية بيضاء تماما طويلة . . وقد حلقوا له نصفها . . والرجل نحيف الجسم . . ضعيف النظر فقدت إحدى عينيه النور بسبب التعذيب . . ورأيت الحارس " سمبو " يضربه بقبضة يده . . على عينيه فبكى الرجل وما أقسى على النفس من بكاء شيخ وقور كسير ! ! .
بمرور الأيام بدأت تضميد جراح المعذبين وتنظيفها من الصديد الذي نتج من عمليات التعذيب وكان الحارس " صلاح " يحضر يوميا في حوالي الساعة العاشرة صباحا . . وتفتح الزنازين على الجرحى فيخرجون" للغيار " . . وكان منظرا فريدا لا أظن أنه سيمحى من ذاكرتي حتى أموت . . كان طابور المعذبين أحد ملامح السجن الكبير . . كنت أقف على نظارة زنزانتي أنظر فأرى عجبا . . أحد الإخوان يزحف على مقعدته بطريقة جعلتني أنفجر من البكاء . . وآخر يمشي على قدميه ويتساند على سور السجن بطريقة يمشي على الجمر وثالث يزحف على ركبتيه ومرفقيه . . بطريقة أغرب من الخيال . . والسبب في الصورة الأخيرة أن طريقة التعذيب التي كانت تتبع مع معظم الإخوان هي " التعليقة " في " الفلكة " وكانت تتكون من قضيب حديد طوله ما يقرب من مترين وسلسلة حديد أو حبل يقيد " الضحية " من يديه ورجليه بطريقة معينة ويرفع إلى أعلى في وضع أشبه بالذبيحة . . رأسه إلى أسفل ويداه ورجلاه إلى أعلى . . ويبدأ حارسان أو أربعة حراس يمزقون الضحية . . بالسياط . . ويكون الضرب في هذه الحالة على القدمين والساقين واليدين حتى المرفقين . . هذه صورة من صور التعذيب كانت شائعة ويكاد لم يفلت منها أحد إلا في حالات نادرة . . وتزداد قسوة التعذيب عندما تعلق " الضحية " أكثر من مرة في اليوم الواحد . . أو يعذب في عدة أيام . . إن الإنسان عندما يعذب بالضرب بالسوط يفقد إحساسه بالألم بعد قدر معين من التعذيب ويكون عمل السياط فقط هو تمزيق الجسد . . وكان الإخوان من خلال تجربتهم في مذبحة السجن الحربي سنة 1954 أدركوا هذه الحقيقة ولكنهم كانوا لا يكفون عن الصراخ حتى لا يفطن الجلادون إلى ذلك ولكن في مجزرة السجن الحربي سنة 1965 كان الجلادون يدركون هذه الحقيقة فكانوا يمزقون الأخ " الضحية " . . فترة من الوقت ثم يتركونه ويطلبون منه أن يجري ويكون السير في هذه الحالة أنواعا من العذاب الأليم ويكون الضرب " بالكرباج " على الظهر وقد يقف الحراس في شكل دائرة ويدور حولهم الضحية فيعطيه كل منهم ضربة بسوط . . أو ركلة بقدم أو صفعة بيد ! ! .
ثم يعاد مرة ثانية ويعلق في " التعليقة " وتعود السياط تمزقه مرة ثانية . . ويكون الألم في هذه الحالة أضعاف الألم في أول مرة . . فما أقسى الضرب على الجراح ! ! وأحيانا يعذب الأخ ويمزق جسده ثم يترك أياما قليلة وتكون جراحه قد بدأت تندمل فيطلب إلى التحقيق ويعذب وتمزق السياط أربطة جراحه الأولى وتكون السياط أشد من مس النار ! ! .
وكان طابور المعذبين الجرحى يزداد عدده بمرور الأيام وكان العدد اليومي يقرب من مائة جريح معذب ! ! . . بعد اثني عشر يوما قضيتها في زنزانتي منفردا . . أدخلوا على رجلين أحدهما أحد أعيان قرية أبو الغيط واسمه الحاج عبد الغني إبراهيم . . مزارع لا علاقة له بالإخوان ولكن أخاه كان صديقا للشهيد عبد الفتاح عبده إسماعيل ولما ذهبوا ليقبضوا على أخيه لم يجدوه فأحضروه هو وكان خلال الأيام الأولى التي قضاها معي يستعجل القبض على أخيه ظنا منه أنهم حين يقبضون على أخيه سوف يفرجون عنه . . ولكن خاب ظنه عندما رأى أخاه . . وابن عمه وآخرين من قريته ولكنهم لم يفرجوا عنه إلا بعد شهور عدة أما الرجل الأخر فهو من الإخوان . . وممن حارب في فلسطين وحوكم سنة 1954 . . وبرأته المحكمة العسكرية لبطولته في فلسطين والقنال – كما روى لي – ولكنه بالرغم من ذلك كان منهارا . . ضيق الصدر متبرما ساخطا وعندما جاء وقت أذان العصر وأردنا أن نصلي طلب أن يصلي كل منا بمفرده . . فثرت عليه . . وقلت له :
_ ما علاقة الصلاة بالإخوان ؟ ! . . هل الصلاة تهمة ؟ ! . .
وبدأت أتحدث معه حتى هدأت نفسه قليلا . . ولكن بقى شكي فيه حتى آخر لحظة ولم أعترف أمامه أنني من الإخوان المسلمين ولم أتحدث عن أي نشاط لي خارج السجن وكان بالنسبة لي زنزانة داخل الزنزانة . . وهذا وجه آخر للمحنة التي عاشها الإخوان أثناء حكم جمال عبد الناصر وهو أن المباحث العامة استطاعت أن تفتن الكثيرين عن دعوتهم وصنعت منهم جواسيس على أخوانهم هؤلاء هم كتاب التقارير بالحق أو بالزور . . وبعض هؤلاء أسف إلى درجة كبيرة . . والبعض الآخر ممن أيدوا النظام وتبرءوا من الإخوان لم يسمح لنفسه أن تنحدر إلى هذا الدرك الأسفل من الأخلاق ! ! .
وفي صباح أحد الأيام أدخلوا علينا رجلا في الخمسين من عمره اسمه حسب النبي خير الدين وهو رجل أمي . . عامل بشركة نسيج بالمحلة فيه حياء المؤمنين وصلابة الإيمان . . وأمن الإسلام وطمأنينته . . دخل الرجل علينا فكان لي والدا . . وكان لي معينا على مواجهة المحنة . . لقد أرسله الله لي رحمة . . لأن الرجلين الأولين . . كان أحدهما ليس من الإخوان وينتظر الفرج بين لحظة وأخرى . . والرجل الآخر من الإخوان ولكن منهار . . ولكن عمى حسب النبي كان مؤمنا . . صلبا . . ثابتا . . راضيا . . التصقت به وبدأت أشغل وقتي ووقته بتعليمه القراءة في المصحف . . كان الرجلان ينامان وقت القيلولة وكنت أجلس مع عمى حسب النبي أصحح له قراءته في المصحف . . وعندما تجهد من القراءة أطلب منه أن نستغفر أو نقول مائة مرة : حسبنا الله ونعم الوكيل . . أو نسبح . . وكان الرجل يتجاوب معي . . بقيت مع هؤلاء الثلاثة أربعين يوما . . حتى نقلت إلى الزنزانة المجاورة مع الأخ الشيخ محمد عبد الله الخطيب وسيد النجيحي المقاول بمدينة فاقوس . . وقد حدث أثناء إقامتي في الزنزانة الأولى أن فتح علينا الحارس " زغلول " وهو عبد أنكد . . كأنه الشيطان تجسد في صورة إنسان . . دخل علينا وأخذ يصفع كل منا صفعات على وجهه . . ثم أمسك الحاج عبد الغني فلاح قرية " أبو الغيط " وأراد أن يلقيه على الأرض ولكن الحاج عبد الغني كان عملاقا . . لو كان في حريته لصرع الحارس " زغلول " بضربة واحدة من يده عزت عليه نفسه فلم يمكن الحارس منه ليلقه على الأرض فاغتاظ زغلول وأخذ يصفعه بيديه على أذنيه فترة طويلة ولما انتهى خرج وأغلق خلفه الباب فإذا بالحاج عبد المغني يغلق فمه وينفخ فإذا بالهواء يخرج من أذنه الشمال يعني :
خرقت أذنه ! ! .
وأذكر يوما أثناء إقامتي في نفس الزنزانة دخل " صفوت الروبي " جلاد السجن الحربي أثناء فترة الدورة الصباحية فلم يعجبه النظام لأن الحراس لا يضربون المعتقلين أثناء الذهاب أو العودة من الدورة . . فجمع الحراس وأغلقوا أبواب الزنازين علينا وأمسك " الكرباج " وجلدهم جميعا على أقدامهم بصورة قاسية ودهشنا من ذلك . . ولكن أدركنا السبب بعد ما يقرب من ثلاث أيام . . لقد تركونا دون دورة أياما . . حتى أننا اضطررنا للتبرز في " القصرية " الكاوتش ولما طال الوقت انبعثت من " القصرية " رائحة لم نطقها فغطيناها بقصرية المياه . . ولما امتلأت القصرية بالبراز اضطررنا أن نتبول في الزنزانة حتى خرج البول من باب الزنزانة ! ! .
ثم بدءوا يخرجوننا إلى الدورة لكن هذه " العلقة " التي أعطيت للحراس أيقظت الوحش الكامن في أعماقهم وفجرت الغيظ والحنق في نفوسهم فسامونا سوء العذاب . . وكانت الدورة طابور تعذيب وليست قضاء حاجة ! ! .
كانوا يتحججون لنا بأية حجة ليضربوننا . . وويل للواحد منا لو نظر لأخيه بعينه ولمحها الحارس . . كان ذلك جناية . . يعطيك نصيبك من اللكمات أو الضربات بالكرباج على يديك وكان الوقت شتاء . . والبرد قارسا . . ولم تكن تعطى لنا فرصة قضاء الحاجة كاملة . . كان الحارس يقف على الباب وبعد أقل من ثلاث دقائق يضرب الباب بقدمه ويفتحه عليك وقد يضربك بالكرباج مع أقذر ألوان السباب . . ثم تخرج فتقف في الطابور وويل للمجموعة لو أخطأ واحد منها . . يصرف لكل واحد عدد من الضربات بالكرباج على اليد . . أو يصفع عدة صفعات ! ! .
كانت فترة الدورة تبدأ مع أذان الفجر . . بل أن أحد الحراس وكان اسمه " علي الأسود " وهو أسود حقيقي وقصير جدا . . ولكن فيه شيء من الذكاء . . في أحد الليالي استيقظ في حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل . . وأراد أن يسلي نفسه وكان حكمدارا للسجن في هذه الليلة فبدأ يفتح علينا للدورة في هذا الوقت من الليل ! ! .
وقبل أن أترك الحديث عن زنزانتي الأولى . . أقول إنني في هذه الزنزانة تلقيت درسين هامين الدرس الأول هو أن باب الإيمان . . هو الطاعة لله وكلما ازدادت طاعة الله ازداد إيمانك . . وهذه الحقيقة كانت خافية عني خراج السجن لقد كنت أظن أن الإيمان هو الاقتناع العقلي ولكن تبين لي أن حقيقة الإيمان ليست مجرد الاقتناع العقلي , فالاقتناع العقلي جزء من الإيمان ولكن الإيمان الحق أمر أكبر من مجرد عمل العقل , فالإيمان أمر يحسه قلب الإنسان بل أقول " كينونة " الإنسان بما فيها العقل .
أما الدرس الثاني . . فهو الاستسلام لأمر الله . . والتوكل عليه والركون إليه . . والثقة فيه . . والأمان إلى جواره , كل هذا تعلمته من عمي حسب النبي خير الدين عامل النسيج الأمي . . الثابت الراضي . . المطمئن . . الواثق بالله . . والمتوكل عليه .
في أول مرة أخرج فيها للتحقيق . . وكان الوقت قبل المغرب بقليل . . فتح الحارس باب زنزانتي وسألني عن أسمي . . فلما تأكد منه قال لي :
_ اجر . . يا ابن إل . . وخرجت حافي القدمين . . أجري أمامه حتى لا يضربني . . نزلت إلى حوش السجن . . وأمسكني الحارس من كتفي وسار بي تجاه بوابة السجن فسجل اسمي . . وقال لي : امشي مشية عسكرية من حديد . . رأسك إلى أعلى . . وارفع يديك واضرب الأرض برجليك . . ونفذت الأمر . . ووصلت إلى المكاتب وأوقفوني على باب حجرة كتب عليه " مكتب أركان حرب السجن " وجاء أحد أفراد الشرطة العسكرية وقال لي : _ طبعا أنت تصلي . . فعلامة الصلاة في وجهك ؟ ! .
قلت :
_ نعم . .؟ ! .
قال :
_ وظاهر انك بتلعب حديد . . جسمك باين عليه .
قلت :
أنا كنت زمان وأنا طالب ألعب سويدي . . وحديد . . كنت أتكلم بطمأنينة . . ولم يدخل الخوف داخلي . . وكنت عاقد النية على ألا أعترف بكلمة واحدة . . ولا مانع عندي من المراوغة . . بعد فترة . . أدخلوني على ضابط الشرطة العسكرية اسمه " هاني " طلب مني أن أحكي له تاريخ حياتي . . ابتداء من 1954 حكيت . . وبدأ يسألني أسئلة وقحة يريد بها السخرية بي والاستهزاء مني . . ولكنه لم يأمر بضربي . .أعادني الحارس إلى الزنزانة ولم أطلب إلى التحقيق إلا بعد أربعين يوما . . بدأت عملية التحقيق تنشط بعد القبض على جميع أعضاء التنظيم والتي لم تستغرق أكثر من أسبوع بدأت باعتقال علي عشماوي المسئول عن تنظيم القاهرة الذي اعترف بعد ساعات من اعتقاله واستطاع شمس بدران وزبانيته أن يقنعوا علي عشماوي بالاعتراف الكامل . . وكان علي عشماوي كما قلت ذا ذاكرة حديدية . . فذكر كل شيء عن التنظيم حتى أدق التفاصيل .
وكان شهر سبتمبر شهر الموت . . بل أقول شهر استشهاد للإخوان داخل السجن الحربي . . لقد استشهد فيه محمد عواد . . واستشهد فيه إسماعيل الفيومي الحارس الخاص لجمال عبد الناصر. . ومحمد علي عبد الله المدرس بقرية كفر شكر ومحمد منيب عبد العزيز أمين مكتبة كلية العلوم . . جامعة أسيوط . . وستأتي قصة استشهاد كل واحد من هؤلاء في الأبواب التالية إن شاء الله . . وخلال الأشهر الخمسة الأولى في السجن الحربي وهي شهور التحقيق لم يكن النوم بالليل ممكنا لأن حركة فتح أبواب الزنازين وأخذ الإخوان منها والذهاب بهم إلى مكاتب التحقيق ثم العودة بهم وإدخالهم إلى الزنازين تملأ نفوسنا بالرعب . . لأن كل واحد كان يتوقع أن يؤخذ في أي لحظة . . وكنا عندما نسمع خطوات الحارس خارج الزنزانة كانت قلوبنا تخفق فزعا ولا تستقر حتى تبتعد ويذهب الحارس إلى أحد الزنازين ويأخذ منها من يأخذ . . ولا أنسى كلمة الشيخ محمد عبد الله الخطيب الذي زاملته في الزنزانة الثانية يعبر بها عن إحساسه من حركة الحراس خارج الزنازين . . فكان يقول :
_ أنهم يغو صون بأحذيتهم في قلوبنا ! ! .
وكان أخوان الزنزانة الواحدة إذا أخذ أحدهم يظلون سهرا نين حتى يعود أخوهم ليطمئنوا عليه وكثيرا ما كان يحدث ألا يعود . . ولكن يعود إليهم الحارس ليأخذ حاجاته إن كان له حاجات . . وفي هذه الحالة إما أن يكون الأخ قد مزقوه حتى أصبح لا يستطيع أن يسكن في نفس الزنزانة التي أخذ منها . . أو يكون قد انضم إلى قائمة الشهداء ! ! .
ارتسم الألم على وجوه الإخوان . . ولكن في صبر وتحمل وثبات وكان أشد ألم الإخوان هو ألمهم من رؤية جراحات بعضهم . . كان كل منهم يتألم لألم أخيه . . وأذكر أنني وقفت يوما أنظر من نظارة زنزانتي الأولى وقت خروج المعذبين للغيار على جراحاتهم فلما رأيت السيد نزيلي وكمال الفرماوي وهما من قريتي كرداسة وكانا قد عذبا عذابا شديدا انفجرت في بكاء حاد وبصوت عال حتى خاف من معي في الزنزانة فطلبوا مني خفض صوتي حتى لا يسمعني الحارس وتكون مصيبة ! ! .
لقد كانت ألوان التعذيب أحيانا فوق احتمال العقل البشري . . فلقد جن البعض . . ولقد رأيت بعيني من نظارة باب زنزانتي أحد سكان الدور الأرضي يقف عاريا كما ولدته أمه مسندا ظهره إلى الحائط ويقف الحارس أمامه وبيده " كرباج " يضربه به بين الحين والحين وهو يطلب منه أن يدخل زنزانته ورأيته مرة أخرى عاريا أيضا وهو يجلس على الأرض فانحنى عليه الحار س ليكلمه . . فإذا بالرجل أراد أن يصفع الحارس وبعد أيام رأيت حارسين يحملان الرجل على نقالة ويخرجان به خارج السجن الكبير ! ! .
بل لقد وصل التعذيب إلى حد الموت . . وقد رأيت بعيني رأسي جثتين تؤخذان لتدفنا خارج السجن . . ففي ليلة من الليالي أطفئت الأنوار في حوش السجن على غير العادة وسمعت صوت سيارة داخل السجن فوقفت على النظارة لأعرف ماذا يحدث فلم أرد شيئا لشدة الظلام فوضعت أذني فسمعت أصوات وعدت أنظر من جديد فرأيت أشباحا تتحرك وتصعد إلى الدور الثاني ويهبطون وهم يحملون شيئا وضعوه في العربة الجب التي رأيتها عندما أضاء الحارس خطأ نور السجن ثم سرعان ما أطفئ النور فوضعت أذني وسمعت صوت موتور العربة يدور من جديد وخرجت السيارة وأضيء النور . ورأيت حارسين يحملان " غلقا " . . وفأسا . . وكوريك ولحقوا بالعربة . . وبعد قليل رأيت الحراس يصعدون إلى الزنزانة التي فتحوها وحملوا منها من حملوا وأخرجوا منها عددا من البطاطين . . وتكرر دخول العربة مرة ثانية وأطفئت الأنوار ودخلت العربة حتى وقفت أمام زنزانة في الدور الأرضي مواجهة لبوابة السجن وحملت من حملت وخرجت ولما أضيء النور رأيت الحراس يخرجون من الزنزانة البطاطين ويحضرون جرادل الماء وغسلوا الزنزانة ! ! .
كانت التحقيقات تستمر طول ليالي الأسبوع وتتوقف ليلة الجمعة وكانت تلك هي الليلة الوحيدة التي ننام فيها بأمان لأن عملية فتح الزنازين تتوقف . . ونكون قد استرحنا من بعض الحراس الذين كانوا ينزلون في أجازة من السجن . . وكان يوم الجمعة هو يوم النظافة . . يعطوننا فرصة لكي نغتسل ونغسل ثيابنا . . ولكننا لم نكن نملك ملابس إلا ما حضرنا به من منازلنا . . وكثير من ملابس الإخوان مزقت أثناء التعذيب . . لأن بداية التحقيق هو تمزيق ما أعلى الأخ من ثياب وبالذات القميص أو الجلباب . . وكان صفوت الروبي هو الذي يقوم بتلك العملية . . لكن إذا كان القميص جديدا . . وغالي الثمن يأخذه صفوت أو يأخذه الشاويش نجم مشهور ! ! .
كنا يوم الجمعة نستحم بالماس البارد . . وكان الوقت شتاء . . المهم لا بد أن نستحم وتغسل ما عليك من " هياكل " لملابس داخلية . . ولا بد منم تنفيذ الأوامر وأذكر هنا حادثة رويت وشاعت بين الإخوان وهي أن الشيخ الاودن رحمه الله رحمة واسعة وكان شيخا قد جاوز السبعين من عمره وسجنوه مع عدد من الكلاب التي كانت تنبح وتتبرز في حجرته وكان الرجل مريضا . . كان الحراس يلقون عليه بقصرية الماء البارد وهو بملابسه ! ! وأحيانا كان يوم الجمعة يتحول إلى يوم غم . . ففي أحد أيام الجمعة . . بعد أن انتهينا من دورة المياه واستحممنا وأغلقت أبواب الزنازين علينا . . وقف أحد الإخوان ينظر من نظارة زنزانته فلمحه حكمدار السجن . . وكان رتبته لا تزيد عن " أمباشي " بشريطين فذهب إلى الزنزانة وفتحها وأخرج واحدا منها وأوقفه في فناء السجن ووقف الحراس حوله . . وقفت أنا وراء نظارة زنزانتي في الدور الثالث بطريقة لا يرونني ورأيت مجموعة الحراس يتبارون في ضرب الأخ . . ومن منهم يستطيع أن يطرحه على الأرض بصفعة واحدة من يده على وجهه وطبعا كان الأخ يحاول أن يلقى بنفسه فور ضربه . . ولكن انتهى الموقف بأن طرحوه على الأرض ووضعوا رجليه في الفلقة ووقف حكمدار السجن على رأسه ووضع حذاءه الكاوتش في فم الأخ حتى يكتم صرخاته ! ! .
وفي أحد الأيام بعد عودتي من الدورة وقفت ألعب سويدي حتى أستدفئ وكنت أتوقف عندما أسمع خطوات الحارس قريبا من باب الزنزانة ووقفت أنظر فراني . . وكان اسمه " النوبي " ففتح الزنزانة وصمم على أن يكر بجني على رجلي وكان الجو باردا . .وضرب الكرباج رهيبا . . رجوته كثيرا ليعفو عني . . فصفعني صفعات وأراد أن يسوقني إلى أمباشي السجن واسمه " علي حافظ " وكان أصفرا حقودا فلما ألححت في الرجاء طلب مني أن أرقد على ظهري وأرفع قدماي ليكربجني هو . . وكان لابد مما ليس منه بد . . جلست ورفعت قدماي . . وكربجني العسكري النوبي بالكرباج لأول مرة داخل السجن الحربي .
في ساحات . . التعذيب
إن مذبحة السجن الحربي سنة 1965 كانت تنفذ على أسس علمية دقيقة وقد درب منفذوها تدريبا طويلا فطبقوا علينا أساليب الاستنطاق وانتزاع الاعترافات التي عرضها صلاح نصر في كتابه الحرب النفسية تطبيقا حرفيا . . وكانت النتيجة عشرات الضحايا مضوا إلى ربهم شهداء وآلافا آخرين قضوا ما يقرب من عامين في عذاب فاق على وجه اليقين ما روته كتب التاريخ عن الاضطهاد الديني أيام حكم الرومان وما سجله التاريخ عن فظائع محاكم التفتيش ومعسكرات النازي .
ولقد اتبع شمس بدران في انتزاع الاعترافات من الإخوان المسلمين الأساليب التي اتبعها الشيوعيون في الاستجواب سواء تلك التي لجأ إليها ستالين في حركات التطهير التي قام بها قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة أو تلك التي استخدمها الصينيون مع كثير من الأسرى في الحرب الكورية وكذا مع كثير من الصينيين المرتدين عن الشيوعيين .
ويقول صلاح نصر في كتابه الحرب النفسية في الفصل الذي عنوانه :
" الاستجواب وخداع الاعتراف " :
" كانت الاستجوابات تستمر لساعات ولأيام بل حتى لأسابيع وفي بعض الأحوال كان المحقق يعيش مع من يستجوبه يحاول أن يحقق معه جوا من الصداقة . . " .
" وكانت النقطة الأساسية على ما يبدو هي جعل الأسير يتكلم دون تحديد موضوع يدور الحديث حوله . . " وكانوا يستخدمون استمارات مطبوعة بقصد الحصول على تاريخ شخصي لكل أسير وشددوا بخاصة على الماضي الثقافي لكل أسير ومستواه الاجتماعي . . " .
وقد استخدم الصينيون كل أشكال التهديد من إنذار بالموت أو عدم الإعادة إلى أوطانهم , أو التعذيب أو إنقاص كمية الغذاء " .
" على أن العقوبة التي استخدمت فعلا كانت " الحبس الانفرادي "
" وكان للعقوبات البدنية التي وقعها الصينيون على الأسرى أثر كبير في انهيار الكثير منهم وهذه العقوبات هي على سبيل المثال :
•القيام بعمل عنيف مجهد .
•الوقوف في الوضع انتباه لفترات طويلة .
•التعرض للحرارة الشديدة أو البرد الشديد .
•الحبس الانفرادي في غرفة ضيقة لا تمكن الأسير من الجلوس أو الرقاد وكانوا يطلقون على هذا النوع من الحبس الانفرادي الإسقاط في الحفرة .
•الوقوف على أطراف أصابع القدمين .
•الإبقاء في حجرة قذرة دون السماح له حتى بإزالة الضرورة في الأماكن المعدة لذلك " .
لقد نفذ المحققون مع رجال الشرطة العسكرية هذا الأسلوب مع الإخوان فلقد استمر التحقيق مع بعض الإخوان أكثر من شهر وكان يؤخذ من بداية التحقيق في الفترة المسائية من النهار ويبقى أمام مكاتب التحقيق واقفا وجهه إلى الحائط وخلفه الحارس . . ويطلب الحارس منه أن يقف انتباه . . أو قد يجلسوه ووجهه للحائط ولا يستطيع أن يلتفت يمنة ولا يسره . . وكان الجو شتاء والبرد قارسا وقد مزقت ملابس الإخوان سواء قام صفوت الروبي بذلك عمدا . . وقبل بداية التحقيق أو مزقت بفعل السياط التي مزقت الأجساد أيضا ويقضي الإخوان الليل بطوله في هذا الوضع وقد تمطر السماء عليهم وهم هكذا ولا يستطيعون أن يتحركوا كما أن الإخوان في هذا الوضع لا يستطيعون أن يناموا . . أو أن يأخذهم النعاس لأن الحراس يقظون وفي أيديهم " الكرابيج " يلهبون بها الظهور بين حين وحين . . بل وان كثيرا من الإخوان كانوا يؤخذون إلى مكاتب التحقيق حتى بعد أن حقق معهم ولم يعد لهم بهم حاجة إلا قصد الإرهاب والتعذيب وأذكر من هؤلاء عبد الحميد عفيفي من قرية الشهيد إسماعيل الفيومي والمهندس فاروق الصاوي . . والمهندس طاهر سالم وغيرهم كثير . . وكانت النقطة الأساسية التي كانت تتبع في التحقيق هي جعل الأخ يتكلم دون تحديد موضوع يدور الحديث حوله . . نفس الأسلوب الشيوعي . . بينما يسجل أحد الكتبة . . ثم يستعاد الأخ في رواية ما قال مرة ومرات . . والأخ في حال من الإرهاق الشديد والاضطراب والقلق لا يستطيع أن يركز ذهنه فيما قال أول مرة . . ولا شك أن هذه الطريقة استطاعوا بها أن يحصلوا على كل ما لدى الإخوان من معلومات . . ثم يعطون " الأخ " أوراقا وقلما ويطلبون منه أن يكتب كل ما قال بخط يده .
ولم يكن بطبيعة الحال الأمر سهلا للحصول على تلك المعلومات ببساطة لأن شباب الإخوان تميزوا بالصلابة والثبات والصبر ولم يكن الذكاء ينقصهم ولكن العذاب كان فوق الطاقة البشرية كان العذاب رهيبا بصورة أفظع من الموت نفسه حتى أن الموت نفسه كان أمنية الكثيرين حتى يضع نهاية لهذا العذاب الرهيب . . لقد استخدموا الأساليب الجهنمية في انتزاع الاعترافات ولم تحل بينهم أية قيمة من القيم الإنسانية . . كانوا يضنون بالموت على الإخوان حتى لا يستريحوا من العذاب . . وأذكر أن الدكتور محمود عزت قال لي أن الجلاد صفوت الروبي كان يصرخ بأعلى صوته مخاطبا للشهيد عواد قائلا :
_ يا عواد إذا كان ربنا عنده جهنم إحنا كمان عندنا جهنم ! ! .
لقد نسوا الله تماما . . بل لقد تطاولوا على ذاته سبحانه . . وكانت المقولة المشهورة التي قالها أكثر من واحد وعلى رأسهم حمزة البسيوني : " لو نزل الله من السماء لوضعناه في زنزانة ! ! " سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا .
لقد استخدموا " الكرابيج " . . و " المرزبة " واستخدموا الكلاب . . والنفخ في الدبر . . والحرق بالنار . . والمس بالكهرباء . . والإغراق في الماء البارد . . والحبس الانفرادي مدة طويلة , وأذكر أن الشيخ محمد المطراوي إمام وخطيب مسجد السيدة زينب بقى أكثر من ستة أشهر في زنزانته منفردا ! ! كما أنه كوي بسيخ أسفل ذقنه وما زال أثره باقيا .
وكانت كلاب التعذيب ما أكثرها في السجن الحربي سواء كانت من البشر أو من الحيوان . . كان لحمزة البسيوني " مستعمرة " داخل السجن الحربي يزرع فيها الخضار وبعض أشجار الفاكهة ويربي فيها الطيور ويخزن فيها ما يسرق من تعيينات الجيش . . وكان داخل هذه المستعمرة أماكن لعدد من الكلاب عبارة عن " عشش " صغيرة مساحة كل منها متر * متر وارتفاعها متران . . يحبس فيها الكلب . . ولا يقدم له طعام حتى يجوع ويشتد جوعه فكانوا يحضرون الكلب وهو مدرب ويقدم له الأخ فيمزق جسمه .
وكان هنا استعمال آخر للكلاب كانوا يحبسون عددا من الكلاب داخل حجرة واحدة مع الأخ ولفترة طويلة وهذا النوع من الكلاب ليس من النوع الأول ولكن عبارة عن الكلاب العادية المتواجدة داخل السجن وتعيش في حرية وكلها كلاب بلدي . . ولكن الغرض من حبسها مع الأخ ليس بقصد أن تنهشه أو تمزق جسده إنما بقصد الإزعاج فهذه الكلاب كانت إذا حبست تترك " الأخ " وتفزع حيال باب الزنزانة وتضع فمها تحت عقب الباب وتأخذ في العواء ليلا ونهارا فتقلق راحة الذي تعيش معه وكل الذين يجاورونه سواء كانوا بجانبه أو كانوا أعلى منه أو أسفل منه . بالإضافة إلى أن هذه الكلاب تتبرز في الحجرة وينشأ عن ذلك رائحة كريهة لا يطيقها الإنسان . . وتستمر الحبس فترات طويلة وأحيانا أصيبت بعض تلك الكلاب بالكساح نتيجة البرد والبقاء في أسفلت الزنزانة لفترات طويلة .
وكان الموت والتهديد بالموت وسيلة من وسائل التحقيق . . وسبق أن قلت أنهم كانوا يضنون بالموت على الإخوان لأنهم يعلمون أن الموت في سبيل الله هو أسمى أمنية للأخ وهو في عافية فما بالك لو كان الموت سيضع نهاية لهذا العذاب الرهيب ! ! لقد كان هناك طبيب في السجن الحربي اسمه ماجد حمادة لم تكن وظيفته أيام التحقيق هي العلاج وإنما كانوا ينادونه أحيانا ليستشيروه في قدرة الأخ على تحمل العذاب أو ليفيق الأخ من إغماءه ليعادوا تعذيبه ! ! .
لقد عذبوا الشهيد محمد عواد حتى الموت . . وعذبوا الشهيد إسماعيل الفيومي الحارس الخاص لجمال عبد الناصرحتى الموت . . وعذبوا رفعت بكر ابن أخت الشهيد سيد قطب حتى الموت . . وعذبوا محمد منيب عبد العزيز أمين مكتبة كلية العلوم بجامعة أسيوط حتى الموت . . وعذبوا الشهيد محمد علي عبد الله من قرية كفر شكر حتى الموت .
وهددوا بالموت الكثيرين , كانوا يحفرون حفرة تتسع للأخ ويأمروه أن يرقد فيها ويهيلون عليه التراب حتى يوقن أنهم يريدون موته حقيقة . . وفي اللحظة الأخيرة يرفعون عنه التراب وأحيانا كانوا يأخذون الأخ ويأمرون بموته رميا بالرصاص ويعتقد الأخ أنهم جادون في ذلك ويذهبون به لمكان ينفذون فيه الأمر ويعصبون عينيه وتبدأ عملية تعمير المسدس أو البندقية حتى يوقن الأخ أن نهايته أوشكت وفي هذه اللحظة يطلبون منه أن يعترف بما يريدون .
بل لقد بقيت " أم أحمد " طوال وجودها في السجن الحربي وهي محبوسة في زنزانة انفرادية كتب عليها إعدام وأوهموها أنهم سيعدمونها وبقيت على هذا الظن حتى يوم أخذوها للإفراج عنها ! ! .
لقد تنوعت أساليب التعذيب أثناء التحقيق . . ومن هنا كان لا يستطيع واحد فقط أن يصور مذبحة السجن الحربي من خلال تجربته الشخصية لأن الوسائل التي استخدمت معه غير تلك الوسائل التي استخدمت مع غيره فقد اختلفت ماسي الإخوان باختلاف شخصية كل منهم ومكانته التنظيمية . . وحركته وموقفه وتقريرات المباحث عنه . . إلى جانب اختلاف المحققين أنفسهم فالصاغ رياض إبراهيم كان عتلا كبيرا . . ضاريا والصاغ حسن كفاني كان يتلذذ بالتعذيب ويسلك أحط الوسائل مع الإخوان أما الصاغ جلال الديب واليوزباشي الجنزوري فكانا أقل في الضراوة والخسة من غيرهما ! ! .
لذلك سأستعين بمجموعة التحقيقات التي نشرتها مجلة الإذاعة والتلفزيون في رئاسة الأستاذ ثروت أباظة للتحرير وأشهد أن هذه الفترة هي من أخصب فترات مجلة الإذاعة والسبب في ذلك كان شجاعة الأستاذ ثروت أباظة الذي أتاح النشر لهذه التحقيقات لكن قبل أن أبدأ في رواية ما قاله غيري عن التعذيب أقول لك تجربتي – أنا – لم يحقق معي إلا بعد مضي ما يقرب من أربعين يوما حتى ظننت أنني لن أقدم للمحاكمة . . نودي على اسمي صباح أحد الأيام على غير العادة . . وكانوا يحققون ليلا ونهارا . . خرجت مع طابور المطلوبين للمكاتب . . وقفنا طابورا واحدا . . وسجلوا أسماءنا في دفتر بوابة السجن خرجنا في خطوة عسكرية حتى وصلنا إلى المكاتب أجلسوني جوار سور السجن الحربي وجهي للحائط . . وأثناء سيري رأيت إخوانا كثيرين البعض معلق كالذبائح . . والسياط تمزقهم . . والبعض يعذب وهو وقوف . . ورأيت مصطفى عبد النبي من بلدة نزلة السمان يجلس على الأرض لأن قدميه لم تقويا على حمله . . ولم يعد يطيق الضرب عليهما فجلس حتى لا يضرب عليهما وأخذ يدور والحارس الذي يعذبه يهوي على جسده بالكرباج . . ووصل الأمر بمصطفى أنه كان يحمل على نقالة . . وبقيت جراحات قدميه فترة طويلة لم تندمل . . ورأيت كثيرين يجلسون وجوهم للحائط ولا يستطيع أحدهم أن يلتفت يمنة ولا يسرة جلست فترة طويلة . . ثم نادوا على أسمي . . هممت واقفا وانطلقت حيث الصوت الذي ناداني . . ووجدت الأخ محمود عبد الحميد معلقا كالذبيحة وهو أحد أفراد أسرتي الذين لم ألتق بهم خارج السجن لأن الأسرة كانت مسئولة من الأخ وهبي الفيشاوي الذي سافر فجأة إلى الإسكندرية فأسندت رئاستها إلى , ولم أكن قد التقيت بجميع أفراد الأسرة . . وبالذات الأخ محمود عبد المجيد . . رأيته معلقا تمزقه السياط سألني الذي يحقق معه :
_ هل تعرف هذا الشخص ؟ ! .
قلت :
_ لا أعرفه . .
قال :
_ ألم تره من قبل ؟ .
قلت :
لا . . لم أره . .
وحقيقة كنت لم أره . . وسألوه هو أيضا عني فنفى معرفته بي . . أو رؤيته لي . . أعادوني إلى مكاني وجلست حتى المساء حيث أعادوني إلى زنزانتي دون أن يحقق معي أحد . . فزادني اطمئنانا . . ولكن بعد أيام نودي على اسم عمي حسب النبي خير الدين . . فخرج . . وانتظرناه . . وطال انتظارنا له . . وفي ساعة متأخرة جدا من الليل . . أو في ساعة من ساعات الصباح الأولى فتح علينا الباب ودخل عمي حسب النبي . . جلس الرجل فاقتربت منه أطمئن عليه . . وهممت أن أضع يدي على ساقيه . . فصرخ . . لا تقرب من رجلي . . كانت أسود من ظلام الزنزانة في ليلة الشتاء . . تجمدت الدماء تحت الجلد . . ولم يتمزق الجلد وكان الألم لذلك الدم المحبوس المجمد أشد . . جلس عمي حسب يروي لنا كيفية التحقيق معه . . قال يحمسنا : _ ليس برجل من يعترف على إنسان لم يعتقل بعد ! ! كان عمي حسب يقول :
أحس أن على قفاي حملا رهيبا . . أنا قفاي ملتهب لقد أوقفوا خلفي أحد الزبانية . . يصفعني على قفاي دون توقف . . لكنني لم أعترف على من أرادوني أن أعترف عليه . . حتى يحضروه . . أنا أعرفه . . وأعرف عنوانه لكنني لم أعترف . . لأن من يعترف على من لم يعتقل ليس برجل ! ! .
كان عمي حسب رجلا صلبا . . صابرا . . لم تنهار قواه ولم تلن إرادته أو تهن عزيمته . . حتى أنهم قد عذبوه عذابا شديدا لكنه أصر على أقواله حتى أن الذي يحقق معه اصطحبه وهو عاري الجسد ليس عليه إلا سرواله ودار به على مكاتب التحقيق الأخرى وهو يشير إليه . .
_ هذا هو الجمل الصايم ! ! .
روى لي عمي حسب . . أن المحقق – وهو غالبا ما كان أحدا ضباط الشرطة العسكرية – خرج لأمر ما . . فإذا بالذين يعذبانه ينصحانه أن يعترف . . ولا داعي لأن يعذبانه وهما مثل أولاده . . وأنهما ينفذان الأوامر ويشفقان عليه فقال لهما :
_ أنا أعرف أنكما تنفذان الأوامر- ولكن لو كنت في غير هذا المكان هل كان أحد منكما يجرؤ أن يلمسني ؟ ! ! .
كان الإنسان الذي يعذب يجف ريقه ويظمأ ظمأ شديدا . . . ويكون هذا الظمأ عذابا فوق العذاب طلب عمي حسب أن يشرب فلم يعطوه حتى يعترف فلما لم يعترف أخيرا أعطوه كوبا به ماء مسكر بعصير ليمون فلما ذاق طعمه رفض أن يشرب . . حتى أرغموه على الشرب . . صبح الصباح ورأينا في النور ساقي عمي حسب كانتا سوداوين . . والكدمات بطول الساق . . من أثر السياط . . م يحن دوري في التحقيق بعد . . وفي ليلة من الليالي نودي على اسمي . . خرجت من الزنزانة وقادوني إلى مكاتب التحقيق . . وأجلسوني هذه المرة تحت شجرة أمام مكتب الصاغ جلال الديب الذي هرب إلى سويسرا بعد طلب النيابة القبض عليه في قضايا التعذيب . . والنقيب محمد الجنزوري جلست أذكر الله . . وأستعينه . . وأدعوه . . وبعد وقت قليل سمعت مواجهة بين اثنين من الإخوان الفتى الأسمر الذي تحدثت عنه في الفصل الماضي واسمه احمد توفيق . . وآخر اسمه فؤاد البقلي كان احمد توفيق قد اعترف أن من بين أعضاء أسرته فؤاد البقلي . . ولكن فؤاد البقلي نفى ذلك ولما واجهوه بأحمد توفيق أصر على أقواله . . فما كان من المحقق إلا أن علقه نفس التعليقة يداه ورجلاه إلى أعلى ورأسه إلى أسفل . . وبدأ أربعة من الزبانية يمزقونه . . كرباجان نازلان وكرباجان طالعان . . ولا يزيد فؤاد البقلي عن صرخته التي تصعد إلى السماء .
_ يا رب . . يا رب . . ( وأنا جالس أبكي وأضرع إلى الله . . أن يخلصه من أيديهم . . ) ولما ازداد ألمه قال :
_ يا رب انتقم . . يا رب أنتقم . .
خرج اليوزباشي محمد الجنزوري وسأل فؤاد البقلي :
_ ينتقم ممن يا ولد ؟ ! ! .
فقال فؤاد البقلي للجنزوري بأعلى صوته :
_ ينتقم منك يا كلب ! ! .
الله أكبر . . ما أحلى تلك الكلمة نزلت على قلبي أنا بردا وسلاما . . أحسست أنهم لو مزقوا جسده قطعة قطعة لن يساوي ذلك تلك الكلمة
_ لقد كانت بصقه في وجوه هؤلاء الزبانية . . لم يهزم فؤاد تحت نيران السياط ولم ينكسر قلبه من هول العذاب . . أسمعهم ما فجر غيظهم وأحنقهم عليه . . فصاروا كلابا مسعورة . . مزقوه . . بمزيد من السياط ولكن أراد الله أن يأتي طرف أحد " الكرابيج " في عين أحد الزبانية فتوقف ضرب أحمد البقلي وأنزلوه من التعليقة . . وأخذوه ليلبسوه أي شيء فقد مزقوا ملابسه . . وأوقفوا دماءه التي كانت تسيل . . وجاء دوري . . نادوا علي فأدخلوني على الصاغ جلال الديب . . واليوزباشي محمد الجنزوري وقال لي جلال الديب :
أسمع يا جابر نحن نعرف أن رجلك اليمنى فيها التهاب مزمن . . ولا تقدر على أن تعلق لتعذب فارحم نفسك وأكتب كل شيء .
قلت :
_ أسألوني وأنا أجيب على كل ما تريدون .
قال :
_ لا . . أكتب كل شيء . .
وأعطاني ورقا وقلما . . وأخرجاني من الحجرة . . جلست بجوار عمود النور بالقرب من الفسقية التي هشم صفوت الروبي في جوارها رأس الشهيد محمد عواد . . وبدأت أكتب وأنا مصمم ألا اعترف بكلمة واحدة . . كتبت كلاما كثيرا لكن بعيدا عن الموضوع فأنا لا أعرف ماذا يعرفون عني . . ولا ينبغي أن أسلم لهم نفس بهذه البساطة .
خرج اليوزباشي الجنزوري وأخذ مني الورق الذي كتبته . . دخل وغاب فترة قليلة من الوقت خرج علي جلال الديب . . وأمسك الورق الذي كتبته ومزقه وألقاه في وجهي وسبني سبا مقذعا ! ! . وسلمني لأحد الحراس . . يمسك في يده " كرباجا " أخذني الحارس خلف المكاتب وأخذ يضربني بالسوط على سيقاني . . ويصفعني بيده .
ثم خرج الجنزوري مرة ثانية وأعطاني ورقا جديدا وقلما وقال أكتب الحقيقة ولا تنكر شيئا ! ! . وبدأت أكتب بعض الأشياء الهامشية التي ترضيهم . . ومن حسن حظي أنهم في هذه الليلة أنهوا التحقيق مبكرا . . وجمعوا الأوراق منا وأوقفونا صفا واحدا وأعادونا إلى السجن . . في الطريق وقف خلفي السيد نزيلي وهو قريب لي ومن قريتي . . وصاحب مأساة كرداسة . . همس لي السيد نزيلي :
_ لقد اعترف علي عشماوي بكل شيء على كل واحد منا . . فلا داعي للإنكار . . بلاش تبهدل نفسك اعترف بكل حاجة يطلبوها منك . . كانت همسة الأخ سيد نزيلي نصيحة مخلصة وليست انهزاما . . ولا مطالبة بالانهزام ! ! .
في اليوم التالي قبل أذان الظهر بقليل . . نودي على اسمي نزلت إلى فناء السجن وقفت في الطابور وخرجت إلى المكاتب أدخلوني على جلال الديب الذي كان قد قرأ ما كتبته للمرة الثانية وقال لي : قلت لك اكتب كل حاجة . .
قلت له :
_ اسألني وأنا على استعداد أن أجيبك عن كل سؤال . . قال :
_ لا . . أكتب أنت . . وتدخل اليوزباشي الجنزوري وقال لي :
_ احكي حكاية الآلة الكاتبة التي كانت عندك وحكاية البحث الذي ترجمته . . وحكاية الجرائد الفرنسية التي كنت تترجمها . . وغيره وغيره . . كانت كلمات الجنزوري دليل ثبوت كلام السيد نزيلي بخصوص اعترافات علي عشماوي . . خرجت وبدأت أكتب عن الأشياء التي عددها الجنزوري . . في نفس اليوم طلبت أمام نيابة أمن الدولة التي كانت تحقق مع الإخوان داخل السجن الحربي في المنطقة بين السجن الكبير ومكاتب التحقيق . . وكانوا قد نصبوا للنيابة خياما كبيرة لكل رئيس نيابة . . أو وكيل نيابة مع السكرتير الذي يكتب يجلسون في خيمة . . قلت أن الخيام كانت أمام السجن الكبير بالقرب من مكاتب التحقيق وكانت النيابة ترى المعذبين محملين على نقالات . . وتسمع صراخ وصياح الضحايا الذين يمزقون بالسياط أو تمزق أجسادهم الكلاب الجوعى ! ! . .
لقد كانت صورة السجن الحربي في تلك الأيام التي فيه النيابة تحقق والتليفزيون يسجل أحاديث مع الإخوان أشبه بالمجزرة . . وكانت النيابة ترسل إلى مكاتب التحقيق بعض الإخوان الذين أنكروا ما اعترفوا به تحت نيران السياط ليعذبوا من جديد حتى يعودوا فيعترفوا بما كتبوه في التقريرات التي كتبوها بخط أيديهم تحت إرهاب التعذيب . . حتى حمدي قنديل . . الذي كان يعمل مذيعا بالتليفزيون جاء إلى السجن الحربي ليسجل مجموعة من الأحاديث فسأل محمد عبد المعطي الجزار أحد أفراد الطاقة الذرية عن رأيه في عبد الناصر . . فقال رأيه الصريح فيه بشجاعة . . فما كان من حمدي قنديل ألا أن أرسله فعذب . . حتى غير ر أيه وهو معلق على الفلقة فلما أعادوه له سأله عن رأيه فأصر على رأيه الذي قاله قبل ذلك . . مما أفسد على حمدي قنديل ما كان يحلم به من تشويه صورة الإخوان وتصويرهم في حالة انهيار أو ندم على ما هم عليه ! ! . ذهبت إلى الخيمة التي طلبت لها فوجدت شخصين يجلسان عرفت أن أحدهما يمثل وكيل النيابة والآخر الكاتب . . عرفني وكيل النيابة بنفسه فقال :
_ وجيه قناوي . . ممثل النيابة . .
وفتح المحضر ولخص ما كتبته بخط يدي . . وأخذ يسألني فأردت أن أنكر أشياء مما اعترفت بها في تقريري فهددني . . ثم كان يسألني السؤال فأجيب عليه فإذا به يغير إجابتي بما يروق له ليحكم التهمة حولي وكنت أقول له : _ ليست هذه إجابتي إنما هي إجابتك ! ! .
فكان يثور علي ويطل مني أن أكرر إجابتي عليه . . وأشهد الله أنني كنت مطمئنا . . واثقا من نفسي لا استشعر الخوف في داخلي . . كنت أحس أنني في مكاني الذي أنا فيه أشرف من المكان الذي يجلس فيه من يمثل النيابة ! ! .
لقد كان وجيه قناوي يدخن كثيرا فنصحته بالتقليل من التدخين وبينت له أضرار التدخين صحيا واقتصاديا . .
واستمر التحقيق معي أمام النيابة يومين تقريبا وفي أحد الأيام قال لي وجيه قناوي رئيس النيابة الذي يحقق معي :
_ تعرف لو كنت اعتقلت في بيت " سري " كان أشرف لك من هذه القضية ! ! .
قلت له في ثقة وإيمان . . واستهزاء :
_ " ليس صحيحا ما تقول . . لو كنت اعتقلت في بيت سري ( يعني في بيت للبغاء ) كنت لا أقف أمام النيابة ؟ ! ولكن لا يمكن الذي يقبض عليه في بيت للبغايا أشرف ممن يحاكم بتهمة الإخوان ! ! " .
( انتهى التحقيق معي . . وعدت إلى زنزانتي وأنا أكثر اطمئنانا . . وأمنا . . ورضا . . ) .
آل قطب . . في السجن الحربي !
ألقى القبض على الشهيد سيد قطب يوم 9 أغسطس سنة 1965 بعد أن قدم رسالة احتجاج إلى المباحث العامة بسبب القبض على أخيه الأستاذ محمد قطب. . ولم . . يكن القبض على الشهيد سيد قطب بسبب اكتشاف رئاسته للتنظيم لأن أجهزة أمن عبد الناصر لم تكن قد اكتشفت وقتئذ التنظيم كما سبق أن أوضحت .
وكان الشهيد سيد قطب قد تعرض للسجن والاعتقال في مذبحة السجن الحربي سنة 1954 وبسبب التعذيب الشديد الذي تعرض له حينئذ أصيب بنزيف رئوي شديد مما اضطر السلطات إلى تأجيل محاكمته شهرين كاملين وقد ذكرت الصحف ذلك . . ثم حوكم محاكمة سرية لم يحضرها أحد وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما . . وأثناء محاكمة الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين عليه رحمة الله حضر الشهيد سيد قطب كشاهد ودار بينه وبين جمال سالم رئيس المحكمة الحوار التالي :
جمال سالم : يبدو عليك التعب يا أستاذ سيد فهل أنت تعبان ؟ !
الشهيد سيد : نعم لأني كنت واقفا على قدمي ست ساعات قبل دخولي المحكمة ! ! .
جمال سالم : وماذا يعني هذا ؟ ! كلنا نقف مددا طويلة ؟ ! .
الشهيد سيد : ولكننا نحن الإخوان المسلمين تطبق علينا في السجن مبادئ الثورة ! ! .
ونزع رداءه فظهر في جسده أثر التعذيب الشديد فرفع جمال سالم الجلسة فورا . .
كان الشهيد سيد قطبفي محنة الإخوان المسلمين سنة 1954 قد تجاوز الأربعين . . ولكنه كان في محنة سنة 1965 قد بلغ الستين من عمره . . ومصاب بالذبحة الصدرية . . بالإضافة إلى مرض الكلى . . وأمراض المعدة . . ولكن لم تشفع له سنة . . ولم تشفع له مرضه . . ولكنهم استغلوا هذه الأمراض جميعا في نوع التعذيب الذي تعرض له . . لقد ربطوه في كرسي لمدة أربعة أيام وحرموه فيها من الطعام والشراب وحرموه حتى من الماء . . وكانوا يسكبون الماء أمامه . . ومعروف أن مريض الكلى يحتاج إلى كميات كبيرة من الماء . . ولقد وصل الأمر بالشهيد سيد أنه أوشك على أن يفقد بصره وكان هناك نوع آخر من العذاب تعرض له الشهيد سيد قطب. . وهو ما أصاب أفراد أسرته لقد عذب ابن أخته رفعت بكر حتى استشهد أمام عينيه وكان رفعت بكر أحب أولاد أخته إليه للشبه الكبير بينهما . . وقد روى لي الأستاذ مصطفى راغب أحد المتهمين في قضية حسين توفيق التي عاصرت قضية الإخوان . . قال :
_ لقد استدعيت لمواجهة الشهيد سيد قطب. . وبعد أن عذبوني أحضروا الشهيد سيد قطب. . وأدخلوه الحجرة ودخل بعده شاب وبدأت عملية التعذيب للشاب وبدأ صوته يرتفع ويعلو ثم بدأ يخفت شيئا فشيئا أو خفت . . ولا أدري ما الذي حدث . . واستدعوني واستقبلني شمس بدران على باب الحجرة في حالة فزع شديد ولونه مخطوف . . ولأول مرة على غير عادته أجلسني على الكنبة ورأيت آثار دماء في أرضية الحجرة وسجادة ملفوفة بما فيها : قال لي شمس بدران:
_ ما حكم هذا القتيل الذي قتل من التعذيب ؟ .
فقلت :
_ قالوا لك عني أني مفتي ؟ ! ! .
قال :
_ هو يعتبر إيه ؟ ! .
فقلت :
_ هو لقي ربه . . وربنا مطلع على قلبه ولا يعرف القلوب إلا الله وهو يحاسبه .
وكان شمس بدران يتظارف معي بشكل مقيت مرفوض ولكن أيضا بنفس منهارة ومتداعية . .
وعلمت أن هذا الشاب كان ابن أخت الشهيد سيد قطب الذي استشهد من التعذيب أمام خاله ! ! .
ثم بعد قليل جرت المواجهة بيني وبين المرحوم سيد قطب ولم يكن يعرفني ولم أكن أعرفه ! ! .
لقد كانوا يريدون من رفعت بكر أن يكون شاهدا على خاله سيد قطب وعلى خالته حميدة قطب وعلى الحاجة زينب الغزالي فأرادوا منه أن يقول كلاما بعينه ولكنه رفض فاستمروا في تعذيبه حتى أنقذه الله من أيديهم واتخذه شهيدا .
وعذبوا أيضا عزمي بكر أخ رفعت واشتدوا أيضا في تعذيبه حتى أوشك أن يقتل مثل أخيه وكانوا يريدون منه أيضا ما أرادوه من أخيه رفعت . .
ولم يقف الأمر عند ذلك فقد اعتقلوا السيدة نفيسة قطب أم رفعت وأم عزمي بكر وكان عمرها يزيد على الخامسة والستين وبقيت معتقلة في السجن حتى مقتل ابنها رفعت بكر فتركوها تعود إلى البيت . . واعتقلت أيضا الأخت أمينة قطب في السجن الحربي وظلت رهن الاعتقال فترة أطول من أختها الكبرى . . أما الأخت حميدة قطب وهي أصغر أخوات الشهيد سيد قطب فقد اعتقلت في السجن الحربي ولفقت لها تهمة وقدمت للمحاكمة وصدر ضدها حكم بعشر سنوات سجن قضت منها ست سنوات وأربعة أشهر بين السجن الحربي وسجن القناطر . .
وروت الحاجة زينب الغزالي أنها في أحد المرات وهي في طريقها إلى دورة المياه بمستشفي السجن التي كانت تقيم بها ويقيم بها الأستاذ سيد كانت زنزانة الشهيد سيد غير مغلقة بباب لخطورة حالته إنما كان يوضع على بابها بطانية حتى تمنعه من أن يرى أحدا أو يراه أحدا وأثناء مرور الحاجة وينب رفع الهواء البطانية فظن الحراس أن الشهيد سيد قطب هو الذي رفع البطانية عمدا لتعلم الحاجة زينب أنه في الزنزانة فأخذ الحراس يسبونه ويلعنونه ثم جاء صفوت الروبي جلاد السجن الحربي فأوقف الشهيد سيد قطب وأخذ يوجه له الشتائم والسباب ثم جاء حمزة البسيوني وعندئذ عادت الحاجة زينب من الدورة فسمعت أصوات السياط وصوت الأستاذ سيد قطب يسألهم أن يصبروا حتى يشرح لهم . .
وتقول الحاجة زينب الغزالي :
أما الحادث الثاني فقد طلب الشهيد سيد قطب إلى مكاتب التحقيق وكان طبيب السجن لخطورة مرض الشهيد سيد قد نبه على الحراس أنه إذا طلب إلى المكاتب فيتركوه يمشي على راحته لمرضه . . ولكن الجلاد صفوت الروبي وحمزة البسيوني أمروا الحراس أن يحضروا الشهيد سيد قطب بالخطوة السريعة ودفع الحراس الشهيد سيد أمامهم وأخذوا يضربون بالكرباج على الأرض حتى يضطروه للإسراع فجاءته أزمة قلبية استدعى لسببها الطبيب الذي سأل الحراس فأخبروه أن صفوت الروبي وحمزة البسيوني هما الذين أمروهم بذلك حدث ذلك وأنا في زنزانتي أسمع الحوار . .
كان الشهيد سيد قطب ذا قلب كبير . . يحب الإخوان ويشفق عليهم . . ويحنو عليهم حنو الأب . . حدث أثناء خروجنا للمحاكمة في أول يوم وكانت القضية الأولى أيضا تحاكم . . وأوقفونا نحن أفراد القضية الثانية أمام مكاتب التحقيق ننتظر العربات التي ستحملنا إلى دار القضاء العالي حيث نحاكم وكان أعضاء القضية الأولى أيضا في انتظار العربات التي تحملهم إلى محكمة الثورة بالجزيرة . . وأحضروا الشهيد سيد قطب وأجلسوه في حجرة المكتب أمام القضية الثانية التي وقف أفرادها وكنت المتهم الثالث في القضية فرأيت الشهيد سيد قطب يتفرس وجوهنا وتعرف على بعض أفراد القضية وبالذات الأخ أحمد توفيق لتميزه عن جميع الإخوان بلونه الأسمر ولسبق سجنه في محنة سنة 1954 . . ابتسمنا جميعا للشهيد سيد قطب وأظهرنا له من الثبات والصبر والجلد ما تقر به نفسه فما كان من الشهيد سيد إلا أن بكى ورفع يديه إلى السماء وأخذ يدعو لنا . . لقد بكى إشفاقا علينا وحبا ! ! .
وعندما قدمت القضية الأولى إلى المحكمة كان الشهيد سيد قطب قد أخذ على عاتقه أن يتكلم عن التعذيب الذي تعرض له الإخوان وهو يعلم ماذا يمكن أن يحدث له بعد ذلك . . حتى لا يعرض الإخوان إذا تعرضوا هم للكلام عن التعذيب لمزيد من التعذيب . . وكان رحمه الله يتتبع كل ما يجري في قاعة المحكمة ولا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وينبه الإخوان لها إذا كان الأمر يدعو إلى ذلك التنبيه .
ويقول الأخ ممدوح الديري :
_ أنه كانت هناك كثير من النظرات المتبادلة بين الشهيد سيد قطب وبين الدجوي قاضي المحكمة وكانت نظرات الشهيد سيد قطب تثير غيظ الدجوي وتنرفزه وكان أي تصرف يحدث في المحكمة من الدجي يكفي للرد عليه نظرة من الشهيد سيد قطب للدجوي كان الشهيد سيد قطب ينظر للدجوي باحتقار واستهانة وكان الدجوي كلما ذكر الشهيد سيد قطب ينظر إليه ويضع يده على رقبته كأنه يقول له : إننا سنعدمك ! ! . ويقول الأخ ممدوح الديري :
_ كان الشهيد سيد قطب حريصا على السؤال عن أهالي الإخوان وبالذات على والدة الأخ المهندس فؤاد حسن على لأنه كان ابنها الوحيد وليس لها ابن أو بنت غيره وكان الشهيد سيد قطب حريصا على أن تخرج من المحكمة وهي راضية ومبتسمة وكان يوصي ابنها المهندس فؤاد حسن على أن يكون مع أمه ودودا ومبتسما وأن يحسن معاملتها وملاطفتها . . بل لقد كان الشهيد سيد قطب يطلب إلى جميع الإخوان أن يستوصوا بأهلهم خيرا والأمهات بصفة خاصة . .
ويضيف ممدوح :
_ عندما تعرض الأخ المهندس مرسي مصطفي مرسي لدور كمال أتاتورك في هدم الإسلام بإلغاء الخلافة وتحويل تركيا إلى دولة علمانية وإلغاء الدين الإسلامي واللغة العربية وإحياء القومية الطورانية . . وقارن أتاتورك بجمال عبد الناصرفي حربه للإسلام وإعلانه في حديث له أنهم – قادة انقلاب يوليو – غير عقائديين . . وأن عبد الناصر حاول أن ينجح فيما فشل فيه كمال أتاتورك من إحداث تغيير جذري في المجتمع . . وأن أتاتورك وجمال عبد الناصر عميلان لقوى واحدة هي الصليبية واليهودية . . انشرح صدر الشهيد سيد قطب وأصر أن يقبل مرسي عندما عاد إلى القفص ! ! .
وقد اشتد المرض على الشهيد سيد قطب أثناء نظر قضيته وتغيب عن الحضور إلى المحكمة مدة حوالي شهر كامل فهو لم يحضر إلى المحكمة إلا الأيام الأولى . . والأيام الأخيرة . . ويروي الأخ ممدوح الديري أنه أثناء المحاكمة اقترب أحد الضباط من الشهيد سيد قطب وسأله عن معنى كلمة شهيد فرد عليه رحمه الله قائلا :
_ شهيد يعني أنه شهد أن شريعة الله أغلى عليه من حياته ! ! .
ويروي ممدوح الديري كيف استقبل الحكم عليه . . فيقول :
_ أخذونا يوم النطق بالحكم في سيارات الدفاع المدني وأدخلونا جميعا " القفص " وكان هناك في نفس الحجرة مهندس يقوم بعملية تسجيل الأحكام في الحجرة التي كانت بجوار الحجرة التي فيها القفص . . نادوا على الأستاذ سيد . . وأخذوه إلى الحجرة المجاورة حيث نطقوا بالحكم فرأينا المهندي الذي يسجل يبكي فعرفنا أن الحكم هو الإعدام .
ثم دخل علينا ضابط من ضباط الحراس وأخذ يتكلم مع الجنود من الحرس بانفعال فأكد ظننا عندما رأينا مهندس التسجيل .
ويضيف ممدوح :
_ لقد سمعت أن الشهيد سيد قطب عندما سمع الحكم قال :
الحمد لله . .
وتقول الحاجة زينب الغزالي :
_ في ليلة تنفيذ حكم الإعدام سووم الشهيد سيد قطب على إنقاذ حياته بإصدار قرار عفو عنه . . وروى لي طبيب السجن الحربي ماجد حمادة أنهم ساوموه واستغلت الأخت حميدة قطب في الضغط على الشهيد سيد قطب ولكن الشهيد سيد قطب كانت أمنيته الشهادة . . فأبى أن يرتكس وثبته لله حتى لقيه . . أن قصة الشهيد سيد قطب في سجون عبد الناصر لا تكفيها تلك الصفحات . . إنها ملحمة وحدها أرجو الله أن يوفقني لتخصيص دراسة كاملة عنها . .
لقد كان الشهيد سيد قطب ثائرا . . في حياته كلها حتى قبل أن ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين . . . وكان يؤمن كما يقول في أحد كتبه " أن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا ولكن بشرط واحد . . أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم . . وأن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم وأن يقولوا ما يعتقدون أنه حق ويقدموا دمائهم غذاء لكلمة الحق . . إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء " . .
ويقول في موضع آخر :
" أنه ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها وتجمعها إنها الكلمات التي تقطر دما لأنها تقتات قلب إنسان حي . . كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان . . أما الكلمات التي ولدت في الأفواه وقذفت بها الألسنة ولم تتصل بذلك النبع الإلهي الحي فقد ولدت ميتة ولم تدفع البشرية شبرا واحدا إلى الأمام أن أحدا لن يتبناها لأنها ولدت ميتة والناس لا يتبنون الأموات " .
ومضى الشهيد سيد قطب. . وبقيت كلماته حية . .لأنه قال ما يعتقد أنه حق . . وجعل حياته فداء لكلمة الحق ! ! .
الشهيد . . محمد يوسف هواش
عندما صدر الحكم بالإعدام على الشهيد محمد يوسف هواش قال بعض إخوان السجون الذين عايشوا هواش وسيد قطب:
_ " جاءت لك الشهادة بالطبطاب يا هواش . . كان الله رحيما بك لأنهم كانوا لا يتصورون أن يعيش هواش بعد إعدام سيد قطب. . "
ماذا تعني هذه الكلمات ؟ ! أول ما تعنيه أن هناك قصة حب في الله تربط بين الشهيدين سيد قطب, ومحمد يوسف هواش . . حتى أن الشهيد سيد قطب كان يعتبر الشهيد هواش شريكه في كل ما وصل إليه من فكر . . حتى قيل أن الشهيد سيد قطب وهو يكتب في ظلال القرءان حول سورة يوسف رأى الشهيد هواش في رؤية سيدنا يوسف عليه السلام يقول له : قل لسيد قطب إن ما تبحث عنه موجود في سورة يوسف . . أو ما معناه . . وكانت رؤيا حق . . فقضية " الحكم لله " واضحة كل الوضوح في سورة يوسف . . وكانت رفقة الشهيد محمد يوسف هواش للشهيد سيد قطب رفقة طويلة استغرقت فترة سجنه كلها التي بدأت في أكتوبر سنة 1955 وانتهت في أغطس سنة 1964 حين أفرج عنه بموجب عفو صحي . . وأترك الشهيد هواش ليقول :
_ أنا بدأت نشاطي في جماعة الإخوان المسلمين سنة 1954 حيث انضممت لشعبة طنطا وكنت وقتها طالبا في مدرسة طنطا الصناعية ثم أصبحت وكيل شعبة مصر القديمة وكنت عضوا في فصيلة جنوب القاهرة وكان رئيس الفصيلة كمال السنانيري عليه رحمة الله . . وقبض علي في أغسطس سنة 1955 لأني هربت وقدمت للمحاكمة أمام محكمة الشعب في أكتوبر 1955 وحكم علي ب الأشغال الشاقة لمدة 15 سنة ونفذت العقوبة بليمان طره وقعدت المادة كلها في مصحة طره لأني مريض بالصدر من سنة 1947 وخرجت من مصحة السجن في أغسطس سنة 1964 بموجب عفو صحي وكان معي في مصحة طره سيد قطب وكان محكوما عليه أيضا بالسجن 15 سنة وفي حوالي 1959 جلس سيد قطبيكلمني وقال لي بعد ما قرأت القرءان لأنه كان يقرأه ونحن في السجن قال :
_ انه اتضح له أن مسألة الحكم في الإسلام في الإسلام مسألة عقيدية بمعنى أن الإسلام هو : أن تكون الحاكمية لله وحده وأنه ليس هناك في موضوع الحكم إلا وصفين : إما حكم إسلامي وهو الحكم الذي تكون فيه الحاكمية لله وحده . . وحكم جاهلي وهو كل حكم لا تكون فيه الحاكمية لله وحده , وأن مسألة الحكم تدخل في صميم خصوصيات الربوبية والإلوهية وأن الدين من معناه " نظام الحكم " بدليل قول الله تعالى ( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) أي في شريعة الملك . ربما أن الإسلام هو أن يكون الدين خالصا لله تعالى فيجب أن يكون نظام الحكم خالصا لله تعالى ليكون حكما إسلاميا "
وقال : " إن الإخوان لازم يتربون على هذه الفكرة . . " وعندما سأل المحقق الشهيد محمد يوسف حواش : _ ما صلتك بسيد قطب ؟ ! .
قال السيد هواش :
_ أنا كنت أشوفه بيجي المركز العام للإخوان المسلمين يلقي محاضرات إنما لم أتعرف عليه إلا في السجن وإحنا الاثنين أمضينا مدة العقوبة من سنة 1955 إلى أن أفرج عنا في سنة 1964
س : ما هي الفكرة التي خرج بها سيد قطب عن " الحاكمية لله " ؟ ! .
ج : هو قال إن موضوع الحكم حاجة من اثنين : إما حكم إسلامي وهو الحكم الذي تكون فيه الحاكمية لله وحده أي يكون مصدر التشريع فيه الشريعة الإسلامية فقط والحكم بكتاب الله , أو حكم جاهلي وهو كل حكم يحكم بغير كتاب الله . . وأن علينا أن نوضح هذه الفكرة للمسلمين عموما والدعوة إلى إقامة حكم إسلامي . .
س: وما هو السبيل إلى إقامة المجتمع المسلم ؟ ! .
ج : بالدعوة . . أي بدعوة الناس وتفهيمهم لهذه الحقيقة والاستدلال عليها من كتاب وسنة الرسول ونظل ندعو حتى يكون الفرد قد أدى واجبه نحو الله وينجو من عقوبته . .
س: وما الحل في حالة عدم اقتناع الأفراد والمسئولين عن الحكم في البلاد في إقامة هذا المجتمع الإسلامي ؟ .
ج : إحنا مش مكلفين بالنتيجة إحنا مكلفين بالواجب فقط وهو الدعوة وتكرارها .
س : وما الحل إذا لم يقتنع القائمون على الحكم في البلاد بهذه النظرية ؟ ! .
ج : الحكام مش دايمين وعموما ما فيش تفكير في الحاجة دي دلوقتي وواجب علينا في الظرف الحاضر هو مجرد الدعوة وبعد كده نفكر ونشوف إيه الواجب اللي يعمل بعد كده .
س : ما هو الواجب الذي يمكن عمله بعد ذلك ؟ ! .
ج : المسألة متروكة للظروف لأن كل ظرف يولد التفكير المناسب له .
س : أليس المفهوم من كل ذلك أن الدعوة التي تنادون بها لإقامة مجتمع مسلم لا يمكن أن تقوم إلا بقلب نظام الحكم بالقوة واستعمال العنف ؟ ! .
ج : المسألة متروكة لحجم الجماعة التي تقتنع بالفكرة وبالظروف وجايز الحكام يقتنعون بذلك وجايز الموضوع لا يحتاج إلى قوة إنما إذا تحتمت القوة لإقامة المجتمع الإسلامي فلا مناص وقتها من استعمال القوة إلا إذا كان هناك طريقة أخرى لذلك وجايز هذا الجيل ينتهي وتكون المرحلة الأولى لا تزال مجرد دعوة وإحنا عندنا قدوة بالرسول عليه الصلاة والسلام في أنه كان يفكر في واجب اللحظة ولم يفكر في المستقبل وقعد 13 سنة يدعو للإسلام فقط وكان منهجه عدم التفكير في المستقبل وترك الأمر للمستقبل هو الذي يحدد طرية العمل وانتهى به الأمر للقتال ولكن يمكن ظروفنا إحنا تنتهي بنا إلى غير ذلك ! ! .
كان الشهيد هواش هو التجسيد الحي المتحرك للفكر الذي وصل إليه مع الشهيد سيد قطب. . بين الإخوان داخل السجن الحربي . . وكان حرصا أن يبلغ هذا الفكر للجميع سواء كانوا محققين . . أو قضاة في المحكمة أو إخوان في السجن . .
عندما سأل الدجوي الإخوان في القضية الأولى السؤال التقليدي :
_ هل لك اعتراض على هيئة المحكمة ؟ ! .
أجاب الشهيد سيد قطب:
_ " لا اعتراض على أشخاص المحكمة " . .
والتزم إخوان القضية الأولى نفس الإجابة إلا الشهيد محمد يوسف هواش . . وقف وقال :
_ أنني كمسلم ومن وحي عقيدتي أرفض أن أتحاكم أو أحاكم إلى محكمة لا تحكم بما أنزل الله . . وهذه هي عقيدتي .
كان محمد يوسف هواش أحد الثمار الناضجة لدعوة الإخوان المسلمين التي أطلق صيحتها الإمام الشهيد حسن البنا . . كان الرجل نموذجا فذا للأخ المسلم المجاهد . . الواعي بالظروف التي تحيط بالدعوة . . لقد أدرك في السجن الحربي أن النهاية تلوح في الأفق فأراد أن يقول كلمته قبل أن يمضي إلى ربه . . لقد تحدث كثيرا للإخوان ولغير الإخوان لقد عاش مع الإخوان ونفث فيهم من روحه ما ألهب قلوبهم . . لقد كان القدوة والمثل الحي لهم طوال فترة تواجده داخل السجن الكبير .
وكان في التحقيق معه صابرا . . ثابتا . . شجاعا . . صريحا . . واضحا . . في توصيل ما هداه الله إليه من الحق لا يجد فرصة يبلغ فيها كلمة الحق إلا انتهزها لا يخاف . . ولا يلين . . ولا يرهب .
لقد كانت طوابير التعذيب الجماعي التي بدأها زبانية السجن الحربي بعد انتهاء التحقيقات فرصة لأن يبلغ هواش إخوانه ما وصل إليه فهمه لدعوته ومنهج حركتها . . ولم يعقه مرضه ولم يمنعه إرهاب الحراس الذين كانوا يسوموننا سوء العذاب إذا رأوا واحدا تتحرك شفتاه ! ! . . كان الشهيد هواش ينظر إلى الأرض فتختفي شفتاه في شعر شاربه وذقنه ويتحدث لاثنين من الإخوان واحد عن يمينه وواحد عن يساره . . كان هواش يحس بثقل الأمانة الملقاة على عاتقه وكان يريد أن يحملها إلى أكبر عدد من الإخوان الشبان . . كان يتحدث كثيرا . . كثيرا وكم من المرات ضبط وهو يتكلم وأوذي كثيرا بسبب ذلك وكان الإخوان يشفقون عليه لأن يديه ورجليه كانت ممزقة من التعذيب أثناء التحقيق حتى أنه لم يستطع أن يكتب التقرير الذي سجلت فيه اعترافاته بخط يده فقد جاء في آخر تلخيص البيان لإقرار هذه الملاحظة " حرر بإملائي . . محمد يوسف هواش " . . ويقول ممثل النيابة إلي حقق معه :
" استدعينا المتهم وعرضنا عليه الإقرار المقدم لنا فقرر أنه ليس بخطه وإنما هو بإملائه لشخص آخر حيث أن أعصاب يده اليمنى كانت مشدودة ولم يستطع الكتابة وقت كتابة هذا الإقرار وذلك نتيجة ضربه على يده وأنه لم تحدث به إصابات ولكنه لم يمكنه الكتابة بها وأضاف أنه وقع فقط على كل ورقة من ورقات الإقرار المذكور " انتهت ملاحظة النيابة وعندما سأله ممثل النيابة :
س : هل حدثت بك إصابات ؟ ! .
< : أنا ما فيش في إصابات ظاهرة دلوقتي ووقتها أيدي كانت وارمة وكانت أعصاب يدي مشدودة وما أقدرش أكتب بها وهي في تحسن دلوقتي . .
هذا أقصى ما كان يستطيع أن يشير به الشهيد هواش إلى التعذيب الذي وقع عليه ولن تجد مثل هذه الملاحظة التي تشير إلى التعذيب إلا عند النادر في تحقيقات الإخوان لأن الأخ الذي يتحدث عن التعذيب كان يعلم ماذا يمكن أن يحدث له . . ولكن الشهيد هواش لم تمنعه آلامه . . ولم يمنعه احتمال تعذيبه على جراحه التي لم تندمل بعد من أن يقول أنه عذب , وكذب من النيابة أن الشهيد هواش لم تكن به إصابات ظاهرة لقد كانت رجلاه ممزقة بصورة بشعة حتى بعد أن مر أكثر من خمسة شهور على تعذيبه ! ! .
لقد قالت الحاجة زينب الغزالي :
_ لقد رأيت الشهيد محمد هواش يذهب إلى مكاتب التحقيق وهو يزحف على مرفقيه وركبتيه ! ! . رحم الله هواش . . وتقبله شهيدا . . من الشهداء الصادقين المخلصين . .
شمس بدران يعترف !
في حديث صحفي أجرته مجلة الحوادث البيروتية مع شمس بدرانبعد هروبه من مصر بجواز سفر دبلوماسي جاء على لسانه :
" أنا اعتقلت خمسمائة شخص وأفرجت عن مائة وخمسين منهم ولكن المباحث العامة اعتقلت خمسة آلاف بدون علمي وموافقتي ولم يكن لهم أي دور بل كما قال حسن طلعت مدير المباحث العامة وقتها " نحن نتحفظ عليهم عندنا في المخزن ! ! إذا احتجنا أو احتجتم واحدا نلاقيه " ! ! .
ويضيف شمس بدران:
_ وحتى الذين أفرجنا عنهم اعتقلتهم المباحث العامة .
ويتساءل شمس بدران:
_ " لماذا التركيز على عمليات انتزاع الاعترافات في القضايا التي حققتها الشرطة العسكرية ؟ ! ألم يكن نفس الأسلوب متبعا في المباحث العامة ؟ ! "
ويقول شمس بدران في نفس الحديث :
" اتفقت مع الرئيس جمال عبد الناصر أنه بعد صدور الأحكام في القضية يخفف أحكام الإعدام ثم سافرت إلى لندن للعلاج وهناك علمت أنه تم تنفيذ الإعدام في ثلاثة ولما عدت سألت فعلمت أن الرئيس صدق على هؤلاء الثلاثة لأنه سبق الحكم عليهم في 1954 وقد تألمت جدا لإعدام هواش لأنه من واقع التحقيق لم يشترك في أي اجتماع للقيادة وأقصى ما يمكن أن يتهم به هو أنه ( علم ولم يبلغ ) وقلت للمشير أنا لازم أكلم الرئيس في موضوع هواش لأنه لا يستحق الإعدام قال لي المشير : بلاش لحسن الرئيس ضميره يتعبه وفعلا لكي لا يتعذب ضمير الرئيس لم يفاتح شمس بدران الرئيس جمال عبد الناصرفي موضوع هواش الذي شنق ظلما حتى بمقاييس شمس بدران والدجوي .
الشهيد . . عبد الفتاح عبده إسماعيل
أشهد أنني لم أفهم قدر الشهيد عبد الفتاح إسماعيل إلا بعد أن نفذ حكم الإعدام فيه . . وأستطيع أن أشهد شهادة يحاسبني الله عليها أن الشهيد عبد الفتاح إسماعيل كان من اصلب الإخوان المسلمين الذين دخلوا السجن الحربي إرادة إن لم يكن أصلبهم على الإطلاق . . وأكثرهم شجاعة في مواجهة طغاة السجن الحربي بالصدع بكلمة الحق وكان يريهم من نفسه ما يملأ قلوبهم حسرة وغيظا . . وأذكر مرة دخل حمزة البسيوني السجن في الصباح وهو يركب حصانا أحمر . . وبعد أن خرج الطابور الكبير وكنت أسير مع طابور " العواجيز " وهو طابور أخف من الطابور السريع يضم أصحاب العاهات . . والأمراض وكبار السن ولا يسير فيه إلا من صرح له الطبيب بذلك , وبدأ طابور " العواجيز " في الخروج فوقف حمزة البسيوني يستعرض الطابور بنفسية الساخر المتشفي وأراد أن يسخر من الشيخ عبد الفتاح فسأله :
_ كويس كده يا شيخ عبد الفتاح ؟ ! .
فابتسم الشيخ عبد الفتاح وأشرق وجهه بنور ابتسامته وقال :
_ الحمد لله على كل اللي يجيبه ربنا . . ! ! إحنا راضيين بكل اللي يجيبه ربنا ! ! .
كان الشيخ عبد الفتاح عبده إسماعيل يرنو بقلبه إلى " الشهادة " ويتمناها من أعماق فؤاده ولقد كان بينه وبين الشهيد محمد عواد عهد على الاستشهاد في سبيل إعلاء كلمة الله وكان الشهيد عبد الفتاح يغبط محمد عواد على فوزه بالاستشهاد تحت ضربات التعذيب الرهيبة التي حققت له أمنية طالما تمناها . . كان " الموت " في سبيل الله أمنية الحاج عبد الفتاح في الوقت الذي نظر إليه أعداء الحق أنه أقسى ما يمكن أن يفعلوه بجند الحق .
لقد تعرض الشيخ عبد الفتاح لعمليات تعذيب رهيبة ولكن الرجل لم يفقد شجاعته حتى في لحظات التعذيب فقد كان من بين وسائل التعذيب التي تعرض لها الشهيد عبد الفتاح الكلاب المتوحشة التي أطلقوها عليه لتمزق جسده . . فلم يستسلم لنهش الكلاب ولم يفزع منها . . ولكنه أطبق بيديه على عنق أحدها حتى خنقه ! ! . وتقول الحاجة زينب عنه :
_ " وكان الشهيد عبد الفتاح عبده إسماعيل من أخلص المريدين لحسن البنا والمقربين إلى قلبه . . وبرهنت الأحداث أنه جدير بهذا القرب وهذه الرعاية من الشهيد حسن البنا فبعد خروجه من السجن في سنة 1956 كان مصمما تصميما لا يداخله شك أو ضعف أو تردد على إعادة الإخوان المسلمين إلى ما كانت عليه لتؤدي واجبها نحو الله سبحانه . . لقد فعل ما يرضي ضميره بإعادة تنظيم الدعوة وإعادة وحدة صفها بالتربية والتكوين والإعداد الفكري .
وجاءت مذبحة السجن الحربي ووقف عبد الفتاح إسماعيل كالطود الراسخ ثابتا على عقيدته مدافعا عنها لا تخيفه السياط ولا ترعده الكلاب التي كانت تحبس معه بالأيام محرومة من الطعام لتفتك به . . لقد رأيته عدة مرات في مكتب شمس بدران ممزق الوجه والكتفين وممزق الأقدام . . مكسور الذراع مكسور الساق . . رأيته مرة وكان قد فقد بصره .
كان رجلا بحق يمثل جماعة . . عمل على جمع وحدتها وتنظيم صفها فنجح أيما نجاح وفاز عبد الفتاح إسماعيل " بالشهادة " وهي ارفع نيشان وأسمى ما يتقلده إنسان . . إنها قلادة الشرف من رب السموات " . . كان الشهيد عبد الفتاح هو " دينامو " تنظيم سنة 1965 وكان له الفض ل الكبير في توحيد الإخوان من الإسكندرية حتى أقاصي الصعيد و كان يضرب به المثل في القدوة على الحركة حتى قيل أنه كان يصلي الأوقات الخمسة في خمس محافظات ! ! .
وكان له الفضل في توصيل الإخوان بالشهيد سيد قطب وقبوله قيادة التنظيم . وكان الشيخ عبد الفتاح عابدا . . يقوم من الليل يصلي حتى ظن كثير من الإخوان أنه لا ينام وقد رغب الكثيرون في السكنى معه وكان من أحرص الإخوان على تنفيذ السنة فقد أطلق لحيته أو طالت لحيته بحكم تركها بدون حلاقة فترات طويلة فكانت شعورنا تطول اللحية والشارب وشعر الرأس . . ولكن الشهيد عبد الفتاح . . كان يجف شاربه بنتف شعر الشارب رغم ما في ذلك من ألم .
وكان الشيخ عبد الفتاح مهيبا لا أذكر أنه قد تعرض لاهانات الحراس رغم كثرتها بالنسبة للإخوان وأذكر أن الأخ محمد رحمي وجد في زنزانة الشيخ عبد الفتاح بعد صلاة الفجر وبعد الانتهاء من عملية " دورة المياه " وضبطه أحد العساكر وعلم ذلك صفوت الروبي ويبدو أن الشيخ عبد الفتاح كان مرصودا حتى أنه أ سكن معه أحد أفراد القضية ممن يمكن أن يستفاد منهم في معرفة حياة الشيخ عبد الفتاح وكان جزار الأخ محمد رحمي " علقة " ساخنة على قدميه مزق فيها صفوت الروبي قدما الأخ رحمي حتى أنه كان الشخص الوحيد الذي لم يستطع حضور محاكمة القضية إلا بعد أيام طويلة ولكن الشيخ عبد الفتاح لم ينله أي سوء .
وتروي الحاجة زينب الغزالي عن الشيخ عبد الفتاح فتقول :
_ في يوم من الأيام كنت على موعد مع الشيخ عبد الفتاح عبده إسماعيل . . فحضر إلى بيتي في الساعة السابعة صباحا وأخبرني زوجي أن الشيخ في حجرة الصالون فذهبت إليه فوجدته نائما من الإجهاد على أحد المقاعد فأخذت بطانية وغطيته به وقلت لمديرة البيت عندما يصحو الأخ عبد الفتاح جهزي له الإفطار . . ولما استيقظ وقدم له الإفطار قال لها أن لديه موعد ولا بد أن يراني بسرعة ! ! .
فجاءت وأخبرتني فلما طلبت منه يتناول إفطاره قال أن :
_ أنا على موعد في مسجد الملك بعد ربع ساعة وأعطاني مبلغ 300 جنيه أمانة . . وكان قد مضى عليه 24 ساعة لم ينم ولم يأكل فطلبت إلى خالتي أم عبده مديرة البيت أن تضرب له كوبا من الزبادي وعسل النحل فشربه وأعطيته جنيها وقلت له :
_ أركب تاكسي حتى تلحق موعدك فقال :
_ هل هذا الجنيه في الثلاثمائة ؟ .
فقلت :
_ لا . . هذا من جيبي الخاص لتركب تاكسي .
فقال لي :
_ أضيفيه للمبلغ الذي هو لحساب الإخوان . . أما نحن فلن نركب تاكسي . . والذين ركبوا العربات واستعملوا التاكسيات استرخوا ولم يعودوا يصلحون للعمل .
قلت :
_ مستحيل أن تدرك موعدك بغير تاكسي ! ! .
فقال :
_ الذين ينتظروني هم من جند الله وسينتظرونني حتى أصل إليهم .
فقلت :
أنا اركب العربة ولم استرخ ولم اقعد عن العمل بل تراني مصرة على أن استمر أعمل لدعوتي ! ! . فقال :
_ هذا ابتلاء نجحت أنت فيه وربما لا أنجح أنا فيه .
وخرج ليدرك موعده . . هذا هو عبد الفتاح إسماعيل كما عرفته يعمل 24 ساعة متواصلة لا يحس بالجوع ولا بالتعب ولا يرضي أن يحصل على أجرة تاكسي لمشوار في سبيل دعوة الله . . وكان غريبا ألا يقتل عبد الفتاح عبده إسماعيل باليد العميلة لأعداء الإسلام لأنه كان لبنة صالحة في صرح الدعوة الإسلامية ! ! " ولم يفقد الشهيد عبد الفتاح عبده إسماعيل شجاعته في أخطر لحظات عمره . . وقف يستمع إلى الحكم الذي أعلنه الدجوي وان كنا على يقين أن الدجوي لم يكن إلا ببغاء وربما أسياده أيضا كانوا مثله ! ! .
عندما نطق الدجوي بالحكم . . صاح الشهيد عبد الفتاح عبده إسماعيل :
_ الله أكبر . . فزت ورب الكعبة ! ! وقيل أنه لم يفقد هذه الشجاعة حتى في لحظات التنفيذ ولكنه تقدم ثابتا شامخا محتسبا . . يدعو الله أن يجعل دماءه لعنة على قاتليه ! !
ولحق الشهيد عبد الفتاح عبده إسماعيل بالشهيد محمد عواد وصدق عهده مع الله فصدقه الله فهنيئا لهما الشهادة التي نسأل الله لهما ولجميع أخواننا أن يحشرهم الله مع النبيين والصديقين ! ! .
الفصل السادس
شهداء التعذيب
1– محمد عواد . . أول الشهداء !
كان محمد عواد . . أول شهداء السجن الحربي . . وقصة تعذيب عواد تعطى الصورة الضارية لمذبحة السجن الحربي . . ولكنها في نفس الوقت كانت مثالا رائعا لثبات المؤمن . . فجعلت من عواد معلما في طريق الدعوة الإسلامية .
عندما ذهبت الشرطة العسكرية لإلقاء القبض على محمد عواد كان عنده مصطفى الخضيري الذي هرب بعد اعتراف أسرته عليه وأراد محمد عواد أن يعطي مصطفي الخضيري فرصة للهرب فأوهم القوة التي ذهبت للقبض عليه بأنه جرى وسط المزارع يريد الهرب فجروا خلفه واستطاع الخضيري أن يفلت من إلقاء القبض عليه . . واستسلم عواد بعد ذلك للقبض عليه وصحبوه معهم في السيارة وحملوه إلى السجن الحربي وقال لي سليم العفيفي :
_ بعد إلقاء القبض علي صحبوني إلى السجن الحربي وساقوني مع غيري إلى ساحة التعذيب أمام مكتب سعد زغلول عبد الكريم قائد الشرطة العسكرية وقتئذ وبدأ الجلادون يمزقون أجسادنا بالسياط وكان الوقت ليلا . . وفجأة رأينا صفوت الروبي جلاد السجن الحربي يسوق شابا عرفنا أن اسمه محمد عواد يعمل مدرسا بوزارة التربية والتعليم . . ومن قرية الزوامل بالشرقية تقدم صفوت الروبي جلاد السجن يسوق أمامه شابا عرفنا أن اسمه محمد عواد .
_ هذا هو المجرم محمد عواد . . يا فندم . . فأوقفوا تعذيبنا وساقونا جميعا إلى السجن . . ولم يبقوا إلا محمد عواد . . أخذوا يعذبونه ونحن نسمع صراخه . .واستمر تعذيبه وهم يعذبونه في حضور شمس بدران و حمزة البسيوني و رياض إبراهيم . . ورأيت صفوت الروبي ينزل إلى الفسقية ممسكا رأس محمد عواد يخبطها في حائط الفسقية حتى هشمه لقد كان عواد صلبا عنيدا تحداهم بإيمانه فلم يحصلوا منه على كلمة واحدة فصنعوا به ما صنعوا انتقاما منه وإرهابا لغيره وكان تعذيبه أمام عدد كبير من الإخوان الذين كان يحقق معهم في نفس الوقت .
وقال لي الدكتور محمود عزت إبراهيم :
_ لقد رأيت محمد عواد وهم يعذبونه أمام مكاتب التحقيق في السجن الحربي وكان عواد مجهدا . . عييا لا يقوى على السير ممزق الجسد عاريا إلا من سرواله . . لقد طلب مني صفوت الروبي أن أبصق على وجه محمد عواد فرفضت . . لقد ألقوا به في حوض الفسقية التي كانت أمام مكاتب التحقيق ورأيت صفوت الروبي ينزل بنفسه إلى الفسقية ويمسك رأس محمد عواد ويحطمه في جدران الفسقية ثم أخرجوه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة . . لقد استمر ذلك طوال الليل وفاضت روحه مع أول ضوء في صباح 20 أغسطس سنة 1965 .
وقال لي المهندس طاهر سالم :
_ لقد رأيت محمد عواد وهم يعذبونه وهو يتحداهم أن يخرجوا منه كلمة . . كان يعذبه الصاغ رياض إبراهيم والصاغ حسن كفافي وصفوت الروبي . . كان يعذبونه ويضربونه بقسوة كي يجيبهم على أسئلتهم ويعترف بما يريدون لكنه لم يتكلم ولم يحقق لهم ما أرادوا , فأحنقهم ذلك عليه فأنزلوه إلى الفسقية وأغرقوه فيها ونزل العسكري " خرشوف " وركب على أكتاف عواد وأمسك برأسه يغطسه في الماء حتى حد الموت ويخرجه ويكيل له الصفعات واللكمات . . ثم أخرجوه من الفسقية وهم يتميزون غيظا من صلابته وعناده و " نشوفية دماغه " على حد قولهم . . وزادهم غيظا عندما أخرجوه من الفسقية ورغم شدة إعيائه وإشرافه على الموت أفزعه أن الماء أوشك أن يسقط سرواله فتنكشف عورته فأمسك سرواله ورفعه حتى لا تنكشف عورته فانفجروا فيه قائلين :
" حتى وأنت في هذه الحالة تتمسك بدينك " ! ! .
وأمسك به صفوت الروبي ونزل به مرة ثانية إلى الفسقية بنفسه وأخذ يضرب رأس محمد عواد في جدار الفسقية حتى هشمه وسالت منه الدماء بغزارة ووقع عواد مغشيا عليه يسبح في مياه الفسقية التي تلوثت بلون دمه ثم أخرجوه وألقوا به على الأرض وقالوا عنه :
_ انه سافر خلاص . . فعرفت انه فارق الحياة . . لقد ذهبت الشرطة العسكرية وقبضت بعد ذلك على والده وأحضروه إلى السجن الحربي رهينة حتى يحضر ابنه الذي هرب من السجن الحربي ! ! وبقى الوالد في السجن حتى أفرجوا عنه وأوهموه أن أبنه هرب إلى السعودية . . وبقيت عائلة محمد عواد تصدق كذب الشرطة العسكرية وتظن أن محمد عواد قد هرب حقا ولم تعرف الحقيقة إلا بعد هزيمة يونيو سنة 1967 عندما انتقلنا إلى سجن ليمان طره وسمح لنا بالزيارة بعد أكثر من عامين . . وأثناء إحدى الزيارات أخبر واحد من إخوان عواد أهله بأن عواد استشهد تحت التعذيب ودفن فيمن دفن في جبل المقطم مع غيره من شهداء مذبحة السجن الحربي .
والذي يعرف الشهيد محمد عواد لا يجد أية غرابة فيما أراد الله له من الشهادة , فقد كان محمد عواد يتوقع كل ما حدث له وكانت نفسه مهيأة لذلك وكثيرا ما تحد ث عن مذبحة السجن الحربي الأولى عام 1954 التي أقامها جمال عبد الناصر للإخوان من " المسرحية " الوهمية التي أطلق عليها حادث المنشية مبررا للقضاء على جماعة الإخوان المسلمين ليحقق هدفا من أهداف نشاط المخابرات الأمريكية في مصر لقطع الطريق أمام جماعة الإخوان في القيام بثورة لإقامة الإسلام في مصر ! ! .
وكان الشهيد محمد عواد وجيله من " أشبال " الإخوان الذين لم يدخلوا محنة سنة 1954 ولم ينالهم ما نال إخوان سنة 1954 من العذاب الرهيب ولكنهم عرفوا كل الذي حدث عن طريق الآلاف من الذين اعتقلوا عام 1954 وخرجوا عام 1956 فرووا لهم ما شاهدوه من صور المأساة . . وامتلأت نفوس الإخوان رجالا بتلك المذبحة وامتلأت نفوس أشبال الإخوان الذين شبوا وأصبحوا بتلك المذبحة وكانوا يعرفون " الكذبة " الكبيرة التي افترا ها جمال وأجهزته وسماها مؤامرة الاعتداء عليه في ميدان المنشية بالإسكندرية .
لقد كان هدف عبد الناصر من مذبحة الإخوان المسلمين سنة 1954 هو القضاء على جماعة الإخوان وزرع الخوف في قلوب الشعب المصري بصفة عامة وأصحاب الاتجاه الإسلامي بصفة خاصة لأنهم وحدهم الذين يملكون القوة والشجاعة في أن يقولوا للظالم يا ظالم . . وهم وحدهم الذين يقلقون القوى الخفية العالمية التي تطمع في المنطقة وثرواتها ومصر في مقدمتها لأن الذي يسيطر على مصر يسيطر على العالم العربي الإسلامي ! ! .
ولكن هل أدت مذبحة السجن الحربي سنة 1954 الغرض من ضراوتها فقضت على جماعة الإخوان وملأت بالخوف قلوب الشعب المصري ؟ ! العكس هو الذي حدث في جيل " أشبال " الإخوان المسلمين الذين أدركوا الجماعة قبل المحنة ورأوا فيها سفينة " نوح " التي أغرقها الظالمون ! ! لقد امتلأت نفس عواد . . وجيله عزما وتصميما على الصبر والثبات والتضحية في سبيل بقاء الدعوة حية في النفوس وكان إيمانهم بربهم حمى لهم من كل خوف وبقيت الدعوة حية في النفوس وبقى الإخوان تربطهم يبعضهم صلة الإخوة ويجمع بين قلوبهم الحب حتى في أحلك سنين الظلم . ولم تكن صلابة الشهيد محمد عواد وثباته وصبره وجلده ومصا برته على ما لاقاه من جلاديه وما سلكوا . . في تعذيبه من أساليب جهنمية فاقت في وحشيتها وخستها كل ما روته كتب التاريخ بدءا من اضطهاد الرومان للمصريين وانتهاء إلى أساليب الشيوعيين التي انحطت إلى أسفل الدركات .
لم تكن هذه الصلابة وليدة ساحة التعذيب في السجن الحربي وإنما كانت " عقيدة " فاعلة ومؤثرة تمكنت من قلب الشهيد وملأت قلبه عزما وتصميما وصبرا وثباتا حتى النهاية فأما أن تنفذ طاقة جلاديه فيغلبهم صبره دون أن يتمكنوا من الحصول عل كلمة ينالون بها من دعوته وجماعته وإما أن تنفذ ساعات عمره فيفوز هو بالشهادة التي طالما تمناها من الله بصدق .
كان الشهيد عبد الفتاح إسماعيل يحب محمد عواد حبا شديدا . . جلسا يوما يتجاذبان الحديث معا عن الجهاد في سبيل الله وعن حال المسلمين وحال الدعوة وما نالها وما ينالها . . فقال له الشهيد عبد الفتاح إسماعيل : _ لا تبتئس يا ابن عواد فقد يمكن الله للمسلمين وتكون أنت ضمن القواد في دولة الإسلام ! ! .
فانتفض محمد عواد من مكانه وكأن لدغة أصابته وقال :
_ ما على هذه الدنيا بايعت ولكن بايعت على أن أرمي برصاصة ها هنا . . وأشار إلى رقبته ! ! . وجلس يوما مع أمين سعد زميله في الدراسة والمدرسة يتجاذبان أطراف الحديث حول فضل الاستشهاد في سبيل الله . فتبسم عواد ابتسامة عريضة لهذا الحديث وقال وهو يمصمص شفتيه متحليا :
_ ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يحد أحدكم من مس القرصة ! ! .
لقد صدق عواد في طلبه الاستشهاد فصدقه الله واتخذه شهيدا ! ! .
وكان محمد عواد شاعرا ملتزما بعقيدته . . صاغ كلماته حمما أطلقها على الطغاة , وأيقظ بها جموع الغافلين من الإخوان واستحث هممهم ونعى عليهم " نومهم الكهفي ! ! " وأفسحت مجلة الاعتصام صفحاتها لقصائده فكانت تنشر له في كل عدد قصيدة كانت بمثابة منشور ثوري . . ولا أدل على ما أقول غير عناوين قصائده التي نشرها . . وهي " صيحة الحق " ونشيد " الحق المنتصر " و " شهيد " و " مصارحة " . . و " تجرد " و " دعوة الإسلام " .
ولم يستعمل عواد في شعره الرمز ولكنه كان واضحا صريحا مواجها الباطل في عنف . . لقد وضع عواد النقط على الحروف في أكثر من قصائده ففي قصيدة " مصارحة " التي نشرتها الاعتصام في عدد المحرم 1383 الموافق [[مايو]] 1964 قال :
عهود على حربنا توثق
- ومال على ضربنا ينفق
وحقد يحاك لنا في الظلام
- فيفضحه ومضه المبرق
أينسى الزمان صنوف الهوان
- وسهم الظنون بنا يرشق
ولن يقبلوا الشرع فيهم صراخا
- وشمس حكومته تشرق
وفي قصيدة " دعوة الإسلام " يعلن الشهيد محمد عواد استمساكه بدعوته وعزمه على الوقوف تحت رايتها دائما فيقول :
يا دعوة الإسلام لن أنساك
- لا لن أميل على هواي هواك
لا لن أضل وابتغي معوجة
- أمشي عليها طارحا لهداك
ويمضي الشهيد في قصيدته متغزلا في دعوته التي يشدو فؤاده بحبها ويفيض حنان وشوقا لها ويعدد أفضالها عليه فهي التي غرست فيه العزة والكرامة ! ! وعرفته كيف يكون شجاعا .
ويستشير الشهيد عواد حماس الدعوة بتذكيرهم بما كانوا عليه بالأمس وما كانت عليه الدعوة وينعى عليهم حالهم وكيف أصبح البعض يخاف من قعقعات سلاح العدو .
ولئن كان الشهيد سيد قطبهو مفكر الحركة الإسلامية في محنة 1965 فان محمد عواد كان شاعرها وحاديها الذي استنهض الهمم وألهب ظهور الغافلين والمتخاذلين والمتربصين والمتفلسفين والمنفلتين من الميدان . . صاح عواد على صفحات الاعتصام يخاطب الإخوان :
أخي طال عهدك بالمرقد
- وطال اصطبارك بالحاقد
وطال انتظارك يوم الخلاص
- ويوم الكرامة والسؤدد
فهدم فراشك رمز الخمول
- وقم للجهاد ولا تقعد
وقم للنضال وخوض القتال
- وشمر عن الساق والساعد
ودرب فؤادك دفع المنون
- وركز سلاحك فوق اليد
وقبل عيالك قبل المسير
- ومنهم بانتصار الغد
وفي قصيدة له بعنوان " حقيقة " يترجم عواد بصدق ودون مبالغة م ا انطوت عليه نفسه وما عقد عليه العزم :
كتبنا النصر من دمنا
- على أشلاء قتلانا
جعلنا من جماجمنا
- لشرع الله بنيانا
بذلنا النفس في شمم
- إلى الإسلام قربانا
ويصف محمد عواد صورا من مذبحة السجن الحربي الأولى في نفس القصيدة فيقول :
عراة من ملابسنا
- لنار الحقد تغشانا
فمنا معشر هلكوا
- وماتوا تحت مرانا
ومنا من على نصب
- تعانقها وحيانا
سياط الحقد تجعلنا
- من التعذيب غربانا
سباع الطير ترقبنا
- لتنهش لحم موتانا
قطيع البوم يسمعنا
- من الألحان أحزانا ! !
ومن بين قصائد عواد التي نشرتها الاعتصام قصيدة بعنوان " شهيد " يصور بها عواد أمنيته العزيزة في الاستشهاد يقول :
ناداه طيف يا عشيق رحابنا
- أوما تحب بأن تنال الانعما ؟ !
أوما تريد بأن تكون جوارنا
- في جنة الفردوس تحيى طاعما ؟ !
هذا ابتلاء كي نميز جندنا
- ونرى المنافق فيهم وال مسلما
هتف شهيد بعزة وبسالة
- باسم الإله أصول لا باسم الحمى
وإذا الشهيد مضرج بدمائه
- لمح الخلود بقلبه فتبسما
وفي قصيدة له بعنوان " تجرد " يهتف عواد من أعماق فؤاده :
قمت كي أرضي ضميري
- لن أذل إلى حقير
لن أخاف من المنايا
- أو أبالي بالمصير
لن أضن على كتاب
- والأراذل كالهصور
إن نفوني في الحرور
- فأنا نبت الصخور
أو أبوا أكلي وشربي
- فأنا مثل النسور
قوتها شيء قليل
- لا تروم إلى كثير ! !
كانت آخر قصائد محمد عواد قصيدة بعنوان " الدنيا " نشرها في يوليو سنة 1965 . . أي قبل استشهاده بحوالي شهر قال فيها :
وما الدنيا وان خطرت دلالا
- بمعطية لعاشقها منالا
فلا تغررك أيام عذاب
- ففي الأيام أيام حبالي
أجنتها ستقذفها هموما
- وبهجتها ستجعلها خيالا
وكؤوسها ستفرغها سموما
- ومقبحا ستنصبه جمالا
وان بسمت لمغرور فغدر
- وان أعطته شيئا فالخيالا
ومن يركن لزخرفها يذقها
- على الأيام قطرانا مسالا
ومن يهجر لذائذها جهادا
- يجد في الخلد جنات ظلالا
ومن ينفق لدعوته متاعا
- يزده الله مكرمة ومالا ! !
أنني أطلت في الحديث عن الشهيد محمد عواد . . ولكنني أحس أن عواد أكبر من صفحات توضع في كتاب . . إن عواد ملحمة وقصائده التي وضعت يدي عليها خلال العام الذي سبق استشهاده ترسم صورة لذلك آل فارس المؤمن الذي صدق الله فصدقه الله وأرجوا أن أوفق في جمع ديوان محمد عواد وتسطير حياته كلها ففيها نفع كثير لأجيال المستقبل .
انتصار . . عواد !
الليل رهيب ورعيب . . الريح تسفي . . والسماء مكفهرة . . والأرض ملطخة بالدم . . في ساحة التعذيب أجساد مشلوحة على الأرض تئن , وأجساد مصلوبة تصرخ , وثلاثة جلادين يمزقون بسياطهم جسد ضحية . . روع عواد المنظر أول ما وقعت عيناه عليه , زلزل . . ازدادت دقات قلبه . . كاد يصرخ " حسبنا الله ونعم الوكيل " – قالها في سره , تسابق إليه الجلادون . . أحاطوا به ككلاب جوعي , هموا أن يمزقوه . . أوقفهم كبير الجلادين :
_ لا ليس . . الآن ! !
جف ريقه . . تمتم . . يا مقلب القلوب ثبت قلبي . . ثبت قدمي . . لغيرك لا تكلني . . أعني . أخرجته صرخة كبير الجلادين مما هو فيه .
_ قف هناك على باب المكتب . . وجهك للحائط . .
حمدا لله . . يمكنني أن أفكر . . أن استرد أنفاسي , كي أتماسك . . الأمر جد , هذه هي البداية الحقيقية . . بداية الطريق . . امتحان لك يا عواد . . لكل ما آمنت به . . طالما تحدثت وتخيلت هذه الساعة . . وقتها لم تهتز فيك شعره . . لكنك لم تتخيل الواقع على هذه الصورة . . حقا قد سمعت تجارب الآخرين . .لكنك لم تجرب . . جاء وقت التجربة هل تصمد ؟ ! . . هل تثبت ؟ ! . . حتى النهاية . . صبر ساعة يا عواد . . وينتهي كل شيء . . لن يأخذوا منك كلمة واحدة تكشف سرا الموت أهون من الخيانة . . الموت نهاية . . وشهادة . . والخيانة عار لا تحتملها يا عواد . . صبر ساعة وتنفذ قدرة جلاديك على التعذيب وتنجو أنت من غضب الرب . . إن كان في العمر بقية , وأن كانت الأخرى " فزت ورب الكعبة . . " قالها من قبلك خباب وطالما تمنيت على الله الصحبة لخباب . . فهل تصدق عهد الله ؟ ! . . العهد يا عواد يطلب الوفاء . . لن يأخذوا منك كلمة تكشف سرا . . الموت أهون من الخيانة . . الموت نهاية وشهادة . . والنصر صبر ساعة . . أخرجته صفعة كبير الجلادين مما هو فيه . في أذنه آخر عبارة " صبر ساعة " وعلى شفتيه المضمومتين في حزم وعزم " لن يأخذوا منك كلمة " . .جذبه كبير الجلادين فجأة وجد نفسه على الأرض , قبل أن يفيق . . أوقفوه . . ركله في بطنه . . ولكمه في وجهه . . سقط على الأرض . . لا قدرة له على التفكير . . عقله شل . .بكن " صبر ساعة " ترن في أذنه . . " لن يأخذوا منك كلمة " مضمومة عليه شفتيه في عزم وحزم . . مرت دقيقة . . أكثر . . أقل لا يدري . . فتح عينيه . . هاله المنظر . . خمسة جلادين في أيديهم السياط . . عالية في الهواء . . يكادون يهوون بها عليه . . توقفها صرخة كبير الجلادين .
_ انصرفوا ليس الآن . . هذه عينة . . يمكنك أن تتكلم . .ستتكلم حتما . . طوعا أو كرها . . لا طاقة لك . . ستنفذ طاقتك مهما كانت . . العذاب فوق طاقتك . . فوق ما تتصور أنت لم تر شيئا . . هناك الكلاب جوعي . . هناك أساليب جهنمية لن تستطيع أن تصمد ستتكلم في النهاية بعد ما تتمزق . . أحسن أرحم نفسك . . أحفظ كرامتك . . وجاءه صوته هو من أعماقه . . الموت نهاية يا عواد . . وشهادة . . والنصر صبر ساعة . . نطق .
_ لا أعرف ماذا تريدون ! ! . . ماذا أقول ؟ ! .
فتح باب المكتب . .جاء جلاد أكبر . . أصدر أمره .
_ علقوه ومزقوه .
قالها وعاد من حيث جاء . . تلقفته أيدي الجلادين . . علقوه . . ومزقوه بالسياط . . شفتاه مضمومتان في حزم وعزم . ." لن يأخذوا منك كلمة " . . مزقت ثيابه . . لم يبق إلا ما يستر العورة . . تذكر دعوة أحمد بن حنبل في مثل حاله " رب لا تفضحني " . . وسالت دماؤه . . لطخت وجهه . . لا زالت شفتاه مضمومتين في حزم . . وعزم . . لم تصدر منه صرخة لا . . ولا حتى آه . . لم تعد له طاقة . . فتح عينيه . . رفع نظره إلى السماء . . توسل يا رب أعني . . لا تحملني ما لا طاقة لي به . . خرج كبير الجلادين .
_ كفاية . . ! !
كفت السياط .
_ فكوه . . حلوا وثاقه . . انهض ! !
حاول وباءت محاولته بالفشل . . امسك كبير الجلادين سوطا أهوى به على جسده .
_ أنهض . . ! !
حاول من جديد . . لا فائدة . . أفضل أن تتحمل آلام الوقوف على قدميك . . وقف . .خطا خطوة . . الأرض تحت قدميه جمر . . سوط آخر جاءه من كبير الجلادين .
_ اجر . . ! !
رجلاه ممزقتان كيف يجري ؟ ! ! . . لا قدرة لك على الجري . . جسدك ثقيل ككيس الرمل . . رجلاه لا تقويان على حمله . . دماؤه تسيل من أماكن عدة . . الدم خضب وجهه . . بدأ يتسرب إلى مقلتيه . . رفع يده يمسح عينه . . يده ثقيلة . . هل شلت ؟ ! لا . . أصابعه ممزقة تقطر دما . . جذبه كبير الجلادين . . قاده إلى مكتب الجلاد الأكبر . . الحجرة مكيفة الهواء أرضيتها عارية من السجاد . . لكنها ملطخة بدم من سبقوه دمه يتقاطر على أرض الحجرة , يمتزج بدم من سبقوه . . الجلاد الأكبر ألقى عليه نظرة تشفى . . قال في رضا .
_ حسنا . . الآن سوف تتكلم . . سوف تقول كل ما تعرف . . وإلا مزقت من جديد . . وفي النهاية ستتكلم . . لن تصمد حتى الموت ! ! .
لا زالت شفتاه مضمومتين في حزم وعزم ! ! لن تأخذوا مني كلمة واحدة تكشف سرا . . الموت أهون من الخيانة . . الموت نهاية . . وشهادة . . غرس عينيه في عيني الجلاد الأكبر كالطلقة . . تمنى لو كانت طلقة . . تمزق جلاده . . أو ستأتيه من جلاده طلقة تنهي حياته . . قبل أن يأخذوا منه كلمة تكشف سرا . . وتكون شهادة يا عواد جاءت لك على الطبطاب . . نهض الجلاد الأكبر من على كرسيه . . جلس على ظهر المكتب . . وجاء آخر يكتب ما سوف يقول نظر إليه يقول .
_ ابدأ . . احك . . لا تنكر شيئا . . لا تكذب .
لا زالت شفتاه مضمومتين في حزم وعزم . . انفرجت شفتاه .
_ ماذا أقول ؟ ! . . اسألني أجبك بما أعرف !
خرجت كلماته كالطلقة . . فجرت غيظ الجلاد الكبير . . هجم عليه كالكلب المسعور . ركله في بطنه . . لكمه . . ألقاه على الأرض . . هاج . . وأزبد . . فتح الباب . . السماء تبرق . . البرق يرعد . . الريح تزمجر . . دخل ثلاثة جلادين . . جروه . . أخرجوه من المكتب . . جاء بقية الجلادين ككلاب جوعي حملوه وألقوه في حوض الفسقية . . أنعش . . لا زالت شفتاه مضمومتين في حزم وعزم . . لا صرخة لا . . ولا حتى آه . . أخرج رأسه من الماء كي يتنفس جاءته ضربة بيد " كوريك " . . كاد يغمى عليه . . نزل أحد الجلادين إلى الحوض ركب على كتفيه . . صفعه على وجهه صفعات . . أمسك رأسه . . غمرها في الماء كاد يخنق . . أخرج رأسه . . يتذكر . . هكذا عذب أبو جهل سمية وعذب ياسر بالماء حتى الإغماء . . واستشهد ياسر . . فاز ياسر ليتك تفوز يا عواد . . ليتك تستشهد قبل أن تفتن . . قبل أن تبوح بكلمة تكشف سرا . . السماء تبرق . . البرق يرعد . . السماء تمطر . . يدخل كبير الجلادين المكتب . . يتفرق بقية الجلادين تركوه ساعة . . السماء تمطر . . ثم أخرجوه . . ألقوه في العراء بجوار السور . . الريح تزمجر . . البرد على وجهه نسمات . . يتذكر قولة أنس بن النضر . . " والله أني لأشم رائحة الجنة " أين أنت يا عواد من رائحة الجنة ! ! . . لا زار المشوار طويلا . . لم تدفع بعد ثمن الجنة . . أخذته غفوة . . نام ثم استيقظ . . وتذكر ياسر وعمار وسمية ورسول الله يناديهم " صبرا صبرا . . آل ياسر إن موعدكم الجنة " . . وأنتم يا أخوة محنتي صبرا صبرا . . موعدنا جميعا أن نصدق الجنة . . وتذكر هو لم يصل العشاء فليتيمم . . وصلى بعينيه العشاء . . لم يبق من الليل إلا أقله . . لم يأت إليه أحد . . أنسوه ؟ ! . . أم حسبوه قد مات ؟ ! . . فتح باب المكتب خرج كبير الجلادين هب بقية الجلادين وقوفا ساروا خلف كبيرهم . . تبعوه كذيل الكلب . . في أيديهم " أذناب البقر " . . اقتربوا منه . . ها هم قد جاءوا . . تمتم . . يا مقلب القلوب ثبت قلبي . . ثبت قدمي . . اعني . . لا تفتني . . ركله كبير الجلادين بقدمه .
_ تحرك . . ! !
صرخ فيه . .
_ انهض . . ! !
أخذ سوطا من أحد الجلادين أهوى به عليه .
_ انهض . . ! !
حاول لم يقو . . خانته قواه . . تتابعت ضربات السوط . . عبثا حاول أن ينهض لكنه لم يقدر , صرخ كبير الجلادين .
_ جروه كالكلب . . ألقوه في الحوض . . تمتم . . ثانية في الحوض . . يا رب ارحم . . خرج الجلاد الأكبر . . أصدر أمره .
_ لا تلقوه . . هاتوه ! !
ألقوه أمامه . . أحنى رأسه . . سأله .
_ لماذا لا تتكلم . . الكل غيرك يتكلم يحكى كل ما يعرف . . ما أغباك أرحم نفسك ! !
نظر إليه نطق .
_ ماذا أقول ؟ ! ! . . أنا لا أعرف شيئا !
بصق في وجهه . . هاج . . وأزبد . . السماء تبرق . . البرق يرعد .
_ حق لرأسك أن تكسر . . خذوه . . ألقوه في الحوض . . اكتموا أنفاسه ! ! جروه كجثة . . ألقوه في مياه الفسقية . . نزل كبير الجلادين إلى الحوض بنفسه أمسك بيديه رأسه . . في جدار الحوض هشم رأسه . . صبغ الدم مياه الحوض . . أصبح بركة دم . . عواد يسبح فيها . . عواد استشهد . . طلع الفجر . . الصبح تنفس . . فاضت روحه . . خرج السفاح من الحوض ملطخ . . بالدم ملطخ . . يتميز غيظا . . !
جاء الجلادون رفعوا من الحوض الجثة . . ألقوه على الأرض أمام المكتب . . اليوم الجمعة . . استشهد عواد يوم الجمعة . . خرج الجلاد الأكبر . . ألقى على عواد نظرة . . لا زالت شفتاه مضمومتين في حزم . . وعزم . . الوجه مخضب بالدم . . فجأة انفجرت شفتا عواد . . رسمت بسمه . . !
2 - الحارس الخاص لجمال عبد الناصر
هل كان هناك تنظيم للإخوان المسلمين سنة 1965 على رأسه الشهيد سيد قطب؟ ! .
الجواب : نعم كان هناك تنظيم للإخوان المسلمين على رأسه الشهيد سيد قطب.
وهل كان هدف التنظيم هو اغتيال جمال عبد الناصر انتقاما منه لما فعله بالإخوان سنة 1954 , وقلب نظام الحكم وتغيير دستور الدولة بالقوة ؟ ! .
الإجابة على هذا السؤال الأخير يحتاج إلى إجابة مفصلة أكثر من الإجابة على السؤال الأول .
أولا : اغتيال جمال عبد الناصروقلب نظام الحكم وتغيير دستور الدولة بالقوة هي ذات الكذبة التي افتراها جمال عبد الناصرتماما كما افترى كذبة اتهام الإخوان بحريق القاهرة وقد أوضحت في الفصلين الأولين من هذا الكتاب حقيقة حادث المنشية وكيف اتخذه جمال عبد الناصرمبررا لتصفية الإخوان المسلمين . . وعلى وجه الخصوص تصفية العناصر القيادية التي يراها خطرة على نظام حكمه . . أو الذين رأى فيهم أعداء الإسلام أنهم خطر على مصالحهم ! أمثال الشهيد عبد القادر عودة والشهيد محمد فرغلي والشهيد يوسف طلعت . . الذين استشهدوا على أعواد المشانق سنة 1954 والشهيد سيد قطب والشهيد محمد يوسف هواش والشهيد عبد الفتا ح عبده إسماعيل الذين استشهدوا أيضا على أعواد المشانق سنة 1965 يقول الشهيد سيد قطب لصلاح نصار رئيس النيابة الذي حقق معه :
" إن عملية الانتقام عملية تافهة بالنسبة لمستقبل الإسلام وان إقامة النظام الإسلامي تستدعي جهودا طويلة في التربية والإعداد وإنها لا تجيء عن طريق إحداث انقلاب من القمة . . وأنه يجب تربية الأفراد قبل أن يوجدوا في التنظيم " . . " إن قلب نظام الحكم القائم لا يأتي بالإسلام ولا يقيم النظام الإسلامي وأن العقبات في وجه قيام النظام الإسلامي أكبر بكثير من حكاية نظام الحكم المحلي وانه يحتاج إلى زمن طويل وتمهيد طويل وتربية جيل أجيال كثيرة " .
وعندما سأل صلاح نصار رئيس نيابة أمن الدولة سيد قطب:
س: ما هي أهداف التنظيم فيما اتفقتم عليه بعد اتصالك به ( يقصد أعضاء قيادة التنظيم ) ؟ . فأجاب الشهيد سيد قطب:
أولا : تربية المجموعات الموجودة فعلا تربية إسلامية كاملة قبل ضم أحد آخر إليهم وبعد ذلك لا قبله يبدأ التوسع في ضم أفراد آخرين سواء من داخل جماعة الإخوان المسلمين أو من خارجها من الراغبين في العمل للإسلام لتربيتهم على هذا المستوى وفي برنامج طويل المدى ومتروك فيه الزمن بلا حساب يتوصل إلى تكوين جيل مسلم أو على الأقل قاعدة واسعة يمكن أن يقوم عليها النظام الإسلامي باعتبار أن التربية الإسلامية الأخلاقية لا بد أن تسبق النظام وبناء على هذا الفهم بدأت معهم تدريس العقيدة وتاريخها .
وهذه الحقيقة التي وضعها الشهيد سيد قطبتؤكدها كتبه الكثيرة التي كتبها داخل السجن وأولها كتابة هذا الدين وآخرها كتابة " معالم في الطريق " .
ثانيا : هناك دليل على أن اغتيال جمال عبد الناصرلم يكن هدفا من أهداف التنظيم الذي تولى قيادته الشهيد سيد قطببعد خروجه من السجن في مايو سنة 1964 . . هذا الدليل هو أن الحارس الخاص لجمال عبد الناصروهو الشهيد إسماعيل الفيومي كان أحد أعضاء التنظيم ولو أراد الإخوان قتل جمال عبد الناصرلما أفلت من يد إسماعيل الفيومي نشنجي مصر الأول . . وأقرب أفراد حرسه الخاص له . . لقد بقى إسماعيل الفيومي يحرس جمال عبد الناصرحتى بعد عمليات القبض على الإخوان المسلمين ولو فكر إسماعيل الفيومي في اغتيال جمال عبد الناصر. . لاغتاله بعد القبض على الشهيد سيد قطبيوم 9 أغسطس سنة 1965 . . ولكن لم يحدث . . لأن اغتيال عبد الناصر لم يكن هدفا من أهداف التنظيم .
لقد بلغ الإرهاب ذروته في مذبحة السجن الحربي سنة 1965 وأعلن جمال عبد الناصر نبأ اكتشاف مؤامرة لاغتياله وقلب نظام حكمه من موسكو تقربا و زلفى للزعماء الروس . . ومن موسكو هدد عبد الناصر الإخوان وتوعدهم بالبطش والإبادة والسجن مدى الحياة لكل الذين شاركوا في المؤامرة المزعومة التي دبرت لاغتياله ! ! .
وكانت عمليات القبض قد بدأت قبل إعلانه بأكثر من شهر وقبل أن تكتشف أجهزته أي تنظيم على الإطلاق . . فقد كان الأمر مبيتا . . وكان لا بد من إدخال الإخوان السجون لحاجة في نفس عبد الناصر . . ومن يحركونه ! ! .
بدأت عمليات القبض على عشرات الآلاف من خيرة شباب مصر . . وفتحت زنازين السجن الحربي تحوطها الكلاب الجائعة . . والكلاب البشرية المسعورة . . وأحضرت السياط السودانية بطائرة خاصة من لندن وأصبح السجن الحربي " جهنم " الحمراء كما يصفه بعض الجلادين ! ! .
كان الامباشي صفوت الروبي الذي رقى إلى رتبة ضابط شرف مكافأة له على ما أزهق من أرواح ومزق بالسوط من أجساد كان يقول مخاطبا . . بعض المعذبين :
_ اسمع يا ابن إل . . إذا كان ربنا بتاعكم عنده جهنم فنحن أيضا عندنا جهنم ! ! .
ولم تكن السياط إلا مجرد بداية تمزق بها أجساد الضحايا فإذا لم تأت بالنتيجة المرجوة بدءوا باستخدام الأساليب الأخرى . . كاستعمال الصدمات الكهربية فكان يؤمر الضحية بإخراج لسانه ويوضع سلك الكهرباء عليه فيحدث في الجسم هزة مزلزلة . . وكان هناك من الوسائل البشعة " الخازوق " وهو عبارة عن دانة مدفع طوله حوالي 60 سنتيمتر لها رأس مدبب وكانوا يأمرون الضحية بالجلوس عليه ويضطرونه على ذلك الجلوس بالضرب بالسياط مما يحدث له تمزقا وشروخا كانت سببا في آلام رهيبة لا تنتهي إلا بإجراء عملية جراحية ! ! .
وكان في ساحات التعذيب حفر طويلة تستخدم كسراديب للحراس كان يؤتى بالضحية ويلقى في واحدة من هذه الحفر ثم يهال عليه حتى لا يبقى منه شيء تماما كما يحدث مع الموتى حين يوضعون في القبور ! ! .
ورغم ضراوة المذبحة ووحشيتها وهمجية الجلادين ولا إنسانيتهم كان من بين الشباب الذين عاشوا هذه المأساة صنف استعلى بإيمانه فوق العذاب وفضل الموت والخلاص على الانهزام أمام عسف وجبروت الجلادين . . لقد صابر هؤلاء الشباب وصبروا على ما لاقوه من صنوف العذاب وألوان الآلام التي لا يستطيع أن يتحملها بشر لكي يد لوا باعترافات طلبت منهم فرفضوا في إباء واستمروا يقاومون مستعينين بالله يلوذون بإيمانهم حتى اتخذتهم الله من دون الآخرين شهداء هناك في جبل المقطم عشرات الجثث قد ووريت تحت التراب ولا أحد يعرف الآن ونشرت الصحافة المصرية وقتئذ أن هؤلاء الذين استشهدوا في ساحات التعذيب قد هربوا من السجن الحربي وحكم عليهم القضاء الزائف أحكاما غيابية إمعانا في التضليل والكذب . . بل لقد اعتقل الطغاة الأهل والأقارب بحجة أنهم رهينة حتى يحضر الهاربون .
وكان إسماعيل الفيومي الحارس الخاص لجمال عبد الناصر أحد هؤلاء الشهداء . . بل كان الشهيد الثاني في مذبحة السجن الحربي لقد جن جنون الطغاة عندما اعترف علي عشماوي علي إسماعيل الفيومي . . فذهبوا إليه وقبضوا عليه وأحضروه إلى السجن الحربي وكان مفاجأة أذهلتهم وفجرت الغيظ في قلوبهم لقد خدم إسماعيل الفيومي في حرس جمال عبد الناصر الخاص ثماني سنوات ولو أراد قتل عبد الناصر لقتله . . ولكن لم يحدث . . قال لي زميل الشهيد إسماعيل الفيومي واسمه عبد المنعم وكان يعمل مع إسماعيل الفيومي في حرس جمال عبد الناصرمنذ عام 1958 حتى يوم القبض عليه :
_ أنا زميل الشهيد إسماعيل الفيومي . . كان تجنيدا واحدا وبعد أن قضينا فترة الجيش التحقنا بالبوليس وخدمنا معا في قسم الخليفة لمدة ثمانية أشهر ثم طلبنا إلى رئاسة الجمهورية وأجرى لنا اختبار مع أكثر من 150 فردا ونجحنا مع عشرين وكان إسماعيل الفيومي الأول وكنت أنا الثاني . . دربونا ستة أشهر على ضرب النار وكان إسماعيل الفيومي ممتازا فعينوه معلما في مدرسة ضرب النار وأخذوني أنا حراسة في داخل منزل عبد الناصر وكانت أي سفريه للرئيس نطلع أنا وإسماعيل وأثناء وجود الرئيس عبد الناصر في الإسكندرية نبقى معه والشهيد إسماعيل طول الشهر وكنت أنا أزامل إسماعيل لأنه كان رجلا ممتازا في خلقه فطرته طيبة . . مؤمنا . . متدينا وكنا طول النهار نقرأ القرءان ونتدارسه .
قبل القبض علي إسماعيل الفيومي بيومين كنا في القطار الخصوصي في عربة الرئيس عبد الناصر وكان في القطار جميع الوزراء . . ثاني يوم قالوا قبضوا على إسماعيل الفيومي لأنه من الإخوان المسلمين . . وعجبت كيف خفي عنهم أنه من الإخوان المسلين طوال الثماني السنوات التي كان يعمل فيها حارسا خاصا لعبد الناصر والمفروض أن المخابرات تكتب عن كل واحد من الحرس تقريرا كل ستة أشهر لقد أحسست أن في الأمر شيئا غامضا - كنت أظنه أولا أنه صراع بين الرئاسات – أقصد رئاسات الأجهزة ! ! .
لقد نشرت الصحف أن إسماعيل الفيومي كان سيغتال عبد الناصر قلت في نفسي لو أن إسماعيل الفيومي كان ينوى قتل جمال عبد الناصرلقتله قبل القبض عليه بيومين فقط حيث كنت أنا وهو في القطار المخصوص وكان معي طبنجة وكان مع إسماعيل طبنجة وكان بالقطار جميع الوزراء وكان بالإمكان القضاء على جمال عبد الناصروجميع من معه ! ! . ولما نشر بالجرائد أن إسماعيل كان سيضرب عبد الناصر من الخلف أنا كنت في ذهول أن عبد الناصر كان أمامنا قبل يومين من القبض عليه وكان إسماعيل يستطيع أن يقتله ببساطة .
لقد كنت أنا وإسماعيل ملازمين لجمال عبد الناصرفي الحراسة وكنا نجلس في الصف الثاني ونقف منه على بعد خطوات ! ! .
وبعد القبض على إسماعيل انتظرت القبض على أنا أيضا لأني كنت أقرب الناس لإسماعيل وأول من يقبض عليه بعد القبض على إسماعيل . . نزلت مصر وذهبت إلى الرئاسة وجدت الجو متغيرا ورأيت وجوها غريبة تتعقبني عرفت أنها من المخابرات . . كان لي زميل اسمه ( حجازي ) يردد دائما أن إسماعيل لن يعترف على أحد غيري بعد أيام قبض على حجازي هذا ولم يقبض على في هذه الفترة أشيع أن إسماعيل هرب من السجن الحربي . . لم أصدق كيف يهرب إسماعيل من السجن الحربي . . أنا قلت إسماعيل لم يهرب إسماعيل مات من التعذيب . . كل زملائي الذي أثق فيهم أمنوا على كلامي وقالوا أنه مستحيل أن يهرب أحد من السجن الحربي ! ! .
وفي يوم جاء أمر بالقبض على كل واحد في الحرس الوطني اسمه " عيد المنعم " أخذوا كل من اسمه " عبد المنعم " وجمعونا في عربة وأمرونا أن تردي الملابس المدنية ثم ذهبوا بنا إلى السجن الحربي وعرضونا على احد بلديات إسماعيل المقبوض عليهم في السجن الحربي – كنت أظن أني أنا المقصود والمطلوب التعرف عليه . . ولكن لم يتعرف على أحد منا . . وفي اليوم التالي أحضرونا أيضا ولكن بالملابس الرسمية وحققوا معي .
_ أنت تعرف إسماعيل الفيومي .
قلت :
_ الله يرحمه ! ! ولم أكمل العبارة انهالوا على بالضرب وقالوا لي :
_ كيف عرفت أنه مات ؟ ! .
قلت :
_ كل الناس يقولون أنه مات . .
حذروني من التحدث بهذا الكلام . . وقتها أيقنت أن إسماعيل قد مات ! ! . سألوني :
_ هل إسماعيل كان من الإخوان المسلمين ؟ ! . .
قلت :
_ المخابرات أولى مني بمعرفة ذلك لأنها تكتب عن كل واحد تقريرا كل ستة أشهر وتعرف عنا كل صغيرة وكبيرة ! ! .
ويضيف " عبد المنعم " زميل الشهيد إسماعيل الفيومي :
_ بعد القبض على إسماعيل الفيومي غير عبد الناصر عددا كبيرا من حرسه فعزل 300 عسكري من الحرس لأنهم متدينون كل إنسان يشعر أنه على قدر من التدين أو حتى مجرد أنه يذهب إلى المسجد يعزله ! ! .
وقال لي الأخ عبد الحميد عفيفي بلديات الشهيد إسماعيل الفيومي :
_ قابلت إسماعيل أول مرة في دورة المياه في السجن الحربي وكان هو يسكن الزنزانة 144 في يوم رأيته نازلا وقد طلبوه للتحقيق جلست انتظره حتى يرجع . . فرأيته عائدا في الليل متعبا ماشيا يستند على الحائط وكان يرتدي ملابسه التي كان نازلا بها ولكنه يرتدي " أفرول " أزرق لأنهم كانوا يمزقون الملابس قبل التعذيب .
وقال لي سليم العفيفي صديق إسماعيل الفيومي وبلدياته :
_ إسماعيل ابن بلدي عشنا حياتنا مع بعض وعندما قبضوا غلي سألوني عن إسماعيل وذهبوا ليحضروه . . ثم التقيت به في السجن الحربي وكان يرتدي بنطلونا والتعذيب ظاهرا عليه وبعد أيام وكان الوقت ليلا رأيت الامباشي محمد المراكبي ورأيت معه عسكريين يحملان جردلين وقطعة من القماش ودخلوا زنزانة إسماعيل الفيومي وبعد فترة خرجوا منها وأطفئت أنوار السجن ونزلوا إسماعيل ملفوفا في بطانية وحملوه في عربة وسمعت صفوت الروبي باتشاويش السجن وسفاحه يقول :
_ جهزوه لأجل نخرجه في العتمة ! ! .
ويقول علي عبد الحميد بلديات إسماعيل :
_ قابلت إسماعيل في دورة المياه وسلمت عليه وكان سلاما اسودا أخذت بسببه علقة ساخنة .
وفي اليوم التالي رأيتهم يأخذونه إلى المكاتب للتحقيق وفي آخر اليوم احضروه مضروبا ممزقا لكنه كان يسير على رجليه ورأيته مرة ثانية محمولا على النقالة يحمله الامباشي المراكبي والعسكري رشاد مفراك وتكرر نزوله على النقالة ورجوعه وكنت دائما أنتظره على باب زنزانتي حيث كنت أسكن في الزنزانة رقم 140 وكنت أراه في ذهابه وإيابه . . وآخر مرة رأيته فيها وهو ميت كان ذلك بعد العشاء طلع الامباشي محمد المراكبي مع عساكر آخرين من أجل أن يغسلوا الدماء من على أرضية الزنزانة ولفوا إسماعيل في لفافة بيضاء وحملوه . . وكان صفوت الروبي سفاح السجن الحربي يستعجلهم من تحت . . نزلوا بإسماعيل ووضعوه في المخزن بجوار باب السجن الكبير ثم أطفئت الأنوار وسمعت صوت عربة د خلت إلى حوش السجن ووضعوه فيها وخرجت العربية وخرج معها عدد من الحراس يحملون كوريك . . وفأسا ولكن العربية توقفت فجأة وأضيئت الأنوار خطأ فرأيت العربية وفي الصباح رأيت الزنزانة خالية من سكانها وأيقنت أن إسماعيل الفيومي قد استشهد ! ! . أما والد إسماعيل الفيومي فقال لي :
_ بعد القبض على إسماعيل بخمسة أشهر جاءني اثنان من المخبرين وصحباني إلى القسم وأدخلاني على مفتش مباحث المطرية وقالا لي : " خذ بالك من أولاد إسماعيل . . وإذا أحببت أن تسافر في أي مكان فلا بد أن تخبرنا " .
ثم سمعت من الناس خبر موت ابني بعد أن ذاعت إشاعة هروبه من السجن الحربي . . وحتى الآن لم يصرف لي ولا لأولاده الستة ولا لزوجته أي مكافأة أو معاش وقد أرسلنا إلى المسئولين ولكن لم يصلنا رد حتى الآن .
أما علي عبد المجيد الفيومي شقيق إسماعيل فقال لي :
_ بعد ما أنهى إسماعيل مدة تجنيده عمل في بوليس الأقسام ولكنه لم يسترح لأن جو الأقسام كان ملوثا بالرشوة والفساد فتمنى أن يعمل في بوليس النجدة أو الحرس الجمهوري وكان حظه أن عمل في الحرس الجمهوري فبدأ فيه منذ سنة 1958 وبقى حتى تاريخ اعتقاله في 18 / 8 / 1965 . . في هذا اليوم جاءه أفراد يستدعونه وذهب معهم وحتى يومنا هذا لم نعرف عنه شيئا إلا ما قراناه في الجرائد عن هروبه وما سمعناه من الناس والإذاعات عن قتله في السجن الحربي .
لقد اعتقلت خمس سنوات ونصف بدون سبب إلا لأني شقيق إسماعيل الفيومي .
لقد قدمنا بلاغا إلى النائب العام وفتح التحقيق حول استشهاد أخي إسماعيل وهنا شهود رأوه بعيونهم يعذب حتى فاضت روحه وحمل إلى خارج السجن ودفن في مكان لا نعرفه فهل يرد القضاء الحق إلى أصحابه ؟ ! . إننا حتى الآن لم نصرف مكافأة أخي ولا معاشه ولم يصرف لأولاده الستة أي مليم والدولة أمرها غريب لقد كان إسماعيل زميل خرج من الخدمة بعد الإفراج عنه وصرف مكافأة . . أما إسماعيل فالدولة لم تصرف له أي شيء ! ! .
عندما نشرت تحقيقا صحفيا حول استشهاد إسماعيل الفيومي في مجلة الإذاعة والتليفزيون وصلني خطاب من السيد حامد أحمد يوسف مدير إدارة الشئون العامة بشركة مطابع محرم بك وعضو مجلس محلي محافظة الإسكندرية جاء فيه موجها خطابه للأستاذ ثروت أباظة :
" بالنسبة لما نشر في العدد رقم 2130 الصادر في 10 / 1 / 76 بعنوان الحارس الخاص أول ضحايا مذبحة السجن الحربي . . تحقيق جابر رزق رأيتني مشدودا إلى كتابة هذه السطور إليكم لأن عندي معلومات شاءت ظروفي معرفتها بشأن هذا الموضوع حيث كنت ضابطا بشرطة مديرية أمن الإسكندرية منذ سنة 1955 حتى 14 / 9 / 1967 وهو تاريخ اعتقالي بمعتقل القلعة بتهمة كاذبة وهي الاشتراك في اتفاق جنائي لقلب نظام الحكم مع زملاء لي آخرين بشعبة البحث الجنائي بالإسكندرية التي تشرفت بالعمل بها فترة حوالي عشر سنوات وبرأت ساحتي محكمة أمن الدولة العليا ( دائرة عسكرية ) ومكثت بالمعتقل فترة حوالي تسعة أشهر كان في الزنزانة المجاورة لي حمزة البسيوني الذي كان قد قبض عليه عقب ما قالوا عنه مؤامرة المشير عبد الحكيم عامرولمست فيه حبه للإطراء على شخصه وحتى يطمئن إلى كنت أبدي له إعجابي به فترة أن كان بالسلطة فكان يتباهى دائما بأنه كان الآمر الناهي بالسجن الحربي لا معقب له على ما يراه . . وفي إحدى مرات الحوار معه سألته عن الشهيد إسماعيل الفيومي ذاكرا له بأنني خلال عملي بالمباحث الجنائية بالإسكندرية وردت لنا نشرة عن مصلحة الأمن العام تفيد هروب المذكور من السجن الحربي وبها صورته . . وكنا نعلم أنها مجرد طريقة كانت تلجأ إليها السلطة في ذلك الوقت لينتشر الخبر شعبيا ويؤيد تضليلهم لجماهير الشعب . . فضحك قائلا :
_ هي الجرائد بتاعتكم مش قالت أنه هرب وحتى ظهر في سويسرا ؟ .
فقلت له :
_ كلنا نعرف أن الجرائد تخضع لإشراف الاتحاد الاشتراكي والسلطة الحاكمة وبالتالي تنشر ما يملئ عليها أنما الحقيقة غير كده . . وأنا مسجون مثلك ولست ضابطا يقوم باستجوابك " بابا اللواء " وكنت دائما أناديه بذلك اللقب ! ! .
فرد بهدوء ودون تفكير :
_ والله الولد ده أنا بريء من دمه . . فأنا كنت أقضي وقتا سعيدا في الإسكندرية ولما رجعت وجدته انتهى فقلت لهم يتصرفوا كالعادة . .
فاستفسرت منه عن كيفية التصرف فقال :
_ " بسيطة في فترة الإظلام بعد المغرب تطلع الجثة في سيارة السجن وتلقى بالجبل الأصفر وتوارى التراب في أمكنة بعيدة عن أعين الناس وترجع . . وأشكل مجلس تحقيق لرجال القوة التي كان منوطا بها حراسة زنزانته وأوقع على التحقيق بخصم 15 يوم من مرتب المستجوب على الورق بس وأركن المحضر ثم أعطيه مكافأة مالية مقابل توقيعه على المحضر . .
وهكذا كانت تكتب نهاية إنسان شريف لم يرتكب ذنبا سوى أن شهد أن لا اله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله , مواطن كريم كرمه الله وجعله خليفته في الأرض ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " . .
السيد الأديب الكبير . . ثروت أباظة :
هذه الكلمات أسطرها لكم تاركا لسيادتكم ما ترونه فان شئتم نشرها فلكم تحيتي وان لم تشاءوا فلكم خالص شكري .
وفقكم الله وهيأ لكم من أمركم رشدا . . وتفضلوا تحياتي والسلام عليكم و رحمة الله وبركاته تحريرا في 14 / 1 / 1976
إمضاء
مدير إدارة الشئون العامة بشركة مطابع محرم بك
وعضو مجلس محلي محافظة الإسكندرية
ولم ينشر الخطاب بسبب نقل الأستاذ ثروت أباظة إلى جريدة الأهرام والأمر بإيقاف سلسلة تحقيقات التعذيب بعد أن تحدث عنها رئيس الجمهورية وأبدى استياءه منها ! ! .
3 – الشهيد . . محمد منيب !
كان الشهيد محمد منيب عبد العزيز يعمل أمينا لمكتبة كلية العلوم بجامعة أسيوط . . وأعطته وظيفته كأمين مكتبة فرصة لأداء الكثير من الخدمات لطلاب الكلية . . بل لطلاب جامعة أسيوط خاصة الطلبة الغرباء عن المدينة . . الذين قد حضروا من قوى ومدن الوجه البحري للدراسة في جامعة أسيوط كان هو الذي يرسل نتائج الامتحانات للطلاب البعيدين عن أسيوط وكثيرا يتراسلون معه . . ويأنسون إليه ويصادقونه . . يجدون فيه أخا أكبرا . . ونعم الأخ .
لقد كانت إحدى الرسائل التي وصلت إلى محمد منيب عبد العزيز سببا في تعذيبه حتى الموت . ويروي الأخ زكريا التوابتي أحد الذين عاشوا مع الشهيد محمد منيب عبد العزيز حتى لحظاته الأخيرة . . يقول :
_ في يوم الجمعة 10 / 9 / 1965 دخلت بنا سيارة الشرطة العسكرية تحمل ما يقرب من عشرين معتقلا إلى السجن الحربي . . وعندما دخلنا من البوابة السوداء لهذا المكان الرهيب تعرضنا للكثير من الإهانات من سب وصفع . . وان كان ذلك لا يعد شيئا إذا قيس بما حدث للوافدين إلى " باستيل " عبد الناصر في غير يوم الجمعة حيث تتوقف التحقيقات وتسكت حركة وحوش غابة السجن الحربي لأن يوم الجمعة كان أجازة الجلادين .
وبعد أن أنهيت إجراءات تسليمنا وتسلمنا وتفتيشنا وتسلم أماناتنا التي سرقوا بعضها وأثبتوا بعضها الآخر . . قادونا إلى " المخزن " وهي حجرة واسعة على يمين الداخل من بوابة السجن الكبير وعندما دخلنا المخزن وجدنا بعض أفراد أذكر أنهم الخمسة والسبعة منهم دكتور أستاذ في كلية صيدلة وطبيب عظام اسمه الدكتور إبراهيم عبيد من الإسكندرية وطالب بكالوريوس علوم واثنين من إخوان السويس . . والأخ الشهيد محمد منيب ويعمل أمين كلية العلوم جامعة أسيوط . . المهم بلغ عددنا في المخزن ستة وعشرين معتقلا عشنا أياما رهيبة نفترش الإسفلت على بقايا بطاطين ولكن بدون غطاء ! ! .
ومنذ اللحظة الأولى لاحظت أن الأخ الشهيد محمد منيب أشد تعرضا للإيذاء من كل من في المخزن من زبانية السجن الصغار أمثال " سامبو " فكنا عندما نؤخذ إلى دورة المياه صباحا في مجموعات كان هو أكثر تعرضا للضرب . . ففي الذهاب والإياب كان يتعرض للصفع والضرب على أية صورة دون سبب أو حتى مبرر مصطنع كعادتهم ومن سامبو بالذات . وبدأت في ذلك اليوم في التعارف معه : عرفت أنه أمين مكتبة كلية العلوم بجامعة أسيوط ودهشت عندما عرفت أنه من الصعيد فقد ظننت من لهجته أنه من الشرقية أو من أي إقليم من أقاليم الوجه البحري التي تتكلم بلهجة قريبة من لهجة الوجه القبلي فقد كان محمد منيب أبيض الوجه . . ملون العينين يميل شعره إلى اللون الأشقر الغامق . . و عرفته بنفسي وأنني أسكن قرية مجاورة للمحلة الكبرى . . ووظيفتي , وبدأت اسأله عن بعض الطلاب من قريتنا بكلية العلوم بجامعة أسيوط . . وكانت مفاجأة لي أن وجدته يعرفهم جيدا . . وزاد هذا من تقاربنا وقد هيأت محنتنا . . وتجاورنا في المكان ومعرفته لأبناء قريتي وأصدقاء لذلك كله .
في اليوم التالي السبت 11 / 9 / 1965 لم يكن قد بدأ التحقيق معه بعد , ونودي على البعض من إخوان المحلة الكبرى , ثم ما لبث أن استدعى الأخ شمس الدين السندي . والأخ الشهيد محمد منيب . . وعاد إخوان المحلة وقد ضربوا وبدت آثار التعذيب على أيديهم خاصة وأبدانهم بصفة عامة . . ولكنهم كانوا يمشون على أقدامهم في وقت متأخر لا أذكر إن كان قبل العصر أم بعده جيء بالأخ شمس الدين السندي والأخ الشهيد محمد منيب في حالة يرثى لها يسوقهما جنود السجن في فظاظة من صفع وضرب بالأيدي . . كان كل من الأخوين قد عذب تعذيبا مبرحا ينذر بخطر جسيم على حياتهما ورغم أن البعض من أفراد مجموعة المحلة الذين عادوا قبلهما وعلى أجسادهم آثار الضرب بالكرباج ورغم ما قالوه من وحشية وبشاعة ما يجري في مكاتب التحقيق التي يجريها شمس بدرانوأعوانه من أمثال حسن كفافي ورياض إبراهيم وإحسان العاجاتي وغيرهم من زبانية عبد الناصر فلم نتصور أن يبلغ حد التعذيب هذا القدر المميت , وأيضا وضح أمامنا الطريق والمصير قبل أن يحقق مع أكثرنا . . أخذت أجادل نفسي في تفحص جسد الأخ الشهيد محمد منيب كنت مصرا على تسجيل تلك البشاعة في مذكرتي .
كانت كفاه ويداه كلها وساعداه إلى ما بعد المرفق كتلة مشوهه لا أثر فيها للصورة السليمة التي خلقنا الله عليها , وكانت قدماه وساقاه إلى ما بعد الركبة على نفس الصورة من التشوه الكامل , وكأن كمية الضرب بالكرباج يمكن أن تكون عدد غير محدد , فبدا موضع الضرب في كثير من الأماكن غائرا وكأن الكرابيج كانت تتوالى على الموضع الواحد فتنثر لحمه ودمه حتى تعمق تلك الجروح حتى لتوشك عظامه على الظهور مجردة مما يكسوها , وفي مختلف بدنه كانت تتناثر مثل هذه الآثار , ولكن التركيز على تلك المواضع التي ذكرت , ولاحظت عند نقله ووضعه في مكانه إلى جواري وفي حالات تصحيح وضع نومه أنه يتألم من أماكن في ظهره وضلوعه وكأنها دكت دكا بلكمات أو مثل ذلك , وكانت جروحه البشعة قد تأكسد الدم فيها فمالت إلى السواد , وقد سارع الدكتور إبراهيم عبيد بإخراج " روب " أحمر قاتم وغطى به جسد الأخ الشهيد منيب الذي بقى بالفانلة والكلسون لتعذر إلباسه بدلته التي خلعها عند التحقيق معه كشأنهم عند التحقيق والتعذيب , وكان تعذيب الأخ شمس الدين على مستوى قريب من تعذيب الأخ منيب وان لم يكن في حجمه , وانحنيت على الأخ الشهيد محمد منيب أحاول فهم شيء منه متسائلا . . لم كل ذلك ؟ .
وتمتم من خلال آلامه . . وجدوا خطابا معي عند اعتقالي به بعض عبارات تحتاج إلى تفسير , ومعرفة مرسل هذا الخطاب لأنه وقع توقيعا غير واضح . . فذكرت لهم أنني في الجامعة يقصدني الطلاب من أبناء الوجه البحري لأرسل لهم نتائجهم بعد الامتحان توفيرا لمشقة الطريق والمصاريف , وبعضهم يرسل لي يشكرني , وهذا أمر شائع ومعلوم عني في الكلية ويجري ذلك معه أعداد كبيرة لا تربطني بهم صلة شخصية أو صداقات مستمرة , لذلك لا أعرف أسماء أكثرهم .
والعبارة التي وردت في الخطاب المذكور بعد بعض التحايا والثناء والشكر " خد بالك من الكتاكيت " . . هذا المضمون الذي ذكرته استخلصته بصعوبة أنا والدكتور إبراهيم عبيد من الشهيد منيب بسبب حالته المؤلمة , وقد نصحه الدكتور إبراهيم عبيد إن كان لدي ه شيء أن يقوله لهم , لأنهم لن يتركوه وذلك حرصا على حياته , فنفى علمه بشيء عنها وعن مرسل الخطاب تماما .
حاول الإخوان الاستفسار من الدكتور إبراهيم عن مدى خطورة حالته باعتباره طبيبا , ولكنه تكلم كلاما مبهما محاولا بث الطمأنينة ولزم الصمت عن ذلك وشغل برعاية الأخ الشهيد منيب ومتابعة حالته , وقد حاولت بدوري أن استفسر عن حالة الأخ منيب فكان يجيب إجابات عامة غير محددة , والأخ الدكتور إبراهيم عبيد سبق اعتقاله عام 1954 ويعرف كيف تسير الأمور في السجن الحربي ولذلك حضر ومعه حقيبة كبيرة مليئة بملابس صيفية وشتوية منها ذلك " الروب " الذي غطى به جسد الشهيد منيب سترا له ولجروحه حماية لها من الذباب الذي غزا المكان بكثرة .
وران الصمت أكثر مما كان , وامتنع ذلك الهمس الذي كنا نجري به أحاديثنا القليلة في ذلك المكان , وشغلنا برعاية الأخوين شمس الدين ومنيب , والتخفيف عنهما ومحاولة إطعامهما أو تسكين تأوهاتهما وتوجعا تهما , وفي اليوم الثالث أدهشنا مجيئهم في طلب الأخ الشهيد محمد منيب , فقد قررنا أنه لا يصلح لمجرد الكلام معه , وأنه ليس في جسمه ما يمكن أن يصلح لمجرد اللمس . . جاء الجنود وامتدت أيديهم إليه بالصفع لأنه لا يستطيع المشي من مكانه إلى مكاتب التحقيق أو حتى لمسافة متر واحد , فقد كانت حالته بالغة السوء , ولم نكن نتصور أن تبلغ الوحشية بالبشر وسوء التقدير والعمى , بهؤلاء الجنود الذين جندوا في خدمة جيش يصد عن وطنه الغزاة ويحمي الدمار انقلبوا إلى جلادين يمسكون بكرابيج يتناولوننا بها في وحشية أثارت أحد اليهود المعتقلين بالسجن الحربي أثناء نكبة أو خيانة يونيو 1967 فثار في وجوههم معترضا في غضب .
أخيرا لم يجد هؤلاء الوحوش الصغار من جنود السجن الحربي مفرا من حمل الأخ منيب في بطانية أمسكوا أطرافها وذهبوا به إلى مكاتب التحقيق , وخلال ذلك الوقت كنت أفكر في هذا الأخ الصديق أخا المحنة والمصير , وأخا الغاية ورفيق الطريق . . أخذت استعرض أمسه الدامي , وجروحه وأوجاعه , ونوبات الغفوة التي كانت تنتابه فلا تستمر إلا دقائق ليفيق منها وكأنها إغماءة وليست غفوة , يتخلل ذلك نوع من الهذيان فأسمع كلمات مبهمة نحو :
" النتيجة ستعلن في 23 يوليو " وغير ذلك مما لا تعي ه الذاكرة الآن , مرت ساعة أو أقل قليلا وأنا على ذلك الحال ثم يفتح باب المخزن , وأفيق من خواطري والوحوش الصغيرة تلقى ألينا بالأخ الشهيد محمد منيب داخل البطانية , ودهشنا جميعا للسرعة التي أعيد به ألينا مرة أخرى . . وعندما حملناه إلى مكانه لم يكن يحس آلاما كثيرة أو كادت تكون معدومة , والمدهش والموجع معا أن يعود إلينا مضروبا مرة أخرى . . كيف عرفت ذلك ؟
تلك الجروح التي جفت وقد اسود لونها عادت تنزف دما في مواضع من جسده ما زال أحمر قانيا . . أيمكن أن يحدث هذا ؟ !
نعم . . نعم حدث ذلك في السجن الحربي وفي سبتمبر 1965 , ومضى وقت قصير أ قل من ساعة أيضا كنا نرقب فيها الأخ الشهيد محمد منيب في انتظار تلك اللحظة , لم يجرؤ أحد على التساؤل إلا من نظرات نلقيها علي الأخ محمد منيب ثم ننتقل بها إلى وجه الدكتور إبراهيم عبيد , كان الأخ محمد منيب قد كف عن التوجع تماما , وقبل نهاية تلك الساعة كان صغار وحوش غابة الحربي يفتحون باب المخزن في عنف ودون أن نستدعيهم , وفي البطانية سجى الشهيد محمد منيب في عنف ملفوفا بذلك " الروب " بينما يعالج سكرات الموت , وخرجوا هذه المرة ولم يعودوا به مرة أخرى .
من نافذة المخزن الذي يقع في مواجهة مبنى العيادة تقريبا رآهم بعضنا وهم يدخلون به إليها , ولعله لم يبلغ العيادة حيا . . فقد كان الشهيد محمد منيب على حافة الشهادة إن لم يكن قد ولج أرضها المباركة بإحدى قدميه فعلا خلال تلك الدقائق منذ خروجه إلى مبنى العيادة , وحيث تحمل أجساد الشهداء بعد ذلك إلى رمال الجبل في مواجهة السجن الحربي , ثم يدون أمام اسمه في السجلات كلمة واحدة . . هارب ! ! ويقول الأخ المهندس طاهر سالم . . وكان وقتئذ طالبا بكلية هندسة جامعة أسيوط وأحد أصدقاء الشهيد محمد منيب .
_ كان محمد منيب عبد العزيز أمينا لمكتبة كلية العلوم – جامعة أسيوط – وكان دمث الخلق محبوبا من كل الطلاب الذين يترددون على المكتبة ومن أساتذة الكلية . . لقد . . رأيت محمد منيب في السجن الحربي وهو يعذب في مكتب حسن كفافي والرائد عاصم العتر وصفوت الروبي . .لقد علقوه من يديه ورجليه وأخذوا يمزقون جسده بالسياط حتى إذا ما أغمى عليه أفاقوه ثم يوقفونه ويرغمونه على الجري في دائرة يحوطها الجلادون الذين يصفعونه ويركلونه حتى يسقط من شدة الإعياء فينهضونه بالسياط ويعيدون معه الكرة . . لقد كان الموت إنقاذا له من جحيم العذاب ! ! .
وقال المهندس فاروق الصاوي :
_ أمر حسن كفافي بتعذيب الشهيد محمد منيب حتى سالت الدماء من ساقي ه وفي اليوم التالي استدعاه حسن كفافي وضربه على جروحه بقسوة وأمر صفوت الروبي العسكري الأسود علي عبد الله . . وعبد المحسن أحد رجال المباحث العسكرية بضربه فانهالوا عليه ضربا . . وكان حسن كفافي يصرخ في محمد منيب قائلا له : _ اعترف أحسن أموتك . . من هم زملاؤك في التنظيم ؟ من هم أعضاء أسرتك ؟ ! من هم " الكتاكيت " الصغار الذي يوصيك بهم أحد أصدقائك في إحدى الرسائل التي أرسلها إليك .
لقد كانت العبارة التي عذب من أجلها الشديد محمد منيب حتى لقي ربه هي : خلي بالك من " الكتاكيت " . . جاء ت في رسالة من رسائل أحد أصدقاء الشهيد وعندما اشتكى والد الشهيد محمد منيب إلى مكتب جمال عبد الناصر. . فأرسل يستفسر من الشرطة العسكرية فردت عليه . . انه بعد اعتقاله بأسبوعين أرسل السجن الحربي للمباحث يخطرها بأنه تمكن من الهروب أثناء التحقيق معه ! !
4– شهيد كفر شكر
لم تكن المصيبة التي تلحق بأسرة كل من استشهد في السجن الحربي . . أو في أي سجن آخر تقف عند حد فقد الشهيد ولكن أقسى من فقدان الشخص هو اتهامه بأنه قد هرب من السجن لأن معنى هذا الهروب أن تضيع كل مستحقاته في المكافأة أو المعاش . . وتضيع بذلك الأسرة كلها الزوجة والأولاد ! ! وهذا ما حدث لأسرة التي فقدت رجلها . . حدث لأسرة الشهيد محمد عواد . . وحدث لأسرة الشهيد إسماعيل الفيومي . . وحد ث لأسرة الشهيد محمد علي عبد الله شهيد كفر شكر الذي سأروي لك قصة استشهاده . . وهنا يصدق المثل الشعبي على هؤلاء الإخوة الشهداء الذي يقول :
" موت وخراب ديار " ! !
والشهيد محمد علي عبد الله كان يعمل مدرسا بمدرسة كفر شكر بلد وكريا محي الدين صاحب مذبحة طره التي راح ضحيتها 26 شهيدا من الإخوان .
كان عمر شهيدنا محمد علي عبد الله 48 سنة . . وكان له ثلاثة أولاد وزوجة .
لقد قبضوا عليه يوم 31 أغسطس سنة 1965 وذهبوا به إلى سجن بنها وبقى أربعة أيام عاد بعدها إلى منزله وهو – كما تقول زوجته – في حالة سيئة جدا عندما خلع ملابسه ورأيت جسمه كله باين عليه أثار الضرب بالكرابيج . . وكان متسلخا . . وملابسه لاصقه بجروحه . . ولما سألته :
_ من الذي ضربك هكذا ؟ ! .
أجاب :
عذبوني كي يرغموني علي أن أعترف على حاجات أنا لم أعملها لقد اتهموني بأني من الإخوان المسلمين . . ولم يبق الشهيد محمد علي عبد الله في منزله أكثر من أربعة أيام حتى حضر إليه من أخذه مره ثانية ولكن هذه المرة ذهبوا به إلى السجن الحربي . . ولم يعد حتى اليوم . . ويقول علي حسن عبد الله . . ابن عم الشهيد محمد علي عبد الله :
عندما عرفت مع أولاد خبر عودة ابن عمي إلى بيته توجهت إليه ووجدته مجهدا ولا يستطيع الجلوس ويتألم ألما شديدا فسألته عن السبب فقال لي :
_ لقد أخذوني لأني متهم بأني من الإخوان المسلمين وذهبوا بي إلى مكتب مباحث شبرا الخيمة وهناك عذبوني كي أدلي بأقوال تثبت أنني من الإخوان المسلمين . . لقد عذبوه بالضرب بالكرابيج . . وأنهم ربطوه ووضعوه في برميل مياه . . وبقى أبن عمي أياما قليلة في بيته ثم ألقي القبض عليه مرة ثانية فذهبت إلى ضابط مباحث المركز وسألته عليه فقال لي :
لا تسأل عنه . . وهو بكره سيأتي . . ولكنه لم يعد . . وبعد حوالي عشرين أو 25 يوما " المخبرين " في المركز سألوني عن ابن عمي . . وقالوا لي :
_ هو ابن عمك لم يأت ؟ . .
قلت لهم :
_ لا . . لم يأت ابن عمي ! ! .
فقالوا لي : _ انه هرب من السجن الحربي وان النشرة الجنائية تقول هكذا . . فأخذت منهم النشرة ولقيت فيها مكتوبا ابن عمي هرب . . ولما قال لي المخبرون ما قالوا لم أصدق لأن ابن عمي كان مجهدا جدا عندما رأيته يوم 4 / 9 / 1965 عندما أفرج عنه في المرة الأولى ولا يستطيع أن يهرب . . وتذركن ما قاله لي ابن عمي من أن هناك ناس كانت تعذب ولما يموت الواحد منهم من التعذيب يقولون عنه قد هرب . .وروى الأخ كمال أحمد إبراهيم الذي كان يسكن مع الشهيد محمد علي عبد الله في زنزانة واحدة هو والأخ محمد عاطف شاهين والأخ يوسف فرج والأخ علي سبيع . . يقول كمال :
_ لقد كنت معتقلا في زنزانة واحدة مع الشهيد محمد علي عبد الله بالسجن الكبير في الزنزانة 99 مع الأخوة علي سبيع . . وعاطف شاهين . . ويوسف فرج وقد تعارفنا جميعا على بعض وبقى الشهيد محمد علي عبد الله معنا حوالي عشرة أيام تعرفت عليه خلالها وعرفت أنه كان متهما بأنه من الإخوان المسلمين وحدثني أنهم قد اعتقلوه مدة بسيطة ثم أفرجوا عنه وبعد الإفراج بيومين أو بثلاثة قبضوا عليه مرة ثانية وأحضروه إلى السجن الحربي بالقاهرة . . وقد أدخل علينا الزنزانة خلال شهر سبتمبر سنة 1965 . . وفي أحد الأيام جاء احد الحراس ونادي على اسمه وقال له :
_ أنت مطلوب للاستجواب ! ! .
وأخذه . . وذهب به إلى التحقيق . . عاد لنا بعد ساعة ورأيت رجليه كلها متشرحة داير . . داير وباين عليها آثار ضرب الكرابيج وتنزف دما فسألته :
_ أيه الحكاية ؟ ! .
فقال :
_ أن العسكري أخذه للاستجواب وذهب به إلى مكتب واحد ضابط اسمه حسن كفافي وكان الضابط يقول له : _ تكلم . .
فكا يرد على الضابط حسن كفافي ويقول :
_ أنا ما عنديش كلام . . ولما رفض أن يتكلم قام حسن كفافي وأمر العساكر فكتفوه وعلقوه وضربوه بالسياط . . ولما اشتد عليه الضرب قال لحسن كفافي :
_ يا بيه ارحمني . . ! ! . . فرد عليه حسن كفافي وقال له :
_ لو فتحت صدري ما تلاقيش فيه قلب ! ! .
واستمر العساكر يضربونه حتى مزقوه . . ثم أعادوه إلينا في الزنزانة . . وقد حكي لي الشهيد قصة تعذيبية . . وبعد حوالي ثلاثة أيام كانت ساقاه تزداد سوءا . . وتورم أكثر وتغير لونها بعد أن كانت حمراء من الضرب ازرقت . . وبدأت تنتابه حالات صرع يتشنج فيها ويفقد وعيه وكنا ندق على باب الزنزانة عشان يأتي أحد ويلحقه أو يذهبون به إلى المستشفي ويعملون له اللازم . . كان الكلام ده ليلا . . وجاء أحد الحراس وقال لا يوجد أحد في المستشفي الآن . . غدا صباحا . . نذهب به . . وبقى الشهيد محمد علي عبد الله فاقد الوعي طول الليل وبين الحين وال حين يصدر منه أنين . . وفي الصباح حضر أحد العساكر وقال لنا : هاتوا الولد اللي عندكم ! !
فحملته أنا وأحد زملائي في الزنزانة وهبطنا به السلم وسلمناه لأحد العساكر ويعمل تمرجيا وكان يوجد سرير في الحوش بج وار فسقية الماء فقال لنا :
_ ضعوه على السرير . . فوضعناه على السرير جالسا . . وعندما جلس على السرير شهق شهقة ووقع على السرير . . ومات ! ! .
وعندها أمرنا العساكر للخلف در . . ودرنا بالخطوة السريعة إلى الزنزانة ولا نعرف ماذا حدث بعد ذلك ولكن العساكر حضروا وأخذوا مهماته ولا أعرف أين ذهبوا بها .
ويقول الأخ علي سبيع :
عندما عاد الشهيد محمد علي عبد الله من التحقيق كان مجهدا وكان مصابا في رجليه وساقيه وملابسه غرقانة دم وكانت رجليه بالذات متشرحة وعلامات الكرابيج عليها وكان فيها إصابات في بقية جسمه ولكن الإصابات التي كانت ملفته للنظر كانت في رجليه وساقيه وكان يتألم ويطلب ماء ليشرب . . والتففنا حوله أنا ومن معي في الزنزانة وقد قال لي الشهيد أن حسن كفافي قال له لازم تعترف وتقول على نشاطك الإخواني وعلى التنظيم اللي هو فيه . . فلما قال له :
انه من بلد زكريا محيي الدين وما يقدرش يقوم بنشاط إخواني ضربه حسن كفافي بالكرباج وقال للعساكر علقوه في الفلكة واضربوه بالكرابيج لغاية ما يعترف وبقى حوالي ثلاث أيام تقريبا وكان يريد أن يشرب ماء على طول واستمرت رجلاه في التورم ولونهما تغير وبدأ يغمى عليه . . وكنا نفوقه . . ولكن بعد ثلاثة أيام فقد وعيه ولم يفق هذه المرة فخبطنا على باب الزنزانة لكي يحضر إلينا عسكري كي يأخذوه للعلاج وأخيرا فتحوا باب الزنزانة وقالوا لنا :
شيلوه فحملته أنا وكمال خالد ويوسف فرج ومشينا به في السجن الكبير لغاية ما نزلنا في حوش السجن حتى وضعناه على سرير جوار الفسقية التي نملأ منها الماء ولما وضعناه على هذا السرير ونظرت في وجهه فوجدته قد مات ولون وجهه تغير ولم نجد فيه نفس . . وأعادنا العساكر إلى الزنزانة وعندما أغلقوا علينا باب الزنزانة وقفت أنظر من نظارة باب الزنزانة رقم 99 وكانت تكشف كل من في حوش السجن ورأيت جاويش البوابة نجم مشهور يهز محمد علي عبد الله وهو على السرير علشان يتحرك ولكنه لم يتحرك لأنه كان ميتا . . فأمر نجم العساكر بإحضار بطانية ولفوا فيها جثة الشهيد محمد علي عبد الله ووضعوها في زنزانة في الدور الأرضي من السجن . . وحضروا وأخذوا جميع ملابسه من زنزانتنا وسمعنا بعد ذلك أنه دفن بمعرفة ناس من السجن الحربي ولكن لا أعرف مكان دفن الجثة ولا من هم الذين دفنوه ! ! .
ويقول الأخ عاطف شاهين :
خرج محمد عبد الله من الزنزانة وهو في حالة طبيعية ورجع بعد ساعات من نفس اليوم وهو عاجز عن المشي ومصابا في رجليه وساقيه . . وظلت حالته تسوء وأخذت ساقاه وقدماه تتورمان ويتغير لونهما إلى اللون الأزرق وكان يطلب ماء بصفة مستمرة واعترته حالات تشنج وإغماء وظل على هذا النحو يوما أو ثلاثة أيام ودققنا على باب الزنزانة لكي يلحقوه ويسعفوه وفي صباح أحد الأيام سمحوا بنقله فقام الأخ كمال خالد ويوسف فرج وعلي سبيع بحمل الشهيد محمد علي عبد الله ونزلوا به وعندما حملوه كان في النزع الأخير فاقد النطق لا يتحرك وعيناه مفتوحتان متصلبتان ! ! .
ويقول عاطف :
_ ظل محمد علي عبد الله ينزف . . وبدأ يفقد الحركة والنطق مع التشنج . . ولقد قمت أنا بنفسي بتلقينه الشهادة عندما أيقنت أنه في الغرغرة وقام زملائي الثلاثة إلى فناء السجن وعادوا بعد ذلك وقالوا لي انه قد مات أثناء وضعهم له على السرير . . هكذا انتهت حياة الشهيد محمد علي عبد الله . . وأقسى من فقد أسرته له . . أن الدولة اعتبرته هاربا . . بل ولا زالت تعتبره كذلك . . ولم تحصل أسرته على معاش سوى اثني عشر جنيها عاشت بها طوال تلك السنين ! !
حكاية الشيخ الاودن !
الشيخ الاودن – عليه رحمة الله – عالم من علماء الأزهر المجاهدين وأب لجيل كامل من المجاهدين المخلصين في الأربعينات والخمسينات سواء كانوا من المدنيين أو من العسكريين . كان بيته مقصدا لكبار الضباط الوطنيين أمثال البطل أحمد عبد العزيز قائد المتطوعين في حرب فلسطين سنة 1948 . . ومعروف الحضريالذي أنقذ قوات الفالوجا من حصار اليهود ورشاد مهنا ومصطفى راغب الذين اشتركوا في الإعداد والتنفيذ لثورة يوليو 1952 . . كما كان يتردد على الشيخ الاودن جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر و كمال الدين حسين وغيرهم قال لي واحد من مريدي الشيخ الأودن الذين كانوا يحضرون جلساته :
_ كان الشيخ الأودن يتكلم في مجالسه وخاصة مع ضباط الجيش في وجوب قيام حركة إسلامية تخرج البلاد من سيطرة الأوضاع التي فرضت عليها داخليا وخارجيا وكان بين الشيخ وهؤلاء الضباط عهود ومواثيق على تحقيق هذا الأمل . . وقامت حركة الجيش في يوليو سنة 1952 وكانوا يترددون على الشيخ لاستشارته فيما يفعلون وأحيانا كانوا يأخذون برأيه وكثيرا ما كانوا يرفضون رأيه . . إلى أن محاكمة رشاد مهنا وبدأ الشيخ يدرك " الهوية " الحقيقية لمن يتحكمون في " دفة الحكم " . . فسعى جهده عندهم حتى لا يحكموا على رشاد مهنا بالإعدام . . وتم له ذلك .
وبدأت علاقة رجال الحكم بعد نجاح حركة الجيش وسيطرتهم على مقاليد البلاد بالشيخ تفتر شيئا فشيئا . . واتسعت الفجوة بينهم وبين الشيخ وحلت الجفوة محل الود وطلب النصيحة حتى جاءه يوما المشير عبد الحكيم عامر يطلب إليه أن يتولى مشيخة الأزهر . . ولكن الشيخ الأودن أدرك اللعبة فاعتذر وتعلل بأن الأزهر بوضعه وقتئذ لا يستطيع الاضطلاع بمسئوليته الدينية إزاء الأحداث ! !
وأدرك رجال الثور أن الشيخ الأودن لم يعد في صفهم وأنه مكمن الخطر عليهم لأنهم يعلمون أنه مركز إشعاع إسلامي لا يمكن إخماده أو شراؤه بمال أو منصب . . فدسوا جواسيسهم بأجهزتهم عليه .
وكان الشيخ يهاجم رجال الثورة ويهاجم أساليبهم وتصرفاتهم مما اضطرهم أحيانا إلى تحديد إقامته حتى واتتهم الفرصة سنة 1965 أثناء مذبحة الإخوان المسلمين فقبضوا عليه هو وأولاده الأربعة وأودعوهم السجن الحربي . . وعمل شمس بدران جهده لتلفيق قضية للشيخ الأودن يستطيع بها أن يطيح برقبته .
وقال لي الأستاذ محمد شمس الدين الشناوي المحامي وأحد تلاميذ الشيخ الأودن .
_ كان الحقد والضغينة يملان قلب شمس بدرانعلى الشيخ الأودن مما جعل شمس بدران يصمم على قتل الشيخ في جريمة كاملة لا تترك أي أثر للتعذيب على جسد الشيخ خاصة وأن الشيخ كان قد ناهز الثمانين من عمره وقتئذ فاتبع مع الشيخ الأودن أسلوبا فريدا في التعذيب لم ينفذ إلا معه ومع الأستاذ حسن الهضيبيالمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين – رحمه الله – الذي كان في مثل سن الشيخ أو يزيد . . لقد حبس مع الشيخ الأودن عددا من الكلاب لمدة شهرين تأكل وتنام وتتبرز وتتبول مع الشيخ في الزنزانة المغلقة عليه حتى أصبحت الرائحة الكريهة التي تنبعث من الزنزانة لا تطاق . . وقد أصيبت الكلاب بالشلل في أطرافها من شدة رطوبة الإسفلت وقسوة البرد وأصبحت لا تكف عن النباح والعواء ليلا أو نهارا بصوت مزعج لكل من في السجن فما بالك بالشيخ الذي يعيش معها ويتنفس في هذا الهواء الخانق الكريه الرائحة ! !
وكان للشيخ طقم أسنان فطلب من الزبانية في السجن أن يحضروه له من منزله حتى يستطيع أن يأكل فأحضروه ولكنهم بدلا من إعطائه له سحقوه وعاش الرجل بدون طقم أسنان وكان معنى ذلك الجوع حتى الموت .
ولقد قال لي الدكتور عبد الستار فتح الله أحد تلاميذ الشيخ الأودن وأحد الذين جاوروا الشيخ الأودن في زنزانته بالسجن الحربي :
_ عندما أقلى القبض علي وقادوني إلى السجن الحربي جال في نفسي خاطر وهو :
من سيتولى العمل للدعوة الإسلامية بعد أن اعتقلت كل هذه الآلاف من الشباب المسلم الطاهر ؟ ! . . فوجدت نفسي أفكر في الشيخ الأودن ولم أكن أتصور أنهم سيعتقلونه هو أيضا . . كان هو الأمل الباقي الوحيد خارج الأسوار يحمل عبء الدعوة الإسلامية . . وكان في هذا الخاطر بعض العزاء لنفسي .
لم تمض أيام حتى رأيت الشيخ الأودن يحمل " قصرية " من الكاوتش ويعرج ! ! وكان رجلا مسنا ذا لحية بيضاء مهيبة يرتدي العمامة والكاكولة . . لقد وضعوه في زنزانة في الدور الأرضي في سجن " 3 " ووضعوا معه عددا من الكلاب المتوحشة وكانوا يضعون له الأكل مع أكل الكلاب من تحت عقب الباب . . ولم يكن مع الشيخ إلا بطانية واحدة رغم برد الشتاء القارس الذي أصاب الكلاب بالمرض . . لقد كانت زنزانة الشيخ الأودن ذات رائحة كريهة نتنة جدا ولا ندري كيف كان ينام الشيخ ولا كيف كان يأكل ؟ ! .
وقال الأستاذ محمد شمس الدين الشناوي:
كان العساكر في ليالي الشتاء القارسة يخرجون الشيخ من زنزانته ويغرقونه في الماء البارد بإلقاء الماء عليه في الزنزانة ! !
وأضاف الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد :
_ لقد سمعنا يوم صياحا في الدور الأرضي ومشاجرة شديدة بين الشيخ الأودن وحراس السجن الحربي لأنه كان مطلوبا للتحقيق وكانت ملابسه قذرة ورائحته شديدة النتن لمجاورته الكلاب داخل الزنزانة فترة طويلة فأراد الحراس إرغامه على الاستحمام بالماء البارد في عز برد الشتاء وهو يرفض لأن صحته لا تحتمل فما كان من العساكر إلا أن القوا عليه الماء بالقصاري .
وفي يوم 20 سبتمبر سنة 1965 أخرجونا من الزنزانات لعمل " فيش وتشبيه " و كان الشيخ الأودن معنا وكانوا يعزلونه عن الإخوان . . أجلسونا في ساحة السجن وأخذ الحراس يتكلمون علينا ويسخرون منا ويوقعون علينا أصنافا من العذاب وجاء دور الشيخ الأودن وإذا بالعسكري " سامبو " يجذب الشيخ من لحيته في عنف ويوجه له أقذع الألفاظ فاحتقن وجه الشيخ ولم يملك أن يعمل شيئا إلا أنه تمتم بكلمات لعلها " حسبنا الله ونعم الوكيل " .
ويقول محمد شمس الدين الشناوي:
_ في صباح يوم 21 / 12 / 1965 حضر إلى صف ضابط اسمه سمير المسئول عن السجن الكبير وقال لي أنت مطلوب لإتمام إجراءات الإفراج عنك وأخذني إلى المكاتب فوجدت عددا من المعتقلين المفرج عنهم مثلي وكان من بينهم أولاد الشيخ الأودن الأربعة وأثناء عملية إتمام الإجراءات حضر شمس بدران فلمحني . . فناداني وسألني : _ إلى أين أنت ذاهب ؟ !
فقلت :
_ قالوا لي أنهم أفرجوا عني . .
فقال لأحد الحراس :
هاته لي في المكتب . .
ولما ذهبت إليه في مكتبه قال :
_ إذا كنت تريد أن تخرج مثل المفرج عنهم م عك فعليك أن تقول ما أطلبه منك عن الشيخ الأودن ثم تخرج . أريدك أن تعترف بأن الشيخ الأودن أرسلك إلى عبد الفتاح الشريف في طنطا لتطلب إليه أن يحضر لمقابلة الشيخ للاتفاق على قلب نظام الحكم وأن الشيخ عنده مجموعة من ضباط الجيش وعبد الفتاح الشريف عنده الإخوان المسلمين . .
قلت :
_ لم يحدث شيء من هذا . .
فقال شمس بدران:
_ أريدك أن تقول هذا . .
وأرسل شمس بدران إلى عبد الفتاح الشريف وأحضره من السجن وقال له :
_ " أريدك أن تقول أن الشيخ الاودن أرسل إليك شمس الشناوي في طنطا لمقابلة الشيخ وتتفقوا على تدبير المؤامرة ! ! "
فقال عبد الفتاح الشريف :
_ والله ما حصل يا أفندم ! !
فقل له شمس بدران:
_ أنا أريد منك أن تقول ما أقوله لك الآن . .
ولما رفض . قال شمس بدران:
_ أتظن أن التعذيب انتهي ؟ ! هات يا صفوت عدة التعذيب ونصبت الفلكة .
ويضيف الأستاذ محمد شمس الدين الشناوي:
_ وأمسك شمس بدران بسماعة التليفون وطلب الرئيس جمال عبد الناصر وقال له أستأذنك يا بابا في إلغاء قرار الإفراج عن محمد شمس الدين الشناوي وأعدك أن أحصل منه على اعتراف يدين الشيخ الأودن وبعدها ترك شمس بدران السجن الحربي وقال :
_ فكر وشاور عقلك . .وسوف أعود لك في المساء . . وبقيت جالسا ووجهي في الحائط من الظهر حتى جاء الليل بظلامه . . وجاء معه شمس بدران. . وطلب من الحراس إدخالي عليه وسألني :
_ " شاورت عق لك . . أننا نريد أن نتخلص من هذا الرجل – يقصد الشيخ الأودن – لأنه مجرم ومصلحة النظام في التخلص منه .
فقلت :
_ لن أقول إلا الذي حدث ! !
فعلقوني في الفلكة . . وبدأ التعذيب لأعترف وأمام فمي يمسك أحد معاوني شمس بدران" بالمايك " ليسجل اعترافي الذي وعد به جمال عبد الناصر. . ولكني لم اعترف بشيء ولم أحقق لشمس بدران بغيته , فانفجر غاضبا وترك الحجرة وقال للصاغ جلال الديب . . ومحمد مصطفى الجنزوري وكانا من زبانية شمس بدران:
" أكملا معه التحقيق . . إما أن يعترف وإلا فاقتلوه ! ! واقترب مني الصاغ جلال الديب وقال :
_ ارحم نفسك وأرحنا وأرح نفسك واعترف . . ولكنى لم أعترف . . فأمرا صفوت الروبي جلاد السجن الحربي بإتمام تعذيبي حتى أغمى علي إغماءة طويلة وخفتت أنفاسي وهدأت نفسي واستمروا في الجلد والضرب على جثتي حتى حضر طبيب السجن وجس نبضي وأنا معلق ثم قال :
_ ماذا تصنعون . . أنكم تضربون جثة ميتة . وطلب حملي إلى المستشفي . . وكانت المسافة بين مكتب شمس بدران والمستشفى حوالي نصف كيلو فأمر صفوت الروبي أن يجرني على الأرض مما أثار طبيب السجن وطلب إحضار النقالة لنقلي إلى المستشفى .
وفي الصباح حضر محمد مصطفى الجنزوري إلى وسألني :
" هل غيرت رأيك أم ما زلت مصرا عليه ؟ !
وأخبرني أن الدولة من مصلحتها أن تتخلص من هذا الرجل المجرم . . وأنني إذا ساعدتها في ذلك فإنها ستكافئني وهي لا تنسى من يخدمها ! !
فقلت له :
_ إنني عاجز عن خدمة دولتكم ! !
فلوح بتهديد جديد . . وفهمت أنهم سيحضرون زوجتي لإكراهي على ما يطلبون . . وفي اليوم التالي وقف على باب زنزانتي المغلقة محمد مصطفى الجنزوري ومعه سيدة وأخ ذ يكلمه بصوت أجش وهي تتكلم بصوت خفيض ثم أمر بها إلى سجن 4 . . وساورني القلق واستقصيت عن السيدة التي كانت معه فأيقنت أنها ليست زوجتي . . وبعد أيام نقلت من المستشفى إلى السجن وقال لي أحد الذين كانوا يقيمون في سجن 3 مع الشيخ الأودن : _ لقد كان حمزة البسيوني يتسلى بإرهاب الشيخ الأودن وفي أحد المرات ربط حبلا في شجرة داخل سجن 3 وأخرج الشيخ من زنزانته وقال له :
_ " لقد حكمنا عليك بالإعدام وسوف ننفذ فيك الحكم الآن " ! !
فلم يزد الشيخ عن ترديد بعض العبارات القرآنية أو الأحاديث لقد ساءت صحة الشيخ الأودن نتيجة الظروف القاسية التي أحاطوه بها كحبسه مع الكلاب , وبعد أن قضى في الزنزانة حوالي تسعة أشهر رأى طبيب السجن أنه قد أشرف على الموت فطلب من شمس بدرانإخراج الشيخ من السجن ليموت في بيته . . وكان موت الشيخ الأودن أمنية شمس بدرانفسمح بالإفراج عنه . . ولكنه لم يمت فقدموه للمحاكمة .
ولما علم الفريق الدجوي أن القضية الخامسة سوف تحاكم أمامه ثار لأن هو الذي حاكم الشهيد سيد قطبقائد جهاز الإخوان والشهيد محمد يوسف هواش والشهيد عبد الفتاح عبده إسماعيل فكيف ينزل عن هذه المكانة ليحاكم مجموعة من المتهمين في جنحة من الجنح ؟ ! !
ولكن لم علم الفريق الدجوي بأسماء المتهمين هدأ لأنه علم أن من بين المتهمين الإمام حسن الهضيبيالمرشد العام للإخوان المسلمين والحاج صادق المزيني أحد أغنياء فلسطين في قطاع غزة والشيخ الأودن والمستشار مأمون الهضيبي . . وغيرهم ممن لفقت لهم التهم لمجرد أن تكون مبررا لإصدار أحكام عليهم وانتهت المهزلة بالحكم على الشيخ الأودن بالسجن لمدة عام مع الشغل وكان قد مضى على إلقاء القبض عليه أكثر من عام . . فأعيد إلى المنزل وبقى رهينا فيه حتى طلبته الحكومة السعودية ليكون أستاذا بجامعة الملك عبد العزيز . . وبقى فيها حتى قضى نحبه . . ودفن في مدينة الرسول في أرض البقيع . . وفي تحقيق النيابة مع الشهيد سيد قطب سئل :
_ " هل لك علاقة بالشيخ الاودن ؟ !
فقال :
_ نعم . . والله كلمني عنه حسين صدقي وأهل بيته وقالوا لي أنه كان دائم السؤال عني أثناء سجني والاهتمام بأخبار صحتي . . وأنه مريض لا يستطيع الانتقال إلى وعرضوا علي زيارته فقبلت تقديرا لمشاعره تجاهي . . وزرته أول زيارة معهم وثاني زيارة معهم أيضا وكان ذلك في سنة 1964 ثم زرته مرة ثالثة بصحبة محمد قطب ليرشدني على البيت بتاعه وزرته مرة رابعة بمفردي قبيل سفري لرأس البر في هذا العام ( 1965 ) وزرته مرة قبل الأخيرة مع محمود عبد الوهاب فايد وحديثه في كل هذه الزيارات كان منصبا على انحراف الناس عن الدين وفساد الأخلاق وغضب ربنا على الناس لابتعادهم عن دينه وأن رحمة الله لا تنزل إلا على الطائعين ومثل هذه الأحاديث التصوفية . . وفي المرة الأخيرة دار بيني وبينه حديث معين لأنني قلت تعليقا على أسفه على خلو البلد من الشباب الصالح وانصراف الشباب كله إلى اللهو والعبث .
قلت له :
فقال بلهفة :
_ الله يطمئنك . . وأنت تعرف حد من الشباب الصالح ده ؟ !
فقلت له :
_ أعرف الكثيرين وأحس فيهم اللهفة للمعرفة والتزود والسير في طريق الإسلام الصحيح ! ! فعانقني وقال لي :
_ الله يطمن خاطرك . . طمنتي وأنا كنت يائس " . . رحم الله الشيخ الأودن . . وجمعه والشهيد سيد قطبمع النبيين والصديقين والشهداء . . اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم . . واغفر لنا ولهم . . آمين ! !
مأذون قرية البيضا . . يروى مأساته في السجن
جاء من قريته البيضا القريبة من المنصورة بمحافظة الدقهلية . . يتوكأ على أحد أبنائه الأربعة الذين شهدوا معه مذبحة السجن الحربي ليروي لي مأساته ومأساة أسرته في مذبحة السجن الحربي سنة 1965 . . وعلى مدى ثلاث ساعات روى لي فصول المجزرة . . ودموعه تنساب في أخاديد وجهه . . وتبلل لحيته . . وأحسست أن ذكريات حزينة محفورة في أعماق قلبه , لم تمحها العشر سنوات التي مرت على عام 1965 الذي بدأت فيه مذبحة السجن الحربي ! !
قال لي الشيخ . .
_ اسمي محمد عبد المقصود مأذون البيضا . . دقهلية سابقا وحاليا مأذون ناحية سندوب قسم أول المنصورة تجاوزت السبعين عاما . . تعتبر محنت ي من أقسى المحن التي لم يسمع بمثلها حيث أهدرت كرامتي وأهينت إنسانيتي . . واعتدى على آدميتي وهددت في عرضي فقد وقع على وعلى أولادي التعذيب بأبشع صورة .
ففي ليلة 14 أغسطس سنة 1965 فوجئنا بقوة كبيرة من الشرطة العسكرية الجنائية على رأسها الجلاد الرائد رياض إبراهيم الذي حضر من القاهرة واحضر معه قوة من ميت غمر . . وقوة من السنبلاوين . . وهاجموا منزلي الذي كان يزدحم بالمدعوين والمدعوات للاحتفال بعرس زفاف ابنتي التي كانت ستزف إلى عبد الفتاح فايد المدرس المساعد بكلية الشريعة فروع الحاضرون وارهبوا وانقلب الفرح إلى مأساة . . وتحول الغناء إلى عويل وصراخ وبكاء واقتحموا جميع حجرات المنزل وعاثوا فيه فسادا ولم يكتفوا بذلك ولكنهم جمعوا من أهالي القرية عددا بالقوة وطلبوا منهم أن يحفروا حديقة باحثين عما يتوهمون من سلاح . . ولما لم يعثروا على شيء عمدوا إلى مكتبتي فجمعوا منها كل ما كتب عن الإسلام .
ثم ألقوا القبض على وعلى أولادي الأربعة الذكور وزوج ابنتي المزارع وزجوا بنا في العربات وسارت العربات إلى وجهة لا ندريها ولم نكن نعلم التهمة التي من أجلها فعلوا بنا ما فعلوا فلم يقدموا لنا أي أذن بالتفتيش أو إذن بالقبض علينا . . وتجمهر أهالي الناحية حولنا وتذمروا وكادت تحدث مشادة ولكنني تكلمت فيهم قائلا " أنكم تعلمون أنني لست متهما في قتل أو سرقة أو إحراز مخدرات أو سلاح وأنتم تعلمون أنني داعية للإسلام فثقوا أنني سأعود إليكم سالما بإذن الله " .
وفي طريقنا إلى القاهرة تخلفت قوات ميت غمر وقوات السنبلاوين ووصلنا القاهرة فطلبوا منا أن ندلهم على منزل عريس ابنتي عبد الفتاح فايد الذي كان يستعد للزفاف بها فوصلنا إلى منزله بعد أذان الفجر فوجدناه يستعد للحضور إلى قريتنا لاصطحاب عروسه مع أهله . . فألقوا القبض عليه وساروا بنا جميعا نحن السبعة إلى السجن الحربي . .ووقفت العربات أمام السجن الحربي . . وفتحت البوابة السوداء وأدخلنا منها ونادوا :
_ يا صفوت استلم هؤلاء . . ! !
فتلقانا صفوت الروبي جلاد السجن الحربي ووضع وجوهنا إلى الحائط وأخذ الحراس يصفعوننا على أقفيتنا مما جعل رؤوسنا ترتطم بالحائط . وبعد فترة أخذوا كل ما معنا وساقونا وادخلوا كل واحد منا زنزانة منفردة في سجن 2 .
دخل علي حمزة البسيوني وطلب مني كتابة تاريخ حياتي قائلا :
_ اكتب حالتك . . ولماذا جاءوا بك إلى هنا ؟ ! !
فكتبت له تاريخ حياتي إلى أن قبض علي . . فغاب وعاد بعد نصف ساعة ومزق ما كتبت وقذف به في وجهي ثم أمر الحراس فقادوني إلى زنزانة في سجن 3 مخصصة للتعذيب حيث توجد بها " تعليقة " في السقف . أجلسوني على عتبتها واحضروا ابني احمد وعلقوه أمامي من يديه ورجليه وحضر صفوت الروبي ومعه اثنان من عتاة الجلادين وانهالوا على ابني ضربن أمام عيني وأخذوا يعدون إلى مائة سوط حتى أغمى عليه . . ثم أنزلوه وهو لا يقدر على النهوض وأخذوا يركلونه بالأحذية في جميع أجزاء جسمه حتى وقف وهو يتمايل وأخرجوه . . ثم جاءوا بابني الثاني عبد الله وفعلوا به مثل ما فعلوا بأخيه من قبل . . ثم جاءوا بابني الثالث محمد . . ويروي محمد . . الابن :
" أدخلوني أمام والدي في الزنزانة المخصصة للتعذيب وكان جالسا يبكي ويشير بيديه طالبا منه أن يرحمونا . . وجاءوا بقضيب طويل من الحديد به حبلين من طرفيها ثم وضعوا الحديدة بين يدي ورجلي ورفعوها إلى السقف فوجدت نفسي معلقا كالذبيحة . . ثم انهالوا علي بالسياط حتى مزقوا جسمي ثم أنزلوني والقوا بي على الأرض ثم أوقفوني بعنف وطلبوا مني الجري سريعا مدة طويلة من الزمن ثم . . أرجعوني إلى زنزانتي التي كانت خالية تماما إلا من بطانية واحدة . . ويضيف . . الشيخ العجوز .. " ثم جاءوا بابني الرابع محمود وعلقوه كذلك ومزقوه بالسياط وكان لا يتكلم ولا يتأوه ولا يصرخ من هول ما يحدث فكان ذلك يزيدهم غيظا وقالوا لن نتركه حتى يسكت السكتة الأخيرة ! ! " وأخيرا أنزلوه وألقوا به على الأرض ثم جاءوا بعريس ابنتي الشيخ عبد الفتاح فايد المدرس المساعد بكلية الشريعة وفعلوا به مثل ما فعلوا بأبنائي الأربعة ثم أعادونا كلا إلى زنزانته الانفرادية . ويضيف محمد ابن الشيخ :
" لقد كانوا قبل التعذيب يصطحبوننا إلى زنزانة ضيقة بها أنوار شديدة التوهج . . كشافات يسلطونها على أعيننا لفترات طويلة وأثناء ذلك يصفعوننا على وجهنا ورقابنا صفعات قوية تجعل الإنسان يغيب عن وعيه . . وكان الواحد منا يبقى في الحجرة حتى ينتهوا من تعذيب من كان قبله فكان ذلك بمثابة التحضير للتعذيب . . وفي أثناء الطريق إلى زنزانة التعذيب , يصحبنا جنديان يمسكان بالواحد منا ويسرعان في الجري وخلفهما جندي ثالث يلهب ظهره بالسوط حتى يسلموه إلى صفوت الروبي وصبيانه من الجلادين العتاة ! ! " . لقد كانت هذه العملية تتكرر في الليلة الواحدة أكثر من ثلاث مرات لكل منا . . وكانوا يفتحون الزنزانة على الواحد منا في جوف الليل ونحن نيام فإذا لم أنهض واقفا انهالوا علي ضربا بالسياط وبالركلات والصفعات وكنت انهض مفزوعا فيأخذني بعنف . . ولما تكررت هذه العمليات أيقنت أننا مقدمون على هلاك محقق .
ويضيف مأذون البيضا سابقا . . " وأثناء فترة التعذيب تلك التي استمرت أسبوعا وأكثر دخل علي حمزة البسيوني وأقسم بشرفه انه سيذبح أولادي ويقتلهم أمامي واحدا واحدا . . وأمر بي فأخذوني وعلقت رغم ضعفي وشيخوختي وانهالوا علي بالسياط ثم أنزلوني وأجلسوني على عتبة الزنزانة وأعادوا إحضار أولادي وأصهاري مرة أخرى وفي أثناء ضربهم لأبني محمود تقطعت نياط قلبي إذ رأيتهم يضربوه حتى كاد يفارق الحياة فقمت بلا شعور واحتضنته وهو فوق " عقلة " المجزرة وقلت لهم " اقتلوني بدلا منه . . ! ! " .
وكان مشهدا رهيبا فجروني بالقوة وانزلوه ولم يرحموه ولم يرحموا شيخوختي وأيقنت أن حمزة البسيوني سينفذ قسمه الذي أقسم به أمام ضباطه والذي عندما نطق به صرخت مستغيثا بالله قائلا . . يا رب إننا مظلومون . . مظلومون . . مظلومون ! ! . . وأخذت اجأر إلى الله بالدعاء ! !
ثم نقلنا إلى السجن الحربي الكبير . . ووضعوني في الزنزانة 4 وطلبني حمزة البسيوني وأمر الحلاق بحلق نصف لحيتي ونصف شاربي بقصد التمثيل والتنكيل بي أمام المعتقلين كلهم ! !
وفي اليوم التالي طلبني حمزة البسيوني وكان معه ضباطه وكلابه التي أمرها بالهجوم علي فمزقت ثيابي . . ثم أخذت خصلة من النصف للحيتي وأمر ضباطه قائلا :
" لينتف كل منكم خمسين شعره بالضبط . . " وكان يناولني هذه الشعيرات ويقول لي عدها . . ثم يأمرهم ليضربونني ويقولوا لي العدد خطأ . . وظللت أياما وهو يفعل بي هذا حتى لم يبق في لحيتي إلا الشعر الصغير الذي لا يمكن نتفه باليد فأخذوا يحرقونه بأعواد الكبريت . . وبإطفاء السجائر في لحيتي حتى تورم صدغي من الحروق والنتف ! !
وفي أحد الأيام جاءني صفوت الروبي وقال لي :
_ اعترف عن أي شيء يطلبونه منك لأنهم احضروا بناتك وأهل بلدك . . وإلا سيقضى على أولادك . . ويعتدي على بناتك .
فاعتبرت ذلك مجرد تهديد . . ولكنهم ساقوني في جوف الليل وأخذوا يجرونني ويوقعونني في حفر ثم يلهبون جسمي بالسياط وأنا في حالة من الإعياء الشديد . . والعطش حتى أوقفوني أمام مكتب التحقيق الخاص برياض إبراهيم . . والتف حولي خمسة من رجال المباحث الجنائية العسكرية وقالوا لي :
_ " لقد أحضرنا بنتيك الجميلتين . . " وأضاف واحد منهم :
_ " أنا لم اذهب إلى زوجتي منذ عشرة أيام وسوف استمتع بابنتك الكبرى . . "
وإذا بآخر يقول : " أنا الذي سأظفر بها أولا . . "
وقال ثالث : " أنا راض أن أنا لهما بعدكما ! ! "
وقال رابع : " أما أنا فسأستمتع بالصغرى ! ! "
وقال الخامس : _ لا . . سأبدأ أنا قبلك !
صرخت مذهولا لما اسمع معتقدا أن مثل هذا الكلام لن يحصل أبدا ولم أسمع به في أحلك عهود الظلم والاستعباد على مدى التاريخ وحسبته تهديدا للحصول مني على تهم يريدون مني تلفيقها على الشيخ الأودن . . جروني خلف المكاتب وأحضروا ابنتي الكبرى وكان نظري ضعيفا من كثرة البكاء وفقدي لنظارتي الطبية فقربوها مني حتى خاطبتني بقولها :
_ السلام عليك يا أبي . . وكانت متجلدة أمام أهوال المشهد . . منظري المبكي . . ورأسي العارية وقدماي الحافيتين وثيابي الممزقة وصدغي المتورم وعيناي المريضتين فقلت :
_ وعليك السلام يا ابنتي . . وحبست عميق حزنها ووقفت بجانبي . . ثم أحضروا ابنتي الصغرى ولم تكن قد تجاوزت الثالثة عشرة من عمرها فلما رأتني أجهشت بالبكاء وجاءت تحضنني وما أن رأيت ابنتي أمامي وتصورت أن ينفذ المجرمون حديثهم الذي اسمعوني حتى سقطت مغشيا علي أهذر بكلام لا أعيه ولم أدر شيئا بعد ذلك . . حتى أفاقوني وأدخلوني على مكتب يجلس خلفه أحد المحققين الذي قال لي :
_ أنت ستعترف أم لا ؟
ثم طلب ابنتي العروس وقال لها من الذي كان يدخل إلى منزلكم ؟ ! فقالت :
_ أنا لا التقي بالرجال . . وأبي المأذون ورئيس لجنة المصالحات يحضر عنده كثير من الناس . . وأخذ يسأل ابنتي بأسئلة سخيفة فترد عليه وهنا عاودني الإغماء وسقطت مغشيا عل ولم أشعر حتى جاءني في الفجر طبيب السجن في الزنزانة وأخذ يفيقني برفق . . م بعد ذلك طلبوني إلى مكاتب التحقيق وأمروني بالتوقيع على إقرار بأنني أذنت لهم بالتفتيش والقبض تحت تهديد الرائد رياض إبراهيم .
ونوع آخر من التعذيب كان يطبقه علينا الجلادون وهو التعذيب بالعطش حتى وصل بي الأمر إلى حد الهلاك . . ففي ذات مرة أشرفت على الموت وكنت في حالة النزع الأخير , ومن حسن الأقدار أن كان سرير الغيار لجروح المعذبين أمام زنزانتي يفد عليه كل يوم في حوالي الساعة العاشرة طابور طويل من المعذبين الممزقين تحت السياط . . ( منهم المحمول على نقالة . . ومنهم من يحمله إخوانه ومنهم من يحبوا على يديه ورجليه ومنهم من يزحف على مقعدته . صورة ناطقة بضراوة الجلادين وقساوة قلوبهم ) . . وسمع أحد المعذبين حشرجتي فأخبر الممرض الذي أسرع " بقروانة " بها ماء فشربت منها . . ! !
ومرة أثناء التحقيق واجهوني بالأخ شعبان الشناوي وسألوني أمامه .
_ هل كنتم تقرءون القرءان في مصاحف في إحدى الجلسات ومعكم محمد ابنك ؟ ! فقلت . . محمد ابني كان يحضر لنا تحية الضيوف ثم يخرج .
فقال لشعبان . . هل كان محمد معكم يا شعبان ؟ !
فقال شعبان تحت تأثير التعذيب :
_ نعم كان معنا محمد ابنه !
فطلب رياض إبراهيم من شعبان الشناوي أن يصفعني على قفاي فصفعني برفق فأمر رياض إبراهيم أحد المعذبين أن يصفعني بقوة ويقول لشعبان . .
_ أضربه هكذا ! !
فصفعني شعبان صفعة اشد من الأولى !
وفي مرة ثانية ساقوني إلى مكاتب التحقيق وأجلسوني من الساعة الثانية عشرة ظهرا وبقيت حتى فجر اليوم التالي وظللت طوال النهار والليل خلف المكاتب بلا سؤال وبلا طعام وبلا شراب وكنت أؤدي الصلوات بالتيمم خشية الوقوف إذ كان وجهي إلى الحائط . . وقبيل طلوع الشمس احضروا أحمد فراج وواجهوني به . . وسألوني :
_ هل تعرف من يكون هذا ؟ ! !
فحملقت فيه فلم أعرفه ولم يسبق لي أن رأيته . .
فقالوا . . ألم تسمع ببرنامج نور على نور ؟
فقلت . . أنا في قرية لم يدخلها التليفزيون حتى الآن .
فقالوا . . ألم تعرف مقدمه احمد فراج ؟
قلت . . لم يسبق لي أن رأيته ولكنني أسمع عنه .
ثم سألوا أحمد فراج :
_ من هذا يا احمد ؟ !
فقال . . لا اعرفه ولا عمري رأيته . .
ثم حرفوه . . انظر لقد أجلسوني ثمان عشرة ساعة من أجل هذا السؤال مع احمد فراج ! ! وكانوا يريدون أن يلفقوا حادثة التقائي معه بالأقطار الحجازية والشيخ محمد عشماوي سليمان الذي كان محكوما عليه في سنة 1954 في مذبحة الإخوان الأولى ومن العجيب أنني أديت فريضة الحج 1964 واحمد فراج كان 1965 .
وقد بلغ التعذيب بأبنائي حدا اشرف بهم على الهلاك فقد التقيت في إحدى المرات أثناء خروجي لدورة المياه بأحمد ابني فقال لي همسا :
_ يا أبي سوف أموت اليوم أو غدا لأنني أبول دما كثيرا فهل نحن على الحق يا أبي ؟ ! ! فبكيت وقلت له :
_ إن مت يا بني فسوف تموت شهيدا لأننا مظلومون . . وإذا كنت أنا متهما بأنني من دعاة الإخوان المسلمين فما ذنبكم أنتم إن مت فنطمع أن يدخلنا الله الجنة ! !
وذات مرة وأنا في الدورة وكنت مضطهدا من الحرس . . كانوا يأخذونني إلى الدورة بالضرب ويدخلوني الدورة بالضرب ولا يعطونني فرصة من الوقت . . فانهال علي العسكري زغلول يضربني ضربا مبرحا وكان على بعد مني ابني عبد الله يشاهد ما يقع علي من الصفع والركل فأخذته عاطفته فجاء يدفع عني هذا الشيطان البشري قائلا : " اقتلني ودع والدي العجوز " . . قال ذلك وهو يجهش بالبكاء . . فتجمع عليه الحراس وكالوا له ألوان الصفعات والركلات ثم جروه إلى زنزانة بالدور الثاني ودخلوا عليه ومعهم السياط وأعادوني إلى زنزانتي مهانا فأخذت أراقبهم من نظارة الزنزانة فوجدتهم أغلقوا عليه الزنزانة ولم أره ينزل بعد ذلك إلى دورة المياه عدة أيام ففهمت أنه مريض من شدة ما أصابه .
وكان ابني محمد كل يوم عند نزوله إلى دورة المياه أن يمر أمام زنزانتي فيومئ برأسه من بعيد بالتحية فلما رأوه أوقعوه على أرض الفسقية فاصطدمت رأسه بحافة الفسقية فلما قام دفعوا به إلى فسقية المياه وكاد يغرق لولا لطف الله به .
ثم ساقوه أمامهم بالسياط وادخلوه زنزانته مبللا بالماء وكنا في الشتاء وقد أبكاني كثيرا مما جعل زميلاي في الزنزانة يمنعاني من الوقوف على النظارة والنظر منها . . وفي صباح كل يوم كان الحراس يأمروننا أن نغسل أرضية الزنزانة بالماء ولم يكن عندنا ما نجفف به أرضية الزنزانة فكنا نجففها بملابسنا . . وفي إحدى المرات دخل علينا العسكري زغلول وقال :
هل نظفتم الزنزانة ؟ ! !
فقلنا . . نعم يا أفندم . . وهي نظيفة فعلا .
فأمرنا أن ننبطح على الأرض ونلعق أرضية الزنزانة بألسنتنا وفعلا صنعنا ما أمرنا به حتى ننقذ أنفسنا من السياط التي يلهب بها ظهورنا ! !
وفي إحدى المرات وكان ذلك في موعد أذان الفجر سمعنا صوت مؤذن من الزنزانة المجاورة وكان المؤذن هو الشيخ محمد الغزالي الجبيلي أخو الحاجة زينب الغزالي . . فإذا بالحراس يفتحون علينا زنزانتنا وانهالوا علي بالضرب وهم يقولون :
_ أتؤذن في السجن الحربي ؟ ! ! كيف تسمح لنفسك أن تؤذن ؟ !
فقلت . . أنا لم أؤذن . . ولكنهم لم يصدقونني فزادوني ركلا وصفعا قائلين . . وتكذب علينا أيضا ؟ ! ! فقد كان الآذان جريمة لا تغتفر يستحق مرتكبها الضرب .
وأخيرا وبعد مرور ما يقرب من ستة أشهر من التعذيب استشهد خلالها عدد كبير . . وشل من شل . . وجن من جن . . ومزق من مزق . . نصبوا خياما . . وأحضروا عددا من وكلاء النيابة ليحققوا معنا ولم يكن هنا فرق بين أن تجلس أمام النيابة . . أو أمام جلادي السجن الحربي فقد كان التعاون بين الاثنين تعاونا وثيقا فقد كان الذي يقول غير ما قاله تحت السوط يأمر وكيل النيابة الحارس أن يأخذه إلى مكاتب التحقيق لتليين " دماغه " طبعا بالسوط أو أي وسيلة أخرى . . ولكنني عندما مثلت أمام النيابة رفضت أن أتكلم حتى أعرف مصير بناتي . . وهل أفرج عنهن أم لا فقال لي وكيل النيابة أنهم أفرجوا عن بناتي وأنهم سيفرجون عن أولادي أيضا . .
ويضيف محمد نجل الشيخ عبد المقصود :
_ عندما خرجنا من السجن الحربي أوصانا صفوت الروبي ألا نبوح بكلمة واحدة مما رأينا أو حدث لنا وأن كل كلمة ستقال ستصل إلينا وعندئذ ستعودون مرة أخرى . . وخرجنا في صورة مزرية وتسلمتنا المباحث العامة وبدأت تراقبنا مراقبة شديدة وتطلب منا الحضور إلى قسم المباحث العامة بميت غمر . . ونبقى هناك دون سؤال إلا مجرد الإرهاب وأحيانا يوقعون علينا ألوانا من التعذيب ويوجهون إلينا الكثير من الاهانات بل أكثر من ذلك لقد منعوا زواج أختي وكانوا يهددون كل من يتقدم لخطبتها . . ويقول الشيخ محمد عبد المقصود :
_لقد حكم على بالسجن بالأشغال الشاقة المؤقتة بتهمة قلب نظام الحكم وتغيير دستور الدولة بالقوة . أي قوة تلك التي كنت سأستعملها لتغيير نظام الحكم ودستور الدولة . . ؟ ! !
الفصل السابع
مذبحة سجن " أبو زعبل "
قلت في الفصول الأولى أن احد أسباب مذبحة الإخوان المسلمين سنة 1965 كان الصراع الذي قام بين أجهزة الأمن المصرية وبالذات بين جهاز الشرطة العسكرية الذي يسيطر عليه شمس بدران وبين جهاز المباحث العامة الذي كان يرأسه اللواء حسن طلعت ووزير الداخلية وقتئذ هو عبد العظيم فهمي, وكان اكتشاف تنظيم سنة 1965 حاسما للصراع لصالح الشرطة العسكرية وشمس بدران ووقعت البلد في قبضتها , في بداية عملية الاعتقال كان رد الفعل عند ضباط المباحث العامة غير متجاوب مع الشرطة العسكرية ولصالح الإخوان , فكانت عمليات القبض والتفتيش التي يقوم بها ضباط المباحث العامة قبل اكتشاف التنظيم لا تتجاوز حدودها بمعنى أنهم يذهبون للقبض على الأخ ويفتشون بيته تفتيشا عاديا روتينيا , و سبق أن تحدثت عن كيفية اعتقالي وأدب ضابط المباحث العامة معي , ولكن بعد اكتشاف التنظيم يوم 17 أغسطس سنة 1965 وسخرية ضباط الشرطة العسكرية من ضباط المباحث انقلب الأمر وصار ضباط المباحث العامة كالوحوش الكاسرة , فاقوا بكثير ما فعله ضباط الشرطة العسكرية في ساحات التعذيب في السجن الحربي بالإخوان , ولم تكن " القسوة " في التعذيب هي الوجه الوحيد لإجرام ضباط المباحث العامة ولكن كانت هناك صورا من الخسة والنذالة والفجر وامتهان كرامة الإنسان وإهدار كرامته وانتهاك عرضه وسحق إنسانيته وشهدت ساحات التعذيب في سجني " القلعة " و " أبو زعبل " صورا من التعذيب يندى لها جبين الإنسان وتبقى على مر الأيام وصمة عار لكل الذين شاركا في هذا العهد . . واكتفي بإعطاء صورة لما كان يجري في مذبحة " أبو زعبل " معتمدا في هذا على رواية شهودها كمنهجي في الكتاب منذ بدأته .
يقول الدكتور أحمد الملط :
_ بعد اعتقالي بأسبوع واحد قضيته في معتقل القلعة رحلت إلى معتقل سجن " أبو زعبل " . . وكان المبنى حديثا وكنا أول من دخله بعد أن سلمه المهندسون لمصلحة السجون . . كان المعتقل عبارة عن مبنى مستطيل طوله حوالي أربعمائة متر وعرضه حوالي 60 مترا والزنزانات والعنابر على الجانبيين الطوليين وفي الوسط فناء بطول المبنى وعرضه محاط بسور من القضبان الحديدية وكان هذا الفناء هو أرض المذبحة وكان يطلقون عليه اسم " المحمصة " أدخلنا إلى " المحمصة " مجموعات أثر مجموعات كان الدوران الثاني والثالث مقسمين إلى عنابر كل عنبر مساحته 8 متر عرض و16 متر طول به دورة مياه مكونة من حمامين وعدة حنفيات كان يوضع في العنبر ما بين المائة والمائة وعشرين معتقلا وكنا ننام " كالسردين " في صفائح السردين . . بمعنى أن كل واحد يضع رأسه بجوار قدمي أخيه ولا يستطيع أحد أن ينام على ظهره . .
في البداية كان استقبالنا في المعتقل بدون تعذيب لأنه لم يكن قد اكتشف تنظيم الشهيد عبد الفتاح إسماعيل بعد , ولكن بعد اكتشاف التنظيم صار هناك تنافس شديد بين الشرطة العسكرية وبين مباحث أمن الدولة كل منهما يريد أن يثبت لعبد الناصر أنه قادر على تطويع الإخوان وغسل مخهم فأخذوا يتبارون في التعذيب . . وازداد أفراد المباحث العامة سعارا وجنونا وفجرا في التعذيب بعد اكتشاف التنظيم فأرادت أن تكتشف هي أيضا قضية حتى تثبت وجودها . . فكان التعذيب في سجن أبو زعبل لا يقل في ضراوته ووحشيته وإنسانيته عما كان يجري في السجن الحربي : بل كان هناك نفس الأسلوب طريقة التعذيب كالذبيحة بحيث يكون الشخص معلق من يديه ورجليه في قضيب حديد ويوضع القضيب بين كرسيين ويكون الشخص رأسه إلى أسفل ويديه ورجليه إلى أعلى . . واخترع زبانية المباحث العامة طريقة أخرى وهي التعليق على قضبان الحديد في فناء السجن حيث يؤمر الشخص بالصعود على القضبان إلى أعلى وهو عار تماما كما ولدته أمه ثم يربط " بالكلبش " من يديه ورجليه في القضبان ويضرب بالعصي على آليته أحيانا حتى تسقط . . وبصورة أقسى يعلق الشخص على القضبان بحيث يكون رأسه إلى أسفل ورجلاه إلى أعلى وهذه التعليقة إذا زادت عن وقت معين يقضى على الشخص وفعلا توفى الأخ عبد الحميد البورديني بسبب هذه التعليقة . . وكان الضرب يتم بالكرابيج . . وبأغصان الشجر الخضراء التي كانوا يقطعونها من الأشجار المحيطة بالسجن . . أو كانوا يلقون الشخص في حفرة ويوهموه أنهم قرروا دفنه . . وقد استخدموا معي أنا في تعذيبي طريقة التعليقة فربطوا يدي ورجلي ثم أخلو قضيب الحديد بين يدي ورجلي وحملت حملا ووضعت على كرسيين واستمروا في تعذيبي قرابة أربعة أيام . . وبعد أن يئسوا من الحصول مني على شيء قالوا لي :
_ أنت لن يجدي معك إلا إرسالك إلى السجن الحربي . .
وفعلا رحلوني إلى السجن الحربي وفي الحربي لم يسألني أحد , قضيت أسبوعا في الزنزانة وبعد أسبوع أخذوني إلى مكاتب التحقيق حيث كانت هناك ساحة التعذيب وبقيت في هذا المكان من العاشرة صباحا إلى الثانية من صباح اليوم التالي وأنا جالس مكاني لا أستطيع التحرك وكانت الصورة تمزق القلب . . كانت الساحة مثل المذبح واحد معلق من رجليه والثاني معلق من يديه . . وثالث معلق من يد واحدة ورابع السياط تمزق جسده وخامس يحاولون دفنه . . وسادس يغرقوه في الفسقية الموجودة أمام المكاتب وهكذا . . وفي هذا اليوم رأيت الشهيد محمد عواد سليمان عندما كان يعذبه الملعون صفوت الروبي وكان شمس بدران في هذا الوقت يقف أمام المكاتب . . ثم أعادوه إلى السجن في آخر النهار وأنا لا زلت جالسا مكاني . . شاهدت عواد يسوقه الجلاد صفوت الروبي تحوطه زفة من العساكر يضربونه بالسياط وعواد في حالة إعياء شديد . . رأيتهم يحملونه حملا . . حتى الفسقية وألقوه فيها ورأيت صفوت يمسك رأس عواد ويخبطها في الفسقية ويقول له :
_ تكلم يا ابن الكلب . . .
فلا يتكلم عواد .
ويغطسه صفوت في الفسقية . . ثم يخرجه ويقول له :
_ تكلم يا ابن الكلب . .
وعواد لا يتكلم . .
وفجأة رأيت عواد قد انتهى . . سكت . . حركته انتهت خالص وصار جثة هامدة بجانب الفسقية . . وسمعت صفوت يقول لشمس بدران:
_ الولد بلغ فرار يا سعادة البيه ! !
فقال له شمس بدران:
_ خذه . . ولفه وارميه . . كلب ومات ! !
وبسرعة العساكر أتوا ببطانية ولف فيها عواد وحملوه ولا أدري إلى أين ؟ ! إلى أرض الله طبعا . في الساعة الثانية من صباح اليوم التالي أعادوني إلى الزنزانة لا أدري لماذا أتوا بي إلى ساحة التعذيب ولماذا أعادوني في هذه الفترة لم يسألوني شيئا إطلاقا . بعد أسبوع جاء أحد العساكر ينادي :
حملت أشيائي وذهبت إلى المنادي . . وإذا بي أرحل إلى معتقل أبو زعبل مرة ثانية . . رجعت أبو زعبل وجدته مذبحة فعلا . . الفناء عبارة عن سوق من الناس معلقون . . ويعذبون دخلت على هذا المنظر . . لم يدخلوني إلى عنبر من العنابر ولكنهم أدخلوني إلى هذا المجزر . . إلى الحوش الذي كانوا يسمونه المحمصة كانت دوامة التعذيب تبدأ من العاشرة صباحا وتنتهي في الساعة الثانية أو الثالثة حسب مزاج زبانية المباحث العامة وكان يقوم عليها مجموعة من رجال المباحث أذكر منهم أحمد رشدي وفؤاد علام . . وجمال زاهر وطوسون .
كانت المحمصة تضم عددا يقدر بحوالي مائة وخمسين معتقل من الإخوان الذين يعذبون بالدور غير العذاب الجماعي العذاب الجماعي كان الإخوان يبقوا يجرون داخل الحوش في طابور لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات وزبانية المباحث يهوون عليهم بالعصي وأغصان الشجر حتى ينهكوا تماما وكان الملعون الجوهري هو المسئول عن التعذيب الجماعي في المحمصة كان يعطي لكل واحد رقما ويأمره أن يردده بصوت عال . . فمثلا يعطيني رقم سبعة وخمسين أردده بصوت عال وكل واحد رقم . . + رقم واحد يقول بصوت عال واحد . . واحد . . واحد ورقم اثنين يقول بصوت عالي اثنين . . اثنين . . اثنين ورقم ثلاثة يقول بصوت عالي ثلاثة . . ثلاثة . . ثلاثة كل الذين في المحمصة كل يردد رقما بصوت عال في وقت واحد وهذه عملية إنهاك عصبي رهيبة . . ينتهي التعذيب الجماعي بوصول ضباط المباحث حيث يبدأ التعذيب الفردي أثناء التحقيق .
أدخلوني المحمصة بعد عودتي من السجن الحربي أدخلوني في دوامة التعذيب المستمر . . الجماعي وبقيت أياما على هذا . . وذات يوم فوجئت ينادي فؤاد علام علي وجردني من ملابسي ويقول لي هازئا :
_ أنت ملط . . فكن ملطا حقيقيا . . وأمرني بخلع ملابسي . . وأبقيت السروال وأمرني بالصعود على قضبان الحديد وصعدت تحت الضرب بالعصي ولما صعدت إلى ارتفاع ثلاثة أمتار وأنا أمسك في القضبان بيدي نزع سروالي فكشفت عورتي . . وبقيت في المحمصة مع من فيها ليمارس علينا التعذيب الجماعي الذي كان يبدأ يوميا من الساعة السادسة صباحا ويستمر حتى يبدأ ضباط المباحث في المجيء إلى السجن ليبدأ التحقيق والتعذيب الفردي .
ظللت في المحمصة شهرا ونحن نفترش الأرض ونلتحف السماء تعطى لنا بطانية الساعة الثانية صباحا وتؤخذ منا في الساعة السادسة صباحا .
ولا أنسى صورة أحد الطيارين الذين كانوا يعذبون معنا ومن قسوة التعذيب فقد ثقته برحمة الله . . أتذكر هذا الطيار وكنا جالسين مثل الفراخ . . كل واحد جالس في ركن من أركان الحوش رأيت هذا الطيار يخبط رأسه في الحائط من شدة أمه النفسي وهلهلته . . وهلهلة ملابسه . . وجسمه الممزق رأيته يخبط رأسه في الحائط فقلت له :
_ يا أخي أدعو الله . . تذكر أن الله وصانا بالصبر يجب أن تصبر على هذا . . كل شيء له آخر . . وبينما أحدثه عن الصبر فكأنني فجرت دملا فإذا به ينفجر في البكاء ويقول :
_ هو فين ربنا ؟ ! ! أنا بقى لي شهر ونصف وأنا أنادي عليه . . وهو لا سمعني ! ! – ( سبحانه ) – هو راح فين ربنا . . أنا خلاص مش راح أقول يا رب . . أنا بقول طوال شهر ونصف مش سامع الاستجابة وسقط مغشيا عليه .
والتففت حوله . . وأخذنا نقرأ قرءانا حتى أخذ الله بيده . . ومن حسن تدبير الله أنه رحل في اليوم التالي إلى السجن الحربي .
من الأمور المؤلمة والتي لا تنسى كان الجلادون من رجال المباحث يأتيهم الطعام يوميا في سيارة من محلات جروبي . . ويوضع الطعام أمامهم ويجلسون يأكلون ويشربون الخمور ونحن نراهم لا يفصلنا عنهم سوى قضبان الحديد التي تحيط بالمحمصة . . كانوا يأكلون ويشربون ويديرون عملية التعذيب .
ولك ليس معنى هذا أن رحمات الله لم تكن تحيط بنا لقد كان هذا التعذيب في هداية الكثيرين . . أذكر من اللطائف الحلوة قصة أحد المعتقلين اسمه الحاج عبد المجيد رضوان هذا الرجل كان تاجر جلود في الحمزاوي ولم نكن على معرفة سابقة يبعضنا ولكن جيرته لي هي التي عرفتني به وعرفته بي . . كنت أنا وهو نتقاسم ما يسمى " بالمجور " داخل المحمصة وكنا نتخذه " مخدة " لم يكن الحاج عبد المجيد من الإخوان ولكنه اعتقل بسبب ابن أخته الذي كان أحد الطيارين الذين اعتقلهم جمال عبد الناصر فأتوا به ليدل على أخته وظل في المعتق ل ونسي وظل في المعتقل وعندما أفرج عنه كان من الإخوان المسلمين خرج وهو يحفظ نصف القرءان , ويداوم على قراءة المأثورات وتلاوة ورد القرءان اليومي .
ويقول الأخ إسماعيل حسونة من مدينة الإسماعيلية ويقيم الآن في مدينة الزقازيق ويعمل أمام مسجد غريب :
_ في يوم 12 / 8 / 1965 اعتقلت بواسطة المباحث العامة بمدينة الإسماعيلية , وأبقيت أربعة أيام بالإسماعيلية ثم رحلت إلى معتقل القلعة . . قضيت في معتقل القلعة حتى يوم 28 / 8 / 1965 حيث حقق معي وكان التعذيب في معتقل القلعة بالعصي الغليظة ويضرب الإنسان على كل جسمه دون مراعاة لما يمكن أن يترتب على ذلك ثم رحلت في نفس اليوم إلى معتقل أبو زعبل حيث قضيت قرابة الخمسين يوما طلبت بعدها إلى السجن الحربي لصلتنا بالأستاذ سيد قطب. . قضيت أسبوعين في السجن الحربي بدو ن أي تحقيق رحلت بعدها إلى معتقل أبو زعبل .
عندما وصلت إلى باب المعتقل استقبلني أحمد رشدي الذي كان رئيسا للتحقيقات وكان وقتئذ مفتشا لمباحث القاهرة , وكان يشاركه في التحقيقات الضباط : احمد راسخ . . وفؤاد علام . . وعصمت الرخاوي الذي كان أركان حرب المعتقل وقتئذ وعلى بوابة المعتقل الكبيرة وضعوا العصابة على عيني وسحبوني إلى مكتب أحمد رشدي الذي رفع العصابة من على عيني وقال لي :
_ أخلع ملابسك . . وكان معه احمد راسخ ويمسك كل منهما عصا , فخلعت ملابسي ما عدا " السروال " . . فانهالا علي ضربا بالعصي وأمراني أن أخلع " السروال " وتحت ضغوط التعذيب خلعت " السروال " ووقفت عاريا تماما كما ولدتني أمي . . وقالا لي :
_ اجري وأنت واقف . . فأخذت أجري في مكاني أمامهما وأنا عار تماما . . ثم نادي علي أحد المخبرين وقالا لي :
_ علقه . . وعلقت التعليقة " المشهورة " . . وأنا عار وأخذا يضرباني في وقت واحد بالعصي وأثناء الضرب قال لي أحمد رشدي :
_ أين السلاح ؟ !
قلت :
_ لا يوجد عندي سلاح .
قال :
_ أنا ذهبت إلى منزلك وفتشنا بيتك واعتقلنا زوجتك . . وأثناء تعذيبي عملوا مكالمة تليفونية لرئيس مباحث الإسماعيلية وسأله أحمد رشدي :
_ امرأة إسماعيل حسونة عندك ؟ !
فرد عليه رئيس مباحث الإسماعيلية :
_ نعم . .
فقال له أحمد رشدي :
_ ما حدش نام معها ! !
قال له :
_ لا . .
قال احمد رشدي :
_ ائت بشخص . . وعشيه كويس وخليه ينام معها !
حدث هذا وأنا معلق ويواصل أحمد راسخ ضربي بالعصا . .واستمر التعذيب لمدة أسبوع الضرب بالعصي والحرق بالنار كانا يشعلان " الولاعة " ويحرقان جسمي بها . وقد اثبت الطب الشرعي هذا .
بعد استمرار التعذيب أسبوعا دون أن يحصل مني على اعتراف بما يريدان وتبين فشلهما في ذلك أوقفا تعذيبي . . وأنزلاني من التعليقة وأخذاني وأنا عار إلى القضبان الحديدية وأمراني أن أتسلقها إلى أعلا ثم ربطا يداي " بالكلبش " الحديدي مع القضبان وبقيت هكذا ساعتين أو أكثر .
بعد ذلك أبقيت في الحوش " المحمصة " ليلا ونهارا . . وكانت وسائل التعذيب العامة التي يمارسها كل من في المحمصة عبارة عن تمرينات رياضية تؤدى على مدى ساعات طويلة لم أكن استطيع أن أمارس تلك التمرينات لأني أصبحت مثل المشلول استمر هذا الوضع حوالي شهرين . . كانت هناك أصناف أخرى من التعذيب . . كانوا يصفوننا طابورا ويأمروننا أن يضرب كل منا الذي أمامه لقد قتل أثناء التعذيب الأخ أحمد شعلان من الخانكة وزميله زكريا المشتولي ومن محافظة الغربية بدر الدين القصبجي . .لقد هدموا بيتي . . ونهبوا ما فيه واعتقلوا زوجتي وجردوها من ملابسها وكانت " حاملا " في ستة أشهر فأسقطوها وأبشع من هذا كله كان لي أبنه اسمها عواطف وعمرها وقتئذ كان أحدى عشر سنة توفيت بعد اعتقال ي بيومين , فلما ذهب رجال المباحث العامة إلى العزبة واعتقلوا زوجتي ذهبوا إلى قبر بنتي ونبشوه وأخرجوا الجثة من القبر بحجة أنهم يبحثون عن سلاح ! !
وقد شهد بذلك شهود قريتي ورووا ذلك أمام النيابة .
ويقول الشيخ محمد الغزالي الجبيلي . . اعتقلوا محمد ابني والحاجة زينب أختي . . ولم نكن نعلم أين مكانهم ؟ ! . . وقبل اعتقالي بيوم سألوا عني . . وقالت لي زوجتي أن المباحث العامة تريدك . .فعرفت أنهم سيعتقلونني فجهزت حقيبتي . . ووضعت فيها بطانية . . والمصحف ورسالة الإمام البنا بين الأمس واليوم . . والرسائل الثلاث . . وقفت أصلي . . وأثناء صلاتي حضر ضابطان من مباحث أمن الدولة . . بعد الانتهاء من صلاتي اصطحبوني إلى مبني المباحث العامة بشبرا الخيمة . . عندما وصلت قالوا لنا . . اذهبوا به إلى سجن أبو زعبل .
وصلت بنا السيارة الثامنة مساء . . لم أجد أحدا بالمعتقل . . وضعوني في حجرة وحيدا لمدة ليلة واحدة . . في الصباح جاءوا بأناس من المحلة . . ومن جماعة الدعوة والتبليغ . . وصل عددنا ثلاثين معتقلا . . يوم ثلاثين أغسطس نادوا علي . . نزلت تحت . . عصبوا منديلا على عيني . . وسحبوني إلى مكاتب التحقيق وأجلسوني فترة من الوقت ثم أعادوني إلى الحجرة . . ثم أخذوني أثناء الليل وعصبوا منديلا علي عيني وأنزلوني إلى فناء السجن . . وكانوا يطلقون على الفناء كلمة " المحمصة " وجدت الفناء مليء بالمعذبين . . كان قد صدر قرار جمهوري باعتقال كل من سبق اعتقاله . . وخطب جمال عبد الناصر في موسكو . . وأعلن أنه لن يعفو عن الإخوان المسلمين بعد الخطاب امتلأ السجن بالمعتقلين . . بلغ العدد أكثر من خمسة آلاف معتقل . . مر على الضابط أحمد رشدي . . سألني :
_ أنت الغزالي ؟ ! !
استنكر عصب عيني بالمنديل فقط . . قال :
_ ده يخرب الدنيا . . ضعوا جاكت بدلته على رأسه أيضا . . كان معي الدكتور أحمد الملط . . وأنور العزب . . ورشاد المنيسي , ومأمون الهضيبي , وأحمد ثابت وصديق عسل . . والحاج علي رزة من الإسماعيلية . . كنا جميعا لا نرتدي من ملابسنا سوى الفانلة والسروال . . وقينا في " المحمصة " حتى رحلونا إلى السجن الحربي . كان التعذيب يتم ليلا . . وكان لكل ضابط طريقته في التعذيب . . كانوا يبدءون التعذيب بالضرب بعصي مأخوذة من شجر الكافور المزروع على الترعة الحلوة القريبة من سجن أبو زعبل . . كانوا يضربون على الجسم كله حتى يعترف الشخص بما يريدون منه . . وإذا لم يستجب للتحقيق يعلق تعليقة السجن الحربي ! !
بدءوا التحقيق معي . . وبدءوا يعذبوني . . علقوني . . حضر أحمد رشدي . . وأوصى بالذين يعذبوني بأن يخلصوا علي . . كان هناك أيضا فؤاد علام . . والسنباطي . . جابوا سيخ حديد . . وعلقوني . . وأخذوا يعذبونني وأنا أصرخ بأعلى صوتي . . يا مغيث . . يا ظلمة . . الله أكبر . . ولله الحمد . . الله غايتنا . . يا ظلمة . . يا ظلمة . .أغمى علي . . فحملوني وألقوا بي في مكان فيه " حلفا " .
وكان حول الفناء سور من القضبان . . كان الزبانية من رجال المباحث العامة يأمرون الشخص الذي يريدون تعذيبه بأن يتخلى عن ملابسه كلها ويقف عاريا كما ولدته أمه ثم يأمرون ه أن يتسلق الق ضبان ويربطون يدي ه " بالكلبشات " الحديدية في القضبان وكذلك قدميه . . في ليلة من الليالي أخذوني . . وقالوا لي :
_ الضرب لم يعد يجدي معكم ! !
قلت لهم :
_ دي عقيدة . . أحسن طخونا . . وموتونا . . قالوا :
_ أنت سترحل إلى السجن الحربي وسوف تموت هناك . . بقيت في المحمصة 45 يوما مع من فيها ننام . . ونأكل . . ونتبرز . .ونعذب في هذه المحمصة . . كانوا لا يعطوننا أي وقت لقضاء الحاجة . . كانوا يتركوننا حتى يبول الإنسان على نفسه . . لم يكن مسموحا لنا بالذهاب إلى دورة المياه . . كلنا نتبرز في البلاعة نصبت بطانية على البلاعة لتستر من يريد أن يتبرز من الإخوان . . كانوا يوقفونا طابورا على هيئة دائرة ويعاملوننا معاملة القرود . . نقف معصوبي العينين . . وجوهنا إلى الحائط . . يطلبون مننا أن نعد كل واحدا له رقم . .يكرر رقمه بصوت عالي . . الجميع يصيحون في وقت واحد كل واحد يقول الرقم الذي يمثله .
في ليلة أخرى جردونا من ملابسنا تماما وشكلوا منا طابورا وأمرونا بالجري ونحن عرايا كما ولدتنا أمهاتنا وكان المخبرون يقفون والطابور يدور حولهم وهم يحرقوننا بالسجائر في أماكن حساسة من أجسامنا . بمرور الأيام طالت لحيتي فجاء واحد من المخبرين وأشعل عود كبريت في لحيتي فتضايقت وضربت المخبر بيدي في صدره فأخذوني وأعطوني علقة . . في يوم آخر رأيتهم يحضرون واحدا من الإخوان ليس عليه سوى " الفانلة " و " السروال " فجردوه منهما واحضروا جريدة خضراء من نخله وشقوها ووضعوا فيها " ذكره " بعد عشرة دقائق أغمى عليه ! !
أحيانا كانوا يأمروننا بالانبطاح على بطوننا ويأمروننا بالزحف على بطوننا . . ويقول الكابتن الطيار محمد ضياء الدين الطوبجي :
_ أخذوني من منزلي إلى احمد صالح داود بالمباحث العامة , أثناء تحقيقه الأولى معي دخل علينا أحد الضباط وقال لي : ليتك كنت شيوعيا كنت نفدت بجلدك من هذه العملية ! ! لم يكمل أحمد صالح داود تحقيقه معي . . وسبني بأقذع الشتائم وقال :
_ خذوه . . وطلب أحمد راسخ تليفونيا وقال له :
_ أجعله يتكلم على الصبح . . أخذوني وحدي . . دخلت سجن القلعة . . سمعت صوتا رهيبا . . مزيجا من العواء والصراخ . . سلمت أماناتي . . بعدها انهالوا على بالضرب بالعصي . . جريت في طرقة طويلة . . وهم يجرون خلفي . . ويضربونني بالعصي والكرابيج حتى وصلت إلى غرفة التعذيب وجدت زميلي الطيار خالد عشري هو مصدر الصوت الرهيب المزيج من العواء والصراخ يصدر منه . . لم يكن خالد العشري من الإخوان فقط لأنه طيار زميل الطيار يحيي حسين الذي هرب إلى السودان وزميلي . . وجدت خالدا معلقا كالذبيحة وعاريا كما ولدته أمه وهم ينهالون عليه بالضرب . . كان الصاغ أحمد راسخ هو المشرف على تحقيقات القلعة . . رأيت الزبانية يطفئون أعقاب السجائر في دبر خالد عشري وكان عنده " بواسير " فشفى منها بسبب هذه الوسيلة من التعذيب ! !
أول شيء فعلوه معي هو تجريدي من جميع ملابسي حتى صرت عاريا تماما . . ثم وقف الزبانية حلقة . . وأخذت أجرى وسط هذه الحلقة وهم يضربونني . . وهذه مجرد عملية تسخين أولية دون أن يسألوني أي سؤال . . بعد علقه التسخين أخذني ضابط على ناحية وقال لي ينصحني :
_ يا بني هنا كل واحد لازم يتكلم بعد التعذيب . . هناك من يتكلم بعد ساعة . . وهناك من يتكلم بعد عشر ساعات . . وهناك من يموت من التعذيب ولا يتكلم . .ونحن لا نترك أحدا حيا إلا بعد أن يتكلم . . وهنا فكرت بسرعة . . قلت لنفسي لو كان الواحد ضامنا أن يقتل فورا كانت الحكاية سهلة ولكني خفت أن أفقد السيطرة على عقلي بعد ساعات من التعذيب فأهلوس وأكون سببا في القبض على أبرياء آخرين فقلت لنفسي أتكلم الآن وأنا في كامل وعي أحسن حتى استطيع أن أتحكم فيما سأقول فقلت للضابط : _ أنا أعرف علي عشماوي . . و عبد الفتاح إسماعيل . . فكأنني قلت لهم مفتاح الكنز . . فتركوني حتى الصباح أشاهد تعذيب باقي الإخوان .
كان التعذيب في سجن القلعة هو التعليقة والضرب بالشوم المفضي إلى الموت . . والتجريد الكامل من الثياب . . والانحطاط في وسائل التعذيب كوضع العصي في دبر المعذبين وإطفاء السجائر في الأماكن الحساسة .
في اليوم التالي بدأ التحقيق معي . . تكلمت عن نفسي وعن زميلي الطيار يحيي حسين فقط لا غير دون ذكر أسماء أخرى . . كان الضرب أثناء التحقيق معي للتسخين فقط . . وكانوا يعرضون على زملائي الطيارين من شركة مصر للطيران وكنت أبرئهم على أساس أن احمل القضية وحدي .
ورأيت زكريا المشتولي الذي عذب حتى الموت وسائق جرار من كفر البطيخ مضروبا ضربا رهيبا وكان يعرف زكريا المشتولي معرفة شخصية ويعرف أيضا أحمد شعلان الذي قتل أيضا أثناء التعذيب . . تحت وطأة التعذيب الرهيب اعترف سائق الجرار أنه سلم زكريا المشتولي و أحمد شعلان جوالا من الأسلحة وعندما اشتد تعذيبه صار الجوال أحد عشر جوالا من السلاح وبطبيعة الحال كان لا بد من الحصول على هذه الأجولة من السلاح وإلا التعذيب حتى الموت . . وقد كان . . فقد مات زكريا المشتولي . . وأحمد شعلان . وآخر منظر محفور في ذاكرتي هو منظر زكريا المشتولي عاريا تماما ملقى به على الأرض لا يوجد مكان في جسمه دون تمزيق . . وفي حالة احتضار وأحد ضباط المباحث العامة راكزا على ركبتيه ومقربا أذنه من فم زكريا المشتولي ليعرف منه مكان السلاح المختلق ! ! بعد ثلاثة أيام . . قالوا لنا :
_ كل معتقلي القلعة سيرحلون . . فظننا سنرحل إلى معتقل الطور وان التعذيب قد انتهى .
ولن أنسى ما حييت منظرا رأيته أثناء تجميعنا للترحيل كان المشتول قد مات أمامنا . . وكان زميله أحمد شعلان ملقى على محفة وفي حالة احتضار أيضا . . وقالوا إن الطبيب جاء ليراه . . وجاء الطبيب فعلا وخلفه شخص آخر من ضباط المباحث العامة هو أحمد رشدي .
ركبنا سيارات ترحيل المساجين بعد بعض الوقت وجدنا أنفسنا في معتقل " أبو زعبل " دخلنا المبنى الجديد الذي كان يتكون من ثلاثة أدوار , الدور الأول يضم عددا من " الزنزانات " الانفرادية . . والدور الثاني والثالث عبارة عن عنابر كل عنبر يتسع لثلاثين شخصا على الأكثر . . وصل عدد المعتقلين في كل عنبر إلى مائة وعشرين شخص . . كانت هناك أيضا حديقة خارج المبنى هي ساحة التحقيق والتعذيب الفردي أما التعذيب الجماعي فكان في حوش المبنى الذي كانوا يسمونه المحمصة .
وضعونا في العنابر . . فرحنا جميعا على أساس أن تحقيقنا قد انتهى . . وهنا مجرد معتقل . في الليلة الأولى . . وقرب منتصف الليل سمعت من ينادي على اسمي . . وكان أول اسم ينادى عليه من المجموعة التي رحلت من القلعة إلى " أبو زعبل " .
فأجبت عليه . . وعرفته رقم العنبر الذي أقيم ف ي ه . . فحضر إلى وقال لي :
_ هل معك منديل ؟ !
فدهشت جدا . . وبعد خروجي من العنبر أخذ المنديل وعصب به عيني ثم سحبني خارج المبنى ووجدت نفسي في حديقة التحقيق . . سمعت من يقول لي :
_ يا ضياء المشير مهتم بأمرك . . ونريدك أن تتكلم لأن ما قلته في القلعة غير كاف . . وأخذ يغريني بالإفراج عني .
فقلت له :
_ أنا قلت كل ما عندي وليس عندي شيء آخر .
وعندما لم يجد مني استجابة انقلبت اللهجة ووجه لي أقذع السباب ونسى ما قاله عن اهتمام المشير بي . . وحاجة البلد لي كطيار . . وقال :
_ إما أن تتكلم . . وإما أن نشنقك ؟ !
وأحضر فعلا حبلا ولفه حول رقبتي وأوقفني على حافة بلكونه وحاول أن يلقيني منها . . بعد ذلك قال لي :
_ ارقد . . سنصعقك بالكهرباء . . واحضر سوسته سرير وقال لي :
_ امسك السوسته علشان توصل الكهرباء . . فمسكتها من طرفيها فلم أجد بها أسلاكا فسبني بأقذع الألفاظ وقال :
_ دعها . . ثم اجلس على ظهري وأنا راقد على بطني ثلاث عساكر لكي يمنعوني من الحركة وأمسكوا بقدمي وانهال على قدماي ضربا بالشوم . . وطال الضرب بالشوم على قدماي قال :
_ راح نعطيك مائة شومة . . وطلب العسكري مني أن أعد وأخذت أعد حتى إذا وصل العد إلى رقم عشرين . . قال :
_ لا . . ثمانية عشر فقط . قلت :
_ عشرون . .
قال :
_ مش عاجبك ؟ ! طيب عد من أول واحد . . كانت عملية التعذيب عبارة عن عملية تعصير لأي معلومات عند الإنسان الذي يعذب .
بعد الانتهاء من التحقيق معي بدأ التعذيب في " التعذيب " كان جميع من في المحمصة معصوب العينين وهذا عذاب شديد لأنك لا ترى أحدا . . وقد يمكث الأخ في المحمصة يوما أو أسبوعا أو شهرا . . حسب فترة التحقيق معه
وهناك مجموعة من الإخوان استقرت في المحمصة حتى بعد انتهاء التحقيق معها . . وفي كلمة استطيع أن أقول :
_ " لقد كانت أساليب التعذيب في " أبو زعبل " تتسم بالخسة . . والنذالة . واللؤم " .
الفصل الثامن
غسيل المخ . . . للإخوان !
انتهت التحقيقات مع الإخوان بعد ما يقرب من ستة شهور ولم يبق إلا بعض التحقيقات الفرعية التي كان الغرض منها جمع أكبر قدر من المعلومات عن جماعة الإخوان المسلمين من الإخوان أنفسهم . وفي أحد الأيام دخل السجن الكبير الجلاد صفوت الروبي ومعه بعض أفراد الشرطة العسكرية وفتح الحراس أبواب زنازين السجن جميعها . . وأمرونا بالنزول إلى فناء السجن وبدأت عملية تصنيف القضايا الأولي وتضم القيادات وعلى رأسها الشهيد سيد قطب الذي كان يقيم في مستشفى السجن الحربي والقضية الثانية وأطلقوا عليها " تنظيم القاهرة " وكنت المتهم الثالث فيها والقضية الثالثة . . والرابعة . . والخامسة وكان الإمام حسن الهضيبيمرشد جماعة الإخوان المسلمين طيب الله ثراه . . أحد المتهمين فيها ومعه الشيخ الأودن رحمه الله وكان كلاهما قد جاوز السبعين عاما . . كان الوقت شتاء . . وطالت وقفتنا . . وهطلت الأمطار على رءوسنا ولم يصرفونا إلى الزنازين إلا بعد أن أغرقتنا الأمطار ووقفت أقرأ سورة الأنفال . . ويملأني إحساس كأننا في أرض غزوة بدر . . المطر يهطل علي رءوسنا . . ودموعي تنساب على خدي من شدة الانفعال . . وأردد قول الله تبارك وتعالى وكأنه خطاب لنا .
(إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان . وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام . . . إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين امنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فان الله شديد العقاب ) . . عجيب أمر هذا الإيمان ! ! لم ينل الإرهاب . . والتعذيب إلى حد الموت من عزيمة الإخوان شيئا ولقد كان إحساسنا أن بداية النهاية لنظام عبد الناصر بدأت بدخولنا السجن . . في شهر فبراير سنة 1966 . . وبعد عيد الفطر بأيام فتحت أبواب الزنازين في ساعة مبكرة من الصباح . . وقسمنا إلى سرايا . . كل سرية حوالي خمسين . . اختار الجلاد صفوت الروبي خمسة أدلة من الإخوان الذين لهم معرفة سابقة بالمشية العسكرية . . وبدأت عملية " غسيل المخ " . .وتطبيق أول بند في المخطط الذي وضعته اللجنة التي شكلت برئاسة زكريا محيي الدين رئيس الوزراء بشأن القضاء على تفكير الإخوان المسلمين . . بناء على أمر جمال عبد الناصر لوضع برنامج لأفضل الطرق التي يجب استعمالها لمكافحة الإخوان المسلين بالمخابرات والمباحث العامة لبلوغ هدفين :
1 – غسيل مخ الإخوان المسلمين من أفكارهم .
2 – منع عدوى أفكارهم من الانتقال إلى غيرهم .
ولقد اجتمعت اللجنة المشكلة من زكريا محي الدين رئيس مجلس الوزراء . . وقائد المخابرات العامة صلاح نصر وقائد المباحث الجنائية . . ومدير المباحث العامة وشمس بدران مدير مكتب عبد الحكيم عامر. . ولقد اجتمعت اللجنة عشرة اجتماعات متتالية في مبنى المخابرات العامة ورفعت تقريرا إلى جمال عبد الناصر الذي وافق على اقتراحات اللجنة ! ! . .
صورة من الوثيقة في نهاية الكتاب
وفي يوم من الأيام وقعت صفحات من جريدة الجمهورية بها تلخيص لكتاب صلاح نصر مدير المخابرات العامة وقتئذ الحرب النفسية وكان الكاتب الذي قام بالتلخيص هو الصحفي محمد جلال كشك ! !
ووجدنا الخطة التي تمارس علينا عمليا . . داخل السجن الحربي وقد ركز محمد جلال كشك على الفصل الثاني من كتاب الحرب النفسية الجزء الثاني " معركة الكلمة والمعتقد " . . والذي كان نفس النظام الذي طبق طوال 23 شهرا خلف أسوار السجن الحربي . .ويقول صلاح نصر في الفصل الثاني من كتابه الحرب النفسية الجزء الثاني : بعنوان . . اصطلاح جديد . . غسيل المخ .
" تختلف الأساليب المتبعة في تقويم الفكر تبعا للظروف وتبعا للجماعة التي تكون هدفا للبحث , ولكن الأصول الأساسية واحدة متماثلة في كل الحالات فهي تهدف إلى السيطرة على جميع الظروف المحيطة بالحياة الاجتماعية والجسمانية للفرد أو للجماعات لإثبات أن الأفكار الفردية غير صحيحة ويجب أن تتغير كما تهدف إلى تنمية الطاعة والإخلاص لعقيدة معينة فللسيطرة على بيئة الشخص الاجتماعية تبذل كل محاولة لتحطيم ولائه لأي فرد أو جماعة خارجة ويصحب هذا أن يوضح للشخص أن اتجاهاته وطوابع تفكيره غير صحيحة ويجب تغييرها كما يجب أن يعطى ولائه الكامل لعقيدة معينة ويخضع لها دون تردد . .
وعلى سبيل المثال استخدمت الأساليب التالية في السجون السياسية المختلفة .
1 – عزل الشخص عن الحياة العامة :
وذلك بأن يزج الفرد في زنزانة ذات أبواب حديدية وفي داخل أسوار حديدية بعيدا عن كل معارفه وعن كل مصادر المعلومات وصور الحياة العادية وهو في هذه الحالة يصبح نهبا للتعليقات والتحذيرات المفزعة ويغشى عقله غيوم تحجب عنه ما يدور خارج سور زنزانته ولم يختلف التكنيك الذي يستخدم اليوم عن ذلك الذي استخدم أيام محاكم لتفتيش أو الذي استخدمه النازيون مع أسراهم في معسكرات الاعتقال .
لقد كان ترك الأسير لمدة طويلة دون أن توجه إليه أية اتهامات ودون السماح تسرب أية أخبار إليه عن أسرته أو عن العالم الخارجي , فيشعر الفرد بأنه أصبح وحيدا في هذا العالم ولا يوجد بجواره من يستطيع أن يعاونه في محنته يشجع على ذلك أن أخلص أصدقائه وأحبائه عادة لا تواتيهم الجرأة ليسألوا عن مكانه أو يشيروا إلى أنهم على معرفة به خشية التعرض للاعتقال والاستجواب ومن ثم يتم عزله . وبعد فترة من القلق المستمر وبتطبيق بعض الأساليب الأخرى التي سنذكرها بعد ذلك يبدأ الاستجواب ومن المحتمل أن يتحطم الإنسان تلقائيا وبدرجة ملموسة نتيجة القلق والتفكير الطويل فيما يعترف به ويصبح في حالة بؤس وتعاسة .
وغالبا ما يناله الضعف والوهن نتيجة هذه الآلام الطويلة وما يصاحبها من ضغط فسيولوجي بحيث يصبح عقله ملبدا بالغيوم فلا يستطيع أن يميز أي شيء ويهبط إلى قرارة نفسه أي إيحاء يقدم إليه بواسطة الأخبار أو الحيلة .
وهناك وسائل معروفة استخدمت في السجون السياسية وهي أن يوحي إلى السجين بأن بلاده لم تعد ترفع صوتا واحدا من أجله , وأن محبيه وأصدقاءه تخلوا عنه مما يجعله يشعر بأنه أصبح وحيدا تماما فينقاد إلى المحاكمة الممزقة مسلوب الإرادة تحت أشد الظروف وطأة وعنفا " .
2 – الضغط الجسماني :
وهذا يتفاوت من الحرمان من الطعام ومن النوم إلى التصفيد بالأغلال كعقوبة لعدم التعاون مع المستجوب والهدف من هذا كله هو الوصول بالفرد إلى درجة من الإعياء والانهيار بحيث يكون عقله قابلا فينقاد لتقبل أي توجيه من المستجوب .
والواقع أن الجوع يلعب دورا أساسيا في عملية غسيل المخ لأن الإنسان لا يستطيع أن يستمر في حياته العادية دون أحوال بيولوجية معينة منها الغذاء اللازم لبناء خلايا الجسم وتجديدها .
والتغذية السليمة هنا ليست بكمية الغذاء الذي تمتلئ به المعدة فأننا نعرف أن الجسم يحتاج إلى نسبة معينة من المواد العضوية والفيتامينات التي تمكنه من تأدية وظيفته والوجبات الغذائية غير المتوازنة تخلق في الإنسان نوعا من الجوع فالعبرة هنا ليست بالبطون المنتفخة ذات البنية الضعيفة والذهن المشتت ولكن التغذية الجيدة هي التي تعمل على توازن الوجبات التي تعطي الجسم طاقته اللازمة .
ولقد استخدم التجويع بهذا المعنى كعنصر من عناصر عملية غسيل المخ إذ كان يعطي للسجين ما يكفيه من أطعمة تمكنه على قيد الحياة وليس بالكمية التي يتطلبها الجسم لجعل ذهنه يؤدي وظائفه بدرجة كافية . وكانت الأطعمة التي تقدم له تعدل بين فقرة وأخرى لتحقق الهدف المطلوب إذ كانت نسب الطعام توضع تبعا لصفات المقاومة التي يتصف بها الفرد فكلما ازدادت مقاومته تعمد المستجوبون تجويعه .
إن الجوع يجعل الإنسان يسير نحو حتفه بمحض إرادته بل قد يدفعه إذا وصل إلى درجة مفزعة إلى أن يتخلى عن معتقداته وقيمه خاصة إذا عاون ذلك ظروف مضنية أخرى .
والإجهاد لا يقل تأثيرا على الإنسان عن الجوع بل قد يبزه إذ أن الجسم يحتاج يوميا لعدد معين من الساعات للراحة والنوم وقد يظل بعض الناس في فترة من الفترات دون نوم لمدة يوم كامل , وظل الكثيرون على قيد الحياة بقسط لا يذكر من النوم إلا أن الاستمرار في ذلك من شأنه أن يقضي على صفاء الذهن ويؤدي بأقوى الأشخاص إلى الجنون والانتحار لأن الإنسان يصل في النهاية إلى درجة من الانهيار وتشويش ملكاته العقلية وفقدانه كل إحساس .
ويستغل المستجوبون في السجون السياسية هذا كله مهيئين بيئة يصبح فيها النوم شبه مستحيل , إذ يوقظون الفرد في ساعة غير عادية أو يجبرونه على الاستيقاظ كلما نام أو يوقظ في غلظة وخشونة ثم يستجوب لفترة قصيرة ويعاد ثانية لزنزانته والهدف من ذلك كله هو إجهاد المتهم أو الأسير حتى يصل في النهاية إلى درجة الانهيار تمكن المستجوب من الإيحاء إليه بما يريد .
3 – التهديدات وأعمال العنف :
يتخذ هذا الأسلوب شكلين متناقضين , فأما أن يكون مباشرا كاستخدام العنف والضرب والركل حتى الموت وربط السجين بشدة إلى أسفل بحيث لا يستطيع حراكا ثم يوضع حجر ثقيل فوقه ويترك هكذا لمدة طويلة إلى غير ذلك من الوسائل غير الإنسانية .
وأما أن يكون التهديد والعنف بشكل غير مباشر فمثلا قد يتحدث المستجوب مع السجين بمنطق هادئ بينما يجعله يكتشف عن طريق شخص آخر أن صديقه الذي لم يتعاون قد ضرب أو عدم .
وكانت لهذه الطريقة وسائل كثيرة فمثلا قد يعامل الفرد معاملة ودية طيبة ويتكرم المستجوب فيعطيه لفافة تبغ , وفي أثناء الحديث يسمع هذا الفرد زميله في الغرفة المجاورة يصرخ من الألم لرفضه الإجابة عن نفس الأسئلة الموجهة إليه أو أن يوضع عدد من الأسرى في زنزانة واحدة وعندما يعود أحد الزملاء مخضبا بدمائه كقطعة من اللحم أو تعاد ملابسه في لفافة صغيرة يكون هذا كافيا للآخرين كصورة من التهديد غير المباشر . ومن الأساليب الوحشية التي تستخدم في مثل تلك الحالات وضع الفرد في غرفة على شكل إناء كبير ثم يوثق داخل الإناء بحيث لا يستطيع التحرك ويصب الماء بعد ذلك ببطء داخل الإناء حتى يصل مستوى الماء إلى طرف أنفه . على أن الشخص الذي تقام عليه هذه التجربة وتكرر لفترات طويلة قد تصل إلى الشهر لا يستطيع في كل مرة أن يعرف عند أي مستوى سيصل الماء فتارة يقف المستوي عند عينه وأحيانا يصل إلى فمه مما يجعله يصارع بشدة لإبقاء رأسه خارج مستوى الماء .
ومن هذه الأساليب نفسها مثل مأخوذ من الحرب العالمية الثانية إذ يجرد أسير الحرب من ملابسه ويوضع في العراء في طقس درجة حرارته تحت الصفر ثم يدلي بقدميه في حوض كبير ممتلئ بماء سرعان ما يتجمد أو يوضع الأسير في أحد الأركان ويستجوب في أثناء تساقط من الماء فوق رأسه كل دقيقة ويستمر ذلك لساعات كاملة .
4 – الإذلال والضغوط :
تعتمد هذه الوسيلة على إتباع كل نظم السجن التي تتطلب الخضوع التام مع الإذلال في أسلوب . تناول الطعام . والنوم والاغتسال وما إلى هذا طبقا لنظم محددة مع عدم القيام بأي عمل دون الحصول على أذن من الحارس وانحناء الرأس وإبقاء الأعين موجهة إلى الأرض أثناء التحدث إلى الحراس كما تستخدم الضغوط الاجتماعية مثل الاستجواب لمدة طويلة ومثل عقد اجتماعات يحاول فيها الإفراد الذين تقدموا في عمليات التقويم حث الأفراد الأقل تقدما باستخدام عدة وسائل مختلفة , كالتمسك والمداهنة والإزعاج والمضايقة أو محاولة إذلالهم وسبهم .
5 – الدروس الجماعية :
واستخدمت الدروس الجماعية اليومية في الصين حيث كانت تدرس العقيدة الجديدة بواسطة قراءات ومحاضرات تتبعها أسئلة ليثبت كل فرد هضمه للدراسات التي يتلقاها على أن يتبع هذا بمناقشات يطلب فيها كل فرد أن يوضح كيف يستنبط الأهداف من مقدمات الدراسات الشيوعية وكيف يمكن تطبيقها هو لنفسه ويعتبر النقد المتبادل نقد النفس جزءا مهما من المناقشات التي تجري بين أفرد الجماعة " .
انتهى كلام صلاح نصر . . في كتابه حرب الكلمة والعقيدة فكيف طبقت هذه النظرية على الإخوان في السجن الحربي ؟ ! !
لقد طبق شمس بدراننظرية صلاح نصر في عملية غسيل المخ التي نقلت عناصرها الأساسية . . فاستخدمت معنا نفس الأساليب بقصد السيطرة على البيئة والظروف التي تحيط بنا لمحاولة تحطيم ولائنا لجماعتنا ولدعوتنا . . ظنا منهم أن ولاءنا لشخص من الأشخاص . . وكانت خطوتهم الأولى هي عزلنا عن الحياة العامة وقد تم ذلك بإدخالنا السجن الحربي وبقائنا فيه مدة 23 شهرا لم نر فيها أهلنا إلا أثناء المحاكمات وفي زيارة واحدة حدثت داخل السجن الحربي لمدة قصيرة جدا وعلى بعد ما يقرب من متر . ومن خلال حاجز سلك من طبقتين وقد حضرت زوجتي وولداي وأخي الأصغر . . وكان عمر أكبر أولاد خمس سنوات وعندما حمله عمه ليراني انهمرت دموعه وأنفجر في بكاء حاد وأرغم عمه أن ينزله إلى الأرض حتى لا يراني من وراء السلك وأنا حليق الرأس ارتدي " أفرولا " أزرقا بوجهي الشاحب . . وكان لقاءا عاصفا بين الأهل والإخوان . . ولم تكن الزيارة زيارة كما يفهم من اسمها إنما اضطرت السلطات إلى إتاحة تلك الفرصة للأهالي تحت ضغط الإشاعات الكثيرة حول الذين استشهدوا تحت التعذيب وكانت الإذاعة الإسرائيلية والإذاعات الأجنبية الأخرى تنشر كثيرا من الأخبار عن موت الكثيرين من الإخوان أمثال خبر موت الدكتور علي جريشة . . وموت الأستاذ حسن الهضيبي. . إنني لم أر والدي ولا والدتي ولا أحدا من أقاربي خلال أكثر من عامين وبعد أن انتقلنا من السجن الحربي . . وكان كل الذي يربطنا بأهلنا خارج السجن هو حضورهم إلى السجن وإحضارهم ملابس لنا وأخذهم ملابس منا . . كان ذلك بمثابة الدليل للأهل أن ابنهم ما زال حيا .
وكم تعرض الأهالي إلى اهانات صفوت الروبي جلاد السجن الحربي وحراس السجن بل ومن حمزة البسيوني نفسه . وإمعانا في عزلنا عن العالم . . منع عنا صفوت الإذاعة ومنعت الجرائد . . بل والأعجب من ذلك أنهم حرمونا لفترات طويلة من المصاحف ! ! . . ولم يكن مسموحا لنا طوال العامين الأولين بأية كتابات إلى أهلنا أو من أهلنا لقد كانوا يريدون أن يشعرونا أننا وحيدون في هذا العالم . . وأن لا أحد يفكر فينا خارج تلك الأسوار . . ولكنهم نسوا أننا لا نعول كثيرا على البشر لأننا نؤمن أن الناس لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فما ظنك بالنسبة لغيرهم . . وأننا كنا على يقين أن الأمر كله الله . . بيده مقاليد الأمور . . واليه يرجع الأمر كله . . وأننا مطالبون حتى نكون مؤمنين حقا أن لا نتوكل إلا عليه ولا نؤمل إلا فيه . . ولا نرجو سواه . . وأننا كنا نؤمن إيمانا جازما أن الله سبحانه هو مالك الملك يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك مما يشاء . . وأن الله يملئ للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ! !
أما بخصوص الضغط الجسماني الذي تمثل في الحرمان من الطعام ومن النوم . . فقد سبق أن قلت أن الحراس كانوا يفرغون الطعام في دورة المياه ولا يعطوننا وأنهم كانوا يأكلون اللحوم والأسماك والبيض والحلاوة الطحينية . . وكل ما يدخل لنا على قلته . . أكثر من ذلك أننا في أحيان كثيرة كانت تنتابنا حالات إسهال جماعية نتيجة لوجبة معينة وكنا نحس أن هذه الأمر مقصود ومدبر . . وبالذات وجبة " الفاصوليا " البيضاء . . ومرة أحضروا لنا سمكا فاسدا مما سبب لنا حالة تسمم ! !
وكانت كميات الطعام غير كافية فقد سبق أن قلت أن كل واحد منا كان يأخذ ثلاثة أرغفة فقط . . في خلال الأربع والعشرين ساعة وكان الادام يتمثل في ماء الفول أو الكميات القليلة من العسل الأسود وكان يوم الأربعاء من كل أسبوع يوم العسل الأسود . . ننتظره حتى نأخذ كمية العسل ولا نأكلها وندخرها للسحور . .وأذكر أنني كنت أسكن مع المهندس جلال الدين بكري . . والمهندس محمد الصروي والمهندس أحمد كيوان . . والكيميائي صلاح خليفة وأردنا أن نعد للسحور فأضفنا بعض الماء إلى العسل لنصنع منه " ماء عسل " وأضفنا إليه لبابة العيش التي كنا نجففها في الشمس ونضيفها إلى العسل أو الشاي ونتخذ منها غموسا لنا . . وفي تلك الليلة أحكمنا الغطاء على الإناء وعندما استيقظنا لتناول السحور لم أستطع أن أبتلع اللقمة لأن " فتة " العسل تخمرت وتحولت إلى كحول . . وكانت تلك الحادثة مجال تندر مهندسي الكيمياء الذين كنت أسكن معهم . . وعلى ذكر مهندسي الكيمياء فكر المهندس محمد المأمون يحيي زكريا وهو كيميائي بمؤسسة الطاقة الذرية في استخلاص المواد المالئة من الصابون لنأكلها ! !
وكان مسجونا معنا في نفس السجن أعضاء مكتب المشير عبد الحكيم عامر المختلسين وكانت تحضر إليهم أصناف الطعام والفاكهة أثناء زيارتهم الأسبوعية فكنا نأخذ قشر البرتقال الذي كانوا يلقون به في الزبالة تحت السلم ونغسله ونضيفه إلى الفول أو نضعه مع العسل ونصنع منه " غموسا لنا " ! !
وأذكر أننا أثناء سكني مع المهندس جلال الدين بكري والكيميائي صلاح محمد خليفة كان جلال بكري هو وزير المالية يعني المسئول عن الطعام كان يصرف كل واحد منا نحن الثلاثة سدس رغيف نأكله لنتقوى به على طابور العذاب الصباحي . . وبعد فترة اصفرت أوجه الإخوان وشحبت وفقدت أجسامهم كل ما فيها من شحم . . وأصبحوا أغصان بان كما يقولون . . وأذكر أن الأستاذ عبد الفتاح الشريف وكان في العقد السادس من عمره وكان مريضا بعرق النساء كان يصوم ليوفر للأخ حمدي صالح وللأخ سيد نزيلي العيش ليأكلانه لأنهما كان يجريان في الطابور السريع أما هو فكان يسير في طابور العواجيز ! !
ولكن أقول هل حقق التجويع هدفه ؟ ! . . أقول : لا – يقينا لأن الإخوان كانوا يصومون كثيرا . . وتعودوا الجوع حتى أنهم وجدوا راحتهم في الصوم . . بل لقد أسرف بعضهم في الصوم حتى كانوا يصومون الأشهر العديدة المتصلة ! !
أما بخصوص الحرمان من النوم فقد كانوا يوقظوننا من أذان الفجر ولا تعطى لنا فرصة للراحة أو النوم إلا بعد تناول العشاء في الفترة ما بين المغرب والعشاء ولقد كانت الشهور الخمسة الأولى لا نوم فيها إلا ساعات قليلة . . ومع ذلك فقد كان الإخوان يتواصون فيما بينهم " بقيام الليل " يصلون ويستغفرون . . ويذكرون الله قبل أذان الفجر . . وكانت الركعات التي تصلى قبل أذان الفجر هي الزاد الذي يستعين به الإخوان على مواجهة يومهم الشاق . . كان الإخوان يشبهون هذه الركعات التي يصلونها في جوف الليل بعملية " الشحن " للدينامو البشري ! ! وحقا كان الإنسان إذا أعانه الله فقام وصلى من الليل ما شاء له الله يصبح منشرح الصدر قوي الروح . . واثقا برحمة الله ورعايته وأنه سبحانه لا يكلف المسلمين ما لا يستطيعون .
أما عن الإجهاد ففي ظروف التجويع والحرمان من الراحة كانت عملية الاستيقاظ التي تتم بعد أذان الفجر بقليل تبدأ عملية الدورة وتفريغ " قصاري " البول والبراز ودخول الدورة التي كانت بمثابة طابور تعذيب لأن الحارس يقف على باب الدورة ولا يترك فرصة لأحد أن يقضي حاجته بطريقة طبيعية حتى نتج عن ذلك انتشار " البواسير " عند عدد كبير من الإخوان بالإضافة إلى أن تحولت الحجرات نفسها إلى دورات مياه كان الكثيرون من الإخوان يأخذون راحتهم داخل الزنزانة فيتبرزون في " القصرية " ويأخذونها ليفرغوها في الدورة بالرغم مما يسبب ذلك لهم ولإخوانهم من حرج وضيق ! !
وبعد الانتهاء من الدورة تبدأ نوبة النظافة وكانت تتمثل في الرش خارج السجن في المكان الذي نجري فيه طابور الصباح فتبدأ " طلبة من الإخوان " . . حوالي خمسين فردا يملئون القصاري الكاوتش ويحملونها على أيديهم ويرشون بينما آخرون يمسحون الطرقات أمام الزنازين ن يغسلونها بالماء وينظفونها بأيديهم وكانت قضية كمشيش وقضايا أخرى قيد بدأت ترد السجن الحربي وكانوا يضعونها داخل زنازين الدور الثالث وكان من هؤلاء من يتبول خارج زنزانته كما كنا نفعل نحن في أيام الضنك الأولى وكنا نمسح هذا البول بأيدينا . . وفي أيام الشتاء القارس البرد . . وعملية النظافة هذه لا تخلو من عمليات ضرب . . فقد كان الحراس يسلون أنفسهم علينا ويؤذوننا أشد الإيذاء . . وأحيانا كان " يكدر " جميع الإخوان أثناء الدورة بطريقة غاية في القسوة يأمروننا بالجلوس القرفصاء ويقولون لنا " ضم على من أمامك " ونبقى فترات طويلة على هذا الوضع الشديد الإيلام وطبعا تكون القصاري مملوءة بالبول والبراز وكثيرا ما انسكبت على ثيابنا ! !
وكم من المرات يقف الحارس ممسكا بالكرباج ويضرب الإخوان على أيديهم لا لشيء إلا أن أحد الإخوان تكلم مع أخيه لقد كان يغيظ الحراس أن يروننا سعداء . . نضحك أو نبتسم . . وفي السابعة صباحا تنطلق صفارة على حافظ " شويش " السجن تطلب من الإخوان النزول إلى أرض الطابور في فناء السجن ويسرع الإخوان في النزول حتى لا يصيبهم الأذى . . ويقفون سرايا كل سرية خمسون شخصا ويقف أمام كل سرية حارس ويبدأ الشغل : صفا . . انتباه . . استرح . . حاذي على زميلك . . أمامك أنظر . . ونقف في الأرض المرشوشة بالماء ساعة كاملة حتى يبدأ الطابور يتحرك وتكون أقدامنا قد تجمد الدم فيها وفي الأيام الأولى لم نكن جميعا نملك أحذية جلد أو أحذية كاوتش فأحذيتنا أما فقدت أثناء التحقيق أو مزقت أو سرقت . . كان البعض منا يقف حافي القدمين لأنه لا يملك حذاء أو لأن حذاءه ضاق على قدميه أو أنه لا يستطيع أن يجري به وقبل الثامنة بدقائق يصرخ حارس البوابة " ثابت ! !
ويدخل جلاد السجن صفوت الروبي كالكلب العقور مكشرا وجهه . . منتفخا مغرورا وكأنه قائد الجيش , يصرخ حكمدار السجن صفا .. انتباه . . يستعرض النظام أمام الجلاد صفوت الروبي وأخيرا يعطيه التحية العسكرية . . ويتسلم صفوت الروبي الطابور وأحيانا يستعرض نفسه فينادي على أي من الإخوان ويتهمه أنه تكلم . . أو تحرك فيلطمه على وجهه . . أو يكر بجه على قدميه . . أو يأمر أحد الحراس يلقي به في حوض الفسقية داخل السجن . . ولا تزال صورة الأخ محمد بدير أو صورة الأخ محمد إبراهيم سالم ماثلة أمامي الآن وبعد مرور أكثر من اثنتي عشرة سنة على هذه الحادثة . . تماما قبل أن يتحرك الطابور يأمر صفوت الروبي العسكري علي الأسود فيأخذ الأخ ويلقى به في حوض الفسقية ويجعله يجلس على ركبتيه حتى تغطي المياه كل جسمه ما عدا رأسه . . كان هذا المنظر يملأ قلوبنا غيظا وحقدا وشفقة ورحمة على أخينا . . وبقى الأخ في الفسقية حتى خرج الطابور . . وجرى الإخوان ما يزيد عن ساعة كاملة " سريعا جري " . . ودخل الطابور مرة ثانية إلى السجن . . كان طابور الجري السريع في الصباح في أول الأمر مأساة إنسانية فلم يكن يراعى فيه كبير السن أو المريض أو العاجز . . الجميع كانوا يجرون وكم من واحد سقط وجرى على جسده الإخوان وألهبت ظهره سياط الحراس . . كان الحراس يتناوبون الجري مع أدلة الطابور وكلما أسرعوا أسرعنا حتى تتقطع أنفاسنا . . ولكن كانت أنفاسهم هم تتقطع فيتناوبون الجري معنا .
كان حمزة البسيوني يستعرض الطابور على صهوة حصان يحضرونه له يوميا من كلية الشرطة وكان الإخوان عندما يرونه يملأهم الحماس فيتبخترون في مشيتهم ويرينه قوتهم ودقة نظامهم ولياقتهم رغم الظروف القاسية التي تحيط بهم ولكن أثناء الساعة التي يقفها الإخوان داخل السجن انتظارا لحركة الطابور السريع هل كانوا يقفون صامتين ؟ ! تعجب حين تعرف أن الإخوان أثناء طابور الصباح سواء وهم وقوفا داخل السجن أو هم يجرون سريعا خارج السجن كانوا يحفظون القرءان الحافظ يحفظ الذي لا يحفظ . . أو يراجع له . . وكان من الإخوان ثنائيات مشهورين . . أمثال الدكتور محمود عزت مع عبد العزيز عبد القادر المدرس . . وعاطف شاهين مع يحي نعمة الله . . أحدهما يحفظ الآخر . . بل لقد كان الإخوان أثناء طابور النظافة صباحا ومساء يستغلون الوقت ليحفظوا القرءان . . وأذكر أن صلاح محمد الخليفة الذي يعد الدكتوراه في مؤسسة الطاقة الذرية كان يحفظ حزبا من القرءان كل يوم وفي تمام الساعة التاسعة ينتهي طابور الجري السريع ويدخل الإخوان منهكين وينصرفون إلى الزنازين ليحضروا " القروان " ليأخذوا التعيين . . وكنا في أول الأمر نأكل في الزنازين ويكون في ذلك فسحة أكبر للراحة ولكنهم فرضوا علينا أن نأكل جميعا في حوش السجن حتى إذا فرغنا من الطعام صعدنا إلى الزنازين لنستعد لطابور " معتادا مرش " ! !
وفي هذا الطابور يتولى كل حارس أمر سرية . . ويدربها السير العسكري الصحيح . . وطبعا المعلم لابد أن يضرب . . ويستمر هذا الطابور حتى بعد أذان الظهر . . وكان الإرهاق يتضاعف أيام الصيف وشمس الصحراء المحرقة التي كانت سببا في تساقط بعض الإخوان من ضربة الشمس ! !
ثم ننصرف لتناول الغذاء في الزنازين وبعده بوقت يصفر " علي حافظ " حكمدار السجن لننزل الطابور ولا ينتهي هذا الطابور إلا قرب الغروب فننصرف إلي الزنازين . . ويصرخ أحد الحراس : " طلبة " النظافة والرش تنزل . . ويسرع الإخوان في النزول حتى لا يتأخروا ويكون ذلك سببا في طابور تذنيب قد يستمر حتى المغرب . . تنزل طلبة النظافة والرش . . تكنس حوش السجن بأيديها . . وتنظف من فضلات الكلاب ثم تبدأ عملية الرش . . داخل السجن وخارجه وأخيرا وبعد أذان المغرب نصعد إلى الزنازين ويكون " التعيين " قد أحضره الإخوان من المطبخ ويبدأ الحراس توزيعه علينا . . ولفترة طويلة كانوا يصرون أن نتناول طعام العشاء في حوش السجن ! !
هكذا كان يمضي يومنا . . من بعد أذان الفجر وحتى أذان المغرب في عملية إجهاد متواصلة ولكن الله سبحانه كان يعيننا ! !
أما أسلوب التهديد والعنف . . والضرب والركل حتى الموت فهذا هو الطابع المميز للسجن الحربي . . كان الواحد منا يتعرض للضرب والركل في كل وقت . . وأذكر أن العسكري زغلول ضربني بقبضة يده في فمي فأسقط سنتي الأمامية . . وبقيت معلقة في فمي حتى خرجت من السجن . . ومرة أخرى راني الحارس عدلي وكانت يده كالمطرحة وجدني بعد عمل النظافة أخرج من دورة المياه فأمسك بي ولطمني على وجهي لطمات لا أنساها لقسوتها . . وفي أحد طوابير الصباح وكنت قد أخذت تصريحا من طبيب السجن أن أعفى من طابور الجري السريع لمرض رجلي اليمنى . . ولكن صف الضابط نجم مشهور سألني هل معي تصريح الطبيب فلما لم يجدن معي , أمر العسكري " سمبو " يضربني ثمانية صفعات على وجهي ونفذ سمبو بيده التي كالرحى وأعطاني ما أمره به نجم مشهور . . ولا ينسى الإخوان صورة محمد عبد العزيز عطية الذي أصبح عاجزا من الحركة من آثار التعذيب وكم من أذن خرقت . . وأصبع كسرت . . ورأس شجت وجسد مزقته السياط ! !
أما بخصوص تمزيق الملابس فقد سبق أن قلت أن أول ما كان يفعله الزبانية أثناء التحقيق هو تمزيق ما على الأخ من ثياب حتى يقف عاريا إلا ما يستر عورته . . وأذكر أن السيد نزيلي بقى عاريا لعدة أيام حتى أحضروا له " أفرول " أحد العساكر ومن أساليب العنف أيضا " الزنزانة 9 " وكانوا يسمونها " الثلاجة " كانت أرضيتها منخفضة عن بقية الزنازين وعتبتها عالية ما يقرب من نصف متر كانت تملأ ماء ويأتي بالضحية معصوب العينين ويلقى فيها . . كانوا يجلسونه على مقعدته ويربطون يديه ويبقى هكذا أياما وليالي طويلة حتى يكاد يتجمد ويقف على باب الزنزانة حارس يسبه ويلعنه بين الحين والحين حتى لا يدعه ينام . . وكان من رواد هذه الثلاجة الأستاذ معروف الحضريأحد أبطال حرب فلسطين وبطل من أبطال الفالوجا وواحد من الذين قاموا بانقلاب 23 يوليو . . وأيضا كان الأستاذ مصطفى راغب أحد مجموعة رشاد مهنا . . وأحد رجال انقلاب يوليو . . ممن دخلوا الثلاجة وبقوا فيها حتى انهارت قواهم تماما ! !
أما أسلوب الإذلال والضغوط فقد كان نظام السجن الحربي محققا لذلك تماما . . ولا زلت أذكر صرخات العسكري " محمد مراد " وهو صعيدي من بني سويف كان إذا نظر إليه الأخ وهو يتحدث إليه يصرخ فيه ويقول أنظر بعينيك إلى الأرض يا مسجون ! !
وكان الحرس لا يسمح لأي أحد أن يفعل أي شيء إلا بإذن من الحرس . . وأذكر أني مرة أوصلت قرصين من الأسبرين من زنزانة إلى زنزانة أخرى وأنا في طريقي إلى الطابور ولمحني العسكري محمد مراد فأعطاني نصيبي من الصفعات . .
وكان محمد مراد هذا يعاقب بعض الإخوان لأي سبب من الأسباب يجعلهم يضعون أيديهم خلف ظهورهم ثم يضعون جبهتهم على الأرض كالذين يسجدون ولا يستطيع أحد أن يعترض وإلا فالويل للجميع . . وقد صرح لنا الحراس أنهم يأخذون محاضرات ليتعلموا أسلوب معاملتنا . . وكانوا يقولون لنا إن الواحد منكم لا دية له . . شمس بيه قال لنا هذا ! !
وأذكر صورة من صور إذلالنا . . كان هنا أحد الحراس اسمه الروبي . . وهو شاب طويل أمي . . يعمل حاليا خادم مسجد جلس على كرسي بالقرب من حوض الفسقية ورأي المستشار الدكتور علي جريشة وأمره أن يجمع أعواد " الكرات " المتناثرة حول الروبي الذي جلس ووضع رجلا على رجل وجلس المستشار على جريشة وأخذ يجمع أعواد الكرات من تحت أقدام الروبي ! !
وكان من صور الإذلال والضغط النفسي على الإخوان ترك شعورهم حتى تطول لحاهم وشواربهم ثم يحلقون لهم شعور رءوسهم ويتركون لحاهم طويلة . . مما يكون مجالا للضحك بين بعضنا ! !
ولكن كل هذه الأساليب لم تنجح مع الإخوان لأن إيمان الإخوان بعدالة قضيتهم . . واعتقادهم أنهم على الحق وأن أعدائهم على الباطل وأنهم لم يجرموا حتى يستحقون كل هذا العنف . . جعلهم يستغلون بهذا الإيمان ويستصغرون كل هذه الأساليب كانوا يعرفون أن الابتلاء سنة الله في رسله وأنبيائه وأتباعهم ووجدوا في الصبر الجميل على ما يلاقون الخير كل الخير وكانت الدروس الجماعية هي خاتمة المطاف في عملية غسيل المخ التي أجريت على الإخوان منذ اللحظة الأولى التي دخلوا فيها السجن الحربي وطوال ثلاثة وعشرين شهرا حتى يستحقون كل هزيمة يونيو سنة 1967 . . التي قصمت ظهور الظالمين وزلزلت صروح الظلم وأرانا الله مصارعهم جميعا , في يوم جمعة حضر إلى السجن الحربي " عقيل مظهر " وأحضروا له كرسيا جلس عليه بالقرب من بوابة السجن . . وصعد الحراس إلى الأدوار وفتحوا أبواب الزنازين وأطلقوا صفارة النزول فأسرعنا إلى السلالم ننزل . . وصففنا صفوفا عدة . . ووقف صفوت الروبي وكأنه قائد يستعرض جنوده . . ثم أمرنا بالجلوس . . وربما كان مع عقيل مظهر أشخاصا وانطلقنا منصرفين إلى الزنازين فإذا بصفوت الروبي جلاد السجن الحربي يصرخ مرة ثانية ليرى عقيل مظهر دقة النظام : ثابت . . وتجمدنا كل في مكانه بلا حركة . . ثم صرخ للمرة الثالثة : انصراف . . وانصرفنا إلى داخل الزنازين وأغلقوا الأبواب علينا ! !
كان حضور عقيل مظهر السجن الحربي بداية الدروس الجماعية . . فاشتروا مكبرات صوت . . وكل ما يلزم لإلقاء محاضرات علينا في قاعة ميس الضباط . . وبدأت طائفة من رجال الأزهر تحضر إلى السجن لتلقى علينا محاضرات أمثال محمد بن فتح الله بدران . . والشيخ السبكي عضو هيئة كبار العلماء . . وعبد المغني سعيد ويحيي درويش والدكتور محمد بيصار وكيل الأزهر . . وجاءت هذه الدروس الجماعية رحمة من الله فقد ساءت حالتنا الصحية وأنهكت قوانا تماما وأصبحنا كالأشباح والحقيقة أن الله سبحانه وتعالى يجعل مع كل عسر يسرا فقد سبقت فترة الدروس الجماعية فترة طويلة كان أغلب الإخوان قد حفظوا كثيرا من القرءان وتحدثوا حول كثير من أمور العقيدة ولقد جرت مناقشات كثيرة بين الإخوان بعضهم وبعض أو بين الإنسان ونفسه حول صحة ما هو عليه . . لأن محنة الحربي ضراوتها جعلت الإنسان يعيد التفكير فيما يعتقد وأنا عن نفسي لقد أتيحت لي فرصة أن أراجع نفسي في كل مبادئ العقيدة الإسلامية . . حدث أن أصبت بنزلة برد شديدة نقلت بسببها إلى مستشفي السجن الحربي ووضعت في حجرة وحدي . . وعلى فراش المرض جرى حوار بيني وبين نفسي بدأ بوجود الله سبحانه وتعالى . . وحقيقة الإسلام . . والفهم الصحيح للإسلام . . لقد وضعت كل معتقداتي أمامي واختبرتها واحدة واحدة حتى أستطيع أن أواجه محنتي التي قد تنتهي بي إلى الموت أو إلى الجنون أو إلى العجز والانهيار . . إن محنة السجن الحربي لا يمكن أن يتحملها إنسان ويصبر عليها ما لم يكن الأمر الذي من أجله سجن أكبر من كل عذاب . . ومن كل متاع في هذه الحياة . . وأكبر من الحياة نفسها بكل ما فيها ومن فيها .
والحقيقة أن محنة السجن الحربي لها وجهها المضيء . . والذي يتمثل في تجلية أجهزة الاستقبال فينا كبشر حتى أصبحنا نحس بأن الله سبحانه قريب منا . . وأصبحنا نقرأ القرءان ونحس بروعة المعجزة الإلهية فيه فنحن كمخلوقين تدب أرجلنا على الأرض نسمع حديث الله إلى رسوله الذي أنزل عليه منذ أربعة عشر قرنا . . نسمعه وكأنه خطاب لنا نحن في هذا السجن الذي صنع منه النظام الدكتاتوري " جهنم الدجال " ! !
أريد أن أقول أن الدروس الجماعية والتي بدأت في شبه محاضرات داخل ميس الضباط . . نجلس نحن على الأرض أمام المحاضر وبجانبه حمزة البسيوني وصفوت الروبي . . ويحيط بالعنبر الحراس مسلحون وكانت الموضوعات التي يتناولها المحاضرون عن الإسلام وكان كل همهم هو أقناعنا بأن الإسلام ليس نظام حكم حتى أن أحد العلماء الكبار الذين يتولون اليوم منصبا كبيرا في أعلى هيئة إسلامية عندما سئل عن تطبيق حد السرقة قال : كيف نطبق حد السرقة ونصنع من مجتمعنا مجتمعا مشوها . . وتكلم عن أن في الإسلام . . كفاية . . وعدل " وهو الشعار التي كانت ترفعه الدولة تصف به الاشتراكية بأنها كفاية وعدل . . وأراد أن يستشهد بالقرءان عن " الكفاية " فقال ( أليس الله بكاف عبده ) ؟ !
لقد كانوا يريدون تضليلنا . . ولكنهم على العكس زادونا ثقة بأنفسنا وأحسسنا أنهم أقزام منافقون عبيد للسلطة الغاشمة ! !
وبعد فترة من المحاضرات طلبوا من أن نسأل . . ولم نخف وسألنا علماء السوء هؤلاء أسئلة كان قصدنا منها إحراجهم وخزيهم وكثيرا ما سبب ذلك لنا الكثير من المتاعب . . وأذكر أننا " كدرنا " بسبب سؤال سأله المهندس محمد الصدوي . . الذي " كربجوه " أمام الطابور . . وكان من بين المواقف الشجاعة التي لا يمكن أن تنسى . . موقف المهندس الكيميائي عبد المجيد يوسف الشاذلي من الإسكندرية وقف الشاذلي أمام حمزة البسيوني ليتكلم عن أنواع الحكومات فعرف الحكومة الراشدة التي تتحاكم إلى شريعة الله وتلتزم بها وتلزم الناس بها . . والحكومة الجائرة وهي التي تقر بالتحاكم إلى شريعة الله وتتخذها مصدرها للتشريع ولكنها لا تلتزم في التطبيق في بعض الأحكام . . أما الحكومة الكافرة فهي التي فضلت شريعة غير الله على شريعة الله وأعطت حق التشريع لبشر من البشر ! !
لم ينس حمزة البسيوني ذلك لعبد المجيد الشاذلي ففي يوم من الأيام وفي عودتنا من المحاضرة في المساء إلى السجن الكبير اختفى عبد المجيد الشاذلي ولم يعد معنا إلى زنزانته . . ولم نعرف مصيره إلا بعد عدة أيام . .بل عدة أسابيع . . فعرفنا أنه عزل في سجن رقم 3 في زنزانة واحدة وهدد بالقتل وسووم . . طالت الدروس الجماعية وضاقت بها نفوسنا ولكنها كانت فرصة لنرتاح من طوابير التعذيب التي كانت تستمر طول النهار . . وجاء شهر يونيو 1967 وكان قد فشل كل الذين أتوا بهم ليحاضروننا في المهمة التي جاءوا من أجلها فانقطعوا كلهم إلا واحدا هو محمد بن فتح الله بدران وقيل أنه قريب لشمس بدرانوحقيقة كان رجلا ألعبانا بالألفاظ وعلى قدر كبير من التصنع والتفيقه . . وكان ذا دلال على حمزة البسيوني واستمر الشيخ بدران في محاضراته حتى إذا كان آخر شهر مايو سنة 1967 قال لنا انه سيجري لنا امتحانا يوم الاثنين 5 يونيو 1967 . . يوم الهزيمة التي قسمت ظهر عبد الناصر وزلزلت سلطانه كان الشيخ بدران يقول بعد الامتحان سنقسمكم إلى فئات الأوائل منكم فئة " أ " ثم فئة " ب" ثم فئة " ج " وستعطي المميزات كلها للفئة " أ " . . ولم يعد يخيفنا الامتحان وطبعا كنا مصممين على أن نكون " ج " – لأن " جهنم الدجال " هي جنة الله ! !
ولكن من تدبير الله أن جاءت النكسة في نفس اليوم الذي بيتوا فيه أمرهم على أن يحدثوا فيه الفتنة . . فتنة تقسيم الإخوان إلى فئات أ , ب , ج . . وبهزيمة يونيو . . انتهت مذبحة السجن الحربي . . ولكن الله سبحانه أراد أن يشفي صدورنا قبل أن نخرج من السجن الحربي لقد حدثت الهزيمة يوم 5 يونيو سنة 1967 ولم نخرج من السجن إلا يوم 17 يونيو سنة 1967 . . وفي الاثنى عشر يوما هذه أرانا الله ما أقر به عيوننا . . وأذهب غيظ قلوبنا . . وهذه ما سأحكيه في الفصل التالي . .
الفصل الأخير
هزيمة يونيو . . نهاية المذبحة !
استمرت التحقيقات في السجن الحربي خمسة شهور وبضعة أيام وكانت تلك الفترة أسود أيام شاهدناها في السجن الحربي لما فيها من إرهاب ملأ القلوب رعبا . . وضراوة في التعذيب وصلت إلى حد الموت . . وكان الوقت في تلك الفترة يمر بطيئا . . بطيئا والأيام تطول . . حتى كانت بحق أطول أيام التاريخ على الإطلاق ! ! وكنا ننتظر انتهاء التحقيقات وكأنما ستكون نهاية المذبحة بل نهاية المحنة . . فلم تكن السجون المدنية تفزعنا لأننا كنا نعتبر أن السجن الحقيقي هو خارج الأسوار وليس وراء الأسوار لأن الحياة في ظل حكم جمال عبد الناصرخارج السكون كانت تثقل كهولنا . . وكهول النابهين من أبناء هذا الشعب الذين لم يفلح جمال عبد الناصرفي شرائهم أو تطويعهم أو احتوائهم ! ! أيا كانت عقائدهم . . وأذكر أنني في الفترة من 1961 إلى 1965 وكنت أدرس في قسم الصحافة بجامعة القاهرة كنت أجلس مع مجموعة من أبناء قسم صحافة مختلفي العقائد ولكننا جميعا حانقين أشد الحنق على النظام الدكتاتوري الناصري وكنا جميعا نتوقع بين آونة وأخرى أن يلقى القبض علينا وأذكر أيضا أننا كنا نذاكر في حجرة زميلنا سامي السلاموني في عام 1965 وكان معنا زميلا نشك في علاقته بأجهزة الأمن قال لي وحدي :
_ لماذا لا نعمل تنظيما . . ضد جمال عبد الناصر؟ ! .
فأقنعته أنه من العبث عمل تنظيم لأن أجهزة الأمن ستكشفه ونروح بلاش ! !
وتحدثت بذلك إلى سامي السلاموني . . واعتقدنا أن هذا " فخا " يريد به زميلنا أن يوقعنا فيه ! !
المهم أن السجن كسجن لم يكن في تصورنا محنة . . على العكس الكثيرون منا اعتبروا سنوات السجن التي سيحكم علينا به فرصة لإعادة تكويننا فكريا . . وتربويا . . وكما ربى موسى فرعون في بيت فرعون . . تربى نحن في سجون فرعون مصر الحديث جمال عبد الناصر! !
إن الذي لا يملك الحجة القوية التي يدحض بها حجة غيره يلجأ إلى أسلوب البطش واستعمال القوة وهذا في الحقيقة أسلوب ضعف يصدر من مراكز ضعف وليس من مراكز قوى كما كانوا يطلقون عليهم ونحن بعون الله بوقوفنا بجانب الحق كنا في مراكز القوى فكيدهم هو كيد الشيطان ( إن كيد الشيطان كان ضعيفا ) أما نحن فمع الله والله هو الذي يكيد لنا ( وأملى لهم أن كيدي متين ) .
في أوائل شهر فبراير سنة 1966 انتهت التحقيقات , وذات صباح فتحت أبواب الزنازين وأخرجونا إلى " حوش " السجن الكبير صفونا سرايا كل سرية تضم أكثر من خمسين أخا وبدأت عملية " غسيل المخ " التي اتبعوا فيها الأسلوب الشيوعي الذي طبقوه بحذافيره علينا طوال الثمانية عشر شهرا التي أعقبت شهور التحقيقات ! !
وخلال عملية غسيل المخ تلك بدأت المحاكمات وصدرت الأحكام وأعدم الشهداء الثلاثة : الأستاذ سيد قطبوالأستاذ محمد يوسف هواش والشيخ عبد الفتاح عبده إسماعيل وصفي السجن الحربي من جميع الإخوان ولم يبق فيه إلا الذين حوكموا وصدرت ضدهم أحكام بدءا بالبراءة وحتى الأشغال الشاقة المؤبدة ! !
وأذكر أنه في أحد الأيام التي أعقبت صدور الأحكام وقف أركان حرب السجن الحربي وكان الإخوان يطلقون عليه " إبراهيم سكر " وقال : _ انتم فاكرين أنكم ستذهبون إلى السجون المدنية ؟ ! ما تحلموش بذلك أنتم ستبقون هنا في السجن الحربي حتى تخرجوا مكسحين ! ! وكان هذا الكلام أقسى من أحكام الدجوي والذي أكد لنا هذا الاتجاه أن شمس بدرانورجال الشرطة العسكرية كانوا يطلقون على السجون المدنية " لوكا ندة السجون المدنية " ! !
ولكن هل وجد اليأس طريقا إلى قلوب الإخوان في يوم من أيام المحنة ؟ ! . . الإجابة الصادقة والصريحة والصحيحة هي أن الإخوان لم يفقدوا الأمل لحظة من لحظات المحنة لقد تخلت عنهم كل أسباب الأرض . . ولم يعد لهم حول ولا قوة إلا حول الله وقوته . . فاستصغروا لذلك ما يدبره طواغيت الأرض جميعا . . وطغاتها . . بدءا من الصهيونية الماكرة والصليبية . . الحاقدة . . والشيوعية الملحدة والوثنية التابعة إلى عملائهم من أقزام الحكام في بلاد العالم الإسلامي وعلى رأسهم الطاغية جمال عبد الناصر! !
كان الإيمان " بالحق " الذي ترفع رايته جماعة الإخوان المسلمين هو القوة المتجددة في نفوس الإخوان والمفجرة لطاقتهم في التحمل والصبر والمصابرة . .وكان الباطل الذي عليه جمال عبد الناصر من الوضوح والظهور بحيث لك يخف على أحد . . وكانت حربه الضارية للإسلام ومطاردته للمسلمين وإبادتهم ومحاولته استئصال الدعوة الإسلامية من جذورها دليل على أن المعركة ليست ضد الإخوان كبشر ولكن المعركة ضد الإخوان كجنود الحق . . وأذكر حديثا قاله لي الأخ الشيخ فؤاد الجبيلي أثناء طوابير غسيل المخ المجهدة :
_أسمع يا أخ جابر . . أنت فاكر إن عبد الناصر يحاربنا نحن ؟ ! لا . . عبد الناصر يحارب الله ورسوله في أشخاصنا الضعيفة . . المعركة ليست معنا . . المعركة مع الله . . فهل ينتصر عبد الناصر ؟ ! كنا على يقين أن الله معنا وليس مع جمال عبد الناصر وعصابته وكنا على يقين أن كل يوم يمر علينا يقرب محنتنا من نهايتها ويقرب عبد الناصر ونظامه من نهايته . . كان " الإيمان " هو ملاذنا الوحيد . . والله سبحانه هو ركننا الشديد الذي تركن إليه .
وكانت هذه الروح المؤملة في رحمة الله سبحانه هي التي تهيمن على الإخوان جميعا وكانت مصدر مجموعة من الرؤى المبشرة بالخير . . رآها الإخوان أثناء وجودنا في السجن الحربي وجاءت كفلق الصبح في تحققها وأذكر رؤيا رواها لي الشيخ محمد المطراوي أمام مسجد السيدة زينب رحمه الله رأى أن أسوار السجن الحربي قد هدمت وأن عصابة عبد الناصر عارية تماما وبينما نحن خارجون من السجن الحربي رآهم هم يدخلون إليه وتحقق ما رأى ! !
ورؤيا أخرى رواها الأخ كمال الفرماوي رأى فيه سيدنا موسى عليه السلام . . ورأى نفسه يقول : كانوا يظنوننا أحدا لكنها بدرا . . ومعروف أن المسلمين هزموا في أحد وانتصروا في بدر . . لقد صفت نفوس الإخوان وتعلقت قلوبهم بربهم وحصروا أملهم ورجاءهم في الله وحده وهانت عليهم قوى الباطل واستعانوا عليه بالطاعة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى . . فبالرغم من الإجهاد الشديد الذي أثمرته عملية غسيل المخ للإخوان حتى شحبت وجوههم . . ونحفت أجسادهم وصاروا كالأشباح إلا أن الإخوان كانوا يحرصون على " قيام الليل " ويحرصون على " الصوم " تطوعا ويتنافسون ويتسابقون في حفظ القرءان وتلاوته . . وتدارسه . . ويمثلون بجيل الصحابة رضوان الله عليهم . . لقد كانت فترة السجن الحربي هي الذروة التي وصل إليها الإخوان في طاعتهم لربهم وتوكلهم عليه . . ولجوئهم إليه . . وكانوا بحق " التقوى " زادهم التي بها يتزودون . . وأذكر أن الدكتور أحمد الملط أكرمه الله كان يردد مثيرا الأثر الذي يقول :
" يا أبا ذر أحكم السفينة فان البحر عميق " .
" وخفف الحمل فان العقبة كئود " .
" وأكثر الزاد فان السفر طويل " .
" واخلص العمل فان الناقد بصير " .
وعلى ذكر الرؤى كان الأستاذ عبد الفتاح رزق الشريف من إخوان دمنهور أكثر الإخوان اهتماما بالرؤى وتفسيرها وكان مبشرا . . ولا يرى أحد الإخوان رؤيا إلا تصل إلى الأستاذ شريف . . أو يسعى الأستاذ شريف نفسه ليسمعها منه خاصة الرؤى ذات الرموز أو رؤى الرسول صلى الله عليه وسلم . . وأصبح السؤال اليومي للأستاذ عبد الفتاح الشريف : هل أحد من الإخوان رأى برؤيا اليوم ؟ ! .
وكانت تشيع بين الإخوان عبارات مبشرة مبعثها الإيمان فعندما كان بعض الإخوان يسألون عن الأخبار . . التي تصل عن طريق بعض الزيارات كنت تسمع واحدا من الإخوان يقول :
_ أحسن . . انتظروا خبر السماء ! !
شاع في السجن دور عبد الفتاح الشريف في تفسير الرؤى واهتمامه بها حتى أطلقوا عليه اسم " وكالة أبشروا " وبسبب ذلك حدث له ما لم ينسه أحد من الإخوان . . كان أول يوم في رمضان . . وفي طابور الصباح وقف جميع الإخوان في فناء السجن الكبير ينتظرون بداية " الطابور السريع " الذي قاسى منه الإخوان الويلات . . دخل صفوت الروبي . . فأعطاه شاويش السجن تحية " تمام " . . وكان صفوت مكشرا عن أنيابه كالكلب الشرس . . نادي بصوت عال :
_ فين عبد الفتاح رزق الشريف ؟ !
خرج الأستاذ شريف من طابور العواجيز . . فقد كان سنه قارب الستين إن لم يكن جاوزها . . وكان مريضا " بعرق النساء " تقدم سريعا إلى الصول صفوت جلاد السجن الحربي حتى وقف أمامه فقال له صفوت :
_ أنت صاحب وكالة أبشروا . . ولم يتركه لحظة ليجيب . . ولكنه صفعه بيده صفعة ألقت به على الأرض فاقد النطق تماما . . وصرخ في أحد الحراس أن يحمله إلى المستشفي وقد ظننا أنه مات . . كان ذلك في بداية شهر رمضان وأول عمل رأيناه في صباح هذا اليوم . . ثم صرخ فينا صفوت . . سريعا جريا ! !
وبدأنا نجري ونحن نقول : حسبنا الله ونعم الوكيل . وأثناء الجري رأينا الأستاذ عبد الفتاح رزق الشريف يخرج من المستشفي وكأنه خارج من القبر شاحب الوجه مجهدا يجر رجليه وخلفه أحد الحراس يلهب ظهره بالكرابيج ليسرع . . وأراد صفوت أن يدخل عبد الفتاح رزق الشريف طابور السريع ليجري ولكن كيف لشيخ في الستين مريض " بعرق النساء " صفع صفعة ألقت به على الأرض فأغمى عليه ثم أفاقوه في المستشفى . . كيف لإنسان في مثل هذه الحالة أن يجري . . اكتفى صفوت أن يسير الشيخ عبد الفتاح الشريف خلف الطابور السريع والحارس يلهب ظهره بالكرباج ! !
ورغم هذه الحادثة المروعة للأستاذ عبد الفتاح شريف إلا أنه استمر صاحب " وكالة أبشروا " للإخوان يتعقب رؤى الإخوان ويصر على أن يسمعها بنفسه ويفسرها بما يبشر الإخوان بنهاية المحن . . ومجيء الفرج وكان للأستاذ شريف نفسه رؤيا رأى فيها بطانية من بطاطين السجن كتب عليها .. 17 و 9 . . فقط وانتظر الأستاذ شريف تفسير تلك الرؤيا فإذا بالأحداث تتلاحق وتقع هزيمة يونيو وتحقق رؤى الإخوان ونخرج من السجن الحربي يوم 17 يونيه الموافق 9 في الشهر العربي ! !
لقد كانت هزيمة يونيو 1967 نهاية مذبحة السجن الحربي . . ونهاية عملية غسيل المخ التي خططها صلاح نصر في كتابه الحرب النفسية ونفذها وأشرف عليها " عقيل مظهر " واشترك في التنفيذ إلى جانب شمس بدران و حمزة البسيوني و صفوت الروبي وحراس السجن مجموعة من العلماء منهم : الشيخ محمد عبد الرحمن بيصار والشيخ محمد بن فتح الله بدران والشيخ السبكي والأستاذ عبد المغني السعيد . . والأستاذ يحيي درويش واستمرت طوابير التعذيب ومحاضرات التضليل من علماء السوء وعملاء النظام الناصري عدة شهور أسفرت عن فشل ذريع حتى أن جميع الذين اشتركوا في المحاضرات قد كفوا عن المجيء ولم يبق إلا الشيخ محمد بن فتح الله بدران الذي واصل محاضرته وأعتقد أن ذلك بسبب قرابته لشمس بدرانوأن ذلك كان مصدر كسب للشيخ بدران ! !
في أواخر مايو وأوائل شهر يونيو سنة 1967 وقبل وقوع الهزيمة بأيام قليلة أعلن الشيخ محمد بن فتح الله بدران أنه سيجري امتحانا للإخوان وبناء على نتيجة الامتحان يقسمون إلى ثلاث فئات , فئة " أ " وتمثل الذين استوعبوا فكر الشيخ بدران بتفوق , وفئة " ب " الأقل منهم مستوى وفئة " ج " وتمثل الذين لم ينجحوا في الامتحان . . وعندما سمع الإخوان هذا الأمر أحسوا بالمكر السيئ الذي يدبر لهم وعقد الإخوان نيتهم على أن يصدعوا بكلمة الحق مهما كلفتهم وأنهم لن يمكنوا الظالمين من فتنتهم عن دعوتهم ولن يستجيبوا لضلالهم وتلبيسهم الحق بالباطل . . وسيقولون رأيهم صريحا واضحا لا لبس فيه ولا غموض . . وليكن بعد الحوادث ما يكون .
هيمن هذه الروح على الإخوان وأخذوا يشدون أزر بعضهم البعض ويتواصون بالحق . . ويتواصون بالصبر . . حتى حدث ذات يوم أن التقيت بالأخ ممدوح الديري الذي كان يقيم في عيادة السجن الحربي فقال لي أنه علم أن في محاضرة الشيخ بدران القادمة سيطلب مجدي عبد العزيز ويسأله عدة أسئلة كامتحان . . وطلب مني أن أبلغ مجدي عبد العزيز ذلك حتى يستعد .
وعزم الإخوان أمرهم وعقدوا نيتهم على أن ينتصروا للحق ولا يستجيبوا للفتنة التي أرادها أعداء الحق . . والله سبحانه وتعالى عودنا طوال الثماني سنوات التي قضيناها خلف جدران السجون أنه بنا رحيم . . ويريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر . . ولم يجعل علينا في ديننا من حرج ولم بعنتنا في أمر ولم يكلفنا ما لا طاقة لنا به كل ما هناك أن الأحداث كانت تتصاعد حتى يصل الموقف إلى ذروته ويعقد كل أخ نيته على شيء محدد . . وعندئذ يأتي الله بطريقة نحس فيها الرحمة واليسر وعدم العنت .
مرت الأيام . . وجاء يوم 5 يونيو سنة 1967 وهو يوم أبشع هزيمة عرفتها مصر في تاريخها الضارب في أعماق الماضي أكثر من خمسة آلاف سنة كما يقولون . . بل يوم الخيانة . . وجني الثمار المرة للشجرة الخبيثة التي استنبتت في أرض الكنانة ! ! وهو نفس اليوم الذي كان سيعقد فيه الامتحان للإخوان يوم الاختبار الصعب . . اختبار للحق الصريح الواضح بما يتطلبه من تضحيات وصبر وثبات ورفض الباطل الم تحكم في الرقاب . . الممسك بالسوط يلهب به الظهور المهدد لكل من خالفه . . وفي هذا اليوم أنقذنا الله سبحانه من فتنة الفرقة التي كان من الممكن أن تقع عقب الامتحان لأنهم كانوا ينوون تقسيمنا إلى فئات : أ , ب , ج . . وتستمع كل فئة بامتيازات خاصة بها بقدر تجاوبها مع الباطل ! !
فبعد أن انتهينا من الطابور السريع الذي يبدأ في الساعة الثامنة وينتهي في الساعة التاسعة صباحا وتناولنا الإفطار وأوشكنا على النزول لطابور " معتادا . . مارش " الذي يستمر حتى الساعة الواحدة بعد الظهر . . رأينا صفوت الروبي يدخل السجن الحربي مسرعا مذعورا . . وفي يده " مدفع" وعلى رأسه خوذة صرخ صفوت في الحرس :
_ اقفل الزنازين ! !
وصعد الحرس إلى الدور الثاني والدور الثالث وأغلقوا علينا الزنازين " بالأمان " ولم يمر وقت طويل حتى عرفنا أن الحرب قد اشتعلت . . وانتظرنا في ترقب . . هل ستجري الأحداث وفق توقعنا لها . . فلقد كانت هناك آراء بأن إدخال الإخوان السجون ليس مقصودا لذاته وإنما هو مقدمة لأمر جلل يدبر بليل . . وهذا الأمر يتصل بإسرائيل والقضية الفلسطينية . . وكان معنا بعض الأخوة الفلسطينيين وعلى رأسهم الأخ هاني بسيسو رحمه الله وأسكنه فسيح جناته . . روى الأخ هاني أنه أثناء التحقيق معه في سنة 1965 قال له الرائد جلال الديب مدير مكتب شمس بدرانوالذي هرب من مصر ولحق بشمس بدرانفي أوروبا :
" لقد قالت لي عرافة أن في سنة 1967 سوف يحدث حدث كبير . . ! ! وضحك " .
وكان الأخ هاني رحمه الله وهو من إخوان غزة يرى أن اليهود سوف يأخذون سيناء وأن مشروع مياه النيل الذي أمدت به مصر سيناء إنما هو لصالح إسرائيل التي سوف تستولي عليها كأرض زراعية وليست كصحراء قاحلة لقد كنا متوقعين أن ما حدث كان لا بد أن يحدث وأن إدخال الإخوان السجن سنة 1965 كان أمرا ضروريا حتى يغيبوا عن المعركة لأن اليهود . . بل وجميع أعداء الإسلام في الداخل وفي الخارج على السواء يعلمون أن الإخوان المسلمين هم وحدهم الذين يرهبون اليهود وهم وحدهم الذين يستطيعون أن يبددوا أحلام القوى الاستعمارية يهودية كانت أم صليبية أم شيوعية في المنطقة . . وهذه " الحقيقة " نعيها جيدا القوى الاستعمارية منذ أن كشفت عنها حرب فلسطين سنة 1948 . . ومن أجلها كان الكيد والتآمر لسحق جماعة الإخوان المسلمين . . طوال الربع قرن الأخير أي منذ حرب سنة 1948 وحتى الآن . . وفي كل المحن التي حاقت بالإخوان كانت القوى الاستعمارية هي الدافعة للحكومات المصرية لإيقاع البلاء بالإخوان وفي مقدمة تلك القوى : الولايات المتحدة الأمريكية . . واليهودية العالمية . . والشيوعية الدولية ! !
وستظل هذه القوى وراء كل بلاء ينزل بالإخوان . . وستظل العقل المخطط والمدبر لكل المؤامرات التي تحيق بالإسلام وطلائع بعثه من رجال الحركة الإسلامية سواء كانوا من الإخوان أو من غير الإخوان الذين يجاهدون لإقامة دين الله في الأرض لأنهم يعلمون أن الإسلام وحده هو القادر على أن يحيي هذه الأمة التي طال رقادها وصارت نهبا لمعسكر الباطل على خلاف هوياته : صليبيون . . ويهود . . وشيوعيون . . ووثنيون ! ! أما دور الحكومات المحلية فلا يتجاوز " التنفيذ " ولكنهم دائما يجدون المبرر للمذابح التي يقيمونها للإخوان وحادث " المنشية " الذي اتخذه جمال عبد الناصرمبررا لتوجيه أقسى ضربة لجماعة الإخوان سنة 1954 ولفقته أجهزة الأمن في دولته أوضح دليل على ذلك . بابتداء الحرب انتهت " المذبحة " . . وألغيت طوابير غسيل المخ وانقصم ظهر الطاغية . . ودارت دائرة السوء على الظالمين وشربوا من نفس الكأس التي أذاقوها ! ! ولكننا لم نفرح للهزيمة . . ولم نبتهج للمأساة التي أحاقت بمصر لأننا اعتبرنا أن نتائج ذلك كله ستكون عبئا على طلائع البعث الإسلامي .
وسيتطلب جهدا كبيرا لمحو آثار تلك الهزيمة ! ! وكان كل يوم يمر بعد هزيمة يونيو . . بل كل ساعة يحمل إلينا الراديو الذي تركوه يذيع عمدا لنعرف منه كل الأنباء الخطيرة التي أعقبت الهزيمة . . انكسرت نفس الحراس بسبب الهزيمة . . وكانت الضربة القاصمة لجميع من في السجن إقالة شمس بدران و حمزة البسيوني . . وأحس الجميع بالخطر حتى صفوت الروبي " الجلاد " خفت حدة غضبه واختفى من أمامنا ولم يعد يظهر إلا في القليل النادر وترك السجن الكبير يديره أمباشي السجن وبدأت حركة داخل السجن . . لإعداد مكان الوافدين الجدد . . أخذوا يجمعون الإخوان بأعداد أكبر في كل زنزانة . .وأحضروا من سجن " 3 " عددا من أسرى اليهود . . وعددا من اليمينيين . . وقضية كمشيش وأفراد أخرى جمعوهم جميعا في السجن الكبير . . وكنا نحن الإخوان الذين نقوم بالخدمة وتجهيز الزنازين للوافدين الجدد .
وبدأت فترة جديدة عشناها في أمل وطمأنينة داخل جدران السجن الحربي . . وتوفر الطعام لأن الحراس فقدوا شهيتهم للأكل . . وأخذوا يتوقعون من الأحداث ما هو خير لنا فلم يسرفوا في سرقة طعامنا . . ولم يعد أحد منهم يوجه لأحد من الإخوان أي اهانة . . بل لقد بدءوا يطمئنون لنا ويسندون إلينا انجاز الكثير من الأعمال . . لقد حدثت خلخلة بعد إقالة شمس بدرانوحمزة البسيوني داخل السجن الكبير . . حتى كنا نتحرك نحن بدون حراسة . . كان أي مجموعة من الإخوان تطلب لعمل ما داخل أو خارج السجن الكبير كان الذي يشرف عليها أحد الإخوان ! !
وفي يوم من الأيام بدأت عملية تسليم وتسلم جاءت رتب عسكرية كبيرة تتسلم السجن الحربي بمن فيه وأنزلونا من الزنازين وبدأ يتممون علينا من واقع دفاتر السجن . . وبدأت عملية إزالة آثار القيادة القديمة للسجن الحربي وكان لحمزة البسيوني حديقة خاصة به لا يجرؤ أحد ممن في السجن أن يقترب منها . . لأن كل من تسول له نفسه بالاقتراب منها " يكربج " على رجله . . كانت الحديقة مسورة بسور وبداخلها عدد من أشجار الفاكهة وأحواض من الخضروات وحظائر دواجن وحمام وأرانب وخراف . . وكانت الدواجن والحمام والأرانب والخراف تأكل من تموين " التعيين " المخصص للموجودين داخل السجن الحربي سواء كانوا مسجونين أم ساجنين . . في أحد الأيام بعد مجيء القيادة الجديدة للسجن طلبوا عددا من الإخوان وكنت واحدا ومنهم طلبوا منا إزالة حديقة حمزة البسيوني من الوجود وبدأنا نهدم السور . . الذي يحيط بالحديقة وكان الحماس يملأنا . . ونقتحم الحديقة نأكل من ثمار الفاكهة ومن خضرواتها وأذكر انه كان فيها حوض من النعناع فأخذنا منه ووصلنا إلى مجموعة من الحجرات كانت بداخلها حظائر الدواجن والأرانب والحمام وطلبوا منا هدمها فكنا نقص الجدران من وسطها ونتركها على طوبة واحدة ثم نبتعد جميعا ومن بعيد نهدم الطوبة فيهوي الجدار والسقف مرة واحدة . . كنا نحس أن الله سبحانه وتعالى يشفى قلوبنا ويمسح بيده الرحيمة على نفوسنا لقد كانت آية من الآيات أن نهدم نحن بأيدينا صروح الجلادين وأشهر جلاد في تاريخ مصر : حمزة البسيوني ! ! الذي اشترك في تمزيق أجساد الإخوان طوال محنهم كنا نتوقع الإفراج عنا في أي لحظة . . و كنا نحس أن جمال عبد الناصر قد انتهى . . وانهار نظام حكمه ولم يعد وجوده في الحكم يثقل نفوسنا . . وفوجئنا ذات يوم بإعلان استقالته وتنصيب زكريا محيي الدين رئيسا للجمهورية . . ولم تمض ساعات حتى سمعنا أصوات مظاهرات . . وأيقنا أن عبد الناصر لا يزال متبججا . . ولا يزال قادرا على تحريك أجهزته بالرغم من العار الذي كلل جبينه وجبين أمته بهزيمة يونيو . . والذي سيبقى أسود صفحات تاريخه ! ! . . وتاريخ مصر على طول الزمان ! !
ومع ذلك لم نبق طويلا في السجن الحربي . . في صباح أحد الأيام فتحوا علينا الزنازين وأنزلونا في حوش السجن وأخذوا ينادون على الإخوان الذين حكم عليهم بالسجن لمدة , 25 سنة . . 15 سنة . . 12 سنة عشر سنوات ثماني سنوات سبع سنوات وخمس سنوات وسلمونا ما بقى من حاجاتنا التي أخذوها منا عند دخولنا السجن الحربي كأمانات لأن أشياء كثيرة سرقها صفوت الروبي ونجم مشهور وبقية الحراس . . ثم طلبوا منا أن نسلم كل ما هو " ميري " معنا ونجمع كل ما هو ملكي فقط خرجنا من السجن الكبير . . وأدخلونا سجن ثلاثة وبقينا فيه حتى الليل . . وتردد علينا صفوت الروبي وكان يتودد لنا وقال لبعض الذين كانوا معنا ويعرفهم عن طريق التعذيب أكثر من غيرهم :
_ " فيه خير كبير ينتظركم " ! !
كنا نتوقع الإفراج عنا وكان المفروض أن نكون سعداء بالإفراج ولكن قد تندهش إذا علمت أن كثيرين منا لم يكونوا سعداء بالإفراج عنهم لأنهم كانوا يحسون أن السجن مدرسة لتربية الأخ المسلم تربية صحيحة وسليمة وتعويده على الصبر والتضحية والثبات وأننا لم نستكمل بعد ما نحتاجه كجنود لدعوة وأفراد في جماعة أصبحت بحق كاملة حاملة راية الحركة الإسلامية ليس على مستوى مصر وحدها ولا على مستوى العالم العربي . . بل على مستوى العالم في جميع قاراته ! !
ولا أنسى في تلك الليلة حينما صلى الأخ المهندس محمد أحمد عبد الرحمن من إخوان بني سويف صلى أمامنا صلاة العشاء وقرأ سورة إبراهيم . . خاصة المقطع الذي يرسم نهاية الظالمين وأخذ الله لهم وانتقامه منهم والذي يقول الله سبحانه فيه :
( لا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل . . أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ؟ ! ! وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال . . وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وان كان مكرهم لتزول منه الجبال فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزا لله الواحد القهار وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار . ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب هذا بلاغ للناس ولينذروا به . وليعلموا إنما هو اله واحد وليذكر أولوا الألباب ) .
وطال بنا الانتظار في سجن رقم 3 . . واقتربت الساعات الأولى من الصباح ولم يستطع أحد منا أن ينام . . وفجأة وصلت العربات ودخلت قوة من رجال البوليس ووضعوا في أيدينا القيود الحديدية . . كل اثنين معا . . وأركبونا العربات وأخيرا أصبحنا خارج البوابة السوداء . . بوابة السجن الحربي التي كانت رؤيتها تملأ القلب هما وغما . . وكان يجول في الخاطر كلما رأيتها . . متى تنفتح هذه البوابة السوداء لنخرج منه ؟ ! ! . .
سارت بنا العربات في طريق صلاح سالم متجهة إلى سجن طره ولمن نكن نحن الإخوان الجدد نعرف سجن طره ولا طريقه ولكن عرفه بعض الإخوان " السوابق " الذين سجنوا في محنة سنة 1954 . . كنا على طول الطريق نرى رجال الشرطة السريين " المخبرين " يقفون تحت الأشجار بطريقة ملفته للنظر . . حتى في الليلة نرى الظالمين مرتعدين ممن في أيديهم القيد الحديدي .
وصلنا إلى سجن طره مع أشعة الصباح الأولى من يوم 18 يونيه . . وقابلونا في سجن طره استقبالا سيئا . . فتشونا تفتيشا دقيقا وسحبوا منا كل ملابسنا الملكية ولم يسمحوا لنا إلا بالملابس الداخلية " فانلة وسروال " . .
نلبسه وفانلة ولباس لغيار آخر . . وأدخلونا كل سبعة في زنزانة طولها متران وعرضها متران وثمانون سنتيمتر . . وأعطوا كلا منا " برش " من الليف الأحمر وبطانية واحدة . . ووزعوا علينا " بدل السجن وكانت قذرة جدا وضيقة جدا أو واسعة جدا " . . وأدخلونا وأغلقوا علينا الباب وكانت الزنازين مظلمة جدا ليس بها نافذة إلا " كوة " في أعلى الباب لا تدخل ضوءا . وفتحة في السقف مغطاة بمظلة خشبية . . يدخل منها بعض الضوء . . كانت هذه الزنازين هي زنازين عنبر التأديب الذي خصص لعقاب المجرمين من المسجونين والذين يخرجون على نظام السجن ولا يبقى فيها المسجونون المعاقبين فترة طويلة قد لا تزيد على 12 يوما ! ! ولكننا بقينا في هذا العنبر " عنبر التأديب " سبعة عشر شهرا حتى رحلنا إلى سجن قنا ! !
تيممنا وصلينا الفجر وجلسنا نقرأ قرءانا حتى حضرت إدارة السجن فأخرجونا وأعادوا تسكيننا حسب مدة العقوبة . . الذين حكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة ( 25 سنة مع بعضهم ) . . والذين حكم عليهم بالسجن عشر سنوات مع بعضهم وهكذا . .
وكان نصيب الإخوان الذين حكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة أن وضعوا في زنازين كل خمسة في زنزانة . . وليس في الزنزانة أي منفذ يدخل منه الهواء ليس فيها نافذة . . وليست فيها " كوة " وليس في سقفها أي فتحة . . وكان الجو صيفا فقد كنا أواخر يونيو الحزين وأوائل شهر يوليو وهو أشد شهور الصيف حرارة وبدأت حالات الإغماء بين هؤلاء الإخوان وساءت صحتهم وشحبت وجوههم وقصت أوزانهم لقد كانوا يقفون للصلاة فينساب العرق من أجسامهم حتى يبلل تحت أقدامهم . . وكثرت حالات الإغماء وبدأ الإخوان يدقون على أبواب الزنازين ويطلبون الضباط بالليل وكان الضباط يضطرون إلى نقل المغمى عليهم إلى زنازين العنبر الآخر عنبر رقم 2 للتأديب أيضا . . وكان مدير الليمان وقتئذ رجلا سيئا من أمثال حمزة البسيوني . . نموذج " للسجان " الذي ينفذ أوامر أسياده بما يرضيهم . . واسمه اللواء عبد الله عمارة .
وكان الحرس الذين يشرفون على الإخوان هم شرار حرس السجن . . وأذكر منهم " ديهوم " الذي أصيب بشلل نصفي داخل العنبر وكان آية من آيات الله لنا فقد كان هذا الرجل شرير ينضح شرا وكان مزعجا أيما إزعاج كان يفتش حجراتنا كل صباح وكل مساء . . وإبراهيم نعوم وكان بلطجيا لصا يسرق أدوية الإخوان . . وكان ضابط العنبر موسى عطا الله مسيحيا عتلا يتشفى في الإخوان . . ويضيق عليهم . . ولما ساءت صحة إخوان " التأديب " .
وتبين أن المكان الذي خصصوه لنا في عنبري التأديب لا يسعنا . . وقد اختير هذا المكان بالذات لعزلنا كاملا عن المسجونين السياسيين وغير السياسيين . . نقلوا الإخوان المحكوم عليهم بأقل من الأشغال الشاقة المؤقتة ( 15 سنة ) إلى سجن القناطر وبقى الإخوان الذين حكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة والأشغال الشاقة المؤقتة في سجن ليمان طره . . وبعد ترحيل الإخوان إلى سجن القناطر نقلوا إخوان التأبيد من العنبر الذي هم فيه إلى عنبر التأديب الثاني الذي كنا فيه نحن إخوان التأبيد المؤقتة . .
كانت الحياة داخل الزنازين قبل ترحيل الإخوان إلى سجن القناطر حياة قاسية وتكاد تكون مستحيلة . . تصور سبعة إخوان في زنزانة طولها متران وثمانون سنتيمتر وعرضها متران ومعهم جردل للبول والبراز وجردل آخر لماء الشرب . . كيف ينام هؤلاء ؟ ! أذكر أننا كنا ننام بخلف خلاف رأس الواحد في ناحية رجلين الآخر . . ولا تستطيع أن تنام على ظهرك وإذا أردت أن تغير الجنب الذي تنام عليه لابد أن تقوم جالسا أو واقفا حتى تستطيع ذلك . . وأذكر أنني كنت أسكن مع ستة أخوان غيري وكان ينام اثنان من الإخوان بجوار رؤوس الأربعة الآخرين حتى يسع المكان وفي أحدى الليالي رأيت كابوسا قطع أنفاسي وقمت من نومي فزعا . . وبعد جهد جهيد فوجدت رجل الأخ عوض عبد العال من إخوان الدقهلية يضعها فوق رأسي بطريقة كادت تخنقني وكانت سبب الكابوس الذي أفزعني وأيقظني من نومي ! !
لم يكن مسموحا لنا بالخروج من الزنزانة سوى نصف ساعة في الصباح نفرغ جرادل البول والبراز وندخل الدورة ونتوضأ ونملأ الجرادل ماء الشرب ونصف ساعة في المساء لمثل ذلك . . وبقى الوضع على ذلك فترة طويلة لم نر فيها الشمس وكنا نستغل ذلك في تكملة حفظ القرءان وكانت تلك الفترة هي الفرصة الذهبية التي أتيحت ليحفظ الإخوان القرءان ويكاد يكون أخوان التأبيد الشاقة أو المؤقتة قد حفظوا القرءان خلال تلك الفترة وجاء فصل الشتاء ونحن على حالنا من قلة الملابس وشدة البرد والرطوبة حتى أصيب عدد من الإخوان بالآم روماتيزمية شديدة لدرجة أن بدأت غضاريف بعض الإخوان تتآكل ! !
لقد اتضح الأمر لنا أن خروجنا من السجن الحربي لم يكن نهاية للمحنة فعبد الناصر ما زال قلبه يتقد حقدا على الإخوان ولكن السبب الوحيد هو أنه كان في حاجة للسجن الحربي ليجمع فيه القضية التي سماها " قضية النكسة " وجعلها كبش الفداء الذي يحمل عاره ويبعد عن نفسه شبهة الخيانة التي قامت الأدلة الواضحة عليها . . وقدم على مذبحها أعز أصدقائه المشير عبد الحكيم عامروشمس بدران. . وصلاح نصر . . وغيرهم من أعمدة حكمه وكلاب حراسته ! ! وأذاقهم من نفس الكأس التي أذاقوها للإخوان فعلقوا في نفس المكان . . وحبسوا في نفس الزنازين وضربوا بنفس السياط بل وقام بتعذيبهم نفس العساكر الذين كانوا يأمرونهم بتعذيب الإخوان . . ! !
وحتى هذا الوقت لم يسمح لنا بالزيارة ورؤية أهلنا ولم يسمح لنا بشراء أي طعام من " كانتين السجن " مثل بقية المساجين المجرمين القتلة . . واللصوص . . والمختلسين . . ولا حتى المتهمين في جرائم دعارة . . لقد كنا نعامل أسوأ معاملة يعاملها بشر . . بل وأذكر أننا أثناء وجودنا في السجن الحربي كان معنا عدد من اليهود كانوا يعاملون معاملة أحسن منا بكثير لقد كان هناك يهودي هارب من إسرائيل هو وخطيبته وكانوا كأسرى فكانت تحضر عربية وتأخذ هذا اليهودي ويذهبوا به إلى سجن القناطر ويأخذ خطيبته ويذهب بها إلى السينما في حراسة ويحضر إلى السجن في نهاية اليوم وكانت زنزانته مفتوحة عليه طول اليوم ! !
حدث هذا في نفس اليوم الذي كانت سيناء تشهد ذبح 90 ألف جندي وضابط مصري في هزيمة سنة 1967 كما قيل في أحدى الروايات وفي رواية أخرى 120 ألف قتيل من أبناء الشعب المصري ! !
وأخيرا سمحوا لنا بكتابة خطابين في كل شهر ثم بعد ذلك سمحوا لنا بالزيارة السلكية وعن طريق الزيارات طلبنا من الأهالي أن يرسلوا شكاوي إلى مصلحة السجون بحالات المرض الشديدة وإرسال تلغرافات للجهات المسئولة بالحالة السيئة التي نحن عليها الآن وبعد فترة طويلة سمحوا لنا بطابور شمس في عنبر رقم 2 للتأديب لمدة ساعة في الصباح . . والغريب أن أول يوم أخذنا فيه طابور شمس في العنبر رقم 2 للتأديب كان شمس بدرانقد حوكم ونقل سجن مزرعة طره وكان قد أساء معاملة مدير الليمان الذي اتصل بشعراوي جمعه وأمر بنقله للتأديب ! ! وكانت آية من آيات الله . . شفى الله بها صدورنا . . ومسح بيده الرحيمة على قلوبنا ففي اليوم الذي يفيض علينا من رحمته يرينا جلاد عبد الناصر شمس بدرانفي زنزانة من الزنازين ! !
وبدأت الفترة التي كنا نأخذها في الصباح تطول قرب الظهر . . وسمحوا لنا " بالمصاحف " بعد أن كانت " ممنوعة " . ومعروف أن المسجونين المجرمين يصنعون مخابئ للممنوعات : بدءا من الحشيش حتى الشاي ولكننا صنعنا نحن أيضا مخابئ وجزي الله الأخ أمام سمير كل خير إذا أبلى بلاء عظيما في إقامة تلك المخابئ التي كنا نخبئ فيها " المصاحف " أو ملازم المصاحف لأننا كنا لقلة المصاحف المتاحة نقسم المصحف الواحد إلى عدد من الملازم حتى يتمكن أكبر عدد من الإخوان من الحفظ والتلاوة ! ! ثم سمحوا لنا بالتعامل مع " الكانتين " وبدأت الحياة تتحسن شيئا فشيئا . . وجاءت مواد غذائية كبيرة في الزيارات وبدأت صحة الإخوان تتحسن . . ونفوسهم تهدأ وكانت الأحداث تتلاحق وفي يوم تأتينا الأخبار عن طريق الزوار . . وعن طريق الراديو . . وعن كل طريق . . حتى فوجئنا في صباح يوم عقب يوم المظاهرات سنة 1969 وقبل أن تفتح الزنازين بموسى عطا الله ضابط العنبر ينادي عددا من الأسماء وطلب منا أن نستعد للترحيل . . وأن يجمع كل واحد منا مهماته . ملابسه وكتبه . . ولا يأخذ أي ملابس من ملابس السجن . . ! ! وكنت واحدا من المطلوب ترحيلهم إلى سجن قنا . . للتغريب ! !
وكان من أسعد أيام عمرنا لأننا سنرى إخوانا لنا ابتلوا فصبروا وصابرو طغيان عبد الناصر طوال العشرين سنة . . إنني في هذا اليوم وأنا في قطار الصعيد كنت أستشعر أنني مهاجر إلى دار الأنصار . . كان الإخوان الذين حوكموا في محنة سنة 1954 لا يزالون في سجن قنا . . ينتظرون في صبر وثبات وتضحية قدر الله عليهم . . وفي الظالمين أيضا لقد كنا جميعا تغمرنا السعادة . . حتى قال البعض أنهم لو خيرونا أن نذهب إلى إخواننا في سجن قنا أم نذهب إلى أهلنا في بيوتنا لاخترنا أن نذهب إلى قنا لنرى الرعيل الأول من الإخوان الذين رباهم الإمام حسن البنا والذين واجهوا عبد الناصر وهو في عنفوان طغيانه فلم يهنوا . . ولم يضعفوا . . ولم يقبلوا أية مساومة حتى ولو كانت على خروجهم من السجن . . لقد كانت دعوتهم أغلى عليهم من أنفسهم ومن أهلهم ومن أولادهم ومن أموالهم ومن الحياة بما فيها ومن فيها . . لقد كانوا لنا في محنتنا القدوة والمثل في الصبر على البلاء . . والثبات على الحق . . والتضحية بالحياة .
كنا على شوق لأن نراهم . . لأنهم كانوا أهل السبق في الدعوة . . وفي الابتلاء . . وفي الصبر . . وكانوا أهل التجربة في السجون وكنا نريد أن نتلقى منهم الدروس والعبر التي استخلصوها من محنتهم الطويلة القاسية إن إخوان سنة 1954 قد قاسوا محنة أشد ضراوة من محنة 1965 لكن كانت محنة سنة 1954 بداية صعود نجم عبد الناصر في الحكم . . وكان الشعب المصري . . والشعوب العربية . . لا تزال مخدوعة بشخصيته . . ولم يكن الخراب قد وصل بعد إلى ما وصل إليه بينما في محنة سنة 1965 كانت بداية النهاية لنظام عبد الناصر . . وكانت الثمار المرة لنظام حكمه الفاشي قد بدأت تظهر . . وبدأت بوادر الفشل تتضح لكل ذي عقل . . وبدأ يغير في تشكيله الوزارى ويرقع في النظام الذي بدأ يتصدع . . لقد كانت الأحداث بعد محنة سنة 1954 كلها تمكن لعبد الناصر من رقاب الشعب على عكس أحداث سنة 1965 كانت كلها بمثابة مؤشر إلى سقوط الطاغية ! ! وكان إحساسنا طوال الفترة من 1965 وحتى هلاكه في 28 سبتمبر سنة 1970 أن محنتنا نذير سوء لعبد الناصر وعصابته وكنا ننتظر أن يأتي فرج الله في كل لحظة .
لقد مضيت سنين على إخوان محنة 1954 أحسوا فيها أن الشعب قد نسيهم وأن الإخوان خارج السجون قد نسوا دعوتهم وتخلوا عن جماعتهم لذلك كانت فرحتهم الشديدة اكتشاف تنظيم سنة 1965 وعمل قضية الإخوان ومحاكمتهم أمام محاكم عسكرية . . لقد أحيت أحداث سنة 1965 الأمل في نفوس الإخوان الذين دخلوا السجون في قضايا سنة 1954 , سنة 1955 . . لذلك كان استقبالهم لنا استقبال الآباء المشتاقين للأبناء وظلوا محتفين بنا فترة طويلة وقضينا معهم ما يقرب من أربع سنوات لا يعكر صفو حياتنا إلا معاناة أهلينا في المجيء إلى قنا لزيارتنا . . لقد كان من رحمة الله بنا أن يرد كيد الظالمين إلى نحورهم وينفعنا بما يريدون به ضررنا لقد كانت أيسر فترات سجننا على الإطلاق هي تلك الفترة التي قضيناها في سجن قنا وهذه الحقيقة يعترف بها معظم الإخوان الذين نقلوا إلى قنا عقابا لهم ! ! وإعناتا لأهلهم وحرمانا للجميع من الزيارات التي لا تتيسر إلا كل ستة شهور مرة واحدة وما تتطلبه من مال لا يملكه الأهل ! !
ومات جمال عبد الناصروكان خبر موته بالنسبة لي أعظم خبر سمعته أذناي لقد كان ينتابني كلما مر بخاطري احتمال موتي قبل موت جمال عبد الناصر. . أنني أتمنى أن أعيش حتى اسمع خبر هلاكه . . لقد كان عبد الناصر بمثابة كابوس ظل يكتم أنفاسنا طوال سنين حكمه ولم ينقذني منه إلا الموت ! ! لقد كنت أخلو بنفسي وأردد بصوت تسمعه أذناي " لقد مات عبد الناصر " . . وكنت أحس بنشوة وراحة في أعماق قلبي . . كلما سمعت أذناي تلك العبارة ! !
لقد انتهت المحنة بالنسبة لي شخصيا بموت عبد الناصر . . وأحسست راحة في قلبي ولم أقلق لبقائي في السجن . . لقد كنت أتابع الأحداث التي حدثت خلال الأعوام التي قضيتها داخل السجون وكنت أحس بفداحة هزيمة يونيو سنة 1967 وما أحدثته من تغيرات في الشعب المصري وكنت على يقين من أن القوى العالمية الخفية " اليهودية العالمية . . والصليبية . . والشيوعية " هي التي خططت ودبرت تلم المأساة وأن دور عبد الناصر هو دور البطل التراجيدي الذي رسم له الدور فلعبه بحذق وعبقرية أذهلت الجميع ! !
ولكن لا يعني أن موت جمال عبد الناصركان مصدر أمل في أخراجنا من السجون لأن أمر إخراجنا من السجون . . أو بقائنا فيها ليس موكولا لبشر من البشر أيا كان موقعه في السلطة . . إننا نعتقد أن الله وحده هو صاحب الأمر وأن الأمور كلها بقدره ولا يقع في ملكوته إلا ما يريد هو ولا يشاركه في ملكه أحد لأنه هو الرب الخالق المالك المدبر والمصرف لأمور السموات والأرض . . وبيده مقاليدها جميعا واليه يرجع الأمر كله . . إننا حصرنا رجائنا في الله وحده . . ولم نعلق أملنا في يوم من الأيام على إرادة إنسان ما , كان إيماننا بأن خروجنا من السجون له ميقات معلوم لن يتأخر ساعة ولن يتقدم ساعة ولا تملك قوة على ظهر الأرض أن تؤخره أو تقدمه , حتى الانحراف عن طريق الله والتخلي عن دعوته والتفلت من الجماعة والعمالة لأجهزة الأمن التي أنزلق إليها بعض الإخوان طمعا في الإفراج عنهم لم يغير من قدر الله شيئا فقد بقى في السجن أنسانا وصلت حالته إلى أن أراد أن يغير دينه ظنا منه أن في ذلك نجاته من السجن ! !
وبعد موت جمال عبد الناصربقينا في سجن قنا حتى كانت أحداث 15 مايو سنة 1971 وحوكم علي صبري وشعراوي جمعه وسامي شرف ورحل علي صبري إلى ليمان طره وكانت آية من آيات الله أن يوضع علي صبري في أحد الزنازين في الدور الذي يسكنه الإخوان وفي الوقت الذي كان الإخوان بحكم أقدميتهم في السجن قد استراحوا بعض الشيء كان علي صبري يحمل جردل البول مرتديا بدل السجن العادية ويعيش في بؤس وذل جعله يكتب رسالة إلى رئيس الجمهورية يطالبه فيها بنقله إلى سجن آخر أو بتنفيذ حكم الإعدام فيه ! !
وبدأت الصحف تكتب عن المسجونين السياسيين وعن الظلم الذي وقع على أصحاب القضايا وعن اتجاه الدولة في إعادة النظر في هذه القضايا وكانت تصفية المعتقلات من الإخوان المسلمين الذين قضوا أكثر من ست سنوات داخلها مبعث أمل من رحمة الله . . وبدأت عملية تجميع الإخوان من السجون المختلفة " سجن قنا . . وليمان طره . . وسجن القناطر " ووضعهم جميعا في معتقل مزرعة طره وبدأت المعاملة تتحسن وننام لأول مرة على مراتب ميري داخل السجن . . بل وأكثر من ذلك أنهم أحضروا لنا أسرة تنام عليه وأتيحت لنا فرصة كبيرة في قراءة الجرائد والمجلات والكتب ويسرت الزيارات حتى أن الأهالي كانوا يستطيعون أن يزوروا ذويهم داخل معتقل مزرعة طره مرة كل خمسة عشر يوما .
ومنذ أن جمع الإخوان في مزرعة طره والكلام عن الإفراج لا ينقطع وبدت المحنة في نهايتها ومع ذلك فقد بقى الإخوان داخل السجون حتى خرجت الدفعة الأولى منهم في [[ابريل]] سنة 1974 بقرار جمهوري بإسقاط باقي العقوبة عن الذين صدرت ضدهم أحكام أقل من 25 سنة . . وبقى جميع الإخوان الذين حوكموا سنة 1954 حتى خرجوا جميعا في عام 1975 . . وهم على الحق ثابتين وبه مستمسكون . . وبالله معتصمين وعلى المضي في طريق الله مصممين . . اسأل الله أن يتقبل منا جميعا وأن يثبتنا على طريقه , وأن يلهمنا رشدنا ويشد أزرنا وييسر أمرنا . . ولا يخيب فيه رجاءنا . . وأن يتوفنا مسلمين ويلحقنا بالصالحين أنه على ما يشاء قدير . . .
شهود المذبحة
1 – شهادة الدكتور ماجد حمادة طبيب السجن الحربي
النيابة العامة :
صورة طبق الأصل من أقوال الدكتور ماجد حمادة في البلاغ رقم 117 سنة 1975 حضر تعذيب فتح المحضر يوم الخميس الموافق أول يناير سنة 1976 الساعة 1,25 صباحا بسراي النيابة .
بالهيئة السابقة حيث حضر المتهم المذكور ماجد حمادة إلى سراي النيابة فدعوناه داخل غرفة التحقيق وسألناه بالاتي فقال : اسمي : عقيد طبيب أركان حرب ماجد عبد الهادي حمادة سن 48 . . عقيد طبيب بالخدمات الطبية بمستشفى القوات المسلحة بالمعادي . . مولود بالقاهرة ومقيم 10 ش الشهيد إسماعيل فهمي الحي الخامس مصر الجديدة .
حلف اليمين
س : هل يدخل من ضمن اختصاصات عملك كشف على المرضى النزلاء بالسجن الحربي وعلاجهم ؟
ج : كان ذلك يدخل ضمن اختصاصي عندما كنت طبيب مستشفى السجن الحربي الموجودة داخل السجن الحربي .
س : ما هي الفترة الزمنية التي باشرت خلالها العمل كطبيب بمستشفى السجن الحربي ؟
ج : أنا باشرت العمل كطبيب بمستشفى السجن الحربي حيث كنت أعمل بصفة دائمة بهذه المستشفى أكشف على المرضى والنزلاء بالسجن الحربي وأعالجهم وذلك خلال مدة زمنية بدأت من منتصف عام 1965 واستمرت باقي عام 1965 وطوال أعوام 1966 , 1967 إذ باشرت هذا العمل منذ عام 1965حتى أكتوبر أو نوفمبر سنة 1967 .
س : ما هي الاختصاصات التي كنت تباشرها أثناء عملك كطبيب بمستشفى السجن الحربي في المدة الزمنية التي أشرت إليها ؟ !
ج : كنت أمر أحيانا على الزنازين وكان ذلك بصفة دورية مرتين في الأسبوع على الأقل وكان ذلك يحدث بالنسبة للمتواجدين بالسجن الكبير داخل السجن الحربي وكان يحضر إلى بعض النزلاء إلى المستشفى ذاتها وفي الحالتين أقوم بالعلاج إذا تبين أن هناك مقتض للعلاج أو لحجزه بالمستشفى فأنا كنت أكشف على المرضى النزلاء بالسجن الكبير بالسجن الحربي وأقوم بفحصهم وأعطيهم العلاج اللازم .
س : أين كان يتم الكشف على النزلاء بالسجن الحربي ؟
ج : كنت أكشف عليهم داخل الزنازين عندما كنت أمر عليها إذا قال لي أحد المتواجدين بالزنازين أنه مريض أو متألم أو إذا شاهدت بنفسي إصابات به وإذا ما تبين لي أن الأمر يحتاج إلى نقل النزلاء من المرضى أو المصابين إلى مستشفى السجن الحربي كنت أمر بنقلهم إلى هناك لمواصلة العلاج وهكذا وأنني كنت أكشف على النزلاء في الزنازين عند مروري عليهم في الحالات التي ذكرناها كما أني كنت أكشف على من يحضر إلى مستشفى السجن الحربي إذ كان يحضر البعض إلى المستشفى بأمر من المسئولين عن التحقيق بالسجن الحربي في ذلك الوقت فالكشف على النزلاء كان يتم إما بداخل الزنازين وإما في المستشفى السجن الحربي وكان ذلك يتم بمعرفتي وكان ذلك تيسيرا لي لأنني كنت ارتاد الزنازين مرتين في الأسبوع على الأقل .
س : هل كنت تمر وأنت في طريقك من المستشفى إلى الزنزانات بفناء السجن الحربي ومكاتب الضباط يباشرون التحقيق ؟
ج : أيوه كنت أمر بفناء السجن أثناء النهار والليل وكانت الزنازين تطل على هذا الفناء طوال عملي من منتصف عام 1965 حتى أكتوبر أو نوفمبر 1967 كنت أمر بفناء السجن الحربي وأمام مكاتب التحقيق عندما كنت أباشر عملي العادي في السجن الحربي وعندما كنت أدخل إلى الزنازين لفحص المسجونين بها .
س : هل لاحظت أي ملاحظات غير عادية أثناء مباشرتك لعملك كطبيب بالسجن الحربي في الفترة الزمنية التي أشرت إليها وأثناء مرورك بفناء السجن وأمام مكاتب الضباط وكشفك على النزلاء بالزنزانات وبالمستشفى ؟ !
ج : أيوه لاحظت ملاحظات عادية ولا أعرف المقصود بالملاحظات غير العادية .
س : هل لاحظت أثناء قيامك بعملك وجود إصابات بالمسجونين والمعتقلين بالسجن الحربي ؟ 1
ج : أغلب المعتقلين كان بهم إصابات عديدة بعضها محتاج لعلاج وبعضها لا يحتاج لعلاج .
س : هل يمكنك تحديد طبيعة وقوع الإصابات التي لاحظتها بالمسجونين والمعتقلين أثناء عملك كطبيب بالسجن الحربي ؟ !
ج : أيوه كان فيه إصابات وأغلبها يحدث من ضرب السياط هذا بالنسبة للمعتقلين . . أما مفهومي أنا عن المسجونين من الجنود فلم تكن بهم أي إصابات ولكن الإصابات التي شاهدتها كانت في المعتقلين من غير الجنود وكان المصابون في وقت عملي أغلبهم من جماعة الإخوان المسلمين المنحلة وكانت الإصابات التي بهم عبارة عن جروح نتيجة ضرب السياط وكانت في القدمين واليدين والظهر بصفة أساسية .
س : هل كانت الإصابات التي شاهدتها بالمعتقلين وقت عملك كطبيب للسجن الحربي إصابات حديثة ؟ !
ج : أيوه جميع الإصابات التي شاهدتها بالمعتقلين كانت إصابات حديثه في وقت معاصر لتاريخ كشفي عليها وكان ذلك خلال كشفي على إصابات المعتقلين خلال كشفي على إصابات المعتقلين خلال عملي بالسجن الحربي خلال الفترة من منتصف عام 1965 وحتى أكتوبر أو نوفمبر 1967 .
س : ما تعليلك لتلك الإصابات التي شاهدتها بنفسك بالمعتقلين بالسجن الحربي خلال الفترة من منتصف عام 1965حتى أكتوبر ونوفمبر سنة 1967 ؟ !
ج : كان المعتقلون يضربون بالسياط أثناء التحقيق معهم وكانت هناك أوامر من شمس بدرانشخصيا لصفوت الروبي أن يعرض كل معتقل بعد التحقيق معه على أنا كطبيب للسجن الحربي قبل دخوله إلى الزنزانة .
س : وما سبب صدور ذلك الأمر من شمس بدرانإلى صفوت الروبي ؟ !
ج : الأمر ده صدر من شمس بدرانلي شخصيا أمام المساعد صفوت الروبي لأن شمس بدرانقال لي تشوف حالات المعتقلين بعد التحقيق معهم وقبل دخولهم إلى الزنازين وصفوت الروبي كان موجودا أثناء كلام شمس بدرانمعي وصفوت الروبي قال لشمس بدرانحاضر يا أفندم . . يعني هو يقوم بعرض جميع الحالات علي وقد صدر هذا الأمر أثر تواتر الحديث من أشخاص لا أذكرهم الآن بأن أحد المعتقلين مات داخل زنزانة فكان شمس بدرانيريد التأكد من أن حالة المعتقلين نسمح بتواجدهم في زنزانة مغلقة عليهم طوال الليل دون تعريض حياتهم للخطر وكان شمس بدرانيريد علاج المعتقلين من الإصابات الموجودة بهم ونظرا لموت أحد المعتقلين داخل الزنزانة فلهذا السبب أصدر شمس بدرانأمرا بمرور جميع المعتقلين بعد التحقيق معهم علي لعلاجهم من الإصابات التي تلحق بهم من ضربهم بالسياط أثناء التحقيق .
س : هل أنت متحقق من أنه كان يتم ضرب المعتقلين بالسياط أثناء التحقيق معهم بالسجن الحربي ؟ ! ج : أيوه أنا متأكد من ذلك بالنسبة لمعظم المعتقلين .
س : ما هي الأسباب التي دعتك إلى التأكد من أنه كان يتم ضرب معظم المعتقلين بالسياط أثناء التحقيق معهم بالسجن الحربي ؟ !
ج : أنا تأكدت من أنه كان يتم ضرب معظم المعتقلين بالسياط أثناء التحقيق معهم بمعرفة بعض ضباط المباحث الجنائية العسكرية وذلك بمعرفتي كطبيب بالسجن الحربي شاهدت بنفسي إصابات متعددة لمعظم المعتقلين لحق بهم نتيجة ضربهم بالسياط واقصد بذلك أن معظم من كشفت عليهم من المعتقلين كانوا مصابين نتيجة ضربهم بالسياط من هؤلاء من أبلغني أثناء الكشف عليه أن الإصابات حدثت له أثناء التحقيق معه من ضربه بالسياط بمعرفة المحققين من المباحث الجنائية العسكرية ولم يحددهم لي .
س : هل شاهدت بنفسك قيام بعض رجال السجن الحربي بالاعتداء بأية صورة على أي من المعتقلين بهذا السجن ؟ !
ج : أنا ما شفتش حد بيضرب ولكن كنت ساعات استدعى من أحد ضباط المباحث الجنائية العسكرية لفحص أحد المعتقلين لبيان أمكانية استمرار التحقيق معه . وكنت غالبا أمنع استمرار التحقيق معه إذا كانت حالة المعتقل ومن حوله عليها عند استدعائك لفحصه على النحو الذي أشرت إليه الآن .
أحيانا كان المعتقل في حالة اضطراب عصبي شديد وأحيانا كان به إصابات تنتج عن ضربه بالسياط وكنت أشاهد هذا المعتقل داخل مكاتب الضباط الخاصة بالتحقيق إما جلسا على كرسي أو جالسا على الأرض مرتديا ملابسه أو عاريا إلا من الكالسون وكان بعض العساكر يمسكون الكرابيج في فناء السجن أمام مكاتب التحقيق ولا أذكر من المحققين إلا شمس بدران.
ملاحظة : رأينا أرجاء التحقيق لمدة ربع ساعة التماسا للراحة . تمت الملاحظة ووقع الماضي . . وكيل النيابة , , واقفل المحضر على ذلك عقب إثبات ما تقدم الساعة 12 ظهرا وتعرض . . وكيل النيابة . أعيد فتح المحضر في تاريخه الساعة 1,15 مساء بسراي النيابة بالهيئة السابقة . حيث حضر الآن السيد العقيد طبيب ماجد حمادة فدعوناه داخل غرفة التحقيق وسألناه بالاتي فقال : اسمي : محمد ماجد عبد الهادي حمادة . . سابق سؤاله .
حلف اليمين
س : هل شاهدت بنفسك أي شخص يقوم بالاعتداء بأية صورة على أي معتقل أثناء ارتيادك للزنزانات أو أثناء مرورك بفناء السجن الحربي وجميع أرجائه . .
ج : حدث أن شاهدت بنفسي عسكريا لا أذكره حوالي مرتين يقوم بالاعتداء على أحد المعتقلين بالضرب باليد وبالاهانة فأنذرته بأنني سأبلغ عنه ومن هنا لم أشاهد أحدا بعد ذلك يقوم بالاعتداء على أي معتقل بعد أن عرف عني من الجميع أنني لا أسكت عن مثل هذه الوقائع ولكن مؤكد أنه كانت هناك اعتداءات واهانات تحدث داخل السجن الحربي ضد المعتقلين وهو ما عرفته من كلام بعض المعتقلين معي وأيضا كان يحدث ضرب المعتقلين بالسياط أثناء التحقيق معهم بمعرفة الضباط ودليلي على ذلك هو مشاهدتي بنفسي لآثار الضرب بالسياط بأجسام معظم المعتقلين الذين تيسر لي الكشف عليهم ولكن الاعتداءات لم تكن تحدث أمامي في أي مكان بعد أن علم عني أنني لا أرضى بذلك .
س : هل يمكنك تحديد أسماء المعتقلين الذين قمت بالكشف عليهم ولمست بنفسك آثار ضربهم بالسياط ؟ !
ج : لا , وذلك لأنه لم تكن توجد دفاتر بالمستشفى يثبت بها أسماء المصابين وكان يعرض المصاب علي برقم زنزانته التي يتواجد بها وكان غير مسموح لأي معتقل أن يدلي لي باسمه وأنا مكنتش أسألهم لأن ذلك ضد التعليمات التي صدرت لي شخصيا من شمس بدرانالذي قال لي لا تحاول أن تعرف اسم أي مصاب من المعتقلين وما حدش من المعتقلين قال لي عن اسمه . . ولم تكن هناك أي أوراق علاج رسمية ولكن أي مصاب يدخل المستشفى أكتب ورقة بيضاء بها رقم الزنزانة الموجود بها بالمستشفى وتشخيص الحالة والعلاج المفروض أن يأخذه ونظام أخذ العلاج وبعد خروج المصاب من المستشفى تمزق هذه الأوراق وعلى ذلك فلا توجد حاليا أي أوراق رسمية خاصة الغير رسمية خاصة بعلاج المصابين لأن حمزة البسيوني كان قد أمرني بحرق الأوراق التي أكتب فيها العلاج أولا بأول لأن هذه الفترة كانت فترة مظلمة والمسئولين عنها شمس بدرانأو غيره كانوا يريدون عدم وجود أي أوراق رسمية تثبت ما يحدث في السجن . . وأضيف إلى ذلك أن عدد من كشفت عليهم من المصابين من المعتقلين كان كبيرا لدرجة أنني طلبت الاستعانة بأطباء لعلاج المصابين وقد طلبت ذلك من حمزة البسيوني عندما زاد عدد المصابين عن إمكانياتي المنفردة ومثلا حضر اثنان من أطباء رئاسة الجمهورية أحدهما إبراهيم الشعراوي والثاني عبد المعطي . . واعتقد أنهما ما زالا في رئاسة الجمهورية وعاوناني في علاج المصابين في صرف الأدوية والمهمات الطبية اللازمة للعلاج وأذكر الآن أنه كانت حالات اصابية جسيمة منها حالة من يدعى ( البطل ) ولا أعرف اسمه كاملا وأنا الذي كشفت عليه في عيادة مستشفى السجن الحربي وتبين لي أن ليه إصابة في العمود الفقري وكان مضروبا وعنده مبادئ شلل في رجليه وهذا ينتج عن ضربه أو وقوعه على ظهره أو أي سبب آخر وممكن تحدث من ركله بالرجل أو التهاب بعظام العمود الفقري نتيجة أي حاجة وقمت بتحويله إلى مستشفى الحلمية العسكري خلال عملي في التاريخ الذي ذكرته وحولته في يوم لا أستطيع تحديده حيث تم وضعه في مستشفى الحلمية العسكري بحجرة خاصة وقد مات داخل مستشفى الحلمية العسكري إذ كنت أمر عليه بالمستشفى ولذلك علمت بموته في المستشفى بعد نقله إليها بحوالي ثلاث أيام وأنا عرفت أن هذا الشخص يسمى ( البطل ) رغم أن ما فيش أوراق علاج رسمية في السجن الحربي أو دفاتر لأنه عند نقله إلى مستشفى الحلمية العسكرية رحت معه هناك سأله الدكاترة عن اسمه فقال أمامي أنه يدعى ( البطل ) ولم يسأله أحد أمامي عن سبب إصابته ولم أسأله أنا عن ذلك ولكنه قال لي بأنهم كانوا يحققون معه وبأنه لا يعرف شيئا عن جماعة الإخوان المسلمين ولكنه لم يذكر من الذي كان يحقق معه من الضباط ومعنى أنهم كانوا يحققون معهم أنهم كانوا يضربوه حيث أن الضرب كان يحدث في مكاتب السجن الحربي أثناء التحقيق وهذا علمته من مشاهدتي لإصابات معظم المعتقلين الذين كشفت عليهم ومن كلام المعتقلين معي وكانت هناك حالات أخرى قليلة تم فيها نقل المصابين لخارج مستشفى السجن الحربي ولكن لا أذكر شيئا عنها أو ظروفها ولكل ذلك فأنا لا أعلم أسماء المعتقلين الذين كانوا مصابين وكشفت عليهم بنفسي ولا أعرف من أحدثوا أصابتهم .
س : ألم يتيسر لك معرفة أي شخص من شخصيات المعتقلين الذين لحقت بهم إصابات وقمت أنت بالكشف عليهم وعلاجهم ؟ !
ج : أنا تعرفت فعلا على عدد من المعتقلين الذين كانوا مصابين وقمت بالكشف عليهم ولكن لفوات المدة بحوالي عشرة سنوات لا أذكر منهم الآن إلا عددا قليلا جدا منهم مثلا المرحوم سيد قطب و زينب الغزالي و حميدة قطب وعبد الفتاح إسماعيل ومعروف الخضري ولكن لا أذكر ظروف إصابات كل واحد منهم أو بعضهم أو مواضع إصابتهم ولكن الإصابات بوجه عام كانت في القدمين واليدين والظهر نتيجة ضرب بالسياط ولكن لا أذكر تفاصيل أكثر من ذلك ولا استطيع تذكر كل حالة على حده لأنه كان يعرض علي في اليوم الواحد حالات متعددة من المصابين والغيارات وصلت في اليوم الواحد إلى حوالي مائتين إلى ثلاثمائة حالة غيار وكان الغيار يتم كل يومين ومعنى هذا كان يوجد ستمائة مصاب يغيرون في نفس الوقت بالسجن الحربي بين المعتقلين من الإخوان المسلمين . . وخلاصة قولي أنه أثناء عملي كطبيب بالسجن الحربي في خلال الفترة في منتصف عام 1965 حتى أكتوبر أو نوفمبر 1967 قمت بالكشف على مجموعة كبيرة من الإخوان المسلمين الذين كانوا معتقلين بالسجن الحربي وتبين لي أن إصاباتهم في عموم أجسامهم ولكن على وجه الخصوص وتبين لي أن إصابتهم في عموم أجسامهم ولكن على وجه الخصوص في مواضع معينه هي القدمين والساعدين والظهر وأن هذه الإصابات تحدث نتيجة الضرب بالسياط وكانت الإصابات التي شاهدتها حديثة ومعاصرة لعملي بالسجن الحربي وقد تأكد من ذلك من كشفي على المصابين ومن أقوال بعض المصابين لي بأن ذلك الضرب كان يتم أثناء التحقيق معهم بالسجن الحربي بمعرفة بعض الضباط من المباحث العسكرية الجنائية وأحيانا كان يتم استدعائي لمكاتب التحقيق بالسجن الحربي بتقرير مدى إمكانية استمرار التحقيق مع بعض الأفراد وكنت أشاهد في أجساد بعض المعتقلين في هذا الوقت آثار الضرب بالسياط وكنت دائما أقرر للضباط أن هؤلاء المعتقلين غير لائقين حاليا للتحقيق مستهدفا بذلك تخليص هؤلاء المعتقلين من الضرب الذي كنت أشاهد آثاره على أجسامهم وكان منظرا عاديا بالسجن الحربي مشاهدة عساكر السجن الحربي ممسكين بالسياط ولكن الضرب لم يكن يحدث أمامي بعد أن عرف عني أنني أرفض قيام عساكر السجن الحربي بالاعتداء على أي معتقل لأنني نهرت العساكر الذين شاهدتهم أكثر من مرة يضربون المعتقلين ولكن لم يكن لي سلطان على الضباط وما يفعلون داخل مكاتب التحقيق لأني لا أملك حق الاعتراض عليهم لأن العهد كان أسود أو لم أكن أملك سوى تأدية واجبي الطبي فقط في محاولة تخفيف حالات المصابين نتيجة الضرب بالسياط وهو ما عرفته بحكم عملي كطبيب وسمعته من المعتقلين الذين كشفت عليهم وتلك هي الصورة العامة التي أعرفها لما كان يجري بالسجن الحربي لأنني لا استطيع الآن بيان كل حالة على حدة لفوات مدة طويلة على ما حدث ولأنه صدرت أوامر صريحة من شمس بدران لي بعدم معرفتي لأي اسم من أسماء المعتقلين المصابين وبعدم تحرير أوراق علاج رسمية أو إثبات ما يجري في دفاتر مستشفى السجن الحربي وحرق كل الأوراق المتضمنة للعلاج أولا بأول لإخفاء كل ما كان يجري داخل السجن الحربي عليها اعتقد وقد نفذت هذه الاوامر بنفسي لأنني لم أكن أملك حق الاعتراض على شمس بدران يضاف إلى ذلك ضخامة عدد المصابين الذين كشفت عليهم ولكل ذلك لا استطيع إلا الإدلاء بمعلوماتي العامة لما كان يجري دون الإدلاء بمعلومات تفصيلية عن كل حالة على حدة .
س : هل تعرف معروف أحمد الحضري ؟ ّ
ج : أيوه .
س : ما هي صلتك به ؟ !
ج : ده بالذات عرفته عندما حضر لي مصابا في مستشفى السجن الحربي وقال لي أنا معروف الحضريوأنا ضابط في الجيش ولذلك فأنا أذكره لهذا السبب .
س : ما هي الإصابات التي شاهدتها في معروف أحمد الحضري ؟ !
ج : لا أذكرها الآن على سبيل الدقة ولكن يمكنني أن أذكر أنه كان مصابا في قدميه وغالبا نتيجة ضربه بالسياط عليها .
س : متى شاهدت معروف الحضريعلى هذه الحالة ؟ !
ج : في وقت ما لا استطيع تحديده أثناء عملي في السجن الحربي خلال الفترة من منتصف عام 1965 حتى أكتوبر أو نوفمبر سنة 1967 .
س : وأين شاهدت معروف الحضريعلى هذه الحالة ؟ !
ج : شاهدته في مستشفى السجن الحربي .
س : وكيف تسنى لك رؤيته ؟ !
ج : عند قيامي بالكشف عليه في مستشفى السجن الحربي وعند الغيار على إصابته بعد ذلك . س : ما الذي تكشف لك من فحص معروف الحضري والكشف عليه ؟ !
ج : على ما أذكر كان مصابا في قدميه نتيجة ضربه بالسياط لا أذكر الآن عنه أكثر من ذلك . س : ألم يدر أي حديث بينك وبينه بخصوص ما شاهدته به ؟ !
ج : لا أذكر ويمكن دار حديث بيني وبينه ولكن أنا لا أذكر مضمون هذا الحديث ولا أذكر الآن أي تفصيلات أخرى عن الإصابات التي كانت بأقدام معروف الحضري.
س : قرر معروف احمد الحضري أنه بعد نقله إلى المستشفي وقيامك بالكشف عليه سمعك تقول أنا قلت بلاش الطريقة دي أهو رجله حقطعها ؟ ! .
ج : لا أذكر ولكن محتمل أن يكون هذا الكلام دار بيني وبين أحد الممرضين وأن الكلام نقل إليه فيما بعد وبعد شفاء رجله ولكنني لا أذكر حاليا أية تفاصيل عن إصابة السيد معروف الحضري أكثر مما ذكرت . س : هل تذكر أسماء الضباط الذين قاموا باستدعائك على بعض المعتقلين أثناء التحقيق معهم في مكاتبهم ؟ ! ج : تم استدعائي بمعرفة بعض الضباط إلى مكاتبهم للكشف على المعتقلين الذين كان يتم استجوابهم وشاهدات هؤلاء المعتقلين وآثار الضرب على أجسادهم في مكاتب هؤلاء الضباط ولكن لا أذكر من أسماء هؤلاء الضباط حاليا إلا شمس بدران فقط .
س : هل تذكر أسماء العساكر الذين شاهدتهم يعتدون على بعض المعتقلين بالسجن الحربي ؟ ! ج : لا أذكر أسماءهم ولا أعرفهم .
س : هل تبادر إلى سمعك أصوات استغاثة أو أي حركة مستفاد منها حدوث اعتداءات ؟ ! ج : أيوة أحيانا كنت أسمع بعض الأصوات أثناء مروري بجوار مكاتب الضباط بقوله اى . . وعلى العموم أنا قلت أنه كان يتم ضرب المعتقلين في السجن الحربي وأنا شاهدت ذلك بنفسي عند الكشف على بعض المعتقلين المصابين وشفت آثار السياط فيهم . س : هل لديك أقوال أخرى ؟ ! ج : لا . . تمت أقواله ووقع وكيل النيابة ثم رأينا إعادة سؤال السيد الحاضر فدعوناه وسألنا بالاتي قال : اسمي : محمد ماجد عبد الهادي حمادة . . سابق سؤاله .
حلف اليمين س : ما هي معلوماتك بخصوص كل من سيد قطب و زينب الغزالي و حميدة قطب و عبد الفتاح إسماعيل والمدعو البطل الذين أثرت في أقوالك أنك عرفت شخصيتهم وقمت بالكشف عليهم وعلاجهم ؟ !
ج : بالنسبة للمرحوم سيد قطب قضى بمستشفى السجن الحربي مدة طويلة وكان مخصصا له حجرة خاصة بالمستشفى ولم أشهد بتاتا أي آثار لاعتداءات عليه ولكنه كان يشكو من مرض القلب . . وبالنسبة لزينب الغزالي كانت نزيلة بإحدى حجرات السجن هي وحميدة قطب في حجرة واشتكت لي زينب الغزالي بأنها ضربت على قدميها وكشفت عليها ولكن لم أجد أي إصابات ظاهرة ولكنها كانت تعالج بمعرفتي لأن لديها اضطرابات في الهضم أما حميدة قطب فكانت راضية بقضاء الله ولم تأخذ أي علاج ولم تشتك من أي شيء طول مدة إقامتها في السجن وتعرفت عليها بمناسبة علاجي لزينب الغزالي التي كانت معها في حجرة واحدة .
أما عبد الفتاح إسماعيل فقد شاهدته في المستشفى أو في زنزانة ولا أذكر شيئا عنه الآن ومعروف الحضري سبق لي بيان حالته أما المدعو البطل فقد سبق لي ذكر حالته وأضيف الآن بأنني سمعت من أشخاص لا أذكرهم أنه لم يكن هو الشخص المطلوب اعتقاله ولكن تم اعتقاله لتشابه اسمه مع اسم شخص مطلوب اعتقاله ثم لحقت به الإصابة على النحو الذي شرحته قبل ذلك ثم نقل إلى مستشفى الحلمية العسكري حيث مات وعلى العموم فإنني حاليا لا يمكنني الإدلاء إلا بالصورة العامة التي سبق لي بيانها وهي أنه كان هناك ضرب أثناء التحقيق في السجن الحربي بالسياط احدث إصابات في مواضع مختلفة من أجسام المعتقلين من الإخوان المسلمين وخصوصا القدمين والساعدين والظهر وهو ما تبين من كشفي عليهم ومما سبق لي بيانه تفصيلا ولا علم لي حاليا بتفاصيل كل حالة على حدة ولا يمكنني الإدلاء إلا بهذه الصورة العامة للأسباب التي ذكرتها في التحقيق اليوم .
س : هل تذكر شيئا عن إسماعيل الفيومي و محمد عواد و محمد منيب والشناوي أو أي أشخاص آخرين من الذين كانوا متواجدين بالسجن الحربي أثناء عملك به ؟ !
ج : أنا لا أذكر إلا الصورة العامة التي شرحتها في التحقيق لما كان يجري في السجن الحربي من ضرب السياط ولكني أذكر واقعة معينة بالذات بالنسبة للأستاذ شمس الدين الشناوي وذلك نتيجة لقراءتي لكتاب محاكمات الدجوي للأستاذ شوكت التوني وهو يذكر فيه أي شمس الدين الشناوي نفسه أنني استدعيت يوما لرؤيته في مكتب شمس بدران وكان مصابا بإصابات جسيمة وطلبت فورا إيقاف التحقيق معه ونقله إلى مستشفى السجن الحربي وقد تم ذلك وهذا ما قرأته في الكتاب الذي أشرت إليه الآن وأقرر أن هذه الواقعة حدثت فعلا من حيث أنه تم استدعائي إلى مكتب شمس بدران في يوم من أيام عملي في السجن الحربي ليلا فوجدت في هذا المكتب ضابطا لا أذكره ومعه المساعد صفوت الروبي ولكن شمس بدران لم يكن موجودا في المكتب في ذلك الوقت ووجدت أحد المعتقلين مصابا بجروح متعددة وفي حالة إغماء وطلبت نقله إلى مستشفى السجن الحربي وقد تم ذلك وأسعف بالعلاج ولكنني في الوقت الذي أقرر فيه أن هذه الواقعة حدثت لا أستطيع أن أجزم بأن هذا الشخص الذي شاهدته مصابا في هذه الليلة كان هو الأستاذ شمس الدين الشناوي خصوصا وأنه تم استدعائي أكثر من مرة لمكتب شمس بدران بالسجن الحربي وفي كل مرة منها كنت أشاهد أحد المعتقلين مصابا بهذا بالسجن الحربي وأقول أن حالته لا تسمح باستمرار التحقيق معه ولكن رغم تكرار مرات توجهي لمكتب شمس بدرانوفي هذه المرة أتذكرها بالذات لأن شمس بدران لم يكن موجودا في هذه المرة فقط وكان موجودا في باقي المرات وفي هذه المرة أيضا قال صفوت الروبي أمامي عبارات مفادها أنه متردد في نقل المصاب إلى مستشفى السجن الحربي بحجة أنه عاوز يكمل معه لأن المصاب حيتكلم ولهذا أنا متذكر هذه الواقعة ولأن صفوت الروبي عندما تردد في تنفيذ أمري بإحضار عربة لنقل المصاب إلى المستشفى اشتكيته لحمزة البسيوني وأنا صممت على نقل المصاب إلى المستشفى ونق فعلا على نقالة ولكني لا استطيع أن أجزم بأن هذا المصاب هو الأستاذ شمس الدين الشناوي لأن الحادثة موجودة في مخي ولكن المصابين جميعهم لا أذكرهم لفوات مدة زمنية طويلة ولكن أنا قرأت في كتاب محاكمات الدجوي الذي ألفه الأستاذ شوكت التوني أن الأستاذ شمس الشناوي يحكي قصته ولما قرأت قصته في هذا الكتاب ارتبطت القصة التي أذكرها في ذهني باسم شمس الدين الشناوي وده نتيجة اللي قرأته في كتاب الأستاذ التوني وربطي للواقعة اللي في مخي نتيجة رفض صفوت الروبي لتنفيذ أمري باسم الأستاذ شمس الدين الشناوي ولكن أنا لم أكن أعرف هذا الاسم قبل قراءتي لهذا الكتاب . قد يكون الشخص الذي شاهدته في مكتب شمس بدران وصممت على نقله إلى المستشفى رغم تردد صفوت الروبي شخص آخر غير الأستاذ شمس الدين الشناوي خصوصا وأنني عالجت مجموعة كبيرة من المصابين ولا أذكر حالة كل مصاب على حدة على سبيل الدقة للأسباب التي ذكرتها في التحقيق وخصوصا فوات مدة زمنية طويلة ولا أتذكر أي شيء غير الذي ذكرته الآن . س : ألديك أقوال أخرى ؟ ! ج : لا . .
تمت أقواله وقع
وكيل النيابة
2 – شهادة الامباشي المر اكبي
صورة طبق الأصل من أقوال محمد محضر تحقيق المر اكبي في البلاغ 18 / 2 / 1975
فتح المحضر اليوم الثلاثاء 6 ابريل سنة 1976 الساعة 12,30 مساء بسراي النيابة . . بالهيئة السابقة عدا سكرتير التحقيق فهو عبد العزيز وهبي لإثبات أنه حضر الآن إلى سراي النيابة محمد علي المر اكبي فدعوناه إلى داخل غرفة التحقيق وسألناه بالاتي :
قال اسمي : محمد علي المر اكبي سن 37 سنة من مواليد 7 نوفمبر سنة 1939 خفير ببنك التسليف في ساحل سليم مركز ساحل سليم بأسيوط ومقيم حاليا بناحية بويط مركز البداري سابقا ساحل سليم حاليا بمحافظة أسيوط . . بطاقة عائلية رقم 38082 سجل مدني البداري بأسيوط في 17 / 3 / 1973 .
س : هل كانت لك صلة بالسجن الحربي سنة 1965 ؟ !
ج : أيوة أنا جندت من 1962 وقعدت فترة من منقباد وبعدين جيت أساسي 7 هنا في المعادي وبعدين خدمت في السجن الحربي لغاية 1 / 1 / 1966 وكنت موجودا طبعا في السجن الحربي بمدينة نصر 1965 وكنت عسكري لغاية ما ترقيت أمباشي قبل ما أطلع بحوالي أسبوع .
س : ما العمل الذي كنت تقوم به خلال فترة تجنيدك بالسجن الحربي ؟ !
ج : أنا كنت في سرية حراسة من ضمن سرايا الحراسة بالسجن وبعدين انتقلت من السرية ورحت قوة المعتقلات في السجن الحربي .
س : هل كنت ضمن قوة المعتقلات بالسجن الحربي سنة 1965 ؟ !
ج : أيوه .
س : ما هي اختصاصات عملك كفرد من أفراد قوة المعتقلات بالسجن الحربي ؟ ! ج : اخذ المعتقلين من الزنزانات وأذهب بهم إلى المكاتب علشان الضباط يسألوهم وأرجعهم بعد سؤالهم إلى الزنزانات وكان العمل ده أقوم به أنا وزملائي الآخرون من أفراد قوة المعتقلات .
س : ما الحالة العامة التي كان عليها السجن الحربي سنة 1965 ؟ !
ج : كان فيه معتقلون كثير لأن كان فيه ماشي في الأيام دي قضية الإخوان المسلمين وكان شمس بدران يشرف على التحقيقات التي كان يجريها مع الإخوان بنفسه وكان معه ضباط آخرون يحققون مع المعتقلين وكان بعض المعتقلين يعذبون بأمر من شمس بدران والضباط الآخرين الذين كانوا يحققون معه وكان ينفذ أوامرهم بضرب المعتقلين قوة المعتقل داخل السجن الحربي بما فيهم أنا لأننا لم نكن نقدر نخالف أوامر الضباط وكنا نضربهم علشان يتكلموا ويقولوا التهم الموجهة إليهم . . والضباط كانوا يقولون لنا :
_ اضربوهم لغاية ما يتكلموا ! . .
وفيه ناس من المعتقلين دول ماتوا في سنة 1965 نتيجة ضربهم بأمر الضباط علشان ما اتكلموش واللي أنا فاكره دلوقتي حكايتين :
الحكاية الأولى : كان واحد معتقل بينضرب عند مكتب بينضرب عند مكتب شمس بدران وكان قدام المكتب ده نافورة ميه . . والجدع ده كان بينضرب بالكرابيج وهو مربوط على الفلكة وكان بيضربه صفوت الروبي وعساكر ثانية مش فاكرها وأنا كنت موجود في الوقت ده بس الجدع ده ما ضربتوش وفضل صفوت الروبي والذين معه يضربون المعتقل ده بالكرابيج وهو مربوط في الفلكة لغاية ما أغمى عليه فالعساكر انزلوه من على الفلكة وجابوه على النافورة وقعد صفوت الروبي يخلى العساكر يفرغوا ميه من النافورة اللي قدام مكتب شمس بدران ويدلقوها على المعتقل علشان يفوق ولكنه ما فاقش واتضح أنه مات من الضرب . . وصفوت قال أمامي لشمس بدران:
_ الجدع ده مات . . والحقيقة أنا مش فاكر الجدع ده أنا غسلته والا لا لأني أنا كنت عارف ربنا وكنت بخالف التعليمات واللي يموت من الضرب كنت بأغسله وأتشاهد عليه وكمان خرجت مع صفوت الروبي وبعض زمايلي اللي مش فاكرهم دلوقتي دفنا بعض الجثث ومش فاكر الجدع ده كان من الجثث اللي أنا دفنتها ولا حد تاني من زملائي هو اللي دفنها واللي أنا واثق منه أنه مات قصادي عند النافورة من الضرب اللي حصل له من صفوت الروبي وبعض عساكر تانيين مش فاكرهم بأمر من شمس بدران وبعض الضباط التانيين اللي ما اعرفهمش وضرب الجدع ده بالكرابيج على الفلكة لأن ما كنش بيتكلم باللي عاوزينه منه وكل ده شفته بنفسي لأني كنت من ضمن حرس المعتقلات الموجودين عند المكاتب في الوقت ده وسمعت منهم وهم بيضربوه أنهم عاوزينه يقول انه من الإخوان المسلمين ومش فاكر أكثر من كده .
والحكاية الثانية : اللي أنا فاكرها دلوقت أن العسكري بتاع حمزة البسيوني وكان زميلي من قوة السجن الحربي ومش فاكر اسمه تأخر شوية في مشوار ولما رجع حمزة البسيوني أمر بضربه عشرة كرابيج وصفوت الروبي خلاني أنا اللي أضربه ولكن العسكري بتاع حمزة ده ماماتش من ضربي له والحقيقة محدش مات قصادي من الضرب إلا الجدع بتاع الإخوان المسلمين ده اللي كان صفوت الروبي والعساكر اللي معاه ضربوه بالكرابيج وهو متعلق على الفلكة لغاية ما أغمى عليه وحبوا يفوقوه بمية النافورة لكنه مات زى الناس التانيين اللي ماتت من الضرب لما ما رضيتش يتكلم وأنا اشتركت في الضرب ده لأني كنت بانضرب لما ما اضربش المعتقلين والعسكري بتاع حمزة البسيوني كما أمر بضربه وصفوت الروبي خلاني اضربه ورأفت بحاله وشافني أنا برأف بحاله ضربني صفوت الروبي بأمر من حمزة البسيوني عشرة كرابيج وكل ده كان غصب عني لأني كنت عسكري وأنفذ الأوامر وأنا كنت بارأف بحال الناس اللي يموتوا وكنت أغسلهم وأتلو عليهم الشهادة وخرجت مع صفوت الروبي ودفنا بعض الجثث في الجبل بعد ما غسلتها وناس زمايلي دفنوا جثث ثانية .
س : أين حدث كل ذلك ؟ ! في السجن الحربي بمدينة نصر .
س : متى حدث كل ذلك ؟ !
ج : سنة 1965 أيام الإخوان المسلمين وقضيتهم اللي كان يسألهم فيها شمس بدران وضباط تانيين وكان سؤالهم بيحصل بضرب بعضهم لما ما يرضاش يتكلم وكان سؤالهم وضربهم بيحصل عند المكاتب وكانت جنب بعضها دور واحد وكان قصاد باب مكتب شمس بدران نافورة على بعد مسافة بسيطة منه وسؤال المعتقلين وضربهم حصل في المكاتب دي وفي المنطقة دي .
3 – شهادة المساعد نجم مشهور
محضر تحقيق
في البلاغ رقم 218 / 1975 حصر تعذيب 765 / 1976 مدينة نصر 96 / 76 كلي شرق القاهرة 5 / 76 ج تعذيب الخاص بأقوال نجم الدين حلمي مشهور .
فتح المحضر يوم الأربعاء 25 / 2 / 1976 الساعة 10 بسراي النيابة .
بالهيئة السابقة حيث حضر المساعد نجم مشهور فدعوناه داخل غرفة التحقيق وسألنا بالاتي قال :
اسمي : نجم الدين حلمي مشهور سن 30 سنة مساعد تعيين بالسجن الحربي بمدينة نصر مولود بكفر طرفان مركز الصف جيزة ومقيم 22 شارع حسني فخري بالزهراء مصر القديمة أو 21 شارع عباده ابن الصامت أرض السادات قسم مصر القيمة ويحمل بطاقة شخصية للمساعدين صادره من القوات البرية رقم عسكري 4070740 بتاريخ يونيه 75 وتاريخ انتهائها يونيه سنة 1980 .
س : ما العمل الذي كنت تقوم به خلال سنة 1965 ؟ !
ج : أنا كنت عريف كاتب في السجن الحربي ؟ !
س : منذ متى باشرت هذا العمل ؟ !
ج : أنا باشرت عملي كعريف بالسجن الحربي في الفترة من أول مايو سنة 1964 حتى اليوم ولكنني رقيت من عريف إلى رقيب سنة 1966 ومن رقيب إلى رقيب أول سنة 1970 ومن رقيب أول إلى مساعد سنة 1974 وأنا مساعد حتى الآن وعملي طوال هذه الفترة كان بالسجن الحربي .
س : أنت كنت تقوم بعملك خلال عام 1965 داخل السجن الحربي ؟ !
ج : أنا كنت شغال في ا , ت الوحدة يعني في الإمداد والتموين وكان مكتبي في الوقت ده في مواجهة البوابة وبعدين في شهر سبتمبر سنة 1965 نقلني القائد حمزة البسيوني إلى قسم المعتقلات فكنت بحكم إني في شئون المعتقلات بين مكتبي اللي كان في هذا الوقت داخل السجن الكبير استقبل المعتقلين من الإخوان المسلمين الوافدين إلى السجن الكبير وكنت أقوم باستدعائهم واصطحابهم إلى مكاتب الضباط لأخذ أقوالهم فكانت وظيفتي في ذلك الوقت هي استقبال المعتقلين وإدخالهم إلى السجن الكبير وتسكينهم في الزنازين وكنت أقود بتنفيذ أوامر الضباط باستدعاء أي واحد منهم واصطحابه مع أفراد المباحث العسكرية إلى مكاتب الضباط لأخذ أقوالهم والعودة بهم مرة أخرى إلى السجن الكبير وكانت هذه هي كل وظيفتي .
س : ما الحالة التي كان عليها السجن الحربي بصفة عامة في ذلك الحين ؟ !
ج : كان فيه معتقلين كثير قوى من الإخوان المسلمين كان عددهم في البداية حوالي ألف معتقل وكثروا بعد كده وكان فيه ضباط من بتوع المباحث الجنائية العسكرية وكانوا بيقعدوا في المكاتب اللي في آخر السجن الحربي من ناحية كتبة الحراسة لأن في هذا المكان فيه خمس حجرات جنب بعضها الحجرة الأولى منه بالنسبة للي جاي من السجن الكبير ومتجه ناحية كتيبة واحد حراسة كانت سكرتارية والثانية والثالثة كانوا فاتحين على بعض وكان بيقعد فيهم العقيد شمس الدين بدران مدير المكتب المشير في هذا الوقت وكان بيبقى معه مجموعة من الضباط بتوع المباحث الجنائية العسكرية أذكر منهم الرائد هاني إبراهيم وضابط بيقولوا عليه الجنزوري وما اعرفش بقية اسمه وكانوا بيقولوا عليه أنه رائد والمكتب اللي بعد كده كان بيقعد فيه العميد سعد زغلول عبد الكريم مدير الشرطة العسكرية والمباحث العسكرية وكان العقيد حسن خليل مدير المباحث العسكرية بيقعد في أي مكتب من المكاتب دي وآخر مكتب كان بوفيه . . وكان يتردد على هذه المكاتب أيضا الرائد رياض إبراهيم والرائد حسن كفافي وإحسان العاجاتي ورائد كان اسمه رجائي ومش عارف اسمه والضابط نور عفيفي وبعدين خصص لهؤلاء الضباط مكاتب في مواجهة السجن رقم 2 كان فيه الأربعة ضباط دول إحسان العاجاتي وعاصم العتر وحسن كفافي ونور عفيفي وكان كمان بيبقى معاهم ضابط اسمه رجائي ومش عارف اسمه أما الضابط رياض إبراهيم كان قاعد في ميس الضباط اللي كان في مواجهة المعتقل رقم 1 وكان الضباط اللي في المكاتب بتاعة الإدارة واللي في المكاتب والميس اللي أمام المعتقلين 1 , 2 كانوا بيبعتوا لي مندوبين من عندهم من بتوع المباحث العسكرية بكشف أسماء المعتقلين المطلوبين علشان يحققوا معهم فكنت أجيب المعتقلين المطلوبين من السجن الكبير وكنت أسلمهم في بعض الأحيان لهؤلاء المندوبين وكنت أقوم بنفسي في بعض الأحيان بتوصيل المعتقلين المطلوبين للضباط في المكاتب وجميع المعتقلين كانوا يطلعوا من السجن الكبير للتحقيق بمعرفة الضباط دول وحالتهم سليمة وليس بهم إصابات اللي هم مطلوبين في أول مرة وكانوا يرجعون مضروبين على رجليهم بواسطة الكرابيج لأنهم كانوا بيضربوا أثناء التحقيق معهم بمعرفة الضباط اللي قلت عليهم قبل كده وشفتهم بيضربوا جوه المكاتب وكمان بيضربوا أمامها بره المكاتب ففي المكاتب الأخيرة كانوا بيضربوا أمام مكتب شمس بدران وأمام مكتب سعد عبد الكريم وأمام المكاتب دي وكان فيه فسقية أمام المكتب بتاع شمس بدرانعلى بعد حوالي أربعة أمتار انشالت لما بنو الفيلا الجديدة للإدارة في مواجهة هذه المكاتب سنة 1966 , 1967 واللي المعتقلين ساهموا في بنائها لأن كان فيه مهندسين من المعتقلين ساهموا فيها ومعتقلين ثانيين اشتركوا في البناء وكنت بأودي المعتقلين مجموعات مع بعضهم وكانوا بينتظروا أمام المكاتب دي وأمام المكاتب والميس اللي في مواجهة المعتقلين 1 , 2 وكان الضرب بيبقى داخل المكاتب وأمامها واللي كان بيضرب أفراد المباحث العسكرية وكنت بأشوف الضباط بيقولوا للمعتقلين أثناء الضرب إنهم يتكلموا أحسن لهم .
س : هل شاهدت بنفسك ضرب المعتقلين على النحو الذي ذكرته الآن ؟ !
ج : أيوه .
س : أين كان يتم ضرب المعتقلين ؟ !
ج : أمام مكاتب الضباط أو داخلها .
س : متى كان يتم ضرب المعتقلين ؟ !
ج : أثناء سؤال الضباط لهم بالليل وبالنهار أثناء اعتقال الإخوان المسلمين من ساعة ما جم الإخوان المسلمين من أواخر شهر يوليو 1965 ولغاية محاكمتهم وكان الضرب بيبدأ من بعد الظهر كل يوم لغاية وقت متأخر من الليل لأن كان فيه كهرباء في السجن عبارة عن لمبات كبيرة تضيء السجن كويس وكان فيه كمان ماكينة ديزل كبيرة لتوليد الكهرباء كان الضباط ينوروا بها السجن لما النور ينقطع وبعدين الأشغال العسكرية عملوا سكينة على مصر الجديدة والعباسية علشان النور ما ينقطعش أبدا وكان النور ينور جوه المكاتب وأمام المكاتب .
س : كيف كان يتم ضرب المعتقلين ؟ !
ج : كان بيتم بالفلكة والكرباج السوداني اللي كان بيستورد من السودان وكان منه في السجن الحربي مجموعة كبيرة من الكرابيج السوداني .
س : هل يمكنك وصف هذه الفلكة ؟ !
ج : أيوه هي كانت عبارة عن حديده كبيرة أحيانا أو خشبة كبيرة في أحيان أخرى وفيها حبل من النصف يتركب في يدي المعتقل ورجليه يرفعوها اثنين فيكون المعتقل مقلوب رأسه مقلوبة لتحت ورجليه ويديه لفوق واللي بيضربه بالكرباج وهو متعلق كده على رجليه وكان الضرب بيجي على بقية الجسم لأني شفت بنفسي ناس وركها كمان فيه ضرب من الكرابيج ورأسها متعورة من الكرابيج لأن الكرباج اللي كان يستعمل ف ي الضرب طويل زى " الفرقلة " بتاعة العربجي الحنطور وما ينقطعش و كانت الفلكة بيشيلها اثنان أو تتسند على كرسين وبيشيلوها اثنان علشان ما تقعش من على الكراسي وكان فيه أمام المكاتب مظلة خشبية عبارة عن عواميد خشبية واقفة بالعرض وكان في السقف بتاعها عروق خشبية ممكن يتدلي منها حبال ساعات تتعلق الفلكة في الحبال دي وكان بينضرب المعتقلون وهم متعلقين في الفلكة بالكرابيج سواء كانت الفلكة دي متعلقة في المظلة اللي أمام المكاتب أو مسنوده على كرسيين أو شايلها اثنان وكان أحيانا يتم ضرب المعتقلين قبل تعليقهم على الفلكة بالأقلام وبالأيدي على وجههم وقفاهم وجسمهم .
س : ألم تشاهد أي صور أخرى للاعتداء على المعتقلين في ذلك الحين ؟ !
ج : كان فيه مثلا كانوا يجيبون الست ويدخلوها على زوجها المعتقل في زيارة عادية ويبقى تحت الكرسي اللي هو قاعد عليه جهاز تسجيل علشان يعرفوا أسرارهم وكان فيه أوده في السجن الكبير كانت مليانة ميه وكانوا بيحطوا فيها المعتقلين وكان المعتقلون العواجيز يسكنوهم في الدور الثالث علشان يتعبوا في الصعود والنزول وكان ممكن أن يسكنوهم في أول دور ورغم أنني كنت أسكن المعتقلين فكان الضباط يأمرونني أن أحط ده هنا وده هناك في زنزانة انفرادي وكان فيه زنازين رغم أنها في نفس المساحة بنحط فيها مجموعة من المعتقلين وكان فيه كمان مخازن على شمال الداخل من بوابة السجن الكبير كان ينحط فيها مجموعة كبيرة من المعتقلين مع بعضهم وحسن الهضيبي كان في السجن رقم 3 وكان في زنزانة فيها معه كلاب وسمعت كمان أن زينب الغزالي اتعلقت على الفلكة وضربت رغم أنها ست وهي قالت كده بنفسها وحميدة قطب قالت لي أنها ضربت بالكرباج على جسمها وشفت أنا والدكتور ماجد آثار الكرابيج على جسمها وسمعت أن فيه معتقلين ماتوا من الضرب زى محمد عواد و إسماعيل الفيومي و رفعت بكر شافع وابن أخت حميدة قطب وهي اللي قالت لي على ابن أختها ده وسمعت أني اللي ماتوا من التعذيب دفنوا ولا أعرف أين دفنوا وده الكلام اللي أنا سمعته من المعتقلين اللي قالوا لي أنهم شافوا الحكايات دي بأنفسهم .
س : من أي مصدر علمت بتعذيب بعض المعتقلين حتى الموت ؟ !
ج : من بعض المعتقلين قالوا لي هذا الكلام بعد انتهاء محاكمتهم زي سليم جمعه مثلا ومجدي عبد العزيز ومش فاكر أسماء ثانية .
س : هل حددوا لك أسماء المعتقلين الذين ماتوا من التعذيب ؟ !
ج : لما هديت القضية خالص وكنت باقعد معهم في الزنازين قالوا لي أن فيه ناس اتضربت أمامهم عند المكاتب لغاية ما ماتت وقالوا لي أن من الناس دي محمد عواد وإسماعيل الفيومي , وحميدة قطب قالت لي على ابن أختها رفعت بكر شافع لأني أنا كنت أقول لها شد حيلك دي حاجات كلها بتاعة ربنا فقالت :
_ أزاي أشد حيلي وأنا واخده عشر سنوات وأخويا سيد إعدام وابن أختي رفعت بكر شافع مات من التعذيب وأخي محمد وابن أختي عزمي في ليمان طره .
4 – شهادة الامباشي أبو زيد
أوشك المحققون على الانتهاء من قضايا التعذيب بعد أن اكتملت أمامهم صورة الأحداث التي وقعت في الماضي .
. ولكن تدور تساؤلات :
هل صحيح أن حسن كفافي ورياض إبراهيم وصفوت الروبي لم يعترفوا حتى الآن , وأنهم يصرون على الإنكار ويتفننون في أساليب التهرب . . إن الدائرة تضيق عليهم يوما بعد يوم . . فقد اعترف الصول نجم مشهور على جميع الذين شاركوا في مجزرة السجن الحربي . . كما يسميها نجم . . واعترف أيضا صف ضابط مجند اسمه أبو زيد مرعي أبو زيد حضر المجزرة وبقى في السجن الحربي ثماني سنوات شاهد فيها بشاعة ما حدث !
التقيت بالامباشي أبو زيد وسألته :
_ متى جندت ؟ !
_ جندت في 5 / 4 / 1965 وأمضيت شهرين بمركز تدريب المعادي نقلت بعدها إلى السجن الحربي . . وعندما دخلنا إلى السجن الحربي وجدنا أناسا مدنيين معلقين في " التندات " أمام المكاتب . . وأناسا آخرين يحمل كلا منهم اثنان من العساكر وأفرادا آخرين يضربون .
سألت البتشاويش السيد عبد المولى لماذا يعذب هؤلاء الناس بهذه الطريقة ؟ ! . . فأخذت أربعين كرباجا على رجلي . . ويقول الامباشي أبو زيد . .كان " الثلاجة " أصعب وسيلة تعذيب في السجن وهي زنزانة بجوار دورة المياه في السجن الكبير تملأ بالماء ويلقون فيها بالشخص في عز الشتاء ويبقى بها حتى يعترف بما يريدون . . إلى جانب أن هناك حجرة الكلاب التي كانوا يحبسون فيها المعتقلين فترات طويلة وكانت بالغة القذارة نتيجة تبرز الكلاب فيها , كما أنهم كانوا يطلقون بعض الكلاب على أحد المعتقلين تمزقه بأنيابها .
ويضيف الامباشي أبو زيد أن بعض عساكر السجن الحربي كانوا يمعنون في تعذيب المعتقلين حتى لا يكونوا هم عرضة للتعذيب . . وكنا نعيش في عذاب بسبب ما نرى , وأحيانا كان الواحد منا لا يملك مشاعره , فيلقى به في الزنزانة . . لقد حبست أنا نفسي 32 يوما في الزنزانة لأنني " مستشيخ " ولم أكن من اللون الذي يناسبهم .
سألت الأمباشي أبو زيد . . عن أبرز حدث وقع له في السجن الحربي ؟ !
فقال :
_ ذات ليلة كنت نائما في المعتقل رقم 2 على السرير . . فوجئت في الثانية صباحا بالصول فوت يرفسني بحذائه . . استيقظت مذعورا . . سألني الصول صفوت :
أنت راجل أم امرأة ؟ !
قلت له : رجل يا فندم .
فوجدته بصحبته الامباشي رشاد عبد اللطيف يحمل رشاشين . . أعطاني أحدهما وأخذاني وركبنا عربة يجلس بها رجل يرتدي الملابس المدنية جلس الصول صفوت الروبي مكان السائق وقاد العربة وكنت أنا ومحمد خاطر ورشاد عبد اللطيف والرجل المدني راكبين في الخلف . . وكان في قلب العربة لفة بطاطين مكومة وعدد من الفئوس . . وعدد من " الكوريكات " لا أعرف عنها شيئا . . سارت بنا العربة في الطريق الذي يقع خلف الإستاد حتى تجاوزنا مدينة نصر ودخلنا في الجبل عندئذ وقفت العربة ونزل الصول صفوت ومحمد خاطر ورشاد عبد اللطيف والرجل المدني وأخذوا الفئوس والكوريكات وتركوني وحدي وغابوا عني أكثر من نصف ساعة وكان الوقت متأخرا , فسيطر علي الخوف , وكان الجو باردا . . فأحسست بالبرد وأردت أن ألف نفس بإحدى البطاطين المكومة في العربة . . ولكني ما كدت أمسك ببطانية منها حتى وجدت جثة إنسان قتيل فيها فأصبت بالرعب وصرخت . . ولم أدر ماذا حدث لي بعد ذلك . . لأني عندما انتبهت وجدت نفسي على سرير في مستشفى السجن الحربي . . لقد أغمى علي عندما رأيت الجثة . . ومنذ تلك الليلة وأنا مصاب بحالة اهتزاز في الأعصاب . بعد أيام جاء في الأوامر أن أحد المعتقلين هرب وأن الهارب عسكري أو امباشي لا أذكر لأنه هرب مني ومن الشاويش الديزل وقالوا كنا خارجين به إلى المستشفى وأنا لم أخرج في مأموريات إلى المستشفى ولم يهرب مني أحد . . فقال لي زملائي أنك أخذت جزاء لأن أحد الإخوان هرب منك . ولما قلت للصول صفوت . . أنا لم يهرب مني أحد صرف لي عشرين كرباجا على قدمي في حوش السجن أمام زملائي , ووضعت في الزنزانة بعد ذلك مدة ثم أخرجوني .
ويضيف أبو زيد : أقول لك أنه خلال فترة السنوات الثماني التي عشتها في السجن الحربي لم يهرب أحد خلالها . . كيف يهرب والحراسة مشددة والسور عال , والأبواب من وراء أبواب , كلها مغلقة , وعلى كل باب حرس لا يمكن أن ينام .
وقال : أنني رأيت الحاجة زينب الغزالي تعذب كالرجل تماما . . كانوا يوثقونها من يديها ورجليها ويعلقونها في " الفلقة " ويضربونها بالسياط . . وعن ذكرياته عن حمزة البسيوني . . يقول : كان عندما يدخل حمزة البسيوني من باب المعتقل أدخل أنا دورة المياه لأنه كان شريرا , يحيي كل من يقابله بالسياط . . وكان إذا أمسك بفردة شنبه اليمين فان حارسه يفهم أن هذا أمر بإعطاء من يحدثه عشرين سوطا . . وإذا أمسك بفردة شنبه الشمال , فان العقوبة عشرة كرابيج فقط . . وهكذا تختلف العقوبة بين فردتي الشنب اليمين والشمال ! !
وعن صفوت الروبي يقول : كانت شخصيته – هيبة . . إذ وقف أمامه أحد تتعطل فيه لغة الكلام . . وكان صف ضباط السجن ينادوننا بالكرابيج . . وذات مرة كنت نائما في المعتقل وكان الصول صفوت قد جمع كل القوة وأمرنا بأن نرش السجن الحربي " بالقصاري " حتى أغرقناه وكان صف ضباط السجن يمسكون بالسياط ليضربوننا وكان الوقت شتاء . . ظللنا نرش حتى الساعة الثانية ليلا وكنا في شهر رمضان ولم نتناول " السحور " , ولكنهم أفرغوه في دورة المياه فعجزنا عن الصيام في اليوم التالي .
_ لقد كنا نعذب تماما كالمعتقلين . . وكنا نعيش في حالة رعب حتى خارج السجن . . كانوا يؤكدون لنا أن هناك من يراقبنا . . ويقولون لكل واحد منا . . أنت أخرس . . أنت أعمى . . أنت أصم . . لا ترى . . ولا تسمع . . ولا تتكلم . . سواء داخل السجن أو خارجه . . وأذكر أنه كان معنا عسكري اسمه إبراهيم , اتهموه أنه زار نجوى فؤاد فجاءوا به وضربوه حتى استأصلوا له الكلية . . وكان معنا شويش في العيادة اسمه صلاح يعامل المعتقلين معاملة حسنة فدبروا له تهمة أنهم وجدوا معه طبنجة وأنه يساعد الإخوان , وكادوا يفتكون به ولكن صلاح اختفى , ولا أحد يعرف عنه أي شيء حتى الآن .
ويقول أبو زيد : لقد رأيت متهمين كثيرين في قضايا عديدة جاءوا إلى السجن الحربي . . رأيت رتبا كبيرة على كتف كل منهم رطل نحاس ينزعه صفوت الروبي . . ويعلق أصحابه على الفلقة . . وجاء اليوم الذي وقفت فيه حارس على الرائد رياض إبراهيم في مستشفى الحلمية . . وحارسا على حسن عيسى وعصام خليل في مستشفى المعادي . . ورأيت قضية المشير وقضية " كمشيش " .
وعندما أردت أن أستزيده من ذكرياته عن تلك الفترة التي عاشها في السجن الحربي قال لي . . أنا لم أذق طعم النوم أمس . . لأني عندما بدأت أشهد بما رأيت وتذكرت ما حدث في تلك الأيام قضيت الليل كله سهران ! . . .
جلاد صفوت الروبي !
في كل محنة من المحن التي أنزلت بالإخوان منذ أن ظهروا كقوة هددت أمن أعداء الإسلام في الخارج ( الصليبية . . واليهودية . . والشيوعية ) . . وهزت كراسي الحكم في الداخل سواء في عهد الملكية . . أو في عهد الجمهورية . . اشتهر جلاد أو مجموعة من الجلادين دخلوا التاريخ من أقذر أبوابه . . في المحنة التي أنزلت بالإخوان في عهد الملكية أيام حكم إبراهيم عبد الهادي صار اسم " العسكري الأسود " على كل لسان . . وصارت قصته وصمة عار على حكام هذا العهد . . لقد استعمل هذا " العسكري الأسود " في التهديد بهتك أعراض الإخوان . . وأعراض أخواتهم وزوجاتهم . . وسجلت الصحافة بعد زوال عهد إبراهيم عبد الهادي قصص التعذيب . . وحكايات وأحاديث على لسان العسكري الأسود . . وفي المحنة التي أنزلها جمال عبد الناصربجماعة الإخوان المسلمين والتي أراد بها – وأراد بها أسياده أن يسحقوا جماعة الإخوان المسلمين ويقتلعوا شجرة الدعوة الإسلامية في القرن العشرين . . بتمثيلية المنشية التي دبرتها أجهزة أمنه وعملاء المخابرات الأمريكية من رجال عبد الناصر بالاتفاق مع عبد الناصر نفسه ويشهد بذلك " الصديري المضاد للرصاص " والذي بسببه تأخر إلقاء خطاب جمال عبد الناصروقت الحادث حتى أحضر له . . وكانت الطلقات التي أطلقت من مسدس غير مسدس محمود عبد اللطيف الإخواني الذي اتهم بإطلاق الرصاص . . إشارة البدء لسحق جماعة الإخوان . . وقبل حادث المنشية بأشهر اختير الجلاد حمزة البسيوني ليكون " المنفذ " لمذبحة السجن الحربي الأولى وذاع صيت حمزة البسيوني وملأ الآفاق . .
أما مذبحة السجن الحربي الثانية والتي كانت وراءها المخابرات الأمريكية والمخابرات الروسية عن طريق رجالهما أمثال شمس بدرانوسامي شرف فقد كان اسم الامباشي " صفوت الروبي " والذي كوفئ بترقيته إلى رتبة ملازم شرف أشهر أسماء الجلادين في هذه المذبحة .
سيذكر تاريخ الإرهاب اسمه إلى جانب الجلادين السابقين له . . لقد كان وحشا بشريا لأن شراسته فاقت كل تصور أو خيال ! ! .
سيبقى اسم صفوت الروبي محفورا في ذاكرة كل ضحية من ضحايا السجن الحربي طوال عهد عبد الناصر سواء كان الإخوان أو من غير الإخوان . . كان صفوت الروبي جنديا أمضى فترة تجنيده في الفترة من 1957 وحتى 1960 ثم تطوعا عريفا بالجيش في عام 1960 ليعمل مع أستاذه الجلاد حمزة البسيوني ويبدو أن حمزة البسيوني نفسه هو الذي اختار صفوت الروبي . . بقى صفوت الروبي في السجن الحربي عريفا حتى رقى في سنة 1960 إلى رتبة شاويش وبقى كذلك حتى بدأت مذبحة الإخوان في سنة 1965 وأذكر أنني رأيته وهو يعلق " ثلاث شرائط " فقط . . ولم تنته المذبحة حتى أصبح ملازما . . لقد رقاه شمس بدرانإلى هذه الرتبة مكافأة له على إسرافه في التعذيب والتنكيل وجرأته في التعذيب حتى حد القتل وجسارته في دفن الضحايا في ظلام الليل وسط صحراء المقطم ! ! ويقول الأستاذ سيف الغزالي أحد الذين حضروا المذبحة , كان صفوت الروبي جلاد السجن الحربي هو الحاكم بأمره يتصرف في المعتقلين بأسلوب لم يحدث له مثيل في أي عهد من عهود الظلم في العالم كانت الأوامر تصدر من شمس بدرانأو من كبار رجال الشرطة العسكرية أمثال سعد زغلول عبد الكريم فكان يطورها إلى هذا الأسلوب اللا إنساني البشع . .
لقد كان نموذجا بشريا غريبا وشاذا ينطلق بين المعتقلين يعذب ويقتل كالمجنون . . كان التعذيب هو أسلوبه في معاملة الجميع حتى حرس السجن من العساكر قد ذاقوا على يديه ألوان من القسوة والعذاب لا تقل عن تلك التي أوقعها بالمعتقلين . . كان يضربهم بالسوط والرأس . . والشلوت , حتى أنني رأيت أحد الجنود يمسح له حذاءه وهو واقف . . وبعد أن مسح له الحذاء كافأه بضربه " بالشلوت " .
كان صفوت الروبي نموذجا " للسادية " التي يقول بها علماء النفس . . بل أقسى درجات " السادية " كان يتلذذ ويستمتع وينتشي بالتعذيب وتزداد نشوته إذا كان الشخص الذي يعذبه بدينا سمينا عندئذ تراه منتشيا وهو يمزق بالسوط جسد الضحية سعيدا لأنه يستطيع أن يظهر على الجسد البدين فعل السوط . . ويرسم على الجسم ما شاء له خياله المريض . . لقد صارت له شهرة في فن استعمال السوط . . حتى كان يطلب أحيانا إلى مبنى المخابرات العامة أيام صلاح نصر لممارسة هذا الفن مع من شاءت المخابرات أن تعذبه عذابا لا يسمح به أحدا من العالمين أما إذا كان جسد المعذب نحيفا وهزيلا فان الجلاد صفوت الروبي يمتعض لأن السوط في الجسد النحيف لا يترك الآثار الواضحة على اللحم . . إنما يمزق الجلد سريعا وتسيل الدماء ويغرق فيها الضحية .
كان صفوت الروبي يدرب العساكر الحرس على فن التعذيب ليخلق منهم جلادين . . وكان هذا التدريب يتم في العساكر أنفسهم . . أذكر أنه في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس 1965 وكانت عمليا القبض على الإخوان قائمة على قدم وساق ويرد إلى السجن الحربي الآلاف منهم وبدأت زنزانات السجن الحربي تمتلئ بالمعتقلين وكانوا يخرجوننا إلى دورة المياه بعد آذان الفجر مباشرة وكل حارس يسوق أمامه أفراد زنزانة أو زنزانتين ويذهب بهم إلى دورة المياه ليقضوا حاجتهم في دقائق أذكر أن صفوت الروبي دخل إلى السجن فجأة وصرخ حارس بوابة السجن الكبير " ثابت ! ! " فوقف الجميع وثبتوا في مكانهم وأصبحوا كالخشب المسندة وإذا بصوت صفوت الروبي يصرخ . . المعتقلون إلى الزنازين . . أمن عليهم يا ابن إل . . وال . . ثم صرخ : أجمع الحرس ! !
في لمحة دخلنا الزنازين وأغلقت علينا الأبواب ووقفت على نظارة باب الزنزانة فرأيت صفوت وقد جمع أمامه الحرس وأمسك بامباشي السجن وركله وصفعه وأعطاه بالشلوت وضربه بالرأس ثم أجلسه على الأرض ومزق قدميه بالسوط وأخذ يفعل مثل هذا مع جميع الحرس والسبب هو أنه رأى أن معاملة العساكر – وكانوا لا زالوا جددا – ليست كما ينبغي من القسوة مع المعتقلين . . وأفاد الدرس ومنعنا الحراس لمدة ثلاثة أيام من الذهاب إلى الدورة حرمونا من الماء حتى ساءت حالنا . . وامتلأت القصرية بالبول والبراز وملأت الرائحة الكريهة الزنازين حتى أصبحت الحياة داخل الزنازين لا تطاق . لقد وعى الحراس الدرس الذي أعطاه لهم صفوت الروبي فكان كل واحد من الحرس بعد ذلك يمسك سوطا في يده أو عصا يلهب بها ظهور المعتقلين وهم في الطريق إلى الدورة وفي العودة منها كذلك .
وحادثة أخرى . . وكان الوقت عصرا ولا ندري ما السبب دخل صفوت السجن الكبير ورجت صرخة حارس البوابة السجن بكلمة " ثابت " وجمع صفوت الحرس وبعد أن وجه لهم أقذع الشتائم أمرهم بأن يرشوا حوش السجن حتى أغرقوه بالماء وكان أحد الأمباشية الذي يشرف عليهم جاء من سجن آخر من السجون الحربية وظل يلهبهم بالسوط أثناء الرش بناء على أوامر صفوت .
وبعد أن انتهوا من عملية الرش أمرهم بالانبطاح على الأرض على بطونهم ثم أمرهم بالزحف في الطين ثم أمرهم بالوقوف وخلع الأحذية وأن يمسك كل منهم حذاءه بأسنانه واستمر الحال على ذلك الوضع طوال طابور التعذيب لقد كان حراس السجن الحربي ينالهم من التعذيب ما يملأ نفوسهم حقدا وكراهية وغيظا فينعكس ذلك كله على معاملتهم للمعتقلين .
وكان أسلوب صفوت الروبي في تربية جلاديه الصغار هو نفس الأسلوب الذي يستعمله الحراس بعضهم مع بعض فكانت الرتبة الأعلى تعذب الرتبة الأقل . . والعسكري القديم يعذب العسكري المستجد ! !
ويقول الحاج عباس السيسي التاجر برشيد والإسكندرية :
_ لا استطيع أن أنسى هذا اليوم كان أول شهر رمضان وكنا واقفين في طابور الصباح وكان أقسى طابور لأننا كنا نجري ساعة كاملة أو أكثر جريا سريعا متواصلا بقصد الإنهاك الجسمي كوسيلة من وسائل غسيل المخ العملية التي طبقوها علينا طوال ثلاثة وعشرين شهرا في السجن الحربي . . في ذلك اليوم دخل صفوت الروبي . . وناداه : فين عبد الفتاح رزق شريف ؟ !
وخرج المهندس محمد عبد الفتاح رزق شريف وكان مريضا وسنه حوالي ستين عاما يجر رجليه جرا . . قال له صفوت : تعال هنا ! !
ولما اقترب منه قال له :
_ أنت صاحب وكالة ابشروا . . ولم يتركه يجيب ولكنه صفعه صفعة على وجهه ألقت به على الأرض فاقد النطق والوعي وأيقنا أنه مات وظن صفوت ذلك ولكنه تصرف بسرعة أمر أحد الحرس أن يحمله ويذهب به إلى المستشفى وصرخ فينا .
_ سريعا جريا . . وبدأنا نجرى . . وأثناء الجري إذا بالمهندس محمد عبد الفتاح رزق شريف يخرج من المستشفى شاحب الوجه يسوقه الحارس بالسوط وهو شديد الإعياء كأنه خارج من القبر . . لقد كان سبب ذلك أن المهندس محمد عبد الفتاح رزق شريف كان يفسر رؤى الإخوان على أنه إرهاصات زوال حكم جمال عبد الناصر.
ويقول الشيخ نصر عبد الفتاح مدرس اللغة العربية :
_ كان صفوت الروبي كثيرا ما جعل من نفسه طبيبا يكشف علينا ويصرف لنا الدواء من عنده ولكن أي دواء ؟ ! . لما طالت الطوابير استمرت فترة طويلة أثناء عملية غسيل المخ التي أجريت للإخوان أجهدنا وأنهكت قوانا وكان طابور الصباح قاسيا ومجهدا للشيوخ والمرضى من الإخوان . . فكنا نبلغ عيادة ونحكي للطبيب أمراضنا فكان يسمح للشيخ الفاني والمريض المزمن بعدم الجري مع الطابور السريع وأحيانا كان صفوت الروبي هو الذي يتولى سؤالنا عن أمراضنا ويبدأ في صرف العلاج وكان علاجه عشرين سوطا أو عشرة أو ثلاثين أو طابور زحف على الأرض أو الإلقاء في مياه الفسقية ! !
كان صفوت الروبي ينتشي من سماع صراخ المعذبين لأن صراخهم دليل على دقته وبراعته في أداء المطلوب منه ومهارته في فن التعذيب وكان يغيظه كثيرا أن يكف المعذب عن الصراخ والتأوه . . وذات مرة كان يعذب الأخ المهندس الزراعي محمد بدير زينه وكان محمد بدير عتيدا وصلبا , وعنده قدرة على التحمل ويرفض أن يصرخ أو يتأوه من التعذيب . . وأمره صفوت الروبي أن يرفع قدميه وأخذ يضربه . . لم يصرخ بدير . . ولم ترتعش قدماه ولم يخفضهما وكان يمسك ساقيه بيديه . . وضرب صفوت بدير بحنق وغيظ . . والأخ بدير لم يتحرك . . فهاج صفوت الروبي وأرغى وأزبد ونادي الأمباشي نجم مشهور وقال له : _ أعطه ألف كرباج ! !
وأخذ نجم مشهور يضرب بدير ويقول له . . اصرخ يا ابن إل . . ارحم نفسك ! !
وفي النهاية لم يشف صدر صفوت الروبي من محمد بدير إلا أن ألقاه مرة في مياه الفسقية ونزل العسكري علي الأسود وركب على كتفيه وأخذ يغمس رأسه في الماء ويصفعه على وجهه ! !
وكانت مقاومة الضحايا لصفوت الروبي أثناء التعذيب تغيظه كثيرا . . وقد حكي لي الأخ محمد رحمي عبد الرحيم أنه في أول يوم وصل فيه إلى السجن الحربي أراد صفوت أن يطرحه على الأرض ولكن رحمي دفع صفوت بيده فكاد يلقى به على الأرض . . لم ينس صفوت هذا الحادث لرحمي حتى ضبط رحمي في زنزانة الشهيد عبد الفتاح إسماعيل وكان محرما على أي واحد من الإخوان أن يدخل زنزانة غير زنزانته . . وعلم صفوت بهذه الحادثة فأنزله إلى فناء السجن وكان اليوم يوم جمعه وأخذ يعذب الأخ محمد رحمي بالسوط على قدميه حتى مزقهما تمزيقا مما منع الأخ محمد رحمي من حضور المحكمة أمام الدجوي لأنه لم يكن يستطيع الوقوف . . ولو حضر لكانت فضيحة للمحكمة . . وللسجن الحربي ! !
لقد كان حمزة البسيوني قائدا للسجن الحربي ولكنه كان عجوزا لا يقدر على شيء كان في محنة سنة 1954 في عنفوانه . . يطمع أن يكون وزيرا كزملائه من رجلا الصف الثاني من ضباط عبد الناصر . . فنفذ رغبة عبد الناصر في إبادة الإخوان وقد ذاع صيته وبلغت شهرته الآفاق حتى أصبح علما من أعلام الجلادين في العالم . . أما مذبحة السجن الحربي الثانية فكان شمس بدرانهو الخادم الجديد الذي نفذ رغبات أسياده وكان المتصرف الفعلي في المذبحة والحاكم بأمره وكان حمزة البسيوني كالوحش العجوز الذي خارت قواه وخمدت ضراوته ولم يعد يصلح . . ووجد شمس بدرانفي صفوت الروبي بغيته حتى صار صفوت هو حمزة البسيوني الحقيقي . . المنفذ لخطط شمس بدرانفي تعذيب الإخوان وإبادتهم وغسل مخ الباقين منهم على قيد الحياة لقد أعطاه شمس بدراننفوذا فاق نفوذ كثير من الضباط في السجن وكثيرا ما خالف صفوت أوامر الضباط .
لقد كان اسم صفوت الروبي يدخل الرعب في قلوب المعتقلين . . وكان صوته نذير شر لجميع من في السجن سواء حراس أو معتقلين ودارت الأيام . . وعلمت أن صفوت الروبي سيقف أمام النيابة للتحقيق معه حول الاتهامات الموجهة إليه من الضحايا الذين قتلهم . . أو عذبهم . . ذهبت ومعي المصور الصحفي لمجلة الإذاعة والتليفزيون غريب حسن وأردنا أن نأخذ صورا لصفوت الروبي . . وعندما دخل صفوت الروبي أمام النيابة بزيه الرسمي كملازم شرف . . لم تسمح له النيابة بالجلوس ووقف طوال فترة التحقيق وهي فترة تصل إلى حوالي ثلاث ساعات . . وعندما خرج كنت أنا أيضا أمام النيابة أؤدي شهادتي في إحدى قضايا التعذيب . . وأراد المصور أن يصور صفوت الروبي أثناء خروجه من النيابة ولكن محامي صفوت الروبي أمسك بالكاميرا وفتحها وأخذ الفيلم . . وأنا أمام النيابة علمت بأن صفوت الروبي في إحدى الحجرات المجاورة للحجرة التي أنا بها . . فاستأذنت وكيل النيابة في تأجيل سماع بقية شهادتي حتى استطيع أن أؤدي عملي كصحفي . . روى لي المصور غريب حسن حكاية فتح الكاميرا وأخذ المحامي للفيلم . . فسألته عن المحامي فقال لي أنه عند المحامي العام السيد هاشم قراعه رئيس جهاز قضايا التعذيب . . فدخلت حجرة المحامي العام وطلبت من المحامي الحصول منه على الفيلم ولكنه رفض . . فتركته وخرجت وسألت أين صفوت الروبي فقيل لي أنه في الحجرة المجاورة . . فقلت للمصور غريب أعد الكاميرا وفتحت الباب ولكن صفوت الذي كان يرعبني في السجن الحربي ويزلزلني صوته وجدته يرتعد ويرجوني . . يا بيه . . احميني من المصور . . يا سعادة البيه أنا أريد وكيل النيابة . . دخلت على صفوت الروبي ودفعته بيدي وقلت له . .مالك خائف . . لقد أخذت أذنا بالتصوير أمسك صفوت الروبي بالبيريه ليخفي وجهه . . وأخذ يصرخ . . وتمكن المصور أن يلتقط صورتين له وهو يمسك البيريه ليخفى وجهه . . وكان نصرا حققه المصور لأن جميع الجرائد والمجلات نقلت عنا هذه الصورة . . وعندما نشرت مجلة الإذاعة والتليفزيون تحقيقا عن شخصية صفوت الروبي وعلم صفوت بذلك بكى لوكيل النيابة واتهمه بأنه هو الذي سهل لنا تصويره .
أسماء أشهر جلادي السجن الحربي في مذبحة سنة 1965
1 – شمس الدين علي بدران .
2 – مختار صالح محمد .
3 – سعد عبد الكريم .
4 – جلال عمر مصطفى الديب .
5 – رياض إبراهيم أحمد .
6 – حسن كفافي حسن .
7 – حسن علي حسن خليل .
8 – محمد عبد المقصود الجنزوري .
9 – هاني إبراهيم .
10 – إحسان العاجاتي .
11 – نور العفيفي .
12 – حمزة البسيوني .
13 – محمد صفوت خليل الروبي .
14 – نجم الدين علي مشهور .
15 – محمد رجب محمد بكر .
16 – سعد شعبان درويش .
17 – محمد علي المر اكبي .
18 – فتحي عبد الغفار النملة .
19 – سعيد محمود محمد بدوي .
20 – علي حافظ .
21 – محمد السيد متولي خاطر .
22 – تقي الدين سليمان شرف الدين ( سامبو ) .
23 – زغلول مجاهد عبد الحليم .
24 – رشاد عبد اللطيف نصر .
25 – علي عبد الله ( علي الأسود ) .
26 – سراج الدين محمد محمد علي .
27 – حلمي محمد الصاوي .
28 – رشاد غالي برسوم .
29 – رشاد غالي البيومي مفراك .
30 – محمد موافي محمد شاهين .
31 – محمد علي طه جودة ( النوبي ) .
32 – صلاح الدين إبراهيم سعد .
33 – نصر عبد السميع عبد العزيز .
الجلادون يهربون !
انتهت النيابة من التحقيق في عدد من قضايا التعذيب وسوف تحيلها إلى القضاء وسيتسلم المتهمون قرارات الاتهامات وعلى رأس تلك القضايا قضية الشهيد إسماعيل الفيومي الحارس الخاص لرئيس الجمهورية السابق ومحمد عواد المدرس بمنطقة الشرقية التعليمية . . ومحمد منيب عبد العزيز أمين مكتبة أسيوط .
وكانت النيابة قد أمرت بالقبض والحبس على عدد من المتهمين هم رائد متقاعد حسن كفافي . . ورائد متقاعد رياض إبراهيم وملازم شرف صفوت الروبي والصول نجم مشهور واستمرار حبسهم على ذمة القضايا التي سيحاكمون من أجلها . . والى جانب هؤلاء المتهمين هناك شمس بدران الذي أشرف إشرافا فعليا على مجزرة السجن الحربي . . والعقيد متقاعد حسن خليل